الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية بترتيب أحداث السيرة النبوية

أبو أسماء محمد بن طه

الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية بترتيب أحداث السيرة النبوية تأليف أبي أسماء محمد بن طه تقديم فضيلة الشيخ وحيد عبد السلام بالي حفظه الله فضيلة الشيخ الدكتور عبد الباري محمد الطاهر أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكليه دار العلوم جامعة الفيوم دار سبل السلام الفيوم دار ابن حزم القاهرة

دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الثانية رقم الايداع: 21184/ 2010 1433 هـ / 2012 م دار سبل السلام الفيوم

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ مقدمة فضيلة الشيح وحيد عبد السلام بالي الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن المسلم يحب رسول الله ويحاول أن يعرف كل شيء عن حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولن يتسنى له ذلك إلا بدراسة سنته والتعرف على سيرته - صلى الله عليه وسلم -. أهمية متن "الخلاصة البهية": والذي دفعني لكتابة متن "الخلاصة البهية" في ترتيب أحداث السيرة النبوية أن بعض إخواننا من طلبة العلم قد يدرس تفصيلات السيرة ولا يضبط تاريخ الحوادث كالغزوات والسرايا ونحو ذلك، فأردت أن أضع لهم مختصرًا يعينهم على التصور الكلي لمواقف وأحداث السيرة قبل الدخول في تفصيلاتها؛ وليقوم الأشبال والمبتدئون جفظها في بداية الطلب؛ لتثبت أحداثها في أذهانهم. وتكمن أهمية حفظ هذا المتن في أمور منها: 1 - معرفة تاريخ التشريع. 2 - ضبط تواريخ الغزوات. 3 - ضبط تواريخ السرايا.

أهمية شرح "الخلاصة البهية"

4 - ضبط تواريخ الوفود. 5 - معرفة كُتَّاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وماذا كتبوا. 6 - معرفة أمراؤه - صلى الله عليه وسلم - والبلاد التي أَمَّرهم عليها. 7 - معرفة رسله إلى ملوك الأرض والأماكن التي أرسلهم إليها. 8 - معرفة مؤذنيه وأين أَذَّنوا. 9 - معوفة كل زوجة من زوجاته -رضي الله عنهن- وفي أي شهر تزوجها ومتى توفيت. 10 - معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا بالتاريخ. أهمية شرح "الخلاصة البهية": ولما كانت الخلاصة متنًا مختصرًا احتاجت إلى شرح يوضح مشكلاتها ويشرح أحداثها، فاستأذنني فضيلة الشيخ / محمَّد بن طه بن شعبان -حفظه الله- في شرحها، فرحبت بالفكرة، فلما نظرت في شرحه "الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية" وجدته شرحًا وافيًا قد عَلَّق على الأحداث تعليقًا جيدًا وذكر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يناسب المقام، فجزاه الله جزاء المحسنين ورفع درجته في عليين. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم كتبه الفقير إلى عفو ربه وحيد بن عبد السلام بن بالي مصر- كفر الشيخ- منشاة عباس 4/ 7/1431 هـ

مقدمة فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الباري محمد الطاهر

مقدمة فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الباري محمد الطاهر الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير محمَّد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد: فقد اطلعت على هذا المؤلَّف المعنون "الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية" للأخ محمَّد بن طه، حيث قام بالنظر المتأمل الواعي لمتن "الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية" للشيخ / وحيد بن عبد السلام بالي. فوجدت الكتاب وافر العلم، دقيق العبارات، صائب الرؤى، مرتب الأفكار، شامل أغلب أحداث السيرة. ومعلوم أن سيرة الرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مَعِينٌ لا ينضب، وخير لا ينفد، وعطاء متواصل، وأن كل قلم يتعطر بالحديث عن سيرة الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يزداد بهاء ونورًا وتشريفًا، وأن كل طالب علم يجتهد في السيرة النبوية؛ اطلاعًا، أو التزامًا، يوفَّق إلى الخير، ويقذف الله تعالى في قلبه حبه وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. وما من شك أن الشيخ/ محمد طه قد بذل جهدًا مباركًا، أسأل الله تعالى أن يجزيه عليه خيرًا ويجزل له بهذا الجهد العطاء الوافر، والخير الزاخر. وإن طالب علم بدايته في البحث والتأليف مع سيرة الحبيب- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، لخليق أن يرقى في مدارج السالكين للحق، والقاصدين الطريق المستقيم، والقائمين بأمر الله على العبادة ببصيرة وفهم.

وأسأل الله تعالى أن يبارك كل الجهود، ويحفظ كل الأقلام التي تحمي عرين الإِسلام، وتدافع عن خاتم الأنبياء والمرسلين، وتتخذه قدوة ومثالاً، قَالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. كتبه أ. د/ عبد الباري محمَّد الطاهر أستاذ التاريخ والحضارة الإِسلامية كلية دار العلوم- جامعة الفيوم 5/ 11/1431هـ

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. في ظل هذه الغربة التي نعيشها، وفي ظل حالة الضعف هذه التي سيطرت على المسلمين، والتي تكالب فيها أعداء الإِسلام على الإِسلام والمسلمين كما تكالب الأكلة على قصعتها، وأصبح الإِسلام يُضرب من كل مكان حتى ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بكلامنا ممن اختلطوا بالغرب وأشربوا منهم، فأصبحوا سهامًا مُصوَّبة للطعن في دين الله عزّ وجلّ ومن يحملونه، وأصبح

الرويبضة يتكلم في أمر العامة، وما ذلك إلا لأنهم قُدّموا في الوقت الذي أخّر فيه العلماء العاملون الربانيون، فلا يُسمع منهم ولا يُؤئبه لهم. ثم إنه لا سبيل للخروج مما نحن فيه إلا باتباع الأوائل، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلى ما أصلح أولها. ولن يتأتى ذلك الاتباع إلا بالعلم والتعلم، وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك. واعلم أخي- حفظك الله- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أن الله عزّ وجلّ لن ينزع العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، إنما ينتزعه- في آخر الزمان- بقبض العلماء، حتى إذا لم يجد الناس عالمًا اتخذوا رءوسًا جهالًا فسؤلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وهذا ما نراه الآن يحدث بين أيدينا، فإن العالم من علمائنا يموت ولا نرى من يسد فراغه، إلا بقايا من أهل العلم تركهم الله عزّ وجلّ لنا نستنير بنورهم ونهتدي بهداهم، وهؤلاء وإن كانوا قلة، إلا أن بركتهم غزيرة والحمد لله. فعليك- أخي الكريم- أن تبادر وتسارع في طلب العلم وأخذه عن العلماء، ولا تكْسل. ولما كان طالب العلم في حاجة إلى دراسة سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دراسة منهجية دقيقة؛ كي يتأسى به - صلى الله عليه وسلم -، ويستمد من خلقه وأدبه - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بالعباد، وحلمه حتى مع غير المسلم. أقول: لما كنا في حاجة إلى ذلك كله، قام فضيلة الشيخ/ وحيد بن عبد السلام بالي -حفظه الله- بوضع متن مختصر في سيرة الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، يعين طالب العلم على دراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - دراسة تفصيلية دقيقة، بحيث إنه إذا قام بحفظ المتن حفظًا جيدًا متينًا، ثم قام بعد ذلك بدراسة شرحه دراسة متأنية دقيقة، فإنه يكون حينها قد ألمَّ بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلمامًا واسعًا،

وها هو أخي الكريم الشرح بين يديك، وإليك طريقتي في تصنيفه

وأتقنها إتقانا كبيرًا نافعًا إن شاء الله تعالى. وها هو أخي الكريم الشرح بين يديك، وإليك طريقتي في تصنيفه: 1 - قمت بشرح الحدث بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيه، بحيث إنني أبحث في كتب السنة؛ فإن وقفت على حديث يشرح الحدث ويفصله اكتفيت به، وذكرته. 2 - فإن لم يكن هذا، نظرت فيما ورد في كتب السيرة المشهورة، واتفق عليه أهل السير أو على الأقل أخذ به جمهورهم. 3 - ثم إن كان الحديث الذي أذكره في "الصحيحين" أو أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما، وأما إن لم يكن فيهما أو في أحدهما، اجتهدت في عزوه إلى أغلب المصادر التي خرجته مع الاعتماد على تصحيح أو تحسين علماء الحديث له؛ كالشيخ الألباني، أو الشيخ أحمد شاكر - رحمهما الله تعالى. فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل وأن يجعله في ميزان حسناتي، وفي ميزان حسنات والديَّ وأهلي جميعًا وكل من ساعدني على إخراجه، فهو ولي ذلك والقادر عليه. وإني -إن شاء الله تعالى- مرحّب بكل ملاحظة ونقد، يصدر عن رويَّة ونظر، وليس عن تعصب وهويً، وراجع عن كل خطإٍ وقعت فيه في حياتي وبعد مماتي. كتبه أبو أسماء محمد بن طه 4 من ربيع أول عام 1431هـ الموافق 18 من فبراير عام 2010 م

مراحل دراسة السيرة

مراحل دراسة السيرة المرحلة الأولي: مرحلة التأسيس: يقوم الدارس فيها بحفظ متن مختصر وجامع لأحداث السيرة. ونرشح في هذه المرحلة كتاب "الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة". المرحلة الثانية: مرحلة التصور: يقوم فيها بدراسة كتاب يهتم بالسرد التاريخي المسلسل لوقائع السيرة. ونرشح في هذه المرحلة كتاب "الرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم -". المرحلة الثالثة: مرحلة الدراسة والتحليل: يقوم فيها بدراسة كتاب يتناول وقائع السيرة بالتحليل والاستنباط ونرشح في هذه المرحلة هذه الكتب بالترتيب: - "هذا الحبيب يا محب". - "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية". - "زاد المعاد" لابن القيم. المرحلة الرابعة: مرحلة التخصص: يقوم فيها بدراسة كل غزوة أو سرية أو واقعة على حدة بالبحث والدراسة؛ وذلك بجمع المعلومات في الحادثة الواحدة من كل ما تطوله يده من المراجع.

في السيرة مثل

في السيرة مثل: 1 - " مغازي الواقدي". 2 - "السيرة لابن هشام". 3 - "الطبقات الكبرى". 4 - "تاريخ الطبري". 5 - "الكامل في التاريخ". 6 - "البداية والنهاية". 7 - "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد". وغير ذلك من المصادر التي ستجدها في هوامش هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

فضل النية الصالحة

فضل النية الصالحة إن السائر إلى الله تعالى يجتهد في ألا يعمل عملًا ولو مباحًا إلى بنية صالحة لكي يثاب عليه، فإن أكل استحضر له نية، وإن نام استحضر لذلك نية وكذلك إن باع أو اشترى، أو جالس إخوانه أو غير ذلك من الأعمال، وأعلى منه درجة من يستحضر للعمل الواحد عدة نوايا، فينال من الأجر والثواب على قدر نياته لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" (¬1). حتى وإن لم يتمكن من تنفيذ بعض هذه النوايا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هَمَّ بِحَسنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً" (¬2). ومن هذا المنطلق ينبغي أن تستحضر عدة نوايا صالحة لدراسة السيرة النبوية العطرة، وسوف أذكر لك ما يحضرني من النوايا في ذلك، ثم أترك لك المجال لتزيد على ذلك مما يفيضه الله عليك من النوايا الصالحة، فإنني لقلة علمي وتفريطي في جنب الله، تراني مقيد اليد، عييَّ اللسان في هذا الباب، فأسأل الله الكريم أن يطلق جوارحنا في طاعته، وأن يستعملنا في مرضاته. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

النوايا التي ينويها المسلم عند دراسة السيرة

النوايا التي ينويها المسلم عند دراسة السيرة 1 - ينوي التقرب إلى الله بدراسة هذا العلم الشرعي. 2 - ينوي معرفة أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقتدي به. 3 - ينوي معرفة مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليزداد له حبًا. 4 - ينوي معرفة معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليزداد إيمانًا. 5 - ينوي الاطلاع على مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في البلاء ليزداد ثباتًا. 6 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كداعية إلى الله. 7 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة المسلمين. 8 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كزوج في بيته. 9 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة ربه. 10 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الغنى. 11 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الفقر. 12 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الصحة. 13 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة المرض. 14 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطهارة والصلاة للاقتداء به. 15 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة والعيدين للاقتداء به. 16 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف والاستسقاء للاقتداء به. 17 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز والدفن للاقتداء به.

18 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء وصلاة الخوف للاقتداء به. 19 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيام والزكاة للاقتداء به. 20 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة للاقتداء به. 21 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهدايا والأضاحي للاقتداء به. 22 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في النكاح والطلاق للاقتداء به. 23 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام والشراب للاقتداء به. 24 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيع والشراء للاقتداء به. 25 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإجارة والمسابقة للاقتداء به. 26 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في العارية والوديعة للاقتداء به. 27 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللقطة والهبة للاقتداء به. 28 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في القصاص والديات للاقتداء به. 29 - ينوي معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأيمان والشهادات للاقتداء به. 30 - ينوي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة المعاندين والمنافقين. 31 - ينوي الاقتداء بالصحابة الكرام في مواقفهم البطولية. 32 - ينوي الاقتداء بالصحابة الكرام في سرعة استجابتهم لأوامر الله تعالى. 33 - ينوي الاقتداء بالصحابة الكرام في سرعة استجابتهم لأوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 34 - ينوي معرفة وقائع السيرة وما فيها من عبر وعظات.

35 - ينوي معرفة حوادث السيرة وما يستنبط منها من أحكام فقهية. 36 - ينوي معرفة المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ من الأحكام. 37 - ينوي الاطلاع على مناسبات الآيات التي نزلت في الغزوات ووقائع السيرة الأخرى. 38 - ينوي الاطلاع على أحوال السابقين الأولين في حالة الاستضعاف للاقتداء بهم إذا حدث له ما يشابه ذلك. 39 - ينوي الاطلاع على أحوال المجتمع الإِسلامي الأول من الإخاء والوفاء، والإيثار والتعاون، وصفاء القلوب ... ليقتدي بهم في ذلك. 40 - ينوي الاطلاع على مواقف الصحابة الكرام في الغزوات والسرايا من الصبر والتحمل، والتضحية والفداء لهذا الدين ليقتدي بهم في ذلك. 41 - تنوي أن تزداد بهذا العلم لله خشية، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. 42 - تنوي أن تزداد بهذا العلم عند الله رفعة لقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. 43 - تنوي أن تحمل هذا العلم للناس، وتدعوهم للعمل بما فيه، لما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" (¬1). 44 - تنوي أن تتخذ هذا العلم وسيلة لتعليم الناس الخير، فتنال بذلك ثناء الله واستغفار الملائكة، وكذلك استغفار الكائنات، فقد روى الترمذي وحسنه ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2674).

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم". ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (¬1). 45 - تنوي أن تتخذ السيرة وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون من المفلحين، قَالَ تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. 46 - تنوي أن تتعاون مع إخوانك المسلمين في نقل السيرة إلى واقع عملي في الحياة. 47 - تنوي أن تزداد حبًا للصحابة فتحشر في زمرتهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬2). 48 - تنوي أن تتقن السيرة لترد على المشككين في رسالة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. 49 - تنوي أن تُعلّم السيرة لزوجتك وأولادك، فيزدادون لله قربًا، وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - اقتداء، وللصحابة حبًا. 50 - تنوي أن تعيش بروحك ووجدانك مع الرعيل الأول: "فإنهم القوم لايشقى بهم جليسهم" (¬3). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الترمذي (2685) وقال: حسن غريب صحيح. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم. (¬3) حبذا لو تقرأ هذه النوايا قبل أن تبدأ في حفظ كل درس لتجدد النية، وربما يفيض الله عليك بنيات أخرى، فيكثر ثوابُك، ويعظم أجرُك: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".

من المولد إلى البعث

من المولد إلى المبعث

من المولد إلى المبعث 1 - نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو ابو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدٍّ بن عدنان. الشرح: قوله: أبو القاسم: هذه كنيته - صلى الله عليه وسلم -. روى الحاكم في "مستدركه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم" (¬1). والقاسم أكبر أبنائه- وقيل غير ذلك-. قال ابن القيم: مات طفلا، وقيل: عاش إلى أن ركب الدابة وسار على النجيبة. اهـ (¬2). قوله محمد: وهذا اسمه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أسمائه أيضًا أحمد: قال تعالى حاكيًا عن عيسى بن مريم: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (2850)، وأحمد 2/ 433، وابن سعد 1/ 106، وأخرجه الحاكم (4243) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1447)، "الصحيحة" (1628). (¬2) "زاد المعاد" 1/ 100، ط. الرسالة.

وكذلك من أسمائه

وكذلك من أسمائه: الماحي، والحاشر، والعاقب. عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَنَا محَمَّدٌ، وَأنا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو الله بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عقبى، وَأَنَا الْعَاقِبُ" (¬1). ومن أسمائه أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: المقفي (¬2)، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة. عَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ" (¬3). ومن أسمائه: المتوكل. عَنْ عبد الله بن عَمْرِو بن الْعَاصِ - رضي الله عنهما - أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي في الْقُرْاَنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45]. قَالَ في التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عبدي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3532) كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2354) كتاب: الفضائل، باب: في أسمائه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) قال النووي: فقال شمر: هو بمعنى العاقب، وقال ابن الأعرابي: هو المتبع للأنبياء، يقال قفوته أقفوه إذا اتبعته. وقافية كل شيء آخره. اهـ. "شرح مسلم". (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2355)، وزاد الطبراني في "الأوسط" (2716)، ونبي الملحمة، وصحح الألباني هذه الزيادة "صححِح الجامع" (1473). ومعنى نبي الملحمة أي: نبي الحرب وسمي بذلك لحرصه على الجهاد.

قوله: ابن عبد الله بن عبد المطلب ... إلخ

غُلْفًا (¬1). قال ابن القيم: وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال. هذا وقد ذُكر للنبي-صلى الله عليه وسلم- أسماء كثيرة حتى أوصلها بعضهم إلى ألف اسم، أعرضنا عنها لضعف أدلتها وعدم ثبوتها. قوله: ابن عبد الله بن عبد المطلب ... إلخ: هذا القدر إلى عدنان هو المتفق عليه. قال ابن القيم بعد ذكر نسبه - صلى الله عليه وسلم - إلى عدنان: إلى ها هنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين، ولا خلاف فيه البتة. اهـ (¬2). ووقع الخلاف فيما بين عدنان إلى إسماعيل، ثم فيما بين إسماعيل إلى آدم -عليهما السلام. قال ابن القيم: وما فوق عدنان مختلف فيه. اهـ (¬3). وقال ابن سعد: الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل. اهـ (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4838) كتاب: "التفسير" تفسير سورة الفتح، باب: إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وأحمد 2/ 174. (¬2) "زاد المعاد" 1/ 70. (¬3) "زاد المعاد" 1/ 70. (¬4) "الطبقات" 1/ 58.

فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -

وقال البغوي في "شرح السنة": ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان. اهـ (¬1). فالذي عليه أهل التحقيق أن ما فوق عدنان ضعيف لا يثبت، والثابت فقط أنه - صلى الله عليه وسلم - من نسل إسماعيل -عليه السلام- لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله اصطَفَى كِنانةَ مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيلَ، واصطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنانَةَ، واصطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشِمٍ، واصطَفانِي مِنْ بني هاشِمٍ" (¬2). فضعف ما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى إسماعيل-عليه السلام- لا يعني ضعف نسبه إليه، بل هو صحيح ثابت كما دلّ عليه الحديث. فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن واثلة بن الْأَسْقَعِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّ الله اصطَفَى كِنانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيلَ، واصطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنانَةَ، واصطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشِمٍ، واصطَفانِي مِنْ بني هاشِمٍ" (¬3). وقد أقر أبو سفيان وهو لم يزل على الكفر بفضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله هرقل عن نسبه - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو فينا ذو نسب (¬4). 2 - ولد - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من عام الفيل. الشرح: ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيمًا فقد توفي أبوه وهو حمل - صلى الله عليه وسلم - وهو الراجح. ¬

_ (¬1) "شرح السنة " (13/ 193). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2276) كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. (¬3) السابق. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (2914) كتاب: الجهاد والسير، باب: دعاء النبي الناس للإسلام، ومسلم (6982).

قوله: يوم الاثنين

قال ابن القيم: واختُلِف في وفاة أبيه عبد الله، هل توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل، أو تُوفي بعد ولادته؟ على قولين: أصحهما: أنه توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَمْلٌ (¬1). وقال ابن سعد بعد ما ذكر أقوالًا كثيرة في تاريخ وفاة عبد الله: والأول أثبت أنه توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل. اهـ (¬2). وقيل توفي عبد الله وهو في الخامسة والعشرين من عمره. قوله: يوم الاثنين: روي الإمام مسلم عَنْ أبي قَتادَةَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قالَ: "ذَلكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ" (¬3). قوله: لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول: قال الشيخ الألباني: وأما تاريخ يوم الولادة، فقد ذُكر فيه وفي شهره أقوال ذكرها ابن كثير في الأصل، وكلها معلقة بدون أسانيد يمكن النظر فيها ووزنها بميزان علم مصطلح الحديث؛ إلا قول من قال: إنه في الثامن من ربيع الأوّل فإنه رواه مالك وغيره بالسند الصحيح عن محمَّد بن جبير بن مطعم، وهو تابعي جليل، ولعله لذلك صحح هذا القول أصحاب التاريخ واعتمدوه، وقطع به الحافظ ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 1/ 75. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 100. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1162) كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والاثنين، والخميس.

قوله: من عام الفيل

الكبير محمَّد ابن موسى الخوارزمي، ورجحه أبو الخطاب ابن دحية والجمهور على أنه في الثاني عشر منه. والله أعلم. اهـ (¬1). قوله: من عام الفيل: روى الحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس، - رضي الله عنه - قال: (ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الفيل) (¬2). وسمي بعام الفيل لوقوع حادثة الفيل المشهورة فيه، والتي قاد فيها أبرهة الأشرم ابن الصباح الحبشي، نائب النجاشي على اليمن، بفيله العظيم جيشه العرمرم لهدم الكعبة المشرفة بيت الله الحرام. ولكن هيهات هيهات، فما قوة أبرهة بفيله العظيم وجيشه العرمرم الكبير بجوار قوة العلي القدير، إلا كقشة ضعيفة تتقاذفها أمواج عظيمة، بل هي أضعف. فالله تعالى هو الذي خلقهم وهو الذي أعطاهم هذه القوة فهم لا يعجزونه. فما أن وصل أبرهة إلى وادي محسِّر بين مزدلفة ومني حتى برك الفيل وعجز عن الحركة إلا لوجهة أخرى غير وجهة الكعبة، وهنالك أرسل عليهم رب البيت طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وحكى الله تعالى ما نزل بهم من عذاب في كتابه العزيز فقال: {أَلَمْ تَرَ ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة النبوية" (13). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (3619) كتاب: المناقب، باب: ما جاء في ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قيس بن مخرمة والحاكم فيى "المستدرك" (4180) كتاب: تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن سعد في "الطبقات" 1/ 101 وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3152).

3 - يقول - صلى الله عليه وسلم - "أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، رأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام"

كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1 - 5]. وقال نُفيل بن حبيب حين نزل بهم العذاب: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب وقد ذكر القصة كاملة الإمام الطبري في تفسير سورة الفيل. 3 - يقول - صلى الله عليه وسلم - "أنا دَعوةُ إبراهيمَ، وبشرىَ عيسَى، رأت أمِّي حين حملت بي كأن نورًا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" (¬1). الشرح: قوله: أنا دعوة إبراهيم: حيث دعا إبراهيم -عليه السلام- ربه بأن يبعث في العرب رسولًا منهم فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129]. قوله: وبشرى عيسى: وبشر به عيسى بن مريم -عليه السلام- فقال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي} [الصف: 6]. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 5/ 262، والحاكم (4230)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" 1463 - 3451.

قوله: رأت أمي حين حملت بي كأن نورا يخرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام

قوله: رأت أمي حين حملت بي كأن نورًا يخرج منها أضاءت له قصور بُصرى من أرض الشام: هذا لفظ الحاكم، وابن إسحاق، أما لفظ ابن سعد ففيه: رأت أمي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصور الشام. ولذلك اختُلِف في وقت خروج هذا النور، أكان عند الحمل أم عند الولادة؟. وفسر ابن رجب الحنبلي هذا النور بأنه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16]. اهـ (¬1). وقال ابن كثير: وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي ظاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُم ولا من خالفهم حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ" وفي "صحيح البخاري" (وهم بالشام). اهـ (¬2). ومما وقع في يوم مولده أيضًا ما رواه ابن إسحاق عن حسان بن ثابت ¬

_ (¬1) "لطائف المعارف" (89). (¬2) "تفسير القرآن العظيم" 10/ 184.

4 - ومرضعته - صلى الله عليه وسلم - هي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، ولقد ظهر بوجوده عندها من البركات ما ظهر.

قال: والله إني لغلام يفعة (¬1) ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة (¬2) يثرب: يا معشر يهود حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ما بك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به (¬3). هذا ما صح من الآيات التي حدثت يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح بعد ذلك شيء. قال الألباني: ذكر ارتجاس الإيوان، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات ليس فيه شيء (¬4). 4 - ومرضعته - صلى الله عليه وسلم - هي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، ولقد ظهر بوجوده عندها من البركات ما ظهر. الشرح: لقد ثبت رضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حليمة السعدية بأحاديث صحيحة منها: ما أخرجه الحاكم في "مستدركه" عن عتبة بن عبد السلمي: أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف كان شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانَتْ حاضِنَتِي مِنْ بني سَعْدِ بن ¬

_ (¬1) إذا شب ولم يبلغ. (¬2) أطمة -بالضم-: البناء المرتفع، وجمعها: آطام. (¬3) حسن: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" 1/ 124، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (14). (¬4) "صحيح السيرة" (14).

بَكْرٍ ... الحديث" (¬1) وبنو سعد بن بكر هم قوم حليمة السعدية. وحديث عبد الله بن جعفر الذي يرويه عن حليمة السعدية والتي تحكي فيه ما ظهر من بركاته - صلى الله عليه وسلم -، حيث قالت: خرجت مع زوجي وابن لي صغير في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء. قال: وذلك في سنة شهبًا (¬2). لم تُبصر لنا شيئًا، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء (¬3) ومعنا شارف (¬4) لنا، والله ما تبضُّ (¬5) بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجوا الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمَّت (¬6) بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجوا المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم، وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه وأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر. (¬3) بيضاء. (¬4) الناقة المسنة. (¬5) بضَّ الماء: قطر وسال قليلًا قليلًا. (¬6) أبطأت وحبست.

إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل (¬1) فحلب منها فشرب وشربت معه حتى انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! أربعي (¬2) علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنًا (¬3) فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبضُّ بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتان وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا (¬4). قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا (¬5). واخُتلف في صحة هذا الحديث بين المحدثين، فمن مصحح له ومضعف، كابن عساكر حيث قال: هذا حديث غريب جدًا وفيه ألفاظ ركيكة لا ¬

_ (¬1) أي: ممتلئة لبنًا. (¬2) أرفقي. (¬3) ممتلئة الضرع باللبن. (¬4) قويًا شديدًا. (¬5) أخرجه أبو يعلى (7158)، وابن هشام (124)، وفي سنده جهم بن أبي جهم مجهول.

5 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات أتاه ملكان فشقا صدره وغسلا قلبه ثم أعاداه.

تشبه الصواب، وكذلك أعرض عنه الألباني في "صحيح السيرة" فلم يذكره، أما الذهبي فقال: هذا حديث جيد الإسناد (¬1). وقد أرضعته أيضًا - صلى الله عليه وسلم - ثويبة مولاة أبي لهب وكان ذلك قبل ذهابه إلى السعدية. روي الإمام البخاريُّ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: يا رَسُولَ الله أَنْكِح أُخْتِي بنتَ أبي سُفْيانَ، فَقالَ: "أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ (¬2) وَأَحَبُّ مَنْ يشارِكُنِي في خَيْرٍ أُخْتِي قالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ ذلك لا يحل لِي"، فَقُلْتُ: فإِنّا نَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بنتَ أبي سَلَمَةَ. قالَ: "بِنْتُ أمِّ سَلَمَةَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَم. فَقالَ: "واللهِ لَوْلا أَنَّها لم تكن رَبِيبَتِي في حَجْرِي ما حَلَّتْ لِي، إِنَّها لابْنَة أَخِي مِنْ الرَّضاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بناتِكُنَّ وَلا أَخَواتِكُنَّ". قالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لِأبي لَهَبٍ كانَ أبو لَهَب أَعْتَقَها فَأَرْضَعَتْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمّا ماتَ أبو لَهَب أُرِيَهُ بَعْضُ أَهلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قال لَهُ: ماذا لَقِيتَ؟ قالَ أبو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْر أَنِّي سُقِيتُ في هَذِهِ بِعَتاقَتِي ثُوَيْبَةَ (¬3). 5 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات أتاه ملكان فشقا صدره وغسلا قلبه ثم أعاداه. الشرح: روى الإمام مسلم في "صحيحه": أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 1/ 42، ط. المكتبة التوفيقية. (¬2) أي: لست بمنفردة بك ولا خالية من ضرة، قاله ابن حجر. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (5101)، كتاب: النكاح، باب: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، ومسلم (1449) كتاب: الرضاع باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة.

عَلَقَةً، فَقالَ: هَذِهِ حَظُّ الشَّيْطانِ مِنْكَ، ثم غَسَلَهُ في طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعادَهُ في مَكانِهِ، قالَ وَجاءَ الْغِلْمانُ يَسْعوْنَ إلى أُمِّهِ -يَعْنِي: ظِئْرَهُ- فَقالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قالَ أَنَسٌ: وَكُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ في صَدْرِهِ (¬1). قال ابن سعد: وكان عمره حينها أربع سنوات (¬2). وروى الحاكم في "مستدركه": عَنْ عُتْبَةَ بن عبد السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: كَيفَ كانَ أَوَّلُ شَأْنِكَ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: "كانَتْ حاضِنَتِي مِنْ بني سَعْدِ بن بَكْرٍ، فانْطَلَقْتُ أَنا وابْنٌ لَها في بَهْمٍ لَنا وَلَمْ نَأخُذْ مَعَنا زادًا، فَقُلْتُ: يا أَخِي اذْهَبْ فَأتِنا زادًا مِنْ عِنْدِ أُمِّنا، فانْطَلَقَ أَخِي وكنت عِنْدَ الْبَهْمِ، فأَقْبَلَ طَيْرانِ أَبْيَضانِ كأَنَّهُما نَسْرانِ، فَقالَ أَحَدُهُما لِصاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قالَ: نَعَم، فأَقْبَلا يَبْتَدِرانِي، فأَخَذانِي فَبَطَحانِي للْقَفا فَشَقّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجا قَلْبِي فَشَقّاهُ، فأَخْرَجا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْداوَيْنِ، فَقالَ أَحَدُهُما لِصاحِبِهِ: حِصْهُ -يعني: خطه- واخَتَتمَ عَلَيْهِ بِخاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَقالَ أَحَدُهُما لِصاحِبِهِ: اجْعَلْهُ في كِفَّةٍ واجْعَلْ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِهِ في كِفَّةٍ، فَإذا أَنا أَنْظُرُ إلى الْأَلْفِ فَوْقِي أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ عَلَيَّ، فَقالا: لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمالَ بِهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقا وَتَرَكانِي، وَفَرِقْتُ فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إلى أُمِّي فأَخْبَرْتُها بِالَّذِي لَقِيتُهُ فأَشْفَقَتْ أَنْ يَكُونَ التبس بِي، فقالَتْ: أُعِيذُكَ بالله, فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَها فَجَعَلَتْنِي عَلَى الرَّحل وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّى بَلَغْنا أُمِّي، فَقالَتْ: أَو أَدَّيْتُ أَمانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثَتْها بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْها ذَلِكَ، فَقالَتْ: إِنِّي ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (261) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد 3/ 88 عن أنس. (¬2) "الطبقات" 1/ 112.

6 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - ست سنوات ماتت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة فكفله جده عبد المطلب

رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورًا أَضاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشّامِ" (¬1). 6 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - ست سنوات ماتت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة فكفله جده عبد المطلب. الشرح: قال ابن إسحاق: توفيت آمنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ست سنين بالأبواء (¬2)، بين مكة والمدينة: كانت قد قدمت به على أخواله من بني عديّ بن النجار، تُزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة. قال ابن القيم: ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء منصرفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين (¬3). فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له. قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي وهو غلام جفر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأي ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا؛ ثم يجلسه معه ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الحاكم (4230)، كتاب: دلائل النبوة وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن هشام في "السيرة" 1/ 127، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1545)، و"صحيح السيرة" 16 - 18، و"فقه السيرة" (64). (¬2) الأبواء: قرية من أعمال الضرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا. (¬3) "زاد المعاد" 1/ 75.

7 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب. وكفله عمه أبو طالب

على الفراش، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع (¬1). 7 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب. وكفله عمه أبو طالب. الشرح: فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين هلك عبد المطلب بن هاشم، وذلك بعد عام الفيل بثماني سنين (¬2). فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب، وكان عبد المطلب -فيما يزعمون- يوصي به عمه أبا طالب، وذلك لأنّ عبد الله أبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا طالب أخوان لأب وأم، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائز بن عبد بن عمران بن مخزوم (¬3). 8 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الثانية عشرة خرج به عمه أبو طالب إلى الشام، فلما بلغوا بصرى رآه بحيراء الراهب، فتحقق فيه صفات النبوة فأمر عمه برده، فرجع به. الشرح: عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قالَ: خَرَجَ أبو طالِبٍ إلى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في أَشْياخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَى الرّاهِب، وَكانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلا يَلْتَفِتُ. قالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ الرّاهِبُ حَتَّى جاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: هَذا سَيِّدُ الْعالَمِينَ، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 129 بتصرف يسير. (¬2) "سيرة ابن هشام" 1/ 129. (¬3) "سيرة ابن هشام" 1/ 137.

هَذا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، يَبْعَثُهُ الله رَحمَةً لِلْعالَمِينَ، فَقالَ لَهُ أَشْياخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: ما عِلْمُكَ، فَقالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلا حَجَرٌ إِلّا خَرَّ ساجِدًا وَلا يَسْجُدانِ إِلّا لِنَبِيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعامًا، فَلَمّا أَتاهُمْ بِهِ وَكانَ هُوَ في رِعْيَةِ الْإِبِلِ، قالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنا مِنْ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوة إلى فَيءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مالَ فَيءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقالَ: انْظُرُوا إلى فَيءِ الشَّجَرَةِ مالَ عَلَيْهِ، قالَ: فَبَيْنَما هُوَ قائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُناشِدُهُمْ أَنْ لا يَذْهَبُوا بِهِ إلى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِذا رَأَوْه عَرَفوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فالْتَفَتَ فَإِذا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ الرُّومِ فاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقالَ: ما جاءَ بِكمْ؟ قالُوا: جِئْنا إِنَّ هَذا النَّبِيَّ خارِجٌ في هَذا الشَّهْرِ، لَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُناسٍ، وإِنّا قَدْ أُخْبِرْنا خَبَرَهُ بُعِثْنا إلى طَرِيقِكَ هَذا، فَقالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قالُوا: إِنَّما أُخْبِرْنا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذا. قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرادَ الله أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ النّاسِ رَدَّهُ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَبايَعُوهُ وَأَقامُوا مَعَهُ، قالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قالُوا: أبو طالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُناشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أبو طالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أبو بَكْرٍ بِلالًا، وَزَوَّدَهُ الرّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ والزَّيْتِ (¬1). قال الذهبي (¬2): تفرد به قُراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتج به البخاري، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3620) كتاب: المناقب، باب: ما جاء في بدء نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحاكم في "المستدرك" (4229) وصححه، وقال الحافظ في "الفتح" 8/ 587: إسناده قوي، وقال في "الإصابة": رجاله ثقات وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ. قال الألباني في "ضعيف الترمذي" (745): صحيح، لكن ذكر بلال فيه منكر كما قيل. (¬2) "سير أعلام النبلاء" 1/ 48، 49.

والنسائيُّ، ورواه الناس عن قراد، وحسنه الترمذي، ثم قال: وهو حديث منكر جدًا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد، وأيضًا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأنّ ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكَّر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توافر همهم ودواعيهم على حكايته مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيّما اشتهار، وبقي عنده - صلى الله عليه وسلم - حسٌ من النبوة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولًا بغار حراء وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه وأيضًا فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟ وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقية، مع أن ابن عائز قد روى معناه في مغازيه دون قوله. وبعث معه أبو بكر بلالًا ... إلى آخره. فقال حدثنا الوليد بن مسلم أخبرني أبو داود سليمان بن موسى فذكره بمعناه. اهـ. وقد أنكر أيضًا ذكر بلال فيها ابن سيّد الناس (¬1)، وابن القيم (¬2). قال الألباني (¬3): وإعلال الحديث بأن فيه ذكر أبي بكر وبلال، وكان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشر، إنما هي دعوى مبنية على أن عمره - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ثنتا عشرة سنة، وهذا غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدًا بهذا الواقدي كما قال المؤلف ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 1/ 43. (¬2) "زاد المعاد" 1/ 75. (¬3) "صحيح السيرة النبوية" (31).

9 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة عشرة كانت حرب الفجار بين قريش وهوازن

والواقدي متروك متهم، فمن الممكن أن تكون القصة وقعت بعد ذلك بسنين، فلا يجوز إعلالها بمثل قول الواقدي المنكر (¬1). وذكر ابن عساكر أن بحيري كان يسكن قرية يقال لها (الكَفْر) بينها وبين بصرى ستة أميال، وهي التي يقال لها (دير بحيري) قال: ويقال إنه كان يسكن قرية يقال لها: منفعة بالبلقاء وراء زيرا. والله أعلم (¬2). 9 - ولمّا بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة عشرة كانت حرب الفجار بين قريش وهوازن. الشرح: وقعت حرب الفجار بين كنانة ومعهم قريش وبين هوازن. ولم يأت خبر مسند صحيح باشتراك النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحرب إلا ما ذكره ابن هشام في سيرته بدون إسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت أنبل على أعمامي" وهو خبر لا يصح إذ ليس له إسناد. واختُلف في عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت نشوب هذه الحرب. فقال ابن هشام: كان عمره - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة. وقال ابن إسحاق: كان ابن عشرين سنة. وقيل عشر سنين وذلك لما ذُكر بأن بين الفجار وبين بنيان الكعبة خمس عشرة سنة وبين بناء الكعبة والمبعث خمس عشرة سنة كذلك فيكون عمره - صلى الله عليه وسلم - حينها عشر سنين. ¬

_ (¬1) "صحيح السيرة" (31). (¬2) "البداية والنهاية" 2/ 254، ط. ابن رجب.

سبب الحرب

سبب الحرب: قال ابن هشام: وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، أجار لطيمة (¬1) للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس، أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة: أتجيرها على كنانة، قال: نعم، وعلى الخلق كله، فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتَيمَن ذي الطلال (¬2) بالعالية، غفل عروة، فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار (¬3). اشتعال المعركة: فكان قتل البراض لعروة إيذانًا باشتعال الحرب بين الفريقين. حيث (أتى آت قريشًا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهم في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أيامًا، والقوم متساندون (¬4) على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم -وقيل كان قائد قريش وكنانة حرب بن ¬

_ (¬1) اللطيمة: الجمال التي تحمل البر والمسك. (¬2) تيمن بفتح التاء وسكون الياء وفتح الميم أو كسرها وآخره نون وذو طلال -ككتاب- ماء أو موضع ببلاد بني مرة. وقال أبو ذر في "شرح السيرة": والجيد ذو طلال بالتشديد. (¬3) "سيرة ابن هشام" 1/ 140 بتصرف. (¬4) أي: ليس لهم أمير واحد يجمعهم.

الصلح بين الفريقين

أمية بن عبد شمس- وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم. وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس (¬1). الصلح بين الفريقين: قال السهيلي: وكان آخر الفجار أن هوازن وكنانة تواعدوا للعام القابل بعكاظ، فجاءوا للوعد وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة، وكان عتبة بن ربيعة يتيمًا في حجره، فضنَّ به حرب، وأشفق من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعروا إلا وهو على بعيره بين الصفين ينادي: يا معشر مضر، علام تتقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ فقال: الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم ونعفوا عن دمائنا، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع إليكم رهنًا منا، قالوا: ومن لنا بهذا؟ قال: أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فرضيت كنانة ورضوا، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلًا فيهم حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر ابن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم، وانقضت حرب الفجار، وكان يقال لم يَسُدْ من قريش مملق (¬2) إلا عتبة وأبو طالب بن عبد المطلب فإنهما سادا قريشًا مع الفقر .... اهـ (¬3). 10 - ثم شهد - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول لنصرة المظلوم. الشرح: روى الإمام أحمد، عَنْ عبد الرَّحمنِ بن عَوْفٍ: أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "شَهِدْتُ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 141 بتصرف. (¬2) مملق: أي فقير. (¬3) نقلًا عن تعليق الشيخ محمَّد محي الدين عبد الحميد علي "سيرة ابن هشام"، ط. دار الطلائع.

حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنا غُلامٌ، فَما أُحِبُّ أَن لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ" (¬1). وقام بعقد حلف الفضول نفس العشائر التي عقدت حلف المطيبين. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ". ولا يصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترك في الحلفين والدليل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرح في بعض النصوص بأنّه لم يشهد للمشركين سوى حلف واحد وقال: ما شهدت حلفًا لقريش إلا حلف المطيبين. قال ابن كثير: وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدرك حلف المطيبين، قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشًا تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار في السقاية والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد الدار وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش، وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جَفنة فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها، وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين، وكان هذا قديمًا، ولكن المراد بهذا الحلف، حلف الفضول وكان في دار عبد الله بن جدعان .... اهـ (¬2). ثم أن حلف المطيبين القديم لا يحمل من معاني الانتصار للعدالة مثل ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (1655)، وأبو يعلى (844)، والبخاري في "الأدب المفرد" (569)، والحاكم 2/ 219 كتاب: التفسير، وقال: هذا حديث حسن الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1900). (¬2) "البداية والنهاية" 2/ 321.

سبب انعقاد حلف الفضول

حلف الفضول الذي شارك فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. اهـ (¬1). سبب انعقاد حلف الفضول: قال ابن كثير: وكان سببه أن رجلًا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، عبد الدار، ومخزومًا، وجمعًا، وسهمًا، وعديّ بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل، وزبروه -أن انتهروه - فلما رأى الزبيدي الشر، أوفى على أبي قُبيس (¬2) عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلومٍ بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفرِ ومحرمٍ أشعثٍ لم يقض عُمْرته ... يا للرجال وبين الحِجْرِ والحَجَرِ إنَّ الحرام لمن تسَّمت كرامته ... ولا حرامَ لثوب الفاجر الغُدَرِ فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم بن مرة، في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذي القعدة، في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بلَّ بحرٌ صوفةً وما رسا ثَبيْرٌ وحراءُ مكانهما، وعلى التأسي في المعاش، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فردوها إليه. ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 112. (¬2) جبل بمكة.

سبب تسميته بحلف الفضول

وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك: حَلَفْتُ لنعقدنْ حلفًا عليهم ... وإن كنا جميعًا أهل دارِ نسميه الفضولَ إذا عقدنا ... يعز به الغريب لذي الجوار ويعلم من حوالي البيت أنَّا ... أُباهُ الضيم نمنع كلَّ عارِ (¬1) وقال أيضًا: إن الفضولَ تعاقدوا وتحالفوا ... ألاَّ يقيم ببطن مكة ظالمُ أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا ... فالجارُ والمعترُّ (¬2) فيهم سالم (¬3) سبب تسميته بحلف الفضول: قال ابن كثير: فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر .... اهـ (¬4). وقيل سمي بذلك لأن الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، وقيل هم: الفضيل بن شُراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة (¬5). ¬

_ (¬1) أباه الضيم: أي نأبى الظلم، فالضيم الظلم. (¬2) المعترُّ: الزائر الضعيف. (¬3) "البداية والنهاية" 2/ 322. بتصرف يسير. (¬4) "البداية والنهاية" 2/ 322. (¬5) درس عظيم نتعلمه ممن عقدوا حلف الفضول، وخلق قويم، فهؤلاء القوم رغم =

11 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والعشرين تزوج خديجة - رضي الله عنها -

11 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والعشرين تزوج خديجة - رضي الله عنها -. الشرح: ثم تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وكان - صلى الله عليه وسلم - آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، وخديجة - رضي الله عنها - في الأربعين من عمرها. وذكر ابن إسحاق أنها كانت في الثامنة والعشرين (¬1). وتشير روايات ضعيفة- بل معظمها واهٍ - إلى تفاصيل تتعلق بزواج الرسول من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وهي تحدد بداية التعارف بينهما عن طريق عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تجارة خديجة، التي كانت ثرية تضارب بأموالها وقد ذهب بتجارتها إلى قريش مرتين- قرب خميس مشيط وكانت متابعة لليمن- أو حباشة- سوق بتهامة من نواحي مكة- أو الشام، فربح بتجارتها وحكي لها غلامها ميسرة الذي صحبه عن أخلاقه وطباعه، فأعجبت ¬

_ = معيشتهم في ظلمات العصبية الجاهلية وقبل إشراقة أنوار النبوهّ المحمدية، لم يمنعهم هذا من نصرة المظلوم الغريب على الظالم القريب، وهو خلق عظيم جاء الإِسلام فزاده نورًا وبهاءً، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة:2]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]. وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَنْصُرهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: "تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْم فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ" صحيح: أخرجه البخاري (6952)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه وكذلك كل مكرهٍ يخاف فإنه يذب عنه المظالم ويقاتل دونه ولا يخذله فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص. (¬1) "مستدرك الحاكم" 3/ 182 من كلام ابن إسحاق بدون إسناد.

12 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والثلاثين اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه فحكم بينهم

به، وقد خطبها لأبيها خويلد بن أسد فزوجه منها .... اهـ (¬1). وقيل مات خويلد بن أسد قبل الفجار، وقيل مات في الفجار وكان زعيم قومه فيها والذي زوجها هو عمها عمرو بن أسد. 12 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والثلاثين اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه فحكم بينهم. الشرح: روى الإِمام أحمد: عن السائب بن عبد الله أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ في الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَكان لِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ الله قال: وكنت أَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ (¬2) الَّذِي أَنْفَسُهُ (¬3) عَلَى نَفْسِي فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ (¬4) فَيَبُولُ عليه. قال: فَبَنَينَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَلا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ. فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا. فقَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنْ الْفَجِّ، فَجَاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: أَتَاكُمْ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ في ثَوْبٍ، ثمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ، فرفعوا بنوَاحِيهِ مَعَهُ فَوَضعَهُ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وروى الطيالسي عن علي - رضي الله عنه - قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 112 - 113. (¬2) الغليظ. (¬3) أبخل به. (¬4) يختلي. (¬5) حسن: أخرجه أحمد 1/ 425، والحاكم 1/ 458 وصححه، وأخرجه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (45).

13 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الثامنة والثلاثين ترادفت عليه علامات نبوته وتحدث بها الرهبان والكهان

فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا، من يضعه؟ فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل بطن أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، وأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه (¬1). وروى البخاري في "صحيحه": عن جابر بن عبد الله أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَه عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ؟ قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رؤي بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكان عمره - صلى الله عليه وسلم - حين تجديد بناء الكعبة خمسًا وثلاثين سنة (¬3). 13 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الثامنة والثلاثين ترادفت عليه علامات نبوته وتحدث بها الرهبان والكهان. الشرح: لقد مهد الله تعالى لبعثه: نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، منها ما هو حسي بأحداث تحدث له، كالذي رأته أمه حين ولادته وما حدث له أثناء رضاعه عند حليمة السعدية، وقصة بحيري الراهب وتسليم الحجر عليه، وغير ذلك. ومنها ما هو معنوي ظهر في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، كتركه الكذب وتركه شرب ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الطيالسي 2/ 86، والحاكم 1/ 459، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (45). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1582). كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها. (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 102 - 104 بإسناد صحيح.

الخمر خلافًا لعادة الرجال في ذلك الوقت، وعدم سجوده لصنم حتى أقسم زيد بن حارثة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مس صنمًا قط حتى أكرمه الله بالوحي (¬1). وعدم طوافه بالبيت عُريانًا وغيرها من صفات الرجولة والشهامة حتى قَالَتْ له خَدِيجَةُ: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (¬2). وحتى يشاهد هذه العلامات كل من حوله ويرونها رأي العين، ويتناقلونها بينهم، حتى إذا ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكونون في عجبة من أمره. وكان ما أراده الله عزّ وجلّ فما أن بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سارع كثير من المقربين إليه وغير المقربين بالإيمان به والدخول في دعوته المباركة، ولم يبق إلا من ختم الله على قلبه، أو من أراد الله أن يؤخر إسلامه إلى حين آخر. ولذلك حتى الذين لم يؤمنوا به - صلى الله عليه وسلم - كانوا على يقين أنه على حق وأنه لا يكذب، وذلك لما علموه عنه من أخلاق كريمة، ومما حدث له من أحداث قبل نبوته، ومن تحديث الكهان والرهبان وأهل الكتاب به - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ما منعهم أن يؤمنوا به وأن يجحدوا بتلك العلامات إلا الكبر، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14]، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 5/ 88، والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 34، والحاكم في "المستدرك" (4956)، وحسنه الذهبي في "السيرة". (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4953) كتاب: التفسير، باب: اقرأ باسم ربك الذي خلق، ومسلم (252) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي.

فلما كان قبيل بعثته - صلى الله عليه وسلم - ترادفت عليه علامات نبوته وتكاثرت وحدث بها الأحبار والرهبان والكهان، فأما الأحبار والرهبان فبما علموه من كتبهم، وأما الكهان فبما تأتيهم به شياطينهم من استراق السمع. ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه": عَنْ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ في الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَى الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا في السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وإِبْلَاسَهَا (¬1) ... وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحْ (¬2) أَمْرٌ ¬

_ (¬1) تقول أبلس الرجل إذا سكت ذليلًا أو مغلوبًا. ويأسها من بعد إنكاسها: اليأس ضد الرجاء، والإنكاس الإنقلاب، ومعناه: أنها يأست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته فانقلبت عن الاستراق مذ يأست من السمع. والقلاص بكسر القاف وبالمهملة: جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق. والأحلاس: جمع حلس بكسر فسكون وهو كساء جلد يوضع علي ظهر البعير. (¬2) الجليح معناه: الوقح المكافح بالعداوة. قال ابن حجر: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها يا آل ذريح وهم بطن مشهور في العرب.

نَجِيحْ رَجُلٌ فَصيحْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَوَثَبَ الْقَوْمُ فقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيح أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ، فَصِيحْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا (¬1) أَنْ قِيلَ: هَنَا نبِيٌّ (¬2). وصرح ابن حجر أن الرجل هو: سواد بن قارب، كما جاء في بعض طرق الحديث. وكان من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - أن مُنعت الشياطينُ من استراق السمع (¬3). وعندها قالت الجنُّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 8 - 9]. ومن هواتف الجان أيضًا ما رواه أبو نعيم عن جابر بن عبد الله، قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا وتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا، ووضع منا القرار (¬4). وكان من تحديث يهود ما أخرجه ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَلَمَةَ بن سَلَامَةَ بن وَقْشٍ وَكَانَ مِنْ أهل بَدْرٍ قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ في بني عبد الْأَشْهَلِ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيتِهِ حتى وقف على بني عبد الْأَشْهَلِ- قَالَ سَلَمَةُ: وَأَنَا ¬

_ (¬1) أي: فما لبثنا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3866)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4921) عن ابن عباس كتاب: التفسير، سورة قل أوحي إليَّ. (¬4) حسن: أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" (29)، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (83).

يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ مُضطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي- فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ، وَالْبَعْثَ، وَالْحِسَابَ، وَالْمِيزَان، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ. قال: فقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ! أو تَرَى هَذَا كَائِنًا، إِنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، أَنَّ لَهُ عظة مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ في الدار يُحَمُّونَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فيطينونه عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا. قَالُوا: وَيْحَكَ يا فلان! فمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيُّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبلَادِ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ. قَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ. قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ الله محمدًا رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؛ فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا. قال: فَقُلْنَا له: ويحك يَا فُلَانُ! أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلكن لَيْسَ بِهِ (¬1). وروى ابن إسحاق أيضًا عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام- مع رحمة الله تعالى وهداه لنا- لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 467، وابن هشام في "السيرة" 1/ 158 - 159، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (59).

ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89] (¬1). وروى عن عاصم بن عمر بن قتادة أيضًا عن شيخ من بني قريظة قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبيد؟ - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة؛ كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإِسلام- قال: قلت: لا والله. قال: فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيِّبان قدم علينا قبل الإِسلام بسنين، فحلَّ بين أظهرنا، لا والله, ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا. قيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث. قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 1/ 158، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (57).

قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (¬1) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تُسْبَقَنَّ إليه يا معشر يهود! فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية- وكانوا شبابًا أحداثًا: يا بني قريظة! والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته. فنزلوا فأحرزوا دمائهم وأموالهم وأهليهم (¬2). ومن تحديث الرهبان به ما جاء في قصة إسلام سلمان الفارسي وأنه كان مجوسيًا ثم دخل كنيسة نصارى فأعجبته عبادتهم، فدخل دينهم، ثم استوصى قس الكنيسة عند وفاته فأوصاه بالذهاب إلى قس الموصل الذي أوصاه عند وفاته بالذهاب إلى قس نصيبين الذي أوصاه عند وفاته أيضًا بقس عمورية، فأوصاه بإتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفه له (¬3). وتنبؤ ورقة بن نوفل به عندما ذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إليه (¬4). وتنبؤ هرقل بانتشار دعوته - صلى الله عليه وسلم - وقوله: فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين (¬5). ¬

_ (¬1) أتوقع وأنتظر. (¬2) صحيح: أخرجه ابن هشام 1/ 159 - 160، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (61). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد 5/ 441 - 444، وابن هشام 1/ 160 - 164، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (70). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه.

14 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - التاسعة والثلاثين حبب إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهر رمضان يتحنف فيه

وكذلك قصة ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وخروجهما من مكة بحثًا عن الدين الحق حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال الراهب لزيد: إن الذي تلتمس يوشك أن يظهر (¬1). فكانت هذه (الآيات والمعجزات التي وقعت للرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل الإرهاصات الدالة على تميزه عن غيره من الحنيفيين الذين عاصروه، وأن الله عزّ وجلّ سيختاره بالذات لأمر عظيم) (¬2). 14 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - التاسعة والثلاثين حُبب إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهر رمضان يتحنف فيه. الشرح: روى البخاري في "صحيحه": عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ،- قال الزهري: أحد رواه الحديث، والتحنث: التَّعبد اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ-، قَبْلَ أَنْ يرجع إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا (¬3). وجاء في رواية ابن إسحاق أن ذلك كان في شهر رمضان (¬4). 15 - وقبل مبعثه بستة أشهر كان وحيه منامًا، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الشرح: جاء في حدثنا عائشة السابق أنها قالت: كان أول ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الحاكم 3/ 439 وصححه، ورواه أبو داود الطيالسي 2/ 161. (¬2) "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" 1/ 163. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "السيرة" لابن هشام 1/ 172.

قال ابن حجر

الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبْحِ (¬1). قال ابن حجر: هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقًا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر .... اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "فتح الباري" 8/ 587.

من البعثة إلى الهجرة

من البعثة إلى الهجرة

من البعثة إلى الهجرة 1 - ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه وهو في غار حراء. الشرح: ولما أتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأربعين من عمره- على القول الراجح من أقوال أهل العلم- وذلك لما رواه البخاري بسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَرْبَعِينَ سَنَةً (¬1). ولما رواه مسلم بسنده: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَا بِالْآدَمِ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ الله عَلَى رَأسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً (¬2). لما أتم الأربعين أنعم الله عليه بنور النبوة والإيمان ليبدد به ظلمات الكفر والطغيان، حيث اختاره الله تعالى نبيًا له ورسولاً في الأرض، ونورًا يُهدى به إلى الجنة، وقد وصفه الله بذلك فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3902)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2347)، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه وسنه.

فكيف كان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - لأول مرة؟ وأين كان هذا؟ وما الذي حدث له - صلى الله عليه وسلم - حينها؟ وكيف كان موقف من حوله منه حين أخبرهم بذلك؟

النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16]. فكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - والنور الذي جاء به حجة على الناس، فمن تبعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. اللهم اجعلنا من أتباعه إلى أن نلقاك يا رب العالمين. فكيف كان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - لأول مرة؟ وأين كان هذا؟ وما الذي حدث له - صلى الله عليه وسلم - حينها؟ وكيف كان موقف من حوله منه حين أخبرهم بذلك؟ هذا ما سنعرفه من خلال الحديث الصحيح الذي يرويه الإِمام البخاري رحمه الله عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وبعض جمل الحديث من "مدرج الزهري" أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعبد اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِحَ إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ في غَارِ حرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 1 - 3] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ - رضي الله عنها - فَقَالَ: "زَمِّلُونِي رمِّلُونِي" فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ

فترة الوحي

الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَت بِهِ وَرَقَةَ بن نَوْفَلِ بن أَسَدِ بن عبد الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجْاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ الله عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ " قَالَ: نَعَمْ لَم يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ (¬1). وكان نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى يوم الاثنين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن سبب صيامه ليوم الاثنين قال: "ذلك يوم ولدت ميه، ويوم بعثت أو أنزل عليَّ فيه" (¬2). وكان ذلك في شهر رمضان (¬3). فترة الوحي: ثم فتر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة، كما ثبت ذلك في بعض طرق حديث عائشة السابق، وفي "الصحيحين" عن جَابِر بن عبد الله أَنَّهُ سَمِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْي فَتْرَةً" ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كانت مدة ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3)، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسلم (160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 172.

فترة الوحي، واختلفت فيه أقوال العلماء اختلافًا شديدًا. إلا أن المبارك فوري قال في كتابه "الرحيق المختوم": وقد ظهر لي شيء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان يجاور بحراء شهرًا واحداً، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة، وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا -أي: لأول يوم من شهر شوال- ويعود إلى البيت. وقد ورد التنصيص في رواية "الصحيحين" على أن الوحي الذي نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد الفترة إنما نزل وهو راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر. أقول فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحي، وأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة (¬1) من شهر رمضان فهذا يعني أن فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط، وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة (¬2). وأما ما ذكر في حديث عائشة - رضي الله عنها - عن محاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - التردِّي من شواهق الجبال فقد ذهب ابن حجر إلى أنه بلاغ مرسل من مراسيل الزهري ومراسيل الزهري ضعيفة (¬3). وردَّ الألبانيُّ هذه الزيادة بعلتين: الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة. ¬

_ (¬1) والصواب: الحادية والعشرين. (¬2) "الرحيق المختوم" (76). (¬3) "فتح الباري" 12/ 359 - 360.

عودة الوحي

الثانية: أنها مرسلة معضلة ولم تأت من طريق موصولة يحتج بها. ثم ذكر أنها زيادة منكرة من حيث المعنى، إذ لا يليق بالنبي المعصوم أن يحاول قتل نفسه مهما كان الدافع له على ذلك (¬1). عودة الوحي: ثم حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عودة الْوَحْيِ إليه مرة أخرى فَقَالَ: "فَبَينَما أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَئِثْتُ (¬2) مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5] ثم حمي الوحي وتتابع" (¬3). 2 - ظل - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًا ثلاث سنوات. الشرح: فلما نزلت يا أيها المدثر كان إيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - ببدء الدعوة إلى الله، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًا حفاظًا منه على الدعوة وعلى من معه من المؤمنين وهم قلة، وحتى لا يعلم المشركون بذلك فيقضون علي الدعوة في مهدها. وأكد العلماء على أن هذه الفترة كانت ثلاث سنوات، فقد اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة في دعوة من يغلب على ظنه أنه سيدخل في هذا الدين، وسوف ¬

_ (¬1) انظر: "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة" (41). (¬2) جُئثتُ: ذُعِرتُ وخفت. يقال: جُئث الرجل، وجئف وجُثَّ إذا فَزع. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4925)، كتاب: التفسير، باب: وثيابك فطهر، ومسلم (161) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

3 - أسلم السابقون الأولون مثل خديجة وعلي وزيد أبي بكر وغيرهم

يكتم أمرما وهذا من باب السياسة الشرعية، والنظر المصلحي للدعوة إذا كان الجهر يضر بها (¬1). 3 - أسلم السابقون الأولون مثل خديجة وعلي وزيد أبي بكر وغيرهم. الشرح: قد علمنا فيما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ يدعو من يغلب على ظنه أنه سيدخل هذا الدين، وأنه سوف يكتم أمره. فكانت خديجة - رضي الله عنها - أول من دعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام فأسلمت، ثم ثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمين سره وموضع ثقته أبي بكر فأسلم، ولم يتردد، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أبو بَكْرٍ: صَدَقَ ... " (¬2). فكان الصديق - رضي الله عنه - أول داعية في الإِسلام. وكان ببركة إسلامه ودعوته ثلة مباركة دخلت في الدين وكانت من السابقين الأولين وكان لها في الإِسلام أعظم بذل وبلاء، فرضي الله عنهم أجمعين، منهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ذو النورين والزبير بن العوام وهو حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص خال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وطلحة بن عبيد الله وكل هؤلاء الذين دخلوا الإِسلام على يد أبي بكر من العشرة المبشرين رضي الله عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) "وقفات تربوية مع السيرة النبوية" الشيخ أحمد فريد (68) بتصرف. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3661)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذًا خليلاً، وأحمد في "فضائل الصحابة " (297).

4 - ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - بالجهر فجهر فعاداه قومه

وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - , وكان ابن ثماني سنين، وقيل أكثر من ذلك، وكان من سابق سعادته أنه كان في كفاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكان أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكان غلامًا لخديجة فوهبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها. ثم دخل بعد هذه الثلة الفاضلة التي سبقت لها السعادة وسبقت إلى الإيمان والعبادة، ثلة أخرى كريمة فاضلة منهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعيد بن زيد من العشرة المبشرين، وخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود، وأسماء، وعائشة، وقد أسلمت عائشة - رضي الله عنها - وهي طفلة صغيرة، أما أسماء فكانت متزوجة بالزبير بن العوام. وتوالى إسلام الأفاضل من قريش، فأسلم جعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان الرومي (¬1). وكان من السابقين بلال بن رباح، وعمر بن عبسه السلمي، وياسر وسمية والدا عمار، والمقداد بن الأسود. 4 - ثم أُمر - صلى الله عليه وسلم - بالجهر فجهر فعاداه قومه. الشرح: وكانت نزول آية الشعراء: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] إيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بالجهر بالدعوة المباركة، وانتهاء المرحلة السرية. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} صَعِدَ ¬

_ (¬1) "وقفات تربوية" 68، 69.

النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَابني فِهْرٍ يَابني عَدِيٍّ" - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أبو لَهَب وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيكُمْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: "فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فَقَالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد:1 - 2] (¬1). ثم شمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ساعديه، وألقى النوم والراحة وراء ظهره، وأخذ يدعو إلى الله وإلى دين ربه عز وجل فهو لا يريد أن يضيع لحظة واحدة في غير الدعوة إلى الله. ولم تكن الدعوة سهلة يسيرة، ولم يكن طريقها مفروش بالورود، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد واجه من الصعوبات والمشقة مالا يتحمله غيره، وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]. وكان سبب هذه الصعوبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث على فترة من الرسل حتى إن كفار قريش قد ورثوا عبادة الأصنام والأوثان كابرًا عن كابر، فلم تكن عندهم أدنى موافقة على ترك دين آبائهم وأجدادهم إلى التدين بهذا الدين الجديد، بل كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22]. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4770)، كتاب: التفسير، سورة الشعراء، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين، مسلم (208) كتاب الإيمان, باب: وأنذر عشيرتك الأقربين كلاهما عن ابن عباس ونحوه عن أبي هريرة, ومسلم عن عائشة وزهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق.

5 - قام كفار قريش بتعذيب من علموا بإسلامه ليردوهم عن دينهم لكنهم صبروا وثبتوا

ورغم ذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الحرص، وبذل كل الجهد حتى يخرج هؤلاء من عبادة الأوثان إلى عبادة رب الأنام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في الأسواق يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله تُفْلِحُوا" (¬1). حتى إن الله تعالى لما رأى منه كل هذا الجهد والحزن الذي ملأ قلبه حتى كاد يقتله الحزن لخوفه عليهم من عذاب ربهم، رأف الله تعالى به فأنزل عليه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]. وأنزل: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6]. أي: فلعك قاتل نفسك أسفًا وحزنًا لعدم إيمانهم بك وبرسالتك فلا تحزن كل هذا الحزن {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40]. ثم استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته التي واجه فيها صناديد قريش وكبراءها فآذوه أشد إيذاء وتعداه هذا الإيذاء إلى أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي - صلى الله عليه وسلم -. 5 - قام كفار قريش بتعذيب من علموا بإسلامه ليردوهم عن دينهم لكنهم صبروا وثبتوا. الشرح: واعتقد كفار مكة أن إيذاءهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعذيبهم لأصحابه سينال من عزيمتهم ويوهن قوتهم فيرضخون لهم ويطيعونهم فيما أرادوا, ولكن هيهات، هيهات، فما نالت هذه الأفعال من عزيمة الأبطال شيئًا، بل زادتهم قوة وصلابة. ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 3/ 492، والطبراني في "الكبير" (4582)، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" 142/ 143.

فكما علمت أخي الكريم لم يقف هذا الإيذاء عند حد معين، ولا على شخص معين، بل فاق كل الحدود ونال من كل شخص نطق بكلمة التوحيد {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8]. وإليك أخي الكريم بعض الصور لما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: عَنْ عبد الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيتِ وَأبو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أبو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلى سَلَا جَزُورِ بني فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ في كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (¬1) فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ (¬2) فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ عَلَيْكَ بِأبي جَهْلِ بن هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بن رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ, وَأُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ" وَذَكَرَ السَّابعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. قَالَ أبو إِسْحَقَ: الْوَلِيدُ بن عُقْبَةَ غَلَطٌ في هَذَا الْحَدِيثِ (¬3). ¬

_ (¬1) هو عقبة بن أبي معيط كما ثبت في بعض الروايات. (¬2) أي صغيرة. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3854)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - =

وقد وقع شك من الراوي في "صحيح البخاري" أهو أمية بن خلف أم أُبيّ؟ والصحيح أنه أمية فهو الذي قتل يوم بدر أما أبي فقد قتل يوم أحد، وقد تقطعت أوصال أمية فلم يلق في البئر. واعلم أخي الكريم أكرمك الله أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم لم يكن بسبب إيذائهم له - صلى الله عليه وسلم -، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يغضب لنفسه قط، وإنما كان ذلك لردهم دعوته وعدم قبولها. عن عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بن الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: بَينَما النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بن أبي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أبو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] (¬1). وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ أبو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى- يمينًا يحلف بها- لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ, قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ ¬

_ = وأصحابه من المشركين بمكة, مسلم (1794) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين. وهذا سياق مسلم، والسابع هو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في بعض الروايات. (¬1) "صحيح البخاري" (3856) كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة.

الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" قَالَ: فَأَنْزَلَ الله عز وجل {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق:6 - 19] (¬1). وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "لَقَدْ أُوذِيتُ في الله عز وجل وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ في الله وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ" (¬2). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أن أبا جَهْلٍ جاء إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَاهُ، فَتَهَدَّدَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَتُهَدِّدُنِي؟! أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا! فَأَنْزَلَ الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} إلى قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4958) كتاب: التفسير، تفسير سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق، مسلم (2797)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى، والسياق له. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (12151)، الترمذي (2472) كتاب: صفة القيامة والرقاق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2222)، "صحيح الجامع" (5001). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (3045)، والترمذي (3349) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة اقرأ باسم ربك، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (275).

ولما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} أقبلت أم جميل أروى بنت حرب، امرأة أبي جهل وهي تنشد: مذمم أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - فلما رأها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تراني" وقرأ قرآنًا فاعتصم به، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر إني أُخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها (¬1). وكأنَّ الله تعالى أراد ألا يُسب نبيه من هؤلاء. فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا تَعْجَبُونَ كَيفَ يَصْرِفُ الله عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟! " قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ" (¬2). وكان الْمُشْرِكُونَ إذا سمعوا القرآن يجهر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بأصحابه مستخفيًا يسبون الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فأمره الله تَعَالَى أن يتوسط بالقراءة بحيث يسمعه أتباعه دون المشركين، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110] (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الحاكم (3376) كتاب: التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي "التعليقات الحسان" (6477)، "صحيح السيرة" للألباني (138). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3533)، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحمد 2/ 244، 340، 366. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4722)، كتاب: التفسير، سورة بني إسرائيل، مسلم (446) كتاب: الصلاة، باب: التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة.

ولكن الله تعالى قد كفى نبيه - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين وعصمه منهم فلم يضروه بشيء، وقد تجلت هذه الرعاية وظهرت لما اجتمع كفار قُرَيْشٍ في الْحِجْرِ فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ، فلما علمت بذلك فَاطِمَةُ - رضي الله عنها - أقبلت تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ في الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وقَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ من ذلك، فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بنيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا"، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا هَذَا هو، فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ. قَالَ ابن عباس: فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (¬1). ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم كل هذا الإيذاء والتعنت ضده وضد دعوته رؤفًا بهم رحيمًا، حتى إن جِبْرِيلَ عليه السلام لما جاءه ومعه مَلَكُ الْجِبَالِ- يوم العقبة- وعرض عليه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يطْبِقَ عَلَيهِمْ الْأَخْشَبَينِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُه لَا يُشْرِك بِهِ شَيْئًا" (¬2). فهل عرفت البشرية مثل هذه الرحمة؟ كلا والله ما عرفت ولن تعرف. بأبي هو وأمي ونفسي - صلى الله عليه وسلم -. هذا ما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما عن أصحابه رضوان الله عليهم. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 303، 368، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬2) متفق عليه: البخاري (3231) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه, ومسلم (1795) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين.

فهذا بلال بن رباح -رضي الله عنه وأرضاه- عذب بلال في الله عذابًا لا يتحمَّلُه بشر، حتى إن المشركين ألبسوه أدرع الحديد وصهروه في الشمس هو ومن معه من السابقين فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال. عَنْ ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأبو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ، وَأَمَّا أبو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَعَ الْحَدِيدِ، فصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ من أحد إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله, وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فأخذوه فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فجعلوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ (¬1). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 1/ 404، وابن ماجه (150) باب: فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والحاكم 3/ 284، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح السيرة" (121). ويرد على هذا الحديث إشكالان: الأول: في قول ابن مسعود: فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه. وظاهر هذا أن ابن مسعود ينفي تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للإيذاء، وهذا ليس مراد ابن مسعود - رضي الله عنه - بلا شك، وإلا فقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك في الأحاديث التي رواها ابن مسعود نفسه، إذًا فمراد ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحبس ولم يُسجن كبقية المستضعفين وذلك لحماية عمه له. والله أعلم. والثاني: قول ابن مسعود: فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً. فظاهر هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم قد رجعوا عن دين الإِسلام إلى الكفر مرة أخرى، وهذا أيضًا ليس مراد ابن مسعود بلا شك, لأن هؤلاء الصحابة الذين ذكرهم لم يرتد منهم أحد بل ظلوا - رضي الله عنهم - أعمدة للإسلام وحماة له حتى وفاتهم - رضي الله عنهم - إذًا فمراد ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه ما منهم من أحد إلا وقد أخذ برخصة الله تعالى مع ثبوت الإيمان في قلبه.

قال الذهبي: من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله (¬1). وظل المشركون يعذبون بلالاً حتى إن كان أمية بن خلف - عليه لعائن الله - يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد (¬2). وظل بلال يتحمل هذا التعذيب الشديد الذي يفوق طاقات البشر وهو يردد كلمته الخالدة: أحد، أحد، حتى اشتراه الصديق فأعتقه في سبيل الله. عن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أواقٍ من ذهب، فقالوا: لو أبيت إلا أُوقية لبعناكه، قال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته (¬3). فكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أبو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا (¬4). ثم أمكن الله بلالاً من عدوه أمية بن خلف في غزوة بدر فاقتص منه. يقول عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي في صَاغِيَتِي (¬5) بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ في صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" 3/ 206. (¬2) "سيرة ابن هشام" 1/ 262. (¬3) "سير أعلام النبلاء" 3/ 210، وقال الذهبي: إسناده قوي. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3754)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: مناقب بلال بن رباح. (¬5) الصاغية: بصاد مهملة وغين معجمة خاصة الرجل، مأخوذ من صاغ إليه إذا مال، قال الأصمعي: صاغية الرجل كل ما يميل إليه، ويطلق على الأهل والمال. اهـ. "فتح الباري" 4/ 561.

صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة

أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عبد عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ في يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إلى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أُمَيَّةُ بن خَلَفٍ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ في آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ (¬1). صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة: وكان ممن عذب في الله عمار وأبواه ياسر وسمية - رضي الله عنهم -. قال ابن حجر في ترجمة عمار: كان من السابقين الأولين هو وأبوه وكانوا ممن يعذب في الله (¬2). وقال ابن عبد البر: كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله (¬3). فكان الكفار يلبسوهم أدرع الحديد فيصهروهم في الشمس حتى قتل ياسر. وأما سمية فقيل أن أبا جهل طعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2301)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل المسلم حربيًا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز. (¬2) "الإصابة" 2/ 1300، ط. دار المعرفة، بيروت. (¬3) "الاستيعاب" (548)، ط. دار المعرفة, بيروت. (¬4) "الإصابة" 4/ 2542.

وكان خباب بن الأرت ممن عذب في الله

وقيل طُعنت في فخذها فسرى الرمح إلى فرجها فماتت شهيدة (¬1). فلما قتل والدا عمار واشتد عليه العذاب تابعهم على ما أرادوا وقلبه كاره له، قال ابن حجر: واتفقوا على أنه نزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (¬2). وكان من مناقب آل ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بهم وهم يعذبون ويقول: "أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة" (¬3). وكان خباب بن الأرتِّ ممن عذب في الله: قال ابن عبد البر: وكان قديم الإِسلام ممن عذب في الله، وصبر على دينه (¬4). وقال ابن حجر: وروى البارودي، أنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه وعذب عذابًا شديدًا لأجل ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (896). (¬2) "الإصابة" 2/ 1300. (¬3) ذكره الألباني في "صحيح السيرة" (155) وقال: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 388، 389 من طريق أبي الزبير عن جابر، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، إلا أن أبا الزبير مدلس، وقد عنعنه. وقد أخرجه عنه ابن سعد 3/ 249 من الطريق نفسها ولم يذكر فيه جابرًا، وقد ذكره الهيثمي 9/ 293 من مسنده وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة, ثم ذكر له شاهدًا من حديث عثمان بن عفان مرفوعًا مثله، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (¬4) "الاستيعاب" (236). (¬5) "الإصابة" 1/ 473.

حتى إن خبابًا ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو له شدة ما يلقونه من المشركين، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فقال له هو وجماعة من الصحابة: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثم يؤتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ الله تعالى هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا الله وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (¬1). وقد جَاءَ خَبَّابٌ يومًا إلى عُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - فَقَالَ له: ادْنُ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلَّا عَمَّارٌ، فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهِ آثَارًا بِظَهْرِهِ مِمَّا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ (¬2). ولم يتوقف إيذاء المشركين للمسلمين على الإيذاء الجسدي فقط، بل إنَّ المشركين استحلوا أموالهم فأكلوها بالباطل. قال خباب: كنت رجلاً قينًا (¬3). وَكَانَ عَلَى الْعَاصِ بن وَائِلٍ دين، فَأَتَيْتُهُ، أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا والله, لا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ, لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تموت ثُمَّ تبعث، قَالَ: فإني إذا مت ثُمَّ أُبْعَثَ، جئتني ولي ثم مَال وَوَلَد فاعطيك، فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3852)، كتاب: "مناقب الأنصار"، باب: ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة. (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (153) باب: "فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -" وابن سعد 3/ 165، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (157). (¬3) بفتح القاف وسكون الياء وأصل القين الحداد ثم صار كل صائغ عند العرب قينًا، وقال الزجاج: القين الذي يصلح الأسنة. "فتح الباري".

وكان ممن عذب صهيب الرومي

الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم: 77 - 80] (¬1). وكان ممن عذب صهيب الرومي: قال ابن حجر نقلاً عن البغوي: وكان من المستضعفين ممن يعذب في الله (¬2). ولما أقبل أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - إلى مكة مؤمنًا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي" فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله, فثَارَ عليه الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ, فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تُجَّارِكُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ بِمِثْلِهَا، وَثَارُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَأَنْقَذَهُ (¬3). فهذا قليل من كثير مما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من كفار مكة لإرغامهم على ترك عقيدة التوحيد. ووالله ما كان هذا منهم لتكذيبهم له - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعلمون جيدًا أنه الصادق، وقد شهدوا له بذلك حتى بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الذي حملهم على ذلك جحودهم وظلمهم وكبرهم! قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (2425) , كتاب: الخصومات، باب: التقاضي، ومسلم (2795) كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح. (¬2) "الإصابة" 2/ 909. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2473) كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل أبي ذر.

يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ...} [النمل: 14]، وكانوا ينكرون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5] وكان من أسباب محاربتهم للدعوة أن قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]. فلم يكن عندهم أدنى استعداد لترك دين الآباء والأجداد حتى قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32]. ثم التجأ المشركون- بعد ذلك إلى أسلوب آخر ألا وهو أسلوب التشكيك -أي: تشكيك المؤمنين في دينهم ونبيهم- فلجأوا إلى طلب المستحيلات، حتى يعجز عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يغمزُن بعد ذلك أصحابه أنه لو كان نبيًا حقًا لما عجز عن ذلك، فكانوا يطالبونه بهذه الآيات ويقولون حتى تطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين، وهم لا ينوون في قرارة أنفسهم إلا نكران هذه الآيات. فلما علم الله منهم أنهم يطالبون بهذه الآيات على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى، والرشاد لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيِّهم وضلالتهم يترددون (¬1). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 3/ 56.

ثم سأل المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشق لهم القمر شقين فأجابهم الله لهذا

الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ، قَالَ: "وَتَفْعَلُوا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لك: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، قَالَ: "بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ" (¬1). ثم سأل المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشق لهم القمر شقين فأجابهم الله لهذا: فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِرْقَتَينِ فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشْهَدُوا" (¬2). فلما انشق القمر قال كفار قريش: سحركم ابن أبي كبشه، فقال: رجل منهم: إن محمدًا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا، فسألوا فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك (¬3). ثم التجأ المشركون بعد ذلك إلى أسلوب المجادلة: عن جابر - رضي الله عنه - قال: اجتمعت قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، وينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 345، وابن جرير في "التفسير" 15/ 108، والحاكم 2/ 362، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، قال الألباني وهو كما قالا "صحيح السيرة" (152 - 153). (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (4867)، كتاب: "التفسير"، باب: قوله تعالى وانشق القمر، ومسلم (2802)، كتاب: صفة القيامة، باب: انشقاق القمر. (¬3) "عيون الأثر" 1/ 207.

فقالوا: أنت يا أبا الوليد! فأتاه عتبة فقال: يا محمَّد! أنت خيرٌ أم عبد الله؟ فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول لله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة (¬1) قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى (¬2)، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا، وإن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "فرغت؟ " قال: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} " إلى أن بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} " [فصلت:1 - 13] فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نصبها بيِّنة، ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك أيكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله, ما فهمت شيئًا مما قال، غير ذكر الصاعقة (¬3). ¬

_ (¬1) السخل: المولود المحبب إلى أبويه، وهو في الأصل ولد الغنم. "النهاية في غريب الحديث والأثر" ابن الأثير، ط. دار المعرفة, بيروت. (¬2) أي ما ننتظر إلا وقتًا قليلاً قدر ما تصيح الحُبلى ثم تضع. (¬3) صحيح: أخرجه الحاكم 2/ 506، 507، وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، قال الألباني: وهو كما قالا انظر "صحيح السيرة" 159، 160.

6 - عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتماعات سرية بالمسلمين في دار الأرقم ليعلمهم شرائع الإسلام

6 - عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتماعات سرية بالمسلمين في دار الأرقم ليُعلِّمهم شرائع الإسلام. الشرح: كانت هذه الدار في أصل الصفا بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلوا عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإِسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة. ومما لم يكن يُشك فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو اجتمع بالمسلمين علنًا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب والحكمة، وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل قد وقع ذلك فعلاً، فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام. ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة السرية والاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم وإجتماعهم، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرًا، نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام (¬1). ¬

_ (¬1) "الرحيق المختوم" 97، 98.

7 - وفي السنة الخامسة من البعثة: هاجر جماعة من الصحابة إلى الحبشة - بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفاظا على دينهم, منهم: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب, فأقاموا بها عشر سنين

7 - وفي السنة الخامسة من البعثة: هاجر جماعة من الصحابة إلى الحبشة - بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفاظًا على دينهم, منهم: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب, فأقاموا بها عشر سنين. الشرح: كان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وقيل وامرأتان، وقيل كانوا إثنى عشر رجلاً، وقيل عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار (¬1). سبب الهجرة إلى الحبشة: تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه"، فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلمًا (¬2). المهاجرون الأولون إلى الحبشة: كان عثمان بن عفان أول من خرج إلى أرض الحبشة، ومعه امرأته رقية ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 7/ 227. (¬2) سيأتي تخريجه.

رجوع المهاجرين إلى مكة مرة أخري

بنت رسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، فولدت له بأرض الحبشة محمَّد بن أبي حذيفة، ثم تبعهم مصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سَبرة بن أبي رُهُم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وسهيل بن بيضاء. فهؤلاء أحد عشر رجلاً وخمسة نسوة. قيل: وكان عليهم عثمان بن مظعون. وهو قول أكثر أهل السير. وقيل: كان عليهم عثمان بن عفان. والله أعلم. رجوع المهاجرين إلى مكة مرة أخري: ثم حدث بعد ذلك أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بمكة فلما وصل إلى آية السجدة منها سَجَدَ وسجد معه المسلمون والمشركون وحتى الجن سجدوا، ومَا بَقِيَ أحد مِنْ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ (¬2). فوصل هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ولكن بصورة أخرى، حيث وصلهم أن مشركي مكة قد أسلموا، فرجعوا. حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة ¬

_ (¬1) رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام. أخرجه البيهقي في "الدلائل" والفسوي في "المعرفة والتاريخ" وهو حديث ضعيف لا يصح. (¬2) صحيح: انظر: "صحيح البخاري" (1067، 1070، 1071) كتاب: سجود القرآن.

عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد

كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيًا، فكان ممن دخل عليه مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد معه بدرًا، ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومن مات بمكة (¬1). وكان ممن دخل منهم بجوار: عثمان بن مظعون دخل بجوارٍ من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد دخل بجوار من أبي طالب بن عبد المطلب، وكان خاله، فأم أبي سلمة هي بَرَّةُ بنت عبد المطلب (¬2). عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد: فلما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله مالا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وَفَتْ ذمَّتُك، قد رددت إليك جوارك، فقال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي، قال: لا, ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره! قال: فانطلقْ إلى المسجد فارددْ علي جواري علانية كما أجرتك علانية، قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علىَّ جواري، قال: صدق قد وجدته وفيًا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان (¬3). قصة أبي سلمة في جواره: لما استجار أبو سلمة بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، قالوا: ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 247. (¬2) "سيرة ابن هشام" 1/ 248. بتصرف يسير. (¬3) "سيرة ابن هشام" 1/ 248، 249.

دخول أبي بكر في جوار ابن الدغنة ورد جواره عليه

يا أبا طالب، لقد منعت منا ابن أخيك محمدًا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وأنا إن لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قوله ,والله لتنتهنَّ عنه أو لنقومنَّ معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، قال فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة، وكان لهم وليًا وناصرًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبقوا على ذلك (¬1). دخول أبي بكر في جوار ابن الدُّغُنَّة ورد جواره عليه: روى ابن إسحاق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى سار مكة يومًا أو يومين، لقيه ابن الدغنة (¬2) أخو بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش (¬3) فقال ابن الدغنة: أين أبو بكر؟ قال: أخرجني وآذوني، وضيقوا عليَّ، قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتُكسب المعدوم، ارجع فأنت في جواري، فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا بخير، قالت: فكفوا عنه، قالت: وكان ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 249. (¬2) ابن الدغنة: ضبط بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون مخففة، وبضم الدال والغين وفتح النون مشددة، فالأول ضبط المحدثين، والثاني ضبط أهل اللغة، وفي القاموس أو بضم فسكون كخرمة, قال السهيلي: والدُغنة اسم امرأة عُرف بها الرجال، والدغن: الغيم بعد المطر. من تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد على "سيرة ابن هشام". (¬3) الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث، والتحبش: التجمع، وقيل: حالفوا قريشًا تحت جبل يسمى حُبْشيًا بأسفل مكة فسموا بذلك. من تعليقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد على "سيرة ابن هشام".

الهجرة الثانية إلى الحبشة

لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمح، فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقًا، إذا قرأ القرآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة, فقالوا: يا ابن الدغنة، إن لم تُجرْ هذا الرجل ليُؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي وكانت له هيئة ونحوٌ، فنحن نتخوف علنى صبياننا ونسائنا وضَعَفَتِنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع ما شاء، قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال له: يا أبا بكر، إني لم أُجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه، وتأذُّوا بذلك منك، فأدخل بيتك، فاصنع فيها ما أحببت، قال: أو أرُدُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد على جواري، قال: قد رددته عليك، قالت: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم (¬1). الهجرة الثانية إلى الحبشة: واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلي نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا (¬2). وكان عدد المهاجرين في هذه المرة نحو ثمانين رجلاً كما جاء في حديث ابن مسعود (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 250، 251. بتصرف يسير. (¬2) "الرحيق المختوم" (99). (¬3) حسن: أخرجه أحمد 4/ 4400، الحاكم 2/ 623 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن سيد الناس في "عيون الأثر"، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" 164، 166.

قريش ترسل عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليرد المسلمين

قريش ترسل عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليردَّ المسلمين: عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته (¬1). ولنترك إحدى شهود العيان تحكى لنا تفاصيل ما دار هناك في أرض الحبشة، وما دار بين النجاشي - رضي الله عنه - ورسولا قريش. تقول السيدة أم سلمة - رضي الله عنها -: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنَّا على ديننا، وعبدنا الله, لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمَّروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هدية قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجَا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبعد من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منَّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم ¬

_ (¬1) "الرحيق المختوم" (99)، بطارقته: جمع بطريق، وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب وتقدم عندهم. "النهاية في غريب الحديث".

إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعماهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله، ايْمُ الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ، قومًا جاوروني نزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة

والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنَّا، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص)، قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أُكادُ، قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه؟ قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله (¬1) فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في ¬

_ (¬1) أي: ولم ينزل بنا همٌّ مثله، خوفًا من النجاشي وأن ذلك يخالف عقيدته.

عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبيا، كائنًا في ذلك ما هو كائن (¬1)، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (¬2). قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله! (¬3) اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، والسيوم: الآمنون, من سبكم غُرِّم ثم من سبكم غُزِم، فما أُحب أن لي دَبْرًا ذهبًا وأني آذيت رجلاً منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة فيه, وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع ¬

_ (¬1) وهذا موقف عظيم نتعلمه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يحملهم ما هم فيه من شدة وبلاء على الكذب والتدليس وأن يقولوا في عيسى بن مريم خلاف عقيدتهم التي تخالف عقيدة النصارى، بل قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن، فكان ما كان من النجاشي أن أجلسهم في أرضه وتحت حمايته مطمئنين وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "فإن الصدق طمأنينة" الترمذي (2518)، وأحمد 1/ 200، وصححه الألباني "صحيح الجامع" (3378). بل إن ذلك أدى إلى إسلام النجاشي. فتعلموا يا شباب الصحوة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومواقف صحابته، فهؤلاء والله الذين يُقتدى بهم، فإن اقتديتم بهم فنعم الاقتداء. (¬2) امرأة بتول: أي منقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم، وبها سُميت مريم أم المسيح عليهما السلام. "النهاية في غريب الحديث". (¬3) النخيرة صوت الأنف. قال ابن الأثير: فتناخرت بطارقته أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور. "النهاية في غريب الحديث".

فضل مهاجري الحبشة

خير جار، قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به، يعني من ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنًا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفًا أن يظهر ذلك على النجاشي (¬1) فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عُرضُ النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنًا، قالت: فنفخوا له قربة يجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة (¬2). فضل مهاجري الحبشة: عَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أبو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أبو رُهْمٍ إِمَّا قَالَ: بِضْعٌ، وَإِمَّا قَالَ: في ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بن أبي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بنتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - زَائِرَةً وَقَدْ كَانَتْ ¬

_ (¬1) أي: أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيغلبه. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد 2/ 1740، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وابن إسحاق في "السيرة" 1/ 229 - 232، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح السيرة" (170 - 178).

فائدة

هَاجَرَتْ إلى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَأَسمَاءُ عِنْدَهَا فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بنتُ عُمَيْسٍ، قَالَ عُمَرُ: الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ، قَالَ: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْكُمْ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللهِ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا في دَارِ أَوْ في أَرْضِ الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ في الله وَفِي رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَايْمُ الله لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَسْأَلُهُ وَاللهِ لَا أَكْذِبُ، وَلَا أَزِيغُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "فَمَا قُلْتِ لَهُ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: "لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ"، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى، وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَا مِنْ الدُّنْيَا شَيءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ، وَلَا أَعْظَمُ في أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أبو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي (¬1). فائدة: اختلف أهل المغازي والسير فيمن أرسلته قريش مع عمرو بن العاص إلى النجاشي، فقال بعضهم أرسلت قريش إلى النجاشي مرتين، فمرة أرسلوا مع عمرو بن العاص عبد الله بن أبي ربيعة، ومرة أرسلوا معه عمارة بن الوليد، وق آخرون لم ترسل قريش إلى النجاشي إلا مرة واحدة وانقسم أصحاب هذا القول إلى فريقين فريق قال: كان مع عمرو بن العاص عبد الله بن ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4230، 4231) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، مسلم (2502، 2503) كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم.

أبي ربيعة- وهم الأكثرون- وفريق قال كان معه عمارة بن الوليد. وسبب هذا هو الاختلاف الذي وقع في الروايات التي ذكرتْ قصة الهجرة إلى الحبشة حيث ذُكر في حديثي أبي موسى وابن مسعود عمارة بن الوليد مع عمر وابن العاص، وأما حديث أم سلمة فذكر فيه عبد الله بن أبي ربيعة مع عمرو بن العاص. والحقيقة فإن الناظر في الروايات يعلم يقينًا أن قول من قال كان هذا مرتين فكان في أحدهما عمارة بن الوليد وفي الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة قول بعيد كل البعد عن الحقيقة والصواب، وذلك لأن الروايات الثلاثة ذُكر فيها الحوار الذي دار بين الأطراف الثلاثة، النجاشي، والمسلمين، ورسوليْ قريش، وجاء ذكر الحوار في جميع الروايات هو هو لم يتغير حتى عندما قال عمرو بن العاص: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا، فأرسل النجاشي إلى المسلمين يسألهم عن ذلك فأجابه جعفر بن أبي طالب فأخذ النجاشي عودًا من الأرض وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فلأن الحوار واحد في الروايات الثلاثة يبعد جدًا أن تكون القصة قد تكررت، وإلا لو حدث هذا مرتين لَما أعاد عمرو بن العاص قولته في المرة الثانية، ولما كان أرسل النجاشي للمسلمين مرة أخرى يسألهم عما يقولون في عيسى بن مريم، وكان يكفيه أن يقول علمنا قولهم في عيسى بن مريم قبل ذلك. فبهذا يعلم أن هذا القول غير صحيح. فيبقى قول من قال كان هذا مرة واحدة، وكما سبق ذهب أصحاب هذا القول إلى أن المرسَل مع عمرو بن العاص هو عمارة بن الوليد، وذهب بعضهم أنه عبد الله بن أبي ربيعة وهو الصواب. وذلك لأن عبد الله بن أبي ربيعة جاء ذكره في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وهو

فائدة أخرى

حديث سنده مسلسل بالثقات غير ابن إسحاق محمد بن إسحاق بن يسار إمام أهل المغازي والسير وقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يدلس. وقد أمنا من تدليسه حيث صرح بالتحديث فقال حدثني الزهريُّ. وأما حديثي أبي موسى وابن مسعود فمدارهما على أبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله بن عبيد ثقة ولكنه مدلس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالتحديث ولم يصرح في الروايتين، حيث قال في حديث أبي موسى: عن أبي بردة، وقال في حديث ابن مسعود: عن عبد الله بن عتبة. ثم هو قد اختلط بأخرة والراوي عنه حديث أبي موسى هو إسرائيل بن يونس وهو ممن أخذ عنه بعد الاختلاط. والراوي عنه حديث ابن مسعود وهو حُديج بن معاوية وهو صدوق يخطئ كما قال الحافظ، وضعفه ابن معين وغيره. فالظاهر هنا أن ذكر عمارة بن الوليد في الحديث وَهمٌ من أبي إسحاق السَبيعي أي مما اختلط عليه فيه، خاصة وأن عبد الله بن أبي ربيعة وعمارة بن الوليد من قبيلة واحدة وهي بني مخزوم فلذلك أرى أنه شبِّه عليه فيه. والله أعلم. فائدة أخرى: رُوي في سبب سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدح آلهتهم فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وقد رُوي هذا الحديث من طرق كثيرة بلغت العشرة ذكرها الشيخ الألباني في كتابه "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" وكلها طرق ضعيفة لا يقوى بعضها بعضًا كما أوضح ذلك الشيخ الألباني رحمه الله.

فائدة ثالثة

فائدة ثالثة: ذهب بعض أهل السير إلى أنَّ أبا موسى الأشعري كان مع من هاجروا إلى الحبشة من مكة، وذلك لما رواه أبو نعيم في الدلائل أن أبا موسى قال: أمرنا رسول - صلى الله عليه وسلم - أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، وهذا غير صحيح، والصحيح أن أبا موسى خرج من بلده باليمن قاصدًا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فألقته السفينة إلى النجاشي بالحبشة هو ومن معه فوافقوا جعفر بن أبي طالب فأقاموا معه حتى قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر (¬1). فهذا الحديث هو الثابت، أما الحديث السابق فرواه أبو نعيم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة، وأبو إسحاق قد اختلط كما سبق وإسرائيل ممن أخذ عنه بعد الاختلاط. والله أعلم. 8 - وفي السنه السادسة من البعثة: أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمرو بن الخطاب - رضي الله عنهما - فعز الإسلام بإسلامهما. الشرح: لقد كان إسلام الفاروق عمر وأسد الله حمزة، نصرًا وفتحًا كبيرًا للإسلام والمسلمين. فهما لم يكونا مجرد رجلين عاديين كبقية الرجال ولا شخصين كبقية الأشخاص، إنما كانا - رضي الله عنهما - جبلين شامخين, وأسدين جسورين، وبطلين كبيرين، دحض الله بهما جحافل المشركين، وأذل بهما طوائف الحاقدين والمعاندين، وأعز بهما الإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

إسلام حمزة - رضي الله عنه -

يقول ابْنُ مَسْعُودٍ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ (¬1). ويقول ابن مسعود أيضًا: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه (¬2). وقال أيضًا: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة (¬3). وأما حمزة فكان فتى قوي الشكيمة تهابه قريش ويعملون له حسابًا، حتى إنه لما ضرب أبا جهل -عليه لعائن الله- على رأسه بالقوس ما استطاع أبو جهل أن يتفوه بكلمة مع قوة أبي جهل وجبروته. إسلام حمزة - رضي الله عنه -: وقد ذكر قصة إسلام حمزة - رضي الله عنه - ابن إسحاق فقال: مرَّ أبو جهل برسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره، من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومولاةٌ لعبد الله بن جُدْعان في مسكن لها تسمع ذلك منه، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أن أقبل متوشحًا قوسه راجعًا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3863) كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 270، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح السيرة" (188). (¬3) انظر: "صحيح السيرة" (188).

إسلام عمر - رضي الله عنه -

فلما مرَّ بالمولاة، وقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم ابن هشام، وَجَدَهُ ههنا جالسًا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاحتمل حمزة الغضبُ لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول كما يقول؟ فَرُدَّ ذلك على إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببتُ ابن أخيه سبًا قبيحًا، وتمَّ حمزة - رضي الله عنه - على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (¬1). إسلام عمر - رضي الله عنه - روى البخاري عَنْ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَئءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ. بَيْنَمَا عُمَرُ جَالس إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ عمر: لَقَدْ أَخْطَاَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينهِ في الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَىَّ الرَّجُلَ، فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ: فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا في السُّوقِ، جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا، وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا، وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا، قَالَ عُمَرُ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 203، 204.

قال الحافظ ابن حجر

يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَوَثَبَ الْقَوْمُ، قُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُل فَصِيحْ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَقُمْتُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ (¬1). قال الحافظ ابن حجر: لَمَّحَ الْمُصَنِف بِإِيرَادِ هَذِهِ الْقِصَّة في بَاب: إِسْلَام عُمَر بِمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَة وَطَلْحَة عَن عُمَر مِنْ أنَّ هَذِهِ الْقِصَّة كَانَتْ سَبَب إِسْلَامه، فَرَوَى أبو نُعَيْم في "الدَّلَائِل" أنَّ أَبَا جَهْل جَعَلَ لِمَنْ يَقْتُل مُحَمَّدًا مِائَة نَاقَة، قَالَ عُمَر: فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَم آلضَّمَان صَحِيح؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَقَلَّدَتُ سَيْفِي أُرِيدهُ، فَمَرَرْت عَلَى عِجْل وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ، فَقُمْت أَنْظُر إِلَيْهِمْ، فَإِذَا صَائِح يَصِيح مِنْ جَوْف الْعِجْل: يَا آلَ ذَرِيح، أَمْر نَجِيح، رَجُل يَصِيح بِلِسَانِ فَصِيح. قَالَ عُمَر: فَقُلْت في نَفْسِي إِنَّ هَذَا الْأَمْر مَا يُرَاد بِهِ إِلَّا أَنَا (¬2). فكان هذا سبب إسلامه - رضي الله عنه -. فلما أسلم عمر - رضي الله عنه - كان هذا عزًا للإسلام استجابة لدعوة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنٍ الرَّجُلَيْنِ إِلَيكَ بِأبي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ" قَال -يعني: ابن عمر- وَكَانَ أحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ (¬3). 9 - وفي السنه السابعه من البعثه: تعاهدت قريش على قطيعه بني هاشم إلا أن يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتبوا بذلك صحيفه وعلقوها في الكعبة. الشرح: ذكر خبر الصحيفة ابن إسحاق حيث قال: فلما رأت قريش أن أصحاب ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3866)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) "فتح الباري" 7/ 220. (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ,وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2907).

10 - وفي هذه السنة: اعتزل بنو هاشم بن عبد مناف وتبعهم إخوانهم بنو المطلب بن عبد مناف مع أبي طالب إلى شعب أبي طالب، فأقاموا به ثلاث سنين، إلى أن سعى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وزمعه بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد في نقض الصحيفه، فخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب في أواخر السنة التاسعة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا, ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي- قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث- فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فشُلَّ بعضُ أصابعه (¬1). 10 - وفي هذه السنة: اعتزل بنو هاشم بن عبد مناف وتبعهم إخوانهم بنو المطلب بن عبد مناف مع أبي طالب إلى شعب أبي طالب، فأقاموا به ثلاث سنين، إلى أن سعى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وزمعه بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد في نقض الصحيفه، فخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب في أواخر السنة التاسعة. الشرح: قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب، عبد العزى بن عبد المطلب، إلى قريش فظاهرهم (¬2). فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَجَزَمَ مُوسَى بن عُقْبَة بِأَنَّهَا كَانَتْ ثَلَاث سِنِينَ حَتَّى جَهِدُوا وَلَمْ يَكُنْ يَأتِيهِمْ شَئء مِنْ الْأَقْوَات إِلَّا خُفْيَة، حَتَّى كانوا ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 1/ 238. (¬2) "سيرة ابن هشام" 1/ 238.

11 - وفي السنه العاشرة من البعثة: مات أبو طالب، ثم ماتت خديجة - رضي الله عنها - بعده بثلاثة أيام , فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموتهما حزنا شديدا، ونالت قريش منه - صلى الله عليه وسلم - مالم تنله في حياة عمه أبي طالب.

يُؤْذُونَ مَنْ اِطَّلَعُوا عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إلى بَعْض أَقَارِبه شَيْئًا مِنْ الصِّلَات، إلى أَنْ قَامَ في نَقْضِ الصَّحِيفَة نَفَر مِنْ أَشَدّهمْ في ذَلِكَ صَنِيعًا هِشَام بن عَمْرو بن الْحَارِث الْعَامِرِيّ، وَكَانَتْ أُمّ أَبِيهِ تَحْت هَاشِم بن عبد مَنَافٍ قَبْل أَنْ يَتَزَوَّجهَا جَدّه، فَكَانَ يَصِلَهُمْ وَهُمْ في الشِّعْب، ثُمَّ مَشَى إلى زُهَيْر بن أبي أُمَيَّة وَكَانَتْ أُمّه عَاتِكَة بنت عبد الْمُطَّلِب فَكَلَّمَهُ في ذَلِكَ فَوَافَقَهُ، وَمَشَيَا جَمِيعًا إلى الْمُطْعِم بن عَدِيّ وَإِلَى زَمْعَة بن الْأَسْوَد فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسُوا بِالْحِجْرِ تَكَلَّمُوا في ذَلِكَ وَأَنْكَرُوهُ وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أبو جَهْل: هَذَا أَمْر قُضِيَ بِلَيْل، وَفِي آخِر الْأَمْر أَخْرَجُوا الصَّحِيفَة فَمَزَّقُوهَا وَأَبْطَلُوا حُكْمهَا، وَذَكَرَ اِبْن هِشَام أنَّهُمْ وَجَدُوا الْأَرَضَة قَدْ أَكَلَتْ جَمِيع مَا فِيهَا إِلَّا اِسْم الله، وقيل أنها لَمْ تَدَع اِسْمًا لِلَّهِ إِلَّا أَكَلَتْهُ. والله أعلم (¬1). 11 - وفي السنه العاشرة من البعثة: مات أبو طالب، ثم ماتت خديجة - رضي الله عنها - بعده بثلاثة أيام , فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموتهما حزنًا شديدًا، ونالت قريش منه - صلى الله عليه وسلم - مالم تنلْه في حياة عمه أبي طالب. الشرح: روى البخاري عَنْ هِشَامٍ بن عروة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إلى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثٍ (¬2). وكان ذلك بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام فقط (¬3) وهما نصيرا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - اللذان كانا يصدان عنه أذى قريش واعتداءاتهم عليه - صلى الله عليه وسلم -، لمكانتهما بين قريش. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 7/ 232. بتصرف يسير. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3896) كتاب: مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة، وقدومها المدينة وبنائه عليها. (¬3) ذكر ذلك البيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 352، 353 وغيرها ونقله ابن سيد الناس في "عيون الأثر" 1/ 227.

ولذلك حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لموتهما حزنًا شديدًا. واشتهر هذا العام عند أهل التاريخ والسير بعام الحزن. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إسلام عمه أبي طالب أشد الحرص حتى لحظة وفاته ولكنَّ إرادة الله غالبة. روى الإِمام البخاري عَنْ الْمُسَيَّبِ بن حَزْن - رضي الله عنه - قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِب الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ أبو جَهْلٍ، فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إلَهَ إِلَّا الله كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله"، فَقَالَ أبو جَهْلٍ وَعبد الله بن أبي أُمَيَّةَ: يَا أبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِب، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: هو عَلَى مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ"، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113] وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] (¬1). ومع ذلك فقد نفعه دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن العباس بن عبد الْمُطَّلِبِ عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فَإنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، فقَالَ: "نعم هُوَ في ضَحْضَاحٍ (¬2) مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أنَا لَكَانَ في الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (3884) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم (24) كتاب: الإيمان. (¬2) الضحضاح: ما رقَّ من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3885)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، عن أبي سعيد الخدري، ومسلم (209) كتاب: الإيمان, باب: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه.

12 - وفي شوال من هذه السنة: عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على عائشه وهي بنت ست سنين، ولم يبن بها إلا في السنة الأولي من الهجرة، وهي بنت تسع سنين - رضي الله عنها -.

فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب (¬1). 12 - وفي شوال من هذه السنة: عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على عائشه وهي بنت ست سنين، ولم يبن بها إلا في السنة الأولي من الهجرة، وهي بنت تسع سنين - رضي الله عنها -. الشرح: قَالَتْ عائشة - رضي الله عنها -: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا بنتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا في بني الْحَارِثِ بن خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي (¬2) فَوَفَى جُمَيْمَةً (¬3) فَأَتَتْنِي أُمِّيِ أمُّ رُومَانَ وإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا، لَا أدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بيَدِي حَتَّى أوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأُنْهجُ، حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ في الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ (¬4) فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي (¬5) إِلَّا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ضُحى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأنَا يَوْمَئِذٍ بنتُ تِسْعِ سِنِينَ (¬6). ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 1/ 227. (¬2) فتمزق شعري بالزاي أن تقطع، وللكشمهيني فتمرَّق بالراء أي انتتف. "فتح الباري" 7/ 265. (¬3) فوفى أي: كثر. قال ابن حجر في "الفتح" 7/ 265: وفي الكلام حذف تقديره ثم فصلت من الوعك فتربى شعري فكثر، وقولها (جميمة) بالجيم مصغر الجُمة بالضم وهي مجمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذن وفرة. اهـ. (¬4) قال ابن حجر: (علي خير طائر) أي على خير حظ ونصيب. (¬5) قال ابن حجر: (فلم يرعني) بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني شيء إلا دخوله عليَّ. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (3894)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها، ومسلم (1422) كتاب: النكاح، باب: تزويج البكر الصغيرة.

وروى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ أيضًا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بنتُ سِتٍّ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بنتُ تِسْعٍ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بنتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ (¬1). وجاء في بعض الروايات الصحيحة أيضًا عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها وهي بنت سبع سنين (¬2). قال الإِمام النووي رحمه الله: وَأَمَّا قَوْلهَا في رِوَايَة: (تَزَوَّجَنِي وَأَنَّا بنت سَبْع)، وَفِي أَكْثَر الرِّوَايَات (بِنْت سِتّ) فَالْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا سِتّ وَكَسْر، فَفِي رِوَايَة اِقْتَصَرَتْ عَلَى السِّنِينَ، وَفِي رِوَايَة عَدَّتْ السَّنَة الَّتِي دَخَّلَتْ فِيهَا. وَاَلله أَعْلَم (¬3). وكان ذلك في شهر شوال لما رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شَوَّالٍ وَبَنَى بِي في شَوَّالٍ فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ (¬4). وكان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها - بوحي من الله عزوجل. قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: "أُرِيتُكِ في الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ (¬5) فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأكشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله يُمْضِهِ" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1422) كتاب: النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة. (¬2) انظر التخريج السابق. (¬3) "شرح مسلم" للنووي 5/ 186. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1423) كتاب: النكاح، باب: التزوج والتزويج في شوال واستحباب الدخول فيه. (¬5) السرقة بفتح المهملة والراء والقاف هي: القطعة. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (5078) كتاب: النكاح، باب: نكاح الأبكار، ومسلم (2438) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها.

قال ابن حجر

قال ابن حجر: وَعِنْد الْآجُرّيّ مِنْ وَجْهٍ آخَر عَنْ عائِشَة: (لَقَد نَزَلَ جِبْرِيل بِصُورَتِي في راحَته -أي: في كفه- حِين أُمِرَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَزَوَّجنِي) وَيُجْمَع بَيْن هَذا وَبَيْن ما قَبْله- أنها كانت في قطعة حرير- بِأنّ الْمُراد أَنَّ صورَتها كانَتْ في الْخِرْقَة والْخِرْقَة في راحَته، وَيَحتَمِل أَنْ يَكُون نَزَلَ بِالْكَيْفِيَّتَيْنِ لِقَوْلِها في نَفْس الْخَبَر: (نَزَلَ مَرَّتَينِ). اهـ (¬1). فهذا وحي من الله لأنّ رؤيا الأنبياء وحي، وعصمتهم في المنام كاليقظة. ولم يتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بكرًا إلا عائشة - رضي الله عنها -. روى الإمام البخاريُّ عَنْ عائِشَةَ - رضي الله عنها - أنها قالَتْ: قُلْتُ يا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْها ووَجَدْتَ شَجَرًا لَم يُؤْكَلْ مِنْها في أَيِّها كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قالَ: "في الَّذِي لَم يُرتَعْ مِنْها" تَعْنِي أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَم يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَها (¬2). 13 - وفي شوال من هذه السنه: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -سودة بنت زمعه - رضي الله عنها -. الشرح: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لَمّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ، جاءَتْ خوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمانَ بن مَظْعُونٍ قالَتْ: يا رَسُولَ الله أَلا تَزَوَّجُ؟ قالَ: "مَنْ؟ " قالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قالَ: "فَمَنْ الْبِكْرُ؟ " قالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ الله إِلَيْكَ، عائِشَة ابنة أبي بَكْرٍ، قالَ: "وَمَنْ الثَّيِّبُ؟ " قالَتْ: سَوْدَةُ بنت زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَأتبَعَتْكَ عَلَى ما تَقُولُ، قالَ: "فَاذْهبِي فاذْكُرِيهِما عَلَىَّ" فَدَخَلَتْ بيْتَ أبي بَكْرٍ فَقالَتْ: يا أُمَّ رُومانَ، ماذا أَدخَلَ الله عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَيْرِ والْبَرَكَةِ! قالَتْ: وَما ذاكَ؟ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 9/ 87. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5077) كتاب: النكاح، باب: نكاح الأبكار.

قالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخْطُبُ عَلَيْهِ عائِشَةَ، قالَتْ: انْتَظِرِي أَبا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَقالَتْ: يا أَبا بَكْرٍ، ماذا أَدْخَلَ الله عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَيْرِ والْبَرَكَةِ! قالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخْطُبُ عَلَيْه عائِشَةَ، قالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟! إِنَّما هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ، فَرَجَحَتْ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قالَ: "ارْجعِي إِلَيهِ فَقُولِي لَهُ: أَنا أَخُوكَ، وَأَنْتَ أَخِي في الْإِسْلامِ، وابْنَتُكَ تَصلُحُ لِي" فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، قالَ: انْتَظِرِي، وَخَرَجَ قالَتْ أُمُّ رُومانَ: إِنَّ مُطْعِمَ بن عَدِيٍّ قَدْ كانَ ذَكَرَها عَلَى ابْنِهِ، واللهِ ما وَعَدَ مَوْعِدًا قَطُّ فَأَخْلَفَهُ- لِأبي بَكْرٍ - فَدَخَلَ أبو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بن عَدِيٍّ وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَتَي فَقالَتْ: يا ابْنَ أبي قُحافَةَ، لَعَلَّكَ مُصْبٍ صاحِبَنا مُدخِلُهُ في دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ؟ فقالَ أبو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بن عَدِيٍّ: أقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ؟ قالَ: إِنَّها تَقُولُ ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَقد أَذْهَبَ الله ما كانَ في نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ الَّتِي وَعَدَهُ، فَرَجَعَ فَقالَ لِخَوْلَةَ: ادعِي لِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَدَعَتْهُ فَزَوَّجَها إِيّاهُ، وَعائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بنت ستِّ سِنِينَ، ثُمَّ خَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى سَوْدةَ بنتِ زَمْعَةَ فَقالَتْ: ماذا أَدْخَلَ الله عَلَيْكِ مِنْ الْخَيْرِ والْبَرَكَةِ! قالَتْ: وما ذاكَ؟ قالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخْطُبُكِ عَلَيْهِ! قالَتْ: وَددْتُ، ادْخُلِي إلى أبي فاذْكُرِي ذَلكَ لَهُ، وَكانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَهُ السِّنُّ، قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَحَيَّتْهُ بِتَحِيَّةِ الْجاهِلِيَّةِ، فَقالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقالَتْ: خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ، قالَ: فَما شَأْنُكِ؟ قالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بن عبد الله أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ، فقالَ: كُفْؤ كَرِيمٌ، ماذا تَقُولُ صاحِبَتُكِ؟ قالَتْ: تُحِبُّ ذاكَ، قالَ: ادعُيها لِي، فَدَعَتُها، قالَ: أَيْ بنيَّةُ، إِنَّ هذِهِ تَزْعُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بن عبد الله بن عبد الْمُطَّلِبِ قَدْ أَرْسَلَ يَخْطُبُكِ، وَهُوَ كُفْؤ كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: ادْعِيهِ لِي، فَجاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَزَوَّجَها إِيّاهُ، فَجاءَها أَخُوها عبد بن زَمْعَةَ مِنْ الْحَجِّ، فَجَعَلَ يَحثِي في رَأْسِهِ التُّرابَ، فَقالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي في رَأْسِي التُّرابَ؛ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَوْدةَ بنتَ زَمْعَةَ (¬1). ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 6/ 210، 211، الطبري في "التاريخ" 3/ 162، ابن =

14 - وفي هذه السنه: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي الطائف يدعوهم إلي الإسلام، فأبوا، وآذوه، فرجع مهموما، فثبته الله بأمرين: أرسل إليه ملك الجبال، وأسلم على يديه مجموعه من الجن، ثم دخله مكه في جوار المطعم بن عدي

ولما أسنَّت السيدة سودة وهبت نوبتها للسيدة عائشة - رضي الله عنها -. عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُفَضِّلُ بَعْضَنا عَلى بَعْضٍ في الْقَسْمِ مِنْ مُكْثهِ عِنْدَنا، وَكانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنا جَمِيعًا، فَيَدنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلى الَّتِي هُوَ يَوْمُها فَيَبِيتَ عِنْدَها، وَلَقَد قالَتْ سَوْدةُ بنتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفارِقَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رَسُولَ الله يَوْمِي لِعائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم- مِنْها. قالَتْ نَقُولُ في ذَلِكَ أَنْزَلَ الله -عز وجلّ- وَفِي أَشْباهِها، أُراهُ قالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] (¬1). 14 - وفي هذه السنه: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي الطائف يدعوهم إلي الإسلام، فأبوا، وآذوه، فرجع مهمومًا، فثبته الله بأمرين: أرسل إليه ملك الجبال، وأسلم على يديه مجموعه من الجنِّ، ثم دخله مكه في جوار المطعم بن عدي. الشرح: لمّا مات أبو طالب وخديجة - رضي الله عنها -، واشتدَّ إيذاء قريش له - صلى الله عليه وسلم -؛ قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- الخروج إلى مكان آخر غير مكة يلقي فيه دعوته، لعلَّه يجد من ينصره ويؤويه حتى يبلِّغ كلمة التوحيد. ¬

_ = أبي عاصم في "الآحاد والمثانى" (3060، 3061)، والطبراني 23/ 57، البيهقي في "الدلائل" 2/ 411، 412 مرسلًا عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، ووصلة البيهقي 2/ 411 فرواه عن يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة، قال الذهبي في "السير" 1/ 182 إسناده حسن. (¬1) صحيح: البخاري (5212) كتاب: النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك، ومسلم (1463) كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها، مختصرًا، ورواه بتمامه أبو داود (2135) كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، وقال الألباني: حسن صحيح.

فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف يلتمس النُصرة من ثقيف، فلم يجد ما كان يتمنّاه، بل ناله منهم ما لم ينله من أحد قط. روى البخاريُّ بسنده عن عائشة - رضي الله عنه - أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت له: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ما لَقِيتُ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عبد يالِيلَ بن عبد كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى ما أَردتُ فانْطَلَقْتُ وَأَنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَم أَسْتَفِقْ إِلّا وَأَنا بِقَرنِ الثَّعالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذا أَنا بِسَحابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإذا فِيها جبريلُ فَنادانِي فَقالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَما رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَد بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبالِ لِتَأمُرَهُ بِما شِئْتَ فِيهِمْ فَنادانِي مَلَكُ الْجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ فَقالَ: ذَلِكَ فِيما شِئْت إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَينِ"، فَقالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أصلابِهِم مَنْ يَعبد الله وَحدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (¬1). ثم لمّا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في طريق الرجوع إلى مكة، ونزل بوادي نخلة القريب ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (3231) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، مسلم (1795) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين. فصلي الله عليك وسلم يا حبيبي يا رسول الله، فوالله الذي لا إله غيره لقد رُزقت رحمة لو وُزعت على أهل هذه البسيطة منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى قيام الساعة لوسعتهم، وأُعطيت رأفة لو قسِّمت على أهلها لقسمتهم، وكيف لا وقد قال الله تعالى فيك: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. فأين أعداء الله من مثل هذه الرحمة؟ وأين الحاقدون الزاعمون أنك جئت بالقتل وسفك الدماء؟ يفعلون الأفاعيل ثم يرموننا بها {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

15 - وفي السنه الحادية عشرة من البعثه: عرض نفسه الكريمه على القبائل في موسم الحج كعادته، فآمن به ستة من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى المدينه ففشا فيهم الإسلام

من مكة يصلي ويقرأ القرآن، نزل عليه مجموعة من الجن فلما سمعوه أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله- عزّ وجل-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} [الأحقاف: 29 - 32] (¬1). ورويَ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة- بعد رجوعه- في جوار المطعم بن عديّ (¬2). ولذلك قالَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أُسارَى بَدرٍ: "لَوْ كانَ الْمُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حَيا ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلاءِ النَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" (¬3). 15 - وفي السنه الحادية عشرة من البعثه: عرض نفسه الكريمه على القبائل في موسم الحج كعادته، فآمن به ستة من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى المدينه ففشا فيهم الإسلام. الشرح: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغل مواسم الحج وإقبال الناس وتوافدهم إلى بيت الله ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الحاكم 2/ 456، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وصححه الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (252). (¬2) أخرجه الطبري في "التاريخ" 1/ 555 بإسناد منقطع. (¬3) صحيح: أخرجه البخاريُّ (4024) كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا.

الحرام للدعوة إلى دينه ورسالته لعلَّ أحدًا أن يستجيب له فيؤويه وينصره بعد ما كذبه قومه. عَنْ جابِرٍ - رضي الله عنه - قالَ: مَكَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النّاسَ في مَنازِلِهِمْ بعُكاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَواسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: "مَنْ يُؤْوِيني؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ " حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ لا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجالِهِمْ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصابعِ، حَتَّى بَعَثَنا الله إِلَيهِ مِنْ يَثْرِبَ فآوَيْناهُ وَصَدَّقْناهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْاَنَ، فَيَنْقَلِبُ إلى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصارِ إِلّا وَفِيها رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلامَ (¬1). وعنه أيضًا قالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النّاسِ بالْمَوْقِفِ فيقول: "هل من رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلى قَومه، فَإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِي" (¬2). وعن أبي الزِّنادِ قالَ: أَخْبَرَنِي رَجُل يُقالُ لَهُ رَبِيعَةُ بن عَبّادٍ مِنْ بني الدِّئلِ، وَكانَ جاهِلِيًّا فأسلم، قالَ: رَأَيْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الْجاهِلِيَّةِ في سُوقِ ذِي الْمَجازِ، وَهُوَ يَقُولُ: "يا أَيُّها النّاسُ، قُولُوا لا إِلَهَ إِلّا الله تُفْلِحُوا" والنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيهِ، وَوَراءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أَحوَلُ، ذُو غَدِيرَتَينِ (¬3) يَقُولُ: إِنَّهُ صابِئٌ كاذِبٌ، يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذهبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَذَكَرُوا لِي نَسَبَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 3/ 322، قال ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 222: إسناده حسن. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3734)، كتاب: السنة، باب: في القرآن، الترمذي (2934) كتاب: فضائل القرآن، باب: رقم (24)، ابن ماجه (201) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، أحمد 3/ 390، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي". (¬3) غديرتان: تثنية غديرة، أي ذؤابة، وهي الشعر المضفور الذي أُدخل بعضه في بعض.

وَقالوا: هَذا عَمُّهُ أبو لَهَبٍ (¬1). وكان من القبائل التي عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه عليها؛ قبيلة كنْده، وبطن من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله، وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرَّة، وسُليم، وعبس، وبنو نضر، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. وتصدى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسويد بن الصامت الذي كان يسميه قومه (الكامل) لجلده، وشرفه، ونسبه، فدعاه إلى الإِسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؛ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اعرضها عليّ"، فعرضها عليه؛ فقال له: "إنَّ هذا لكلام حسن؛ والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ هو هدى ونور" فتلا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن ودعاه إلى الإِسلام، فلم يبْعُد منه، وقال: إنَّ هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة علي قومه، فلم يلبث أنْ قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث (¬2). وعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه على بني عبد الأشهل حيث قدموا يلتمسون الحلف من قريش علي قومهم من الخزرج، فعرض عليهم الإِسلام، وقال لهم: "هل لكم في خير مما جئتم له؟ " فقالوا له: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب" قال: ثم ذكر لهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: فقال إياس بن معاذ وكان ¬

_ (¬1) حسن بمجموع الطرق: أخرجه أحمد 4/ 341، وله شواهد أخرجها ابن هشام في "السيرة" 2/ 18 الطبراني في "الكبير" (4587)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثانى" (962)، البيهقي في "السنن" 9/ 7، و"الدلائل" 2/ 185. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 21.

غلامًا حدثًا: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا (¬1). فلما أراد الله -عزّ وجلّ- إظهار دينه، وإعزاز نبيه - صلى الله عليه وسلم-؛ خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على القبائل كعادته فالتقي برهط من الخزرج أراد الله بهم خيرًا. فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج، قال: "أمن موالي يهود؟ " قالوا: نعم، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟ " قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله -عز وجلّ-، وعرض عليهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإِسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عزُّوهم (¬2) ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتَّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسئ أن يجمعهم الله تعالى بك، فسنقدم عليهم، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 21. (¬2) عزوهم: غلبوهم وقهروهم.

فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدَّقوا، وهم ستة نفر جميعهم من الخزرج: 1 - أسعد بن زرارة بن عُدَي، أبو أُمامة. 2 - عوف بن الحارث بن رفاعه، وهو ابن عفراء. 3 - رافع بن مالك بن العجلان. 4 - قطبة بن عامر بن حَديدة. 5 - عقبة بن عامر بن نابي. 6 - جابر بن عبد الله بن رئاب (¬1). تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: كان يَوْمُ بُعاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ الله لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَواتُهُمْ وَجُرِّحُوا فَقَدَّمَهُ الله لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - في دُخُولِهِمْ في الْإِسْلاَم (¬2). قال ابن حجر: (كانَ يَوْم بُعاث) بِهِ وَقْعَة بَيْن الْأَوْس والْخَزْرَج، فَقُتِلَ فِيها كَثِير مِنْهُمْ. وَكانَ رَئِيس الْأَوْس فِيهِ حُضَيْر والِد أُسَيْدِ بن حُضيْر وَكانَ يُقال لَهُ حُضَيْر الْكَتائِب وَبِهِ قُتِلَ، وَكانَ رَئِيس الْخَزْرَج يَوْمَئِذٍ عَمْرو بن النُّعْمان الْبَياضِيّ فَقُتِلَ فِيها أَيْضًا، وَكانَ النَّضر فِيها أَوَّلًا لِلْخَزْرَجِ ثُمَّ ثَبَّتَهُمْ حُضَيْر فَرَجَعُوا وانْتَصَرَتْ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 21، 23 مختصرًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاريُّ (3777)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب الأنصار. سرواتهم: أشرافهم.

16 - وفي السنه الثانيه عشرة من البعثه: أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم -من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، ثم عرج به إلي سدرة المنتهى ففرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس

الْأَوْس وَجُرِحَ حُضَيْر يَوْمئِذٍ فَماتَ فِيها، وَذَلِكَ قَبْل الْهِجْرَة بِخَمْسِ سِنِينَ وَقِيلَ: بِأَرْبَعٍ وَقِيلَ: بِأَكْثَر والْأَوَّل أَصَحّ، وَذَكَرَ- أبو الْفَرَج الْأَصبَهانِي أَنَّ سَبَب ذَلِكَ أَنَّهُ كانَ مِنْ قاعِدَتهمْ أَنَّ الْأَصِيل لا يُقْتَل بِالْحَلِيفِ، فَقَتَلَ رَجُل مِنْ الْأَوْس حَلِيفًا لِلْخَزْرَجِ، فَأَرادُوا أَنْ يُقِيدُوهُ فامْتَنَعُوا، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ الْحَرْب لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَقُتِلَ فِيها مِنْ أَكابِرهمْ مَنْ كانَ لا يُؤْمِن، أَيْ يَتَكَبَّر وَيَأْنَف أَنْ يَدْخُل في الْإِسْلام حَتَّى لا يَكُون تَحت حُكْم غَيْره، وَقَدْ كانَ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ هَذا النّحو عبد الله بن أبي بن سَلُول وَقِصَّته في ذَلِكَ مَشْهُورَة مَذْكُورَة في هَنا الْكِتاب وَغَيْره (¬1). اهـ. 16 - وفي السنه الثانيه عشرة من البعثه: أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم -من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، ثم عرج به إلي سدرة المنتهى ففرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس. الشرح: ثم كافأ الله -عز وجل- رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسرّى عنه برحلة الإسراء والمعراج؛ فأراه من آياته الكبرى ما جعل قلبه - صلى الله عليه وسلم - يطيب ويطمئن ويثبت، وينكشف عنه ما ألمَّ به من همّ وحزن وأسى بعد وفاة عمه وزوجته - رضي الله عنها -، وما لاقاه من إعراض قومه عن دعوته - صلى الله عليه وسلم -. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحزنه الإيذاء الشخصي له - صلى الله عليه وسلم - إنما الذي كان يحزنه - صلى الله عليه وسلم - ويكاد يقتله؛ هو إعراضهم عن الدعوة ورفضهم لها؛ رحمة منه - صلى الله عليه وسلم - وشفقة عليهم، ولذلك يقول الله -عز وجل- له - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3] ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 7/ 138، 139.

وحادثة الإسراء والمعراج صحيحة ثابتة بالقرآن والسنة: أما ثبوتها بالقرآن ففي قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]، وقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم:1 - 18]. وقد فصل النبي -صلى الله عليه وسلم- أحداث هذه الرحلة المباركة تفصيلًا دقيقًا، بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث صحيحة. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَما أَنا عِنْدَ الْبَيْتِ (¬1) في الحجر مضطجعًا (¬2) بَيْنَ النّائِمِ والْيَقْظانِ (¬3) إذا أتاني آتٍ فشق (¬4) من النحر إلى مراقّ البطن (¬5) فاستُخْرِجَ قَلْبِي (¬6) ثم غسله بِماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاء بطست من ذهب ممتلئ حِكْمَةً وَإِيمانًا ¬

_ (¬1) البخاري (3207). (¬2) البخاري (3887). (¬3) البخاري (3207). (¬4) البخاري (3887). (¬5) البخاري (3207). أي إلي ما رقّ من الجلد وهو ما يكون أسفل البطن. (¬6) مسلم (164).

فأَفْرَغَهُ في صَدرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ (¬1) ثُمَّ أُتِيتُ بِدابَّةٍ أَبْيَضَ يُقالُ لَهُ: الْبُراقُ فَوْقَ الْحِمارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَي طَرْفِهِ (¬2) فاسْتَصعَبَ عَلَيهِ، فَقالَ لَهُ جبريلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذا؟ فَما رَكِبَكَ أحدٌ أكرَمُ عَلَى الله مِنْهُ قالَ فارْفَضَّ عَرَقًا (¬3) حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَزبِطُ بِهِ الْأَنْبِياءُ، قالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ (¬4) فَصَلَّيْتُ بالنبيين والمرسلين إمامًا (¬5) ثُمَّ خَرَجْتُ فَجاءَنِي جِبْرِيلُ -عليه السلام- بِإناءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِناءٍ مِنْ لَبَنٍ فاخْترتُ اللَّبَنَ، فَقالَ جِبْرِيلُ-عليه السلام-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ (¬6) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَلَمّا جِئْتُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، قالَ جِبْرِيلُ لِخازِنِ السَّماءِ: افْتَح، قالَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبرِيلُ، قالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نعَمْ، فَلَمّا فَتَحَ علَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا فَإِذا رَجُلٌ قاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَي يَسارِهِ أَسْودِةٌ، إِذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذا نَظَرَ قِبَلَ يَسارِهِ بَكَى، فَقالَ: مَرحَبًا بِالنَّبِي الصّالِحِ، والابْنِ الصّالِحِ، قُلْتُ لِجِبرِيلَ: مَنْ هَذا؟ قال: هذا آدم وَهَذهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينهِ وَشِمالِهِ نَسَمُ بنيهِ فأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، والْأَسْوِدةُ الَّتِي عَنْ شِمالِهِ أَهْلُ النّارِ فَإذا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذا نَظَرَ قِبَلَ شِمالِهِ بَكَي (¬7) ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الثّانِيَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ ¬

_ (¬1) البخاري (349). (¬2) مسلم (164). (¬3) أحمد 3/ 164، الترمذي (3131)، وقال: حسن غريب، وصحح إسناده الألباني في "صحيح الترمذي". (¬4) مسلم (162). (¬5) انظر: "الإسراء والمعراج" للألباني (14). (¬6) مسلم (162). (¬7) البخاري (349).

مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصتُ إِذا يَحيىَ وَعِيسَى وَهُما ابْنا الْخالَةِ قالَ: هَذا يَحيىَ وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِما فَسَلَّمْتُ فَردا ثُمَّ قالا مرحبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ فاستَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَفُتِحَ فَلَمّا خَلَصتُ إِذا يُوسُفُ قالَ: هَذا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الرّابِعَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَم، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَفُتِحَ فَلَمّا خَلَصتُ إِلي إِدرِيسَ قالَ: هَذا إدرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الْخامِسَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ ففتح فَلَمّا خَلَصتُ فإذا هارُونُ قالَ: هَذا هارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ السّادِسَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعم، قالَ: مَرحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَلَمّا خَلَصتُ فَإذا مُوسَى قالَ: هَذا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِيِ الصّالِحِ فَلَمّا تَجاوَزْتُ بَكَي قِيلَ لَهُ: ما يبْكِيكَ؟ قالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي، يدخلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أكثَرُ مِمَّنْ يَدخُلُها مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ السّابِعَةِ فاسْتَفْتَحَ جِبرِيلُ قِيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ فَلَمّا خَلَصتُ فَإذا إِبْراهِيمُ قالَ: هَذا أَبُوكَ فَسَلِّم عَلَيْهِ قالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ

السَّلامَ قالَ: مَرحَبًا بِالِابْنِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَ سِدرَةُ الْمُنْتَهَى فَإذا نَبْقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ وَإِذا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الْفِيَلَةِ قالَ: هَذهِ سِدرَةُ الْمُنْتَهَى وإِذا أَرْبَعَةُ أَنْهارٍ نَهْرانِ باطِنانِ وَنَهْرانِ ظاهِرانِ فَقُلْتُ: ما هَذانِ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: أَمّا الْباطِنانِ فَنَهْرانِ في الْجَنة، وَأَمّا الظّاهِرانِ فالنِّيلُ والْفُراتُ ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثمَّ أُتِيتُ بِإناءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِناءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِناءٍ مِنْ عَسَلٍ، فأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْها وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَواتُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقالَ: بِما أُمِرْتَ؟ قالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُل يَوْمٍ، قالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي واللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النّاسَ قَبْلَكَ وَعالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ الْمُعالَجَةِ، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فأُمِرتُ بِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقالَ: مِثْلَه فَرَجَعْتُ فأُمِرتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: بِمَ أُمرْتَ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ قالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النّاسَ قَبْلَكَ وَعالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ الْمُعالَجَةِ فارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْألْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قالَ سأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ قالَ فَلَمّا جاوَزْتُ نادَى مُنادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبادِي" (¬1). فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَصبَحت بِمَكَّةَ، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "فَظِعْتُ بِأَمْرِي (¬2) وَعَرَفْتُ أَنَّ النّاسَ مكَذِّبِيّ"، فَقَعَدَ- بأبي هو وأمي ونفسي - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3887)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: المعراج. (¬2) أي اشتد عليَّ وهبْتُه. (نهاية).

عَدُوُّ الله أبو جَهْلٍ، فَجاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقالَ لَهُ كالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كانَ مِنْ شَيءٍ؟! فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعَمْ"، قالَ: ما هُوَ؟ قالَ: "إِنهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ"، قالَ: إلى أَيْنَ؟ قالَ: "إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قالَ: ثُمَّ أَصبَحتَ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا؟! قالَ: "نَعَمْ". قالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذا دَعا قَوْمَهُ إِلَيْه، قالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُم ما حَدَّثْتَنِي؟! فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَم". فَقالَ: هَيّا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بن لُؤَيٍّ! حتى قالَ: فانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجالِسُ، وَجاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِما. قالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِما حَدَّثْتَنِي. فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي أُسْرِيَ بِي اللَّيلَةَ". قالُوا: إلى أَيْنَ؟ قال: "إِلَي بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قالُوا: ثُمَّ أَصبَحتَ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا؟ قالَ: "نَعَمْ". قالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ واضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ متَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ؛ زَعَمَ! قالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سافَرَ إلى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ. فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَذَهبتُ أَنْعَتُ، فَما زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنا أَنْظُرُ؛ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دارِ عِقالٍ - أَوْ عُقَيْلٍ- فَنَعَتُّهُ وَأَنا أَنْظُرُ إِلَيهِ". قالَ: "وَكانَ مَعَ هَذا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْه".

قالَ: فَقالَ الْقَوْمُ: أَمّا النَّعْتُ؛ فَواللهِ لَقَد أَصابَ (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح الإسناد: أخرجه أحمد 1/ 309، الطبراني (12782)، وحسنه الحافظ في "الفتح" 7/ 199، وقال الألباني في "الإسراء والمعراج" (82): سنده صحيح. وقد اختلف علماء أهل السنة والجماعة في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه في هذه الليلة ليلة الإسراء والمعراج. فنسب بعض العلماء لابن عباس أنه يقول بالرؤية وتبعوه في ذلك. يقول ابن عباس: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (577)، النسائي في "الكبرى" (11539)، والحاكم 1/ 15 بسند صحيح. وقال أيضًا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13، 14]. قال: رأى ربه فتدلي فكان قاب قوسين أو أدنى. حسن صحيح: أخرجه الترمذي (3280)، وقال: حديث حسن، وابن حبّان (57)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (933)، وقال الألباني في "صحيح الترمذي": حسن صحيح. وقالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - ومن تبعها: لم يره. عَنْ مَسْرُوقٍ قالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عائِشَةَ فَقالَتْ: يا أَبا عائِشَةَ: ثَلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِواحِدَةٍ مِنْهنَّ فَقَد أَعْظَمَ عَلَى الله الفِريَة، قُلْتُ: ما هُنَّ؟ قالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ فَقَد أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِريَة، قالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِيني وَلا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلْ الله -عز وجل-: ف {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}، فَقالَتْ أَنا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: "إنَّما هُوَ جِبرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيها غَيْرَ هاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السماءِ سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بَينَ السماءِ إلى الْأَرْضِ" فَقالَتْ: أَوَ لَم تَسْمَعْ أَن الله يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} أَوَ لَم تَسْمَعْ أَنَّ الله يَقُولُ: {*وَمَا =

17 - وفي موسم الحج من هذه السنة: وافاه اثنا عشر رجلا من الأنصار بعضهم ممن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموسم السابق، فبايعوه عند العقبة فسميت ببيعة العقبة الأولى وأرسل معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن فأسلم على يديه كثير من أهل المدينة

17 - وفي موسم الحج من هذه السنة: وافاه اثنا عشر رجلاً من الأنصار بعضهم ممن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموسم السابق، فبايعوه عند العقبة فسميت ببيعة العقبة الأولى وأرسل معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن فأسلم على يديه كثير من أهل المدينة. الشرح: فلما كان موسم الحج من العام الثاني عشر من البعثة -أي بعد عام فقط من التقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنصاريين الستة أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفد من الأنصار ¬

_ = كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} صحيح: أخرجه مسلم (177)، كتاب: الإيمان. وفي لفظ لمسلم أيضًا: أن مسروقًا سأل عائشة - رضي الله عنه - هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري لمّا قلت. والذي عليه الجمهور أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه بعينيه قط إنما رآه بفؤاده، وأنه لا تعارض بين ما ذهب إليه ابن عباس وما ذهبت إليه عائشة - رضي الله عنه -، وذلك أنه ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: رآه بقلبه. مسلم (176). وفي لفظ أنه قال في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال: رآه بفؤاده مرتين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها ... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحمل نفيها علي رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره الرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة خلقها في العين. اهـ.

قوامه اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج وهم: 1 - أسعد بن زرارة. 2 - عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عفراء. 3 - رافع بن مالك بن العجلان. 4 - قُطْبة بن عامر بن حديدة. 5 - عقبة بن عامر بن نابي. 6 - معاذ بن الحارث بن عفراء. 7 - ذكوان بن عبد قيس. 8 - عبادة بن الصامت. 9 - يزيد بن ثعلبة. 10 - العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان. واثنان من الأوس وهم: 11 - أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك (¬1). 12 - عُويم بن ساعدة (¬2). ¬

_ (¬1) التيهان: يخفف ويثقل، كقوله ميّت وميْت. "سيرة ابن هشام" 2/ 24. (¬2) ذكر ابن إسحاق أسماء أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية "سيرة ابن هشام" 2/ 22، 24 قال: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن أشياخ من قومه. قلت: وعاصم تابعي، قال ابن حجر: ثقة، عالم بالمغازي. (تقريب). وقال الذهبي: صدوق علامة بالمغازي. (كاشف).

أول سفير في الإسلام

لم يتخلف من الستة الأُول إلا جابر بن عبد الله بن رئاب فقط. فبايع هذا الوفد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الثانية. يقول عُبادَةَ بن الصّامِتِ - رضي الله عنه - وكان ممن شهد البيعة: إِنِّي لَمِنْ النُّقَباءِ الَّذِينَ بايَعُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقالَ: بايَعْناهُ عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيئًا، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلّا بِالْحَقِّ، وَلا نَنْتَهِبَ، وَلا نَعْصِيَ، فالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، كانَ قَضاءُ ذَلِكَ إلى الله (¬1). وفي رواية قال عُبادَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "تَعالَوْا بايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأتُوا بِبُهْتانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فأَجْرُهُ عَلَى الله وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَعوقِبَ بِهِ في الدُّنْيا فَهُوَ لَهُ كَفّارَةٌ، وَمَنْ أَصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَسَتَرَهُ الله فأَمْرُهُ إِلَى الله إِنْ شاءَ عاقَبَه، وَإِنْ شاءَ عَفا عَنْهُ"، قالَ: فَبايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ (¬2). أول سفير في الإسلام: فانطلق القوم- بعد ذلك- عائدين إلى المدينة المنورة، فأرسل معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإِسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى في المدينة بالمقرئ. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3893)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3892)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها.

وكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (¬1). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 24 بتصرف. قال بعض أهل السير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مع مصعب ابن عمير ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وممن قال بذلك العلامة ابن سيّد الناس رحمه الله حيث قال في "عيون الأثر" 1/ 265: فلما انصرفوا -أي: أصحاب البيعة- بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن. اهـ. قلت: الصواب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرسل إلا مصعب بن عمير فقط كما نص على ذلك أكثر أهل السير. وأظن أن الوهم دخل على من قال بذلك مما رواه البخاري في "صحيحه" (3924، 3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرئون الناس ... الحديث. قلت: الصحيح أن هذا الحديث إنما يتحدث فيه البراء - رضي الله عنه - عن الهجرة لا عن البيعة ولا عن من أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحاب البيعة. ومما يدلّ على ذلك: 1 - أنه لم يرد في الحديث قط ذكر البيعة، إنما ورد ذكر الهجرة صريحًا في إحدى روايات الحديث كما ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري" 7/ 306 حيث قال: في رواية عن شعبة عند الحاكم في "الإكليل" عن عبد الله بن رجاء في روايته (من المهاجرين). اهـ. 2 - ما ذُكر في الرواية نفسها حيث قال البراء - رضي الله عنه - ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال وسعد، ثم قدم عمر بن الخطّاب في عشرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث. فهذا يوضح أنه يتكلم في شأن الهجرة. وقد فهم ذلك الإمام البخاري - رضي الله عنه - فبوب على الحديث باب: مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة. فيُعلم مما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل مصعب وحده. ثم إن مصعب رجع إلى مكة قبل =

أول جمعة بالمدينة المنورة وإمامها

أول جمعة بالمدينة المنورة وإمامها: قام سفير الإسلام مصعب بن عمير بمهمته على أكمل وجه؛ فدعا إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأقرأ الناس وعلمهم وفقههم في الدين، وانتشر الإسلام بالمدينة، فأقيمت أول جمعة في الإسلام بالمدينة المنورة، وأمَّ المسلمين فيها أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - (¬1). عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بن كَعْبِ بن مَالِكٍ -وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ- عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بن زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بنا في هَزْمِ النَّبِيتِ (¬2) مِنْ حَرَّةِ بني بَيَاضَةَ (¬3) في نَقِيعٍ (¬4) يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ (¬5) قُلْتُ كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ (¬6). ¬

_ = البيعة الثانية - كما ذكر ذلك أهل السير- ثم هاجر إلى المدينة مرة أخرى لما أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة وكان أول المهاجرين إلى المدينة -كما دل عليه حديث البراء - رضي الله عنه - السابق - ثم استأنف مصعب نشاطه السابق في إقراء الناس وتعليمهم، وتبعه ابن أم مكتوم وكان يساعده في مهمته. والله أعلم. (¬1) رُوي أن الذي أم المسلمين في هذه الجمعة مصعب بن عمير وهو ضعيف. قال ابن كثير - رحمه الله -: وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة. والله أعلم. "البداية والنهاية" 3/ 163. (¬2) الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت: موضع. (¬3) حرة: بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء هي الأرض ذات الحجارة السود. (¬4) هو المنخفض من الأرض يستنقع فيه الماء. (¬5) نقيع الخَضَمات: موضع بنواحي المدينة. (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، وابن ماجه =

18 - وفي السنه الثالثه عشرة من البعثة في موسم الحج: وافاه سبعون رجلا منه الأنصار فبايعوه عند العقبة أيضا على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبنائهم, فأخرجوا له اثني عشر نقيبا، فقال - صلى الله عليه وسلم - للنقباء: "أنتم على قومكم كفلاء" فسميت ببيعه العقبه الثانية

18 - وفي السنه الثالثه عشرة من البعثة في موسم الحج: وافاه سبعون رجلاً منه الأنصار فبايعوه عند العقبة أيضًا على أن يمنعوه إن هاجر إليهم مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبنائهم, فأخرجوا له اثني عشر نقيبًا، فقال - صلى الله عليه وسلم - للنقباء: "أنتم على قومكم كفلاء" فسميت ببيعه العقبه الثانية. الشرح: ثم كانت بيعة العقبة الثانية في الموسم التالي مباشرة. يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وكان ممن شهد هذه البيعة: مَكَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ في مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ، وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابعِ، حَتَّى بَعَثَنَا الله إِلَيهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إلى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتًّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطْرَدُ في جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ ¬

_ = (1082)، كتاب: الصلاة, باب: فرض الجمعة. والمعنى أنه جمّع في قرية يقال لها هزم النبيت، هي كانت في حرّة بني بياضة في المكان الذي يجتمع فيه الماء، واسم ذلك المكان نقيع الخضمات، وتلك القرية هي على ميل من المدينة. "عون المعبود" 2/ 425.

رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله: علام نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي الله لَا تَخَافُونَ فِي الله لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِما قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمْ الْجَنَّةُ" فَقُمْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بن زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ -وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا- فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ الله، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى الله، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ الله، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ (¬1). وعن كَعْبِ بن مَالِكِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة مع مشركي قوْمنا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ تعلموا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟! فقُلْنَا: وَمَا هو يا أبا بشر؟ قَالَ: إني قَدْ أردت أَنْ أصلي إلى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ ولا أجعلها مِنِّي بِظهْرٍ، فَقُلْنَا: لا وَاللهِ لا تفعل، والله مَا بَلَغَنَا أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إِلَّا إلى الشَّامِ، قَالَ: فإِنِّي والله لمصل إِلَيْهَا، فكان إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ توجه إلى الْكَعْبَةِ وتوجهنا إلى الشام، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فقَالَ لي البراء: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ، فلقد وجدت فِي ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 32، 339 - 340، الحاكم 2/ 624، 625، وصححه وأقره الذهبي.

نَفْسِي بخِلَافِكُمْ إِيَّايَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمَّد؟ قَالَ: وهَلْ تَعْرِفَانِهِ إن رأيتماه؟ قُلْنَا: لَا والله، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ؟ فقُلْنَا: نَعَمْ، وقد كُنَّا نَعْرِفُه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فانظروا الْعَبَّاسِ، قَالَ: فهو الرجل الذي معه، قال: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والْعَبَّاسُ ناحية المسجد جالسين، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَينِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بن مَالِكٍ، فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّاعِرُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ له الْبَرَاءُ: يَا رسول الله إِنِّي قد رأيت في سَفَرِي هَذَا رأيًا، وقد أحببت أن أسألك عنه قال: "وما ذاك؟ " قال: رَأَيْتُ أَلَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيتُ إِلَيْهَا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا"، فَرَجَعَ إلى قِبْلَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصَلَّى مَعَنَا إلى الشَّامِ. ثم وَاعَدْنَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ، أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ونحن سبعون رجلاً للبيعة، وَمَعَنَا عبد الله بن عَمْرِو بن حَرَامٍ والد جَابِرٍ، وإنه لعلى شركه، فأخذنِاه وَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتَكُونَ لهذه النَّارِ غَدًا حطبًا، وإن الله قد بعث رَسُولًا يأمر بتوحيده وعبادته وقد أَسْلَمَ رجلاً من قومك، وقد واعدنا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة فأسم وطهر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبًا، فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا، حتى اجْتَمَعْنَا بالعقبة، فأتى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، ليس معه غيره، أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فكان أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ في مَنَعَةٍ من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من

أنفسكم خُذلانًا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه، فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ الله، فَتَكَلَّمَ وَدَعَا إلى الله، وتلا القرآن وَرَغَّبَ في الْإِسْلَامِ، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك فقَالَ: "إني أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَكُمْ" فأجابه الْبَرَاءُ بن مَعْرُورٍ فقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ الله فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فعرض في الحديث أبو الْهَيْثَمِ بن التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا لقَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ الله أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فقَالَ: "بَلْ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ" فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك. فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا" فَأَخْرَجُوهم له، فكان نقيب بني النجار؛ أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة، البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة، سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ونقيب بني زريق، رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج، عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج، عبادة بن الصامت -وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف، سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ الْبَرَاءُ بيد رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمعته قط، فقال: يا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ (¬1) هَلْ لَكُمْ في مُذَمَّمٍ ¬

_ (¬1) الجُباجب: جمع جُبجب -بالضم- وهو المستوي من الأرض، وهي ههنا أسماء منازل بمنيً (نهاية).

19 - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ أصحابه بالهجرة إلى المدينه، وأقام - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الإذن بالهجرة وحبس معه أبا بكر وعليا - رضي الله عنهما -

وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدْ أَجْتمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ, هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، أَمَا وَاللهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ". فَقَالَ الْعَبَّاسُ بن عُبَادَةَ أخو بني سالم: يا رسول الله وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "إنا لَمْ نؤمَرْ بِذَلِكَ"، فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أَصْبَحْنَا، أقبلت جُلَّةُ من قُرَيْشٍ فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلى صَاحِبِنَا لتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وإنه وَاللهِ مَا مِنْ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قومنا من المشركين يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا فعلناه، فلما تثور القوم لينطلقوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكَهم في الكلام: يَا أَبَا جَابِرٍ -يريد عبد الله بن عمرو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وكهل من كهولنا, لا تستطيع أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَي هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، وقَالَ: وَاللهِ لتلبسنهما، فقَالَ أبو جَابِرٍ: مهلًا أَحْفَظْتَ لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- أردُدْ عليه نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لَا أَرُدَّهُمَا، فقَالَ: صُلْحٌ إني لأرجو أن أسلبه (¬1). 19 - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ أصحابه بالهجرة إلى المدينه، وأقام - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الإذن بالهجرة وحبس معه أبا بكر وعليًا - رضي الله عنهما -. الشرح: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة في رؤية منامية أراها الله إياه؛ فكان ذلك وحيًا من الله وإيذانًا له - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر أصحابه بالهجرة لبدء مرحلة جديدة من الجهاد ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن إسحاق، في "السيرة" 2/ 27، 33، أحمد 3/ 46، 462، ابن جرير الطبري في "تاريخه" 2/ 90، 93، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (177): هذا سند صحيح.

بداية الرحلة إلى المدينة

والدعوة في سبيل الله، عسى أن تكون أفضل من سابقتها. عن عائشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" -وَهُمَا الْحَرَّتَانِ- فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عامة مَنْ كَانَ هَاجَرَ بأَرْضِ الْحَبَشَةِ إلى المدينة وَتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَل المدينة فَقَالَ لَهُ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكَ فَإنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فقَالَ أبو بَكْرٍ: وهَلْ تَرْجُوا ذَلِكَ بِأبي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وهو الخبط أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (¬1). وعَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ رَأَيْتُ في الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" (¬2). بداية الرحلة إلى المدينة: بدأ الصحابة رضوان الله عليهم في الاستعداد والخروج إلى المدينة المنورة، حيث علموا أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا لهم، إذن منه - صلى الله عليه وسلم - بالخروج (¬3) فخرجوا. فكان أَوَّلُ مَنْ خرج مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٌ، وسعد، وعَمَّارُ بن يَاسِرٍ ثم خرج عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3905) كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) ولذلك تقول السيدة عائشة - رضي الله عنه - في الحديث لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ... " تقول: فهاجر من هاجر قبل المدينة. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3924، 3925)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.

وكان من أوائل المهاجرين أيضًا أبو سلمة - رضي الله عنه - وكان لخروجه قصة عجيبة تحكيها السيدة أم سلمة - رضي الله عنه - حيث تقول: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقودُ بي بعيرَه، فلما رأته رجالُ بني الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهْط أبي سَلمَة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بنيّ سَلمَة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو الْمُغيرَة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غَدَاة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أُمْسِي، سنةً أو قريبًا منها، حتى مرّ بي رجلٌ من بني عمّي، أحدُ بني الْمُغيرَة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني الْمُغِيرَة: ألا تُخْرجون هذه المسكينة! فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين وَلدها! قالت: فقالوا لي: الحَقي بزوجك إن شئتِ. قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بَعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خَلْقِ الله قالت: فقلت: أَتبلَّغ بمن لقيت حتى أقْدَم علي زوجي؛ حتى إذا كنت بالتّنْعيم لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار؛ فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبُنَيّ هذا. قال: والله مالك من مَتْرك، فأخذ بخطام البعير، وانطلق معي يَهْوِى بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط، أرى أنه كان أكْرَمَ منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عَنِّي، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثم

30 - واجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل - عليه السلام - بالوحي من عند الله فأخبره بذلك وأذن الله له بالهجرة فهاجر

قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواح قام إلى بعيري فقّدمه فَرَحَلَه، ثم استأخر عَنِّي، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أَقْدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بُقباء، قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة نازلاً بها- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعًا إلى مكة، قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمَة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة (¬1). وتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبس معه أبا بكر -كما تقدم- وعليًا أيضًا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليس بمكة أحد عنده شيء يُخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 30 - واجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل - عليه السلام - بالوحي من عند الله فأخبره بذلك وأذن الله له بالهجرة فهاجر. الشرح: يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" 2/ 44، بسند متصل صرح فيه بالتحديث، قال: حدثني أبي إسحاق ابن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة به، وسلمة بن عبد الله قال عنه ابن حجر في "التقريب": مقبول، ووثقه ابن حبان. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 55.

السنة الأولى من الهجرة

السنة الأولى من الهجرة

السنة الأولى من الهجرة وفيها تسعة عشر حدثًا: 1 - في ربيع الأول من هذه السنة: هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. الشرح: ثم رد الله تعالى كيد المشركين واستطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج ومعه أبو بكر من مكة متوجهين إلى المدينة لم يرهما أحد. وتعود بداية هذه الرحلة المباركة عندما كان أبو بكر جالسا في بيته وقت الظَّهِيرَةِ قَالَ له قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا في سَاعَةٍ لَم يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أبي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ عائشة: فَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَ، فأذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأبي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِالثَّمَنِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً في جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بنتُ أبي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ بِغَارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عبد الله بن أبي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ في رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ

بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ (¬1). وفي تلك الأثناء تفطَّن المشركون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد خرجا فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتى وصلوا إلى الْغَارِ وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة، حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمع صرير أقدامهم حول الغار فرفع رأسه فَإِذَا هو بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فقال: يَا رسول الله لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ الله ثَالِثُهُمَا" (¬2). ثم اسْتَأْجَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بني الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بني عبد بن عَدِيٍّ (¬3) هَادِيَا خِرِّيتًا -وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ (¬4). ثم انتظروا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وأحمد 6/ 198. لقنٌ ثقِف: أي حسن الاستماع لما يقال، الدلجة: السير أول الليل، المنيحة: الناقة، رشل: لبن، خريتًا: دليلاً. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3922)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, مسلم (2381)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي بكر. (¬3) هو عبد الله بن أريقط. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، أحمد 6/ 198. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.

فانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ (¬1). يقول أبو بكر - رضي الله عنه -: فأَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ظِلِّهَا ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إلى الصخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى فَحَلَبَ لِي في قَعْبٍ مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ "، قُلْتُ: بَلَي، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بن مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ في جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ (¬2)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُتِينَا فَقَالَ: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا"، فَدَعَا عَلَيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَطَمَتْ -ساخت- فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ، أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا الله فَنَجَا (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, أحمد 6/ 198. (¬2) أرض جلْدة: أي أرض صُلبة. (النهاية). (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.

فلما نجا سراقة قصَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار قريش وأنهم جعلوا فيه الدِّيَةَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ منهِمْ ثم عَرَضْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - الزَّادَ وَالْمَتَاعَ يقول سراقة: فَلَمْ يَرْزَآنِي، وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَل سراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بن فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ (¬1). ثم وفى سراقة بما وعد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حيث وعده أن يرد عنهما الطلب- فكان لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا ههُنَا فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ (¬2). وكان من شأن سراقة - رضي الله عنه - أنه كان جالسا في مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمه بني مُدْلِجٍ يقول سراقة: فأَقْبَلَ رَجُل مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ في الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إلى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأبو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي في الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. (¬2) متفق عليه: انظر: التخريج قبل السابق.

تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ (¬1) سَاطِعٌ في السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ في نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ثم ذكر سراقة - رضي الله عنه - الحوار الذي دار بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي في الطريق الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام فكسا الزبيرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياب بياض. ومرَّ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد" قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم قال: "هل بها من لبن" قالت: هي أجهد من ذلك، قال: "أتأذنين لي أن أحلبها" قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فدعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت فاجترت فدعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجًا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم حتى أراضوا ثم حلب فيه الثانية على هدة حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا ¬

_ (¬1) دخان. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.

يتساوكن هزالاً منهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حائل ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزريه صعلة وسيم قسيم، في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صهل وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأباه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق فصلاً لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنأه من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود لا عابس ولا مفند، قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، وأصبحا صوت بمكة عاليًا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجازى وسؤدد ليهن أبا بكرسعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد ودعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريًا ضرة الشاة مزبد فغادره رهنًا لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد (¬1) ثم مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر - رضي الله عنه - فَالْتَفَتَ أبو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بنا فَالْتَفَتَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ" فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ (¬2)، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله مُرْنِي بِمَا شِئْتَ قَالَ: "فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بنا" قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشرف على الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأبو بَكْرٍ شَيخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - شَابٌّ لَا يُعْرَفُ (¬4) قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ، فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ (¬5). وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ ¬

_ (¬1) حسن: الحاكم 3/ 9، 10، وحسنه الألباني، تخريج "فقه السيرة" (179). (¬2) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل (نهاية). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3911)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وقيل: هذا الفارس هو سراقة بن مالك فالقصة واحدة. والله أعلم. (¬4) أي من حيث الشيب، فالشيب كان قد دخل على أبي بكر - رضي الله عنه - دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو الأكبر سنًا- يظهر كأنه شاب. (¬5) الحديث السابق.

2 - وفي هذه السنة: نزل - صلى الله عليه وسلم - بقباء, وبنى مسجد قباء

غَدَاةٍ إلى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إلى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ (¬1) لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ (¬2) يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ (¬3) فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ (¬4) فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِ الْحَرَّةِ (¬5). 2 - وفي هذه السنة: نزل - صلى الله عليه وسلم - بقباء, وبنى مسجد قباء. الشرح: ثم عَدَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ في بني عَمْرِو بن عَوْفٍ (¬6) وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أبو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَم يَرَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ أبو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عَمْرِو بن عَوْفٍ أربع عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ اَلَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). ¬

_ (¬1) الأطم: الحصن. (¬2) أي عليهم الثياب البيض. (¬3) قيل معناه ظهرت حركتهم للعين "فتح الباري". (¬4) جدكم: بفتح الجيم أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه (فتح). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: فناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. (¬6) ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة. والفرسخ: يزيد على 5كم. (¬7) الحديث السابق.

3 - وفيها: صلى الجمعةحين ارتحل من قباء إلى المدينة، صلاها في طريقه ببني سالم, وهي أول جمعة صلاها وأول خطبه خطبها في الإسلام

3 - وفيها: صلى الجمعةحين ارتحل من قباء إلى المدينة، صلاها في طريقه ببني سالم, وهي أول جمعة صلاها وأول خطبه خطبها في الإسلام. الشرح: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- بقباء أربعة عشر يومًا بني خلالها مسجد قباء، ثم أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - دخول المدينة المنورة، فخرج من بين أظهرهم يوم الجمعة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة (¬1). 4 - وفيها: نزل - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب الأنصاري. الشرح: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل إلى بني النجار لما عقد العزم علنى التحرك من قباء إلى المدينة فجاءوه متقلدي سيوفهم، حرسًا له - صلى الله عليه وسلم -. فلما أشرف حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ليلاً استقبله أهلها استقبالاً حافلاً، وفرحوا بمقدمه عليهم ما لم يفرحوا بشيء مثله قط. يقول أنس بن مالك: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ لَعِبَتْ الْحَبَشَةُ لَقُدُومِهِ فَرَحًا بِذَلِكَ، لَعِبُوا بِحِرَابِهِمْ (¬2) ويقول أَنَسُ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه -: فأقام فيهم -أي: في بني عَمْرِو بن عَوْفٍ- أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إلى مَلَإِ بني النَّجَّارِ، قَالَ: فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ ¬

_ (¬1) انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 62. (¬2) صحيح الإسناد: أخرجه أبو داود (4923)، كتاب: الآداب، باب: في النهي عن الغناء، قال الألباني: صحيح الإسناد.

النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار أبو أيوب الأنصاري

وَأبو بَكْرٍ رِدْفَهُ وَمَلَأُ بني النَّجَّارِ حَوْلَهُ (¬1)، فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِي الله، جَاءَ نَبِيُّ الله (¬2). فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَنْزِلُ عَلَى بني النَّجَّارِ أَخْوَالِ عبد الْمُطَّلِبِ أُكرِمُهُمْ بِذَلِكَ" فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ الله, يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ الله (¬3)، فَقَالَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ "، فَقَالَ أبو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِي الله هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا"، قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ الله (¬4). النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دار أبو أيوب الأنصاري: فَنَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دار الصحابي الجليل خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي السُّفْلِ، وَأبو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، فَانْتَبَهَ أبو أَيُّوبَ لَيْلَةً فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "السُّفْلُ أَرْفَقُ"، فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعُلُوِّ، وَأبو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِع أَصَابع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ لَهُ لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3932)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (524)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة, باب: ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) متفق عليه: واللفظ للبخاري (3911)، وهو في مسلم (524). (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل عن البراء - رضي الله عنه -, واللفظ لمسلم. (¬4) انظر التخريج قبل السابق.

5 - وفيها: بني المسجد النبوي والحجرات

أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: "لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ" قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ. قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْتَى (¬1). 5 - وفيها: بني المسجد النبويَّ والحجرات. الشرح: حينما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكان راكبًا رَاحِلَتَهُ سَارَ بها حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِزبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في حَجْرِ أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: "هَذَا إِنْ شَاءَ الله الْمَنْزِلُ"، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْغُلَامَينِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: لَا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله فَأَبَى رَسُولُ الله أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بناهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ في بنيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَر وَيَقُولُ: اللهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ ... فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2053)، كتاب: الأشربة, باب: إباحة أكل الثوم، وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه. وكذا ما في معناه، وأخرجه أحمد 5/ 415. قوله: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُؤتى، أي يأتيه جبريل - عليه السلام -، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الثوم حتى لا يؤذيه برائحته. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.

صفة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -

وكانت في هذه الأرض التي بنى عليها المسجد قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ رَسُولُ الله بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً (¬1). وكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بناء المسجد يُصَلِّي حَيثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي في مَرَابِضِ الْغَنَمِ (¬2). صفة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقول عبد الله بن عمر: كان الْمَسْجِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ. فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أبو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بنيَانِهِ في عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ (¬3) وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3932)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, مسلم (524)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) التخريج السابق. (¬3) القَصَّةُ: الجير المحروق. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (446)، كتاب: الصلاة, باب: بنيان المسجد. الساج: نوع من الخشب يُؤتى به من الهند. وفعْلُ عثمان - رضي الله عنه - لا يقتضي الزخرفة إنما هو قام بتحسين المسجد فقط، وإلا فزخرفة المساجد وتشييدها والتباهي بها قد أتى النهي عنه من قِبل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة. ويكفينا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود (448)، وصححه الألباني: "ما أمرتُ بتشييد المساجد" قال ابن عباس: لتُزخْرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.

6 - وفيها: أسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام

6 - وفيها: أسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام. الشرح: يحكي عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - بداية دخول الإسلام قلبه فيقول - رضي الله عنه -:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ الناسُ إِلَيهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجِئْتُ في النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ" (¬1). ثم أراد عبد الله بن سلام أن يتيقن من أمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزعُ إلى أَبِيهِ أَوْ إلى أُمِّهِ؟ فقَالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا"، قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إلى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ (¬2)، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ" قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّكَ رَسُولُ الله، قَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَي رَجُلٍ عبد الله بن سَلَامٍ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفضَلِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عبد الله بن سَلَامٍ؟ " قَالُوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عبد الله, فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصوهُ، قَالَ: هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 5/ 451، الترمذي (2485)، ابن ماجه (1334)، الحاكم 4/ 159، ابن أبي شيبة 8/ 536، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي". (¬2) زيادة كبد الحوت: هي القطعة الزائدة التي تكون معلقة في الكبد، وهي من ألذ الطعام.

7 - وفيها: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة زيد بن حارثة، وأبا رافع فحملاهن من مكة إلى المدينة ما عدا زينب

رَسُولَ الله (¬1). 7 - وفيها: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة زيد بن حارثة، وأبا رافع فحملاهنَّ من مكة إلى المدينة ما عدا زينب. 8 - وفيها: هاجر آل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. الشرح: ولما رجع عبد الله بن أريقط الديلي إلى مكة بعث معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، زيد بن حارثه وأبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليأتوا بأهاليهم من مكة، وبعثا معهم بحملين وخمسمائة درهم ليشتروا بها إبلاً من قُدَيْد، فذهبوا فجاءوا ببنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وأم كلثوم، وزوجتيه سودة وعائشة، وأمها أم رومان وأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل أبي بكر، صحبة عبد الله بن أبي بكر (¬2). 9 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: زِيْدَ في صلاة الحضر ركعتان وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: فَرَضَ الله الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَينِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3938)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم" ومرْثيه لمن مات بمكة، أحمد 3/ 108، 189، وعبد بن حميد (1389). (¬2) "البداية والنهاية" 3/ 234. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (350)، كتاب: الصلاة، باب: كيف فُرضت الصلوات في الإسراء، مسلم (685)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها, باب: صلاة المسافرين وقصرها.

قال ابن جرير -رحمه الله -

قال ابن جرير -رحمه الله -: وفي هذه السنة -يعني: السنة الأولى من الهجرة- زِيْدَ في صلاة الحضر -فيما قيل- ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر ربيع الآخر لمضيِّ اثنتيْ عشرة ليلة منه (¬1). 10 - وفيها: ولد عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - وهو أول مولود للمهاجرين في الإسلام. الشرح: عَنْ أَسْمَاءَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعبد الله بن الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ (¬2) فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعْتُهُ في حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ في فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ (¬3). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عبد الله بن الزُّبَيْرِ، أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَمْرَةً فَلَاكَهَا (¬4)، ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) نقلاً عن "البداية والنهاية" 3/ 245. (¬2) أي مُقربٌ قد دنا وضعُها لولدها. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3909)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة, مسلم (2146)، كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته. (¬4) أي: مضغها. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3910)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.

11 - وفيها: ولد النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - وهو أول مولد للأنصار بعد الهجرة

11 - وفيها: ولد النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - وهو أول مولد للأنصار بعد الهجرة. الشرح: قال ابن كثير - رحمه الله -: فكان أول مولود ولد في الإسلام -يعني: عبد الله بن الزبير- من المهاجرين، كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة - رضي الله عنهما - (¬1). 12 - وفيها: توفِّي من الصحابه كُلْثوم بن الهدم، وأسعد بن زرارة - رضي الله عنهما -. الشرح: قال ابن جرير - رحمه الله -: كان أول من توفي بعد مقدمه - عليه السلام - المدينة من المسلمين -فيما ذُكر- صاحب منزلهِ كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرًا حتى مات، ثم توفي بعده أسعد بن زرارة، وكانت وفاته في سنة مقدمه، قبل أن يَفْرَغَ بناءُ المسجد، بالذُّبحة أو الشهقة (¬2). 13 - وفيها: شرع الأذان. الشرح: فلما اطمأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 3/ 243. (¬2) "تاريخ الطبري" 2/ 8. قوله: صاحبُ منزله، حيث قيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بقباء نزل بمنزله.

واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان, وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدمها- إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها، بغير دعوة، فهمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حين قدمها- أن يجعل بوقًا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنُحت يُضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، أخو بلحارث ابن الخزرج، النداء (¬1). عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يُعْمل ليُضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي -وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أنَّ محمدا رسول الله, حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحتُ، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بما رأيت، فقال: "إنها لرؤيا حقٍ إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذنْ به فإنه أندى ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 70، 71.

14 - وفيها: عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاهدة مع اليهود بالمدينة

صوتًا منك". فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أُريَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلله الحمد" (¬1). 14 - وفيها: عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاهدة مع اليهود بالمدينة. الشرح: قال ابن القيم - رحمه الله -: ووادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن بالمدينة مِن اليهود، وكتب بينه وبينهم كتابًا، وبادر جدهم وعالمهم عبد الله بن سلام، فدخل في الإسلام، وأبى عامتهم إلا الكفر. وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وحاربه الثلاثة، فمنَّ على بني قينقاع، وأجلى بن النضير، وقتل بني قريظة وسبى ذريتهم، ونزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة. اهـ (¬2). وفيما يلي شروط هذة المعاهدة: 1 - إنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 2 - وإنَّ يهود بني عوف (¬3) أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (499)، كتاب: الصلاة, باب: كيف الأذان، الترمذي (189)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في بَدْء الأذان، ابن ماجه (706)، كتاب: الأذان والسنة فيها، باب: بدء الأذان، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": حسن صحيح. (¬2) "زاد المعاد" 3/ 58، 59. (¬3) بنو عوف قبيلة عربية، ولكنهم كانوا كجميع الأوس والخزرج تكون المرأة فيهم مقلاتٌ -أي لا يعيش لها ولد- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تهوَّده - أخرجه أبو داود (2682) وصححه الألباني - فمن ذلك تهوَّد بعضُ أبناء العرب وعاشوا بين قبائل اليهود.

دينهم موالهيم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه (¬1) وأثم فإنه لا يُوْتغ (¬2) إلا نفسه وأهل بيته. 3 - وإنَّ لِيهود بني النجار مثل ما لِيهود بني عوف. 4 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 5 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 6 - وان ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف. 7 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 8 - وإن ليهود بن ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم, فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 9 - وإنَّ جَفْنة بطن من ثعلبة كأنفسهم (¬3). 10 - وإنَّ لبني الشُّطبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ البر دون الإثم (¬4). 11 - وإنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم (¬5). ¬

_ (¬1) فالذي تعدّى حدود الله وارتكب إثما ينال عقابه لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم. (¬2) يهلك. (¬3) الجفنة: وعاءُ الأطعمة، وجمعها جفان، ومنه قول الله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13]، والبطن: أصلها الجارحة، ويطلقها العرب على فرع القبيلة، فالقبيلة الكبيرة يتفرع منها قبائل صغيرة تسمى بطون، وإنما سُميت بذلك كناية على أنَّ جميع فروع القبيلة كالعضو الواحد، والجسد الواحد. والمعنى: المبالغة في شدة تحريم أموال المعاهدين وأعراضهم، بأنه من استحل مثل هذا الشيء البسيط الزهيد، وهي جفنة الطعام، من بطن من بطون القبيلة، فكأنما انتهك حرمة جميع أشخاص القبيلة أنفسهم. (¬4) أي: إنَّ البر ينبغي أن يكون حاجزًا عن الإثم، والوفاء ينبغي أن يمنع من الغدر. (¬5) فحرمة عبيدهم كحرمة أحرارهم.

12 - وإنَّ بطانة يهود كأنفسهم (¬1). 13 - وإنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا ينحجز على ثأر جُرحٍ (¬2). 14 - وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم، وإن الله على أبرِّ هذا (¬3). 15 - وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. 16 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم (¬4). ¬

_ (¬1) بطانة الرجل: صاحب سرِّه الذي يشاوره في أحواله. (نهاية). (¬2) منع هذا البند اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهدف بالدرجة الأولى منعهم من القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها. "السيرة النبوية الصحيحة" د/أكرم العمري 1/ 290، 291. وإنه لا ينحجز على ثأر جرح: أي لا تُحْجَز القبيلة من الخروج إذا كان خروجها للثأر ولو كان هذا الثار جُرحٌ. والله أعلم. (¬3) الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غافل، فيقتله. (نهاية). ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" أخرجه أبو داود (2769)، وصححه الألباني. وإن الله على أبرِّ هذا: أي إن الله وحزبه المؤمنين على الرضا به. "تهذيب سيرة ابن هشام" عبد السلام هارون. (¬4) كان من عادات قبائل العرب -قبل الإسلام وبعده- التحالف فيما بينهم، فكانت تجتمع القبيلتان أو الثلاثة أو أكثر من ذلك فيتحالفون فيما بينهم على أن يكونوا كالقبيلة الواحدة، لا يعتدي بعضهم على بعض أولاً، ثم من أغار على قبيلة منهم

17 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. 18 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة (¬1). 19 - وإنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم (¬2). 20 - وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها (¬3). 21 - وإنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو شجار يُخاف فساده فإنّ مردَّه إلى الله وإلى محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه (¬4). ¬

_ = فكأنما أغار على جميعهم، فعليهم نصر القبيلة التي أُغير عليها. فبين هذا البند أنه إذا ارتكب قوم من حلفاء أصحاب تلك الصحيفة إثما، فالإثم على الحلفاء، لا يتحمل أصحاب هذه المعاهدة إثم غيرهم من حلفائهم. (¬1) قد اعتبرت منطقة المدينة حرمًا بموجب هذا البند، والحرم هو مالا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده، ولا يقطع شجره، وحرم المدينة بين الحرَّة الشرقية والحرَّة الغربية وبين جبل ثور في الشمال وجبل عير في الجنوب، ويدخل وادي العقيق في الحرم، وبذلك أحلَّت هذه المادة الأمن داخل المدينة ومنعت الحروب الداخلية. "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 292. (¬2) أي من استجار بأحد من أصحاب هذه المعاهدة تكون حرمته كحرمتهم لا يضارُّ، ولكن لا يجار أحد ارتكب إثمًا أو ظلما لأحد. (¬3) أي إذا استجار أحدٌ فلا يُجارُ إلا بإذن أهله. (¬4) اعترف اليهود بموجب هذا البند بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإِسلامي دائمًا بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خير القرآن الكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قبول =

22 - وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها (¬1). 23 - وإنَّ بينهم النصر على من دهم يثرب (¬2). 24 - وإذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعُوا إلى مثل ذلك، فإنَّ لهم ما على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أُناس حصَّتهم من جانبهم الذي قِبلهم (¬3). 25 - وإنَّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب (¬4) إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. 26 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإن الله جار لمن برَّ ¬

_ = الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم {... فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42]. "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 291. (¬1) قد منع هذا البند اليهود من إجارة قريش أو نصرها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلابد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلن الخلاف بينهم وبين المسلمين. "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 290. (¬2) دهم يثرب أي فاجأها بحرب، فيكون جميع من دخل في هذه المعاهدة حماة للمدينة. (¬3) امتدت المعاهدة بموجب هذا البند لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشًا (إلا من حارب في الدين) لأنهم كانوا في حالة حرب معهم. "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 292. (¬4) أي: يكسب إثمًا.

15 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية حمزة في عبد المطلب - رضي الله عنه - إلي سيف البحر

واتقى، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 15 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية حمزة في عبد المطلب - رضي الله عنه - إلي سِيف البحر. الشرح: بداية الإذن بالقتال: فلما استقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وأيده الله بنصره، بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإِحَن التي كانت بينهم، فمنعته أنصارُ الله وكتيبةُ الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أول بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا لهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]. وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة, والسورة مكية وهذا غلط لوجوه: أحدها: أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة. الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ¬

_ (¬1) انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 66، 68، "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 282، 285.

[الحج: 40] , وهؤلاء هم المهاجرون. الثالث: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين. الرابع: أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} والخطاب بذلك كله مدني، فأمَّا الخطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فمشترك. الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد وغيره، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأمَّا جهاد الحجة، فأمر به في مكة بقوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52] فهذه سورة مكية، والجهاد فيها هو التبليغ، وجهاد الحجة، وأما الجهاد المأمور به في سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف. السادس: أن الحاكم روى في "مستدركه" من حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهْلِكُنَّ، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] وهي أول آية نزلت في القتال، وإسناده على شرط الصحيحين، وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية، والله أعلم (¬1). وكما هو معروف في فن الحرب أن الهجوم أقوى وسائل الدفاع، وقريش مصممة على خوض المعركة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلتكن المبادرة منه، ومن أجل ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 62، 64.

هذا كانت السنة الأولى كلها سنة هجوم على قوافل قريش, فلقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سرايا وكانت كلها لاعتراض عير قريش ما عدا واحدة كانت ردًا على هجوم قام به كُرْز بن جابر الفهري واستمرت هذه السرايا من رمضان السنة الأولى للهجرة إلى رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان قادة هذه السرايا جميعًا من المهاجرين، وكان لهذا معنى خاص في هذه الحرب، فأصل العهد مع الأنصار هو حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في المدينة، وهذه السرايا تعرض للقوافل خارج المدينة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فلابد من تدريب شباب الدعوة على الحرب بعد أن أُمروا بكفِّ أيديهم خلال ثلاثة عشر عامًا من العهد المكي. ومن جهة ثالثة، فلابد أن تعرف قريش أن هؤلاء المهاجرين الفارِّين من اضطهادها في مكة ليسوا موطن ضعف وهوان، بل هم قوة مرهوبة ذات شوكة عليها أن تحسب ألف حساب قبل أن تفكر في مواجهتهم. ومن جهة رابعة، فعلى قريش أن تذوق وبال أمرها لموقفها المشين من الدعوة وأن تتجرع مرارة هذا الموقف، فتعلم أن مصالحها وتجارتها صارت مهب الريح بعد أن سيطر المسلمون على شريان حياتها من خلال قوافلها إلى الشام، حيث أصبحت رحلة الصيف عندها وخيمة العواقب (¬1). ولتعلم أخي -حفظك الله- أنَّ غزوات المسلمين ضد المشركين لم تكن لحبهم سفك الدماء، أو لأن دين الإسلام دين قتل ودمار، كما يقول أعداء هذا الدين الحنيف من اليهود والنصارى والملحدين إنما كانت لهذه الغزوات أسبابها المعلومة لدى الجميع بما فيهم هؤلاء المفترين، ولكنهم جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلواً. ¬

_ (¬1) "المنهج الحركي للسيرة النبوية" 1/ 232، 233 أ/منير محمد الغضبان نقلا عن "سيرة الرسول" للشيخ/ محمود المصري.

وأهم هذه الأسباب

وأهم هذه الأسباب: 1 - منْعُ المشركين المسلمين من نشر دين الله الحق، فإن نشر دين الإسلام وإخراج الناس من عبادة العباد والأصنام إلى عبادة رب الأنام، كانت مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام التي ابتعثهم الله من أجلها, ولكنَّ المشركين لم بُخلُّوا بينهم وبين الدعوة، إنما حاربوهم وآذوهم، ولو تركوهم ما قاتلوهم. 2 - الظلم الذي وقع على المسلمين من المشركين من هدم بيوتهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من ديارهم ونحو ذلك. ولقد رأينا بأعيننا ماذا صنعت أمريكا لهدم مبنىً واحد من مبانيها, لقد ثارت ثورة عارمة وأقامت الدنيا ولم تقعدها من أجل ذلك المبنى وأصبحت كالثور الهائج الذي يضرب يمينًا وشمالاً بلا وعي، بل لك أن تعلم بأن مجموع من قتلتهم أمريكا من المسلمين بسبب هذا المبنى فقط يفوق أضعاف أضعاف من قُتلوا في جميع الحروب التي لاقى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين! إذن فمن الذي يستحق أن يُمنح لقب مصاصي الدماء أنحن أم هم؟! لا شك أنهم يُمنحونه عن جدارةٍ واستحقاقٍ. 3 - الاستفزازات التي مارسها المشركون ضد المسلمين، فقد منعوا ضعفاءهم من الهجرة وحاولوا تقليب أهل المدينة على المسلمين وغير ذلك. سرية سيف البحر: وكان أول لواء عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه، وكان لواءً أبيض، وكان حامله أبو مَرْثَد كَنَّاز بن الحُصين الغَنَويّ حليف حمزة، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين خاصة، يعترض عيرًا لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل.

16 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - رضي الله عنه - إلى بطن رابغ

فبلغوا سيف البحر (¬1) من ناحية العِيص (¬2) فالتقوا واصطَفُّوا للقتال، فمشى مجديُّ بن عمرو الجهني -وكان حليفًا للفريقين جميعًا- بين هؤلاء وهؤلاء حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتلوا (¬3). 16 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - رضي الله عنه - إلى بطن رابغ. الشرح: ثم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في سرية إلى بطن رابغ في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواءً أبيض، وحمله مِسْطَحُ بن أُثاثة بن عبد المطلب ابن عبد مناف، وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاريٌّ، فلقي أبا سفيان بن حرب، وهو في مائتين على بطن رابغ، على عشرة أميال من الجحفة، وكان بينهم الرميُ، ولم يَسُلُّوا السيوف، ولم يَصْطَفُّوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعد بن أبي وقاص فيهم، وهو أول مَن رمى بسهم في سبيل الله, ثم انصرف الفريقان إلى حاميتهم. قال ابن إسحاق: وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل (¬4) ¬

_ (¬1) سيف البحر: ساحله. (¬2) قال أبو ذر: العيص هنا موضع، وأصل العيص منبت الشجر، وهو الأصل أيضًا. اهـ. وقال ياقوت عن ابن إسحاق: العيص: من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون منها إلى الشام. اهـ. نقلاً من كلام الشيخ محمَّد محيي الدين عبد الحميد على هامش "سيرة ابن هشام". (¬3) "زاد المعاد" 3/ 146، 147. (¬4) "زاد المعاد" 3/ 147.

17 - وفي شوال من هذه السنة بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -

17 - وفي شوال مِن هذه السنة بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَنِي وَأَنَا بنتُ سَبْعٍ أَوْ سِتٍّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَ نِسْوَةٌ، فَأَتَتْنِي أُمُّ رُومَانَ، وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ، فَذَهَبْنَ بِي، وَهَيَّأْنَنِي، وَصَنَعْنَنِي، فَأُتِيَ بِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَنَىْ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ، فَوَقَفَتْ بِي عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: هِيهْ هِيهْ، قَالَ أبو دَاوُد: أَيْ تَنَفَّسَتْ، فَأُدْخِلْتُ بَيْتًا فَإِذَا فِيهِ نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ (¬1). وعنها قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي في شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ (¬2). 18 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كانت سرية سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - إلى الخرَّار. الشرح: ثم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص إلى الخرَّار في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواءً أبيض، وحمله المقداد بن عمر، وكانوا عشرين راكبًا يعترضون عيرًا لقريش، وعهد أن لا يجاوز الخرَّار، فخرجوا على أقدامهم فكانوا يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل حتى صبّحوا المكان صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1422)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة، وأبو داود (4933) كتاب: الأدب، باب في الأرجوحة، واللفظ لأبي داود. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1423)، كتاب: النكاح، باب: استحباب التزوج والتزويج في شوال واستحباب الدخول فيه. (¬3) "زاد المعاد" 3/ 147.

19 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار

19 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار. الشرح: ثم آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله -عز وجل-: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)} [الأحزاب: 6] ردَّ التوارث إلى الرحم دون عقد الإخوَّة (¬1). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قالَ: حَالَفَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْأَنْصارِ وَقُرَيْشٍ في دارِي الَّتِي بِالْمَدِينَةِ (¬2). وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَتْ الْأَنْصارُ: اقْسِمْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ النَّخْلَ، قالَ: لا، قالَ: يَكْفُونَنا الْمَئُونَةَ وَيُشْرِكُونَنا في الثمْرِ، قالُواة سَمِعْنا وَأَطَعْنا (¬3). ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 56، 57. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (7340)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم وما أجمع عليه الحَرَمان مكة والمدينة وما كان بها من مشاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين والأنصار ومصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والمنبر والقبر، مسلم (2529)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: مؤاخاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3782)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إخاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار. ومعنى قولهم: يكفوننا المئونة ويشركوننا في الثمر؛ يكفونهم العمل في الأرض ويشاركونهم في الثمار التي تخرج منها.

وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- آخَى بَيْنَ أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرّاحِ، وَبَيْنَ أبي طَلْحَةَ (¬1). قالَ تَعَالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قالَ: لَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَينَ عبد الرَّحمَنِ بن عَوْفٍ وَسَعْدِ بن الرَّبِيعِ قالَ لِعبد الرَّحمَنِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصارِ مالًا فَأَقْسِمُ مالِي نِصفَيْنِ وَلِي امْرَأَتانِ فانْظُرْ أَعْجَبَهُما إِلَيْكَ فَسَمِّها لِي أُطَلِّقْها فَإِذا انْقَضَتْ عِدَّتُها فَتَزَوَّجْها، قالَ: بارَكَ الله لَكَ في أَهْلِكَ وَمالِكَ، أَيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بني قَيْنُقاعَ فَما انْقَلَبَ إِلّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ ثُمَّ تابَعَ الْغُدُوَّ (¬2)، ثُمَّ جاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْيَمْ"، قالَ: تَزَوَّجْتُ، قالَ: "كَمْ سُقْتَ إِلَيْها؟ " قالَ: نَواةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَواةٍ مِنْ ذهَبٍ (¬3). فهذا الموقف من الصحابي الجليل سعد بن الربيع يوضح حجم الحب والمودة الذي كان بين الأنصار وبين إخوانهم الذين هاجروا إليهم. وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أبي بكر - رضي الله عنه - وخارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطّاب وعتبان بن مالك، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت، وغيرهم (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2528)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مؤاخاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه. (¬2) أي تابع الذهاب إلى السوق فكان يذهب كثيرًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3780)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: إخاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وظاهر هذه الرواية الإرسال ولكنه جاء موصولًا في مواضع في الصحيح منها حديث (3781) عن أنس - رضي الله عنه - وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: أولم ولو شاه. (¬4) انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 67، 69.

السنة الثانية من الهجرة

السنة الثانية من الهجرة

السنة الثانية من الهجرة وفيها ثلاثة وعشرون حدثًا: 1 - في صفر من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الأبْوَاء حتى بلغ ودَّان وهي أول غزوة غزاها بنفسه الشريفة، فداه أبي وأمي. الشرح: ثم غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه غزوة الأَبْواء، ويقال لها: ودَّان، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مُهاجَره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرًا لقريش، فلم يلق كيدًا وفي هذه الغزوة وادع مخشَّ بن عمرو الضَمْريّ وكان سيد بني ضَمْرة في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة، ولا يغزوه ولا أن يكثرِّوا عليه جمعًا، ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابًا، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة (¬1). وقال ابن إسحاق: وهي أول غزواته -عليه السلام- (¬2). 2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بُواط. الشرح: ثم غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الأوّل يريد قريشًا. ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 148. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 124.

3 - وفي ربيع الأول أيضا من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر الأولى حتى بلغ وادي سفوان

واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بُواط (¬1) من ناحية رضْوى (¬2)، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا (¬3) فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى (¬4). 3 - وفي ربيع الأول أيضًا من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر الأولى حتى بلغ وادي سَفَوان. الشرح: ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مُهاجره يطلب كُرز بن جابر الفهري، وحمل لواءه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،وكان أبيض واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وكان كُرز قد أغار على سرح المدينة (¬5) فاستاقه، وكان يرعى بالحِمى، فطلبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ واديًا يقال له: سَفَوان من ناحية بدر، وفاته كُرز ولم يَلحقْه، فرجع إلى المدينة (¬6). 4 - وفي جمادي الأولى من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة العُشيرة، فوادع بني مُدلِج وحلفاءهم من بني ضمرة. الشرح: ثم غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن ¬

_ (¬1) بواط: بضم الباء وفتح الواو مخففة وقيل: بفتح الباء، جبل من جبال جهينة يقرب من يَنْبُع، على أربعة بُرُد من المدينة. (¬2) رضوى: جبل قيل على أربعة أيام من المدينة، ذو شعابٍ وأودية وبه مياه وأشجار. (¬3) أي: لم يقاتله أحد. (¬4) "سيرة ابن هشام" 2/ 129. (¬5) سرح المدينة: بفتح السين وسكون الراء، هي الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة. (¬6) "زاد المعاد" 3/ 149.

5 - وفي رجب من هذه السنة: كانت سرية جهينة وفيهم سعد ابن أبي وقاص إلى حي من كنانة

عبد الأسد، وسار حتى نزل العُشيرة من بطن ينبُع، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووداع فيها بني مُدْلج وحلفاءهم من بني ضَمْرة (¬1)، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا (¬2). 5 - وفي رجب من هذه السنة: كانت سرية جُهينة وفيهم سعد ابن أبي وقاص إلى حيٍّ من كنانة. الشرح: روى الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ جاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقالُوا: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنا، فَأَوْثِقْ لَنا حَتَّى نَأْتِيَكَ وَتُؤْمِنَّا، فَأَوْثَقَ لَهُم، فَأَسْلَمُوا قالَ: فَبَعَثَنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في رَجَبٍ، وَلا نَكُونُ مِائَةً وَأَمَرَنا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيّ مِنْ بني كِنانَةَ إلى جَنْبِ جُهَيْنَةَ فَأَغَرْنا عَلَيْهِمْ، وَكانُوا كَثِيرًا، فَلَجَأْنا إلى جُهَيْنَةَ فَمَنَعُونا، وَقالُوا: لِمَ تُقاتِلُونَ في الشَّهْرِ الْحَرامِ؟! فَقُلْنَا: إِنَّما نُقاتِلُ مَنْ أَخْرَجَنا مِنْ الْبَلَدِ الْحَرامِ في الشَّهْرِ الْحَرامِ، فَقالَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ: ما تَرَوْنَ؟ فَقالَ بَعْضُنا: نَأتِي نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - فَنُخْبِرُهُ، وَقالَ قَوْمٌ: لا، بَلْ نُقِيمُ ها هُنا، وَقُلْتُ أَنا في أُناسٍ مَعِي لا بَلْ نَأْتِي عِيرَ قُرَيْشٍ فَنَقْتَطِعُها، فانْطَلَقْنا إلى الْعِيرِ، وانْطَلَقَ أَصحابُنَا إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقامَ غَضْبانًا مُحْمَرَّ الْوَجْهِ، فَقالَ: أَذَهبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ؟ إِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ الْفُرْقَةُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ، أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ والْعَطَشِ، فَبَعَثَ عَلَيْنا عبد الله بن جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، فَكانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ أُمِّرَ في الْإِسْلامِ (¬3). ¬

_ (¬1) قال الزرقانيُّ: وتقدم في ودَّان أنه وادع بني ضمرة، فلعلها تأكيد للأولى أو أن حلفاء بني مدلج كانوا خارجين عن بني ضمرة لأمر ما وبسببه حالفوا بني مدلج. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 129، 130 بتصرف. (¬3) "مسند أحمد" (1539)، وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-: إسناده ضعيف.

6 - وفي رجب في هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - إلى نخلة

6 - وفي رجب في هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - إلى نخلة. الشرح: ثم بعث رسول الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش الأسديَّ إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرًا من الهجرة في اثني عشر رجلًا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرًا لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وكان رسول الله كتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فمضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعُد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة فيها عمرو بن الحضرميّ، وعثمان ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإِسلام، وأول قتيل في الإِسلام وأول أسيرين في الإِسلام، وأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا،

7 - وفي ر جب أو شعبان من هذه السنة: نزل الأمر الإلهي بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المشرفة، وهو أول نسخ وقع في الإسلام

فقالوا: قد أحل محمَّد الشهر الحرام، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرًا فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهل منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام (¬1). 7 - وفي ر جب أو شعبان من هذه السنة: نزل الأمر الإلهي بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المشرفة، وهو أول نسخ وقع في الإسلام. الشرح: عَنْ الْبَراءِ بن عازب - رضي الله عنه - أَنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلى بَيتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلّاها صَلاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُم راكِعُونَ قالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَد صَلَّيتُ مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مَكَّةَ فَدارُوا كَما هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ وَكانَ الَّذِي ماتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجالٌ قُتِلُوا لَم نَدْرِ ما نَقُولُ فِيهِمْ فأَنْزَلَ الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143] (¬2). ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 150، 151. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4486) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {سَيَقُولُ =

قال ابن كثير -رحمه الله-

وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: بَيْنَما النّاسُ يُصَلُّون الصُّبْحَ في مَسْجِدِ قُباءٍ إِذْ جاءَ جاءٍ فَقالَ: أَنْزَلَ الله عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قُرْآنًا أَنْ يَستَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فاسْتَقْبِلُوها فَتَوَجَّهُوا إلى الْكَعْبَةِ (¬1). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بني سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنادَى: أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمالُوا كَما هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: وحاصل الأمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه -كما رواه الإمام أحمد عن بن عباس - رضي الله عنهما - فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما، فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة، واستدبر الكعبة ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وهذا يقتضي أن ¬

_ = السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]، ومسلم (525) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4488) كتاب: التفسير، باب: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، ومسلم (526) كتاب: المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (527) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

قال ابن إسحاق

يكون ذلك في رجب من السنة الثانية. والله أعلم (¬1). قال ابن إسحاق: وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرًا من مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة (¬2). وقال في موضع آخر: ويقال: صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة (¬3). 8 - وفي شعبان من هذه السنة: فُرضَ صيامُ رمضان. الشرح: قال ابن جرير -رحمه الله-: وفي هذه السنة -السنة الثانية - فُرض صيام شهر رمضان، وقد قيل: إنه فُرض في شعبان منها (¬4). 9 - وفي يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من هذه السنة: وقعت غزوة بدر الكبرى. الشرح: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن أبا سفيان بن حرب مقبلًا من الشام في عير لقريش ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 3/ 267. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 98. (¬3) "سيرة ابن هشام" 2/ 134. (¬4) "تاريخ الطبري" نقلا عن "البداية والنهاية" 3/ 269.

عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص (¬1). فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إليهم، وقال هذه عيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفِّلكموها، فانتدب الناس، فخفَّ بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقى حربًا. وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان، تخوفًا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الناس أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويُخبرهم أن محمدًا قد عرض لنا في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة (¬2). وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني وتخوفتُ أن يدخل علي قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به، فقال لها: وما رأيت؟ قال: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غُدَر (¬3) لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مَثَلَ به (¬4) بعيرُه على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 134. (¬2) صحيح: "سيرة ابن هشام" عن ابن إسحاق 2/ 134، 135، بسنده إلى ابن عباس، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في تخريج فقه السيرة للغزالي (226). (¬3) غُدَرُ: من غادر، ويستعمل هذا في النداء بالشتم. (¬4) مثل به: أي قام به ماثلًا.

انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مَثَلَ به بعيرُه على رأس أبي قُبيس (¬1)، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت (¬2) فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دارٌ إلا دخلتها منها فِلقة قال العباس: والله إن هذه لرؤيا! وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة -وكان له صديقًا- فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى حدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغْتَ من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغتُ أقبلت حتى جلستُ معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدتُ ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا. قال: ثم تفرقنا، فلما أمسيتُ لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم تكن عندك غَيرة لشيء مما ¬

_ (¬1) جبل بمكة. (¬2) ارفضَّت: أي تفتت.

سمعت! قال: قلت: قد والله فعلتُ، ما كان مني إليه كبير، وأيم الله لأتعرضنَّ له فإن عاد لأكفينَّكُنَّه. قال: فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أُحبُّ أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فاقعُ به، وكان رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ، فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أَكُلُّ هذا فَرَقٌ مني أن أُشاتمه؟! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدَّع بعيره (¬1) وحوَّل رَحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (¬2) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمَّد في أصحابه، لا أرى أن تُدركوها الغوث الغوث. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعًا، قالوا: أيظن محمَّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟! كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان قد لأط (¬3) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يُجزئ عنه (¬4). ¬

_ (¬1) جدَّع بعيره: قطع أنفه. (¬2) اللطيمة: الإبل تحمل الطيب. (¬3) لأط: أي اقتضاه. (¬4) "سيرة ابن هشام" 2/ 135، 136، رواه ابن إسحاق بإسنادين أحدهما عن ابن عباس، ولكن فيه مبهم حيث قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس به. والثاني بإسناد صحيح إلى عروة بن الزبير ولكنه مرسل، ويمكن أن يعتضدا ببعضهما.

وكان أمية بن خلف أيضًا أراد أنْ يتخلف عن الخروج، وله في ذلك قصة يحكيها سَعْدُ بن مُعاذٍ - رضي الله عنه - حيث كانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وَكانَ أُمَيَّةُ إِذا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ بن معاذ، وَكانَ سَعْدٌ إِذا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي ساعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيتِ فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهارِ فَلَقِيَهُما أبو جَهْلٍ فَقالَ: يا أَبا صَفْوانَ مَنْ هَذا مَعَكَ؟ فَقالَ: سَعْدٌ، فَقالَ لَهُ أبو جَهْلٍ: أَلا أَراكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّباةَ وَزَعَمْتُمْ أَنكمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَما واللهِ لَوْلا أَنَّكَ مَعَ أبي صَفْوانَ ما رَجَعْتَ إلى أَهْلِكَ سالِمًا، فَقالَ لَهُ سَعْدٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أَما واللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذا لَأَمْنَعَنَّكَ ما هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يا سَعْدُ عَلَى أبي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوادِي، فَقالَ سَعْدٌ: دَعْنا عَنْكَ يا أُمَيَّةُ فَواللهِ لَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّهُمْ قاتِلُوكَ"، قالَ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَفَزعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إلى أَهْلِهِ قالَ: يا أُمَّ صَفْوانَ أَلَمْ تَرَيْ ما قالَ لِي سَعْدٌ؟ قالَتْ: وَما قالَ لَكَ؟ قالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَقالَ أُمَيَّةُ: واللهِ لا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ فَلَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أبو جَهْلٍ النّاسَ، قالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتاهُ أبو جَهْلٍ، فَقالَ: يا أَبا صفْوانَ إِنَّكَ مَتَى ما يَراكَ النّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أبو جَهْلٍ حَتَّى قالَ: أَمّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَواللهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قالَ أُمَيَّةُ: يا أُمَّ صَفْوانَ جَهِّزِيني، فَقالَتْ لَهُ: يا أَبا صَفْوانَ وَقَدْ نَسِيتَ ما قالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قالَ: لا، ما أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلّا قَرِيبًا، فَلَمّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ الله -عز وجل- بِبَدْرٍ (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3950) كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقتل ببدر.

فتأهبت قريش للخروج بجيش قوامه نحو ألف مقاتل بما معهم من جمال وخيول وعتاد وعُدة، للدفاع عن عيرها وأموالها، كما أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وكانت العربُ تفعل ذلك لتحفيز جنودها على القتال، فإن الرجل إذا ماِ خارت قوته ووهنت عزيمته وأراد أن يفر من ساحة المعركة تذكر ما خلفه من نساء وأبناء وأموال فكان ذلك حافزًا له على القتال بقوة وبأس وعدم الفرار من أرض المعركة. وفي المقابل تأهب جيش المسلمين للخروج سريعًا للحاق بقافلة أبي سفيان فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد أرسل بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ ما صَنَعَتْ عِيرُ أبي سُفْيانَ (¬1)، فلما جاء بُسيسة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بأن القافلة قد قربت حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخروج بسرعة حتى لا تفوته القافلة، حتى إنه من شدة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لم ينتظر من كانت ظُهْرانِهِم (¬2) في عوالي المدينة فجعلوا يستأذنونه أن يُحضِروا ظُهرانهم فَقالَ: "لا إِلّا مَنْ كانَ ظَهْرُهُ حاضِرًا" (¬3). فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جيش تعداده بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاثَ مِائَةٍ مقاتل (¬4) منهم الْأَنْصارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ومن المهاجرين نَيِّفًا وسِتِّينَ (¬5) ليس معهم إلا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. (¬2) الظهر: الدوابُّ التي تُركب. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. (¬4) هناك حديثان صحيحان في عدد جيش المسلمين والمشركين: أما الأوّل: ففي صحيح البخاري (3956، 3959). وأما الثاني: ففي مسند أحمد (948) بإسناد صححه الشيخ الألباني في تحقيق فقه السيرة وكذلك صححه الشيخ. أحمد شاكر. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3956) كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -.

فرسٌ واحدٌ للمقداد بن عمرو (¬1) وسبعون بعيرًا (¬2) يعتقب كُلُّ ثَلاثَةٍ بعيرًا (¬3) فكانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وَعَلِيٌّ وأبو لُبابَةَ يعتقبون بعيرًا فلما كانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) قالا: نَحنُ نَمْشِي عَنْكَ يا رسول الله، فَقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أَنْتُما بِأَقْوَى مِنِّي وَلا أَنا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُما" (¬5). وفي أثناء السير ولما بلغ الجيش الروحاء -وهي على أربعين ميلًا من المدينة- ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة أميرًا على المدينة وكان قد ترك ابن أم مكتوم ليصلي بالناس (¬6). أما أبو سفيان فقد تمكن في خِضَمِّ ذلك أن يفر بقافلته فأخذ بها طريق الساحل -وهو غير طريقهم المعتاد- وأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بفرار القافلة، وبأن قريشًا خرجت بجيش كبير لمحاربة المسلمين. فحينها استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في الأمر فبعضهم كره القتال، وفي ذلك، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد في "المسند" (1023)، وابن خزيمة (899)، وابن حبّان (2257)، والطيالسي (116). وجاءت روايات أخرى ضعيفة بأنهما كانا فرسين أحدهما للزبير والثاني للمقداد، وهو ضعيف. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 138. (¬3) يعتقبون البعير: أي يتبادلون الركوب عليه. (¬4) أي: نوبته في المشي. (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (3901)، الحاكم 3/ 20 وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في تخريج فقه السيرة: سنده حسن، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. (¬6) "سيرة ابن هشام" 2/ 138، والحاكم في "المستدرك" 3/ 632 وسكت عنه الذهبي.

لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} [الأنفال: 5، 6] والحق الذي تبيّن هو أن الله تعالى قد وعدهم إحدى الطائفتين إما أخذ القافلة وغنيمتها، وإما القتال، فلما فرت القافلة كان الحق الذي تبيّن هو القتال فكره بعض المسلمين ذلك يقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (¬1) وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: 7، 8]. وكان هؤلاء يرون أن القتال لا فائدة منه لأنّ القافلة نجت فلا غنيمة تُفيد المسلمين، ولأن المسلمين غير مستعدين للحرب كما استعدت قريش، ولكن الله تعالى قد بين الحكمة من القتال في الآيتين السابقتين من سورة الأنفال. فلما عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر قام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطّاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (¬2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له به. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليّ أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك ¬

_ (¬1) الشوكة: القتال، وغير ذات الشوكة: هي الغنيمة التي لا قتال فيها. (¬2) موضع بناحية اليمن.

أنهم عدد الناس (¬1) وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذلك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول، قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" (¬2). وكان لواء المسلمين في هذه المعركة مع مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وكان أبيض وكان أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العُقاب، والأخرى مع بعض الأنصار (¬3). فسار النبي -صلى الله عليه وسلم- مستعينًا بالله -عز وجل- على هؤلاء المجرمين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورءاء الناس ليصدوا عن سبيل الله. ¬

_ (¬1) أي: أكثر الناس، فهم أكثر من المهاجرين. (¬2) رواه ابن هشام في "السيرة" بهذا السياق عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهد أخرى كثيرة تقويه، انظر: "صحيح البخاري" (3952)، مسلم (1779)، أحمد (3698، 4070، 4376، 11961)، والنسائيُّ في "الكبرى" (11140). (¬3) "سيرة ابن هشام" 2/ 138.

وفي الطريق وتحديدًا وهم بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ (¬1) أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُزأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحابُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَأَوْهُ فَلَمّا أَدرَكَهُ قالَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ"، قالَ: لا، قالَ: "فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذا كان بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقالَ للنبي-صلى الله عليه وسلم-: كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقالَ لَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّة، قالَ: "فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، ثُمَّ رَجَعَ الرجل مرة أخرى وهم بِالْبَيْداءِ، فَقالَ لَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ"، قالَ الرجل: نَعَم، فَقالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فانْطَلِقْ" (¬2). وفي الطريق أيضًا ردَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- البراء بن عازب وابن عمر لصغرهما (¬3). وعلى الجانب الآخر فإن كفار قريش كادوا أن يرجعوا بلا قتال حيث تذكروا الذي كان بينهم وبين بني بكر من خصومة وخافوا أن يأتوهم من خلفهم فيُعينون عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك -وكان من أشراف بني كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا (¬4). وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ ¬

_ (¬1) حَرَّةُ الوَبَرَة: موضع على نحوٍ من أربعة أميال من المدينة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1817) كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة الاستعانة في الغزو بكافر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3956) كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر. (¬4) "سيرة ابن هشام" 2/ 138 بإسناد مرسل عن عروة بن الزبير، وتشهد له الآية.

{الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: 48]. حيث فر الشيطان من ساحة المعركة عندما رأى الملائكة تتنزل لنصرة المؤمنين كما سيأتي. إن شاء الله. وأيضًا أشار عتبة بن ربيعة عليهم بالرجوع لئلا تَكْثر التِراتُ بين الطرفين وبينهم أرحام وقرابات، ولكن أصر أبو جهل على القتال وغلب رأيه أخيرًا (¬1). ثم وصل الفريقان إلى بدر التي تبعد عن المدينة بنحو (160) كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبق إلى هناك فلما أمسى القوم بعث النبي - صلي الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية (¬2) لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما أذلقوهما (¬3) قالا نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش؟ " قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعُدوة القصوى، فقال لهما رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "كم القوم؟ " قالا: كثير، قال: "ما عدتهم؟ " قالا: لا ندري، قال: "كم ينحرون كل يوم؟ " قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "القوم فيما بين التسعمائة والألف"، ثم قال لهما: "فمَن فيهم من أشراف قريش؟ " قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 2/ 425، بسند حسن. نقلاً من "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 359. (¬2) أي سُقاة للقوم يجلبون لهم الماء ليرتووا. (¬3) أي بالغوا في ضربهما.

وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عديِّ بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبيه، ومنبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودٍّ، فأقبل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" (¬1)، ثم قَالَ النبي - صلي الله عليه وسلم -: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ" - وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَا هُنَا هَا هُنَا- فَمَا مَاطَ (¬2) أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم - (¬3)، فبات المسلمون تلك الليلة بالعدوة الدنيا -أي القريبة من المدينة، وبات المشركون بالعدوة القصوى- أي البعيدة عن المدينة من ناحية مكة، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ} أي العير الذي فيه أبو سفيان {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي مما يلي ساحل البحر، {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي: يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 141، بسند صحيح صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث عن يزيد بن رومان عن عروة ابن الزبير، ولكنه مرسل، وروى نحوه أحمد (948) من حديث علي بن أبي طالب بسند صححه الشيخان: أحمد شاكر، والألباني في تخريج "فقه السيرة" (229)، ورواه مسلم مختصرًا (1779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر. (¬2) ماط: أي بَعُد. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر.

ويحيى من حيَّ أي: يؤمن من آمن عن بينة أي: عن حجة وبصيرة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به عليم بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين (¬1). وكان الوادي الذي نزل به المسلمون لينًا سهلًا لا تثبت فيه أقدام الخيول، والوادي الذي نزل به المشركون صلبًا تتحرك فيه الخيل بسهولة، فأنعم الله تعالى على المسلمين بأن أرسل عليهم من السماء ماءً ليثبت به أقدامهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} تطهير الظاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]، حيث تصلبت الأرض وتوطأت، فثبتت به أقدام المسلمين في مواجهة عدوهم (¬2). ثم أنزل الله تعالى على المؤمنين النعاس أمانًا لهم، وراحة من عناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركة كانوا في ذروة النشاط والاستعداد. أمَّا النبي - صلي الله عليه وسلم - فلم ينم، بل ظلَّ في عريشه الذي بناه له الصحابة بمشورة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، حيث قال: يا نبي الله، ألا نبنى لك عريشًا تكوّن فيه ونعُدُّ عندك ركائبك؟ ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشدِّ لك حبًّا منهم، ولو ظنُّوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ينصحونك ويجاهدون معك، ¬

_ (¬1) "مختصر تفسير ابن كثير" للشيخ أحمد شاكر 2/ 114. (¬2) "مختصر تفسير ابن كثير" 2/ 94، 95 بتصرف.

فأثنى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش، فكان فيه (¬1). فظلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العريش يدعو ربه، ويستغيث به، ويستنصره. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ في قُبَّةٍ له: "اللهُمَّ إنِّي أَنْشدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللهمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعبد بَعْدَ الْيَوْمِ" فَأَخَذَ أبو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ في الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} [القمر: 45، 46] (¬2). وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله إلى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْقِبلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعبد في الْأرْضِ" فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاة عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِي الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ الله - عز وجل - {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9] (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 144 عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ قال، ثم ذكره، وله شاهد في "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبَّة، وهو الحديث الآتي. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2915)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.

وظلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحالة ليلة السابع عشر من شهر رمضان حتى أصبح. عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ الله تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ (¬1)، وعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أيضًا قَالَ: أَصَابَنَا مِنْ اللَّيْلِ حشٌّ (¬2) مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ (¬3) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنْ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو رَبَّهُ -عز وجل- وَيَقُولُ: "اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدْ"، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلَاةَ عِبَادَ الله فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بنا رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنْ الْجَبَلِ"، فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُم عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ في الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ" -وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ- وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ؟ فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتميتِينَ، لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خيرٌ، يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ أبو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا، وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا، فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ (¬4)؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ، قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً، فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ سِتَّةٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بني عَمِّنَا مِنْ بني عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "قُمْ يَا عَلِيُّ، وَقُمْ يَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (1023). (¬2) حشٌ: أي قليل. (¬3) الحجف: أي التروس. (¬4) هي كلمة تقال للمتنعم المترف الذي لم تحُكُّه التجارب والشدائد.

حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةُ بن الْحَارِثِ بن عبد الْمُطَّلِبِ" فَقَتَلَ الله تَعَالَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بن عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ - رضي الله عنه - (¬1). حيث أَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَل علىٌّ إلى شَيْبَة، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ (¬2) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِال عَلَى وحمزة على الْوَلِيدِ فَقَتَلَاه، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ (¬3). وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] (¬4) فمات عبيدة - رضي الله عنه - بالصفراء (¬5) منصرفه من بدر فدُفن هنالك (¬6). وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - قد منع الجيش من التقدم أو الالتحام مع المشركين إلا أن يكون النبي - صلي الله عليه وسلم - هو المتقدم أولًا، فَقَالَ لهم: "لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلى شَيءٍ حَتَّى أكُونَ أَنَا دُونَهُ" (¬7). ونصح النبي - صلي الله عليه وسلم - جنده وأمرهم، فقَالَ لهم: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ (¬8) فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ" (¬9)، أي: ابقوا على نبلكم ولا تستعملوه حتى يقتربوا منكم، ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (948)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، والألباني في "فقه السيرة" (229). (¬2) أثخن: أي ضربه، ولكن لم يقتله. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2665)، كتاب: الجهاد، باب: في المبارزة. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3965). (¬5) اسم مكان. (¬6) أخرجه الحاكم (4862)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الألباني "فقه السيرة" (233). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. (¬8) أي: اقتربوا منكم. (¬9) صحيح: أخرجه البخاري (3984)، كتاب: المغازي، باب: (10).

حفاظًا على السهام وحتى لا تنفذ من غير فائدة، فأمر النبي - صلي الله عليه وسلم - ألا يضربوا إلا مِنْ قريب، حتى تصيب القوم، فلما أقبل المشركون ودنوا من جيش المسلمين أخذ النبي - صلي الله عليه وسلم - ترابًا من الأرض ثم رماه في وجوه المشركين فما وقع منها شيء إلا في عين رجل منهم (¬1). وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجوم، فَقَالَ لهم: "قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ"، فقَالَ عُمَيْرُ بن الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الله جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: بَخٍ، بَخٍ (¬2). فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ، بَخٍ؟ "، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ الله إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا" فَأَخْرَجَ - عمير بن الحمام- تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ (¬3) فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (¬4). والْتحم الجيشان التحامًا شديدًا، وحمى الوطيس، وظهرت بطولات الصحابة رضي الله عنهم، يتقدمهم النبي - صلي الله عليه وسلم - فهو أشجع الشجعان، حتى إنَّ عليًا - رضي الله عنه - يقول: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم - وَهُوَ أَقْرَبُنَا إلى ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 9/ 217، بأسانيد مرسلة عن قتادة، وعروة، وعكرمة وتشهد له الآية. (¬2) بخ، بخ: فيه لغتان أحدهما: إسكان الخاء، أو كسرها منونًا، وهي: كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. "شرح مسلم" للنووي 7/ 44. (¬3) قرنه: بقاف وراء مفتوحتين، وهي الجُعبة. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.

قال ابن إسحاق

الْعَدُوِّ،- وكَان مِنْ أَشَدِّ الناسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا (¬1). ونزلت الملائكة في ميدان المعركة بقيادة الأمين جبريل -عليه السلام-. قال ابن إسحاق: خفق النبي - صلي الله عليه وسلم - خفقة في العريش ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله فهذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع" (¬2). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِي - صلي الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ" (¬3). وعن ابْن عَبَّاس - رضي الله عنه - أيضًا قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ في أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إلى الْمُشْرِكِ أمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ" (¬4). وأسر رجل من المسلمين الْعَبَّاسَ بن عبد الْمُطَّلِب، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ (¬5) مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 2/ 228، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬2) النقع: الغبار. قال الألباني في "فقه السيرة" (234): وفي "المغازي"، وعند ابن هشام 2/ 68، 69، بدون سند، لكن وصله الأموي من طريق ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير، وهذا سند حسن، وسكت عنه ابن كثير 3/ 284.اهـ. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3995) كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم. (¬5) الأجلح: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه.

مقتل عدو الله أبي جهل

وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ في الْقَوْمِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ الله فَقَالَ: "اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ الله تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ" (¬1). وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} أي: متتابعين {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9،10] (¬2). مقتلُ عدو الله أبي جهل: عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَما أَنَا وَاقِفٌ في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (¬3)، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقالَ: يَا عَمِّ، هَل تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ (¬4) حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، قَالَ: فتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخرُ، فَقَالَ: مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرتُ إلى أبي جَهْلٍ يَزُولُ في النَّاسِ (¬5)، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 2/ 194، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬2) وأما عن حكمة اشتراك الملائكة بهذه الطريقة مع أن جبريل وحده قادر على إهلاكهم بأمر الله، فيوضح السبكي ذلك بقوله: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي - صلي الله عليه وسلم - وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع. والله أعلم. "فتح الباري" 7/ 364، في التعليق على الحديث رقم (3995). (¬3) أضلع منهما: أقوى منهما، أي: تمنيت لو كنت بين أقوى منهما. (¬4) أي لا يفارق شخصي شخصه. (¬5) يزول بين الناس: أي يتحرك بسرعة شديدة بين الناس في ميدان المعركة.

الزبير يقتل عبيدة بن سعيد بن العاص

انْصَرَفَا إلى رَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ " فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ، فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيكُمَا؟ " قَالَا: لَا، فَنَظَرَ في السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَة"، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بن عَمْرِو بن الْجَمُوحِ. وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بن عَمْرِو بن الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بن عَفْرَاءَ (¬1). وفي لفظ: وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ (¬2). الزبير يقتل عُبيدة بن سعيد بن العاص: عن الزُّبَيْر قال: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ (¬3) لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكْنَى أبو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ: أَنَا أبو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ (¬4) فَطَعَنْتُهُ في عَيْنِهِ فَمَاتَ (¬5). مقتل عدو الله أمية بن خلف: بعد ما قَتَلَ أبطال المسلمين في بداية المعركة ثلاثة من أَلدِّ أعداء الإِسلام الذين طالما آذوا المسلمين، وصدوا عن سبيل الله وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وتمكنوا أيضًا في وسط المعركة من قتل صنديد آخر من صناديد قريش وهو أبو جهل، أعانهم الله في آخر المعركة على قتل واحدٍ من ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (3988)، كتاب: المغازي، باب: (10)، مسلم (1752)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل. (¬2) السابق. قلت: ومعاذ بن عمرو بن الجموح أخو معاذ بن عفراء من أمه، ففي الرواية الأولى: نُسب إلى أبيه عمرو بن الجموح، وفي الرواية الثانية: نُسب إلى أمه. وقد ضبط الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "الإصابة" 3/ 1877 اسم معاذ بن عمرو بن الجموح فقال: (معوِّذ). (¬3) مدججٌ: أي مغطى بالسلاح ولا يظهر منه شيء. (¬4) العنزة: الحربة الصغيرة. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3998)، كتاب: المغازي، باب: (12).

أَلدِّ أعداء الإِسلام في مكة، وأشدها ظلمًا لضعفاء المسلمين، وهو أمية بن خلف. عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فَتَسَمَّيتُ -حين أسلمتُ- عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سمَّاكه أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أمَّا أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك مما لا أعرف! قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو، لم أجبه، قال: فقلتُ له: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت نعم، قال: فكنت إذا مررتُ به قال: يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررتُ به وهو واقف مع ابنه عليّ بن أمية آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله فقلتُ: نعم، قال: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك؟ قال: قلتُ: نعم، ها الله (¬1) إذًا، قال: فطرحتُ الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيتُ كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن -أي من أَسَرَني افتديتُ منه بإبل كثيرة اللبن- ثم خرجت أمشي بهما، فقال أمية بن خلف: يا عبد الإله، من الرجل منكم المعَلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلتُ: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالًا بمكة على ترك الإِسلام-، فيخرجه إلى رمضاء (¬2) مكة إذا حَمِيَتْ، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على ¬

_ (¬1) مما يستعملونه في القسم أن يحذفوا حرف القسم ويذكروا في مكانه (ها) فكأنه قال: نعم والله إذًا. (¬2) الرمضاء: الرمل الشديد الحرارة من الشمس.

عدد القتلي والأسرى من المشركين في المعركة

صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تُفارق دين محمَّد، فيقول بلال: أحدٌ أحد قال: فلما رآه قال: رأسُ الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، قال: قلتُ: أي بلال، أَبِأَسيري؟! قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: قلتُ: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المَسَكَة (¬1) وأنا أذبُّ عنه، قال: فأخلف رجلٌ السيفَ (¬2)، فضرب رِجْلَ ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعتُ مثلها قط، قال: فقلتُ: انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أُغْني عنك شيئًا، قال: فهبروهما (¬3) بأسيافهم، حتى فرغوا منهما، قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالًا، ذَهَبتْ أدراعي، وفجعني بأسيري (¬4). فانتهت المعركة بهزيمة المشركين هزيمة نكراء، ونصر كبير للمسلمين. عدد القتلي والأسرى من المشركين في المعركة: عن الْبَرَاء بن عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: وكان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلًا (¬5). بعد انتهاء المعركة: عن أَنَس بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَنْطرُ لَنَا مَا صَنِعَ أبو جَهْلٍ؟ "، فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَكَ، قَال: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: آنْتَ أبو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (¬6) أَوْ قَالَ: ¬

_ (¬1) المَسَكَةُ: السوار، أو الأسورة. (¬2) أي أخرجه من غمده. (¬3) هبروهما: أي قطعوا لحمهما. (¬4) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/ 150، 151، بأسانيد حسنة إلى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأخرجه البخاري (2301)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكَّل المسلم حربيًا في دار الحرب أو في دار الإِسلام جاز. مختصرًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3986)، كتاب: المغازي، باب: (10). (¬6) أي: لا عار عليَّ في قتلكم إياي "شرح مسلم" للنووي.

قَتَلَهُ قَوْمُهُ، ثم قَالَ أبو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي (¬1). ومما حدث أيضًا بعد إنتهاء المعركة أَنَّ النَّبِيَّ - صلي الله عليه وسلم - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخبِثٍ - وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ (¬2) ثَلَاثَ لَيَالٍ -، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (¬3) فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: "يَا فُلَانُ بن فُلَانٍ، وَيا فُلَانُ بن فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنكُمْ أَطَعْتُمْ الله وَرَسُولَهُ، فَإنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا" فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا رْوَحَ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ"، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا (¬4). ثم تحرك النبي - صلي الله عليه وسلم - من بدرٍ راجعًا إلى المدينة، حتى إذا كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علىُّ بن أبي طالب، ثم خرج حتى إذا كان بعرْق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3962)، كتاب: المغازى، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (1800)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل أبي جهل. قَوْله: (فلَوْ غَيْر أَكَّار قَتَلَنِي؟!!) الْأَكَّار: الزَّرَّاع وَالْفلاَّحِ، وَهُوَ عِنْد الْعَرَب نَاقِص، وَأَشَارَ أبو جَهْل إلى اِبْنَي عَفْرَاء اللَّذَيْنِ قَتَلَاه, وَهُمَا مِنْ الْأنْصَار، وَهُمْ أَصْحَاب زَرْع وَنَخِيل، وَمَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ الَّذِى قَتَلَنِي غَير أَكَّار لَكَانَ أَحَبْ إِلَيَّ وَأَعْظَم لِشَأْنِي، وَلَم يَكُنْ عَلَىَّ نَقْص في ذَلِكَ. "شرح مسلم" للنووي 6/ 339, 340. (¬2) العرصة: أي الساحة, أي أقام بساحة المعركة. (¬3) أي: البئر. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (3976)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (2874)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه. (¬5) انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 158، 159.

وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أنها قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ في فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ في فِدَاءِ أبي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أبي الْعَاصِ قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا"، قَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - أَخَذَ عَلَيْهِ، أَوْ وَعَدَهُ، أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ (¬1). وكان النبي - صلي الله عليه وسلم -لما فرغ من بدر- قد أرسل بشيرين إلى أهل المدينة، بعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية يبشرونهم بفتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فوافق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوى التراب على رقية بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقيل له: ذاك أبوك حين قدم قال أسامة: فجئتُ وهو واقف للناس يقول: قُتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام ونُبيه ومنبِّه وأمية بن خلف فقلتُ: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بنيَّ (¬2). وقسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم على الصحابة رضوان الله عليهم. عَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ في آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، فَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم - لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيلُ وَفاءَ النَّاسُ بَعْضهُمْ ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أبو داود (2692)، كتاب: الجهاد، باب: فداء الأسير بالمال، وحسنه الألباني. (¬2) حسن: أخرجه الحاكم (4959)، كتاب: معرفة الصحابة من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، وصالح بن أبي أمامة بن سهيل عن أبيه به. اهـ وعبد الله (ثقة)، وقال الحاكم: على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي 9/ 183.

وأما عن الأسرى

إلى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا في طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ الله - صلي الله عليه وسلم -، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، وَاشْتَغَلْنَا بهِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] فَقَسَمَهَا رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - عَلَى فَوَاقٍ بَينَ الْمُسْلِمِينَ (¬1). وحدث أيضًا كما يقول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: جِئْتُ إلى النَّبِي - صلي الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الله قَدْ شَفَى صَدْرِي الْيَوْمَ مِنْ الْعَدُوِّ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، قَالَ: "إِنَّ هَذَا السَّيفَ لَيسَ لِي وَلَا لَكَ"، فَذَهَبْتُ وَأَنَا أَقُولُ: يُعْطَاهُ الْيَوْمَ مَنْ لَم يُبْلِ بَلَائِي! فَبَيْنَا أَنَا إِذْ جَاءَنِي الرَّسُولُ - صلي الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "أَجِبْ"، فَظَنَنْتُ أنَّهُ نَزَلَ فِئ شَيءٌ بِكَلَامِي، فَجِئْتُ فَقَالَ لِي النَّبِي - صلي الله عليه وسلم -: "انَّكَ سَألْتَنِي هذَا السَّيفَ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا لَكَ، وَإِنَّ الله قَدْ جَعَلَهُ لِي، فَهُوَ لَكَ" ثمَّ قَرَأَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] (¬2). وأما عن الأسرى: فعن عمر - رضي الله عنه - قال: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - لِأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "ما تَرَوْنَ في هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ " فَقَالَ أبو بَكْرٍ: يَا نَبِي الله هُمْ بنو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ منهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى الله أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ "، قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ الله مَا أرَى الَّذِي رَأَى أبو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (22661) بإسناد صحيح. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1748)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال، وأبو داود (2740)، كتاب: الجهاد، باب: في النفل.

عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - مَا قَالَ أبو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - وَأبو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاء بَكَيتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخذِهمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِي الله صلى الله عليه وسلم - وَأَنْزَلَ الله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال:67 - 69] فَأَحَلَّ الله الْغَنِيمَةَ لَهُمْ (¬1). ففدى النبي - صلي الله عليه وسلم - الأُسارى بمال. وجاء في بعض الروايات أن قدر الفدية كان أربعة آلاف درهم (¬2). وعن أَنَس بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، قَالَ: وَاللهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا (¬3). وقال النَّبِي - صلي الله عليه وسلم - في أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطعِمُ بن عَدِيٍّ حَيا ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتهُمْ لَهُ " (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم. (¬2) "مجمع الزوائد" 6/ 90، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير"، "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4018)، كتاب: المغازي، باب: (12). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4024)، كتاب: المغازي، باب: (12). قال النبي - صلي الله عليه وسلم - ذلك وفاءً للمطعم، فالمطعم كان ممن مزقوا صحيفة قريش الجائرة وأخرجوا النبي - صلي الله عليه وسلم - من شعب أبي طالب، وأيضًا هو الذي أدخل النبي - صلي الله عليه وسلم - مكة في جواره بعد عودته من الطائف.

فضائل من شهد بدرا من الصحابة والملائكة

فضائل من شهد بدرًا من الصحابة والملائكة: عَنْ رِفَاعَة بن رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ -وهو مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ- قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: "مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ" -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ (¬1). وقَالَ النَّبِي - صلي الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب لما قَالَ للنبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) -في قصة حاطب بن أبي بلتعة- دَعْنِي يَا رَسُولَ الله أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ له رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (¬2). وجاء عبد لِحَاطِب يَشْكُو حَاطِبًا للنبي - صلي الله عليه وسلم - وقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" (¬3). وأُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ حارثة وَهُوَ غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إلى النَّبِيّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ في الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ في جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3992)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3983)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، مسلم (2494)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2495)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3982)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا.

10 - وفي هذه السنة: فرضت زكاة الفطر، وفرضت الزكاة ذات النصب

10 - وفي هذه السنة: فُرضَتْ زكاةُ الفطر، وفُرضَتْ الزكاة ذات النُصُب. الشرح: قال ابن كثير -رحمه الله-: وفيها -السنة الثانية- فرضت الزكاة ذات النُّصُب، وفرضت زكاة الفطر (¬1). وزكاة الفطر هي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان وقد أوجبها النبي - صلي الله عليه وسلم - على كل مسلم. عَنْ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه - قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعبد وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ (¬2). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ الله - صلي الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاة مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صدَقَة مِنْ الصَّدَقَاتِ (¬3). وأما زكاة النصب فهي زكاة المال، وتعريفها: أنها نصيب مقدر في مال معين، يصرف لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. والأموال التي تجب فيها الزكاة هي: 1 - الأثمان: وهي الذهب والفضة. ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 3/ 371. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجة (1827)، وحسنه الألباني.

11 - وفي مرجعهم من بدر توفيت رقية بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم -

قَالَ - صلي الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيءٌ - يَعْنِي: في الذَّهَب- حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَولُ فَفِيهَا نِصفُ دِينَارٍ" (¬1). 2 - بهيمة الأنعام: وهي الإبل، والبقر، ويشمل الجاموس، والغنم وتشمل المعز (¬2). 3 - الخارج من الأرض: أي: الزروع. قَالَ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. وقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وعَنْ ابن عمر قَالَ: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ". وعَنْ أبي سَعِيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "لَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" (¬3). 4 - عروض التجارة: قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]. 11 - وفي مرجعهم من بدر توفيت رقية بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. الشرح: خَلَّف النبيُّ - صلي الله عليه وسلم - عثمانَ بن عفان وأسامة بن زيد - رضي الله عنهم - على رقية وهي مريضة، ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1570)، وأحمد (915)، وصححه الألباني. (¬2) ولها تفصيل في كتب الفقه. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (1405)، ومسلم (979).

12 - وفي رمضان من هذه السنة: قتل عمير بن عدي - رضي الله عنه - عصماء بنت مروان اليهودية بسبب أذاها للمسلمين

وخرج إلى بدر وهي وجعة، فماتت - رضي الله عنها - قبل رجوع النبي - صلي الله عليه وسلم - من بدر إلى المدينة، وقام بدفنها زوجها عثمان - رضي الله عنه - (¬1). 12 - وفي رمضان من هذه السنة: قَتَلَ عميرُ بن عدي - رضي الله عنه - عصماءَ بنت مروان اليهودية بسبب أذاها للمسلمين. الشرح: خرج عمير بن عدي - رضي الله عنه - إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، لخمس ليالٍ بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرًا من مُهاجر رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وكانت عصماء عند يزيد بن زيد، وكانت تعيبُ الإِسلام، وتؤذي النبي - صلي الله عليه وسلم - وتحرض عليه، وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدي في جوف الليل، حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها، فجسها بيده، وكان ضرير البصر، ونحّى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلى الصبح مع النبي - صلي الله عليه وسلم - بالمدينة، فقال له رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أقتلتَ ابنة مروان؟ " قال: نعم، فهل عليَّ في ذلك من شيء فقال: "لا ينتطحُ فيها عنزان" فكانت هذه الكلمة أول ما سُمِعت من رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُميرًا البصير (¬2). 13 - وفي هذه السنه: خرج بهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد، وكان ذلك أول خَرْجة خرجها بالناس إلى المصلى لصلاة العيد. الشرح: وفي هذا العام سن الله للعالم الإِسلامي سنة عظيمة، بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يُجددوا عهود الإخاء، ويقووا عروة الدين الوثقى، ¬

_ (¬1) سبق تخريج ما يدل على ذلك، وهو صحيح. (¬2) "عيون الأثر" 1/ 441، 442. بتصرف يسير.

14 - وفي شوال من هذه السنة: قتل سالم بنه عمير رضى الله عنه أبا عفك اليهودي لتحريضه علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهي الاجتماع في يومي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد، ويصلي بهم ركعتين تضرعًا إلى الله أن لا يفصم عُروتهم، وأن ينصرهم علي عدوهم، ثم يخطبهم حاضًا لهم على الائتلاف، مذكرًا لهم ما يجب عليهم لأنفسهم، ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضًا، وبعد ذلك يخرجون لأداء الصدقات للفقراء والمساكين، حتى يكون السرور عامًا لجميع المسلمين، فبعد الفطر زكاته، وبعد الأضحى تضحيته، نسأله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا، ويوفقنا لأعمال سلفنا (¬1). 14 - وفي شوال من هذه السنة: قتل سالم بنه عمير رضى الله عنه أبا عَفَكٍ اليهودي لتحريضه علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: ثم كانت سرية سالم بن عمير رضى الله عنه إلى أبي عَفَكٍ اليهودي في شوال على رأس عشرين شهرًا من مُهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخاً كبيرًا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهوديًا، وكان يُحرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول الشعر، فقال سالم بن عمير -وهو أحد البكائين وممن شهد بدرًا- علىَّ نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غِرَّة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، وسمع به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خشَّ في الفراش، وصاح عدو الله، فثاب إليه ناسٌ ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه. فقالت أمامة الزيدية في ذلك: تُكذِّب دين الله والمرءَ أحمدا ... لَعمرُ الذي أمْناكَ أنْ بئس ما يُمني ¬

_ (¬1) "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" الشيخ محمَّد الخضري رحمه الله (94، 95).

15 - في شوال من هذه السنة: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنى سليم حتي بلغ الكدر.

حباك حَنيفٌ آخر الليل طعنةً ... أبا عُفَكٍ خُذْها على كَبْرَةِ السِّنِّ (¬1) 15 - في شوال من هذه السنة: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنى سُليمٍ حتي بلغ الكُدْر. الشرح: قال ابنُ إسحاق رحمه الله: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة -أيْ بعد بدر- لم يقم بها إلا سبع ليالٍ حتى غزا بنفسه يُريدُ بني سليم. قال ابنُ هشام رحمه الله: واستعمل على المدينة سباعَ بن عُرْفُطَة الغِفاريَّ، أو ابن أُمِّ مكتوم. قال ابن إسحاق رحمه الله: فبلغ ماءً من مياههم يُقالُ له الكُدْر فأقام عليه ثلاث ليالٍ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وأُفْدي في إقامته تلك جُلُّ الأُسارى من قريش (¬2). 16 - وفي هذه السنة: بعد غزوة بدر بشهر هاجرت زينبُ رضى الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: فك النبي - صلى الله عليه وسلم - أسر أبي العاص بن الربيع يوم بدر على أن يخلي سبيل ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 1/ 442، 443. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 235، 236.

زينب رضى الله عنها. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - زَيدَ بن حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ليأتيا بزينب رضى الله عنها، وقَالَ لهما: "كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ (¬1)، حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِياني بِهَا" (¬2). فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو قريب منه، ولما قدم أبو العاص بن الربيع مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجتْ تجهَّز، فلقيتها هند بنت عتبة، فقالت: يا بنت محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقالت: ما أردت ذلك، فقالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تضْطَّني (¬3) مني فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال، تقول زينب: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، ولكني خِفتُها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهَّزتُ. فلما فرغتْ من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، بعيرًا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا، وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبَّارُ بن الأسود بن المطلب بن أسد، فروعها هبَّار بالرُمح، وهي في هودجها، وكانت المرأة حاملاً- فيما يزعمون- فلما ريعت طرحتْ ذا بطنها (¬4) وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا، فتكركر الناس عنه (¬5) ¬

_ (¬1) يأجج: اسم لماكنين: أحدهما على ثمانية أميال من مكة وثانيهما أبعد منه. (¬2) صحيح: وقد سبق تخريجه. (¬3) فلا تضطني: أي فلا تستحيي. (¬4) أي أسقطت ما في بطنها. (¬5) أي: رجعوا عنه.

17 - وفى هذه السنه: تزوج علي بن أبي طالب رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأتى أبو سفيان في جله من قريش، فقال: أيها الرجل، كفَّ عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل أبوسفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خَرَجْتَ بالمرأة على رءؤس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرهنَّ أن ذلك عن ذلِّ أصابنا عن مصيبتنا التي كانت وأن ذلك منا ضعفٌ ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ومالنا في ذلك من ثؤرة (¬1)، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصواتُ، وتحدث الناس أن قد رددناها، فَسُلَّها سرًا وألحقها بأبيها. ففعل، فأقامت ليالي، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلاً حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- (¬2). 17 - وفى هذه السنه: تزوج عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: تزوج علىٌّ رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها - في أواخر السنة الثانية- كما رجَّح ذلك ابن كثير رحمه الله (¬3). عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْطِهَا شَيئًا"، قَالَ: مَا عِنْدِي شَئءٌ، قَالَ: "أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟ " (¬4) فكان هذا هو ¬

_ (¬1) أي: من ثأر. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 165، 166. بتصرف يسير. (¬3) انظر: "البداية والنهاية" 3/ 370. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (2125)، كتاب: النكاح، باب: في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئًا. الحُطميَّة: نسبة إلى بطن من عبد القيس، يقال لهم: حُطَمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع.

18 - وفى هذه السنة: أسلم عمير بن وهب الجمحي حينما رأى علامة من علامات النبوة.

مهر بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. 18 - وفى هذه السنة: أسلم عُمير بن وهبٍ الجُمَحيُّ حينما رأى علامة من علامات النبوة. الشرح: هو: عُميربن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمح القرشيُّ الجُمحىُّ: يكني: أبا أمية (¬1). وكان قد جلس عمير مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحِجْر، وكان عمير ممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنه وهب ابن عمير في أُسارى بدر. فذكر أصحاب القليب ومُصابهم، فقال صفوان: والله إنْ في العيش بعدهم خير (¬2) قال له عمير: صدقت والله أما والله لولا دَيْنٌ علىَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلَهُمْ علةً؛ ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان وقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عُميرِ: فاكتم عني، قال: أفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحِذ له (¬3) وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عُمير بن وهب حين ¬

_ (¬1) "الإصابة في تمييز الصحابه" 2/ 1381. (¬2) أي: ما في العيش بعدهم خير، فـ (إن) هنا نافية. (¬3) شُحِذ له: أي حُدَّ له.

أناخ على باب المسجد متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشرٍّ، وهو الذي حرَّش بيننا (¬1)، وحَزَّرَنا (¬2) للقوم يوم بدرٍ. ثم دخل عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عُمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: "فأدخله عليَّ" قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ((أرسله يا عمر، ادنُ يا عُمير)) فدنا ثم قال: انْعَمُوا صباحاً- وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((قد أكرمنا الله بتحية غير تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة)) فقال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: ((فما جاء بك يا عمير؟)) قال: جئتُ لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: ((فما بالُ السيف في عُنقك؟)) قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنتْ عنا شيئًا؟! قال:"اصدقني، ما الذي جئت له؟)) قال: ما جئتُ إلا لذلك، قال: ((بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْنٌ عليَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بِدَينكَ وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك)) قال عمير: أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نُكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد عمير شهادة الحق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "فَقِّهوا أخاكم في دينه وأَقْرِءوه القرآن وأطلقوا له أسيره" ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله - عزّ وجلّ -، وأُحِبُّ أن تأذن لي، فأقدم ¬

_ (¬1) أي: أفسد بيننا، ويقصد عمر أنه هو الذي أوقع بين المسلمين وقريش وأفسد بينهم يوم بدر. (¬2) حزرنا: أي قَدَّرَ عددنا.

19 - وفي شوال من هذه السنة: نقض يهود بني قينقاع العهد فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن المدينه.

مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله- صلى الله عليه وسلم - وإلى الإِسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير من مكة يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تُنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الرُّكبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف ألَّا يُكَلَّمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا (¬1). 19 - وفي شوال من هذه السنة: نقض يهود بني قينقاع العهد فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن المدينه. الشرح: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاهد أهل المدينة -كما تقدم- بعد وصوله إليها - صلى الله عليه وسلم -، وكانت اليهود ومنهم يهود بني قينقاع من أهل هذه المعاهدة، وكان من شروط هذه المعاهدة ألا يعتدي طرفٌ على الآخر، وألا يغدر طرف بالآخر. ولكن اليهود كعادتهم منذ وُجِدوا على وجه هذه البسيطة لا عهد لهم ولا ميثاق ولا ذمة، قوم غُدُرٌ، قوم ملئوا الدنيا غدرًا وفسادًا، ووقيعة بين أهل الأرض. فلما كان هذا هو طبع اليهود ودأبهم الذي لا يَنْفَكُّ عنهم، لم يحفظ يهود بني قينقاع ما عاهدوا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحترموه، فكان جزاؤهم أن أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة، ليرتاح ويريح مَنْ بالمدينة منهم. أما عن تفاصيل ما فعلوه، وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم، فيرويه ابن إسحاق رحمه الله فيقول: وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 171،170، عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، به مرسلًا.

فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم" قالوا: يا محمد، إنك ترى أنَّا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنَّا والله لئن حاربنا لتعلمن أنَّا نحن الناس. فما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} أي: أصحاب بدر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} [آل عمران:12, 13]. فكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وحاربوا فيما بين بدر وأُحد فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على مكة، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد أحسن في موالي، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أرسلني"، وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللاً (¬1)، ثم قال: ((ويحك! أرسلني))، قال: لا، والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعُ مئة حاسر (¬2) وثلاثُ مئة دارع (¬3)، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"هم لك"، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، حيث تم تقسيمها بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول - صلى الله عليه وسلم -. حيث مشى عبادة بن الصامت رضى الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف ¬

_ (¬1) الظلل: جمع ظُلة، وهو في الأصل السحابهّ، فاستعارها هنا لتغير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الحاسر: الذي لا درع له. (¬3) الدارع: لابس الدرع.

وذكر ابن هشام سببا آخر للغزوة فقال

لهم في حِلْفِه مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أُبىّ، فخلعهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وتبرأ إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله من حِلْفِهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: كعبد الله بن أبي وقوله: إني أخشى الدوائر {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة:51 - 56] (¬1). واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في محاصرته إياهم بَشير بن عبد المنذر، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة (¬2). وذكر ابن هشام سببًا آخر للغزوة فقال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب (¬3) لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعهد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 238، 240. بتصرف. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 239. (¬3) الجلب: كل ما يجلب إلى السوق ليباع فيها.

20 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: وقعت غزوة السويق.

بني قينقاع (¬1). وقد يكون كلاهما حدث. والله أعلم. 20 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: وقعت غزوة السَّويق. الشرح: كان أبو سفيان بن حرب نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فخرج في مئتي راكبٍ من قريش، لِيبرَّ يمينه، فسلك النجدية، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثَيْب، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُييَّ بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلاَّم بن مِشْكَم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحا كنزهم (¬2)، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه (¬3) وسقاه وبطن له من خبر الناس (¬4)، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها، يقال لها: العُريض، فحرقوا فيه أصوار (¬5) من نخل بها، ووجدوا بها رجلاً من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس (¬6)، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم حتى بلغ قَرْقَرُة الكُدْر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزوادًا من أزواد القوم قد طرحوها في ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 239. (¬2) يريد بالكنز المال الذي يجمعونه للطوارئ ويعدونه للنوائب التي تنوبهم وتعرض لهم. (¬3) فقراه: أي صنع له القِرَى، وهو الطعام الذي يُقدَّم للضيف. (¬4) أي: أعلمه من سرهم. (¬5) الأصوار: جمع صور، وهي الجماعة من النخل. (¬6) نذر بهم: أي علم بهم.

21 - وفي ذي الحجة أيضا من هذه السنة: توفي عثمان بن مظعون رضى الله عنه ودفن بالبقيع، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة.

الحرث يتخففون منها للنجاء (¬1) فقال المسلمون، حين رجع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: "نعم". واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة بَشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة. وإنما سُمِّيتْ غزوة السَّويق (¬2) , لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسُميتْ غزوة السويق (¬3). 21 - وفي ذي الحجة أيضًا من هذه السنة: تُوفِّي عثمان بن مظعون رضى الله عنه ودُفن بالبقيع، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة. الشرح: هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جُمح الجُمحىُّ (¬4). قال ابن حجر: توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم (¬5). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بن مَظعُونٍ، قَالَتْ امْرَأَةٌ - وفي رواية: امرأته-: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَيهَا نَظَرَ غَضْبَانَ، فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكِ؟))، قَالَت: يَا رَسُولَ الله، فَارِسُكَ وَصَاحِبُكَ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) النجاء: السرعة. (¬2) السَّويق: أن تحمص الحنطة أو الشَّعير ثم تُطحن ثم يسافر بها، وقد تمزج باللبن والعسل والسمن تُلَتُّ به. (¬3) "سيرة ابن هشام" 2/ 236، 237. بتصرف. (¬4) "الإصابة" 2/ 1240. (¬5) "الإصابة" 2/ 1241.

22 - وفي هذه السنة: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقل، فكان معلقا بسيفه.

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ إِنِّي رَسُولُ الله وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي"، فَأَشْفَقَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ الْخَيْرِ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ"، فَبَكَتْ النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ وَقَالَ: "مَهْلًا يَا عُمَرُ"، ثُمَّ قَالَ: ((ابْكِينَ وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ))، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ مَهمَا كَانَ مِنْ الْعَينِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ الله عزوجل وَمِنْ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ" (¬1). 22 - وفي هذه السنة: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقل، فكان مُعَلَّقًا بسيفه. الشرح: قال ابن جرير رضى الله عنه: وفيها - أي: في السنة الثانية - كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقل, وكانت مُعلقة بسيفه (¬2). والمعاقل أي: الديات، وتسمى الدية بالعقل، وأهل ذلك أن القاتل كان إذا ¬

_ (¬1) صحيح الإسناد: أخرجه أحمد (2127)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وورد عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يُقَبِّل عثمان بن مطعون، وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيلُ. أخرجه أبو داود (3163)، الترمذي (989)، ابن ماجه (1456)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، ثم تراجع عن تصحيحة أخيرًا، وقال في الضعيفة: منكر، وصرح بتراجعه عن التصحيح. وفيه: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال فيه البخاري وغيره- كما في "التقريب"-: منكر الحديث. (¬2) "البداية والنهاية" 3/ 371.

23 - وفي عيد الأضحى من هذه السنة: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أحدهما عن أمته والآخر عن محمد وآله.

قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي: شدها بعقُلها لتسليمها إليهم، يقال: عَقَلْت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته (¬1). وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - الديات في النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي ألْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا: مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ (¬2): ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ (¬3): مِثْلُهَا، وَفِي الْعَيْنِ: خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ: خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ: خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ (¬4) خَمْسٌ (¬5). 23 - وفي عيد الأضحى من هذه السنة: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أحدهما عن أمته والآخر عن محمد وآله. الشرح: قال ابن سيد الناس رحمه الله: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين (¬6)، فإذا ¬

_ (¬1) "الوجيز" (459). (¬2) المأمومة: التي لا يبقى بينها وبين الدماغ إلا جلدة رقيقة. (¬3) كل ما يصل إلى الجوف، كبطن، وظهر، وحلق، وصدر. (¬4) الموضحة: التي تبرز إلى العظم وتوضحه وتبرزه. (¬5) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 849، قال الألباني في "الإرواء" 7/ 300: وهو مرسل صحيح الإسناد، قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد" 14/ 185: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روى مسندًا من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقى الناس له بالقبول والمعرفة. اهـ. (¬6) الأملح: هو الذي يكون بياضه أكثر من سواده.

صلى وخطب أُتى بأحدهما وهو قائم في الصلاة، فيذبحه بيده بالمُدية، ثم يقول:"هذا عن أمتي جميعًا، ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ"، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه هو عن نفسه، ثم يقول:"هذا عن محمد وآل محمد" فيأكل هو وأهله منه، ويُطعم المساكين، وكان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية (¬1). ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 1/ 374.

السنة الثالثة من الهجرة

السنة الثالثة من الهجرة

السنة الثالثة من الهجرة وفيها ثلاثة عشر حدثاً: 1 - في المحرم من هذه السنة: وقعتْ غَزْوَةُ نَجدٍ عند ماءٍ يقَالُ له (ذو أمَرّ). الشرح: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد رجوعه مِن غزوة السويق، فأقام بقية ذى الحجة، ثم غزا نجدًا يريد غطفان، حيث تجمعوا عند مَاءٍ يقالُ له (ذو أمَرّ) بناحية نجدٍ، واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأقام بنجدٍ صفرًا كلَّه أو قريباً مِن ذلك، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا (¬1). 2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: قتل كعبُ بن الأشرف اليهودىُّ بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين على الإِسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طيء، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده على المسلمين، حتى انتصر المسلمون على المشركين في موقعة بدر، وجاء الخير، فلم يستطع كتم مَا بداخله من حقد وغيظ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الإسلام والمسلمين، حتى إنه قال حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ¬

_ (¬1) انظر:"سيرة ابن هشام" 2/ 237 - 238.

فلما تيقن عدوُّ الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضُبيرة السهمىَّ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته وجعل يحرَّض على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبَّبَ بنساء المسلمين (¬1) حتى آذاهم (¬2) فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لِكَعْبِ بن الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله وَرَسُولَهُ؟ "، فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَمُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: ((قُلْ))، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً - يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ قَدْ عزَّانا (¬3)، وإنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى أَيِّ شَئءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، قَالَ: نَعَمِ ارْهَنُونِي، قَالُوا: أَيَّ شَئءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرهَنُكَ اللَّأْمَةَ- يَعْنِي السّلَاحَ- فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا (¬4) وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وأبو عيسى بن جبر، والحارث بن أوس وعباد بن بشر. ومشى معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بقيع الغرْقد، ثم وجههم، فقال: "انطلقوا ¬

_ (¬1) شبب بنساء المسلمين: أي تغزل فيهنَّ وذكرهن في شعره. (¬2) من "سيرة ابن هشام" بتصرف. (¬3) أي: أتعبنا. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4037)، كتاب: المغازي، باب: قتل كعب بن الأشرف، ومسلم (1801)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود.

على اسم الله اللهم أعنهم" ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب في مِلحفته، فأخذت امرأته بناصيتها، وقالت: إنك امرؤ محارَب، وإنَّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شامَ يده في فود رأسه (¬1)، ثم شمَّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأنَّ، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذكرتُ مغولاً (¬2) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حِصن إلا وقد أوقدت عليه نارٌ قال: فوضعته في ثُنَّته (¬3)، ثم تحاملتُ عليه حتى بلغتُ عانته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتى سلكنا علي بني أمية بن زيد، ثم علي بني قُريظة، ثم على بُعاث حتى أسْندْنا (¬4) في حرة العريض (¬5) وقد أبطأ علينا صاحبنا ¬

_ (¬1) شام يده: أي أدخل يده، وفود رأسه: أي جانبه من جهة الأذن، ومعناه أدخل يده في رأسه. (¬2) المغول: السكين. (¬3) الثُنَّة: ما بين السرة والعانة. (¬4) أسندنا: ارتفعنا. (¬5) حرة العريض: مكان بالمدينة.

3 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: عقد عثمان بن عفان رضى الله عنه على أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة أختها رقيه، وبنى بها في جمادى الآخرة.

الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتْبعُ آثارنا، قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جُرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه (¬1). 3 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: عقد عثمان بن عفان رضى الله عنه على أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة أختها رقيه، وبنى بها في جمادى الآخرة. الشرح: قال ابن كثير رحمه الله: وفيها - أي: في السنة الثالثة- عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة أختها رُقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها (¬2). 4 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: وقعت غزوة الفرع من بُحران. الشرح: وفي ربيع الآخر من السنة الثالثة غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يريد قريشًا، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، حتى بلغ بُحران (¬3) من ناحية الفرع، فأقام بها شهر ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/ 244، 245، عن ابن إسحاق بسند صحيح عن ابن عباس رضى الله عنه. (¬2) "البداية والنهاية" 4/ 71. (¬3) قيده جماعة بفتح الباء، وقيده آخرون بضمها.

5 - وفي جمادى الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى القردة، فغنموا عيرا ومالا لقريش.

ربيع الآخر وجمادى الأولى؛ ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا (¬1). 5 - وفي جمادى الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى القَرَدَةِ، فغنموا عيرًا ومالاً لقريش. الشرح: وسرية زيد بن حارثة التي بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان بن حرب على القَرَدَة، ماء من مياه نجد، وكان من حديثها: أنَّ قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تُجار فيهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي عُظْم تجارتهم، واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل، يقال له: فرات بن حيَّان يدُلُّهم على الطريق. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، فقدم بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 6 - وفي شعبان من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما -. الشرح: عن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بنتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بن حُذَافَةَ السَّهْمِيّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ في أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 2/ 238. (¬2) "سيرة ابن هشام" 2/ 240.

7 - وفي رمضان من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خزيمة أم المساكين - رضي الله عنها -.

يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بنتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أبو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا فَلَم أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبِلْتُهَا (¬1). 7 - وفي رمضان من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خزيمة أم المساكين - رضي الله عنها -. الشرح: ذكر ابن حجر - رحمه الله -: أن زينب بنت خزيمة - رضي الله عنها - كانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: كانت تحت الطفيل ابن الحارث، ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث، فقتل عنها ببدر، فخطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها في رمضان سنة ثلاث، ثم لم تلبث إلا شهرين أو ثلاثة، وماتت وقيل: ثمانية أشهر. وكانت تُسمى أم المساكين, لأنها كانت تطعمهم، وتتصدق عليهم (¬2). 8 - وفي رمضان من هذه السنة: ولد الحسنُ بن علي - رضي الله عنهما -. الشرح: قال ابن حجر - رحمه الله-: الحسن بن عليِّ، أمير المؤمنين، أبو محمد، ولد في نصف شهر رمضان ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5122)، كتاب: النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير. (¬2) "الإصابة" 4/ 2520.

9 - وفي شوال من هذه السنة: وقعت غزوة أحد.

سنة ثلاث من الهجرة وقيل: في شعبان منها، وقيل: ولد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت (¬1). 9 - وفي شوال من هذه السنة: وقعتْ غزوة أحد. الشرح: لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بالٌ منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلتْ في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِلَ زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعتْ هيبتُها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالبون بالثأر واسترداد الكرامة. فأخذوا يعدودن لذلك منذ رجوعهم من بدر. بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجتْ من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر (¬2). وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل (¬3)، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، وخرج معهم من أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة (¬4). وقد رَأى النَّبيُ - صلى الله عليه وسلم - هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه- رضوان الله عليهم- فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:"رَأَيْتُ في رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُه فَإذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى ¬

_ (¬1) "الإصابة" 1/ 374. بتصرف. (¬2) ذكر ذلك ابن هشام في سيرته 3/ 3، عن ابن إسحاق عن بعض التابعين مرسلاً. (¬3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3. (¬4) السابق.

فَعَادَ أَحْسَنَ ممَا كَانَ، فَإذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الله مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ" (¬1) أي: هم المؤمنون الذين قتلوا يوم أُحُد. وفي رواية: "وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَاَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ" (¬2). ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فَقَالَ لهم: "لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا في الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شَأْنكُمْ إِذًا"، ولَبِسَ - صلى الله عليه وسلم - لَأْمَتَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ" (¬3). فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط, ومائة دارع (¬4). ولَبِسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَيْنِ (¬5). واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس (¬6). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4081)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (2272)، كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (14723)، الدارمي 2/ 55، الحاكم 2/ 129، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬3) التخريج السابق. (¬4) "تاريخ الطبري" 3/ 504، "الطبقات" 3/ 44. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2590)، كتاب: الجهاد، باب: في لبس الدروع، والترمذي (1692)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود". (¬6) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.

ثم سار بالجيش متوجهًا إلى أُحُد (¬1) حتى إذا كانوا بالشَّوْط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني (¬2) ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال (¬3). وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 167,166]. وما جعل الله ذلك إلا ليميز الخبيث من الطيب. يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. وكاد بنو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ أنْ يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أنْ ثبتهم الله. ¬

_ (¬1) يقع جبل أحد في شمال المدينة، وكان يرتفع 128 مترًا أما الآن فيرتفع 121 مترًا فقط بسب عوامل التعرية، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي 5.5 كيلو مترًا، بدءًا من باب المجيد أحد أبواب المسجد النبوي. "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 378. (¬2) أي: أطاعهم في الخروج والقتال خارج المدينة، وعصاه حيث كان يرى القتال بداخل المدينة. (¬3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122] (¬1). ولما رجع المنافقون وتركوا الجيش قال فريق من أصحاب النبيِ - صلى الله عليه وسلم -: نُقَاتِلُهُمْ، وقال فريق آخر: لَا نُقَاتِلُهُمْ، فأنزل الله عزوجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ" (¬2). وفي الطريق استعرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجيش فردَّ صغار السن, ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان عمره أربعة عشر سنة (¬3). وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سيفاً وقال: "مَن يأخذ هذا السيف بحقه" فقام إليه رجال كلٌ يقول: أنا، أنا، فامسكه عنهم وقال: "من يأخذه بحقه" فقام أبو دُجانة سماكُ بن خَرَشة وقال: وما حقه يا رسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني" فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إيَّاه، وكان أبو دُجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أُعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيُقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عصابته تلك، ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4051)،كتاب المغازي باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} , مسلم (2505)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل الأنصار - رضي الله عنهم -. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4050):كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد, ومسلم (2776)، كتاب: صفات المنافقين وأحوالهم. ومعنى أركسهم: أي ردهم. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4097)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.

فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى أبا دُجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" (¬1). وتقدم الجيش الإِسلامي إلى ميدان أحد وأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجه جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أحد لحماية ظهر المسلمين من أن يُداهمهم أَحدٌ من خلفهم، ثم عزَّز ذلك بخمسين راميًا بقيادة عبدلله بن جبير - رضي الله عنه - أوقفهم على جبل عَيْنَيْن (¬2) - الذي يقع خلف جبل أُحُد- حتى إذا فكَّر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابلٍ من النبال فمنعوه من ذلك، وشدد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم" (¬3). وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أحد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي - صلى الله عليه وسلم - القائد. وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة - رضي الله عنه - وبين رجل من المشركين يقال له سِباع، حيث خرج سِباع هذا من بين الصفوف - لما اصطف الفريقان للقتال- ¬

_ (¬1) "سيرة بن هشام" 3/ 3، وأصل الحديث عند مسلم (2470)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة - رضي الله عنه -. (¬2) الذي سُمِّي بعد أحُدٍ بجبل الرماة. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، أبو داود (2662)، كتاب: الجهاد، باب: في الكُمناء، وأحمد (18501)، واللفظ لهما.

فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة - رضي الله عنه - فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مُقطّعة البظور (¬1) أَتُحادُّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة - رضي الله عنه - فقتله (¬2)، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان, والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم، وقاتل أبو دُجانة بسيف النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فلق به هام المشركين (¬3)، حتى قتل في أول النهار من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة (¬4). وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] (¬5) أي: ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون الذي وعدكم إياه إن أطعتم الله ورسوله، أن لكم النصر على الأعداء. وفي وسط المعركة جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: "في الْجَنَّةِ"، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (¬6). ¬

_ (¬1) مُقطِّعة البظور: أي التي تختن النساء، فهي تقطع بظر المرأة عند ختنها. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬3) سبق تخريجه. هام المشركين: أي رؤوس المشركين. (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬5) الحسُّ: القتل، أي: إذ تقتلونهم بإذنه. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري (4046)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، مسلم (1899)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. وهذا الرجل غير عُمير بن الحُمام الذي استشهد يوم بدر، حيث جاء في رواية: (قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ...).

مخالفة الرماة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -

مخالفة الرماة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فَقَالَ لهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه -: عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا (¬1). فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط (¬2)، واستغل إِبْلِيسُ عليه لَعْنَةُ الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أَيْ عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ مع أُخْرَاهُمْ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حُذَيْفَةَ بن اليمان - رضي الله عنهما - رأى أباه الْيَمَانِ- رضي الله عنه - يضربه المسلمون، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ الله أَبِي، أَبِي، فمَا احْتَجَزُوا عنه حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ الله لَكُمْ (¬3). وفي وسط المعركة قُتل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - سفير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قبل الهجرة- الذي قيل أنه كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أسيد بن حضير الذي كان يحمل لواء الأوس، والخُباب ابن المنذر الذي كان يحمل لواء الخزرج (¬4) قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجع ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أُحُد. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4065)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]. (¬4) جاء ذكر الألوية في "مغازي الواقدي" 1/ 33.

إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قتل مصعب - رضي الله عنه - أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1). وَصَاحَ الشَّيْطَانُ وسط الميدان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُشَكَّ أحد أَنَّهُ حَقٌّ (¬2). فلما انتشر الخبر وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوى بعض المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر - رضي الله عنه - عم أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال لهم ما يُجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (¬3). وكان أنس بن النضر - رضي الله عنه - لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة بَدْر، فقَالَ: غِبْتُ عَنْ أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرينَّ الله مَا أَصْنَعُ، فلما رأى ذلك من المسلمين يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين- وأبرأُ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقيَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فما عرف حتى عرفته أُخْتُهُ بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنَزَلَتْ فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] (¬4). وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفرَّ آخرون بين الشعاب ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 3. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم في "المستدرك" 2/ 296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر. (¬3) "سيرة ابن هشام" 3/ 3، والحديث في "الصحيحين" بلفظ مختلف، انظر الذي بعده. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4048)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.

بعدما شاع بينهم خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. أمَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أولُ من عرف بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ هو كعب بن مالك - رضي الله عنه - فنادى في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت لئلا يفطن له المشركون (¬1). وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقاتل وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم صمدوا معه يدافعون عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد تفطن المشركون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌ لم يُقتلْ فتكاثروا عليه يريدون قتله. وكان حول النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة من الصحابة سَبْعَةٌ مِنْ الْأَنصَارِ، واثنان من المهاجرين، فَلَمَّا رَهِقُوهُ (¬2) قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ من الأنصار، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِصاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 201، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: صحيح. (¬2) أي: قربوا منه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1789)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أُحُد. وكان هذا الدفاع من هؤلاء الأنصاريين السبعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لحبهم الشديد له - صلى الله عليه وسلم - أولاً وايثاره على أنفسهم، ثم لما عاهدوه عليه الصلاة والسلام عند بيعة العقبة وأنهم يمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" قال النووي رحمه الله: الرواية المشهورة فيه (ما أنصفنا) بإسكان الفاء، و (أصحابنا) منصوب مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء=

وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ (¬1) وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ (¬2) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: والرسول يناديكم من خلفكم، إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله (¬3). وكان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودافع عنه حتى شُلَّتْ يده - رضي الله عنه - كان يقي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تُخطئ، فنثل له النبي - صلى الله عليه وسلم - كنانته (¬5) وجعل يقول له: "ارْمِ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي" (¬6). ¬

_ = من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريش الأنصار، لكون القريشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه (ما أنصفَنا) بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فرُّوا من القتال، فإنهم لم ينصفوا لفرارهم. اهـ "شرح مسلم" 6/ 329، 330. (¬1) أي: تهربون في بطون الأوديه والشعاب. (¬2) أي: ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربًا من عدوكم. (¬3) "تفسير الطبري" 4/ 139 وفي قراءة: {إذ تصعدون} بفتح التاء وتسكين الصاد وفتح العين، ومعناه: إذ تصعدون إلى جبل أحد حيث قيل إنهم صعدوا إلى الجبل هربًا من القوم. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4063)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]. (¬5) نثل كنانته: أي نثر كنانته واستخرج ما بها من السهام، والكنانة: جُعبة السهام. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4055)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]، ومسلم=

وممن ثبت مع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يدافع عنه أبو طَلْحَةَ زيد بن سهل الأنصاري - رضي الله عنه - فكان مُجَوِّبٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بِحَجَفَةٍ لَهُ (¬1)، وَكَانَ أبو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ (¬2) كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: انْثُزهَا لِأبي طَلْحَةَ، وكان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يشرف برأسه ليَنْظُرَ إلى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ له أبو طَلْحَةَ: بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ (¬3). وكان يتترس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بترس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم (¬4). ورغم استبسال الصحابة- رضوان الله عليهم- في الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ¬

_ = (2411)، كتاب: فضائل الصحابة باب: في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع أبويه لأحدٍ غير سعد. (متفق عليه). وقال سعد - رضي الله عنه -: جمع لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أُحُد. (متفق عليه). (¬1) مُجوِّبٌ عليه بحَجَفَة: أي مُتترس عليه بترس، ليقيه من ضربات المشركين، فالحجفة: الترس. (¬2) شديد النزع: أي شديد رمي السهم. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. ومعنى نحري دون نحرك: أي: أفديك بنفسي. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2902)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجنِّ ومن يتَّرس بترس واحد، وأحمد 3/ 286، 287.

جبريل وميكائيل ينزلان للدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

جُرح وجهه - صلى الله عليه وسلم -، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ (¬1) وهشمت الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ (¬2). جبريل وميكائيل ينزلان للدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما حدث هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكاد المشركون أن يقتلوه، وقد تكفل الله تعالى بعصمته من الناس، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أنزل الله تعالى جبريل وميكائيل -عليهما السلام - يدافعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعانه من المشركين. عَنْ سَعْد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لقد رَأَيْتُ يوم أحد عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن يساره رَجُلَيْنِ عَلَيهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ -يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام - (¬3). مقتل أسد الله حمزة - رضي الله عنه -: وفي تلك المعمعة كان هناك رجلٌ له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، ولا يهمه ذلك الأمر كثيرًا، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرق وأن ينفك من قيود العبودية. وهذا الرجل هو وحشيٌ - رضي الله عنه - الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ¬

_ (¬1) هي السنُّ التي تلي الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات. "شرح مسلم" للنووي 6/ 330. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب غزوة أحد. والبيضة: واقي الرأس الذي يلبسه المحارب. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (5826)، كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306)، كتاب: الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.

ولنتركه يقصُّ علينا تفاصيل ما حدث بنفسه - رضي الله عنه -. يقول وحشيٌ - رضي الله عنه -: إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ ابْنَ عَدِيّ بن الْخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلَايَ جُبَيْرُ بن مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ - وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إلى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنْ اصطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بن عبد الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ الله وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ (¬1) قَالَ: وَمَكنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا في ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيهِ (¬2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت الملائكة تغسل حمزة بن عبد المطلب" (¬3). ¬

_ (¬1) كأمس الذاهب: كناية عن قتله، أي: صيَّره عدمًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - , يقول وحشيٌ - رضي الله عنه -: فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ فَأَقَمْتُ بمَكَّةَ حَتَّى فَشا فِيهَا الْإِسْلَامُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إلى الطَّائِفِ فَأرْسَلُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لَا يَهِيجُ الرُّسُلَ - أي: لا ينالهم منه إزعاج - قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "آنتَ وَحْشِي؟ "، قُلْتُ: نَعَم، قَالَ: "أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟ "، قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ مَا بَلَغَكَ قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَن تُغيّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟ "، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا قُبض رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، قُلْتُ: لأخْرُجَنَّ إلى مُسَيْلِمَةَ لَعَلّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بهِ حَمْزَة, قَالَ: فخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في ثَلْمةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. يقول عبد الله بن عُمَرَ -رضي الله عنهما-: فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُ الْعبد الْأَسْوَدُ. قوله: (في ثلمة جدار) أي: في خلل جدار. قوله: (كأنه جمل أورق) الجمل الأورق الذي لونه رمادي وكان لون مسيلمة كذلك من غبار الحرب. قوله: (ثائر الرأس) أي: شعره مُنتفش. (¬3) حسن: سيأتي تخريجه.

دور النساء في المعركة

دور النساء في المعركة: عن أنس - رضي الله عنه - قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بنتَ أبي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا (¬1) تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ (¬2) عَلَى مُتُونِهِمَا (¬3) تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ الْقَوْمِ (¬4). وقَالَ عُمَرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن أُمُّ سَلِيطٍ كَانَتْ تُزْفِرُ لَهم الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ (¬5). عدد من قتل من المسلمين في هذه المعركة: عَنْ الْبَرَاءِ بن عازب - رضي الله عنه - أنه أُصِيبَ من المسلمين في هذه المعركة سَبْعُونَ قَتِيلًا (¬6). وعن أبي بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلاً، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ منهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ (¬7). ¬

_ (¬1) خدم سوقهما: أي الخلاخيل. (¬2) تُنقزان: النقز: الوثب والقفز، كناية عن سرعة السير. (¬3) متن الشيء: أعلاه, يقال: متن الجبل أي أعلاه. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122]، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4071)، كتاب: المغازي، باب. ذكر أم سليط. وتُزفر: أي تحمل. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد. (¬7) صحيح: أخرجه الترمذي (3129)، كتاب: تفسير القرآن, باب: ومن سورة النحل، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو في مسند أحمد من زوائد عبد الله 5/ 135، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

عمرو بن أقيش يدخل الجنة وما صلى لله صلاة

وقيل: قتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً (¬1). عمرو بن أُقَيش يدخل الجنة وما صلى لله صلاة: عنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنّ عَمْرَو بن أُقَيْشٍ كَانَ لَهُ رِبًا في الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بنو عَمِّي؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إلى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ غَضَبًا لَهُمْ، أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى للهِ صَلَاةً (¬2). عبد الله بن حرام - رضي الله عنه - تظله الملائكة بأجنحتها، ويكلمه الله من غير حجاب: عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حَضرَ أُحُدٌ دَعَاني أبي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا في أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيرَ نَفْسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ عَلَيَّ ديْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ في قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 3. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (2537)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن يسلم ويقتل في مكانه في سبيل الله، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود". (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1351)، كتاب: الجنائز، باب: هل يُخرج الميت من القبر أو اللحد لعلة؟.

حنظلة تغسله الملائكة

وعن جَابِر أيضًا قَالَ: لما كان يوم أحد جِيءَ بِأبي مُسجىً وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، قال: فأردتُ أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أردت أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، فرفعه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر به فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صوْتَ باكية أو صَائِحَةٍ فَقَالَ: "مَنْ هَذهِ؟ "، فَقَالُوا: بنت عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فقَالَ: "ولِمَ تَبْكِي؟ فَمَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ". وفي رواية لمسلم: "تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ، مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ" (¬1). وعنه أيضًا قال: لَقِيَنِي رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا قَالَ: "أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله, قَالَ: "مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلًّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ عزوجل: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنّي أَنَّهُم إِلَيهَا لَا يُرجَعُونَ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذهِ الْأيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169] (¬2). حنظلةُ تُغسله الملائكة: عن الزبير - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قتل حنظلة بن ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (1293)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم (2471)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله تعالى عنهما. (¬2) حسن: أخرجه الترمذي (3010)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه. إلا من حديث موسى بن إبراهيم، والحاكم 3/ 204، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

عمرو بن الجموح يطأ برجله في الجنة

أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان بن الحارث حين علاه شداد بن الأسود بالسيف فقتله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن صاحبكم تُغسله الملائكة فسألوا صاحبته عنه" فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لذلك غسلته الملائكة" (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت الملائكة تُغسِّل حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب" (¬2). عمرو بن الجموح يطأُ برجله في الجنة: كان عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عزوجل قد عذرك، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك" فقال لبنيه: "ما عليكم أن لا تمنعوه فلعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج معه فقتل يوم أحد (¬3). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الحاكم 3/ 204، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، وأخرجه البيهقي في "السنن" 4/ 15، وحسنه الشيخ مصطفى العدوي لشواهده "فضائل الصحابة" للعدوي (279)، وحسنه الألباني في "الإرواء" رقم (713). (¬2) حسن: أخرجه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنه - , وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3463). (¬3) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" عن ابن إسحاق 3/ 23، وصححه الألباني في تخريج "فقه السيرة" (267).

عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - يتمنى الشهادة في سبيل الله فينالها

وعن أبي قتادة قال: جاء عَمْرُو بن الْجَمُوحِ - رضي الله عنه - إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ في سَبِيلِ الله حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذهِ صَحِيحَةً في الْجَنَّةِ؟ فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَم"، فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلىً لَهُمْ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذهِ صَحِيحَةً في الْجَنَّةِ"، فَأَمَرَ رَسُولُ الله بِهِمَا وَبِمَوْلَاهُمَا فَجُعِلُوا في قَبْرٍ وَاحِدٍ (¬1). عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - يتمنى الشهادة في سبيل الله فينالها: عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - , أن عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - قال له يوم أحد ألا تدعو الله, فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حردُهُ، أقاتله ويُقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع (¬2) أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت، قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط (¬3). بعد انتهاء المعركة: وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلى معسكره وقد تأكد بعض الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل، إذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يطلع عليهم بَينَ السَّعْدَين (¬4) عرفه ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (22452)، وصححه أحمد شاكر، والألباني أيضًا في "فقه السيرة" (267). (¬2) يجدع: أي يقطع. (¬3) صحيح: أخرجه الحاكم 3/ 999، وقال: صحيح على شرطهما لولا إرساله، ووافقه الذهبي، وصححه موصولاً من حديث إسحاق بن سعد، والبيهقي في "السنن" 9/ 24. (¬4) اسم مكان. والله أعلم.

الصحابة -رضوان الله عليهم- بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى (¬1) يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: فَفَرِحَ به الصحابة حَتَّى كَأَنَّهُم لَمْ يُصِبْهم شيء فَرَقِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهم وَهُوَ يَقُولُ: "اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِهِ"، وَيقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: "اللهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا" (¬2). وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا هذا بنبِيِّهِ"، وهو حينئذ يُشِيرُ إلى رَبَاعِيَتِهِ ويقول: "اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ الله فِي سَبِيلِ الله" (¬3). كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُتُ عن نفسه الدَّمَ وَيَقُولُ: "كَيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الله"، فَأَنْزَلَ الله - عَزَّ وَجَلَّ-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (¬4). وعن عبد الله بن مسعود قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللهُمًّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (¬5). ¬

_ (¬1) التكفؤ: التمايل إلى قدام. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم 2/ 296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4073)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد، ومسلم (1793)، كتاب: الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب الله علي من قتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1791)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (3477)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حدثنا أبو اليمان، ومسلم (1792)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد. قال الدكتور أكرم العمري: لقد استبعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يوفق الله من آذوه بهذه الصورة - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ ... "- فأخبره الله سبحانه بأن ذلك ليس ببعيد إن =

الله -عز وجل- يهدىء من روع المؤمنين بالنعاس

ثم أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصعد على صخرة - ليجلس عليها- فلم يستطع - من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد- فَأَقْعَدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَهُ طَلْحَةَ - رضي الله عنه - ثم صعِدَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، ثم قَالَ النَّبُيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ" (¬1). ثم أخذت فَاطِمَةُ - رضي الله عنها - تغسل الدم عن وجه أبيها - صلى الله عليه وسلم - وَعَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ - رضي الله عنها - أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ (¬2). الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُهدِّىءُ من روع المؤمنين بالنعاس: ثم أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- النعاس على المسلمين تهدئة لروعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال. يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. ¬

_ = أراد الله هدايتهم -فأنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} - فقال عليه الصلاة والسلام لما طمع بإسلامهم: "اللَهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 388. (¬1) حسن: أخرجه الترمذي (3738)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي محمد طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - , وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2540) ومعنى قوله: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ" أي: أوجب لنفسه الجنة. والله أعلم. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.

عَنْ أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ (¬1). وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادى على المسلمين فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجِيبُوهُ"، فقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أبي قُحَافَةَ؟ -يعني أبا بكر- قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجِيبُوهُ"، فقال: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يمَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله أَبْقَي الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجِيبُوهُ"، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا الله أَعْلَى وَأَجَلُّ"، قَالَ أبو سفيان: لنا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجِيبُوهُ"، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، قَالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ (¬2)، فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءً، قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ في النَّارِ، قَالَ أبو سفيان: إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ، لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وَخَسِرْنَا، ثُمَّ قَالَ أبو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ تَجِدُونَ في قَتْلَاكُمْ مُثْلًا (¬3)، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا (¬4)، ثمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَ ذَاكَ وَلَمْ نَكْرَهْهُ (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد. (¬3) مثلاً: أي تمثيلاً بالقتلى. (¬4) السراة: الأشراف والكبراء، أي لم يكن ذلك التمثيل بالقتلى عن رأي ورضيً من كبرائنا. (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر. أي: قد كان ذلك التمثيل بالجثث ليس عن أمرنا ولكنا لم نكرهه.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفقد الشهداء، ويرى عمه الحمزة - رضي الله عنه - وسطهم، ثم يأمر بدفنهم

النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفقد الشهداء، ويرى عمه الحمزة - رضي الله عنه - وسطهم، ثم يأمر بدفنهم: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى حَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ في نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ (¬1) حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا" ثم دعا بنمرة فكفنه فيها فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه وإذا مدت على رجله بدا رأسه، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ وَكَثُرَتْ الْقَتْلَى فَكَانَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ يُكَفَّنُونَ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ في قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ عنهم: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ قُرْآنًا" فَيُقَدِّمُهُ إلى الْقِبْلَةِ (¬2). وعَنْ أَنَسٍ أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِحَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرِهِ (¬3). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَينِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ " فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ وَقَالَ: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ في دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ (¬4). ¬

_ (¬1) العافية: قال الخطابي: هي السباع والطير تقع على الجيف فتأكلها. "عون المعبود" 6/ 43. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3136)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يُغسل، وأحمد 3/ 128، والترمذي (1016)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلى أحد وذكره حمزة، وصححه الألباني "صحيح سنن الترمذي". (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3137)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، وفي =

حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - علي الشهداء

وعَن خَبَّابٍ بن الأرت - رضي الله عنه - قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ الله فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى الله فَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً (¬1) كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيهِ الْإِذْخِرَ"، أَوْ قَالَ: "أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ" (¬2). وقَالَ جابر - رضي الله عنه -: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأبي لِتَدْفِنَهُ في مَقَابِرِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رُدُّوا الْقَتْلَى إلى مَضَاجِعِهِمْ (¬3). حُزْن النبي - صلى الله عليه وسلم - علي الشهداء: عَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: "أَمَا وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْض الْجَبَلِ" (¬4). ¬

_ = رواية للبخاري أيضًا قال جابر: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة - رضي الله عنه - والظاهر -والله أعلم- كما قال بعض العلماء منهم ابن القيم - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخير بين الصلاة على الشهداء وعدم الصلاة. (¬1) النَّمِرة: نوع من الكساء. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4082)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (940)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت. والإذخر: حشيش معروف طيب الرائحة. (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (1717)، كتاب: الجهاد، باب: في دفن القتيل في مقتله، صححه الألباني "صحيح سنن الترمذي"، أحمد (14101)، وصححه أحمد شاكر. (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (14965)، الحاكم 3/ 28. نحض الجبل: سفح الجبل، والمعنى: لوددت أني قتلت معهم، وهذا من شدة حزنه عليهم - صلى الله عليه وسلم -.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني علي ربه

النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني علي ربه: ولما انصرف العدو من الميدان قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-" فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللهمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْاِيمَانَ وَزِيّنْهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ آمين" (¬1). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: "اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعبد في الْأَرْضِ" (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بن هِشَامٍ، اللهمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ" فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]. فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 414، الحاكم 1/ 507، 3/ 23، 24، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في تخريج "فقه السيرة" (269). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1743)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4069)، كتاب: المغازي باب: ليس لك من الأمر شيء، والترمذي (3004)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران واللفظ له.

10 - وفي اليوم التالي لغزوة أحد: خرج المسلمون لغزوة حمراء الأسد.

ولقد عفا الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن المؤمنين الذين فروا يوم أحد فأنزل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155]. وربط الله -عَزَّ وَجَلَّ- من جأش المسلمين فقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران: 139، 140]. وبعد أن رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحُد، فلما نُعُوا لها قالت: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى انظر إليه، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة (¬1). وعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: مر رَسُولُ الله بنسَاءِ عبد الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ"، فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "ويحَهُنَّ مَا انْقَلَبْنَ (¬2) بَعْدُ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ" (¬3). 10 - وفي اليوم التالي لغزوة أُحُد: خرج المسلمون لغزوة حمراء الأسد. الشرح: بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أراد أن يطارد المشركين حتى لا يفكروا ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 3/ 29، عن ابن إسحاق بسند حسن إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) أي: ما رجعن إلى بيوتهن. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد 2/ 84، ابن ماجه (1591)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت، وصححه الألباني في "صحيح السنن".

11 - وفي هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش - رضي الله عنها - بأمر الله تبارك وتعالى.

في العودة ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلب العدو وأن لا يخرجن أحدٌ إلا أَحَد حضر أُحُد، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أُحُد فخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كل من شهد أحدًا، سوى جابر بن عبد الله خرج وهو لم يشهد أُحدًا، حيث تخلف عن أحُد لأن أباه خلفه على أخواته. فسار جيش المسلمين حتى بلغ حمراء الأسد وهي على بعد حوالي عشرين كيلو جنوب المدينة المنورة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فلم يلق أحدًا من المشركين، ووجدهم قد رجعوا إلى مكة، فأقام بها الاثنين، والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة (¬1). عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172] قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ، وَأبو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا أَصابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ: "مَنْ يَذْهَبُ في إِثْرِهِمْ؟ " فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أبو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ (¬2). 11 - وفي هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش - رضي الله عنها - بأمر الله تبارك وتعالى. الشرح: هي زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صبرة بن مُرَّة بن كبير بن ¬

_ (¬1) انظر تلك الغزوة في "سيرة ابن هشام" 3/ 29، 30. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4077)، كتاب: المغازي، باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}. هكذا جاء في حديث عائشة أن الذين خرجوا في هذه الغزوة سبعون صحابيًا فقط، والمشهور عند أهل السير أنه خرج كل من شارك بأُحُد فالله أعلم. وقد يكون هؤلاء السبعون أول من خرجوا ثم تبعهم الباقون، كما وجه ذلك بعض العلماء والله أعلم.

غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدية، أم المؤمنين. وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكانت عند زيد بن حارثة - رضي الله عنه - قبل أن يتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وزيد بن حارثة بن شراحيل - رضي الله عنه - كان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أهدته إليه خديجة بنت خويلد أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وكان يدعى زَيْدَ بن مُحَمَّدٍ، حيث كان قد تبناه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ينسب إليه، حَتَّى نَزَلَت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] (¬2). فبنزول هذه الآية تم تحريم التبني، وأصبح كلٌ يُنسبُ إلى أبيه الذي هو من صلبه، فأصبح يقال زيد بن حارثة. ولكن قاعدة التبني كانت متأصلة في نفوس العرب، ليس من السهل محوها، فكأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أراد حدوث شيء عملي يمحو هذا تمامًا من نفوسهم، فكان تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش التي كانت زوجة لرعيِّه زيد بن حارتْة - رضي الله عنه -. وقد ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 4/ 163. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4782)، كتاب: التفسير، باب: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} مسلم (2425)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد.

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنعم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بالعتق من الرق. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} زينب - رضي الله عنها -، حيث جَاءَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ يَشْكُو للنَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - زينب - رضي الله عنها -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "اتَّقِ الله وَأَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ" (¬1). وكان الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون زوجته، ولذلك قال الله تعالى له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي: لا تخفي ما أطلعك الله عليه من أنها ستكون زوجتك، {وَتَخْشَى النَّاسَ} من أن يقولوا: طلق محمد زوجة ابنه ليتزوجها، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. ثم يقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الوطر: الحاجة، أي: فلما فرغ زيدٌ منها وفارقها {زَوَّجْنَاكَهَا} فكان زواجها - رضي الله عنها - من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولذلك كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى زوجات النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وتَقُولُ لهن: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي الله تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ (¬2). عَنِ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِزَيْدٍ: "اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ"، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا قَالَ وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قال: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ في صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيهَا؛ أَنَّ رَسُولَ الله ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي، وَنكَصْتُ عَلَى عَقِبَيَّ فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُكِ، قَالَت: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (7420)، كتاب: التوحيد، باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]. (¬2) صحيح: انظر التخريج السابق.

وليمة عرس زينب - رضي الله عنها -

مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ عَلَيهَا بِغَيرِ إِذْنٍ (¬1). وليمةْ عُرس زينب - رضي الله عنها -: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ عَلَى امرأة -أو على شَيءٍ مِنْ نِسَائِهِ- مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ فإنه ذبح شَاةً (¬2). وفي لفظ لمسلم: مَا أَوْلَمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أكثر أو أفضل ممَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه. وعَنْ أَنَسِ أيضًا قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ -زينب - رضي الله عنها - قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا (¬3)، فَجَعَلَتْهُ في تَوْرٍ (¬4) فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْ بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا وَمَنْ لَقِيتَ" وَسَمَّى رِجَالاً، قَالَ: فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ. وقيل لِأَنَسٍ: عَدَدَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ"، قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيَأْكُلْ كُل إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ"، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي: "يَاَ أَنَسُ ارْفَعْ"، قَالَ: فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (5168)، كتاب: النكاح، باب: الوليمة ولو شاة, ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب وإثبات وليمة العُرس. (¬3) الحيس: هو التمر والسمن والأقط يخلط ويُعجن، والأقط: الجبن الجاف. (¬4) التور: إناء من نحاس. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (5163)، كتاب: النكاح، باب: الهدية للعروس، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العُرس.

12 - وفي صبيحة عرس زينب - رضي الله عنها - نزلت آية الحجاب.

واختلف أهل التاريخ والسير في تاريخ زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب - رضي الله عنها - وقد رجح فضيلة الشيخ وحيد بن بالي -حفظه الله- زواجه منها في العام الثالث من الهجرة، حيث قال: وهو قول خليفة بن خياط، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وابن منده، وهو أقوى من قول من قال بأنه في العام الخامس من الهجرة (¬1). 12 - وفي صبيحة عُرس زينب - رضي الله عنها - نزلت آية الحجاب. الشرح: قَالَ أنس - رضي الله عنه -: فَرَفَعْتُ -أي: الطعام- فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ، قَالَ: وَجَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ في بَيْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلى الْحَائِطِ فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَابْتَدَرُوا الْبَابَ فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ وَدَخَلَ وَأَنَا جَالِسٌ في الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] إلى آخِرِ الْآيَةِ (¬2). 13 - وفي هذه السنة: نزل تحريم الخمر. الشرح: كان شرب الخمر عادة أساسية عند رجالات العرب في الجاهلية، وكان ¬

_ (¬1) "الخلاصة البهية" (38) هامش. (¬2) متفق عليه: انظر التخريج السابق.

يصعب على الواحد منهم ترك ذلك الأمر. فلما جاء الإسلام، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتشريع من عند العليم الخبير، لم يُحرم الخمر مرة واحدة بل كان ذلك تدريجيًا، تيسيرًا من الله تعالى على هؤلاء الذين تأصلت فيهم هذه العادة. فأنزل الله تعالى أولاً: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. فشربه بعض الناس وتركه البعض، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فكان المنادي إذا أقام الصلاة قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فقَالَ عُمَرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91] فقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا (¬1). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ في حَشٍّ -الْحَشُّ: الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ (¬2)، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيْ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه النسائي (5540)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر، وصححه الألباني. (¬2) الزقُّ: وعاء من جلد.

الرَّأْسِ (¬1) فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فِيَّ شَأْنَ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬2). وعَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ في مَنْزِلِ أبي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ في سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ (¬3)، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ في بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] (¬4). وكان تحريم الخمر سنة ثلاث بعد وقعة أُحُد (¬5). ¬

_ (¬1) أي رأس الجزور الذي كانوا يأكلونه, واللَّحْى: الفك. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1748)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬3) الفضيخ: خمر يصنع من ثمر النخل. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4620)، كتاب: تفسير القرآن، باب: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ومسلم (1980)، كتاب: الأشربة, باب: تحريم الخمر. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 6/ 214.

السنة الرابعة من الهجرة

السنة الرابعة من الهجرة

السنة الرابعة من الهجرة وفيها ثلاثة عشر حدثاً: 1 - في المحرم من هذه السنة: كانت سرية أبي سلمة - رضي الله عنه - إلى طُلَيحه الأسَديِّ، فغنم وأسر. الشرح: وكان من نتائج غزوة أُحُد أن تجرأ الأعراب حول المدينة على المسلمين وظهر ذلك في التجمعات التي قام بها بنو أسد بقيادة طُليحه الأسدي وأخيه سليمة في نجد، وبنو هذيل بقيادة خالد بن سفيان الهذلي في عرفات، مستهدفين غزو المدينة طمعاً في خيراتها وانتصارًا لشركهم ومظاهرة لقريش وتقربًا إليها، وكان ذلك في شهر محرم من السنة الرابعة للهجرة. وتحرك المسلمون قبل أن يستفحل الأمر، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سلمة بن عبد الأسد بمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار إلى طليحة الأسدي الذي تفرق أتباعه تاركين إبلهم وماشيتهم بيد المسلمين من هول المفاجأة (¬1). 2 - وفي المحرم أيضًا من هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُنيس - رضي الله عنه - إلى خالد بن سفيان الهذلي، فقتل خالدًا وعاد سالمًا. الشرح: عَنِ عبد الله بن أُنَيْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" أكرم ضياء العمري 2/ 398، والسرية ذكرها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 50، وابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 218.

ابْنَ سُفْيَانَ يَجْمَعُ لِي النَّاسَ لِيَغْزُوَنِي، وَهوَ بنخلة أو بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله انْعَتْهُ لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ: "ذلك إِذَا رَأَيْتَهُ أذكرك الشيطان، وَآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وَجَدْتَ لَهُ قْشَعْرِيَرَةً"، قَالَ: فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا سَيْفِي، حَتَّى دفعْتُ إلَيْهِ وَهُوَ في ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلاً، وَحِينَ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْقْشَعْرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بمُحَاوَلَة تَشْغَلُنِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، وأُومِئُ بِرَأْسِي، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِذَلك، قَالَ: أَجَلْ، أَنَا لفِي ذَلِكَ، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّى فقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ -نساءه- مُنكِبَّاتٍ عَلَيهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَآنِي، قَالَ: "أَفْلَحَ الْوَجْهُ"، قُلْتُ: قد قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "صَدَقْتَ"، ثُمَّ قَامَ فأدخلني بَيْتِهِ، فَأعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: "أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عبد الله بن أُنَيسٍ"، قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟ قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسِكَهَا عندي، قَالُوا: أفلَا تَرْجِعُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَسْأَلَهُ لم ذَلِكَ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لِمَ أَعْطَيْتَنِي هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ: "آيَةٌ بَيْنِي وَبَينَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَئِذٍ" (¬1). فَقَرَنَهَا عبد الله بن أنيس بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ بسيفه حَتَّى مَاتَ، ثم أَمَرَ بِهَا فَصُبَّتْ في كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا (¬2). ¬

_ (¬1) المتخصرون: أي المتكئون على المخاصر، جمع مخصره وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصا وغيرها. والمراد هنا: الذين يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها. (¬2) أخرجه أبو داود (1249) كتاب: الصلاة، باب: صلاة الطالب مختصرًا، صححه الألباني. في "الصحيحة" (3293)، أحمد 3/ 496، وقال ابن كثير في "تفسيرة" 1/ 295: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 2/ 350: إسناده حسن.

3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية الرجيع.

3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سريةُ الرَّجيع. الشرح: الرَّجِيع: اسْم مَوْضِع مِنْ بِلَادِ هُذَيْلٍ كَانَتْ الْوَقْعَة بِقُرْبٍ مِنْهُ فَسُمِّيَتْ بِهِ (¬1). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا (¬2) وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ -جَدَّ عَاصمِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ- فَانْطَلَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ -وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بنو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَي رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إلى فَدْفَدٍ (¬3)، وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، فقَالَ عَاصِمُ بن ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللهِ لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ في ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللهمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا في سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيّ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي في هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً -يُرِيدُ الْقَتْلَى- وجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 7/ 438. (¬2) أي: عينًا له يتجسسون على الأعداء حول المدينة. هذه رواية البخاري وذكر ابن إسحاق بسند مرسل أن هذه السرية لم تكن عينًا للتجسس، وإنما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - رهط من قبيلتي عَضَل والقارَة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلامًا، فابعث نفرًا من أصحابك يُفقهوننا في الدين، ويُقرئوننا القرآن, ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم ستة من أصحابه فغدروا بهم. وذكر نحو ما في رواية البخاري، والراجح ما في "الصحيح". والله أعلم. (¬3) الفدفد: المكان المرتفع.

أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بنو الْحَارِثِ بن عَامِرِ بن نَوْفَلِ بن عبد مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بن عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، تقول بنتَ الْحَارِثِ بن عامر: أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ في يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ في الْحَدِيدِ. وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنْ الله رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فكان أول من سن الرَكْعَتَيْنِ عند القتل هو، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ثم قال: مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ للِّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ في ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ عقبة بن الْحَارِثِ، واسْتَجَابَ الله لِعَاصِمِ بن ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ - عندما قال: اللهم أَخْبر نبيك عنَّا فَأَخْبَرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيه بهم- وأخبر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إلى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ (¬1) فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا ¬

_ (¬1) الظُّلَّة: السحابة، والدَّبْر: ذكور النحل، أي: أن الله أرسل عليه سحابة من النحل فحمته منهم.

4 - وفي صفر أيضا من هذه السنة: كانت سرية بئر معونه.

َعَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا (¬1). وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمسَّ مشركًا أبدًا، تنجسًا -أي: خشية تنجسه منهم-؛ فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته (¬2). وأمَّا زيد بن الدِّثنَّة فابتاعه صفوان بن أُمية ليقتله بأبيه أُمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أميه مع مولى له يقال له: نِسطاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أُنشدك الله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحبُّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحب أصحاب محمَّد محمدًا، ثم قتله نِسطاس (¬3). 4 - وفي صفر أيضًا من هذه السنة: كانت سرية بئر معونه. الشرح: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3045)، كتاب: الجهاد والسير، باب: هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، وأخرجه أيضًا (4086)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة، وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 83. (¬3) السابق.

رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَدُوٍّ (¬1). هذه رواية البخاري، أما رواية مسلم: عَنْ أَنَس قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: أَنْ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ (¬2). فبعث إليهم سَبْعِينَ رجلاً مِنْ الْأَنْصَارِ يقال لهم الْقُرَّاءَ في زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، وأمَّرَ عليهم حرام بن ملحان - قال أنس بن مالك -: حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ - على بعد 160 كيلو - من المدينة غَدَرُ بِهِمْ عامر بن الطفيل، حيث ذهب إليه حرام بن ملحان - رضي الله عنه - ومعه رجلان، كان أحدهما أعرج، فقال لهما حرام: كونا قريبًا حتى آتيهم فإن آمنوني كنتم - آمنين - وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فذهب إليه فقال: أتُأمِّنوني أُبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يُحدِّثهم، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه فقال حرام بن ملحان - رضي الله عنه - بالدَّم هذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: فزتُ وربِّ الكعبة، ثم اجتمعوا عليهم فقتلوهم جميعًا غير الرجل الأعرج الذي كان مع حرام بن ملحان صعد على رأس جبل، وعمرو بن أمية الضمري أُسر ثم خلا عامر بن الطفيل سبيله لما أعلمه أنه من مضر. وكان عامر بن الطفيل هذا يكنُّ عداءً شديدًا للنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخَيَّرَه بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَقَالَ له: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ، فقد كان يحقد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرى أنه أخذ مكانةً لابدَّ أنْ يُشركه فيها. وسأل عامر بن الطفيل عمرو بن أمية عن أحد القتلى فقال له: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ عَمْرُو بن أمَيَّةَ: هَذَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ، فَقَالَ عامر بن الطفيل: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إلى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إلى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ ثُمَّ وُضِعَ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4090)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع. (¬2) أخرجه مسلم (677)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.

5 - وفي هذه السنة: كانت سرية عمرو بن أميه الضمري لقتل أبي سفيان لكنه لم يتمكن منه.

فَأَتَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ: "إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا"، وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بن أَسْماءَ بن الصَّلْتِ، وَمُنْذِرُ بن عَمْرٍو، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الَّذِينَ قُتِلُوا أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا قَرَأْه الصحابة حَتَّى نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا فَقَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ. فظل النبي - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وعصية، وَيَقُولُ: "عُصَيَّةُ عَصَتِ الله وَرَسُولَهُ" (¬1). 5 - وفي هذه السنة: كانت سرية عمرو بن أميه الضمري لقتل أبي سفيان لكنه لم يتمكن منه. الشرح: قيل إن أبا سفيان بن حرب أرسل رجلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتله، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وجيء بالرجل فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما جاء من أجله فأسلم الرجل، ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أُمية الضمري لقتل أبي سفيان على إثْر هذا فلم يتمكن من قتله ورجع (¬2). 6 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: غدرت يهود بني النضير، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أجلاهم عن المدينة. الشرح: كان سبب غزو بني النضير ومحاصرتهم وإجلائهم عن المدينة أنه لما قُتل ¬

_ (¬1) انظر جميع هذه الأحداث في "صحيح البخاري"، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع وبئر معونة، حديث (4088) إلي الحديث رقم (4096) كلها عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) ذكر تفاصيل هذه السرية كاملة ابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 80 - 82. وفي سندها الواقدي وهو متروك وإن كان بعض العلماء يقبل رواياته في "المغازي".

أصحاب بئر معونة، من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قتلت رجلين لأدِينَّهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير على أميال من المدينة. فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا إلى جنب جدار من بيوتهم، فمن رجل يصعد على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيُريحنا منه؟ فانتُدب لذلك أحدهم وهو عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليٌّ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2] وصدق الله إذ يقول: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ (¬1) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً ¬

_ (¬1) اللين: هو جميع النخل.

عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5] (¬1). وكان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي بن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي نوفل، وسويد، وداعي، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنَّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم. فانتظر بنو النضير نصر هؤلاء القوم الذي وعدوهم إياه فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)} [الحشر: 11 - 13]. فلما تخلى عنهم هؤلاء المنافقون، وعلمت يهود بني النضير أنهم لن يستطيعوا الاستمرار على هذه الحالة، ولن يستطيعوا مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحَلْقة (¬2) فوافقهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه (¬3)، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2]. فقاموا بهدم بيوتهم حتى لا ينتفع بها المسلمون وأخذوا كل ما فيها حتى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (1552)، كتاب: السير، باب: في التحريق والتخريب، وصححه الألباني. (¬2) الحَلْقة: أي السلاح. (¬3) النجاف: هي العتبة التي بأعلى الباب.

7 - وفي جمادى الأولى من هذه السنة: توفي أبو سلمة: عبد الله بن عبد الأسد المخزومي - رضي الله عنه - وكان رضيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أبوابها. فَخَرَجُوا إلى خَيْبَر، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إلى الشَّام، وخلفوا ما لم يستطيعوا حمله من الأموال، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -, لأنهم غنموه من غير قتال (¬1) وقيل أنه أسلم من بني النضير رجلان هما: ياسين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب (¬2). ونزلت سورة الحشر في بني النضير (¬3). 7 - وفي جمادى الأولى من هذه السنة: توفي أبو سلمة: عبد الله بن عبد الأسد المخزومي - رضي الله عنه - وكان رضيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن كثير - رحمه الله -: وفيه -أي: في جمادى الأولى من سنة أربع- تُوفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وأمه ¬

_ (¬1) وهو ما يُسمى بالفيء، فالفيء كلُّ ما أُخذ من الكفار من غير قتال، مثل غزوة بن النضير هذه فإن المسلمين لم يقاتلوا فيها، إنما خرج اليهود من غير قتال وحكم الفيء في الإسلام أنه يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، يتصرف فيه حيث يشاء، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُنفقه في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله في الآيات: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 6، 7]. (¬2) ذكر غزوة بني النضير بهذه التفاصيل: ابن إسحاق "سيرة ابن هشام" 3/ 96 - 98، وابن كثير في "التفسير"، انظر: "عمدة التفسير"، اختصار تفسير ابن كثير، أحمد شاكر 3/ 421، 422. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4882)، كتاب: التفسير، سورة الحشر، ومسلم (3031)، كتاب: التفسير، باب: في سورة براءة والأنفال والحشر.

8 - وفي جمادى الأولى من هذه السنة: مات عبد الله بن عثمان بن عفان - رضي الله عنهما -، يعني من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنين.

بَرَّة بنت عبد المطلب، عمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رضيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب (¬1). ومات من آثار جُرح جُرحَه بأُحُد - رضي الله عنه - وأرضاه (¬2). 8 - وفي جُمادى الأولى من هذه السنة: مات عبد الله بن عثمان بن عفان - رضي الله عنهما -، يعني من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنين. الشرح: قال ابن جرير - رحمه الله -: في جمادى الأولى من هذه السنة - سنة أربع - مات عبد الله بن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. قال ابن كثير - رحمه الله -: قلت: من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل في حُرته والده عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬3) 9 - وفي شعبان من هذه السنة: وقعتْ غزوة بدر الآخرة. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة من غزوة ذات الرقاع (¬4). ¬

_ (¬1) حديث رضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو سلمة من ثويبة, متفق عليه، وقد سبق تخريجه. (¬2) "البداية والنهاية" 4/ 101. (¬3) المصدر السابق. (¬4) غزوة ذات الرقاع كانت في العام السابع على الراجح.

10 - وفي شعيب في أيضا من هذه السنة: ولد الحسين بن علي - رضي الله عنهما - من فاطمة - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أقام بها بقية جمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجبا ثم خرج في شعبان إلى بدر، لميعاد أبي سفيان، حتى نزله، فأقام عليه ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان وخرج أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل مجنَّة من ناحية الظهران وبعض الناس يقول: قد بلغ عُسْفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جَدْب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس (¬1). 10 - وفي شعيب في أيضًا من هذه السنة: وُلد الحسين بن علي - رضي الله عنهما - من فاطمة - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن جرير - رحمه الله -: وفي ليال خلوْنَ من شعبان وُلد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 11 - وفي شوال من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمه بنت أبي أُمية. الشرح: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَاطِبَ بن أبي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بنتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُوا الله أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو الله أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيرَةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 110، 111. (¬2) نقلاً عن "البداية والنهاية" 4/ 102. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (918)، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة.

12 - وفي هذه السنة: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يتعلم كتاب يهود, فتعلمه في خمسه عشر يوما.

وعنها - رضي الله عنها - قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا مِنْ عبد تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهمَّ أْجُزنِي في مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ الله في مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أبو سَلَمَةَ، قُلْتُ: كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْلَفَ الله لِي خَيرًا مِنْهُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 12 - وفي هذه السنة: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يتعلم كتاب يهود, فتعلمه في خمسه عشر يومًا. الشرح: عَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَعَلَّمَ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ، قَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قَالَ: فَمَا مَرَّ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذا كَتَبَ إلى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ (¬2). 13 - وفي هذه السنة: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودي واليهودية. الشرح: عن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - , أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ عَلَى الزَانَى؟ قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا، حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ، وَضَعَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم التخريج السابق. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (2715)، كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في تعلم السُّريانيه، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلَامٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَا، قَالَ عبد الله بن عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنْ الْحِجَارَةِ بنفْسِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (6819)، كتاب: الحدود، باب: الرجم في البلاط، ومسلم (1699)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

السنة الخامسة من الهجرة

السنة الخامسة للهجرة

السنة الخامسة للهجرة وفيها أربعة عشر حدثًا: 1 - في ربيع الأول من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دومه الجندل. الشرح: قاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - جيشًا من ألف مقاتل في شهر ربيع الأول من سنة خمس باتجاه دومة الجندل، وقد بلغه وجود تجمع للمشركين بها, ولكن الجمع تفرق عندما علموا بقدوم المسلمين الذين أقاموا أيامًا في المنطقة بثُّوا خلالها السرايا فلم يلقوا مقاومة، ورجعوا إلى المدينة بعد أن وادع في العودة عُيينة بن حصن الفزاري (¬1). 2 - وفي رجب من هذه السنة: قَدم وفد مُزَينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عَنِ النعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فلما أردنا أن ننصرف قال: "يا عمر زوِّد القوم"، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا شحا مِنْ تَمْرٍ، ما أظنه يقع من القوم موقعًا، قَالَ: "انْطَلِقْ فَزَوِّدْهُمْ"، قال: فَانْطَلَقَ بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلى عليه، فلما دخلنا، إِذَا فِيهَا تَمْرٌ مِثْلُ الْبَكْرِ الْأَوْرَقِ، فَقَالَ: خُذُوا فَأَخَذَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُمْ، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا في آخِرِ الْقَوْمِ، قَالَ: فَالْتَفَتُّ وَمَا أَفْقِدُ مَوْضِعَ تَمْرَةٍ، وَقَدْ احْتَمَلَ مِنْهُ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ (¬2). ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 402، وقد ذكر هذه الغزوة ابن هشام في "سيرته" عن ابن إسحاق 3/ 114، وغيره من أهل المغازي والسير. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (23636).

قال ابن سعد

قال ابن سعد: وذلك في رجب من سنة خمس (¬1). 3 - وفي هذه السنة: تُوفيت أم سعد بن عبادة - رضي الله عنهما -. الشرح: ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" عن الواقدي أن أم سعد - رضي الله عنهما - تُوفيتْ سنة خمس، وابنها سعد - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل (¬2). وأخرج الترمذي - رحمه الله - عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبرها بعد وفاتها بشهر (¬3). 4 - وفي شعبان من هذه السنة: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق على الراجح. الشرح: بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة الأزْديَّة اليمانية، وكانوا يسكنون قديدًا وعُسْفان على الطريق من المدينة إلى مكة، فقديد تبعد عن مكة 120 كيلو متر، وعُسْفان تبعد 80 كيلو مترًا، فيكون بينهما أربعون كيلو، في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مَرِّ الظهران التي تبعد عن مكة 30 كيلو وبين الأبواء (شرق مستورة بثلاثة أكيال) التي تبعد عن مكة 240 كيلو، وبذلك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" 1/ 291. (¬2) "البداية والنهاية" 4/ 104. (¬3) مرسل: أخرجه الترمذي (1037)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على القبر، مرسلاً عن سعيد بن المسيب.

قال ابن إسحاق - رحمه الله -

بين المسلمين وقريش، وقد عُرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين، وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين العلاقات رغم المحالفات القديمة بينهم وبين قريش ذات المصالح الكبرى في الطريق التجارية إلى الشام، ورغم سيادة الشرك في ديار خزاعة حيث كانت هضبة المشلل التي كانت بها (مناة) في قديد، ورغم أن ديارها كانت أقرب إلى مكة منها إلى المدينة. ولعل هذه العوامل أعاقت - في نفس الوقت - انتشار الإسلام في خزاعة عامة وبني المصطلق خاصة الذين يستفيدون إلى جانب الموقع التجاري بوجود مناة الطاغية في ديارهم معنويًا وماديًا حيث يحج إليها العرب. وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن الأحابيش في جيش قريش في غزوة أُحد. وقد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة ولعلها كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أنْ يبقى الطريق التجاري مفتوحًا أمام قريش لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح لها محققة فكانت بزعامة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ للأمر بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين (¬1). قال ابن إسحاق - رحمه الله -: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 404، 405.

يقال له (المريسيع) ولذلك تسمى أيضًا بغزوة المريسيع من ناحية قُديد إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه (¬1). عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ بني الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ، وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبلَ أَنْ نَسْأَلَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ" (¬2). وقد أَغَارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بني الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ (¬3) وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ - رضي الله عنها - (¬4). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 169، واختُلف في تاريخ غزوة بني المصطلق، قال الدكتور /أكرم العمري: وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجيشه من المدينة نحو ديار بني المصطلق، وهذا هو الراجح، وهو قول موسى بن عقبة الصحيح حكاه عن الزهري وعن عروة وتابعه أبو معشر السنوى والواقدي وابن سعد، ومن المتأخرين ابن القيم والذهبي، وأما ابن إسحاق فذهب إلى أنها في شعبان سنة ست، ويعارض ذلك ما في صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قريظة عقب الخندق مباشرة فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلا قبل الخندق. "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 406. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4138)، كتاب: المغازي، باب: غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع، ومسلم (1438) كتاب: النكاح، باب: حكم العزل. (¬3) غارُّون: أي غافلون. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (2541)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقًا =

ظهور حقد المنافقين بعد انتصار المؤمنين

ظهور حقد المنافقين بعد انتصار المؤمنين: ولما انتصر المسلمون في تلك المعركة وظهروا على عدوهم اغتاظ المنافقون غيظًا شديدًا وظهر حقدهم الذي كان دفينًا، فهذا عبد الله بن أبي بن سلول لم يستطع كتم غيظه. عَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه - أنه سمع عبد الله بن أبي يَقُولُ لأصحابه: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وقال: وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قال زيد - رضي الله عنه -: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيدٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أَنْزَلَ الله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم، قال: فلوَّوا رءوسهم (¬1). وعن جَابِرَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا في غَزَاةٍ فَكَسَعَ (¬2) رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، فَسَمِعَ ¬

_ = فوهب وباع وجامع وفدى وسبق الذرية ومسلم (1730)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة. (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4900)، كتاب: تفسير سورة المنافقين، ومسلم (2772)، كتاب: صفة المنافقين وأحكامهم. (¬2) كسع: أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف وغيره.

5 - وفي شعبان أيضا من هذه السنة: أعتق النبي - صلى الله عليه وسلم - جويرية بنت الحارث وتزوجها.

بِذَلِكَ عبد الله بن أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا؟ أَمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ - ذلك - النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" (¬1). فلما سمع ابْنُهُ عبد الله بأن أباه قال هذا، قال: وَاللهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ الله الْعَزِيزُ، فَفَعَلَ (¬2). 5 - وفي شعبان أيضًا من هذه السنة: أعتق النبي - صلى الله عليه وسلم - جويرية بنت الحارث وتزوجها. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ بن الْمُصْطَلِقِ في سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ - أَوْ ابْنِ عَمٍّ لَهُ - فَكَاتَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً مَلَّاحَةً تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: فَجَاءَتْ تَسْأَلُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي كِتَابَتِهَا (¬3) فَلَمَّا قَامَتْ عَلَى الْبَابِ فَرَأَيْتُهَا كَرِهْتُ مَكَانَهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ - جويرية -: يَا رَسُولَ الله جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، وَإِنِّي وَقَعْتُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ وَإِنِّي كَاتَبْتُ عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُكَ أَسْأَلُكَ في ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4905)، كتاب: التفسير تفسير سورة المنافقين، ومسلم (2584)، كتاب: البر والصلة والأدب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، والترمذي (3315)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المنافقين، وجاء التصريح في روايته أنها غزوة بني المصطلق. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي، انظر التخريج السابق. (¬3) المكاتبة: أن يشتري العبد نفسه بمال من سيده فيكاتبه على ذلك.

6 - وفي مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة بني المصطلق افترى المنافقون على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حديث الإفك فأنزل الله براءتها في القرآن

كِتَابَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهَلْ لَكِ إلى مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ؟ "، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ"، قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَتْ: فَتَسَامَعَ - تَعْنِي النَّاسَ - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ، فَأَرْسَلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، فَأَعْتَقُوهُمْ، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -! فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا أُعْتِقَ في سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بني الْمُصطَلِقِ (¬1). 6 - وفي مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة بني المصطلق افترى المنافقون على أُمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حديث الإفك فأنزل الله براءتها في القرآن. الشرح: لم يكتف عبد الله بن أبي بما فعله حين الرجوع من غزوة بني المصطلق من محاولة تأليب المسلمين بعضهم على بعض، وبما قاله في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى فعل أمرًا عظيمًا وافترى على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الطاهرة الشريفة العفيفة الحصان الرَّزان، وطعنها في شرفها، وافترى عليها كذبًا. ولنترك السيدة عائشة - رضي الله عنها - تحكي لنا تفاصيل ما حدث، تقول السيدة عائشة: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَينَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذا فَرَغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 6/ 277، وأبو داود (3931)، كتاب: العتق، باب: في بيع المكاتب إذا فُسخت المكاتبة, وحسنه الشيخ الألباني "صحيح سنن أبي داود".

جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إلى رَحْلِي فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَأكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَزجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ في مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابي وَوَاللهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرجَاعِهِ وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ قَالَتْ: فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ أَيْضًا إِلَّا حَسَّانُ بن ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ في نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَإِنَّ كِبْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ: فَإِنَّ أبي وَوَالِدهَ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ

في قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الًّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يدخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إلى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ في الْبَرِّيَّةِ قِبَلَ الْغَائِطِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أبي رُهْمِ بن الْمُطَّلِبِ بن عبد مَنَافٍ وَأُمُّهَا بنتُ صَخْرِ بن عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ بن عَبَّادِ بن الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَتْ: فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجعْتُ إلى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟ " فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بنيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ الله أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بن زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا في فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ في نَفْسِهِ، فَقَالَ أسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَمْ يُضَيِّقْ الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ

تَصْدُقْكَ، قالَتْ: فَدَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ، فَقالَ: "أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيءٍ يَرِيبُكِ؟ " قالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما رَأَيْتُ عَلَيْها أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ غَيْرَ أَنَّها جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قالَتْ: فَقامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ فاسْتَعْذَرَ مِنْ عبد الله بن أبي وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقالَ: "يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُني مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْه أَذَاهُ في أَهْلِي واللهِ ما عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلّا خَيْرًا وَلَقَد ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عَلَيهِ إِلّا خَيرًا وَما يدخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلّا مَعِي"، قالَتْ: فَقامَ سَعْدُ بن مُعاذٍ أَخُو بني عبد الْأَشْهَلِ فَقالَ: أَنا يا رَسُولَ الله أَعْذِرُكَ فَإِنْ كانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كانَ مِنْ إِخْوانِنا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قالَتْ: فَقامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَكانَتْ أُمُّ حَسّانَ بنتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بن عُبادةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، قالَتْ: وَكانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَوْ كانَ مِنْ رَهْطِكَ ما أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ فَقامَ أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقالَ لِسَعْدِ بن عُبادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنافِقٌ تُجادِلُ عَنْ الْمُنافِقِينَ، قالَتْ: فَثارَ الْحَيّانِ الْأَوْسُ والْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، قالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُم حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قالَتْ: فَبَكَيتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، قالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا يَرْقَأُ لِي دَمْغٌ وَلا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنا أَبَوايَ جالِسانِ عِنْدِي وَأَنا أَبْكِي فاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصارِ، فَأَذِنْتُ لَها، فَجَلَسَتْ تَبكِي مَعِي، قالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَينا فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيهِ في شَأْنِي بِشَيءٍ، قالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قالَ: "أَمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله وَإِنْ

كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي الله وَتُوبِي إِلَيهِ فَإنَّ الْعبد إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تابَ تابَ الله عَلَيهِ"، قالَتْ: فَلَمّا قَضَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى ما أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِّي فِيما قالَ، فَقالَ أَبِي: واللهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيما قَالَ قالَتْ أُمِّي: واللهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: وَأَنا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي واللهِ لَقَد عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي فَواللهِ لا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلّا أَبا يُوسُفَ حِينَ قالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ثُمَّ تَحَوَّلْتُ واضْطَجَعْتُ عَلَى فِراشِي واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ الله مُبَرِّئِي بِبَراءَتِي وَلَكِنْ واللهِ ما كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الله مُنْزِلٌ في شَأنِي وَحْيًا يُتْلَى لَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ الله فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّوْمِ رُؤْيا يُبَرِّئُنِي الله بِها فَواللهِ ما رَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَقِ مِثْلُ الْجُمانِ وَهُوَ في يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قالَتْ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ فَكانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها أَنْ قالَ: "يا عَائِشَةُ أَمَّا الله فَقَدْ بَرَّأَكِ"، قالَتْ: فَقالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيهِ، فَقُلْتُ: واللهِ لا أَقُومُ إِلَيهِ فَإِنِّي لا أَحمَدُ إِلّا الله -عز وجل-، قالَتْ: وَأَنْزَلَ الله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الْعَشْرَ الْآياتِ ثُمَّ أَنْزَلَ الله هَذا في بَراءَتِي، قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: وَكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بن أُثاثَةَ لِقَرابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ واللهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قالَ لِعائِشَةَ ما قالَ فَأَنْزَلَ الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قالَ أبو بَكْرٍ

7 - وفي شوال من هذه السنة: وقعت غزوة الأحزاب، فردهم الله خاسئين.

الصِّدِّيقُ: بَلَى واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كانَ يُنْفِقُ عَلَيهِ، وَقالَ: واللهِ لا أَنْزِعُها مِنْهُ أَبَدًا، قالَتْ عائِشَةُ: وَكانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقالَ لِزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ الله أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي واللهِ ما عَلِمْتُ إِلّا خَيْرًا، قالَتْ عائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كانَتْ تُسامِينِي مِنْ أَزْواجِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَعَصَمَها الله بِالْوَرَعِ، قالَتْ: وَطَفِقَتْ أُخْتُها حَمْنَةُ تُحارِبُ لَها فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ (¬1). 7 - وفي شوال من هذه السنة: وقعت غزوة الأحزاب، فردهم الله خاسئين. الشرح: لمّا علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهود بذلك، وأن قوتهم لا تُحاكي قوة المسلمين، اتفقوا على جمع المجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة للقضاء على الإِسلام والمسلمين. وقيل أن الذي بدأ بذلك وجمع الجموع هم اليهود حيث خرج وفد منهم إلى مكة فيهم سلام بن أبي الحُقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة على حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير (¬2). فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4142)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك. (¬2) أخرج ذلك ابن هشام في سيرته 3/ 114، 115، عن ابن إسحاق إلى عروة مرسلًا.

عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرِّيُّ، وخرجت أشجع وقائدها مُسْعر بن رُخيلة. فلما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا (¬1). فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل وهو يقول، تسلية لهم ليُهون عليهم ما هم فيه من شدة وبلاء وجوع: "اللهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْاَخِرَةْ، فاغْفِرْ لِلْأَنْصارِ والْمُهاجِرَةْ"، فيقولون مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهادِ ما بَقِينَا أَبَدَا (¬2) ويَقُولُ أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: اللهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنا ... وَلا تَصدَّقْنا وَلا صَلَّيْنا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنا ... وَثَبِّتْ الْأَقْدامَ إِنْ لاقَيْنا إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنا ... وَإِنْ أَرادُوا فِتْنَةً أَبَيْنا ثُمَّ يرفع صَوْتَهُ ويقول: أبينا أبينا ويمد صوته بِآخِرِهَا (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 115 , بتصرف يسير. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (4099)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق، واللفظ للبخاري. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4104)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.

وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ ناحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقالَ: "تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمانُ الْفارِسِيُّ قائِمٌ يَنْظُرُ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ، وَقالَ: "تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَرَآها سَلْمانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقالَ: "تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْباقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ رِداءَهُ وَجَلَسَ، فقالَ سَلْمانُ: يا رَسُولَ الله رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ ما تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلّا كانَتْ مَعَها بَرْقَةٌ؟! قالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سَلْمانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ "، فَقالَ: إِي والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يا رَسُولَ الله، قالَ: "فَإنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى، رُفِعَتْ لِي مَدائِنُ كِسْرَى وَما حَوْلَها، وَمَدائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَيْنَيَّ"، قالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحابِهِ: يا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَن يَفْتَحَها عَلَيْنا، وَيُغَنِّمَنا دِيَارَهُم، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينا بِلادَهُمْ، فَدَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، "ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدائِنُ قَيصَرَ وَما حَوْلَها، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَيْنَيَّ"، قالُوا: يا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَها عَلَينا، وَيُغَنِّمَنا دِيارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينا بِلادَهُمْ، فَدَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، "ثُمَّ ضَرَبْتُ الثّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدائِنُ الْحَبَشَةِ، وَما حَوْلَها مِنْ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَينَيَّ"، قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "دَعُوا الْحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُمْ، واتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ" (¬1). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 4/ 303، والنسائي (3176)، كتاب: الجهاد، باب: غزوة الترك والحبشة، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (772). ومعنى ندر: أي سقط.

ويحكي لنا جابر - رضي الله عنه - معجزة عجيبة للنبي-صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف. يقول جابر - رضي الله عنه -: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا (¬1)، فانْكَفَأْتُ إلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَئيءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرابًا فِيهِ صاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنا بُهَيْمَةٌ داجِنٌ (¬2) فَذَبَحْتُها، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إلى فَراغِي (¬3)، وَقَطَّعْتُها في بُرْمَتِها (¬4)، ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنا وَطَحَنَّا صاعًا مِنْ شَعِيرٍ كانَ عِنْدَنا، فَتَعالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصاحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: "يا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جابِرًا سُورًا (¬5) فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ (¬6) "، فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُم، وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجِيءَ"، فَجِئْتُ وَجاءَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْدُمُ النّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقالَتْ: بِكَ وَبِكَ (¬7)، قَدْ فَعَلْتُ الَّذي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فَبَصَقَ وَبارَكَ، ثُمَّ قالَ: ادْعُ خابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلا تُنْزِلُوها، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وانْحَرَفُوا (¬8) وإنَّ بُرْمَتَنا. لَتَغِطُّ كَما هِيَ وإنَّ عَجِينَنا لَيُخْبَزُ كَما هُوَ (¬9). ¬

_ (¬1) خمصًا: أي جوعًا. (¬2) أي سمينة. (¬3) أي ففرغت من طحن الشعير حين فرغت من ذبح البهيمة. (¬4) البرمة: القدر التي تُطبخ فيه. (¬5) السُور: كلمة حبشية معناها الضيف. (¬6) أي: هلموا مسرعين. (¬7) أي: تعاتبه على ما فعل، وأن الطعام لن يكفي هذا العدد. (¬8) أي: ذ هبوا. (¬9) متفق عليه: أخرجه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2038)، كتاب: الأشربة، باب: جواز استتباعه إلى دار من يثق برضاه.

لقد جاءت هذه المعجزة للنبي-صلى الله عليه وسلم- في وقتها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا في أشد الحاجة إلى الطعام حتى يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا على الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام. فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون ذواقًا، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع (¬1). وحتى إنهم من شدة الجوع وعدم وجود شيئًا يأكلوه كانوا يأكلون الطعام المنتن الذي تغيرت رائحته ولونه. يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -:كانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهالَةٍ سَنِخَةٍ (¬2) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ والْقَوْمُ جِياعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ في الْحَلْقِ وَلَها رِيحٌ مُنْتِنٌ (¬3). وظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل ويحمل التراب على كتفه الشريف حتى غطى التراب بطنه - صلى الله عليه وسلم -. يقول الْبَراءُ - رضي الله عنه -: لَمّا كانَ يَوْمُ الْأَحْزابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وارَى (¬4) عَنِّي الْغُبارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب. (¬2) الإهالة: الدهن أو الزيت أو السمن ونحو ذلك، وسنخة: أي تغير طعمها ولونها من قدمها. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب. (¬4) وارى: أي حجب من كثرته. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4106)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.

وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه - صلى الله عليه وسلم - وينقلون التراب على متونهم (¬1) وهم يرتجزون (¬2) بما تقدم من أشعار حتى فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين (¬3)، وكان ذلك في غداة باردة (¬4). ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنساء والأطفال فوضعوا في الحصون. عَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ قالَ: كُنْتُ أَنا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَةِ في أُطُمِ (¬5) حَسّانَ فَكانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً فَأَنْظُرُ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ مَرَّةً فَيَنْظُرُ (¬6). ثم ظهرت فلول المشركين، الذين تحزَّبوا لمحاربة الله ورسوله، والصدِّ عن سبيل الله (¬7). ¬

_ (¬1) أي: على أكتافهم. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4100)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق. (¬3) وردت أخبار في بعض كتب السير تُفيد بأن سلمان الفارسي الذي أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، وكلها لا تثبت، إذ لا إسناد لها. كما وردت أخبار تحدد حجم الخندق الذي حفره المسلمون طولًا وعرضًا وعمقًا، وتحدد مكانه تحديدًا دقيقًا، وجميعها لا يصح. (¬4) متفق عليه: من حديث أنس، انظر التخريج السابق، واللفظة للبخاري (4099). (¬5) الأُطُم: الحصين، وجمعها آطام. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحاح باب: فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -. وكان عُمْر عبد الله بن الزبير حينها يقرب من خمس سنوات حيث ولد في العام الأوّل من الهجرة - كما تقدم. (¬7) ذكر أهل السير أن عددهم بلغ عشرة آلاف مقاتل.

فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين -بأي حالٍ- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضى عليهم لا محالة، ففكَّروا في نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم. وفعلًا نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا على استعداد لمعاونة الأحزاب على المسلمين. ووصل الخبر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتد الخطب عليهم. وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف (¬1). وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: الأحزاب، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي: بنو قريظة، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} من شدة الخوف والفزع، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله -عز وجل-. فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله -عز وجل-، وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، {وَصَدَقَ ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 427.

اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، واستأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ففضحهم الله -عز وجل-، وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]. ثم أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إلى بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْأَحْزابِ: "مَنْ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقالَ الزُّبَيْرُ: أَنا، ثُمَّ قالَ: "مَنْ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقالَ الزُّبَيْرُ: أَنا، ثُمَّ قالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍ حَوارِيُّ، وإِنَّ حَوارِيَّ الزُّبَيْرُ" (¬1). وعَنْ عبد الله بن الزُّبَيرِ - رضي الله عنهما -، قالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزابِ جُعِلْتُ أَنا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ في النِّساءِ، فَنَظَرْتُ فَإِذا أَنا بِالزُّبَيرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إلى بني قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَلَمّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قالَ: أَوَ هَلْ رَأَيْتَنِي يَا بنيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ يَأتِ بني قُرَيْظَةَ فَيَأتِينِي بِخَبَرِهِم؟ "، فانْطَلَقْتُ، فَلَمّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله أَبَوَيْهِ، فَقالَ: "فِدَاكَ أبي وَأُمِّي" (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4113)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -.

فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد. أما المشركون فقد فُجئوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارى، لا يستطيعون اقتحامه. ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم. عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قالَ: لَمَّا كانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَرَجُلٌ يَتَتَرَّسُ جَعَلَ يَقُولُ بِالتُّرْسِ هَكَذا، فَوَضَعَهُ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ يَقُولُ (¬1): هَكَذا يُسَفِّلُهُ بَعْدُ (¬2)، قالَ: فَأَهْوَيْتُ إلى كِنانَتِي فَأَخْرَجْتُ مِنْها سَهْمًا مُدَمًّا (¬3) فَوَضَعْتُهُ في كَبِدِ الْقَوْسِ، فَلَمّا قالَ هَكَذا يُسَفِّلُ التُّرْسَ، رَمَيْتُ، فَما نَسِيتُ وَقْعَ الْقِدْحِ (¬4) عَلَى كَذا وَكَذا مِنْ التُّرْسِ، قالَ: وَسَقَطَ، فَقالَ: بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ، لِفِعْلِ الرَّجُلِ (¬5). ولم تنقطع هجمات المشركين على الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتى غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صدِّ المشركين عن الخندق. عَنْ جابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما -، أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطّابِ - رضي الله عنه - جاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ بَعْدَ ¬

_ (¬1) يقول: أي يشير. (¬2) يسفله: أي ينزل به لأسفل ليحمي أسفله، فهو يرفعه تارة فوق أنفه ليحمي أعلاه، وتارة لأسفل ليحمي أسفله. (¬3) السهم المدمى: الذي أصابه الدم فحصل في لونه سواد وحمرة مما رمى به العدو، ويطلق على ما تكرر به الرمي، والرماة يتبركون به. (نهاية). (¬4) القدح -بكسر القاف وسكون الدال-: عود السهم. (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (1620)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.

ما غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفّارَ قُرَيْشٍ، قالَ: يا رَسُولَ الله ما كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصرَ حَتَّى كادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ ما صَلَّيْتُهَا"، فَقُمْنا إلى بُطْحانَ فَتَوَضَّأَ لِلصلاةِ، وَتَوَضَّأْنا لَها، فَصلَّى الْعَصرَ بَعْدَ ما غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلَّى بَعْدَها الْمَغْرِبَ (¬1). فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء على المشركين. عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ الْأَحزابِ، قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلَأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نارًا، شَغَلُونا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غابَتْ الشَّمْسُ" (¬2). ثم استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه على المشركين والأحزاب. عن عبد الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنهما - قال: دَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْأَحْزابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقالَ: "اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتابِ، سَرِيعَ الْحِسابِ، اللهمَّ اهْزِمْ الْأَحْزابَ، اللهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (596)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، مسلم (631)، كتاب: المساجد مواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطي هي صلاة العصر. ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (2931)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (2933)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.

فاستجاب الله -عز وجل- دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف. وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} [الأحزاب: 9]. فلم تتحمل الأحزاب جنود الله -عز وجل-، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل. عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: لَقَد رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةَ الْأَحْزابِ وَأَخَذَتْنا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ (¬1)، فَقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا رَجُلٌ يَأتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ "، فَسَكَتْنا فَلَم يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: "أَلا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ "، فَسَكَتْنا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: "ألا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ "، فَسَكَتْنا فَلَم يُجِبهُ أَحَدٌ، فَقالَ: "قُمْ يا حُذَيْفَةُ فَأتِنا بِخَبَرِ الْقَوْمِ"، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قالَ: "اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلا تَذْعَرْهُم عَلَيَّ" (¬2)، فَلَمّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّما أَمْشِي في حَمَّامٍ (¬3) حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبا سُفْيانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ (¬4)، فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرتُ قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلا تَذْعَرْهُم عَلَيَّ"، وَلَوْ رَمَيتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنا أَمْشِي في ¬

_ (¬1) القُرُّ: البرد. (¬2) لا تذعرهم عليَّ: أي لا تُهيجهم عليَّ. (¬3) أي: في جوٍّ دافئ. (¬4) أي: يدفئه ويدنيه منها.

مِثْلِ الْحَمّامِ، فَلَمّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ (¬1)، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَضْلِ عَباءَةٍ كانَتْ عَلَيهِ يُصَلِّي فِيها، فَلَم أَزَلْ نائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمّا أَصْبَحْتُ قالَ: "قُمْ يا نَوْمانُ! " (¬2) وفي رواية: قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقد النار، وقد صبَّ الله عليهم من البرد مثل الذي صبَّ علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون (¬3). وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله -عز وجل- وحده: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25]. وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة (¬4)، بفضلٍ من الله-عز وجل-. ولذا كانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لا إِلَهَ إِلّا الله وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الْأَحْزابَ وَحْدَهُ، فَلا شَيءَ بَعْدَهُ" (¬5). ¬

_ (¬1) أي: شعرتُ بالبرد، أي أنه لما ذهب لقضاء مهمته التي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجلها لم يشعر بالبرد بل شعر بدفءٍ تام، ولم يشعر بالريح الشديدة كبقية القوم، فلما قضى مهمته، عاد إليه البرد الذي يجده الناس. قال النوويّ -رحمه الله-: وهذه من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-. اهـ "شرح مسلم" 6/ 327. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1788)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب. (¬3) البزار "كشف الأستار" 2/ 335، 336. (¬4) ذكر ذلك ابن سعد في "الطبقات" 2/ 73 بإسناد رجاله ثقات إلى سعيد بن المسيب مرسلًا، ومراسيله قوية. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4114)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2724)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.

8 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: وقعت غزوة بني قريظة، ونالوا جزاء خيانتهم العظمى.

وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما أَجْلَى الله الْأَحْزابَ: "الْآنَ نَغْزُوهُم، وَلا يَغْزُونَنا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ" (¬1). 8 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: وقعت غزوة بني قريظة، ونالوا جزاء خيانتهم العظمى. الشرح: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغْتَسَلَ، أَتاهُ جِبْرِيلُ -عليه السلام - وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبارِ فَقالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ؟ واللهِ ما وَضَعْتُهُ اخْرُجْ إِلَيهِم، قالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأَيْنَ"، فَأَشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم (¬2). وسارع في الخروج، وحث الصحابة على سرعة اللحاق به، حتى قالَ لهم - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلّا في بني قُرَيْظَةَ"، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُم الْعَصرَ في الطَّرِيقِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَها، وَقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا مِنْهُمْ (¬3). خروج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة: عَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الْغُبارِ سَاطِعًا في زُقاقِ بني غَنْمٍ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4110)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، مسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4119)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، مسلم (1770)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين.

مَوْكِبَ جِبرِيلَ صَلَواتُ الله عَلَيهِ حِينَ سارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قُرَيْظَةَ (¬1). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قالَ: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة لِحَسَّانَ بن ثابت: "اهْجُ المشركين فإنَ جِبْرِيلَ مَعَكَ" (¬2). ووصل النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون إلى بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُييُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان (¬3). فلما أيقنوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم فحكّم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ورضي أهلُ قريظة بحكمه. عن أبي سعيد الْخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بن مُعاذٍ، فأَرْسَلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سَعْدٍ، فأَتَى عَلَى حِمَار، فَلَمّا دَنا مِنْ الْمَسجِدِ، قالَ لِلْأَنْصارِ: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ -أَوْ خَيرِكُم-" فقالَ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ"، فقالَ: تَقْتُلُ مُقاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبِي ذُرِّاريهُمْ، قالَ: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ الله"، وَرُبَّما قالَ: "بِحُكْمِ الْمَلِكِ" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4118)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخرجه إلى بني قريظة. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4124)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، مسلم (2486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت - رضي الله عنه -. (¬3) "سيرة ابن هشام" 3/ 127. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، مسلم (1768)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتل من نقض العهد.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يميز بين الصغار والبالغين استعدادا لتنفيذ حكم سعد - رضي الله عنه -

وفي رواية قَالَ سعد: وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوالُهُمْ (¬1). النبي - صلى الله عليه وسلم - يميز بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد - رضي الله عنه -: عن عطية الْقُرَظِيِّ قالَ: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بني قُرَيْظَةَ، فَكانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبتْ. وفي لفظ: فَكَشَفُوا عانَتِي فَوَجَدُوها لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنْ السَّبْيِ (¬2). قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يُخرج بهم إليه أرسالًا (¬3) وفيهم عدو الله حُييُّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسالًا: يا كعب، ما تراه يُصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4). ¬

_ (¬1) هذا لفظ البخاري. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4404، 4405)، كتاب: الحدود، باب: في الغلام يصيب الحد، وصححه الشيخ الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬3) أرسالًا: أي طائفة بعد طائفة. (¬4) "سيرة ابن هشام" 3/ 130.

المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة

وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب المسلمين، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 26، 27]. المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة: عَنْ عائِشَةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: لَمْ تُقْتَلْ مِنْ نِسائِهِمْ -تَعْنِي بني قُرَيْظَةَ- إِلّا امْرَأَةٌ، إِنَّها لَعِنْدِي تُحَدِّثُ: تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْتُلُ رِجالَهُمْ بِالسُّيُوفِ، إِذْ هَتَفَ هاتِفٌ بِاسْمِها: أَيْنَ فُلانَةُ؟ قالَتْ: أَنا، قُلْتُ: وَما شَأْنُكِ؟ قالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ، قالَتْ: فانْطَلَقَ بِها، فَضُرِبَتْ عُنُقُها، فَما أَنْسَى عَجَبًا مِنْها: أَنَّها تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّها تُقْتَلُ (¬1). قال ابن هشام: وهي التي طرحت الرَّحى على خلاد بن سويد فقتلته (¬2). فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمى، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100]. ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فبقوا بالمدينة. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد 6/ 277، أبو داود (2671)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 131.

9 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: توفي سعد بن معاذ - رضي الله عنه.

عَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: حارَبَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَى بني النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حارَبَتْ قُرَيْظَةُ، فَقَتَلَ رِجالَهُمْ، وَقَسَمَ نِساءَهُمْ، وَأَوْلادَهُم، وَأَمْوالَهُم بَينَ الْمُسْلِمِينَ، إِلّا بَعْضَهُم لَحِقُوا بِالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَهُم وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُم بني قَيْنُقاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عبد الله بن سَلامٍ وَيَهُودَ بني حارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِ الْمَدِينَةِ (¬1). 9 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: توفي سعد بن معاذ - رضي الله عنه. الشرح: عَنْ عائِشَةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: أُصيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَماهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقالُ لَهُ: حِبَّانُ بن الْعَرِقَةِ، وَهُوَ حِبَّانُ بن قَيْسٍ، مِنْ بني مَعِيصِ بن عامِرِ بن لُؤَيّ، رَماهُ في الْأَكْحَلِ (¬2) فَضَرَبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيمَةً في الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَقال سعد: اللهمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخْرَجُوهُ، اللهمَّ فَإِنِّي أَظنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيءٌ فأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجاهِدَهُمْ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فافْجُرْها واجْعَلْ مَوْتَتِي فِيها، فانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ (¬3) فَلَم يَرُعْهُمْ- وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بني غِفارٍ - إِلّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقالُوا: يا أهْلَ الْخَيْمَةِ ما هَذا الَّذِي يَأْتِينا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَما زال يسيل حتى ماتَ (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4028)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير، ومسلم (1766)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إجلاء اليهود من الحجاز. (¬2) الأكحل: عرقٌ في وسط الذراع، إذا قُطع لم يرقأ الدم. (¬3) اللَّبة: موضع القلادة من الصدر، وكان موضع الجرح ورم حتى اتصل الورم إلى صدره فانفجر من صدره. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، مسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتل من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حُكم حاكم عدل أهلٍ للحكم.

10 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: قتلت الخزرج أبا رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فلَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ، وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ في بني قُرَيْظَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ" (¬1). وقال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرحمن لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ" (¬2). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ خَيرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ" (¬3). 10 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: قتلت الخزرج أبا رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: كان مما صنع الله به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذين الحيَّين من الأنصار، الأوس والخزرج كانا يتصاولان (¬4) مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غناء (¬5) إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وفي الإِسلام قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (3849)، كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وقال: حسن صحيح غريب، عبد الرزاق (20414)، الحاكم 3/ 207، وصححه الألباني "المشكاة" (6228). (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3803)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - مسلم (2466)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3802)، باب: مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، مسلم (2468)، كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -. (¬4) أي: يتنافسان. (¬5) غَناء: أي دفع مكروه، وجلب منفعة.

فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك (¬1). ولما انقضى شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحُقيق- وهو أبو رافع- فيمن حزب الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الأوس قبل أُحُد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحريضه عليه استأذنت الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل سلام بن أبي الحُقيق، وهو بخيبر فأذن لهم (¬2). عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أبي رَافِعٍ، عبد الله بن عَتِيكٍ وَعبد الله بن عُتْبَةَ في نَاسٍ مَعَهُمْ فَانْطَلَقُوا حَتَّى دَنَوْا مِنْ الْحِصنِ، فَقَالَ لَهُمْ عبد الله بن عَتِيكٍ: امْكُثُوا أَنْتُمْ حَتَّى أَنْطَلِقَ أَنَا فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَتَلَطَّفْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْحِصْنَ، فَفَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ- وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم (¬3) - فَخَرَجُوا بِقَبَسٍ (¬4) يَطْلُبُونَهُ، قَالَ: فَخَشِيتُ أَنْ أُعْرَفَ، قَالَ: فَغَطَّيْت رَأْسِي وَجَلَسْتُ كَأَنِّي أَقْضِي حَاجَةً، ثُمَّ نَادَى صَاحِبُ الْبَابِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَدْخُلْ قَبْلَ أَنْ أُغْلِقَهُ، فَدَخَلْتُ ثُمَّ اخْتَبَأْتُ في مَرْبِطِ حِمَارٍ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ، فَتَعَشَّوْا عِنْدَ أبي رَافِعٍ وَتَحَدَّثُوا حَتَّى ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى بُيُوتِهِمْ، فَلَمَّا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ، وَلَا أَسْمَعُ حَرَكَةً خَرَجْتُ، قَالَ: وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْبَابِ حَيْثُ وَضَعَ مِفْتَاحَ الْحِصْنِ في كَوَّةٍ، فَأَخَذْتُهُ فَفَتَحْتُ بِهِ بَابَ الْحِصْنِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنْ نَذِرَ بِي الْقَوْمُ انْطَلَقْتُ عَلَى مَهَلٍ ثُمَّ عَمَدْتُ إلى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ ثُمَّ صَعِدْتُ إلى أبي رَافِعٍ في سُلَّمٍ فَإِذَا الْبَيْتُ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 158. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 157. (¬3) أي: بمواشيهم. (¬4) أي: شعلة من نار.

11 - وفي هذه السنة: تسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريحانة، وهي من سبي بني قريظة بعدما أسلمت وظلت معه حتى ماتت في السنة العاشرة للهجرة

مُظْلِمٌ قَدْ طَفِئَ سِرَاجُهُ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ الرَّجُلُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَعَمَدْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ وَصَاحَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ، فَقُلْتُ: مَالَكَ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، فَقَالَ: أَلَا أُعْجِبُكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَعَمَدْتُ لَهُ أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ فَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَضَعُ السَّيْفَ في بَطْنِهِ ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ- حتى أخذ في ظهره- حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ الْعَظْمِ، ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ فَانْخَلَعَتْ رِجْلِي فَعَصَبْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أصحابي أَحْجُلُ، فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّي لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ في وَجْهِ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ، فَقَالَ: أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: فَقُمْتُ أَمْشِي مَا بِي قَلَبَةٌ فَأَدْرَكْتُ أصحابي قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: "ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ (¬1). 11 - وفي هذه السنة: تسرَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريحانة، وهي من سبي بني قريظة بعدما أسلمت وظلت معه حتى ماتت في السنة العاشرة للهجرة. الشرح: قال ابن إسحاق رحمه الله: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن جُنافة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى تُوفي عنها وهي ملكه (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4040)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقيق، ويقال: سلام بن أبي الحقيق. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 133.

12 - وفي هذه السنة: قدم وفد أشجع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

12 - وفي هذه السنة: قدم وفد أشجع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: وقدمتْ أشجع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عام الخندق، وهم مائة- على- رأسهم مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سَلْع، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمَّد لا نعلم أحدًا من قومنا أقرب دارًا منك منَّا، ولا أقلَّ عددًا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم، ويقال: بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني قريظة وهم سبعمائة، فوادعهم ثم أسلموا بعد ذلك (¬1). 13 - وفي هذه السنة: سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل. الشرح: عن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ (¬2) مِنْ الْحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ (¬3)، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بني زُرَيْقٍ (¬4) وَكان ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا (¬5). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 306. (¬2) يقال: أُضمرت الخيل، وهو أن يُقلل علفها مدة، وتدخل بيتًا، وتُجلل فيه لتعرق ويجف عرقها، فيخف لحمها وتقوى على الجري. (¬3) بين ثنية الوداع والحفياء خمسة أميال أو ستة. (¬4) وبين ثنية الوداع ومسجد بني زريق ميلٌ واحد. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (2868)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السبق بين الخيل، ومسلم (1870)، كتاب: الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها.

14 - وفي هذه السنة: زلزلت المدينة

وذكر ابن سيد الناس ذلك ضمن أحداث السنة الخامسة، فقال: وفيها سابق- النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل (¬1). 14 - وفي هذه السنة: زُلزلت المدينة. الشرح: قال ابن سيد الناس رحمه الله: وفيها -أي: في السنة الخامسة- زلزلت المدينة (¬2). ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 2/ 373. (¬2) المصدر السابق.

السنة السادسة من الهجرة

السنة السادسة من الهجرة

السنة السادسة من الهجرة وفيها ثمانية وعشرون حدثًا: 1 - في المحرم من هذه السنة: كانت سرية محمد بن مَسْلَمة - رضي الله عنه - إلى القرْطاء. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، خرج لعشر ليال خلون من المحرم، على رأس تسعة وخميس شهرًا من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه في ثلاثين راكبًا إلى القرطاء، وهم بطن من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضريَّة (¬1) وبين المدينة وضريَّة سبع ليال، وأمره أن يشنَّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، وأغار عليهم، فقتل نفرًا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعمًا وشاءً ولم يعرض للظعن (¬2)، وانحدروا إلى المدينة فخمَّس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به (¬3)، وفضَّ (¬4) على أصحابه ما بقي، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، وكانت النَّعم مائة وخمسين بعيرًا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة وقدم لليلة بقيت من المحرم (¬5). وذكر أبو عبد الله الحاكم أن ثمامة بن أُثال أُخِذ فيها (¬6). عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ ¬

_ (¬1) اسم بئر. (¬2) الظُعُن: النساء، أي: لم يتعرض للنساء. (¬3) خمَّس: أي أخذ الخمس. (¬4) فضَّ: أي فرَّق. (¬5) "الطبقات" 2/ 78. (¬6) "عيون الأْثر" 2/ 118.

2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية عكاشة بن محصن الأسدي - رضي الله عنه - إلى الغمر، فغنموا ورجعوا سالمين

مِنْ بني حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بن أُثَالٍ، سيد أهل اليمامة فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:"مَاذا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، فقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ بعد الْغَدُ، فقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، قَالَ: مَا قلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ "، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورَسُولُه، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِن وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كلها إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كله إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كلها إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أصَبَوْتَ؟ فقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَاللهِ لَا يَأْتِيكُم مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية عكاشة بن محصن الأسدي - رضي الله عنه - إلى الغمر، فغنموا ورجعوا سالمين. الشرح: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيعَ الأول- أو الآخر- سنة ستٍّ من قدومه المدينة عُكَّاشة بن مِحْصَن الأسديَّ في أربعين رجلاً إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرم، وسباع بن وهب، فأجدَّ السير، ونذر القوم بهم، فهربوا، فنزل ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4372)، كتاب: المغازي، باب: وقد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، مسلم (1764)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه.

3 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية محمد مسلمة - رضي الله عنه - إلى ذي القصة فقتلوا جميعا إلا محمد بن مسلمة حمل جريحا

على مياههم، وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة (¬1). 3 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية محمد مسلمة - رضي الله عنه - إلى ذي القَصَّة فَقُتلوا جميعًا إلا محمد بن مسلمة حمل جريحًا. الشرح: خرج محمَّد بن مَسْلَمة - رضي الله عنه - في هذه السرية معه عشرة نفر، فكمن القوم لهم حتى ناموا، فما شعروا إلا بالقوم، فقُتل أصحاب محمَّد بن مسلمة وأفلت هو جريحًا (¬2). 4 - وفي ربيع الآخر أيضًا من هذه السنة: كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - إلى ذي القَصَّة فغنموا وسلموا. الشرح: خرج أبو عبيدة - رضي الله عنه - إلى ذي القَصَّة أيضًا في أربعين رجلاً، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوها مع الصبح، فأغاروا عليهم، فهربوا منهم في الجبال، وأصابوا رجلاً واحدًا فأسلم (¬3). 5 - وفي ربيع الآخر أيضًا من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى بني سُلَيم بالجموم، فأسروا وغنموا وسلموا. الشرح: خرج زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى بني سُلَيم بالجموم، فأصاب امرأة من مُزينة ¬

_ (¬1) ذكر هذه السرية: ابن سعد في "الطبقات" 2/ 74، ابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 200، وابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 250، والذهبي في "المغازي" (352). (¬2) ذكر هذه السرية: ابن سعد في "الطبقات" 2/ 85، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 200، وابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 251، والذهبي في "المغازي" (352). (¬3) ذكرها: ابن سعد في "الطبقات" 2/ 82، الذهبي في "المغازي" (353)، ابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 200، وابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 250.

6 - وفي جمادي الأولى من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى العيص، فغنمت وسلمت

يقال لها: حليمة، فدلتهم على مَحِلَّة من محالِّ بني سُلَيم، فأصابوا نَعَمًا وشاءً وأسرى، وكان في الأسرى زوج حليمة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب، وهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمُزينة نفسها وزوجها (¬1). 6 - وفي جُمادي الأولى من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى العِيص، فغنمت وسلمت. الشرح: قال ابن القيم رحمه الله في معرِض ذكره لأحداث السنة السادسة: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جُمادى الأولى. 7 - وفي جمادي الأولى أيضًا من هذه السنة: كانت غزوة بني لحيان بناحية عُسْفان، فلم يلقوا أحدًا. الشرح: ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ليغزوهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل، وأظهر أنه يريد الشام، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غُرَان (¬2) وادٍ من أودية بلادهم، وهو بين أَمَج وعُسْفان، حيث كان مصاب أصحابه (¬3). فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسمعت بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 83، "البداية والنهاية" 4/ 200، "مغازي الذهبي" (353)، "زاد المعاد" 3/ 251. (¬2) اسم وادٍ فيه منازل بني لحيان. (¬3) أي: المكان الذي قُتل فيه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الرجيع.

8 - وفي جمادي الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى الطرف فغنموا وسلموا

عليهم، فسار إلى عُسْفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغميم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة (¬1). 8 - وفي جمادي الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى الطَّرِف فغنموا وسلموا. الشرح: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى الطَّرِف (¬2) في جُمادى الأولى إلى بني ثعلبة، في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار إليهم، فأصاب- زيد- من نعمهم عشرين بعيرًا، وغاب أربع ليالٍ (¬3). 9 - وفي جمادي الآخرة من هذه السنة: كانت سريةُ زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى حِسْمَى. الشرح: ثم سرية زيد بن حارثة إلى حِسْمى، وهي وراء وادي القرى في جُمادى الآخرة سنة ست. قال: أقبل دِحية بن خليفة الكلبيُّ من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهُنيد بن عارض، وابنه عارض بن الهُنيد في ناس من جذام بحِسْمى، فقطعوا ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 246، 247، والغزوة ذكرها: ابن هشام عن ابن إسحاق 3/ 161، 162، ابن سعد 2/ 78، ابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 169، وكانت هذه الغزوة انتقامًا من بني لحيان الذين قتلوا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الرجيع. (¬2) الطَّرِف بفتح الطاء وكسر الراء: ماءً على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. (¬3) "زاد المعاد" 3/ 251، السرية ذكرها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 87، الذهبي في "المغازي" (353)، والطبري في "التاريخ" 2/ 126.

10 - وفي رجب من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - أيضا إلى وادي القرى، فلم يلق كيدا

عليه الطريق، فلم يتركوا عليه إلا سَمَل ثوب (¬1)، فسمع بذلك نفر من بني الضُّبيب، فنفروا إليهم، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحيةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردَّ معه دحية، وكان زيد يسير بالليل، ويكمن بالنهار، ومعه دليل له من بني عُذْرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا وقتلوا الهُنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونَعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان (¬2). وقيل: أن رفاعة بن زيد الجُذاميَّ أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه ردَّ الأسر، والسبايا والأموال، فردَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). 10 - وفي رجب من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - أيضًا إلى وادي القُرى، فلم يلق كيدًا. الشرح: ثم غزوة زيد بن حارثة إلى وادي القرى، فأُصيب يومئذ من المسلمين ورد ابن مِرداس، وارْتُثَّ (¬4) زيد بن حارثة من بين وسط القتلى (¬5). وقيل: أن زيدًا خرج بتجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة، فضربوه وضربوا أصحابه، ¬

_ (¬1) الثوب السَّمَل: أي الثوب القديم المتهالك. (¬2) "عيون الأثر" 2/ 152، 153، والسرية ذكرها أيضًا ابن سعد في "الطبقات" 2/ 8. (¬3) السابق. (¬4) وارْتُثَّ: أي حمل من المعركة رثيثًا أي جريحًا وبه رُمْقٌ. (¬5) "عيون الأثر" 2/ 153.

11 - وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - إلى دومة الجندل، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج ابنة ملكهم فأسلموا وتزوجها

وأخذوا ما معه من مال (¬1). 11 - وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - إلى دومة الجندل، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج ابنة ملكهم فأسلموا وتزوجها. الشرح: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - إلى دُومة الجندل في شعبان، وقال له: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فأسلم القوم، وتزوج عبد الرحمن - رضي الله عنه - تُماضر بنت الأصبغ، وكان أبوها رأسهم وملكهم (¬2). 12 - وفي شعبان ايضًا من هذه السنة: كانت سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى بني سعد بن بكر بفدك فشتَّت شملهم، وغنم وسلم. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: ثم سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى بني سعد بن بكر بفدك في شعبان سنة ست قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم جمعًا يريدون أن يُمدُّوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليًا في مائة رجل فسار الليل وكمن النهار، حتى انتهى إلى الغمِج (¬3) وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال، فوجدوا به رجلاً، ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 2/ 154، عن ابن إسحاق. (¬2) ذكر هذه السرية ابن سعد في "الطبقات" 2/ 85، والطبري في "التاريخ" 2/ 126، وغيرهما. (¬3) الغمِج: هو الماء غير العذب، وهو هنا اسم موضع.

13 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى، فقتلوا وأسروا، وغنموا وسلموا

فسألوه عن القوم، فقال: أُخبركم على أنكم تُؤمنوني، فأمَّنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم، وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعُن ورأسُهم وَبْرُ بن عُليم، فعزل عليٌّ- صفيُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوحًا تدعى الحفِدة، ثم عزل الخمس، وقسم سائر الغنائم على أصحابه (¬1). 13 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى، فقتلوا وأسروا، وغنموا وسلموا. الشرح: تقدم أن زيد بن حارثة - رضي الله عنه - كان خارجًا بتجارة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيه ناس من فزارة بناحية وادي القرى، فضربوه وأصحابه وأخذوا ما معهم من مال، وانفلت زيد من بين القتلى. قال ابن إسحاق رحمه الله: فلما قدم زيد بن حارثة نذر أن لا يمس رأسه غسلٌ من جنابة، حتى يغزو فزارة فلما اسْتبلَّ من جراحه (¬2) بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش إلى بني فزارة، فلقيهم بوادي القرى، وأصاب فيهم، وأسر أم قِرفة، وهي فاطمة بنت زمعة بن بدر، وكانت عند حذيفة بن بدر عجوزًا كبيرة، وبنتًا لها، وعبد الله بن مسعدة فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، فقتلها. ثم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنة أم قرفة، وبعبد الله بن مسعدة، فكانت بنت أم قرفة لسلمة بن الأكوع، وكان هو الذي أصابها (¬3). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 89، 90، "عيون الأثر" 2/ 155، 156، والذهبي في "المغازي" (355). (¬2) أي: شُفي من جراحه. (¬3) "عيون الأثر" 2/ 154، عن ابن إسحاق، إلى عبد الله بن أبي بكر مرسلاً. وفي رواية مسلم (1755) أن أمير هذه السرية كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال السهيلي 4/ 253: وهذه الرواية- رواية مسلم- أصح وأحسن من رواية ابن إسحاق. اهـ.

14 - وفي رمضان أيضا من هذه السنة: أجدب الناس جدبا شديدا, فاستسقى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل المطر

يقول سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: غَزَوْنَا فَزَارَةَ وَعَلَيْنَا أبو بَكْرٍ، أَمَّرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَينَا، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ، أَمَرَنَا أبو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا (¬1) ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْهِ، وَسَبَى، وَأَنْظُرُ إلى عُنُقٍ مِنْ النَّاسِ (¬2) فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوْا السَّهْمَ وَقَفُوا، فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِم امْرَأَةٌ مِنْ بني فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ - قَالَ: الْقَشْعُ النِّطَعُ- مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَسُقْتُهُمْ حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أبو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَلَقِيَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في السُّوقِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْغَدِ في السُّوقِ، فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ (¬3) "، فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله فَوَاللهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أَهْلِ مَكَّةَ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ (¬4). 14 - وفي رمضان أيضًا من هذه السنة: أجدب الناس جدبًا شديدًا, فاستسقى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل المطر. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبر فَوُضِعَ لَهُ في الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ¬

_ (¬1) التعريس: النزول آخر الليل. (¬2) عُنق: أي جماعة. (¬3) لله أبوك: كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، وفيها إضافة الأب لله، مثل: بيت الله، والإضافة إلى الله تعظيم وتشريف. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1755)، كتاب: الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأُسارى.

15 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - إلى أسير بن رزام اليهودي، فقتلوه وسلموا

فَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ وَحَمِدَ الله عزّ وجلّ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّكُم شَكَوْتُم جَدْبَ دِيَارِكُم، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُم، وَقَدْ أَمَرَكُم الله عزّ وجلّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُم أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُم"، ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهمَّ أَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِي وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلى حِينٍ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ في الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ- أَوْ حَوَّلَ- رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ الله، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ، ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأنِّي عبد الله وَرَسُولُهُ" (¬1). وذكر ابن سيد الناس أن ذلك كان في رمضان من السنة السادسة (¬2). 15 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - إلى أُسير بن رزام اليهودي، فقتلوه وسلموا. الشرح: لما قُتل أبو رافع سلام بن أبي الحُقيق أمَّرت يهود عليهم أُسير بن رزام، فسار في غطفان وغيرهم، فجمعهم لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجَّه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرًا، فسأل عن خبره وغرَّته، فأُخبر بذلك، فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، فانْتُدب له ثلاثون رجلاً، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أبو داود (1173)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، وحسنه الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬2) "عيون الأثر" 2/ 373.

16 - وفي شوال أيضا من هذه السنة: كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين، فأتوا بهم، فقتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقدموا على أُسير فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له، قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويُحسن إليك، فطمع في ذلك، فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلاً من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة نبار ندم أُسير، فقال عبد الله بن أُنيس الجهني، وكان في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي، ففطنت له، ودفعت بعيري، وقلت: غدرًا أي عدو الله، فعل ذلك مرتين، فنزلت، فسقت بالقوم حتى انفرد لي أُسير، فضربته بالسيف فأندرتُ (¬1) عامَّة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مِخْرِش (¬2) من شَوْحط (¬3) فضربني فشجَّني مأمومة (¬4) وملنا على أصحابه فقتلناهم كما هم، غير رجل واحد أعجزنا شدًّا، ولم يُصب من المسلمين أحد، ثم أقلبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فحدَّثناه الحديث، فقال: "قد نجَّاكم الله من القوم الظالمين" (¬5). 16 - وفي شوال أيضًا من هذه السنة: كانت سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العرنيين، فأتوا بهم، فقتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عن أنس - رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ- ثمانية- قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِي الله إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَم نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُم أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِم، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَبِي - صلى الله عليه وسلم - فبَعَثَ ¬

_ (¬1) أندرت: أسقطت. (¬2) المخرش: عصا معقوفة الرأس. (¬3) شوحط: شجر ينبت في الجبال، تُتخذ منه قناة الرمح. (¬4) مأمومة: أي في أم رأسه. (¬5) "الطبقات الكبرى" 2/ 92، 93، وذكرها ابن هشام في "السيرة" 2/ 618.

قال الواقدي

الطَّلَبَ في آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا في نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ (¬1). قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العرنيين، الذين قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا النَّعم، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم كُرْز بن جابر، في عشرين فارسًا، فردُّوهم (¬2). 17 - وفي هذه السنة: وقبل صلح الحديبية، كانت سرية الخَبَط على الراجح. الشرح: عن جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: بَعَثَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِب أَمِيرُنَا أبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ نَرصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بالسَّاحِلِ نِصفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أكَلْنَاْ الْخَبَطَ (¬3) فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ (¬4) حَتَّى ثَابَتْ إِلَينَا أجْسَامُنَا (¬5) فَأَخَذَ أبو عُبَيدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ، فَعَمَدَ إلى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ وَبَعِيرًا فَمَرَّ تَحْتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ (¬6)، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ. هذا ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4192)، كتاب: المغازي، باب: قصة عُكْل وعُرينة، ومسلم (1671)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: حكم المحاربين والمرتدين. (¬2) من "البداية والنهاية" 4/ 201. (¬3) الخَبَط: بفتح الخاء والباء، أي: المخبوط، وهو الورق الذي يتساقط من الأشجار بعد خبطها بالعصا ونحوها، لتأكله الإبل. (¬4) ودكه: أي دهنه. (¬5) ثابت إلينا أجسامنا: أي رجعت كما كانت. (¬6) جزائر: جمع جزور وهو الجمل.

وأما لفظ مسلم

لفظ البخاري. وأما لفظ مسلم: بَعَثَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّرَ عَلَينَا أَبَا عُبَيدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أبو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قيل لجابر: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصنَعُونَ بِهَا، قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِل الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيب الضَّخْمٍ (¬1)، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ (¬2)، قَالَ أبو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ نحْنُ رُسُلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَفِي سبِيلِ الله وَقَدْ اضطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، قَالَ: وَلَقَدْ رَأيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْب عَيْنِهِ (¬3) بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ (¬4) أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، فَلَقَدْ أخَذَ مِنَّا أبو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأقْعَدَهُمْ في وَقْب عَينِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (¬5)، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَينَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ الله لَكُم فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا"، قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ فَأَكَلَهُ (¬6). 18 - وفي هذه السنة: كانت سرية بني عَبْس على الغالب. الشرح: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عيرًا لقريش أقبلت من الشام، فبعث بني عبس في ¬

_ (¬1) الكثيب: هو كومة الرمل. (¬2) العنبر: الحوت. (¬3) من وقب عينه: أي من داخل عينه. (¬4) أي: كقِطَع الثور. (¬5) الوشائق: هو اللحم يؤخذ فيُغْلى إغلاءً ولا ينضج فيحمل في الأسفار. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4361)، كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر وهم يتلقون عير قريش وأميرهم أبو عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه -، ومسلم (1935)، كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: إباحة ميتات البحر.

19 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كان صلح الحديبية وكان فتحا مبينا.

سرية وعقد لهم لواء (¬1). 19 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كان صلح الحديبية وكان فتحًا مبينًا. الشرح: ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإِسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صَدَّ عنه المشركون منذ ستة أعوام (¬2). والحديبية اسم بئر تقع على بعد اثنين وعشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من مكة وتعرف الآن بالشميس، وهي حدائق الحديبية ومسجد الرضوان (¬3). وبعضها يدخل في حدود الحرم المكي. قال الشافعي رحمه الله: بعضها في الحلِّ وبعضها في الحَرم (¬4). وسُمي بصلح الحديبية؛ لأن قريشًا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية. قال ابن القيم رحمه الله: قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 296، ولم يذكر تفاصيل أخرى للغزوة. (¬2) "الرحيق المختوم" (294). (¬3) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 434. (¬4) "زاد المعاد" 3/ 270.

الزهري، وقتادة وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. اهـ (¬1). وعَنْ قَتَادَةَ قال: سَأَلْتُ أَنَسًا - رضي الله عنه - كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ ... (¬2)، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متوجهًا إلى بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم (¬3) مُتسلِّحين بالسلاح (¬4) حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي. ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 255. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهن. (¬3) ورد ذكر هذا العدد في أحاديث صحيحة بصحيح البخاري، عن نفر من الصحابة رضوان الله عليهم، ممن شهدوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المشهد، منهم جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وفي رواية أخرى عن جابر: أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى أنهم كانوا ألفًا وثلاث مائة. انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي، باب غزوة الحديبية. ورجح ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 3/ 256، 257، قول من قال أنهم ألف وأربعمائة, لأنه قول الأكثر حيث قال: والقلب إلى ذلك أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حَزْن. اهـ. وقال ابن حجر رحمه الله: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألفًا وأربعمائة أو أكثر، اهـ. (¬4) مما يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا متسلحين ما رواه البخاري (4179): أنه لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قريشًا جمعوا له المجموع لقتاله استشار الصحابة في قتالهم أو عدم قتالهم، وهذا يدل على أنهم كانوا مستعدين للقتال في أي وقت.

فَلَمَّا أَتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَا الْحُلَيْفَةِ (¬1) قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ (¬2)، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ -وهو بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش- وَسَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ (¬3) أَتَاهُ عَيْنُهُ، فقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ (¬4) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ: "أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إلى عِيَالِهِمْ وَزَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ الله عزّ وجلّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ"، قَالَ أبو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فقَالَ- رسول الله-: "امْضُوا عَلَى اسْمِ الله" (¬5). فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ: "إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ (¬6) فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ"، فَوَ اللهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ ¬

_ (¬1) ذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذي يُحرمون من عنده، وهو الذي يُسمى الآن بـ (أبيار عليّ)، وتبعد عن المدينة أحد عشر كيلو مترًا، وبينها وبين مكة أربعمائة وأربعة وستون كيلو مترًا تقريبًا. (¬2) الهدي: ما يُهدى من النعم إلى الحرم تقربًا إلى الله عزّ وجلّ، ويكون الهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وتقليد الهدي: هو أن يعلق في عنقها نعلين، أو يضع عليها شيئًا من صوف ونحوه علامة لها أنها من الهدي، والتقليد عام للبقر والغنم والإبل، أما الإشعار: هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل الدم، ثم يسلته، ويكون ذلك في الجانب الأيمن لسنمة البعير، والإشعار خاص بالإبل فقط دون البقر والغنم. (¬3) غدير الأشطاط: اسم مكان وراء عُسْفان على بعد ثمانين كيلو من مكة. (¬4) الأحابيش: هم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناة ابن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش، قيل تحت جبل يقال له: الحبش أسفل مكة، وقيل: سمُّوا بذلك لتحبشهم، أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4178، 4179)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية. (¬6) الطليعة: مقدمة الجيش.

حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ (¬1) فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ (¬2) فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ (¬3)، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ (¬4) "، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا"، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ (¬5) قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا (¬6)، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُم أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيبَةَ نُصْحِ (¬7) رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ (¬8) نَزَلُوا أَعْدَادَ ¬

_ (¬1) قترة الجيش: غبار الجيش الذي يحدثه أثناء سيره. (¬2) حَلْ حَلْ: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. (¬3) خلأت القصواء: خلأت أي بركت من غير علَّة، والقصواء: اسم ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل كان طرف أذنها مقطوعًا، والقصو: قطع طرف الأذن، وقيل: إنها كانت لا تُسبق فقيل لها القصواء لأنها بلغت من السبق أقصاه. "فتح الباري" 5/ 395. (¬4) حبسها حابس الفيل: قال ابن حجر: أي حبسها الله عزّ وجلّ عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قُدر دخول الفيل وأصحابه مكة. اهـ. أي: قيل أبرهه الأشرم الذي كان يريد هدم الكعبة. (¬5) ثَمَدٍ: بفتح الثاء والميم، أي: حفرة صغيرة فيها ماء مثمود أي قليل. (¬6) التَبرُّض: هو الأخذ قليلاً قليلاً. (¬7) عَيْبة نُصح: العَيْبة: ما تُوضع فيه الثياب لحفظها، أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سره. (¬8) قوله: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي: يقصد قريشًا، وإنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما.

مِيَاهِ (¬1) الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ (¬2) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُم الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمِ فَإنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ (¬3) مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَينِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإنْ أَظْهَرْ فَإنْ شَاءُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا (¬4) وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي (¬5) وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ"، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ (¬6) فَلَمَّا بَلَّحُوا (¬7) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي ¬

_ (¬1) أعداد: جمع عِدّ بالكسر والتشديد، وهو الماء الذي لا انقطاع له. (¬2) العُوذ: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا من ألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه أو كنَّى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، قال ابن فارس: كل أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ، والجمع عُوذ، كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلزم الشغل به. "فتح". (¬3) ماددتهم: أي جعلت بيني وبينهم مدة بترك الحرب. (¬4) جَمُّوا: أي استراحوا، والمعنى الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تترك قريش القتال فإن أرادوا الدخول في الإِسلام بعد ذلك دخلوا وإن لم يدخلوا استراحوا فترة من القتال. (¬5) حتى تنفرد سالفتي: أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في قتالهم، أي: إن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت. "فتح" بتصرف. (¬6) قوله: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ: أي دعوتهم لنصركم. (¬7) فلما بلَّحوا: أي امتنعوا، والتبلح التمنع من الإجابة.

وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَب اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوشَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ ببَظْرِ اللَّاتِ (¬1) أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أبو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالًّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيفُ وَعَلَيهِ الْمِغْفَز فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بنعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَفِعَ عُرْوَةُ رَأسَهُ، فَقَالَ: مَن هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ (¬2)، وَكَانَ الْمُغِيرَة صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَيءٍ"، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَ اللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ ¬

_ (¬1) امصص ببظر اللات: البظر قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك ولكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كانوا يعبدوه مكان أمه. "فتح" بتصرف. (¬2) قوله: أي غُدَرُ: مبالغة في وصفه بالغدر، قوله: ألست أسعى في غدرتك: أي ألست أسعى في دفع شر غدرتك. قال ابن هشام في "السيرة": أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا. "فتح" 5/ 402.

بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ"، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيهِم، قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ"، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ، إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، فلَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ"، فَجَاءَ سُهَيلُ بن عَمْرو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: "بِسْم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، قَالَ سُهَيلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللهمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهمَّ"، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله"، فَقَالَ سُهَيلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ الله مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن

عبد الله" (¬1)، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: "لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا"، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيتِ فَنَطُوفَ بِهِ"، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ الله كَيْفَ يُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلِ بن عَمْرٍو يَرْسُفُ (¬2) في قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بنفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لسُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ"، قَالَ: فَوَاللهِ إذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَجِزْهُ لِي"، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: "بَلَى فَافْعَلْ"، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في الله قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: "إنِّي رَسُولُ الَله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي"، قُلْتُ: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى فَأخبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أبَا بَكْرٍ أَلَيسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَيسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ ¬

_ (¬1) وفي رواية: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرِنِي مَكَانَهَا"، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ: ابْنُ عبد الله. أخرجه البخاري (2699)، مسلم (1783). (¬2) يرسف: أي يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد.

نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا (¬1)، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا"، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِي الله أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّم أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ في الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بن أبي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ: "لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا"، فَلَمَّا انْتَهَى إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قُتِلَ وَاللهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي ¬

_ (¬1) قول عمر - رضي الله عنه -: وعملت لذلك أعمالاً أي: من الأعمال الصالحة ليكفر عنه اعتراضه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي "مسند أحمد" 4/ 325 يقول عمر - رضي الله عنه -: مازلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا.

أحداث أخرى مهمة

لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أبو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِي الله قَدْ وَاللهِ أَوْفَى الله ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي الله مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أحَدٌ" (¬1)، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأبي بَصِيرٍ فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأبي بَصِير حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللهِ مَا يَسْمَعُونَ بعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلى الشَّأمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِم فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حَتَّى بَلَغَ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24 - 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أنَّهُ نَبِيُّ الله وَلَمْ يُقِرُّوا بِـ (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ (¬2). أحداث أخرى مهمة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تأتيه رسلُ قريش قد أرسل إليهم، لبيان موقفه وأنه لم يأت إلا لزيارة البيت وأداء العمرة ولم يأت لحرب. فبَعَثَ خِرَاشَ بن أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إلى مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: ¬

_ (¬1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويل أمه": كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من ذم. وقوله: "مِسْعر حرب" أي: مشعل نار الحرب مما فعله من قتل الرجل، وقوله: "لو كان له أحد" أي: ينصره ويعاضده ويناصره، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمزٌ إلى من بلغه ذلك من المسلمين المستضعفين في مكة أن يلحقوا به. (فتح) بتصرف. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2731، 2732)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.

الثَّعْلَبُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ (¬1)، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ فَمَنَعَهُم الْأَحَابِشُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي (¬2) عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَهُ إلى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، وَلَقِيَهُ أَبَانُ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدِفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ (¬3). فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أصحابه للبيعة تحت الشجرة (¬4). ومما حدث أيضًا أنه أثناء سير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية ولما بلغ الروْحَاء على بعد 73 كيلو مترًا من المدينة أرسل أبا قتادة الأنصاري مع جمع من الصحابة إلى غيقه على ساحل البحر الأحمر حيث بلغه وجود بعض المشركين الذين يُخشى من مباغتتهم للمسلمين، فَقَالَ: "خُذُوا سَاحِلَ اِلْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ"، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أبو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا ¬

_ (¬1) أي: عقرت الجمل، قتلوه. (¬2) أعز مني: أي له ناس وقوم يمنعونه من غدر قريش. (¬3) إسناده حسن: أخرجه أحمد (18812)، بإسناد حسن، وأصل الحديث عند البخاري، انظر التخريج السابق. (¬4) سيأتي الكلام عن البيعة في الفقرة القادمة إن شاء الله تعالى.

هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أبو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا (¬1)، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ قال أبو قتادة: فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: يَا رَسُولَ الله إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أبو قَتَادَةَ لَم يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أبو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: "أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيهَا؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" (¬2). وفي الحديبية شرعت صلاة الخوف (¬3). وأثناء وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية حاولت قريش قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم فشلوا. عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ- عند صلاة الفجر- فَأَخَذَهُم سِلْمًا فَأعتقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْزَلَ الله عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] (¬4). ¬

_ (¬1) الأتان: أنثى الحمار، وحُمُر الوحش حلالٌ أكله. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1824)، كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال، ومسلم (1196)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. (¬3) "فتح الباري" 7/ 488 حيث رجح ابن حجر ذلك. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1808)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} وأبو داود (2688)، كتاب: الجهاد، باب: في المن على الأسير بغير فداء.

بنود العقد

بنود العقد: كان العقد الذي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين مكتوب فيه: بِاسْمِكَ اللهمَّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله وَسُهَيْلُ بن عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً (¬1)، وإنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ (¬2)، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بنو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِما كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ وَأَقَمْتَ فِيهِمْ ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، لَا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ في الْقُرُبِ (¬3). وقد لاقت هذه الشروط- التي ظاهرها توهين لموقف المسلمين- غضبًا شديدًا من بعض الصحابة وقد تقدم موقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ومما يعبر عن مشاعر المسلمين من هذه الشروط، ورفضهم لها قول سهل بن حُنيف - رضي الله عنه - يوم صفين: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَرَدَدْتُهُ (¬4). وفي الحديبية نزل المطر فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يصلوا في ¬

_ (¬1) أي: بينهم صدر نقي من الغل والخداع مطوي على الوفاء بالصلح. (نهاية). (¬2) الإسلال: السرقة، وقيل سل السيوف، والإغلال: الخيانة، وقيل لبس الدروع. (نهاية). (¬3) حسن: أخرجه أحمد (18812)، بإسناد حسن. والقرب: غمد السيوف. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3181)، كتاب: الجزية، باب: رقم (18).

رحالهم، عَنْ أبي الْمَلِيح قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصَابَتْنَا سَمَاءٌ لَمْ تَبُلَّ أسَافِلَ نِعَالِنَا (¬1)، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: صَلُّوا في رِحَالِكُمْ (¬2). وفي الحديبية حمل كعب بن عُجرة - رضي الله عنه - إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِه، فَقَالَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى- أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى- تَجِدُ شَاةً؟ "، فقال كعب: لَا، فَقَالَ: "فَصُم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ" (¬3). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبعَةٍ (¬4). وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَكْلَؤُنَا (¬5)؟ "، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَنَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ. وكان ذلك في صلاة الصبح فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ"، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: "فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ" (¬6). ¬

_ (¬1) كناية عن قلة المطر. (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (936)، كتاب: الصلاة، باب: الجماعة في الليلة الممطرة، وصححه الألباني "الإرواء" 2/ 341، 342. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (1816) كتاب: المحصر، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، كتاب: الحج، باب: الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة. (¬5) يكلؤنا: أي يحرسنا. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (441)، كتاب: الصلاة، باب: في من نام عن صلاة أو نسيها، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".

وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إِلى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (¬1). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ في هَدَايَا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جَمَلًا كَانَ لِأبي جَهْلٍ في رَأْسِهِ بُرَةُ فِضَّةٍ (¬2)، يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ (¬3). وعَنْ زَيْدِ بن خَالِدٍ الجهني - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيلَةٍ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ "، قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! فَقَالَ: "قَالَ الله: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ الله وَبِرِزْقِ الله وَبِفَضْلِ الله، فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَب، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بنجْمِ كذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2711، 2712)، كتاب: الشروط، باب: ما يجوز من الشروط في الإِسلام والأحكام والمبايعة. (¬2) البرة: الحلقة، والمعنى في أنفه حلقة فضة. "عون المعبود". (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1749)، كتاب: الحج، باب: في الهدي، وحسنه الألباني. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4147)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (71) كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء. وفي رواية للحديث: وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بنوْءِ كَذَا ... والنوء مَصْدَرُ نَاءَ النَّجْمُ يَنُوءُ نَوْءًا أَيْ: سَقَطَ، وَغَابَ. وكما قال العلماء: أَن هناك ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ نَجْمًا مَعْرُوفَة الْمَطَالِع في أَزْمِنَة السَّنَة كُلّهَا، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِمَنَازِل الْقَمَر الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ. يَسْقُط في كُلِّ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثَلَاث عَشْرَة لَيْلَة مِنْهَا نَجْم في الْمَغْرِب مَعَ طُلُوع الْفَجْر، وَيَطْلُع آخَر يُقَابِلهُ في الْمَشْرِق مِنْ سَاعَته. وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة إِذَا كَانَ عِنْد ذَلِكَ مَطَرٌ يَنْسُبُونَهُ إِلَى السَّاقِط الْغَارِب مِنْهُمَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إلى الطَّالِع مِنْهُمَا. "شرح مسلم" للنووي 1/ 335، وفي الحديث فوائد: منها: أنه لا يجوز لنا أن نتعلق بالأسباب، مع ترك مُسبب الأسباب سبحانه وتعالى، فمن تعلق بالأسباب دون المسبب اختلف فيه العلماء فمنهم من قال: هو كافر كفر أكبر مُخرج من الملة، ومنهم من قال: كافر كفر أصغر، ومرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لأنه نسب الشيء لسببه، ونسي الله عزّ وجلّ الذي خلق الشيء وسببه فهو سبحانه خالق كل شيء. ولذا يجب علينا أيها الإخوة الكرام أن نتنبَّه لهذا الأمر، فمعظمنا إلا من رحم ربي يقع في مثل هذا، فتجد أحدنا يذهب إلى الطبيب فيصف الطبيب له علاجًا لمرضه فيشفي هذا المريض فيخرج فيمتدح الطبيب ويقول: هذا طبيب بارع هذا كذا وكذا لقد أعطاني دواءً فشفاني فورًا، كل ذلك وينسى الله عزّ وجلّ الشافي الذي خلق الطبيب وخلق الدواء، ولو شاء الله عزّ وجلّ ما شفاه بهذا الدواء ولا غيره، ومثل هذا كثير فتجد المرء الذي كان فقيرًا فينعم الله عليه بنعمة المال، فيقول: لقد فعلت كذا وكذا حتى حصَّلت وجمعت هذا المال، ويفعل مثل قارون الذي قال لما رزقه الله تعالى بالمال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78] أي: لو شاء الله تعالى لأخذه وما معه من مال كما أخذ غيره قبله. بل إن بعضهم يعتمد على الأسباب اعتمادًا كلياً حتى أنه يعصي الله عزّ وجلّ مالك كل شيء بسبب اعتماده على السبب من دون الله عزّ وجلّ، فيذهب أحدهم بزوجته أو إحدى محارمه إلى طبيب رجل، أو تذهب هي بنفسها إليه، فيقال لها كيف تذهبين إلى هذا الرجل ليكشف عليك ويطلع على عورتك وأدق الأماكن في جسدك وعندك الطبيبات الأُنثيات لَسْنَ منك ببعيد؟ فتقول: لأن هذا الطبيب أمهر منهن! وإنا لله وإنا إليه =

وعن جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ (¬1) فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا لَكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ بِهِ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا في رَكْوَتِكَ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ في الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّاْنَا، فَقُيلْ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (¬2). ¬

_ = راجعون. فهؤلاء تعلقوا تعلقًا تامًا بهذا الطبيب ومهارته ودوائه الذي يصفه، ونسوا الله تعالى الذي قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]. فنحن لنا أن نفاضل لو كان هذا بين طبيبتين فنذهب إلى المعروف عنها الإتقان والمهارة في العمل أخذًا بالأسباب مع الاعتماد الكلي على الله عزّ وجلّ، أما وان كان التفاضل بين طبيب وطبيبة فلابد أن تذهب هذه المرأة إلى الطبيبة وإن كانت أقل في المهارة فإن الشفاء ليس بيدها ولا بيده إنما الشفاء بيد الله عزّ وجلّ وهو وحده الذي يملكه، فلا يعقل أن نأخذ ما عند الله بمعصية الله عزّ وجلّ. هذا وأذكر- استطرادًا- أنه لا يجوز للرجل أيضًا أن يذهب إلى الطبيبات طالما أنه يوجد الأطباء، فلابد لكلٍ أن يذهب لبني جنسه، وإن كان أقل مهارة، وأبعد مكانًا. وبعد أخي الكريم وأختي الكريمة لا بد لنا من عودة إلى دين ربنا عزّ وجلّ وأن يكون تعلقنا تعلقًا تامًا بالله عزّ وجلّ دون الأسباب، وإن كنت لا بد مادحًا أحدًا أو مادحًا نفسك، فلتقل مثلاً: الحمد لله وبفضل الله لقد جعل الله لي فلانًا سببًا في كذا وكذا، أو لقد اجتهدت في هذا الأمر فجعل الله ذلك سببًا في نجاحي، ونحو هذا الكلام الذي يدل على أن تعلقك الحقيقي بالله عزّ وجلّ وليس بأي شيء آخر. (¬1) الرَّكوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء، والجمع رِكاء. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4152)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيان بيعة الرضوان تحت الشجرة.

20 - وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة

20 - وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. الشرح: لما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى قريش ليبين لهم سبب مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأنهم يقصدون العمرة وليس القتال، وتأخر عثمان - رضي الله عنه - فظن المسلمون أن قريشًا قتلته، دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى البيعة على قتال قريش. فبايعوه جميعًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ- وَهِيَ سَمُرَةٌ - غَيْرَ جَدِّ بن قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ (¬1)، وكان الجد بن قيس منافقًا. وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ الْيُمْنَى: "هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ"، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: "هَذِهِ لِعُثْمَانَ" (¬2). وقد بايع الصحابة رضوان الله عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموت وعلى ألا يفروا. عَنْ يَزِيدَ بن أبي عُبَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ: عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ (¬3). وعن عبد الله بن زيد أنه أتاه آت فقال يَوْمَ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعبد الله بن حَنْظَلَةَ: هذاك ابْنُ حَنْظَلَةَ يبايع النَّاسَ، فقال: على ماذا؟ قال: عَلَى الْمَوْتِ، قَالَ: لَا أُبَايعُ عَلَى هذا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3698)، كتاب: "فضائل الصحابة, باب: مناقب عثمان - رضي الله عنه -. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4169)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1860)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4167)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1861)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.

سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات

وعن جَابِر - رضي الله عنه - قَالَ: لَمْ نُبَايعْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمَوْتِ إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (¬1). وقد ذكر ابن حجر أنه لا تعارض بين المبايعة على الموت وعلى أن لا يفروا، حيث قال: وَقَدْ أَخْبَرَ سَلَمَة بن الْأَكْوَع- وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْت الشَّجَرَة- أَنَّهُ بَايَعَ عَلَى الْمَوْت، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْن قَوْلهمْ بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْت، وَعَلَى عَدَم الْفِرَار، لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمَوْت أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنْ يَقَع الْمَوْت وَلَا بُدّ (¬2). وعَنْ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُبَايعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (¬3). سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبيَةَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا. قَالً: فَقَعَدَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ (¬4)، فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، قَالَ: فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ في أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ في وَسَطٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: "بَايع يَا سَلَمَةُ! "، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله في أَوَّلِ النَّاسِ، قَالَ: "وَأَيْضًا"، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَزِلًا- يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ - قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً (¬5) ثُمَّ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1856)، كتاب: الإمارة, باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة. (¬2) "فتح الباري" 6/ 137. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1858)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان. (¬4) البئر. (¬5) الترس.

بَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ في آخِرٍ النَّاسِ، قَالَ: "أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله في أوَّلِ النَّاسِ وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ، قَالَ: "وَأَيْضًا"، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ عَزِلاً، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَضحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: "إِنَّكَ كَالّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللهمَّ أَبْغِنِي حَبيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي"، ثُمِّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْحَ، حَتَّى مَشَىَ بَعْضُنَا في بَعْضٍ وَاصْطَلَحْنَا، قَال: وَكُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ وَأَخْدِمُهُ، وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إلى الله وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، فَاضْطَجَعْتُ في أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ في رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَبْغَضْتُهُم فَتَحَوَّلْتُ إلى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أسفَلِ الْوَادِي: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي (¬1)، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ رُقُودٌ فَأخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا (¬2) في يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُم إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ برَجُلِ مِنْ الْعَبَلَاتِ (¬3) يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَرَسٍ مُجَفّفٍ (¬4) في سَبْعِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ" (¬5)، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْزَلَ الله {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]. ¬

_ (¬1) أي سللته. (¬2) حزمة. (¬3) بطن من قريش. (¬4) مجفف: أي عليه تجفاف وهو ثوب يلبسه الفرس ليقيه من السلاح. (¬5) أي: لهم بدء الفجور، وثناه: أي العوده إليه مرة ثانية، صحيح: أخرجه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد وغيرها.

منزلة أهل بيعة الرضوان

منزلة أهل بيعة الرِّضوان: الذين قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]. وعن جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ: "أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ"، وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ (¬1). وعن أُمِّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عِنْدَ حَفْصةَ: "لَا يدخلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ الله مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا"، قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ الله فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ قَالَ الله - عز وجل -: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 72] (¬2). وجَاءَ عبد لِحَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاطبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" (¬3). 21 - وفي مرجعهم من الحديبية عند ضَجْنان نزلت سورة الفتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَهَنأَهُ المسلمون. الشرح: عن عبد الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4154)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2496)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان. (¬3) صحيح: سبق تخريجه.

فَذكَرُوا أَنهُمْ نَزَلُوا دَهَاسًا منْ الأَرْض - يَعْنِي: الدَّهَاسَ الرَّمْلَ - فَقَالَ: "مَنْ يَكْلَؤُنَا؟ "، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَقَالَ رَسُوَلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَنْ تَنَمْ"، قَالَ: فَنَامُوا حَتَّى طلَعَتْ، الشَّمْشُ، فَاسْتَيْقَظَ نَاسٌ مِنْهُمْ فلَانٌ وَفُلَانٌ، وفِيهِمْ عُمَرُ، قَالَ: فَقُلْنَا: اهْضبُوا - يَعْنِي: تَكَلَّمُوا - قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ"، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: وَقَالَ: "كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ" (¬1)، قَالَ: وَضلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُ حَبْلَهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ، فَجِئْتُ بِهَا إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَرَكِبَ مَسْرُورًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَزَلَ عَلَيهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ، قال: فَتَنَحَّى مُنْتَبِذًا (¬2) خَلْفَنَا، قَالَ: فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] (¬3). وعَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسِيرُ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بن الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ عَنْ شَيءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَم يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ (¬4) نَزَرْتَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا ¬

_ (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ"، وقوله: "كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ" أي: صلوا هذه الصلاة التي فات وقتها كما كنتم تصلونها في وقتها، وكذلك يفعل من نسى صلاة أو نام عنها. (¬2) منتبذًا: أي مجتنبًا. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (4421)، وصححه الشيخ أحمد شاكر. (¬4) الثكل: فقدان المرأة ولدها، دعا عمر على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح، ويحتمل أن يكون لم يرد الدعاء على نفسه حقيقة وإنما هي من الألفاظ التي تقال عند الغضب من غير قصد معناها. (فتح).

نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَى اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ"، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] (¬1). وعن أبي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ بن حُنَيْفٍ يوم صفين، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وذكك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: فَفيم نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا (¬2)، ونَرجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيعَنِي الله أَبَدًا"، قال: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فلم يصبر متغيظًا، فأتى أبي بَكْر، فَقَالَ: يا أبا بكر أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: فعلام نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، ونَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يا ابن الخطاب إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ فَتحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فطابت نفسه ورجع (¬3). وعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بن مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4833)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}. (¬2) الدنية: أي النقيصة، والحالة الناقصة. (نووي). (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3182)، كتاب: الجزية، باب رقم 18، ومسلم (1785)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحديبية.

قال ابن سعد - رحمه الله -

مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قَوْلِهِ: {فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح: 1 - 5]، مَرْجِعَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ يُخَالِطُهُمْ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ (¬1)، فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا" (¬2). قال ابن سعد - رحمه الله -: أقام بالحديبية بضعة عشر يومًا، ويقال عشرين ليلة، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كانوا بضجنان (¬3) نزلت عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} فقال جبريل: نهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون (¬4). 22 - وفي هذه السنة: نزل فرض الحج. الشرح: قال ابن كثير - رحمه الله -: فيها - أي: في سنة ست - نزل فرض الحج، كما قرره الشافعي - رحمه الله -، زمن الحديبية، في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا في سنة عشر، وخالفه الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادًا من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع ¬

_ (¬1) أي أنهم خالطهم الحزن والكآبة لأنه قد حيل بينهم وبين البيت فلم يعتمروا وقد كانوا جهزوا أنفسهم للعمرة حتى إنهم قد نحروا الهدي. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1786)، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية. (¬3) ضجنان: اسم جبل قريب من مكة. (¬4) "الطبقات الكبرى" 2/ 94.

23 - وفي هذه السنة: حرمت المسلمات على المشركين.

فقط. اهـ (¬1). 23 - وفي هذه السنة: حرمت المسلمات على المشركين. الشرح: قال ابن كثير - رحمه الله -: وفي هذه السنة - سنة ست - حرمت المسلمات على المشركين، تخصيصًا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية على أنه: لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا. فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (¬2). 24 - وفي هذه السنة: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبًا إلى ملوك العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام. الشرح: وبعدما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، وقد عاهد قريشًا على وضع القتال بينهما لمدة عشر سنوات - مما أتاح له التفرغ التام للدعوة - بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مراسلة ملوك العالم ودعوتهم إلى الإسلام، عَنْ أَنَسِ بن مالك - رضي الله عنه - أَنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلى كِسْرَى وإِلَى قَيصَرَ وإلَى النَّجَاشِيِّ وإلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية"4/ 202. (¬2) السابق.

قال الدكتور أكرم العمري - رحمه الله -

إلى الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال الدكتور أكرم العُمري - رحمه الله -: وقد أخرج البخاري في "صحيحه" نص كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى فدفعه إلى هرقل، وهو النص الوحيد الذي ثبت صحته وفق شروط المحدثين من بين سائر نصوص الكتب التي وُجِّهت إلى الملوك والأمراء التي ينبغي أن تُنقد من جهة المتن والسند معًا قبل اعتمادها تاريخيًا فضلاً عن الاستدلال بها في مجال التشريع. اهـ (¬2). ولما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى هرقل عظيم الروم، ووصل هرقل كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَلَ إلى أبي سفيان بن حرب - وكان لا يزال على الشرك - في رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ في الْمُدَّة الَّتِي كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ (¬3)، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ (¬4)، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1774)، كتاب الجهاد والسير، باب كُتُب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكفار، يدعوهم إلى الله - عز وجل -. قوله: وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الذِي صَلَّي عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أي: ليس هو النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة في العام الخامس من البعثة، ووصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ملك عادل لا يظلم عنده أحد، فإن النجاشي هذا - واسمه أصحمة - قد مات قبل ذلك، أما الذي أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ملك غيره، ولقب (النجاشي) يُلقب به كل من تولى مُلْك الحبشة، مثل قيصر لمن تولى ملك الروم، وكسرى لمن تولى ملك الفرس، وفرعون لمن تولى ملك الأقباط والعزيز لمن تولى ملك مصر. (¬2) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 456. (¬3) في المدة التي مادَّ فيها أبا سفيان أي: في الهدنة وهي هدنة الحديبية. (¬4) إيلياء: اسم مدينة ومعناه بيت الله.

الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأثِرُوا عَلَى كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُم أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ في مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ اَبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَزتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى الله، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَم يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُم يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ

يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعِ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ (¬1)، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عبد الله وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيم الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإنِّيِ أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ (¬2) وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} ". قَالَ أبو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصحابي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أبي كَبْشَةَ (¬3) إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بني الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ الله عَلَىَّ الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً (¬4) يَنْظرُ في النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ ¬

_ (¬1) لتجشمت لقاءه: لتكلفت لقاءه. (¬2) الأريسيون: الفلاحون وكان أغلب الروم يعملون بالزراعة. (¬3) أبو كبشة: أحد أجداد النبي نسبه أبو سفيان إليه. (¬4) حزاء: كاهن.

فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ، قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِن هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِب لَهُ بِرُومِيَةَ وَكَانَ نَظِيرَهُ في الْعِلْمِ وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّىً أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوج النَّبِيَ وَأنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ (¬1) لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ في الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا (¬2) حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دينكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ (¬3). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَكْتُبَ إلى الرُّومِ قِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَنْ يَقْرَءُوا كِتَابَكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقْشُهُ مُحَمَّد رَسُولُ الله، فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إلى بَيَاضِهِ في يَدِهِ (¬4). وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ، مُحَمَّد سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللهِ سَطْرٌ (¬5). ¬

_ (¬1) الدسكرة: بناء على هيئة القصر، وهي كلمة ليست عربية. (¬2) حاصوا: أي نفروا كالحمر. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (7)، كتاب: بدء الوحي، باب رقم (5)، ومسلم (1773)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5875)، كتاب: اللباس، باب: اتخاذ الخاتم ليختم به الشيء، أو ليكتب به إلى أهل الكتاب وغيرهم. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5878)، كتاب: اللباس، باب: هل يُجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر.

25 - وفي هذه السنة: كسفت الشمس.

وبَعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابِهِ إلى كِسْرَى مَعَ عبد الله بن حُذَافَةَ السَّهْمِيّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إلى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فدَعَا عَلَيهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ (¬1). 25 - وفي هذه السنة: كَسَفَت الشمسُ. الشرح: ذُكِرَ ذلك الحدث في "شذرات الذهب" (¬2) ولم يذكره جمهور أهل السيرة، والظاهر والله أعلم أن الشمس لم تكسف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة حين وفاة ابنه إبراهيم، وهو ما نُقِلَ متواترًا في كتب السنة والسيرة والتاريخ، ولو كان هذا الكسوف المذكور قد حدث فعلاً لنُقِلَ متواترًا أو حتى من طريق صحيحة، فإن حدثًا مثل كسوف الشمس يعتبر من الأحداث الجسيمة التي إذا حدثت اطلع عليها جمهور الناس، فكيف لا تُشتهر وتتواتر في دواوين السنة؟ وهذا الذي ذكرته من القواعد المتعارف عليها عند المحدثين؛ أن الحدث إذا كان عظيمًا مما يُشتهر مثله ولم يتواتر نقله دل ذلك على عدم صحته. والله أعلم. 26 - وفي هذه السنة: نزل حُكْم الظهار. الشرح: الظهار: هو أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت أو أي عضو منك عليَّ كعضو من أعضاء من يحرم على تحريمًا مؤبدًا. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4424)، كتاب: المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسري وقيصر. (¬2) "شذرات الذهب" 1/ 20.

27 - وفي هذه السنة: مات سعد ابن خولة - رضي الله عنه - في الأسر بمكة.

وهو مُحَرَّم لأنه كذب، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] لأنه جعل الزوجة كالأم وليس كذلك، والرجل إذا ظاهر من زوجته فهي عليه حرام، فلا يطؤها ولا يستمتع منها بشيء حتى يُكفر عن ذلك. عَنْ خُوَيْلَةَ بنتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بن الصَّامِتِ، فَجِئْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَشْكُو إِلَيهِ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُجَادِلُنِي فِيهِ، وَيَقُولُ: "اتَّقِي الله فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ"، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْاَنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الْفَرْضِ، فَقَالَ: "يُعْتِقُ رَقَبَةً"، قَالَتْ: لَا يَجِدُ، قَالَ: "فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا"، قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَتْ: فَأُتِيَ سَاعَتَئِذٍ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ (¬1)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: "قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلى ابْنِ عَمِّكِ" (¬2). 27 - وفي هذه السنة: مات سعد ابن خَوْلَةَ - رضي الله عنه - في الأسر بمكة. الشرح: عن سُبَيْعَةَ بنتِ الْحَارِثِ - رضي الله عنها - أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بن خوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بني عَامِرِ بن لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَتُوُفِّيَ عَنْهَا في حَجَّةِ الْوَدَاعِ (¬3). ¬

_ (¬1) العَرَق: ستون صاعًا، والصاع أربعة أمداد، والمدُّ ملؤ كفَّي الرجل. (¬2) حسن: أخرجه أحمد 6/ 410، أبو داود (2213)، كتاب: الطلاق، باب: في الظهار، وحسنه الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3991)، كتاب: المغازي، باب: رقم (10)، ومسلم (1484)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.

28 - وفي هذه السنة: قدم وفد جذام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهذا هو الصحيح الثابت في تاريخ وفاة سعد بن خولة - رضي الله عنه - والله أعلم. وهو ما اعتمد عليه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في التأريخ لوفاته - رضي الله عنه - (¬1). وقد حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن خولة لموته بمكة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يموت من هاجر إلى المدينة بمكة بعد أن هاجر منها. عَنْ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اللهُمَّ أَمْضِ لأصحابي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"، لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بن خَوْلَةَ، رَثَى لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ (¬2). 28 - وفي هذه السنة: قدم وفد جذام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قالوا: قدم رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي ثم أحد بني الطبيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدًا وأسلم، فكتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا: "هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد إلى قومه ومن دخل معهم يدعوهم إلى الله فمن أقبل ففي حزب الله ومن أبى فله أمان شهرين" فأجابه قومه فأسلموا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: ترجمة سعد بن خولة - رضي الله عنه - من "الإصابة". (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (56)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية، ومسلم (1628)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، واللفظ له. (¬3) "الطبقات" 1/ 354.

السنة السابعة من الهجرة

السنة السابعة من الهجرة

السنة السابعة من الهجرة وفيها تسعة وعشرون حدثًا: 1 - في المحرم من هذه السنة: ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول. الشرح: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: رَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أبي الْعَاصِ بن الربيع، بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، ولَمْ يُحْدِثْ شيئًا (¬1) أي بعد ست سنين من الهجرة. 2 - وفي المحرم من هذه السنة: كانت غزوة ذي قَرَد على الراجح. الشرح: وذو قرد: اسم ماء على بعد يوم من المدينة. عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - وهو يحكي قصة الحديبية، ومبايعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات قال: ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إلى الْمَدِينَةِ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، بَيْنَنَا وَبَيْنَ بني لَحْيَانَ جَبَلٌ، وَهُم الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللَّيلَةَ، كَأَنَّهُ طَلِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، قَالَ سَلَمَةُ: فَرَقِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَّتَينِ أَوْ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2240)، كتاب: الطلاق، باب: إلى من تُردُّ عليه امرأته إذا أسلم بعدها، الترمذي (1143)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء عن الزوجين المشركين يُسلم أحدهما، ابن ماجه (2009)، كتاب: النكاح، باب: الزوجين يُسلم أحدهما قبل الآخر، قال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، وصححه الألباني "صحيح أبي داود" (1938)، "الإرواء" (1921).

ثَلَاثًا، ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ (¬1)، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عبد الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ وَقَتَلَ رَاعِيَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله وَأَخْبِرْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرحِهِ (¬2)، قَالَ: ثُمَّ قُمتُ عَلَى أَكَمَةٍ (¬3)، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ في آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ أَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ (¬4) فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ (¬5) سَهْمًا في رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إلى كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ: فَوَاللهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً ¬

_ (¬1) أُنديه مع الظهر: قال النووي: ومعناه: أن يورد الماشية الماء فتُسقى قليلاً ثم ترسل إلى المرعى، ثم ترد الماء فترد قليلاً، ثم تُردُّ إلى المرعى. اهـ "شرح مسلم" 6/ 357. (¬2) سرحه: أي ماشيته التي يُسرح بها. (¬3) الأكمة: هي الكومة من الرمل أصغر من الجبل. (¬4) اليوم يوم الرضع: أي يوم اللئام، حيث كان أحدهم إذا أراد سرقة اللبن من الشاة أو الناقة ليشربه لا يحلبه في إناء ثم يشربه لئلا يسمع أصحابها صوت اللبن وهو يُحلب في الإناء، إنما كان يضع فمه في ضرع الناقة أو الشاة فيشرب كالذي يرضع فلا يُسمع له صوت وهذا فعل اللئلام من السَرَقة. (¬5) أصك: أضرب.

فَجَلَسْتُ في أَصْلِهَا، ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا في تَضَايُقِهِ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ، حَتَّى مَا خَلَقَ الله مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنْ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ فَإِذَا هُم قَدْ أَتَاهُم فُلَانُ بن بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنِي: يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ، قَالَ الْفَزَارِيُّ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى، قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرحَ (¬1) وَاللهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَئءٍ في أَيْدِينَا، قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ: فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ في الْجَبَلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنْ الْكَلَامِ، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي، قَالُوا: لَا وَمَنْ أَنْتَ، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا سلَمَةُ بن الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ (¬2)، قَالَ: فَرَجَعُوا فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، قَالَ: فَإذَا أَوَّلُهُمْ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ عَلَى إِثْرِهِ أبو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَلَي إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بن الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ، قَالَ: فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ فَالْتَقَى هُوَ وَعبد الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَعَقَرَ بِعبد الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ وَطَعَنَهُ عبد الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَلَحِقَ أبو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِعبد الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَىَّ حَتَّى مَا أَرَى ¬

_ (¬1) البرح: أي شدة. (¬2) أظن هنا بمعنى اليقين، أي: أنا أتيقن وأعلم هذا.

وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا غُبَارِهِمْ شَيئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ، يُقَالُ لَهُ: ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، قَالَ: فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنِي: أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، قَالَ: وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ في ثَنِيَّةٍ (¬1)، قَالَ: فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ في نُغْضِ كَتِفِهِ، قَالَ: قُلْتُ: خُذْهَا أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ (¬2)، قَالَ: قُلْتُ: نَعَم يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ، قَالَ: وَأَرْدَوْا (¬3) فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ (¬4)، فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْت، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيءٍ اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنْ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْقَوْمِ، وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله خَلِّنِي، فَأَنْتَخِبُ مِنْ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبعُ الْقَوْمَ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ (¬5)، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ في ضَوْءِ النَّارِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا"، قُلْتُ: نَعَمْ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ في أَرْضِ غَطَفَانَ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَفُوا ¬

_ (¬1) الثنية: الطريق أعلى الجبل، ويشتدون: أي يُسرعون. (¬2) أكوعه بكرة: أي أنت الأكوع الذي كنت في أول هذا النهار. (¬3) أردوا: أي تركوا. (¬4) السطيحة: إناء من جلودٍ سُطح بعضها على بعض، مَذقة: قيل: لبن ممزوج بماء. (¬5) أي: فلا يبقى منهم أحد يخبر من وراءهم فيستمدونهم علينا.

جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمْ الْقَوْمٌ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أبو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ"، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ (¬1) رَاجِعِينَ إلى الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَبَينَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا (¬2)، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ أَلَا مُسَابِقٌ إلى الْمَدِينَةِ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا، قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بِأبي وَأُمِّي ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ، قَالَ: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ: قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ (¬3) فَعَدَوْتُ، قَالَ: فَرَبَطْتُ (¬4) عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي (¬5)، ثُمَّ عَدَوْتُ في إِثْرِهِ فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ، قَالَ: فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ وَاللهِ، قَالَ: أَنَا أَظُنُّ، فَسَبَقْتُهُ إلى الْمَدِينَةِ (¬6). وكانت غزوة ذي قرد قبل الحديبية بثلاث كما ذكر ذلك سلمة - رضي الله عنه - كما سيأتي في غزوة خيبر -إن شاء الله- ورجح ذلك أنها كانت في السنة السابعة قبل خيبر بثلاث (¬7). ¬

_ (¬1) العضباء: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت ناقة نجيبة لا تُسبق. (¬2) شدًا: أي جريًا. (¬3) طفرت: أي قفزت. (¬4) ربطت: أي توقفت عن الجري. (¬5) أستبقي نفسي: أي أريحها. (¬6) صحيح: سبق تخريجه. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري، باب: غزوة ذي قرد، كتاب: المغازي، ورجحه ابن حجر في "الفتح" 7/ 526، وابن كثير في "البداية" 4/ 174.

3 - وفي المحرم من هذه السنة: كانت غزوة خيبر.

3 - وفي المحرم من هذه السنة: كانت غزوة خيبر. الشرح: قَالَ سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في حديثه السابق عن عزوة ذي قَرَد: فَوَاللهِ مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وخيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة، وتبعد عنها بحوالي 165كم (¬2)، وترتفع عن سطح البحر 850 م، وهي من أعظم حرار العرب بعد حرَّة بني سليم، وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرة مياهها، فاشتهرت بكثرة نخيلها، هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه، لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفًا ومنعة ورجالاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غَطَفَان التي تُعْتَبر خيبر ضمن أراضيها. ونظرًا لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف، وكان فيها نشاط واسع للصيرفة. وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة (¬3) حيث ذهب يهود المدينة الذين أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فأقاموا فيها. سبب الغزوة: تقدم أنَّ قبائل اليهود الثلاثة بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة نقضوا ¬

_ (¬1) صحيح: سبق تخريجه. (¬2) قال الدكتور/ العُمري: هذا بالنسبة للطريق المسفلت، وهو يختلف عن الطريق التي سلكها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر. اهـ "السيرة النبوية الصحيحة" هامش 1/ 318. (¬3) "السيرة النبوية الصحيحة" 1/ 318.

خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر

عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتل بني قريظة وأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، فذهب بعضهم إلى خيبر وأصبحوا يُشكلون خطرًا على المسلمين، وكان لبعضهم يدًا في تأليب قريش وجمعهم الأحزاب لمحاربة المسلمين- كما تقدم ذلك. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم -بعدما عاهد قريشًا- أن يعالج الموقف بعدما صارت خيبر مصدر خطر كبير على الإِسلام والمسلمين. خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر بقريب من ألف وخمسمائة مقاتل معهم مائتا فرس. عَنْ مُجَمِّعِ بن جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُ مِائَةِ فَارِسٍ (¬1)، فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر ليلاً (¬2)، واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سِباع بن عُرْفُطة (¬3)، وكان الله تعالى قد وعد المؤمنين مغانم خيبر، في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ¬

_ (¬1) روى هذا الحديث أبو داود (3015)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن ضعفه في موضع آخر برقم (2736)، قال أبو داود: وأرى الوهم في حديث مُجَمِّع أنه قال: ثلاث مئة فارس، وكانوا مئتي فارس. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬3) إسناده قوي: أخرجه أحمد 2/ 345، 346، وقال شعيب الأرنؤوط: وإسناده قوي.

وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} [الفتح: 18 - 20]. فأراد المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الحديبية أن يخرجوا معه إلى خيبر، لما علموا ما بها من مغانم وأموال كثيرة، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} عن الحديبية {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} أي: إلى خيبر، {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} أي: يريدون أن يبدلوا كلام الله لما ووعده بأن المغانم ستكون لمن شهد الحديبية وبايع تحت الشجرة -كما تقدم في الآيات- {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي: قال بأن المغانم ستكون لأهل الحديبية، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: أن نشرككم في المغانم، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} [الفتح:15] أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فهم لهم (¬1). ومضى جيش المسلمين حتى نزل بالرجيع. عن مَرْوان بن الحكم، والمسوَر بن مخرمة قالا: انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم، فنزل بالرجيع- واد بين خيبر وغطفان- فتخوف أن تُمدَّهم غطفان، فبات حتى أصبح، فغدا إليهم (¬2). وَكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيلٍ لَم يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر تفسير ابن كثير" 3/ 296. الشيخ /أحمد شاكر. (¬2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 4/ 196، 197، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق "زاد المعاد": رجاله ثقات. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4197)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، واللفظ للبخاري.

وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون

فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح قريبًا من خيبر بغلس (¬1). يقول أَنَسُ بن مَالِك - رضي الله عنه -: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أبي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - في زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وانحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نبي الله، وإِنِّي لأرى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول أنس: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفئوسهم، ومكاتلهم (¬2)، ومرورهم (¬3)، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ (¬4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنْذَرين" قالها ثلاث مرات (¬5). فلما رأى أهل خيبر جيش المسلمين هربوا إلى حصونهم، فتحصنوا بها. وصدق الله إذ يقول: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14]. وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1 - حصن ناعم. 2 - حصن الصعب بن معاذ. ¬

_ (¬1) الغلس: اختلاط ظلمة الليل بضوء النهار. (¬2) المكاتل: جمع مِكتل- بكسر الميم -وهو القُفة. (¬3) المرور: جمع مَرّ -بفتح الميم- وهي المساحي. (¬4) الخميس: هو الجيش، وسمي خميسًا, لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب. (¬5) متفق عليه: انظر التخريج السابق.

أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط

3 - حصن قلعة الزبير. 4 - حصن أُبيٍّ. 5 - حصن نزار. والحصون الثلاثة الأولى منها تقع في منطقة يقال لها: (النطاة) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشَّق. أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط: 1 - حصن القَموص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير). 2 - حصن الوَطيح. 3 - حصن السُّلالم. وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها (¬1). فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول الحصون افتتح حسن ناعم، وعنده قُتل محمود بن مسلمة، أُلْقيت عليه منه رحى فقتلته (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى اللِّوَاءَ أَبا بَكْر الصديق - رضي الله عنه -، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ، فَخَرَجَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ"، فَبِات الصحابة وأنفسهم طَيِّبَةٌ أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا، ¬

_ (¬1) "الرحيق المختوم" (318، 319)، وقد ذكر هذه الحصون ابن إسحاق، والواقدي. انظر: "سيرة ابن هشام"، "الطبقات الكبرى" غزوة خيبر. (¬2) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).

فَلَمَّا أَنْ أَصبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ (¬1)، فَتَفَلَ في عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ وَفُتِحَ لَهُ (¬2). وكَانَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قد تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خَيْبَرَ لمرض عينه، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَلَحِقَ بِهِ (¬3). وعن سَهْل بن سَعْد - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُم أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: "أَيْنَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ؟ "، فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ الله يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قَالَ: "فَأَرْسَلُوا إِلَيهِ"، فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيُّ: يَا رَسُولَ الله أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْاِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيهِمْ مِنْ حَقِّ الله فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" (¬4). ¬

_ (¬1) الرمد: مرض العين. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (22889)، الحاكم 3/ 37، الهيثمي في "الزوائد" 6/ 150، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والهيثمي. وذكر الواقدي في مغازيه 2/ 657 أن حصن ناعم فتح بعد عشرة أيام، ولكن هذه الرواية تبين أنه فتح بعد ثلاثة أيام فقط. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4209)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد. من حديث سلمة بن الأكوع، واللفظ للبخاري. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري (4210)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2406)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل علي - رضي الله عنه -. وحُمْر النعم: هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء.

وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنَا إلى خَيبَرَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ: تَاللهِ لَوْلَا الله مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: أَنَا عَامِرٌ، قَالَ: "غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يَا نَبِي الله لَوْلَا مَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَالَ خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ، وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَت تَلَهَّبُ قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ في تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ (¬1)، فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ (¬2). قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ ¬

_ (¬1) يسفل له: أي يضربه من أسفل. (¬2) أي: قُتل.

عَامِرٍ قَتَلَ نَفْسَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"، ثُمَّ أَرْسَلَنِي إلى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ أَوْ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَسَقَ في عَينَيهِ فَبَرَأَ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا الذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ (¬1) وهكذا تم فتح حصن ناعم. وكانت غطفان قد سمعت بمنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فجمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة (¬2) سمعوا خلفهم في أموالهم حِسّا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهلهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين خيبر (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد. (¬2) منقلة: أي مرحلة. (¬3) "تهذيب سيرة ابن هشام" (184).

تصالح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر

وفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - حصن القموص، حصن بني أبي الحقيق، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سبايا، منهن صفية بنت حُييِّ بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - صفية لنفسه (¬1). ثم فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه (¬2). ولما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسُّلالم، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحًا (¬3). تصالح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْضُ حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا" (¬4). فكان الصلح مع يهود خيبر مشروطًا بإخراجهم إذا شاء المسلمون ذلك. ولذلك أخرجهم عُمَرُ - رضي الله عنه - في إمارته وقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 195. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 196، والودك: اللحم السمين. (¬3) السابق. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (3152)، كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1551)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من التمر والزرع.

كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، ومَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، وإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ (¬1). وكان سبب إخراجهم أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عندما ذهب إلى ماله هناك ليلاً، فقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أهل خَيبَرَ عَلَى أمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ الله وَإِنَّ عبد الله بن عُمَرَ خَرَجَ إلى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ (¬2)، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بني أبي الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - وَعَامَلَنَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَيفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ" (¬3)، فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أبي الْقَاسِمِ (¬4)، فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (¬5). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل خيبر على أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيئًا، فَإِنْ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3007)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": حسن صحيح. (¬2) الفدع: هو زوال المفصل. وأخرج البخاري حديثًا معلقًا: أنهم ألقوه من فوق بيت ففدعوا يديه. (¬3) القلوص -بفتح القاف-: الناقة الصابرة على السير، وقيل: الشابة، وفي ذلك إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره بالغيبيات قبل وقوعها. (¬4) هزيلة: تصغير هزل، وهو ضد الجد. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2730)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك.

تقسيم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر

فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ كَانَ قُتِلَ قَبْلَ خَيْبَرَ، كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ يَوْمَ بني النَّضِيرِ حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فِيهِ حُلِيُّهُمْ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَعْيَةَ (¬1): "أَيْنَ مَسْكُ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ؟ "، قَالَ: أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنَّفَقَاتُ، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ، فَقَتَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ابْنَ أبي الْحُقَيقِ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ (¬2). تقسيم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر: لَمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رسوله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى ثلاثة آلاف وستمائة سَهْمًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وهو ما غنمه المسلمون من منطقتي الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا، وَعَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - النِّصْفَ الْآخَرَ، وهو ألف وثمانمائة سهم لِنَوَائِبِهِ وما ينزل من أمور الْمُسْلِمِينَ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا القسم ما حازه المسلمون من حصون: الْوَطِيحَ، وَالْكُتَيْبَةَ، والسُّلالم وتوابعها (¬3). قال البيهقي رحمه الله: وهذا لأن خيبر فُتح شطرها عَنْوة (¬4)، وشطرها صلحًا، فقسم ما فُتح عنوة ¬

_ (¬1) عم حيي بن أخطب. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (3006)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أهل خيبر، وحسنه الألباني. (¬3) ورد هذا التقسيم في عدة أحاديث- صحيحة، صححها العلامة محمَّد ناصر الدين الألباني، أخرجها أبو داود في سننه، انظر: "سنن أبي داود"، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر. (¬4) عَنوة: أي قهرًا.

قال ابن القيم رحمه الله

بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتُح صلحًا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين. اهـ (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: فالصواب الذي لا شك فيه: أنها فتحت عَنوة، والإمام مُخيَّر في أرض العنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْم بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأنواع الثلاثة، فقسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر، وترك شطرها، وقد تقدم تقرير كون مكة فتحت عنوة بما لا مدفع له. اهـ (¬2). قلت: والأدلة ترجح كلام بن القيم رحمه الله من أنها فتحت عَنوة، وذلك لما رواه أبو داود (3009) عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فأصبناها عَنوة، وصححه الألباني وقد وردت أحاديث تفيد بأن بعضها فُتح عنوة وبعضها فتح صلحًا (¬3)، وهي ضعيفة، ضعفها الشيخ الألباني رحمه الله، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - للفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل (¬4) سهمًا واحدًا (¬5). وقد أسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين حضروا بعد الفتح، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ولم يقسم لأحد لم يشهد الغزوة غيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 3/ 291. (¬2) "زاد المعاد" 3/ 292. (¬3) انظر: "سنن أبي داود" (3017). (¬4) الراجل: الذي يقاتل على رجله بلا فرس. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4228)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين. (¬6) متفق عليه: وسيأتي تخريجه، وذكر ابن إسحاق أنه أسهم لجابر بن عبد الله ولم يشهد الغزوة، وليس له إسناد.

قال ابن كثير رحمه الله

وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب من سهم ذي القربى، ولم يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من ذلك السهم (¬1). عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: فلَمَّا كَاد يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى في بني هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بني نَوْفَلٍ وَبَنِي عبد شَمْسٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بن عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله هَؤُلَاءِ بنو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ الله بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بني الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ في جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيءٌ وَاحِدٌ"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال ابن كثير رحمه الله: وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب, لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإِسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحماية له: مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حَميَّةً للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله، وأما بنو عبد شمس ¬

_ (¬1) تُقَسَّم غنيمة المسلمين إلى خمسة أخماس: أربعة منها توزع على المقاتلين، وخمس لله ورسوله ويقسم خمسة أسهم، توزع على من ذكرهم الله في هذه الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3140)، كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض، ما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المطلب وبني هاشم من خُمس خيبر، وأبو داود (2980)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، واللفظ له.

وبنو نوفل- وإن كانوا أبناء عمهم- فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول (¬1). وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدًا يقال له عميرًا من الغنيمة ولم يُسهم له (¬2). يقول عُمَيْرٌ مَوْلَى آبي اللَّحْمِ (¬3): شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، فَأَمَرَ بِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ (¬5)، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (¬6) الْمَتَاعِ (¬7). ويروي أبو هُرَيْرَةَ قصة له مع أبان بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ فيقول - رضي الله عنه -: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ بن سَعِيدٍ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا، وإِنَّ حُزُمَ (¬8) خَيْلِهِمْ لِيفٌ، فَقَالَ أَبَانُ: اقْسِم لَنَا يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَا تَقْسِمْ لَهُمْ يَا رَسُولَ الله, فَقَالَ أَبَانُ: أنْتَ بِهَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرُ عَلَئنَا مِنْ رَأسِ ضَالٍ (¬9)! فَقَالَ ¬

_ (¬1) "مختصر تفسير ابن كثير" 2/ 112. (¬2) لم يُسْهم له: أي لم يعطه سهمًا معلومًا كبقية الجيش، وإنما أعطاه شيئًا من الغنيمة ترضية له، وهذا هو حكم العبد المملوك في الشريعة الإِسلامية أنه إذا قاتل مع المسلمين لا يسهم له كبقية الجنود، وإنما يعطى من الغنيمة ما يراه الأمير. (¬3) قال وكيع: كان لا يأكل اللحم. اهـ. فلذلك سمي آبي اللحم. (¬4) أي: في شأني وحقي بما هو مدح لي. "عون المعبود" 5/ 170. (¬5) فإذا أنا أجُرُّه: أي أسحب السيف على الأرض من صغر سنين. "عون المعبود" 5/ 170. (¬6) خُرثَى المتاع: أي أثاث البيت كالقدر وغيره. "عون المعبود" 5/ 170. (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (2730)، كتاب: الجهاد، باب: في المرأة والعبد يُحذيان من الغنيمة، الترمذي (1557)، كتاب: السير، باب: هل يُسهم للعبد؟، أحمد (27914)، وصححه الألباني "صحيح سنن أبي داود" (2440). (¬8) حُزُم: جمع حزام، وهو ما يُشَدُّ به الوسط. (¬9) فقال أبان: أنت بها، أي: أنت تقول بهذا، يا وَبْرُ. عن أبي حاتم أن العرب يُسمى كل =

النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اجْلِسْ يَا أَبَانُ"، وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكانت ثمار خيبر كثيرة جدًا، حتى إن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قدرها بأربعين ألف وَسْق. تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أَهْلَ خَيبَرَ على نِصْفَ ما يخرج من ثمارها، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ النَّخْلُ (¬2)، بَعَثَ إِلَيْهِم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رَوَاحَةَ فَحَزَرَ عَلَيهِمْ النَّخْلَ (¬3)، فَقَالَ: في ذِهْ كَذَا وَكَذَا، فقَالُوا: أَكْثَرْتَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ ابن رواحة: فَأَنَا أَلِي حَزْرَ النَّخْلِ وَأُعْطِيكُمْ نِصْفَ الَّذِي قُلْتُ (¬4)، قَالُوا: هَذَا الْحَقُّ وَبِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، قَدْ رَضِينَا أَنْ نَأْخُذَهُ بِالَّذِي قُلْتَ (¬5). فلما قال لهم ابْنُ رَوَاحَةَ ذلك أَخَذُوا الثَّمَرَ وَعَلَيْهِمْ عِشْرُونَ أَلْفَ وَسْقٍ (¬6). ولكثرة ثمار خيبر، وما أخذه المسلمون منها، كان في ذلك توسعة على ¬

_ = دابة من حشرات الجبال وَبْرًا، وقيل هي دابة صغيرة كالهرة وحشية، تَحدَّر علينا: أي تهجم علينا بغتة، من رأس ضال: قال ابن دقيق العيد: الضال هو السدر البري. اهـ والمعنى تنزل علينا من رأس شجر السدر. (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4238)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، وأبو داود (2723)، كتاب: الجهاد، باب: في من جاء بعد الغنيمة لا سهم له، واللفظ له. (¬2) يصرم النخل: أي يقطع. (¬3) الحزر: التقدير. (¬4) المعنى: أنهم لما قالوا له: أكثرت علينا، واتهموه بالظلم وأن الثمار أقل من ذلك، فلو أعطوه عشرين ألف وَسْق وهو نصف ما قدَّره ابن رواحة سيتبقى لهم أقل من ذلك، فقال لهم ابن رواحة إذن أعطيكم أنا عشرين ألف وسق وآخذ ما تبقى. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3410)، كتاب: البيوع، باب: في المساقاة، ابن ماجه (1820)، كتاب: الزكاة، باب: خرص النخل والعنب، وصححه الألباني. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3415)، كتاب: البيوع، باب: في الخرص، وصححه الألباني.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمر أحد الأنصار على خيبر

المسلمين وإغناءً لهم، حتى إن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - يقول: مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ (¬1). وقالت عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنْ التَّمْرِ (¬2). ولما وسع الله على المهاجرين وأخذوا من غنائم خيبر، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إلى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ إياها حين هاجروا من مكة، حتى إن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ردَّ عِذَاقًا (¬3) على أم سليم كانت قد أعطتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاها لأُمِّ أَيْمَنَ، فرد على أم سُليم عِذاقها، وأعطنى أم أيمن مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ (¬4). النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمِّر أحد الأنصار على خيبر: عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنهما - أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَخَا بني عَدِيٍّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلى خَيْبَرَ فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا (¬5). وعنهما أيضًا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيبَرَ فَجَاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيب (¬6)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيبَرَ هَكَذَا؟ "، فَقَالَ: لَا وَاللهَ يَا رَسُول الله إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، والصاعين بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: "لَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4243)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4242)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬3) العذاق: جمع عذق، وهو عرجون النخل. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (2630)، كتاب: الهبة، باب: فضل المنيحة، ومسلم (1771)، كتاب: الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والتمر حين استغنوا عنها بالفتوح. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4246، 4247)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر. (¬6) قال ابن حجر: بتمر جنيب: قال مالك: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: هو الصلب، وقيل: الذي أُخرج من حشفة ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره. اهـ "فتح الباري" 4/ 467.

تَفْعَلْ بعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" (¬1). وهذا الرجل- الذي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على خيبر- هو سواد بن غزية (¬2). وعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا غزَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، إِنكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ"، وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَ لِي: "يَا عبد الله بن قَيسٍ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ "، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله فَدَاكَ أبي وَأُمِّي، قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" (¬3). وفي غزوة خيبر أُصيب سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في ساقه، فَنَفَثَ فِيهِا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، يقول سلمة: فَمَا اشْتَكَيتُهَا حَتَّى السَّاعَة (¬4). وفي خيبر أيضًا نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ (¬5)، ونَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ أيضًا عَنْ أَكْلِ الثُّومِ (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4244، 4245)، كتاب: المغازي، باب: استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر. (¬2) "فتح الباري" من رواية أبي عوانة والدارقطني. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4205)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4206)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4216)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1407)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (4215)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم =

4 - وفي غزوة خيبر: حرمت لحوم الحمر الأهلية.

وعن سُوَيْدِ بن النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ (¬1)، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ (¬2)، فَأَكَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إلى الْمَغْرِب فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (¬3). - وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: رُميَ إلينا جراب فيه طعام وشحم (¬4) يوم خيبر، فوثبت لآخذه، فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحييت منه. وفي رواية: فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَسِّمًا (¬5). 4 - وفي غزوة خيبر: حُرِّمت لحوم الحُمُر الأهلية. الشرح: وفي غزوة خيبر نهى النبي عن لحوم الحمر الأهلية (¬6). عَنْ سَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ ¬

_ = (561)، كتاب: المساجد، باب: نهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها مما له من رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح وإخراجه من المسجد. النهي عن أكل الثوم للكراهة لا للتحريم، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بأن ريحها يؤذي الناس كما يؤذي الملائكة أيضًا. (¬1) الأزواد: جمع زاد، وهو الطعام. (¬2) ثرى: أي بُل بالماء، لما لحقه من يبس. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (209)، كتاب: الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ. (¬4) الشحم: الدهن. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4214)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1772)، كتاب: الجهاد والسير، باب: أخذ الطعام من أرض العدو. (¬6) الحمر الأهلية، ويقال الإنسية: هي الحمر المستأنسة التي تعيش في البيوت، وهي غير الحمر الوحشية.

5 - وفي غزوة خيبر: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب، ومن معه من مهاجري الحبشة، ومعهم أبو موسى، ومن معه من الأشعريين.

عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُوقِدُونَ؟ "، قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ:"عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ "، قَالُوا: لَحْمِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: "أَوْ ذَاكَ" (¬1). وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: أُكِلَت الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى في النَّاسِ: إِنَّ الله وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ (¬2). 5 - وفي غزوة خيبر: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب، ومن معه من مهاجري الحبشة، ومعهم أبو موسى، ومن معه من الأشعريين. الشرح: عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ (¬3)، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمَا أَحَدُهُمَا أبو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أبو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: بِضْعًا، وَإِمَّا قَالَ: ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَألْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بن أبي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4196)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4199)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1940)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية. (¬3) أي: بلغنا مبعثه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينها بمكة. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4230)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2502)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب.

6 - وفي غزوة خيبر: قدم ابو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما.

وعَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَنْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَسَمَ لَنَا، وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ غَيْرَنَا (¬1). 6 - وفي غزوة خيبر: قدم ابو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا. الشرح: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا (¬2). 7 - وفي هذه السنة: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة - رضي الله عنها -. الشرح: كانت أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين - رضي الله عنها - تحت عبيد الله بن جحش قبل زواجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة، وهناك تنصَّر عبيد الله بن جحش وارتد عن الإِسلام. عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: رأيت في المنام كأنَّ زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت فإذا به قد تنصَّر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية له يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكِّلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكلته، فأعطيت أبرهة سوارين من فضة فلما كان العشي أمر النجاشيُّ جعفر بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أنْ أزوجه أم حبيبة، فأجبتُ وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير، ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4233)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2827)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم.

قال ابن حجر رحمه الله

فخطب خالد، فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وزوجته أم حبيبة، وقبض الدنانير، وعمل لهم النجاشي طعامًا فأكلوا. قالت أم حبيبة: فلما وصل إليَّ المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارًا، قالت: فردتها عليَّ، وقالت: إن الملك عزم عليَّ بذلك، وردَّت عليَّ ما كنت أعطيتها أولاً، ثم جائتني من الغد بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت به معي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: وروى ابن سعد أن ذلك كان سنة سبع، وقيل كان سنة ست، والأول أشهر. اهـ (¬2). 8 - وفي غزوة خيبر: اصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حُييٍّ من السَّبْي فأعتقها وتزوجها. الشرح: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - في قصة خيبر، قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ، قَالَ: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً"، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيِّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِي الله أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: "ادْعُوهُ بِهَا"، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْي غَيْرَهَا"، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنْ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوسًا، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 8/ 327. نقلاً عن "الإصابة". (¬2) "الاصابة" 4/ 2508، 2509.

شَيءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ"، وَبَسَطَ نِطَعًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعن أنس أيضًا قال: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلى وَلِيمَتِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ، وَالْأَقِطَ، وَالسَّمْنَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ (¬2). ويقول أنس - رضي الله عنه -: قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الْحِصْنَ، ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صفِيَّةَ بنتِ حُيَيِّ بن أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ صَنَعَ حَيسًا في نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: "آذنْ مَنْ حَوْلَكَ"، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَتَهُ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إلى الْمَدِينَةِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، وَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ (¬3)، وجَعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (371)، كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4213)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4211)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4200)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمه ثم يتزوجها.

9 - وفي هذه السنة: كانت سرية أبان بن سعيد بن العاص قبل نجد.

9 - وفي هذه السنة: كانت سرية أبان بن سعيد بن العاص قِبَل نجدٍ. الشرح: ولم تأت تفاصيل عن تلك السرية، إلا ما جاء ذكره من حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره في غزوة خيبر، أنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ بن سعيد بن العاص عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حُزْمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَا تَقْسِمْ لَهُم ... الحديث (¬1). 10 - وفي هذه السنة: أهدت يهودية شاةً مصلية مسمومة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ لقمة فأخبرته الشاة بأنها مسمومة. الشرح: قامت زينب بنت الحارث زوج سلام بن مشكم اليهودية بإهداء شاة مصلية (¬2) مسمومة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سألت: أي عضو أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّم، ثم سَّمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تناول الذراع، فلاك منها مُضغة، فلم يُسغْها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأما بشر فأساغها (¬3)، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فلفظها، ثم قال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم" (¬4)، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ ¬

_ (¬1) متفق عليه: وقد سبق تخريجه. (¬2) مصلية: مشوية. (¬3) أساغها: بلعها. (¬4) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.

الْيَهُود"، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَبُوكُم؟ "، قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ"، فَقَالُوا: صدَقْتَ وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أَبِينَا، قَالَ لَهُم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ "، فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْسَئُوا فِيهَا وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا"، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "فَهَلْ أَنْتُم صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ "، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَم يَضُرَّكَ (¬1). وعَنْ أَنسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ"، قَالَ أنس: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا في لَهَوَاتِ (¬2) رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ" (¬4). فرفض النبي قتلها في أول الأمر -كما تقدم- ثم إن بِشْرَ بن الْبَرَاءِ بن ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5777)، كتاب: الطب، باب: ما يُذكر في سُمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) لَهَوَات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، كأنه بقي للسم علامة في فم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (2617)، كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190)، كتاب: السلام، باب: السَّم. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4512)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سمًا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟، وصححه الألباني "صحيح السنن".

11 - وفي هذه السنة: قدم حاطب بن أبي بلعتة من عند المقوقس وقد أرسل معه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وبغلة وحمارا وكسوة، فأسلمت مارية وأختها قبل قدومهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم، ووهب سيرين لحسان بن ثابت فهي أم ابنه عبد الرحمن، فهو وإبراهيم ابنا خالة.

مَعْرُورٍ مات عن جرَّاء ما أكل من السم، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُتِلَتْ به (¬1). وكان هذا السم من أسباب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض الوفاة. عن عَائِشَة - رضي الله عنها - قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (¬2). 11 - وفي هذه السنة: قدم حاطبُ بن أبي بلعتة من عند المقوقِس وقد أرسل معه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وبغلة وحماراً وكُسوة، فأسلمت مارية وأختها قَبْل قدومهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم، ووهب سيرين لحسان بن ثابت فهي أم ابنه عبد الرحمن، فهو وإبراهيم ابنا خالة. الشرح: قال ابن القيم رحمه الله: وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، واسمه جُريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط، فقال خيرًا، وقارب الأمر ولم يسلم، وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين وقيسرى، فتسرَّى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين توبًا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دُلْدُل، وحمارًا أشهب وهو عُفير، وغلامًا خصيًا يقال له: مابور، وقيل: هو ابن عم مارية، وفرسًا وهو اللزار، وقدحًا من ¬

_ (¬1) صحيح: المصدر السابق رقم (4511)، وصححه الألباني. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4428)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، معلقًا، وأحمد 6/ 18.

12 - ولما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصف فدك خالصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل.

زجاج، وعسلاً (¬1). 12 - ولما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر بعث مُحيّصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصف فدك خالصًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل. الشرح: لما فتح الله على المسلمين حصون خيبر، وسمع بهم أهل فدك، قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل وكان فيمن مشى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم في ذلك مُحيصة بن مسعود، أخو بني حارثة فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأَعْمر لها، فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك علي ذلك، فكانت خيبر فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لم يُجْلبوا عليها بخيل ولا ركاب (¬2). وعن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثُ صَفَايَا: بنو النَّضِيرِ، وَخَيبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمَّا بنو النَّضِيرِ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ: فَجَزَّأَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَينَ ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 1/ 118، ابن سعد في "الطبقات" 1/ 261. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 200.

13 - وفي منصرفة من خيبر أيضا فتح وادي القرى، وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على شطر ما يخرج منها كأهل خيبر.

فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ (¬1). 13 - وفي مُنصرفة من خيبر أيضًا فتح وادي القرى، وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على شَطر ما يخرج منها كأهل خيبر. الشرح: ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - متوجهًا إلى وادي القرى، التي لم يستسلم أهلها كأهل فدك إنما استقبلوا جيش المسلمين بالرمى، فقتلوا مِدْعَم عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى فتحها عنوة، وأقام بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (¬2). وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ (¬3)، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَة عبد لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَه أَحَدُ بني الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ (¬4)، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ (¬5) الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا"، فَجَاءَ رَجُلٌ ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (2967)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، وحسن إسناده الألباني "صحيح سنن أبي داود". (¬2) انظر: انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر إلى وادي القرى، "سيرة ابن هشام" 3/ 200، "زاد المعاد" 3/ 314، و"عيون الأثر" 2/ 197. (¬3) الحوائط: أي الحدائق. (¬4) عائر: أي لا يُدرى من رمى به. (¬5) الشملة: كساء غليظ يُلْتحف به.

14 - ولما علم يهود تيماء ما جرى لإخوانهم في خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بأموالهم.

حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ (¬1)، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" (¬2). 14 - ولما علم يهود تيماء ما جرى لإخوانهم في خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بأموالهم. الشرح: قال ابن القيم رحمه الله: فلما بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأقاموا بأموالهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء، ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام، وانصرف رسول الله - رضي الله عنه - راجعًا إلى المدينة. اهـ (¬3). 15 - وفي مرجعهم إلى المدينة نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس. الشرح: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى (¬4) عَرَّسَ (¬5)، وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ (¬6)، فَصَلَّى بِلَالٌ مَا ¬

_ (¬1) الشراك: هو جلدة النعل على ظهر القدم. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4234)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. (¬3) "زاد المعاد" 3/ 314، 315، وانظر: "تاريخ الطبري" 3/ 91، و "عيون الأثر" 2/ 199. (¬4) الكرى: النعاس. (¬5) التعريس: نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة. (¬6) اكلأ لنا الليل: أي ارقبه واحفظه.

16 - وبعد فتح خيبر احتال الحجاج بن علاط السلمي على مشركي مكة حتى استنقذ ماله منهم.

قُدِّرَ لَهُ، وَنَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إلى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ (¬1)، فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَا بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ، فَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا، فَفَزعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَيْ بِلَالُ"، فَقَالَ بِلَالٌ: أَخَذَ بنفْسِي الَّذِي أخَذَ بأبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله بنفْسِكَ، قَالَ: "اقْتَادُوا"، فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُم شَيئًا (¬2)، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإنَّ الله قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14] (¬3). 16 - وبعد فتح خيبر احتال الحجاج بن عِلاط السُّلميّ على مشركي مكة حتى استنقذ ماله منهم. الشرح: عَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَيبَرَ، قَالَ الْحَجَّاجُ بن عِلَاطٍ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا وإِنِّي أرِيدُ أَنْ آتِيَهُم، فَأَنَا في حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا, فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ، فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ اسْتُبِيحُوا، وَأصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ، قَالَ: فَفَشَا ذَلِكَ في مَكَّةَ، وَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا، قَالَ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ، فَعَقِرَ وَجَعَلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ، فَأَخَذَ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: قُثَمُ، فَاسْتَلْقَى فَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ¬

_ (¬1) مواجه الفجر: أي مستقبله. (¬2) اقتادوا رواحلهم: أي قادوها وساروا بها. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (680)، كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.

حَيَّ قُثَمْ حَيَّ قُثَمْ ... شَبِيهَ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ بَنِي ذِي النَّعَمْ ... يَرْغَمْ مَنْ رَغَمْ ثُمَّ أَرْسَلَ- العباس- غُلَامًا إلى الْحَجَّاجِ بن عِلَاطٍ: وَيْلَكَ مَا جِئْتَ بِهِ وَمَاذَا تَقُولُ، فَمَا وَعَدَ الله خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ الْحَجَّاجُ بن عِلَاطٍ لِغُلَامِهِ: اقْرَأْ عَلَى أبي الْفَضْلِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ لِي في بَعْضِ بُيُوتِهِ لآتِيَهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ، فَجَاءَ غُلَامُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ، قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ، قَالَ: فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا حَتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ، فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاجُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُم، وَجَرَتْ سِهَامُ الله عزّ وجلّ في أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ فَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ لِي هَاهُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ، فَأَخْفِ عَنِّي ثَلَاثًا ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَجَمَعَتْ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُليٍّ وَمَتَاعٍ فَجَمَعَتْهُ فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لَا يُخْزِيكَ الله يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ، قَالَ: أَجَلْ لَا يُخْزِنِي الله وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ الله إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا فَتَحَ الله خَيبَرَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ الله، وَاصْطَفَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ، في زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ، قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللهِ صَادِقًا، قَالَ: فَإِنِّي صَادِقٌ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرْتُكِ، فَذَهَبَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ، قَالَ لَهُمْ: لَمْ يُصِبْنِي إِلا خَيْرٌ بِحَمْدِ الله، قَدْ أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بن عِلَاطٍ أَنَّ خَيْبَرَ قَدْ فَتَحَهَا الله عَلَى رَسُولِهِ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ الله، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ

17 - وفي هذه السنة: كانت غزوة ذات الرقاع على الراجح.

لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيءٍ هَاهُنَا ثُمَّ يَذْهَبَ، قَالَ: فَرَدَّ الله الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، وَمَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا حَتَّى أَتَوْا الْعَبَّاسَ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَرَدَّ الله يَعْنِي مَا كَانَ مِن كَآبَةٍ أَوْ غَيْظٍ أَوْ حُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ (¬1). 17 - وفي هذه السنة: كانت غزوة ذات الرقاع على الراجح. الشرح: عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ (¬2)، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا (¬3). وكانت هذه الغزوة لمحاربة مُحارب وثعلبة من غطفان وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة صلاة الخوف. عَنْ صَالِحِ بن خَوَّاتٍ عَمَّنْ شهد رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ -وهو سهل بن أبي حثمة- صلى رسول الله عليه وسلم - فصفت طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ من ¬

_ (¬1) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (12349)، بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 215. (¬2) نقبت: أي رقَّت، يقال: نقب البعير إذا رقَّ خفه. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4128)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1816)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذات الرقاع.

صلاته، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ (¬1). وعَن جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة في وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (¬2)، فَنَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ في الْوَادِي يَستَظِلُّونَ بِالشَّجرِ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سَمُره فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة ثم إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هذا اخترط سيف وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ في يَدِهِ صلتًا (¬3)، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: الله، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ"، ثُمَّ لَمْ يعاقبه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وفي رواية أحمد عَنْ جَابِرِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحَارِبَ بن حفصة فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: غَوْرَثُ بن الْحَارِثِ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: "الله عزّ وجلّ"، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ "، قَالَ: كُنْ كَخَيرِ آخِذٍ، قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأني رسول الله"، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فأتى قومه فقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4129)، كتاب: المغازي، باب. غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842)، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. (¬2) العضاه: كلُّ شجر عظيم له شوك. (نهاية). (¬3) صلتًا: أي مجردًا من غمده. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4135)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (843)، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (15128)، بإسناد صحيح.

قال ابن إسحاق رحمه الله

قال ابن إسحاق رحمه الله: فلقي- بذات الرقاع- جمعًا عظيمًا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضًا (¬1)، حتى صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس. اهـ (¬2). قال بعض أهل السير: إن غزوة ذات الرقاع كانت سنة أربع، ومنهم ابن إسحاق رحمه الله (¬3). والراجح أنها كانت سنة سبع بعد خيبر وممن رجح ذلك: البخاري (¬4)، وابن القيم (¬5)، وابن كثير (¬6). وهذه قصة عجيبة حدثت بذات الرقاع، يرويها جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، يقول جابر: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ من نخل، فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قافلًا أتى زوجها وكان غائبًا، فلما أخبر الخبر حَلَفَ لا ينتهي في أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْزِلاً، فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا ليلتنا هذه؟ "، قال: فَانْتَدَبَ رَجُل مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فقالا: نحن يا ¬

_ (¬1) قوله: وقد خاف الناس بعضهم بعضًا: ليس معناه أن المسلمين خافوا من المشركين فرجعوا، وإنما هذه الكلمة تقال كناية عن شدة قرب الفريقين من بعضهما، وعندها تُزلزل قلوب الرجال. (¬2) "سيرة ابن هشام" 3/ 107. (¬3) "سيرة ابن هشام" 3/ 107. (¬4) "صحيح البخاري" 2/ 309. (¬5) "زاد المعاد" 3/ 225. (¬6) "البداية والنهاية" 4/ 215.

رسول الله، قَالَ: "فكُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ"، قَالَ: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إلى فَمِ الشِّعْبِ، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تُحبُّ أن أكفيكه أوله أم آخره؟ قال: بل أكفني أوله، قال: فاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ، فنام، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّ، قال: وأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرجل عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَة لِلْقَوْمِ (¬1)، قال: فَرَمَي بِسَهْمٍ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، قال: فَنَزَعَهُ ووضعه، فثبت قائمًا، قال: ثم رماه سهمًا آخر، فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، وثبت قائمًا، ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه (¬2)، فقال: اجلس فقد أُثْبِتُّ (¬3)، قال: فوثب، فَلَمَّا رآهما الرجل عَرِفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ (¬4)، فهَرَبَ، قال: وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنْ الدَّمِاء، قَالَ: سُبْحَانَ الله! أَفلَا أَنْبَهْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاك؟ قَالَ: كُنْتَ في سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حتى أُنْفذها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيعّ ثَغْرًا أمرني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لقَطَع نفسي قبل أن أقطعها أو أُنفذها (¬5). وقد سمى ابن هشام رحمه الله هذين الرجلين، فقال هما: عمار بن ياسر، وعباد بن بشر (¬6). ¬

_ (¬1) الربيئة: الطليعة الذي يحرس للقوم، تقول: ربا القوم، إذا حرسهم. (¬2) أهبَّ صاحبه: أي أيقظه من نومه. (¬3) أُثْبِتُّ: أي جُرِحْتُ جُرحًا بليغًا لا أستطيع معه الحركه. (¬4) نذرا به: أي عَلِما بوجوده ومكانه. (¬5) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" عن ابن إسحاق بسند حسن، وأبو داود (198)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من الدم، مختصرًا، وحسنه الألباني في "صحيح السنن". (¬6) السابق.

18 - وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم.

18 - وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسَ، وَلَيسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيسَ مَعَهُم مَاءٌ، فَجَاءَ أبو بَكْرٍ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسَ، وَلَيسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيسَ مَعَهُم مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أبو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ في خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ الله آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيدُ بن الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ (¬1). 19 - وفي مرجعهم من ذات الرقاع اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - جمل جابر بن عبد الله، ثم أعطاه ثمنه ورده عليه. الشرح: عَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: خَرَجْت مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ من نخل، عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَتْ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا جَابِرُ؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا، قَالَ: أنخه، قال: فَأَنِخْتهُ وَأنَاخَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ، أَوْ اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (334)، كتاب: التيمم، باب: رقم (1)، ومسلم (367)، كتاب: الحيض، باب: التيمم.

شَجَرَةٍ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، قَالَ: فَأَخَذَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً (¬1)، قَالَ: وَتَحَدَّثَت مَعِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لي: "أَتَبيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بَلْ أَهَبُهُ لَكَ، قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ بعْنِيهِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِي يا رسول الله، قَالَ: "قَدْ قُلْتُ أَخَذْتُهُ بدِرْهَمٍ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ الله قَالَ: "فَبِدِرْهَمَيْنِ"، قَالَ: قُلْتُ: لَاَ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ (¬2)، قَالَ: فقُلْتُ: أفَقَدْ رَضِيتُ يا رسول الله؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: فهُوَ لَكَ، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهُ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "يَا جَابِرُ، هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله قَالَ: "أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا؟ "، قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: "أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ! "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنْ أبي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بناتٍ لَهُ سَبْعًا فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: "قد أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ الله قَالَ أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا (¬3) أمَرْنَا بجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بنا، فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا (¬4) "، قَال: قُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ الله مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ، قَالَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا"، قَالَ: فَلَمَّا جئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وأَقَمْنَا عَلَيهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ وَدَخَلْنَا، قَالَ: فَحدثت الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: فَدُونَكَ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأسِ الْجَمَلِ، فَأَقْبَلْتُ بهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَاب رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ جَلَسْتُ في الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى الْجَمَلَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ: "فَأَيْنَ جَابِرٌ؟ "، قال: فَدُعِيتُ لَهُ، فقَالَ: "يَا ابْنَ أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ، فَهُوَ لَكَ"، ودَعَا بِلَالاً، فَقَالَ: "اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً"، قال: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَأعْطَانِي وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَ: فَوَ اللهِ مَازَالَ يَنْمِي عِنْدَي، وَيُرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيتِنَا، حَتَّى ¬

_ (¬1) المواهقة: المسابقة، والمجاراة، السرعة في المشي. (¬2) الأوقَيَّة: أربعون درهمًا. (¬3) صرار: موضع قرب المدينة. (¬4) النمارق: جمع نُمرقة وهي الوسادة الصغيرة.

20 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني عبد ثعلبة.

أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لنا- يَعْنِي: يَوْمَ الْحَرَّةِ (¬1). 20 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني عبد ثعلبة. الشرح: ذَكَرَ هذه السرية ابن جرير الطبري (¬2) ضمن أحداث السنة السابعة، والظاهر أنها هي هي السرية الآتي ذكرُها في الفقرة رقم (24) من هذه السنة، والله أعلم. 21 - وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى نجد. الشرح: عن سملة بن الأكوع قَالَ: غَزَوْنَا فَزَارَةَ وَعَلَيْنَا أبو بَكْرٍ، أَمَّرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَ بَينَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ أَمَرَنَا أبو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْهِ وَسَبَى، وَأَنْظُرُ إلى عُنُقٍ مِنْ النَّاسِ (¬3) فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ (¬4) فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهمٍ بَيْنهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوْا السَّهْمَ وَقَفُوا فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ بني فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ، قَالَ: الْقَشْعُ النِّطَعُ (¬5) مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَسُقْتُهُمْ حَتَّى أَتَيتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أبو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" عن بن إسحاق بسند صحيح، وأصل الحديث في الصحيحين: البخاري (2097)، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحُمُر، ومسلم (715)، كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أوَّل قدومه. (¬2) "تاريخه" 3/ 13. (¬3) عنق من الناس: أي جماعة. (¬4) الذراري: النساء والصبيان. (¬5) القشع أو النطع: هو الثوب من الجلد.

22 - وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى تربة.

ثَوْبًا، فَلَقِيَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في السُّوقِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْغَدِ في السُّوقِ، فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ"، فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَوَاللهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أَهْلِ مَكَّةَ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ (¬1). وكانت هذه السرية في شعبان سنة سبع (¬2). 22 - وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى تُربة. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: ثم سرية عمر بن الخطاب إلى تُربة في شعبان سنة سبع من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلاً إلى عُجز هوازن (¬3) بتربة، وهي بناحية العبلاء، على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء وبحران (¬4)، فخرج وخرج معه دليل من بني هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبرُ هوازن فهربوا، وجاء عمر بن الخطاب محالَّهم، فلم يلق ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1755)، كتاب: الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى. (¬2) "عيون الأثر" 2/ 200. وانظر: فقرة رقم (13) من السنة السادسة ص 303. (¬3) عُجَز هوازن: آخر منازلهم جنوبًا. (¬4) قال محقق "عيون الأثر": كذا في الأصول وكذا ضبطها صاحب النبراس، وقال: إنها موضع بناحية الفرع، ومن المعلوم أن تربة ليست في اتجاهها، فلعلها مصحفة من (نجران). اهـ.

23 - وفي شعبان أيضا من هذه السنة: كانت سرية بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك.

منهم أحدًا، فانصرف راجعًا إلى المدينة (¬1). 23 - وفي شعبان أيضًا من هذه السنة: كانت سرية بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الأنصاري إلى بني مُرَّة بناحية فدك. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: ثم سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك في شعبان سنة سبع. قالوا: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مُرَّة بفدك، فخرج، فلقي رعاء الشاء، فسأل عن الناس، فقيل: في بواديهم، فاستاق النعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج فأخبرهم، فأدركه الدَّهْم منهم (¬2) عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نَبْل أصحاب بشير، وقاتل بشير حتى ارتُثَّ وضرب كعبه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم عُلْبة بن زيد الحارثي بخبرهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدم من بعده بشير بن سعد (¬3). 24 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة، وفيها قتل أسامة بن زيد رجلاً بعد أن نطق بالشهادة فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: سرية غالب بن عبد الله الليثي - رضي الله عنه - إلى بني عبد بن ثعلبة وهم بمكان يقال له: الميفعة، بناحية نجد في رمضان سنة سبع. ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 117. (¬2) الدهم: العدد الكثير. (¬3) "الطبقات" 2/ 118، 119.

25 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية بشير بن سعد أيضا إلى يمن وجبار.

حيث بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم غالب بن عبد الله الليثي في مائة وثلاثين رجلاً، ودليلهم يسار مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهجموا عليهم جميعًا، فقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا نعمًا وشاءً، فحدروه إلى المدينة ولم يأسروا أحدًا، وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله (¬1)، ويحكي أُسَامَةَ - رضي الله عنه - قصته هذه يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَكَفَّ الْأَنْصارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله"، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (¬2). 25 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية بشير بن سعد أيضًا إلى يمْنٍ وجَبَارٍ. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمْنٍ وجبار في شوال سنة سبع، قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمعًا من غطفان بالجِناب، قد واعدهم عيينة بن حصن الفزاري؛ ليكون معهم، ليزحفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 119، "عيون الأثر" 2/ 201. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4269)، كتاب: المغازي، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، ومسلم (96)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله. قول أسامة - رضي الله عنه - حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أي: تمنيت أن لو كان هذا صدر مني ضمن أخطاء الجاهلية التي تُجَبُّ بالإسلام.

26 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كانت عمرة القضاء.

بشير بن سعد، فعقد له لواءً، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا الليل وكمنوا النهار، حتى أتوا إلى يمن وجَبَار وهي نحو الجِناب - والجناب مَعارض سِلاح (¬1) وخيبر وادي القرى - فنزلوا بسِلاح، ثم دنوا من القوم، فأصابوا لهم نعمًا كثيرًا، وتفرَّق الرعاء، فحذَّروا الجمع، فتفرَّقوا ولحقوا بِعُليا بلادهم، وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتى أتى مَحالِّهم، فوجدها وليس فيها أحد، فرجع بالنعم وأصاب منهم رجلين فأسرهما وقدم بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، فأرسلهما (¬2). 26 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: كانت عُمْرة القضاء. الشرح: وتُسمى أيضًا: 1 - عمرة القضيَّة (¬3). 2 - عُمْرة الصلح (¬4). 3 - عُمْرة القصاص (¬5). أما عن أحداث هذه الرحلة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توجه إلى مكة معتمرًا كما ¬

_ (¬1) معارض: أي جبال، وسلاح: اسم موضع قريب من خيبر. (¬2) "الطبقات الكبرى" 2/ 120. (¬3) سميت عمرة القضاء أو عمرة القضيَّة؛ لأنها كانت قضاءً عن عمرة الحديبية، أو لأنها وقعت حسب المقاضات - أي: المصالحة التي وقعت في الحديبية. (¬4) لأنه اتُفِق عليها في صلح الحديبية. (¬5) قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى؛ لأن هذه الآية نزلت فيها: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]. "فتح الباري" 7/ 571، 572.

اتفق مع مشركي مكة يوم الحديبية أن يرجع إلى المدينة عامه هذا على أن يُخلُّوا بينه وبين البيت عام قابل (¬1). فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة سنة سبع (¬2) حيث اتفقوا أن لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلَاحَ إِلَّا السَّيْفَ في الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا (¬3)، وأن لا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام (¬4). فسار النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى دَخَلَ مَكَّةَ وَعبد الله بن رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بني الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَفِي حَرَمِ الله تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ذلك الشرط في صلح الحديبية. (¬2) قال ابن حجر - رحمه الله -: وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند حسن عن ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع. اهـ "فتح الباري" 7/ 572، وهو قول بن إسحاق، وموسى بن عقبة. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4251)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء. (¬4) انظر ذلك الشرط في صلح الحديبية. (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (2847)، كتاب: الأدب باب: ما جاء في إنشاد الشعر، النسائي (2873)، كتاب: الحج، باب: إنشاد الشعر في الحرم، والمشي بين يدي الإمام، وصححه الألباني في "مختصر الشمائل" (210).

وطاف المسلمون بالكعبة، وصعد المشركون على جبل قُعَيْقِعان المواجه لما بين الركنين من الكعبة، حيث أشاعوا أن المسلمين ضعفاء ولن يستطيعوا الطواف بالبيت وتأدية المناسك (¬1). وكان المشركون قد قالوا: إنه يقدم عليكم وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فأَمَرَهُمِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا (¬2) الأَشْوَاط الثَلَاثَةَ وَأن يَمْشُوا مَا بَينَ الرُّكْنَينِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا (¬3). وكذلك أمر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يرملوا بَينَ الصَّفَا وَالْمرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ (¬4). وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يسترون رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ خشية أَنْ يُؤْذُوه (¬5). فَلَمَّا مَضَى الْأَجَلُ أَتَى المشركون عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصاحِبكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ فَخَرَجَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ - رضي الله عنه - تُنَادِي: يَا عَمِّ يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ - رضي الله عنه - فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ -عَلَيْهَا السَّلَام-: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، فحَمَلَتْهَا، فَاخْتَصمَ فِيهَا عَلِيٌّ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4256)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء. (¬2) الرمل: الإسراع في السير مع تقارب الخُطى. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4256)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1266)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4257)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1264)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4255)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4251)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء.

27 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها -.

وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، قَالَ عَلِيُّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بنتُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي (¬1)، وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي (¬2)، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ"، وَقَالَ لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا" (¬3). فكانت تلك العمرة هي وعد الله عَزَّ وَجَلَّ الذي وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} [الفتح: 27]. 27 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها -. الشرح: عَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ في عُمْرَةِ الْقَضَاءِ (¬4). وعَنْ مَيْمُونَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ (¬5). 28 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: كانت سرية ابن أبي العوجاء السُّلمي إلى بني سُليم. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سُليم في ذي الحجة سنة سبع، قالوا: ¬

_ (¬1) وخالتها هذه هي أسماء بنت عُميس، وكانت زوجة جعفر بن أبي طالب، وقيل ابنة حمزه هذه اسمها عمارة. (¬2) قال زيد: ابنة أخي، بالمؤاخاة التي بينه وبين آل البيت. (¬3) صحيح: الحديث السابق. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4259)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1411)، كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، وأبو داود (1843)، كتاب: الحج، باب: المحرم يتزوج.

29 - وفي هذه السنة: أسلم عمران بن حصين وأبوه - رضي الله عنهما -.

بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي العوجاء السُّلمي في خمسين رجلاً إلى بني سُليم، فخرج إليهم، وتقدمه عين لهم كان معهم فحذَّرهم، فجمعوا، فأتاهم ابن أبي العوجاء وهم مُعَدُّون له، فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه، فتراموا بالنَّبْل ساعة، وجُعِلَت الأمدادُ تأتي، حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالاً شديدًا، حتى قُتِل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحًا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدموا المدينة في أول يوم من صفر سنة ثمان (¬1). 29 - وفي هذه السنة: أسلم عمران بن حُصين وأبوه - رضي الله عنهما -. الشرح: قال الذهبي - رحمه الله -: أسلم هو وأبوه وأبو هريرة في وقت، سنة سبع (¬2). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 123. (¬2) "السير" 4/ 113.

السنة الثامنة من الهجرة

السنة الثامنة من الهجرة

السنة الثامنة من الهجرة وفيها ستةٌ وخمسون حدثًا: 1 - في صفر من هذه السنة: أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وهاجروا إلى المدينة. الشرح: عَنْ عَمْرُوِ بن الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنْ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ جَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ رأيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أمرًا، فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيّ، فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عُرِفَ، فَلَنْ يَأتِيَنَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرٌ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ، قُلْتُ: لَهُمْ فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِيه لَهُ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ فَجَمَعنَا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيهِ، فَوَاللهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بن أمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ في شَأْنِ جَعْفرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لأصحابي: هَذَا عَمْرُو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا، قَالَ: ثُمَّ قربته إِلَيْهْ، فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا، فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا، قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنْه قَدْ كَسَرَهُ، فَلَوْ انْشَقَّتْ لِي الْأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ -خوفًا منه- ثُمَّ قُلْتُ له: أَيُّهَا الْمَلِكُ وَاللهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا

2 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد، فغنموا وسلموا.

سَأَلْتُكَهُ، قَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلِ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أكَذَاكَ هُوَ؟ قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ وَاللهِ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، قَالَ. قُلْتُ: فَبَايِعْنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خَرَجْتُ إلى أصحابي وَقَدْ حَالَ رَأْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيهِ، وَكَتَمْتُ أصحابي إِسْلَامِي، ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأُسْلِمَ فَلَقِيتُ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، أَذْهَبُ وَاللهِ فأُسْلِمُ، فَحَتَّى مَتَى؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأُسْلِمَ، فَقَدِمْنَا المدينة عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - , فَقَدِمَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ، ثُمَّ دَنَوْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَا أَذْكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَمْرُو بَايعْ، فَإنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا"، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ (¬1). وعن مصعب بن عبد الله الزبيري، وخليفة بن خياط أنَّ إسلام عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - كان مع إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - وقدم المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة (¬2). 2 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوَّح بالكديد، فغنموا وسلموا. الشرح: عَنْ جُنْدُبِ بن مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَالِبَ بن عبد الله الْكَلْبِيَّ كَلْبَ لَيْثٍ إلى بني مُلَوَّحٍ بِالْكَدِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ فَكُنْتُ ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد 4/ 198، 199، وحسنه الألباني في "الإرواء" 5/ 122، 123. (¬2) "مستدرك الحاكم" كتاب: معرفة الصحابة, ذكر مناقب عثمان بن طلحة بن أبي طلحة (5812، 5813).

في سَرِيَّتِهِ، فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِقُدَيْدٍ، لَقِينَا بِهِ الْحَارِثَ بن مَالِكٍ وَهُوَ ابْنُ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيُّ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُ لِأُسْلِمَ، فَقَالَ غَالِبُ بن عبد الله: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ مُسْلِمًا فَلَنْ يَضُرَّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهِ رَجُلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا، فَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاجْتَزَّ رَأْسَهُ، قَالَ: ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ فَنَزَلْنَا عُشَيْشِيَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَبَعَثَنِي أصحابي في رَبِيئَةٍ (¬1)، فَعَمَدْتُ تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْمَغْرِبَ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَنى التَّلِّ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التَّلِّ سَوَادًا مَا رَأَيْتُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ؟ قَالَ: فَنَظَرَتْ، فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا، قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ كِنَانَتِي، قَالَ: فَنَاوَلَتْهُ فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ في جَنْبِي قَالَ فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي بِآخَرَ، فَوَضَعَهُ في رَأْسِ مَنْكِبِي، فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأتِهِ: وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ وَلَوْ كَانَ دَابَّةً لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا لَا تَمْضُغُهُمَا عَلَي الْكِلَابُ، قَالَ: وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى رَاحَتْ رَائِحَتُهُمْ حَتَّى إِذَا احْتَلَبُوا وَعَطَنُوا أَوْ سَكَنُوا وَذَهَبَتْ عَتَمَة مِنْ اللَّيْلِ شَنَنَّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ فَتَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إلى قَوْمِهِمْ مُغَوِّثًا، وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ، فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي، أقْبَلَ سَيْلٌ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بَعَثَهُ الله تَعَالَى مِنْ حَيْثُ شَاءَ مَا رَأيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا حَالاً، فَجَاءَ بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَينَا، مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ تتَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نُحَوِّزُهَا سِرَاعًا حَتَّى أَسْنَدْنَاهَا في الْمَشْلَلِ، ثُمَّ حَدَرْنَاهَا عَنَّا، فَأَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بمَا في أَيْدِينَا (¬2). ¬

_ (¬1) الربيئة: الطليعة يستكشف أخبار العدو. (¬2) إسناده حسن: أخرجه أحمد برقم (15788) بإسناد حسن.

3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضا إلى فدك فأصابوا نعما وقتلوا وسلموا.

3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضًا إلى فدك فأصابوا نعمًا وقتلوا وسلموا. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضًا إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة ثمان. بعث - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالب بن عبد الله في مائتي رجل، وخرج أسامة بن زيد فيها، حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، وخرج معه عُلبة بن زيد فيها، فأصابوا منهم نعمًا، وقتلوا منهم قتلى (¬1). 4 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية شُجاع بن وَهْب الأَسَديِّ إلى بني عامر بالسِّيء, ناحية رُكْبَة من وَرَاءِ المعْدِن، فأصابوا نعمًا كثيرًا وشاءً. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية عامر بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسيء، في شهر ربيع الأول سنة ثمان. بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن بالسيء ناحية رُكْبة، من وراء المعدن، وهي من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، فكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى صبَّحهم وهم غارُّون، فأصابوا نعمًا كثيرًا وشاءً، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة واقتسموا ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 152. مختصرًا.

5 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح فقتلت السرية إلا رجل جريح.

الغنيمة، وكانت سُهمانهم خمسة عشر بعيرًا، وعدلوا البعير بعشر من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة (¬1). 5 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية كعب بن عُمير الغفاريِّ إلى ذات أطلاح فَقُتلت السرية إلا رجل جريح. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية كعب بن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح - وهي من وراء وادي القرى - في شهر ربيع الأول سنة ثمان. بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً، حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعًا من جمعهم كثيرًا، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاتلوهم أشدَّ القتال، حتى قُتِلوا، وأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلم يرد عليه الليل، تحامل حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فشقَّ ذلك عليه، وهَمّ بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم (¬2). 6 - وفي هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة إلى مَدْينَ فأصابوا سبيًا من أهل مِيناءَ. الشرح: قال ابن إسحاق: وسرية زيد بن حارثة إلى مدين، ذكر ذلك عبد الله بن حسن بن حسن، عن ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 2/ 127. (¬2) "الطبقات الكبرى" 2/ 127.

قال ابن هشام

أمه فاطمة ابنة الحسين بن علي - عليهم رضوان الله-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث زيد بن حارثة نحو مدين، ومعه ضُمرة مولى علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - وأخ له، قالت: فأصاب سبيًا من أهل ميناء، وهي السواحل وفيها جُمَّاع من الناس، فبيعوا ففرق بينهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يبكون، فقال: "ما لهم؟ "، فقيل يا رسول الله, فُرّق بينهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوهم إلا جميعًا". قال ابن هشام: أراد الأمهات والأولاد (¬1). 7 - وفي جمادى الأولي من هذه السنة: كانت سرية مؤته فَقُتِل الأُمراءُ الثلاثة، ثم فتح الله على يد خالد بن الوليد. الشرح: لم يأت خبر صحيح يذكر السبب المباشر لهذه الغزوة. قال الدكتور أكرم العُمَري - رحمه الله -: والحق أنَّ البحث عن الأسباب المباشرة لغزو القبائل العربية في أطراف الشام لا يؤثر على تفسير الأحداث كثيرًا؛ لأن تشريع الجهاد يقتضي الاستمرار في إخضاع القبائل العربية, وتوسيع رقعة الدولة الإِسلامية بصرف النظر عن الأسباب المباشرة. اهـ (¬2). أما عن أحداث تلك السرية (¬3)، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بالمدينة بعد عمرة ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 166. (¬2) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 467. (¬3) اصطلح أهل التاريخ والسير على إطلاق اسم (الغزوة) على كل وقعة يقودها =

القضاء بقية شهر ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، والثاني، وبعث في جمادى الأولى جيشًا إلى الشام، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل (¬1). وكانت هذه القبائل من بلاد الشام موالية للإمبراطورية الرومية البيزنطية وخاضعة تحت سيطرتها وكان هذا هو أول احتكاك للمسلمين بهذه الإمبراطورية العظيمة أو لقبائل موالية لها. وعين زَيْدَ بن حَارِثَةَ - رضي الله عنه - قائدًا للجيش وقَالَ: إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ بن أبي طالب، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعبد الله بن رَوَاحَةَ (¬2). ومضى الجيش حتى نزل مَعان من أرض الشام، فبلغ الناس أنَّ هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجزام والقَيْن وبهراء وبليٍّ مائة ألف أخرى، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمض له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال؛ يا قوم والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، حتى إذا كانوا ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، أما ما لم يشترك فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُسمُّونها (سرية)، وهذه السرية برغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترك فيها بنفسه إلا أنك ترى جمهور أهل السير والمغازي يسمونها (غزوة)، وإنما ذلك لكبرها وكثرة عدد الجيش فيها وتأثيرها واشتهارها الكبير بين الناس. (¬1) "سيرة ابن هشام" 3/ 221. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4261)، كتاب: المغازي, باب: غزوة مؤتة.

بتَخوم البلقاء (¬1) لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عَبَاية بن مالك، ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط (¬2) في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم أخذ يقاتل وهو يقول: يا حَبَّذا الجنةُ واقْترابُها ... طيِّبةً وباردًا شرابُها والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها .. كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها ثم قاتل - رضي الله عنه - حتى قُتل، ويقال أنه أخذ الراية بيمينه، فقُطِعت يمينه، فأخذها بشماله فقُطِعت، فاحتضنها بعضديه حتى قُتِل - رضي الله عنه - , فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - , وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يتردَّد بعض الشيء ثم قال: أقْسَمتُ يا نفسُ لتنزلنَّهْ ... لتَنْزلنْ أوْ لَتُكرهَنَّهْ إنْ أجْلَبَ الناسُ وشدُّوا الرنَّهْ (¬3) ... ماليْ أَراكِ تكرهين الجنه ¬

_ (¬1) التخوم: حدود الأرضَيْن التي تقع بين أرض وأرض، ويقال بفتح التاء أو ضمها. (¬2) شاط: أي هلك تقول شاط الرجل، إذا سال دمه فهلك. (¬3) أجلب الناس: صاحوا واجتمعوا، والرنة: صوت فيه ترجيع يُشبه البكاء.

قد طالما قد كنتِ مُطْمئنه ... هل أنتِ إلا نطفة في شَنَّه (¬1) وقال أيضًا: يا نفسُ إلا تُقْتلي تموتي ... هذا حِمامُ الموتِ قد صليتِ وما تمنَّيت فقد أعْطيتِ ... إن تفعلي فعلهما هديتِ يريد صاحبيه: زيدًا وجعفرًا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرْق (¬2) من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذا ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهش (¬3) منه نهشة، ثم سمع الحَطْمَة (¬4) في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ بسيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتِل. فلما قُتل القوَّاد الثلاثة - رضي الله عنهم - أخذ الراية ثابت بن أرقم - رضي الله عنه - , ثم قال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، وعند الطبراني أن ثابت أعطى الراية خالد وقال: أنت أعلم بالقتال مني. فلما أخذ الراية دافع وانحاز بالمسلمين حتى انصرف وكان انسحابًا منظمًا لم يُلحق بالمسلمين خسائر كثيرة، بل لم يستشهد من المسلمين في المعركة كلها سوى ثلاثة عشر صحابيًا فقط - كما ذكر أهل المغازي - واستحق خالد - رضي الله عنه - لقب: سيف الله، الذي منحه إياه الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) النطفة: الماء القليل الصافي، والشَّنة: القربة القديمة. (¬2) العَرْق: العظم الذي عليه بعض اللحم. (¬3) انتهش: أخذ منه بفمه يسيرًا. (¬4) الحطمة: الكسرة. (¬5) ذكر هذه الأحداث ابن إسحاق "سيرة ابن هشام" (222 - 224)، قصة عقر جعفر لفرسه وإنشاده، وخبر تردد ابن رواحة حتى قتل بسند حسن.

بعض الأحداث المتعلقة بالغزوة

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر مَنْ بالمدينة خبر المعركة، ومقتل قادة المسلمين الثلاثة، وأخذ خالد - رضي الله عنه - الراية، ثم انسحابه، وهو يبكي - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تذرفان. عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال نَعَى النبي - صلى الله عليه وسلم - زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيْهِمْ (¬1). وهذه من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، حيث أخبر الناس خبر القوم قبل أن يأتيه الرسول بالخبر، وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - انسحاب خالد - رضي الله عنه - المنظم بالجيش فتحًا، وإنما ذلك لما أوقعه المسلمون بالروم من خسائر رغم تفوقهم العددي الكبير (¬2). بعض الأحداث المتعلقة بالغزوة: عن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ، قال: فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في دُبُرِهِ - يَعْنِي: في ظَهْرِهِ (¬3). وفي رواية أن ابن عمر قال: فَالْتَمَسْنَا مَا في جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ (¬4). والظاهر هنا -والله أعلم- أَنَّ الْعَدَدَ ليس بمَفْهُوم؛ وإنما أراد ابن عمر - رضي الله عنه - أن يُكنّى عن كثرة الطعنات (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4262)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام. (¬2) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 469. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4260)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة. (¬4) السابق (4261). (¬5) انظر: "فتح الباري" 7/ 585.

قال ابن حجر - رحمه الله -

وَقَوْله ابن عمر - رضي الله عنه -: لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في دُبُرِهِ، بَيَان فَرْطِ شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ - رضي الله عنه - (¬1). وعن خَالِدِ بن الْوَلِيدِ - رضي الله عنه - قال: لَقَدْ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وصبرتْ في يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ (¬2). قال ابن حجر - رحمه الله -: وَهَذَا الْحَدِيث يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَثِيرًا. اهـ (¬3). وكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما - إِذَا حَيَّا ابْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ (¬4). وعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بن أبي طَالِبٍ، وَعبد الله بن رَوَاحَةَ - رضي الله عنهم - جَلَسَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ -تَعْنِي: مِنْ شَقِّ الْبَابِ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ الله إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، قَالَ: وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، قَالَ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُطِعْنَهُ، قَالَ: فَأَمَرَ أَيْضًا، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبنَنَا، فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ مِنْ التُّرَابِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ الله أَنْفَكَ، فَوَاللهِ مَا أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْعَنَاءِ (¬5). ¬

_ (¬1) السابق. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4265، 4266)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة. (¬3) "فتح الباري" 7/ 589. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4264)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (4263)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة، ومسلم (935)، كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة.

8 - وفي جمادى الآخرة من هذه السنة: كانت سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، فنصرهم الله.

وعَنْ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عبد الله بن رَوَاحَةَ، فْجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ؟ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ (¬1). وعَنْ عبد الله بن جَعْفَرٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: لما جاء نعي جعفر، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "اصْنَعُوا لآِلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ ما يشغلهم - أو أمْرٌ شَغَلَهُمْ" (¬2). 8 - وفي جمادى الآخرة من هذه السنة: كانت سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، فنصرهم الله. الشرح: جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السرية لتأديب قُضاعة، التي غرَّها ما حدث للمسلمين في مؤتة فتجمعت للإغارة على المدينة، فعلم بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجهَّز جيشًا قوامه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار بقيادة عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. ومضى الجيش يسير الليل ويكمن النهار حتى إذا قرب من القوم بلغه أن لهم جمعًا كثيراً، فبعث عمرو - رضي الله عنه - رافعَ بن مَكيث الجهني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمدَّه، فبعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عُبيدة بن الجراح في مائتين فيهم أبو بكر وعمر، وعقد له لواءً. ونزل الجيش على ماء لقبيلة جذام يقال له: السلسل. وبذلك سُمِّيت ذات السلاسل، وقيل سُمِّيت بذلك لأن المشركين ارتبط ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4267، 4268)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3132)، كتاب: الجنائز، باب: في صنعة الطعام لأهل الميت، ابن ماجه (1610)، كتاب: الجنائز، باب: في الطعام يبعث لأهل الميت، وحسنه الألباني في "صحيح السنن".

9 - وفي هذه السريه أجنب عمرو بن العاص، فتيمم من شدة البرد، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

بعضهم ببعض مخافة أن يفروا- وهذا المكان الذي نزلوا فيه بينه وبين المدينة عشرة أيام. فحمل المسلون عليهم فهربوا في البلاد، وتفرقوا، وبعث عمرو عوفَ بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم (¬1). 9 - وفي هذه السريه أجنب عمرو بن العاص، فتيمم من شدة البرد، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: يقول عَمْرُوبن الْعَاصِ - رضي الله عنه -: احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ فأَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصحابي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:"يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ "، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ الله يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا (¬2). 10 - وفي شعبان من هذه السنه: كانت سرية أبي قتادة إلى خَضِرة وهي أرض مُحارب بنجدٍ فغنموا وأسروا. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض ¬

_ (¬1) انظر هذه السرية "سيرة ابن هشام"، "الطبقات" 2/ 131، "زاد المعاد" 3/ 340 - 342. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (334)، كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟.

11 - وفي شعبان أيضا من هذه السنة: كانت سرية ابن أبي حدرد إلى الغابة، فقتلوا رئيس القوم، وغنموا.

مُحارب بنجد في شعبان سنة ثمان، قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة، ومعه خمسة عشر رجلاً إلى غطفان، وأمره أن يشنَّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا النعم، فكانت الإبل مائتي بعير والغنم ألفي شاة، وسَبَوْا سبيًا كثيرًا، وجمعوا الغنائم، وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة (¬1). عَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَكُنْتُ فِيهَا، فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا، فَرَجَعْنَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا (¬2). وقيل: هذه السرية التي ذكرها ابن عمر - رضي الله عنهما - في الحديث المتقدم هي سرية أبي قتادة تلك (¬3). 11 - وفي شعبان أيضًا من هذه السنة: كانت سرية ابن أبي حَدْرَد إلى الغابة، فقتلوا رئيس القوم، وغنموا. الشرح: عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلميِّ قال: تزوجتُ امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستعينه على نكاحي، فقال: "وكم أصدقْتَ؟ " قلت: مائتي درهم يا رسول الله قال:"سبحان الله، لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتُم! والله ما عندي ما أعينك به". قال: فلبثتُ أيامًا، وأقبل رجل من بني جُشم بن معاوية يقال له رفاعة بن ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" مختصرًا. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4338)، كتاب: المغازي، باب: السرية التي قِبَل نجد، ومسلم (1749)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال. (¬3) انظر:"الطبقات"2/ 132.

قيس، أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من جُشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قال: وكان ذا اسم وشرف في جُشم، قال: فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلين من المسلمين فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به أو تأتونا منه بخبر وعلم، قال: وقدم لنا شارفًا عَجْفاء، فحُمل عليها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفًا، حتى دعَمَها الرجالُ من خلفها بأيديهم حتى استقلت، وما كادت، ثم قال: تبلغوا على هذه واعتقُبوها. قال فخرجنا ومعنا سلاحُنا من النبل والسيوف، حتى جئنا قريبًا من الحاضر عُشَيْشِيَة مع غروب الشمس، فكمنتُ في ناحية، وأمرتُ صاحَبيِّ فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم وقلتُ لهما: إذا سمعتماني قد كبَّرْتُ وشددتُ على العسكر، فكَبِّرَا وشُدَّا معي، قال: فوالله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غِرَّة أو نُصيب منهم شيئًا، غَشِيَنا الليل حتى ذهَبتْ فحمةُ العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه، ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر، فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك. فقال: والله لا يذهب إلا أنا. قالوا: فنحن معك. قال: والله لا يتبعني منكم أحد، قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم، ووثبت إليه فاحترزتُ رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت، وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك، بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم. قال: فاستقنا إبلاً عظيمة وغنمًا كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وجئت برأسه أحمله معي. قال: فأعانني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرًا، فجمعت إليَّ أهلي.

12 - وفي شعبان من هذه السنة: نقضت قريش عهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأما الواقدي، فذكر أن محمَّد بن سهل بن أبي حَثْمَة حدثه عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ابن أبي حَدْرَد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلاً، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت اثني عشر بعيرًا يُعْدَلُ البعير بعشر من الغنم وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة، فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة عنها فقال: اشتريتها من المغنم، فقال: هَبْها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محميةَ بن جزء الزُّبَيْديّ (¬1). 12 - وفي شعبان من هذه السنة: نقضت قريش عهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: كما تقدم في صلح الحديبية كان من بنود المعاهدة بين المسلمين والمشركين أنه من أراد أن يدخل في حلف المسلمين وعهدهم دخل فيه ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أيِّ من الفريقين تعتبر جزءًا من هذا الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق، وأن خزاعة دخلت في حلف المسلمين، ودخلت بنو بكر في حلف المشركين. ثم كان من أمر القبيلتين أنه كان بينهما ثأر قديم قبل تلك المعاهدة، فغدرت بنو بكر بخزاعة ولم تحترم المعاهدة، فوثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له: الوتير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمَّد وهذا الليل وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالسلاح وقاتل معهم من قاتل بالليل مُستخفيًا، ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 20، 21، من رواية بن إسحاق بسند صحيح، لولا عنعنة ابن إسحاق.

13 - وفي شعبان من هذه السنة: جاء أبوسفيان في حرب ليجدد العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليه.

حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل بن معاوية -وهو قائد الجيش- إنا قد دخلنا الحرم! إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم، ثم قال: يابني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟! ولجأت خزاعة إلى دار بُديل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى له يقال له رافع. وركب عمرو بن سالم الخزاعيُّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره الخبر، فوقف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنشد يقول: لاهُمَّ إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا (¬1) فانصر هداك الله نصرًا أَعْتدا ... وادع عباد الله يأتوا مدد (¬2) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"نصرت يا عمرو بن سالم" وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم (¬3). 13 - وفي شعبان من هذه السنة: جاء أبوسفيان في حرب ليُجَدِدَ العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرُدَّ عليه. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ثم خرج بُديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الأتلد: القديم. (¬2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 13 بإسناد حسن إلى أبي هريرة - رضي الله عنه -. نصرًا أعتدا: أي نصرًا حاضرًا، والمدد: العون. (¬3) إسناده حسن: "البداية والنهاية" (312)، من رواية ابن إسحاق بإسناد حسن.

المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. ومضى بُديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعُسْفان قد بعثته قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليشدَّ العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بُديل؟ ظنَّ أنه قد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: تسيرتُ في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي، قال: أو ما جئت محمدًا؟ قال: لا، فلما راح بُديل إلى مكة، قال: أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففتَّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُديل محمدًا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم - طوته عنه، فقال: يابنيَّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأنت رجل مشرك نجس، ولم أُحب أن تجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، قال: والله لقد اصابك يابنيَّة بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر (¬1) لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه وعنده فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندها حسن بن عليّ غلام يدبُّ بين يديها فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحمًا، وإني جئت في حاجة فلا ترجعني كما جئت خائبًا فاشفع لي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على ¬

_ (¬1) الذَّر: صغار النمل.

14 - وفي رمضان من هذه السنة: أرسل حاطب بن أبي بلتعه كتابا إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إليهم، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعفا عنه.

أمر ما تستطيع أن تكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمَّد هل لك أن تأمري بنيَّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيِّد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيَّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -, قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئًا يغني عنك شيئًا, ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مُغْنيًا عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله لم يردَّ علىَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد منه خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال أمرني أن أُجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمَّد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. اهـ (¬1). 14 - وفي رمضان من هذه السنة: أرسل حاطب بن أبي بلتعه كتابًا إلى قريش يخبرهم بمَسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إليهم، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعفا عنه. الشرح: عَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - أَنَّ حَاطِبَ بن أبي بَلْتَعَةَ كَتَبَ إلى أَهْلِ مَكَّةَ، يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ غَزْوَهُم، فَدُلَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا الْكِتَابُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُخِذَ كِتَابُهَا مِنْ رَأْسِهَا، وَقَالَ: "يَا حَاطِبُ أَفَعَلْتَ؟ "، قَالَ: ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 7، 8.

نَعَمْ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَا نِفَاقًا، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الله مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ عَزِيزًا بَيْنَ ظَهْرِيهِمْ، وَكَانَتْ وَالِدَتِي مِنْهُمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ هَذَا عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَا أَضْربُ رَأْسَ هَذَا؟ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله - عز وجل - قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" (¬1). وعن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: بَعَثَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ:"انْطَلِقُواحَتَّى تَأتُوا رَوْضَةَ خَاخ فَإنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا"، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنا خَيْلُنَا حَتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَينَا بِهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ الله لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِيني، وَلَاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ"، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"، فَأَنْزَلَ الله السُّورَةَ: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد (14710) بإسناد صحيح، وله شاهد في "الصحيحين"، كما سيأتي.

15 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - إلى إضم للتمويه على المشركين.

قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] (¬1). 15 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سريةُ أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - إلى إضَمٍ للتمويه على المشركين. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: قالوا: لما هَمَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -بغزوة أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضَم، وهي فيما بين ذي خُشُب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة بُرَد، ليظنَّ ظانٌّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية مُحَلِّم بن جثَّامة الليثي، فمرَّ عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلَّم بتحية الإِسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلِّم بن جثامة فقتله وسلبه متاعه وبعيره ووطْب لبن (¬2) كان معه، فلما لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نزل فيه القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94] فمضوا فلم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجَّه إلى مكة، فأخذوا على بين (¬3)، حتى لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسُّقيا (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4274)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح، وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي- صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2494)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة. (¬2) وطْب لبن: وعاء كبير من جلد يُشبه القربة. (¬3) بين: قالوا: وادٍ به عين مِن أعراض المدينة. (¬4) "الطبقات الكبرى" 2/ 133، والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (23766) عن عبد الله بن أبي حدرد،- بإسناد صحيح، وأخرجه البخاري (4591)، كتاب: التفسير مختصرًا.

16 - وفي رمضان من هذة السنة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه من المدينة لفتح مكه.

16 - وفي رمضان من هذة السنة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه من المدينة لفتح مكه. الشرح: عَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ في رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلى مَكَّةَ (¬1). وقد تكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبر وحرص على السرية التامة، حتى لا يصل الخبر لقريش فيستعدوا له. عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ أبا بكر دخل عليها وهي تُغربل حِنطة، فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز؟ قالت: نعم فتجهزْ، قال: وإلى أين؟ قالت: ما سمَّى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز (¬2). واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أبا رهم كلثوم بن حُصين بن عتبة بن خلف الغفاريَّ (¬3). 17 - وفي رمضان من هذه السنة: جاء العباس بن عبد المطلب بعياله من مكه مهاجرًا إلى المدينة، فالتقى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالجُحْفة. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4276)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان، ومسلم (1113)، كتاب: الصيام، باب: جواز الفطر في شهر رمضان للمسافر في غيرمعصية. (¬2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 12، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 317، من رواية ابن إسحاق في "المغازي" بإسناد حسن. (¬3) إسناده صحيح: "سيرة ابن هشام" 4/ 10، بإسناد صحيح.

قال ابن هشام - رحمه الله -

قال ابن هشام - رحمه الله -: لقيه بالجحفة مهاجرًا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيمًا بمكة على سقايته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه راضٍ. فيما ذكر ابن شهاب الزهري (¬1). 18 - وفي رمضان من هذه السنة: جاء مَخْرمة بن نوفل، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية، فالتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا. الشرح: قد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية قد لقيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أيضًا بنيق العُقاب، فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما- وهي أخت عبد الله بن أبي أمية- فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، قال:"لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال" فلما خرج إليهما الخبر بذلك ومع أبي سفيان بنيّ له، فقال: والله ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيد بنيَّ هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما (¬2). ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العُقاب أيضًا (¬3). 19 - وفي رمضان من هذه السنة: وقبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أسلم أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حِزام وبُديل بن ورقاء. الشرح: عن عروة بن الزبير قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 10. (¬2) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 27، من طريق ابن إسحاق بإسناد حسن، والحاكم (4359)، "الصحيحة" (3341). (¬3) "تاريخ الطبري" 3/ 31.

خَرَجَ أبو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَقْبَلُوَا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بنيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بني عَمْرٍو، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُم فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ أبو سُفْيَانَ (¬1). وفي رواية: عن عروة أن حكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء ذهبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي سفيان فأسلما (¬2). عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ عَنْوَةً قَبلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوة إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ، فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي أَهْلَ مَكَّةَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ، فَيَسْتَأْمِنُوهُ فَإِنِّي لَأَسِيرُ إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أبي سُفْيَانَ، وَبُدَيْلِ بن وَرْقَاءَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أبو الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا لَكَ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي؟! قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ، قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: "نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيهِ دارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ"، قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إلى دُورِهِمْ وإلَى الْمَسْجِدِ (¬3). فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ:"احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خطم الجبل حَتَّى يَنْظُرَ إلى ¬

_ (¬1) انظر:"صحيح البخاري" (4280) من مرسل عروه. (¬2) انظر: "البداية والنهاية" 4/ 324. (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3022)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في خبر مكة، وحسنه الألباني.

20 - وفي رمضان من هذه السنة: بعد العصر، لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كراع الغميم أفطر على راحلته ليراه الناس.

الْمُسْلِمِينَ"، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أبي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارَ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ، قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بن هُذَيْمٍ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمُ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بن عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ (¬1)، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الزُّبَيرِ بن الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأبي سُفْيَانَ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ؟ قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مَا قَالَ؟ "، قَالَ: كَذَا وَكَذا، فَقَالَ: "كَذَبَ سَعْدٌ (¬2)، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ الله فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ"، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُة بِالْحَجُونِ (¬3). وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراية من سعد بن عبادة فدفعها إلى ابنه قيس، ثم كلم سعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الراية من ابنه قيس مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه (¬4). 20 - وفي رمضان من هذه السنة: بعد العصر، لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُراع الغميم أفطر على راحلته ليراه الناس. الشرح: عَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الْفَتحِ إلى مَكَّةَ في ¬

_ (¬1) يوم الذِّمار: أي يوم الهلاك. (¬2) كذب سعد: بمعنى أخطأ سعد. (¬3) الحجون: موضع بقرب مقابر مكة، المصدر قبل السابق. (¬4) "مختصر زوائد البزار" (248)، وقال ابن حجر: صحيح.

21 - وفي رمضان من هذه السنة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحا منصورا مؤيدا.

رَمَضانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ". وفي رواية: أنه قِيلَ للنبى - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصرِ (¬1). ولَمْ يَزَلْ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ (¬2). وعن أنس: لَمَّا اسْتَوَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إلى النَّاسِ، فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا (¬3). 21 - وفي رمضان من هذه السنة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحًا منصورًا مؤيدًا. الشرح: ثم جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه استعدادًا لدخول مكة، فقسم الجيش وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه على المَجنِّبة اليمنى، والزبير بن العوام - رضي الله عنه - على المَجنِّبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - على الرجالة الذين هم في آخر الجيش (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1114)، كتاب: الصيام، باب: جواز الفطر في شهر رمضان للمسافر في غيرمعصية. كُراع الغميم: تبعد عن المدينة 301 كم وعن مكة 86 كم. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4275)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4277)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة.

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَبَا هُرَيْرَةَ أن يجمع له الْأَنْصَارَ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ (¬1)؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصُدُوهُمْ حَصْدًا"، ثم قال بيده -أي: أشار- وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ (¬2). ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد أن يأخذ بطن الوادي أسفل مكة (¬3)، وقام بتوزيع الزبير بن العوام وأبا عبيدة - رضي الله عنهما - (¬4). وسار النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ناحية كَدَاءٍ (¬5) الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ (¬6)، وواعدهم أن يوافوه عند جبل الصفا، وَقَالَ: "مَوْعِدُكُمْ الصَّفَا". يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا (¬7). ويُذكر أنَّ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو جمعوا ناسًا بمكان يقال له: الخندمة؛ ليقاتلوا، وكان رجل اسمه حِماس بن قيس بن خالد يُعدُّ سلاحًا قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلح منهم، فقالت له: امرأته: لماذا تُعدُّ ما أرى؟ قال لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه ¬

_ (¬1) أوباش قريش: أي جموع قريش. (¬2) صحيح: التخريج السابق. (¬3) صحيح: التخريج السابق. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3024)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في خبر مكة، وصححه الألباني. (¬5) كَداء: جبل بأعلى مكة. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4290)، كتاب: المغازي، باب: دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلى مكة. (¬7) صحيح: الحديث قبل السابق.

شيء، قال: والله إني لأرجوا أنْ أُخْدمَكِ بعضهم (¬1)، ثم أنشد يقول: إنْ يُقبِلوا اليوم فما لي عِلَّهْ ... هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّهْ (¬2) وذو غِرارين سريع السَّلَّة (¬3) ثم شهد حِماس هذا الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل ومن معهم، فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم (¬4)، وفرَّ حماس هذا حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي علىَّ بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال: إنكِ لوشهدتِ يومَ الخندمة ... إذ فرَّ صفوانُ وفرَّ عِكرمهْ وأبو يزيد قائمٌ كالمؤتمهْ (¬5) ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يَقْطَعْنَ كلَّ ساعدٍ وَجُمْجُمهْ ... ضربًا فلا يُسْمعُ إلا غَمغَمة (¬6) لهم نَهيتٌ خَلْفَنا وهَمْهَمَهْ ... لم تنطقي في اللَّوم أدنى كلمة (¬7) ¬

_ (¬1) أي نتخذ بعضهم عبيدًا لنا. (¬2) الأَلَّة: الحربة لها سنان طويل. (¬3) ذو غِرارين: يعني به سيفًا، والغرار: الحدُّ. (¬4) ذكر ابن إسحاق أن عدد قتلى المشركين في هذه الوقعة كان قريبًا من اثني عشر رجلاً، وذكر موسى بن عقبة أنهم بلغوا أربعة وعشرين. (¬5) المؤتمة: هي التي قُتل زوجها فبقي لها أولاد أيتام. (¬6) الغمغمة: أصوات الرجال في الحرب. (¬7) "سيرة ابن هشام" 4/ 14، 15، من رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر مرسلاً. النهيت: نوع من صياح الأسد، والهمهمة: صوت في الصدر.

وقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ، هما: حُبَيْشُ بن الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بن جابِرٍ الْفِهْرِيُّ (¬1). ودَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ فاتحًا منتصرًا دون أدنى مقاومة تُذكر، وَكان على رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ (¬2)، وكانت رَايَةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دخوله سَوْدَاءَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ (¬3)، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلى مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهُوَ يَقْرَأ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ (¬4). وكان مُردِفًا أُسَامَةَ بن زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بن طَلْحَةَ مِنْ الْحَجَبَةِ (¬5)، حَتَّى أَنَاخَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ عثمان بن طلحة أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَدَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ أُسَامَةُ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بن طلحة، فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلاً، ثُمَّ خَرَجَ، فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، وَكَانَ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4280)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4286)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي الراية يوم الفتح. المغفر: واقي الرأس، الذي يلبسه الفرسان في الحروب. (¬3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2818)، كتاب: الجهاد، باب: الرايات والألوية. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (4281)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، ومسلم (794)، كتاب: صلاة المسافرين، باب: ذكر قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح يوم فتح مكة. الترجيح: ترديد الحرف في الحلق. (¬5) الحجبة: الذين معهم مفتاح الكعبة. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (2988)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الردف على الحمار، ومسلم (1329)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها.

وعن عمر - رضي الله عنه - أنه صَلَّى ركْعَتَيْنِ (¬1). وقام النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالدَعَاء في نَوَاحِيهِا كُلِّهَا (¬2). ولم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت، ولم يُصل فيه إلا بعد أن طهره من كل مظاهر الشرك، من أوثان وصور وغير ذلك. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك هو بنفسه في ذلك. وَكان حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ صنم، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ في يَدِهِ، وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيد" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، كَانُوا يَعْبُدُونَهُ وَفِي يَدِه قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ (¬4)، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ في عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ" (¬5). وفي رواية: عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يطعنها وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2026)، كتاب: المناسك، باب: الصلاة في الكعبة، وصححه الألباني. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4288)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، ومسلم (1330)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة. (¬3) متفق عليه أخرجه البخارى، (4287)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، ومسلم (1781)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إزالة الأصنام من حول الكعبة. (¬4) سِيَة القوس: أي طرفه. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة.

{يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سبأ: 49] (¬1). وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: دخلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا تُعبد من دون الله قال: فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكُبَّت كلها لوجوهها، ثم قال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فصلى ركعتين، فرأى فيه تمثال إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وقد جعلوا في يد إبراهيم الأزلام يستقسم بها (¬2)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "قاتلهم الله، ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام" ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزعفران فلطخه بتلك التماثيل (¬3). عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دخل مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأُخرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ في أَيْدِيهِمَا مِنْ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قَاتَلَهُم الله لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ" (¬4). وعن صفية بنت شيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج ¬

_ (¬1) متفق عليه: التخريج قبل السابق. (¬2) الأزلام: مفردها زلم، بفتح الزاي أو ضمها، وهي الرماح، فكان أهل الجاهلية إذا كان الواحد منهم مقبلاً على أمر مهم جاء برماح ثلاثة مكتوب على أحدها: (افعل)، والآخر (لاتفعل)، والثالث ليس عليه شيء، أو مكتوب على أحدها: (أمرني ربي)، والآخر (نهاني ربى)، والثالث ليس عليه شيء، ثم وضعها في شيء، ثم يمدُّ يده فيخرج أحدها، فإذا خرج سهم الأمر، فعله، وإذا خرج سهم النهي، تركه، وإن طلع الفارغ، أعاد، والاستقسام: مأخوذ من طلب القَسْم من هذه الأزلام. (¬3) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (18751)، وحسنه ابن حجر في "المطالب العالية" (4364)، وله شواهد مما تقدم، وانظر الحديث الآتي. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4288)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بعد الفتح

حتى جاء البيت، فطاف به سبعًا على راحلته، يستلم الركن بمِحْجَن (¬1) في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكفَّ (¬2) له الناس في المسجد (¬3). وعن جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ عُمَرَ بن الْخَطَّاب - رضي الله عنه - زَمَنَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، أَنْ يَأْتِيَ الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا، فلَمْ يَدْخُلْها النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى مُحِيَتْ كُلُّ صُورَةٍ فِيهِا. وفي رواية: فَبَلَّ عُمَرُ ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ (¬4). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ فَوَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ، وَصُورَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: "أَمَا لَهُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ" (¬5). وهكذا تم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية، ليعود كما أراد له الله تعالى وكما قصد ببنائه إبراهيم وإسماعيل، مكانًا لعبادة الله وتوحيده، ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها (¬6). النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بعد الفتح: عن عَمْرِو بن حُرَيْثٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ ¬

_ (¬1) المِحْجَن: عود مِعْوَجُّ الطرف، يمسكه الراكب للبعير في يده. (¬2) استكفَّ الناس: أي: اجتمعوا. (¬3) إسناده حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" عن ابن إسحاق بإسناد حسن. (¬4) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 335، 3/ 396، وأبو داود (4156)، كتاب: اللباس، باب: في الصور، وصححه الألباني. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3351)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. (¬6) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 483، 484.

سَوْدَاءُ، قد أرخى طرفيها بين كتفيه (¬1). وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تذكر وتدعى من دَمٍ أو مال تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا مَا كَانَ وسِدَانَةِ الْبَيْتِ، ألا إن دية الخطإ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" (¬2). وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بني لَيْثٍ، عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: "إِنَّ الله حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَه وَالْمُؤْمِنِون، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْبط (¬3) شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا (¬4)، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا مُنْشِدٍ، ومَنْ قُتِلَ له قتيل فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ (¬5))، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يقال له: أبو شاة، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: "اكْتُبُوا لأِبي شاة" (¬6). وعَنْ أبي شُرَيْحٍ العدوي أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطب يَوْمَ الغد من فَتْحِ مكة، فحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1359)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4547)، كتاب: الديات، باب: الدية كم هي؟، وابن ماجه (2628)، كتاب: الحدود، باب: دية شبه العمد. (¬3) يخبط: أي يُضرب بالعصا ليقع. (¬4) يُعضد: يقطع. (¬5) بخير النظرين: أي إما أن يقبل الدية، وإما أن يُقاد من القاتل. (¬6) متفق عليه: أخرجه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، ومسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة.

لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا: فَقُولُوا له: إِنَّ الله قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" (¬1). وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬2). وعن عبد الله بن مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬3). وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى الله وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى الله، وَالنَّاسُ بنو آدَمَ، وَخَلَقَ الله آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} " [الحجرات: 13] (¬4). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ: "لَا هِجْرَةَ بعد ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ الشاهد الغائب، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (1611)، كتاب: السير، باب: ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، وقال: حسن صحيح، "الصحيحة" (2427). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1782)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يقتل قرشي صبرًا بعد الفتح. (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (3270)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الحجرات, وصححه الألباني.

الفتح، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ, وَإِذَا اسْتُنْفِزتُمْ فَانْفِرُوا"، ثم ساق ابن عباس خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث أبي هريرة في تحريم مكة وشجرها ونباتها، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ (¬1)، وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِلَّا الْإِذْخِرَ" (¬2). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إِنَّ الله وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ, وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ (¬3)، فَقَالَ: "لَا هُوَ حَرَامٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ الله الْيَهُودَ إِنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ (¬4)، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ" (¬5). وبعد ذلك مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الصفا حيث واعد قوَّاد جيشه هناك، فلما أتى الصفا علا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يحمد الله، ويدعو بما شاء أن يدعوا، وَجَاءَتْ الْأَنْصَارُ فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، فَجَاءَ أبو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ (¬6)، فقَالَ ¬

_ (¬1) قينهم، بفتح القاف: الحداد والصائغ، وهم يحتاجون إليه في وقود النار. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1349)، كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة، وفي رواية قال العباس: ولقبورهم. (¬3) يستصبح بها الناس: أي يوقدون بها مصابيحهم. (¬4) جملوه: أي: أذابوه. (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (2236)، كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، ومسلم (1581)، كتاب: المساقاه, باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. (¬6) خضراء قريش: أي جماعتهم، ويعبَّر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة، ومنه السواد الأعظم. (نووي).

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ" (¬1). فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وجاء الْوَحْيُ، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرْفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله، قَالَ: "قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فأدركته رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتهِ"، قالوا: قد كان ذلك، قال: "كلا إني عبد الله وَرَسُولِهِ، هَاجَرْتُ إِلَى الله وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ"، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: وَاللهِ مَا قُلْنَا إِلَّا ضِنًّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ (¬2)، قَالَ: "إنَّ الله وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ"، فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق الناس أبوابهم (¬3). ورغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّن أهل مكة جميعهم إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - استثنى ستة نفر، أهدر دماءهم. عَنْ سَعْدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خَطَل، ومِقَيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خَطَل فأُدرك وهو متعلق ¬

_ (¬1) الذي يظهر من الروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذه الكلمة مرتين، مرة حينما جاء أبو سفيان مسلمًا، وهذه المرة عند الصفا, ولا تعارض في ذلك. والله أعلم. (¬2) ضنًّا بالله ورسوله: أي حرصًا عل وجودك عندنا ومصاحبتك، فالضنُّ بالشيء الحرص عليه. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع أهل مكة

بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حُريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارًا- وكان أشبَّ الرجلين- فقتله، وأما مقيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئًا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص، لا ينجني في البَرِّ غيره، اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوًا كريمًا، فجاء فأسلم، وأما عبد الله بن أبي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إلى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا رسول الله بَايعْ عبد الله، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيهِ ثَلَاثًا- كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى- فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إلى هَذَا حَيثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟! "، فَقَالُوا: ومَا يدْرِينا يَا رَسُولَ الله مَا في نَفْسِكَ؟ هلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَينِكَ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ" (¬1). النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبايع أهل مكة: عن الْأَسْوَدِ بن خلف - رضي الله عنه - أنه رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُبَايعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَصْقَلَةَ (¬2)، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ (¬3). وعن مُجَاشِعِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَخِي بَعْدَ الْفَتْحِ، قُلْتُ: يَا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2683)، كتاب: الجهاد، باب: قتل الأسير، ولا يُعرض عليه الإِسلام، والنسائي (4067)، كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1723). (¬2) مكان في الكعبة. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (15369)، بإسناد صحيح.

حدث في فتح مكة

رَسُولَ الله جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ: "ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا"، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ" (¬1). حدث في فتح مكة: عن أُمِّ هَانِئٍ بنتِ أبي طَالِبٍ - رضي الله عنها - قالت: ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ "، قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بنتُ أبي طَالِبٍ، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ"، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرتُهُ فُلَانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" (¬2). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ- المخزومية- الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟ "، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ الله، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا، ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (4305، 4306)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ومسلم (1863)، كتاب: الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (357)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، ومسلم (336)، كتاب: الحيض، باب: تستر المغتسل بثوب ونحوه.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعَنْ عَمْرِو بن سَلَمَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بنا الرُّكْبَانُ، فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ أَوْحَى الله بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي (¬2) قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيّ حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ (¬3). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عبد بن زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (3733)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: ذكر أسامة بن زيد، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: النهي عن الشفاعة في الحدود. (¬2) بدر أبي: أي سبق. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح.

ابْنُهُ، قَالَ عبد بن زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لَكَ هُوَ أَخُوكَ يَا عبد بن زَمْعَةَ" - مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ- وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، قَالَ رَسُولُ الله "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" (¬1). وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: لما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى قال أبو قحافة لأبنة له من أصغر ولده: أي بنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس (¬2)، قالت: وقد كُفَّ بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: أيْ بنيَّة، ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا، قال: تلك الخيل، قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلاً ومدبرًا، قال: أيْ بنيَّة ذلك الوازع -يعني: الذي يأمر الخيل ويتقدَّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد، قالت: فقال: قد والله إذن دُفِعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيلُ قبل أن يصل إلى بيته، قال: وفي عُنُق الجارية طوق من ورِق (¬3)، فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، قالت: فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، قالت: فدخل به أبو بكر، وكأن رأسه ثغامة (¬4)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "غيِّروا هذا ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4303)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ومسلم (1457)، كتاب: الرضاع، باب: الولد للفراش. (¬2) اظهري بي: اصعدي وارتفعي، وأبو قُبيس: جبل بمكة. (¬3) الطوق: القلادة، والورق: الفضة. (¬4) الثَّغامة بفتح أوله: شجرة، ومن شأن هذا النوع من الشجر أنه إذا يبس ابيضت أغصانه، والعرب تشبه الشيب به.

22 - وفي رمضان من هذه السنة: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة.

من شعره" ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإِسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد، فقال: أيْ أُخيَّه احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل (¬1). 22 - وفي رمضان من هذه السنة: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة. الشرح: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يقصر الصلاة (¬2). 23 - وفي هذه السنة: كانت سرية أسامة بن زيد - رضي الله عنه - إلى الحرقات. الشرح: ذكر البخاري هذه السرية في صحيحه (¬3)، وفيها قصة الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة بن زيد، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر - رحمه الله -: وَهَذِهِ السَّرِيَّة يُقَال لَهَا: سَرِيَّة غَالِب بن عُبَيد الله اللَّيْثِيّ، وَكَانَتْ فِي رَمَضَان سَنَة سَبْع فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن سَعْد عَنْ شَيْخه، وَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق فِي "الْمَغَازِي": حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَسْلَمَ عَنْ رِجَال مِنْ قَوْمه، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - غَالِب بن ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 4/ 14، 15، بإسناد حسن. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4298)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح. (¬3) حديث رقم (4269)، كتاب المغازي، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة.

24 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لهدم العزى فهدمت.

عُبَيْد الله الْكَلْبِيّ، ثُمَّ اللَّيْثِي إلى أَرْض بني مُرَّة وَبِهَا مِرْدَاس بن نَهِيك حَلِيف لَهُمْ مِنْ بني الْحُرَقَة فَقَتَلَهُ أُسَامَة. اهـ (¬1). وعليه؛ فهذه السرية هي هي سرية غالب بن عبيد الله الليثي التي سبق شرحها (¬2). 24 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لهدم العُزَّى فَهُدِمَتْ. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى العُزَّى، وكانت بنخلة (¬3)، وكانت بيتًا يعظمة هذا الحيُّ من قريش، وكنانة ومضر كلها، وكانت سدنتها (¬4) وحُجَّابها بني شيبان من بني سُلَيم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها السُّلَمي بمسير خالد إليها, علَّق عليها سيفه، وأسند (¬5) في الجبل، الذي هي فيه وهو يقول: أيَّا عُزَّ شُدّي شدَّة لا شَوَى (¬6) لها ... على خالدٍ، ألْقي القناعَ وشَمّري أيا عُزَّ إنْ لم تقتلي المرءَ خالدًا ... فبوئي بإثمٍ عاجلٍ أو تنصّرَي ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 12/ 202. (¬2) انظر: فقرة رقم (24) من السنة السابعة للهجرة. (¬3) نخلة: اسم مكان, على بعد يومين من مكة. (¬4) سدنتها: جمع سَدَن, وهو خادم بيت ....... (¬5) أسند: ارتفع وعلا. (¬6) لا شوى لها: أي: لا تبقى على شىء.

25 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لهدم سواع فهدمت.

فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. اهـ (¬1). وكانت العُزَّى أعظم آلهة قريش. 25 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لهدم سواعٍ فَهُدِمَتْ. الشرح: قال ابن سعد - رحمه الله -: ثم سرية عمرو بن العاص إلى سُواع في شهر رمضان سنة ثمان، وهو صنم لهذيل ليهدمه. قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن, فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن وأنت على الباطل؟ ويحك وهل يسمع أو يبصر. قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيها شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله تعالى. اهـ (¬2). 26 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية سعد بن زيد الأشهلي لهدم مَناة فهدمها. الشرح: ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان، وكانت بالمُشلَّل، للأوس، والخزرج وغسَّان. ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 35. (¬2) "الطبقات" 2/ 146.

27 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة, فقتل منهم رجالا بعدما أسلموا, فعنفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عليا فوداهم وأرضاهم.

فخرج في عشرين فارسًا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة سوداء عُريانة ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة! دُونَكِ بعضَ عُصاتكِ، ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويُقبل إلى الصنم مع أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئَّا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لستٍّ بقيت من شهر رمضان. اهـ (¬1). 27 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة, فقتل منهم رجالاً بعدما أسلموا, فعنَّفهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عليًا فوداهم وأرضاهم. الشرح: عَنْ عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بن الْوَلِيدِ إِلَى بني جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أصحابي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ" (¬2). ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على بن أبي طالب أن يذهب إلى هؤلاء القوم فودى لها الدماء، وما أصيب لهم من الأموال (¬3). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 147. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7189)، كتاب: الأحكام، باب: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ. (¬3) "سيرة ابن هشام" 4/ 31.

28 - وفي هذه السنة: كانت سرية قيس بن سعد بن عبادة إلى صداء ناحية اليمن.

28 - وفي هذه السنة: كانت سرية قيس بن سعد بن عبادة إلى صُدَاءٍ ناحية اليمن. الشرح: لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن، وأمره أن يطأ صُداء، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين، وقدم رجل من صُداء فسأل عن ذلك البعث فأُخبر بهم، فخرج سريعًا حتى ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: جئتك وافدًا على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فردَّهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬1). 29 - وفي شوال من هذه السنة: كانت غزوة حنين. الشرح: هوازن قبيلة عربية شهيرة من عرب الشمال، فهي مضرية عدنانية، تفرعت منها فروع كثيرة منها: ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة الطائف الحصينة وما حولها. وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية، منها سوق عكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتُعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها: سوق ذي المجاز قرب عرفات على بُعد فرسخ منها من جهة الطائف، وسوق مِجَنَّة بمر الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة. ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 326، وانظر الفقرة رقم (55) من هذه السنة.

سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضروات، أوفي رقيهم الأدبي وتفتح مداركهم حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى. وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكًا وثيقًا بحكم الجوار، فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما 90 كم فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سُمَّيت الطائف (بستان قريش)، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن من صلات نسبية قديمة توثقها المصاهرات المتجددة فكلاهما من مُضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش، تبعًا لاختلاف النسابين. وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبلتين، ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولاً لقريش إلى المسلمين في الحديبية. فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإِسلام بعد فتح مكة؛ لتملأ الفراغ إثر سقوط عامة قريش لمعسكر الشرك في الجزيرة العربية. فمنذ أن لجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يظهروا العداء الصريح، وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة ... إن قريشًا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها.

سبب الغزوة

ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فتح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإِسلامية (¬1). سبب الغزوة: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ولما سمعت هوازن برسول الله -صلى الله عليه وسلم - وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت مُضر وجُشَم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جُشَم دريد بن الصّمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان قد عمي، وكان شيخاً مجربًا، وجماع أمر الناس إلى ملك بن عوف النصري، فلما أجمع المسير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضرس، ولا سهل دَهْس (¬2)، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي، ويُعار الشاء؟! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، ودعي له، قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟! قال: سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 489، 491 باختصار. (¬2) الحزن: ما ارتفع من الأرض، والضرس: الذي فيه حجارة محدوب، والدهس: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملًا.

أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، هل يَرُدُّ المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضحت في أهلك ومالك، قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدُّ (¬1) والجدُّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغلب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر (¬2) لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. يا لَيتَني فيها جَذَع ... أَخُبُّ فيها وَأَضَع أَقودُ وَطفاءَ الزَمَع (¬3) ... كَأَنَّها شاةٌ صَدَع ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فأكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد (¬4). ¬

_ (¬1) الحدُّ: النشاط والسرعة والمضاء في الأمور. (¬2) أي: أنهما ضعيفان في العرب بمنزلة الجذع في سنة. (¬3) الجذع: الشاب، والوطفاء: طويلة الشعر، والزمع: الشعر فوق مربط قيد الدابة، يريد فرسًا صفتها هكذا، وهو محمود في وصف الخيل. (¬4) "سيرة ابن هشام" 4/ 35 - 37 باختصار يسير.

تجهيز جيش المسلمين

تجهيز جيش المسلمين: ولما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، فأقبل حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر (¬1). فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ، وقام - صلى الله عليه وسلم - بتجهيز جيشه المكون من اثنى عشر ألفًا (¬2)، العشرة آلاف الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء، وهو أكبر جيش للمسلمين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عَتَّاب بن أسيد على مكة (¬3). فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السّيْرَ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا- وكان صفوان لا يزال مُشْرِكًا، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا صفوان هل عندك سِلَاح؟ قَالَ: عارية أَم غَصْبًا؟ قَالَ: لا بَلْ عَارِيَةٌ، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعًا (¬4). فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة خامس شوال (¬5). ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال (¬6). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 37. (¬2) "سيرة ابن هشام" (4/ 38. (¬3) السابق. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3563)، كتاب: الإجارة، باب: في تضمين العارية, وصححه الألباني في "الصحيحة" (631). (¬5) "سيرة ابن هشام" 4/ 39. (¬6) السابق.

بداية المعركة

عن سَهْلِ بن الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ اجْتَمَعُوا إلى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ أَنَسُ بن أبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ الله, قَالَ: فَارْكَبْ، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وجَاءَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ في أَعْلَاهُ، وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ"، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ"، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إلى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ في أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ "، قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا" (¬1). بداية المعركة: خرج مَالِك بن عَوْف بمن معه إِلَى حُنَيْنٍ، فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّأُوا فِي مَضَايِق الْوَادِي وأجنابه، وَأَقْبَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه حَتَّى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الحرس في سبيل الله عز وجل، وصححه الألباني.

اِنْحَطَّ بِهِمْ الْوَادِي فِي عِمَايَةِ الصُّبْح (¬1)، وقد أعجبت بعض المسلمين كثرتهم، فحمل المسلمون على المشركين في أول المعركة فهزموهم، وفرَّ المشركون من الميدان، فانكبَّ المسلمون على الغنائم يجمعونها، فاستقبلهم رماة المشركين بِالسِّهَامِ (¬2)، فَثَارَتْ في وُجُوه المسلمين الْخَيْل، فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاس مُنْهَزِمِينَ، لا يُقْبِل أَحَد على أحد (¬3)، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَغْلَته البَيْضَاءَ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والعَبَّاس آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَته، يكُفُّهَا عن الجري، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ (¬4) "، قَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ في الْأَنْصَارِ، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بني الْحَارِثِ بن الخَزْرَجِ، يَا بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ (¬5)، وكان الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر لا يتعدون المائة (¬6)، منهم رهط من أهله، علىُّ بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، والفضل بن العباس- وقيل: الفضيل بن أبي سفيان-، وأيمن بن أم ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 376 بإسناد حسن. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4317)، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...} ومسلم (1776)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين. (¬3) التخريج قبل السابق. (¬4) أصحاب السَّمُرَةِ: هم أصحاب البيعة تحت الشجرة, وكانت شجرة سمر. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1775)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين. (¬6) صحيح الإسناد: أخرجه الترمذي (1689)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الثبات عند القتال، وصحح إسناده الألباني رحمه الله.

أيمن، وأسامة بن زيد، وقُثم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم: أبو بكر وعمر (¬1)، فلما دعاهم العباس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ويَقُولُ: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عبد الْمُطَّلِبْ، اللهمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ" (¬2)، فاستجاب الله عز وجل لرسوله، واجتمع المسلمون مرة أخرى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْك تَشَأْ أَنْ لَا تُعبد بعد اليوم" (¬3)، ويقول: "أين أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الله ... " (¬4). واستعاد المسلمون توازنهم، ونظموا صفوفهم، فَنَظَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيهَا إلى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ"، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، يقول العباس - رضي الله عنه -: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، قَالَ العباس: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ (¬5). وقد أنزل الله عز وجل جندًا من السماء لإعانة المسلمين على عدوهم. وعن سَلَمَةَ بن الأكوع - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً، فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 376 بإسناد حسن. (¬2) متفق عليه: سبق تخريجه. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد 3/ 121. (¬4) إسناده حسن: أخرجه أحمد 3/ 374 بإسناد حسن. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1775)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.

حدث في حنين

وَنَظَرْتُ إلى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصحَابَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْهَزِمًا، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا"، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَنْ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: "شَاهَتْ الْوُجُوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمْ الله عزّ وجلّ (¬1). وفي غزوة حنين يقول الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} [التوبة: 25 - 27]. حدث في حنين: عن الْحَارِثِ بن مَالِك - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ، قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضرَاءُ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ، فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سِدْرَةً خَضرَاءَ عَظِيمَةً، قَالَ: فَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ: يَا رَسُولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1777)، كتاب الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.

مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138] إنّهَا السّنَنُ، لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ منْ كَانَ قَبْلَكُم" (¬1). وعن سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: غزَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى (¬2) مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ (¬3)، فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضعْفَةٌ وَرِقَّةٌ في الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ. قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ، فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ في الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ:"مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ "، قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ لَهُ: "سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (¬4). وعَنْ رَبَاحِ بن رَبِيعٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيءٍ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: "انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ "، فَجَاءَ، فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ، فَقَالَ: "مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ! "، قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمةِ ¬

_ (¬1) صحيح: رواه ابن إسحاق بسند صحيح، "سيرة ابن هشام" 4/ 39، والحديث أخرجه الترمذي (2180)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، عن أبي واقد الليثي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في "صحيح السنن". (¬2) نتضحى: نتغذى. (¬3) الطَّلَق: هو العقال من الجلد. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1754)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سَلَب القتيل.

خَالِدُ بن الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: "قُلْ لِخَالِدٍ: لَا تقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا" (¬1). وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ- يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ -: "مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ"، فَقَتَلَ أبوطَلحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ (¬2). وعَنْ أبي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا من الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَال النَّاسِ، قَالَ: أَمْرُ الله عزّ وجلّ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ، فَقُلتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثمَّ قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ، فَقُمْت، فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ "، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "رَجُلٌ صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي"، فَقَال أبو بَكْرٍ: لَاهَا الله إذًا لَا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ (¬3)، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ فَأَعْطِهِ"، فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا (¬4) في بني سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُه (¬5) ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2669)، كتاب: الجهاد، باب.- في قتل النساء، وصححه الألباني. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2719)، كتاب: الجهاد، باب: في السَّلَب يعطى للقاتل. (¬3) يريد أبو بكر - رضي الله عنه - أن أبا قتادة معه بنية، فقد يأخذ حق غيره، ولذلك قال: لَا يَعْمِدْ إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن صدق أبي قتادة فَقَالَ: "صَدَقَ فَأَعْطِه". (¬4) مخرفًا: أي بستانًا، سُمّي بذلك لأنه يُخترف منه التمر، أي: يُجتنى. (¬5) تأثَّلته: أي: أصلته أو تملكته.

30 - في شوال من هذه السنة: كانت سرية أوطاس بقيادة أبي عامر الأشعري.

في الْإِسْلَامِ (¬1). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا، فَرَآهَا أبوطَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟ "، قَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنْ الطُّلَقَاءِ (¬2) انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أُمَّ سُلَيْمِ إِنَّ الله قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ" (¬3). 30 - في شوال من هذه السنة: كانت سرية أوطاس بقيادة أبي عامر الأشعري. الشرح: وكان سببها أنَّ هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم، فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري فلجئوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وتوجَّه بنو غيرة من ثقيف نحو نخلة، وسارت فرقة فتحصنوا بمكان يقال له: أوطاس، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري، فقاتلوهم ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4321)، كتاب: المغازي، باب: قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...} [التوبة: 25]، ومسلم (1751)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل. (¬2) اُقْتُلْ مَن بَعْدنَا مِنْ الطُّلَقَاء، هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْل مَكَّة يَوْم الْفَتْح، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ، وَكَانَ في إِسْلَامهمْ ضَعْف، فَاعْتَقَدَتْ أُمّ سَلِيم أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَأَنَّهُمْ اِسْتَحَقُّوا الْقَتْل بِانْهِزَامِهِمْ. (نووي). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1809)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة النساء مع الرجال.

فغلبوهم (¬1). وكان قائد المشركين في أوطاس دُريد بن الصّمة. عَنْ أبي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حُنَينٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ الله أَصْحَابَهُ، قَالَ أبو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أبي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أبو عَامِرٍ في رُكْبَتِهِ؛ رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ في رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ! فَأَشَارَ فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِ؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأبي عَامِرٍ: قَتَلَ الله صاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَاسْتَخْلَفَنِي أبو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ (¬2). وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أبي عَامِرٍ، وَقَالَ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أبي عَامِرٍ"، قال أبو موسى: وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ" فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِر، فَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِعبد الله بن قَيسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مًدْخَلًا كَرِيمًا" (¬3). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 47، "البداية والنهاية" 5/ 22. (¬2) سرير مُرْمل: أي معمول بالرمال؛ وهي حبال الحصر التي تُضفر بها الأَسِرَّة "فتح". (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4323)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين - رضي الله عنهما -.

31 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية الطفيل بن عمرو الدوسي لهدم الصنم ذي الكفين، فأشعل فيه النار.

ويقال أنَّ الذي قتل دُريد بن الصِّمة هو الزبير بن العوام - رضي الله عنه - (¬1). وعَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ سُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ حُنَينٍ بَعَثَ جَيشًا إلى أَوْطَاسَ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ الله عزّ وجلّ في ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَت عِدَّتُهُنَّ (¬2). 31 - وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية الطفيل بن عمرو الدَّوسي لهدم الصنم ذي الكفَّين، فأشعل فيه النار. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى الطائف، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين- صنم عمرو بن حمحمة الدوسي- يهدمه وأمره أن يستمدَّ قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعًا إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشُّ (¬3) النار في وجهه ويحرقه ويقول: يا ذا الكفَّين لستُ مِنْ عبادكا ... ميلادنا أقدم مِنْ ميلادكا أنا حششتُ النار في فؤادكا (¬4) ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 7/ 638، وقال ابن حجر: رواه البزار في مسند أنس بإسناد حسن. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1456)، كتاب: الرضاع، باب: جواز وطء المسبيِّة بعد الاستبراء. (¬3) يحشُّ: يوقد. (¬4) "الطبقات الكبرى" 2/ 157.

32 - وفي شوال من هذه السنة: وفي طريقه - صلى الله عليه وسلم - لحصار الطائف مر ببحرة الرغاء فابتنى بها مسجدا، فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف.

32 - وفي شوَّال من هذه السنة: وفي طريقه - صلى الله عليه وسلم - لحصار الطائف مَرَّ ببُحرة الرُّغاء فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف. الشرح: سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فمر من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم علي المليح، ثم على بُحرة الرُّغاء من لبَّة، فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه (¬1). 33 - وفي شوَّال من هذه السنة: في بُحرةَ أيضًا قتل رجلاً من بني ليث قصاصًا برجل من هُذيل، وهو أوَّل قصاص في الإسلام. الشرح: فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم -وهو أول دم أقيد به في الإِسلام- رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬2). 34 - وفي شوَّال من هذه السنة: كانت غزوة الطائف. الشرح: بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس، اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوزان. وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلًا من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" 3/ 50، "سيرة ابن هشام" 4/ 67. (¬2) المصدر السابق.

التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع. وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة. كما في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، وحددت رواية عن عروة أيضًا المدة بنصف شهر، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة، فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها (¬1). وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاول اقتحام الحصين بالدبابات (¬2)، والمنجنيق (¬3)، فلم يستطع المسلمون اقتحام الحصين، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برميهم بالسهام، وشجع المسلمين على ذلك. فعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِحِصنِ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله عَزّ وجَلّ فَلَهُ دَرَجَةٌ" (¬4). ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بفك الحصار. عَنْ عبد الله بن عُمَرَو - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيئًا، فقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ الله، قال أصحابه: نرجِع ولم نفتحه، فَقَالَ لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا عليه، فَأصَابَهُم جِرَاحٌ، ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 507. (¬2) الدبابات: آلات تصنع من خشب وتغطى بجلود ثم يدخل فيها الرجال، لتحميهم من سهام الأعداء. (¬3) يتكون المنجنيق من عمود طويل قوي موضوع على عربة ذات عجلتين في رأسها حلقة أو بكرة، يمر بها حبل متين، في طرفه الأعلى شبكة في هيئة كيس، توضع حجارة أو مواد محترقة في الشبكة، ثم تحرك بواسطة العمود والحبل، فيندفع ما وضع في الشبكة من القذائف ويسقط على الأسوار فيقتل أو يحرق ما يسقط عليه. "الرسول القائد" (254) محمود شيت خطاب نقلاً عن "السيرة النبوية الصحيحة". (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3965)، كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1756).

35 - وفي شوال من هذه السنة: في حصار الطائف نزل نفر من رقيق الطائف، فأعتقهم رسول الله منهم أبو بكرة - رضي الله عنه -.

فَقَالَ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا"، قال: فَأَعْجَبَهُمْ ذلك، فَضَحِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 35 - وفي شوَّال من هذه السنة: في حصار الطائف نزل نفر من رقيق الطائف، فأعتقهم رسول الله منهم أبو بكرة - رضي الله عنه -. الشرح: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ (¬2). وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف، فخرج إليه عبدان، أحدهما: أبو بكرة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعتق العبيد إذا خرجوا إليه (¬3). 36 - وفي أواخر شوَّال من هذه السنة: رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار عن الطائف، ثم رجع إلى الجُعرانة، فقدم عليه وفود هوازن قد أسلموا فردّ عليهم أسراهم. الشرح: أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وفدُ هوازن وهو بالجعرانة، وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يُدرى ما عدَّته (¬4). عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن وفد هوازن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4325)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، قاله موسى بن عقبة، ومسلم (1778)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الطائف. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (1959)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2176)، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. (¬4) "سيرة ابن هشام" 4/ 71.

وهو بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، مَنَّ الله عليك، قال: وقام رجل من هوازن، يقال له: زهير يكنى أبا صُرَد، فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك (¬1) اللاتي كنَّ يكفُلْنك، ولو أنا مَلَحْنا (¬2) للحارث بن أبي شِمْر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته (¬3) علينا، وأنت خير المكفولين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ " فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم"، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم" (¬4). وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، ¬

_ (¬1) لأنَّ حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سعد وهم من هوازن. (¬2) ملحنا: أي أرضعنا. (¬3) عائدته: فضله. (¬4) حسن: "سيرة ابن هشام" 4/ 71 - 72، عن ابن إسحاق بإسناد حسن.

وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، يقول عبد الله بن عمر: فبعثت بها إلى أخوالي من بن جُمح؛ ليُصلحوا لي منها، ويهيئوها، حتى أطوف البيت، ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال فخرجت من المسجد حتى فرغت، فإذا الناس يشتدَّون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردّ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءنا وأبناءنا، فقلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها (¬1). وَعن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ" (¬2)، وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أَنْظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غَيرُ رَادٍّ إِلَيهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ"، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ في ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ"، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ (¬3)، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" بإسناد صحيح. (¬2) وقد كنت استأنيت بكم: أي أخرتُ قسم السبي لتحضروا فأبطأتم. (¬3) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، وسُمِّي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يُعَرِّف بها مَن فوقه عند الاحتياج "فتح".

37 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم كثيرا، ووكل المؤمنين إلى إيمانهم، فقام ذو الخويصرة فقال ما قال.

فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا (¬1). 37 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم كثيرًا، ووكَّل المؤمنين إلى إيمانهم، فقام ذو الخويصرة فقال ما قال. الشرح: عَنْ رَافِعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قسم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم يوم حنين فأعطى أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بن حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَي عَبَّاسَ بن مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَمَاكَانَ بَدْرٌ وَلَاحَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ وما كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً (¬2) وعَنْ عبد الله بن زَيْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ الله بِي؟ وَمُتَفَرِّقِيِنَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4318، 4319)، كتاب: المغازي، باب {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 26]. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1060)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.

فَجَمَعَكُمْ الله بِي؟ " وَهم يَقُولُونَ: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُونِي؟ " فَقَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَنَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (¬1)، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً (¬2)، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ (¬3). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْب بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْبضُ مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِل، قَالَ: "ويلَكَ! وَمَن يَعْدِلُ إِذَاَ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: "مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أصحابي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّة" (¬4). وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله اعْدِلْ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلُ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: يَا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار: الثوب الذي يكون فوقه، ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس (نووي). (¬2) ستلقون بعدي أثرة: أي: ستلقون ناسًا يؤثرون أنفسهم وذويهم على غيرهم. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4330) كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1061)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم. والمؤلفة قلوبهم هم أناس قد أسلموا، حديثو عهد بكفر يعطون من الزكاة ليثبتوا على الإِسلام ويحسن إسلامهم، أو كافر يعطى من المال رجاء أن يُسلم. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1063)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.

38 - وفي ذي القعدة من هذه السنة، جيء بالشيماء أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أسيرة، فمن عليها وأعطاها وأطلقها.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (¬1)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ وَهوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (¬2)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (¬3)، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ (¬4)، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْي الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تتَدَرْدَرُ (¬5)، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ"، قَالً أبو سَعِيدٍ: فَأشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فوجد، فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرتُ إِلَيهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي نَعَتَ (¬6). 38 - وفي ذي القعدة من هذه السنة، جيء بالشيماء أُخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أسيرة، فمنَّ عليها وأعطاها وأطلقها. الشرح: ذكر ذلك ابن إسحاق رحمه الله، وغير واحد من أهل السيرة، أنه جيء بالشيماء بنت الحارث بن عبد العُزَّى أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الرضاعة، فساقوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعنفوا عليها في السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا ¬

_ (¬1) النصل: هو حديد السهم، والرصاف: هو مدخل النصل من السهم. (¬2) النضيُّ: عود السهم. (¬3) القُذَذُ: هي ريش السهم. فشبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مروقهم وخروجهم من الدين بالسهم الذي يخرج بسرعة شديدة نحو الرميَّة. (¬4) الفرث: الروث في الكرش، أي: أن السهم من شدة سرعته خرج من الناحية الأخرى ولم يصبه فرث ولا دم. (¬5) البضعة -بفتح الباء-: القطعة عن اللحم، تتدردر: أي: تضطرب وتذهب وتجيء. (¬6) متفق عليه. أخرجه البخاري (3610)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام، ومسلم (1064) كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.

39 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة.

والله إني لأختُ صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فمنَّ عليها وأعطاها عطايا وأطلقها. 39 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجُعْرانة. الشرح: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ (¬2). 40 - وفي ذي القعدة من هذه السنة: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت الضَّحَّاك الكُلابية، فاستعاذت منه ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْكِلَابِيَّةَ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" (¬3). 41 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: وَلَدَتْ ماريةُ إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيتُهُ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 49. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهنَّ. (¬3) صحيح: أخرجه النسنائي (3417)، كتاب: الطلاق، باب: مواجهة المرأة بالطلاق، وابن ماجة (2050)، كتاب: الطلاق، باب: ما يقع به الطلاق من الكلام، وصححه الألباني في "صحيح السنن".

42 - وفي هذه السنة: ولدت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص بن الربيع ابنتها أمامة التي كان يحملها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة.

بِاسْمِ أبي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (¬1) يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أبي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَينَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا أَبَا سيفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّبيِّ فَضمَّهُ إلَيهِ، وَقَالَ: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ (¬2). وكان مولده - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة (¬3). وعَنْ أَنَسٍ أيضًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ في عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ (¬4). 42 - وفي هذه السنة: ولَدَتْ زينب بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص بن الربيع ابنتها أُمامة التي كان يحملها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. الشرح: ذكر تاريخ ولادتها - رضي الله عنها - الذهبي رحمه الله في "مغازيه" (¬5). وعَنْ أبي قَتَادَةَ الْأَنْصارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بنتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) القين: الحداد. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2315)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال. (¬3) انظر: "أسد الغابة" 1/ 44، "الاستيعاب" 1/ 64، 65، و"الإصابة" 1/ 18، و"عيون الأثر" 2/ 371. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2316)، كتاب: الفضائل، باب: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال. (¬5) (621).

43 - وفي هذه السنة: عمل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب عليه، فحن إليه الجذع الذي كان يخطب عليه.

وَلِأبي الْعَاصِ بن الربيع: فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (¬1). 43 - وفي هذه السنة: عُمِل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب عليه، فحنَّ إليه الجذع الذي كان يخطب عليه. الشرح: عَنْ جَابِرِ بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ"، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إلى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا (¬2)، وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (¬3). 44 - وفي هذه السنة: وهبت سودة أم المؤمنين يومها لعائشة - رضي الله عنها -. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ في مِسْلَاخِهَ (¬4)، مِنْ سَوْدَةَ بنتِ زَمْعَةَ، مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ (¬5)، قَالَتْ عائشة: فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (516)، كتاب: الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3584)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام. (¬3) (621). (¬4) المسلاخ: هو الجلد، ومعناه أن أكون أناهي. (¬5) من امرأة فيها حدة, تصفها بقوة النفس.

45 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حج بالناس عتاب بن أسيد - رضي الله عنه -، أمير مكة.

يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ، يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ (¬1). وذكر ذلك التاريخ الذهبي في "مغازيه" (¬2). 45 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ بالناس عَتَّابُ بن أسيد - رضي الله عنه -، أمير مكَّة. الشرح: قال ابن إسحاق رحمه الله: وحجَّ الناس في تلك السنة على ما كانت العربُ تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عَتَّابُ بن أَسيد، وهي سنة ثمان (¬3). 46 - وفي هذه السنة: تُوفّي مُغَفَّلُ بن عبد نَهْمٍ المزّنيُّ والدُ الصحابي عبد الله بن مَغَفَّلٍ، وله صُحْبة. الشرح: قال ابن عبد البر رحمه الله: مُغَفَّل بن غَنَم، ويقال: ابن عبد نَهْم بن عفيف بن أُسَيْحم (¬4)، وكان بن الكلبي يقول في أسيحم: سُحيم بن ربيعة بن عدي المزني، وهو والد ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5212) كتاب: النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، ومسلم (1463)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها. (¬2) (621) (¬3) "سيرة ابن هشام" 4/ 79. (¬4) وفي نُسخة: ابن أَسْحم.

47 - وفي هذه السنة: أسلم كعب بن زهير، وقال قصيدته المشهورة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بانت سعاد

عبد الله بن مغفل، مات بطريق مكة قبل أن يدخلها، وذلك سنة ثمان من الهجرة، عام الفتح، وقبل الفتح بقليل، وذكر ذلك الطبري. اهـ (¬1). 47 - وفي هذه السنة: أسلَم كَعْبُ بن زهير، وقال قصيدته المشهورة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتَ سُعَادُ الشرح: عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله فأسمع ما يقول: فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليه الإِسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبًا فقال: أَلا أَبلِغا عَنَي بُجَيرًا رِسالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيءٍ وَيْحَ غَيْرَكَ دَلَكا عَلى خُلُقٍ لَم تُلفِ أُمّاً وَلا أَباً ... عَلَيهِ وَلَم تُدرِك عَلَيه أَخاً لَكا سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا فلما بلغت الأبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه، فقال: "من لقي كعبًا فليقتله" فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا قَبِل ذلك, فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم، وأقبل، فأسلم كعب وقال القصيدة التى يمدح فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (706)، وانظر: "أسد الغابة" 4/ 178، و"الإصابة" 3/ 1877، 1878.

48 - وفي هذه السنة: توفيت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أكبر أولاده، وغسلتها أم عطية - رضي الله عنها -

يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله الأمان يا رسول الله قال: "ومن أنت؟ "، قلت: أنا كعب بن زهير: قال: "أنت الذي تقول" ثم التفت إلى أبي بكر: "كيف قال يا أبا بكر" فأنشده أبو بكر - رضي الله عنه -: سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: "وكيف قلت؟ " قال: إنما قلت: سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ ... وَأَنَهلكَ المَأَمونُ مَنْهَا وعَلَكَا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "مأمون والله" ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها. واملاها على الحجاج بن ذي الرقيبة حتى أتى على آخرها: بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ (¬1) إلى آخر القصيدة. 48 - وفي هذه السنة: تُوفِّيتْ زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أكبر أولاده، وغسَّلتها أمُّ عطية - رضي الله عنها -. الشرح: عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لما توفيت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ ¬

_ (¬1) الحاكم في "المستدرك " (6477)، ابن هشام في "السيرة" 4/ 80 - 88.

قال ابن عبد البر رحمه الله

وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ في الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، قالت: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حقْوَهُ (¬1)، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا (¬2). إِيَّاهُ". وفي رواية: قالت أم عطية: أنهن نقضن شعرها ثم غَسَلْنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. وفي رواية: عن أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرها أن تغسل ابنته قال لها: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها (¬3). قال ابن عبد البر رحمه الله: كانت زينب أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف أعلمه في ذلك، إلَّا ما لا يصح ولا يُلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين زينب والقاسم أيها وُلد أولاً، وتُوفيِّت في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سنة ثمانٍ من الهجرة (¬4). 49 - وفي هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعمرو ابني الجَلَنْدي من الأزدْ، فأسلما. الشرح: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد (¬5) ابني الجلندى، وهما من الأزد والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى ¬

_ (¬1) حِقْوهُ: إزاره. (¬2) أشعرنها: أَلْفِفْنها. (¬3) متفق عليها: انظر: "صحيح البخاري" (1257، 1258، 1259، 1260، 1261، 1262)، و "صحيح مسلم" (939). (¬4) "الاستيعاب" (892)، وانظر: "الإصابة" 4/ 2516، 2517. (¬5) في "تاريخ الطبري": عمرو.

50 - وفي هذه السنة: غلا السعر، فقالوا: يا سول الله سعر لنا، فقال: "إن الله هو المسعر والقابض الباسط الرزاق".

الإِسلام، وكتب معه إليهما كتابًا وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك وأنا أُوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، فمكثت أياما ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلَّا أني رأيت أخاه أرقَّ منه، فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، قال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إذا ملَّكتُ رجلاً ما في يديَّ، قلتُ: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإِسلام هو وأخوه جميعًا وصدَّقا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، فلم أزل مقيمًا فيهم حتى بلغنا وفاة رسول الله" (¬1). 50 - وفي هذه السنة: غلا السِّعر، فقالوا: يا سول الله سَعَّر لنا، فقال: "إنَّ الله هو المسَّعِّر والقابض الباسط الرَّزَّاق". الشرح: عَنْ أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: "إنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ وَلَا مَالٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 262، 263. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (1314)، كتاب: البيوع، باب ما جاء في التسعير، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "صحيح السنن"، وراجع "شذرات الذهب" 1/ 23.

51 - وفي هذه السنة: نزلت سورة النصر.

51 - وفي هذه السنة: نزلت سورة النصر. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: فلما افتُتحت مكة، ودانت لها قريش، ودوَّخها الإِسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عدواته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل: أفواجا يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]. أي: فأحمد الله على ما أظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا. اهـ (¬1). 52 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثعلبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه لما قدم رسول الله من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه أربعة نفر وقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مُقرُون بالإِسلام، فأمر لنا بضيافة وأقمنا أيامًا (¬2). 53 - وفي هذه السنة: جاء وفد سُلَيم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني سُلَيم يقال له: قيس بن نُسيبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 117. (¬2) "الطبقات الكبرى" 1/ 298.

54 - وفي هذه السنة: جاء وفد ربيعة: عبد القيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الإِسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سُليم فقال: قد سمعت ترجمة الروم، وهينمة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمَّد شيئًا من كلامهم، فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -, فلقوه بقُديد وهم تسعمائة، ويقال: كانوا ألفًا، فيهم العباس بن مرداس وأنس بن عياض بن رعل وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدم، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينًا (¬1). 54 - وفي هذه السنة: جاء وفد ربيعة: عبد القيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا الندامى"، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحُرُم، حدثنا بِجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة، وندعوا من وراءنا، قال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعْطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدُّبَّاء والنقير والمزفَّت" (¬2). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 307. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (4368)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (17)، كتاب: الإيمان, باب: الإيمان بالله ورسوله. و (المزفَّت): أوعية مطلية بالزفت، و (الدباء): القرع اليابس يُفَرَّغ ويُجعل إناء، و (الحنتم): آنية كبيرة مدهونة خُضْر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، و (النقير): النخل ينقرونه ثم يضعون فيه الخمر، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأنواع خاصة، قيل =

55 - وفي هذه السنة: جاء وفد صداء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة". وعن أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيها وَعِنْدِها نِسْوَةٌ مِنْ بني حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فصلى ركعتين، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَة، فقلت: قُومِي إلى جَنْبِهِ فَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَت عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "يَا بنتَ أبي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عبد الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَينِ اللتين بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ" (¬1). 55 - وفي هذه السنة: جاء وفد صُدَاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: لما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صُدَاء فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وقدم رجل من صداء فسأل عن ذلك البعث فَأُخْبر بهم فخرج سريعا حتى ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال جئتك وافدًا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = لأنها كثيفة تُصَيّر النبيذ مسكرًا, ولا يعلم صاحبها، ثم نُسخ هذا؛ حيث أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - الشراب في كل الآنية، فقال: "اشْرَبُوا في كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا"، (مسلم) (977). (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4370)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، ومسلم (834) كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللَّتين بعد العصر.

56 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثمالة والحدان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من وراءهم من قومهم ورجعوا إلى بلادهم ففشا فيهم الإِسلام فوافى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائةُ رجل منهم في حجة الوداع (¬1). 56 - وفي هذه السنة: جاء وفد ثمالة والحُدَّان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم عبد الله بن عَلَس الثُّمالي، ومُسيلمة بن هِزَّان الحُدَّاني على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في رهط من قومهما بعد فتح مكة فأسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومهم، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بما فُرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة (¬2). ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" 1/ 326. (¬2) "الطبقات" 1/ 353، 354.

السنة التاسعة من الهجرة

السنة التاسعة من الهجرة

السنة التاسعة من الهجرة وفيها تسعة وأربعون حدثًا: 1 - في المحرَّم من هذه السنة: كانت سرية عُيينة بن حصن - رضي الله عنه - إلى بني تميم، فَسَبَوا منهم سبيًا، فجاء رؤساؤهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوه من وراء الباب: يا محمد، فنزلت فيهم صدر سورة الحجرات. الشرح: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عُيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسًا من العرب، ليس فيهم مهاجريٌ ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوا، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً، ووجدوا في المحلة إحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيًا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحُبسوا في دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عِدَّة من رؤسائهم؛ عطارد بن حاجب، والزِّبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري فعجلوا وجاءوا إلى باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوا: يا محمَّد اخرج إلينا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام بلال الصلاة وتعلَّقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فقدَّموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم، ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا

2 - وفي صفر من هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عوسجة - رضي الله عنه - إلى بني حارثة بن عمرو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا.

يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، فرَّد عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الأسرى والسبي (¬1). 2 - وفي صفر من هذه السنة: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عوسجة - رضي الله عنه - إلى بني حارثة بن عمرو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا. الشرح: قيل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى بني حارثة بن- عمرو بن قُريط، يدعوهم إلى الإِسلام، فأخذوا الصحيفة فغسلوها، ورقعوا بها أسفل دَلْوهم، فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 3 - وفي صفر من هذه السنة: كانت سرية قُطْبة بن عامر - رضي الله عنه - إلى خثعم بناحية بيشة فغنموا وأسروا, ولكن قُطبة قتِل. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُطبة في عشرين رجلاً إلى حي من خثعم، بناحية تَبالة، وأمره أن يشنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلاً فسألوه، فاستعجم (¬3) عليهم، فجعل يصيح بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر، فشنُّوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى كثرت الجرحى في الفريقين جميعًا، وقُتِل قطبة بن عامر فيمن قُتل، ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 160، 161، وأخرجه أحمد (27081) عن الأقرع بن حابس، بسند صحيح، مختصرًا، وفيه قال الأقرع: يا محمَّد إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال رسول الله: "ذمكم الله". (¬2) انظر: "الإصابة" 2/ 1106. (¬3) استعجم: سكت.

4 - وفي صفر من هذه السنة: قدم وفد عذرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا.

وساقوا النَّعم والشاء والنساء إلي المدينة (¬1). 4 - وفي صفر من هذه السنة: قدم وَفْدُ عُذرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: قالوا: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في صفر سنة تسع وفد عُذرة اثنا عشر رجلاً، فيهم حمزة بن النعمان العُذري، وسُليم وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبي رباح، فنزلوا دار رملة بنت الحارث النجَّارية، ثم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلموا بسلام أهل الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء في أمر الدين، وأسلموا (¬2). 5 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية الضحاك بن سفيان الكلابي - رضي الله عنه - إلى بني كلاب بالقُرْطاء. الشرح: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا إلى القرطاء عليها الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر الكلابي، ومعه الأَصْيَد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزُّج، زج لاوة، فدعوهم إلى الإِسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصْيدُ أباه سلمة، وسلمة على فرس له، فدعا أباه إلى الإِسلام، وأعطاه الأمان، فسبَّه ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 206. (¬2) "الطبقات" 1/ 331. بتصرف.

6 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: قدم وفد بلي، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي - رضي الله عنه -.

وسبَّ دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدهم فقتله، ولم يقتله ابنه (¬1). 6 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: قدم وفدُ بليّ، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي - رضي الله عنه -. الشرح: عن رويفع بن ثابت البلوي قال: قدم وفد قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم في منزلي ببني جديلة ثم خرَّجتهم حتى انتهينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة، فقدم شيخ الوفد أبو الضباب فجلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتكلم، وأسلم القوم وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضيافة وعن أشياء من أمر دينهم، فأجابهم، ثم رجعت بهم إلى منزلي، فأقاموا ثلاثًا، ثم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودعونه، فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز قبلهم، ثم رجعوا إلى بلادهم (¬2). 7 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية علقمة بن مجزّر المدلجي - رضي الله عنه - إلى الأحباش بجُدَّة، فهربوا. الشرح: قال ابن سعد رحمه الله: قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ناسًا من الحبشة رآهم أهل جُدَّة، فبعث إليهم علقمة بن مُجزَّر في ثلثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه، فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهليهم فأذن لهم (¬3). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 207. (¬2) "الطبقات" 1/ 330. (¬3) "الطبقات" 2/ 207.

8 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الفلس, صنم طيئ, فهدموا وأسروا وغنموا.

وعَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلْقَمَةَ بن مُجَزِّرٍ عَلَى بَعْثٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى إلى رَأْسِ غَزَاتِهِ، أَوْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، اسْتَأْذَنَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَيْشِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَّرَ، عَلَيْهِمْ عبد الله بن حُذَافَةَ بن قَيْسٍ السَّهْمِيَّ، فَكُنْتُ فِيمَنْ غَزَا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْقَدَ الْقَوْمُ نَارًا لِيَصْطَلُوا أَوْ لِيَصْنَعُوا عَلَيْهَا صَنِيعًا، فَقَالَ عبد الله -وَكَانَ فِيهِ دُعَابَةٌ- أَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَمَا أَنَا بِآمِرِكُم بِشَيءٍ إِلَّا صَنَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَم، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكُمْ إِلَّا تَوَاثَبْتُمْ في هَذِهِ النَّارِ، فَقَامَ نَاسٌ فَتَحَجَّزُوا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ وَاثِبُونَ قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْزَحُ مَعَكُمْ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ الله فَلَا تُطِيعُوهُ" (¬1). 8 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى الفُلس, صَنَم طيِّئ, فهدموا وأسروا وغنموا. الشرح: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفلس ليهدمه، فشنُّوا الغارة على محلَّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفُلْس وحرقوه، وملأوا أيديهم من السبي والنَّعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام ووجد في خزانة الفُلْس ثلاثة أسياف، وثلاثة أدرع، واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السبي أبا قتادة، واستعمل على الماشية والأموال عبد الله بن عَتيك (¬2). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن ماجه (2863)، كتاب: الجهاد، باب: لا طاعة في معصية الله, وأحمد 3/ 67، "الصحيحة" (2324)، وروى نحوه البخاري (434)، ومسلم (1840)، عن عليٍّ - رضي الله عنه -. (¬2) "الطبقات" 2/ 207. بتصرف يسير.

9 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - إلى الجناب, أرض عذرة وبلي.

9 - وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - إلى الجناب, أرض عُذْرة وبلي. الشرح: ذكرها ابن سيد الناس (¬1)، وقال: سرية عُكَّاشة بن محصن إلى الجناب أرض عُذْرة وبلي، وكانت في شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة. 10 - وفي رجب من هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه - إلى بيت سُويلم اليهوديِّ ليحرقه على من فيه من المنافقين الذين يخذِّلون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففعل. الشرح: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سُويلم اليهودي، يُثبِّطون الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عُبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يُحرِّق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا (¬2). 11 - وفي رجب من هذه السنة: كانت غزوة تبوك. الشرح: تقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 2/ 279. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 89.

الروم آنذاك (¬1). وقد عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو الروم لنشر الدين الإِسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإِسلامية أن تنشر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها. والذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم (¬2). فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها (¬3). ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 524. (¬2) انظر: الدليل على انتشار هذا الخبر في المدينة حديث عمر - رضي الله عنه - في شرح الفقرة (47) من هذه السنة، وهو حديث متفق عليه. (¬3) وَرَّى بغيرها: أي: أوهم بغيرها؛ وذلك حتى لا تتسرب الأخبار للعدو الذي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ملاقاته.

عن كَعْبِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا (¬1)، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى (¬2) لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ (¬3). وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة (¬4)، فقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ"، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان - رضي الله عنه - (¬5). وقد تبرع عُثْمَانُ - رضي الله عنه - من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثُرَهَا في حِجْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُقَلِّبُهَا في حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: "ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ" (¬6). وأخذ المنافقون في تثبيط المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81]. وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)} [التوبة: 81]. ¬

_ (¬1) المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها. (¬2) جلَّى: أي: أوضح وبيَّن. (¬3) متفق عليه: انظر تخريجه في شرح الفقرة (20) من هذه السنة. (¬4) سُمي جيش العُسْرة للعُسْر والشدة التي كان عليها المسلمون حينها. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2778)، كتاب: الوصايا، باب: إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دِلاء المسلمين. (¬6) حسن: أخرجه الترمذي (3071)، كتاب: المناقب، باب في مناقب عثمان - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في "المشكاة" (6064).

يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره - صلى الله عليه وسلم - أشد حرًا مما فروا منه. وجاء المعذّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم الخروج. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)} [التوبة: 90]. ثم بيَّن الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91]. كما بيَّن الله -عز وجل - تقبله عذر الفقراء الذين جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه، فتولَّوا وهم يبكون من شدة حزنهم لعدم استطاعتهم الخروج، فقال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92]. ثم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)} [التوبة: 93]. وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية، ولذلك

يقول الله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} [التوبة: 97، 98]. ثم بيَّن الله تعالى أنه ليس كلهم كذلك، بل منهم من هو مؤمن، فقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} [التوبة: 99]. ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقون أيضًا، فقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101]. وعمومًا فقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من جاءه معتذرًا، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يشُق عن قلوبهم ولا يعلم ما بداخلها. فعاتبه الله تعالى فأنزل عليه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43]. يقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: هلَّا تركتهم لمَّا استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم إن كانوا مؤمنين حقًا ثم وجدوك لم تأذن لهم في القعود لخرجوا معك ولو كان بهم شدَّة. وعلى أية حال فقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47]. ويحكي أبو مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قصة الأشعريين الذين أرسلوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه الحُملان لهم، فيقول - رضي الله عنه -: أَرْسَلَنِي أصحابي إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ في جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِي الله إِنَّ أصحابي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيءٍ،- يقول أبو موسى-: وَوَافَقْتُة وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ في نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إلى أصحابي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِيِ أَيْ عبد الله بن قَيْسٍ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ (¬1) -لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ- فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إلى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ الله -أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُنَّ فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِم بِهِنَّ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إلى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُم شَيئًا لَم يَقُلْهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا لِي: وَاللهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ، فَانْطَلَقَ أبو مُوسَى بنفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أبو مُوسَى (¬2). ¬

_ (¬1) الْقَرِينَيْنِ: أي: البعيرين المتماثلين في الحجم والسنّ. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (4415)، كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك وهي غروة العسرة، ومسلم (1649)، كتاب: الإيمان, باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفّر عن يمينه.

وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متوجهًا إلى تبوك بجيش يقرب من الثلاثين ألف مقاتل (¬1)، معهم حوالي عشرة آلاف فرس، وخلَّف على المدينة عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬2)، فَقَالَ عليٌّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أَتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ وَالنِسَاءِ؟ قَالَ: "أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي (¬3). وكان خَرَوجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الغزوة يَومَ الْخَمِيسِ حيث كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ في جميع أصفاره (¬4). وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعة شديدة وعطش، فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَوْ أبي سَعِيدٍ (شَكَّ الْأَعْمَشُ) قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: افْعَلُوا، قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْعَلَ في ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، فَدَعَا بنطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِم، ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية الصحيحة" 2/ 531، حيث قال: ويبدو أن أغلب المؤرخين يمليون إلى القول أنهم كانوا ثلاثين ألفًا. اهـ (¬2) ذكر بعض أهل السير ومنهم ابن هشام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، أو سباع بن عُرْفطة، واستخلف عليًّا على أهل بيته فقط، قلت: وهذا التفصيل لم يأت في رواية صحيحة، إنما الذي جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل عليًا، وقول عليّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتُخلّفني في الصبيان والنساء، يوضح أنه - رضي الله عنه - كان على المدينة كلها وليس على أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط. والله أعلم. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4416)، كتاب: المغازي، باب: غزوة العسرة، ومسلم (2404)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2950)، كتاب: الجهاد والسير، باب: مَن أراد غزوة فورَّى بغيرها ومَن أحب الخروج يوم الخميس.

قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا في الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عبد غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ" (¬1). فأكل الصحابة - رضي الله عنهم - وشربوا، بعد ما نالوه من جوع وعطش شديَدْين. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرْثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعها حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (¬2). فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: وَيْحَك؛ هَلْ بَعْدَ هَذَا شَئءٌ؟! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (27)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا. (¬2) إسناده جيد: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 231، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 5/ 74: إسناده جيد. (¬3) "سيرة ابن هشام" 4/ 92، 93، من رواية ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعاصم ثقة، وثقة ابن حجر كما في "التقريب" (295): قال: ثقة عالم بالمغازي =

وفي الطريق فُقدت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحد المنافقين -واسمه زيد بن اللُّصيت- وكان في رَحْل صحابي اسمه عُمارة بن حزم: أليس محمَّد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمارة عنده: إن رجلاً قال: هذا محمَّد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وأنا والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شِعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجبٌ من شيء حدثناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - آنفًا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا -للذي قال زيد بن اللُّصيت- فقال رجل: ممن كان في رحل عُمارة ولم يحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إلى عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني (¬1). ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه. وتلوَّم على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم ¬

_ = عن محمود بن لبيد، عن رجال من بني عبد الأشهل، به، ومحمود بن لبيد صحابي صغير، قال ابن حجر في "التقريب" (582): صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة. اهـ. فإن كان من روى عنهم هذه الرواية من الصحابة, فلا يضر إبهامهم، ويكون الحديث صحيحًا. (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 93، من رواية ابن إسحاق بالإسناد السابق.

خرج يتبع أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماشيًا، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله, إن هذا الرجل ماش على الطريق، وحده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كن أبا ذر"، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، وببعث وحده" (¬1). وكان أبو خَيْثَمَةَ - رضي الله عنه - رَجَعَ -بَعْدَ أَن سَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَيّامًا- إلَى أَهْلِهِ في يَوْمٍ حَارّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ في عَرِيشَيْنِ (¬2) لَهُمَا في حَائِطِهِ، قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الضّحّ (¬3) وَالرّيحِ وَالْحَرّ، وَأبو خَيْثَمَةَ في ظِلّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، في مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَهَيّئا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ في طَلَبِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيثَمَةَ عُمَير بن وَهْبٍ الْجُمَحِي في الطّرِيقِ، يَطْلُبُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَتَرَافَقَا، حَتّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ، قَالَ أبو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بن وَهْبٍ: إنّ لي ذَنْبًا، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَفَعَلَ حَتّى إذا دَنَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْ أَبَا خَيثَمَةَ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله هُوَ وَاَللهِ أبو خَيْثمَةَ، فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْلَى لَكَ (¬4) يَا أَبَا خَيثَمَة"، ثُمَّ أَخْبَرَ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم 3/ 50، 51، وصححه ووافقه الذهبي، ولكنه قال: فيه إرسال، وابن كثير في "البداية والنهاية" 5/ 73، وقال: إسناده حسن. (¬2) العريش: شبيه الخيمة. (¬3) الضّحّ: الشمس. (¬4) أَوْلَى لَكَ: كلمة فيها معنى التهديد، معناها: دنوت من الهلكة.

رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الْخَبَرَ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرًا"، وَدَعَا لَهُ بِخَيرِ (¬1). ولما وصلوا إلى تبوك حدث أيضًا ما يرويه مُعَاذ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: "إِنكُمْ سَتَاْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنكم لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ"، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَئءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيئًا؟ "، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ لَهُمَا: "مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ"، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ في شَئءٍ، وَغَسَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ -أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: "يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا" (¬2). وأَقَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا (¬3)، فلم يلق كيدًا؛ حيث خافه ملكُ بني الأصفر والقبائل العربية المتنصّرة، فلم يحضروا. فقفل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيشه راجعًا إلى المدينة، بعد ما عرف الجميع قوة الجيش الإسلامي التي ظنوا أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجودوها قد ازدادت قوة وصلابة، حتى إنهم قد خافوا الخروج إليهم. وصدق رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قام من الليل يصلي -وهو في تَبُوكِ- فَاجْتَمَعَ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" من رواية ابن إسحاق بلا سند، وله شاهد من حديث كعب بن مالك الطويل في "الصحيحين". (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (706)، كتاب الفضائل، باب: في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (14702)، بإسناد رجاله ثقات.

وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: "لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيلَةَ خَمْسًا، مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا؛ كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ في كَنَائِسِهِم وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ، قِيلَ لِي: سَلْ، فَإنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إلى يَوْمِ الْقِيَامة، فَهِيَ لَكُم وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله" (¬1). ومما حدث أيضًا في هذه الغزوة ما يرويه أبو حُمَيْد الساعدي - رضي الله عنه - حيث قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِي الْقُرَى، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُنم فَلْيُسْرِعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ"، فَخَرَجْنَا، حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" (¬2). وفي مرَجَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَبُوكَ، وحين دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ (¬3). ¬

_ (¬1) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (7068)، بسند رجاله ثقات. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1481)، كتاب: الزكاة، باب: خرص الثمر، ومسلم (1392)، كتاب: الفضائل، باب: في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4423)، كتاب: المغازي، باب: نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر، ومسلم (1911)، كتاب: الإمارة، باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر.

12 - وفي رجب من هذه السنة: وهو في طريقه إلى تبوك مر ببئر ثمود، فنهاهم أن يشربوا أو يتوضئوا منه مائها. الشرح

12 - وفي رجب من هذه السنة: وهو في طريقه إلى تبوك مَرَّ ببئر ثمود، فنهاهم أن يشربوا أو يتوضئوا منه مائها. الشرح: عَنْ عبد اللهْ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَفوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا؟ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ (¬1). وفي رواية عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيضًا أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَاقَةُ (¬2). وعنه أيضًا - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ (¬3)، قَالَ: "لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ"، ثُمَّ تَقَنَّعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ. وفي رواية: ثُمَّ زَجَرَ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3387)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3379)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. (¬3) الحِجْر: موضع ديار قوم ثمود. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (3380)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، ومسلم (2980)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلاَّ أن تكونوا باكين.

13 - وفي رجب من هذه السنة: وهو في تبوك جاء يحنة بن رؤبة فصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجزية.

13 - وفي رجب من هذه السنة: وهو في تبوك جاء يُحنَّة بن رُؤْبَةَ فصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجزية. الشرح: ولما انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أَيْلَة، فصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْباءَ وأذرح فأعطوه الجزية، فكتب ليحنة بن رؤبة: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي ليُحنَّة بن رُؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر: لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيِّب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يُمنعوا ماءً يردُونه، ولا طريقًا يريدونه، من برٍّ أو بحر) (¬1). 14 - وفي رجب من هذه السنة: وفي تبوك أتاه أهل جَرْباءَ وَأَذْرُحَ وأعطوه الجزية. الشرح: وكتب - صلى الله عليه وسلم - لأهل جَرْباءَ وأذرح: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لأهل جَرْباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كلِّ رجب، ومائة أوقيَّة طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 94، 95، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 247. (¬2) رواه البيهقي في "الدلائل" 5/ 248.

15 - وفي رجب منه هذه السنة: وفي تبوك أسر خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أكيدر ملك دومة، فحقن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه وصالحه على الجزية.

15 - وفي رجب منه هذه السنة: وفي تبوك أسر خالدُ بن الوليد - رضي الله عنه - أُكَيدرَ مَلِك دُومَة، فحقن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دمه وصالحه على الجزية. الشرح: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، إلى أكُيدر بن عبد الملك، وهو رجل من كندة كان ملكًا عليها، وكان نصرانيًا، فخرج خالد في ليلة مقمرة صائفة، وخرج أكيدر مع أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسان، يصطادون البقر، فتلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مُخوَّص بالذهب، فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه به عليه (¬1). ثم إنَّ خالدًا قدم بأكيدر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية (¬2). وعن أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أن أكيدر دومة الجندل أهدى لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّة مِنْ سُنْدُسٍ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَال: "وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَنَادِيلَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ في الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا" (¬3). 16 - وفي رجب من هذه السنة: وفي تبوك صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - صلاة الفجر. الشرح: عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ قال: عَدَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَعَهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 95. (¬2) المرجع السابق. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2469)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -.

17 - وفي رجب من هذه السنة: وفي غزوة تبوك مات ذو البجادين، فتولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمران غسله ودفنه ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبره، وترضى عنه.

الْفَجْرِ فَعَدَلْتُ مَعَهُ، فَأَنَاخَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدِهِ مِنْ الْإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ، فَأَدْخَلِ يَدَيْهِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَهُمَا إلى الْمِرْفَقِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ، فَأَقْبَلْنَا نَسِيرُ حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ في الصَّلَاةِ قَدْ قَدَّمُوا عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ، فَصلَّى بِهِمْ حِينَ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَوَجَدْنَا عبد الرَّحْمَنِ وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَصَفَّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَلَّى وَرَاءَ عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ عبد الرَّحْمَنِ، فَقَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صَلَاتِهِ فَفَزعَ الْمُسْلِمُونَ فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُمْ: "قَدْ أصَبتُمْ أَوْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ". وفي رواية: قال الْمُغِيرَةُ فَانْتَهَيْنَا إلى الْقَوْمِ وَقَدْ قَامُوا في الصَّلَاةِ يُصَلِّي بهِمْ عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيّ ذَهَبَ يَتَأخَّرُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَقُمْتُ، فَرَكًعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا (¬1). 17 - وفي رجب من هذه السنة: وفي غزوة تبوك مات ذو البجادين، فتولَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعُمَران غَسْلَه وَدَفْنَه ونزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبره، وترضَّى عنه. الشرح: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتَّبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزنيُّ قد مات، وإذا هم حفروا له، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرته، وأبو بكر وعمر يدنيانه إليه، وهو يقول: "ادنيا إلى أخاكما"، فدلَّياه إليه، فلما ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، وأبو داود (149)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين.

18 - وفي رجب من هذه السنة: وفي مرجعه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك هم نفر من المنافقين، بالفتك به، فأطلعه الله على ما قصدوه، ففشلت خطتهم.

هيأه لشقه قال: "اللهم إني أمسيت راضيًا عنه، فارض عنه". قال: يقول عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة (¬1). 18 - وفي رجب من هذه السنة: وفي مرجعه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك هَمَّ نفر من المنافقين، بالفتك به، فأطلعه الله على ما قصدوه، ففشلت خُطَّتهم. الشرح: عَنْ أبي الطُّفَيلِ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ الْعَقَبَةَ فَلَا يَأْخُذْها أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ، وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِب وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِحُذَيْفَةَ: "قَدْ قَدْ" حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ فَقَالَ: "يَا عَمَّارٌ هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟ " فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ، والْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ، قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟ " قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرسولِ الله فَيَطْرَحُوهُ" (¬2). 19 - وفي وجب من هذه السنة: وفي مرجعه - صلى الله عليه وسلم - من أمر بتحريق مسجد الضِّرار، فأُحْرِق. الشرح: قال ابن إسحاق -رحمه الله-: ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بذي أوان -بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 96 البجاد: الكساء الغليظ، قال ابن هشام: وإنما سُمِّي ذا البجادين؛ لأنه كان ينازع في الإِسلام فيمنعه قومه ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره فهرب منهم إلى رسول الله، فلما كان قريبًا منه شق بجاده فاتزر بواحد واشتمل بالآخر. اهـ. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (23682). بإسناد صحيح.

20 - وفي رجب من هذه السنة: تخلف كعب بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك ثم تابوا، فتاب الله عليهم.

فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تاتينا، فتصلي لنا فيه؛ فقال: "إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه". فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه"، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف -وهم رهط مالك بن الدُّخْشَم- فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)} [التوبة: 107 - 110] (¬1). 20 - وفي رجب من هذه السنة: تخلَّف كعبُ بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك ثم تابوا، فتاب الله عليهم. الشرح: عن كَعْبِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 97.

عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَني لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ قَالَ كَعْبٌ فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ الله وَغَزَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُم فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ في نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيئًا فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيهِ النِّفَاقُ أوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ الله مِنْ الضعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ الله حَبَسَهُ بُردَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ فَقَالَ مُعَاذُ بن جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللهِ يَا رسُولَ الله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ كَعْبُ بن مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي

وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَركَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْهُم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلى الله فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ" فَقُلْتُ: بَلَى إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ الله لَا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ" فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بني سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَكَ فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بن الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلَالُ بن أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي وَنَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْن مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ

لَيْلَة فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ في الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَقُولُ في نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَىَّ أَمْ لَا ثمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بن مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَن صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ الله بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بنا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا وَأَرْسَلَ إلى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله في هَذَا الْأَمْرِ قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بن أُمَيَّةَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ هِلَالَ بن أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ" قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إلى شَيءٍ وَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلى يَوْمِهِ هَذَا فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بن أمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا

رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلَامِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ الله قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَىَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صوْتِهِ: يَا كَعْبُ بن مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِتَوْبَةِ الله عَلَينَا حِينَ صلَّى صلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ وَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ قَاْلَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ من الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ" قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ الله أَمْ مِنْ عِنْدِ الله قَالَ: "لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ الله" وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلى الله وَإِلَى رَسُولِ الله قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَير لَكَ" قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الله إِنَمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ فَوَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ الله في صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ

21 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى خثعم.

ذَكَرتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي الله فِيمَا بَقِيتُ وَأَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} فَوَاللهِ مَا أَنْعَمَ الله عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِن صِدْقِي لرَسُوِلِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ الله قَالَ للذينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} إلى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ الله {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيسَ الَّذِي ذَكَرَ الله مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيهِ فَقَبِلَ مِنْهُ (¬1). 21 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى خَثْعَم. الشرح: روى الطبراني برجال ثقات عن خالد بن الوليد -رضي الله تعالى- عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى أناس من خثعم، فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نصف الدية ثم قال: "أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين لا تراءى ناراهما" (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4418)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" 4/ 134.

22 - وفي رجب من هذه السنة: نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، وصلى عليه صلاة الغائب.

22 - وفي رجب من هذه السنة: نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشيَّ، وصلَّى عليه صلاة الغائب. الشرح: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ في الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَخَرَجَ بِهِمْ إلى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ (¬1). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَاتَ الْيَوْمَ عبد لِلَّهِ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ" فَقَامَ فَأَمَّنَا وَصَلَّى عَلَيهِ (¬2). وذكره الطبري (¬3) ضمن أحداث السنة التاسعة. 23 - وفي هذه السنة: قدم عروة بن مسعود الثقفي - رضي الله عنه - على سول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ورجع إلى الطائف فدعا قومه إلى الإسلام فقتلوه. الشرح: قيل إن عروة بن مسعود - رضي الله عنه - اتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من الطائف، فأسلم، واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إني أخاف أن يقتلوك"، فقال: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني، فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إلى الإِسلام ونصح لهم فعصوه، وأسمعوه من الأذى، فلما كان من السَّحَر قام على غُرفة له فأذَّن، فرماه رجل من ثقيف بسهم، فقتله، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (1245)، كتاب الجنائز، باب: الرجل ينعي أهل الميت بنفسه، ومسلم (951)، كتاب: الجنائز، باب: التكبير على الجنازة. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1320)، كتاب الجنائز، باب: الصفوف على الجنازة، ومسلم (952)، كتاب: الجنائز، باب: في التكبير. (¬3) في "التاريخ" 2/ 191.

24 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد ثقيف من الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا ورجعوا إلى قومهم, فما زالوا بهم حتي أسلموا.

عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه" (¬1). 24 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد ثقيف من الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا ورجعوا إلى قومهم, فما زالوا بهم حتي أسلموا. الشرح: مكثت ثقيف بعد قتل عروة أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فائتمروا فيما بينهم - وذلك عن رأي عمرو بن أمية أخي بني علاج- على أن يرسلوا رجلًا منهم، فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عُمير ومعه اثنان من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا المغيرة بن شعبة يرعى ركاب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآهم ذهب يشتدُّ ليبشِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإِسلام, فقال أبو بكر للمغيرة أقسمتُ عليك ألا تسبقني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أكون أنا أُحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروَّح الظَّهر معهم، وعلمهم كيف يُحيُّون رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، ولما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضُربت عليهم قُبَّة في المسجد، وسأل الوفدُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء؛ حيث سألوه ترك الطاغية اللات، وعدم أداء الصلوات، فرفض ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن الوفد أسلم، ورجعوا إلى قومهم فكتموهم الحقيقة، وخوفوهم بالحرب والقتال، وغير ذلك، فأخذت ثقيفًا نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، فأظهر الوفد حقيقة الأمر، فأسلمت ثقيف (¬2). وعن جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنْ ثَقِيفًا لما بَايَعَتْ اشْتَرَطَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلَا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: "سَيَتَصَدَّقُونَ ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 102، و"الطبقات" 1/ 312. (¬2) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 104، و"الطبقات" 1/ 312، 313.

25 - وفي رمضان من هذه السنة: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها.

وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا" (¬1). 25 - وفي رمضان من هذه السنة: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها. الشرح: فلما فرغ الوفد من أمره، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية اللات، فخرجا مع القوم فهدماها (¬2). 26 - وفي رمضان من هذه السنة: أمَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الطائف عثمان بن أبي العاص، وهو من أحدثهم سنًا لحرصه على التفقُّه وتعلُّم القرآن. الشرح: قال ابن إسحاق -رحمه الله-: فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبهم أمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنًا، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإِسلام، وتعلم القرآن (¬3). وعَنْ عُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: يَا رَسُولَ الله اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، قَالَ: "أَنْتَ إِمَامُهُمْ وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَاْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3025)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في خبر الطائف، "الصحيحة" (1888). (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 104، مختصرًا. (¬3) "سيرة ابن هشام" 4/ 104. (¬4) صحيح: أخرجه أحمد 4/ 21، وأبو داود (531)، كتاب: الصلاة، باب: أخذ الأجر على التأذين، وصححه الألباني "صحيح السنن".

27 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد ملوك حمير مقرين بالإسلام.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ: "إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأَخِفَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ" (¬1). 27 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد ملوك حِمْير مُقرِّين بالإسلام. الشرح: قال محمد بن سعد -رحمه الله-: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك بن مُرارة الرهاوي رسول ملوك حِمْير بكتابهم وإسلامهم، وذلك في شهر رمضان سنة تسع، فأمر بلالًا أن ينزله ويكرمه ويُضيِّفه، وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحارث بن عبد كُلال وإلى نُعيم بن عبد كُلال وإلى النعمان قَيْل ذي رُعَين، ومعافر وهمدان: (أما بعد ذلكم فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم فبلَّغ ما أرسلتم، وخبَّر عما قِبَلكم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، فإن الله تبارك وتعالى قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغنم خمس الله وخمس نبيه وصفيه وما كُتب على المؤمنين من الصدقة (¬2). 28 - وفي رمضان من هذه السنة: مات رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول. الشرح: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي يعوده ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (468)، كتاب الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة. (¬2) "الطبقات" 1/ 356.

في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله إن كنت لأنهاك عن حُبِّ يهود"، فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فمه؟ (¬1) يعني: فما نفعه؟ وعَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا مَاتَ عبد الله بن أبي ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله وَقَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ" فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: "إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا"، قَالَ: فَصلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قَوْلِهِ: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قَالَ عمر: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (¬2). وعن جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ أَتَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَاُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَاللهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا، وَكَانَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عبد الله يَا رَسولَ الله أَلْبِسْ أبي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ قَالَ سُفْيَانُ فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَلْبَسَ عبد الله قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 285 من رواية ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. قلت: وهذا إسناد صحيح قد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4671)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (1350)، كتاب: الجنائز، باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟، ومسلم (2773)، كتاب: صفات المنافقين.

29 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أي: مكافأة له لما صنع حيث ألبس العباس - رضي الله عنه - قميصه حين قدم العباس المدينة فلم يجدوا قميصًا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أُبيٍّ. 29 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: حج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - أميرًا على الحج في شهر ذي الحجة سنة تسع؛ ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - ومن معه من المسلمين (¬1). عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ في الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (¬2). 30 - وفي ذي الحجه من هذه السنة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - إلى الحج ليقرأ على الناس (براءة) ففعل ذلك يوم النحر عند الجمرة. الشرح: ثُمَّ بعث النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لَا ¬

_ (¬1) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 16. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1622)، كتاب: الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، ومسلم (1347)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

31 - وفي هذه السنة: توفيت أم كلثوم - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (¬1). عَنْ زَيْدِ بن أُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةْ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يدخلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا (¬2). 31 - وفي هذه السنة: توفِّيت أُم كلثوم - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن سعد -رحمه الله-: خرجت أم كلثوم إلى المدينة لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع فاطمة وغيرها من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها عثمان بعد وفاة أختها رقية، في ربيع الأول سنة ثلاث، وماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له. اهـ (¬3). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنَا بنتَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: "هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ (¬4) اللَّيْلَةَ؟ " فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: "فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4656)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد 1/ 579، والترمذي (3092)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني "الإرواء" (1101). (¬3) "الطبقات" 8/ 25. (¬4) يقارف: يجامع. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1342)، كتاب: الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة؟

قال ابن حجر -رحمه الله-

قال ابن حجر -رحمه الله-: هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"، في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في "الذرية الطاهرة"، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط"، والحاكم في "المستدرك". قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر لم يشهدها، قلت (ابن حجر): وَهِمَ حماد في تسميتها فقط. اهـ (¬1). 32 - وفي هذه السنة: تُوفّيّ سهيل بن بيضاء الفهريُّ وصلَّي عليه سوله الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. الشرح: قال ابن عبد البر -رحمه الله-: خرج سهيل مهاجرًا إلى أرض الحبشة، حتى فشا الإسلام وظهر، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأقام معه حتى هاجر، وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعًا، ثم شهد بدرًا، ومات بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. روى الدراورديُّ عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد. اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 3/ 188 - 189. (¬2) "الاستيعاب" (343).

33 - وفي هذه السنة: قتل ملك الفرس، وملكوا ابنته (بوران) عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

33 - وفي هذه السنة: قُتِل مَلِكُ الفُرْس، ومَلَّكوا ابنته (بوران) عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة". الشرح: عَنْ أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً" (¬1). 34 - وفي هذه السنة: فُرضَت الصدقات، وفرَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّاله على الصدقات. الشرح: قال ابن إسحاق -رحمه الله-: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أُمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإِسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنَسْي وهو بها، وبعث زيد بن لبيد، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيِّئ، وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه- إلى أهل نجران، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (7099)، كتاب: الفتن، باب رقم (18)، وانظر: "شذارت الذهب" 1/ 24. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 144.

35 - وفي هذه السنة: قدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ثم عاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، فما أمسي ذلك اليوم في حاضره رجله ولا امرأة إلا مسلما.

35 - وفي هذه السنة: قدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ثم عاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، فما أمسي ذلك اليوم في حاضره رجله ولا امرأة إلاَّ مسلمًا. الشرح: عن أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ فَقَالَ: لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتّكئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، قُلْنَا لَهُ: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَجَبْتُكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي سَائِلُكَ يَا مُحَمَّدُ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: "سَلْ مَا بَدَا لَكَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: نَشَدْتُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ الله أَرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" قَالَ: فَأَنْشُدُكَ الله الله أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ نَعَمْ" فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بن ثَعْلَبَةَ أَخُو بني سَعْدِ بن بَكْرٍ (¬1)، فانطلق ضمام فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال بئست اللات والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون؟ قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (63)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في العلم، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].

36 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلاَّ مسلمًا. يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (¬1). 36 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأَزْوَر، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القايف، وسلمة بن حبيش، وطلحة بن خويلد، ونقادة بن عبد الله بن خلف (¬2). 37 - وفي هذه السنة: قدم وفد الداريين مِن لَخْمٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد الداريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من تبوك، وهم عشرة نفر، فيهم تميم ونُعيم ابنا أوس بني خارجة بن سواد بن جُذيمة بن درَّاع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نُمارة بن لخم، ويزيد بن قيس بن خارجة، والفاكهة بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند والطيب ابنا ذرٍّ، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومُرَّة ابنا مالك بن سياد، فأسلموا (¬3). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن هشام في "السيرة" 4/ 127، 128. عن ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالتحديث، وفيه: محمَّد بن الوليد بن نُويفع، مقبول قد وُثِّق. (¬2) "الطبقات" 1/ 292. (¬3) "الطبقات" 1/ 343.

38 - وفي هذه السنة: قدم وفد بهراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

38 - وفي هذه السنة: قدم وفد بَهْراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد بَهْراء من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببني جُديلة، فخرج إليهم المقداد فرحب بهم، وأنزلهم في منزل من الدار، وأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسلموا وتعلَّموا الفرائض وأقاموا أيامًا، ثم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُودعونه، فأمر بجوائزهم وانصرفوا إلى أهلهم (¬1). 39 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: وَفِدَ من بني البَكَّاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثلاثة نفر: معاوية بن ثور بن عبادة بن البَكَّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له: بشر، والفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو البكائي، وهو الأصم، فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزل وضيافة وأجازهم ورجعوا إلى أهلهم (¬2). 40 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني فزارة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان ذلك سنة تسع، قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجة بن حصن، والحُرُّ بن قيس بن حصن وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مُقرِّين بالإِسلام، وسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 331. (¬2) "الطبقات" 1/ 304.

41 - وفي هذه السنة: قدم وفد ثعلبة بن منقذ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فدعا لهم فمطرت (¬1). 41 - وفي هذه السنة: قدم وفد ثعلبة بن مُنْقِذٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: ذكر قدوم وفد ثعلبة بن مُنقذ، ابن جرير الطبري في "تاريخه"، ضمن حوادث سنة تسع (¬2). 42 - وفي هذه السنة: قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد سعد هُذيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتوا المسجد، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على جنازة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنتم؟ " قالوا: من بني سعد هُذيم فأسلموا وبايعوا، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فأمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُنزلوا وضُيِّفوا ثلاثًا، ثم جاءوا ليودعوه فقال: "أَمِّروا عليكم أحدكم"، وأمر بلالًا فأجازهم بأواق من فضة، ورجعوا إلى قومهم، فرزقهم الله الإِسلام (¬3). 43 - وفي هذه السنة: قدم وفدُ مرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 297، مختصرًا. (¬2) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 191. (¬3) "الطبقات" 1/ 329، 330، بتصرف.

44 - وفي هذه السنة: قدم وفد كلاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

نفرًا، رأسهم الحارث بن عوف، فأجازهم، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف ثنتي عشرة أُوقَيَّة، وذكروا أن بلادهم مجدبة، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مَطَرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 44 - وفي هذه السنة: قدم وفد كلاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد بني كلاب في سنة تسع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثة عشر رجلاً، فيهم لَبيد بن ربيعة، وجَبَّار بن سَلْمى، فأنزلهم دار رَمْلَة بنت الحارث، وكان بين جبار وكعب بن مالك خُلَّة، فبلغ كعبًا قدومهم، فرحَّب بهم وأهدى لجبار وأكرمه، وخرجوا مع كعب فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّموا عليه بسلام الإسلام، وقالوا: إنَّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله وبسنتك التي أمرته، وإنه دعانا إلى الله فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصدقة من أغنيائنا فردَّها على فقرائنا (¬2). 45 - وفي هذه السنة: قدم وفد كنانة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: وَفِدَ واثلة بن الأسقع الليثي على رسول الله، فقدم المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك، فصلَّى معه الصبح، فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى أهله فأخبرهم، فقال له أبوه: والله لا أكلمك كلمة أبدًا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهزته، فخرج راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجده قد صار إلى ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 297، 298، بتصرف. (¬2) "الطبقات" 1/ 300.

46 - وفي هذه السنة: قدم وفد تجيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

تبوك، فقال: من يحملني عُقبه وله سهمي؟ فحمله كعب بن عُجرة - رضي الله عنه - حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه تبوك، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فغنم فجاء بسهمه إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله، وسوَّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله (¬1). 46 - وفي هذه السنة: قدم وفد تُجيبٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد تُجيب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلًا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وأمر بلالًا أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما يُجيز به الوفد، ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم بمنى سنة عشر (¬2). 47 - وفي هذه السنة: آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا. الشرح: عن عبد الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: "لَا وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنِّ شَهْرًا" فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 305 - 306. (¬2) "الطبقات" 1/ 323، باختصار.

دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ (¬1). فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسائه قيل له: يا رسول الله آليت منهنَّ شهرًا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشهر تسع وعشرون" (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةٌ وَعَائِشَةُ قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أأتمره إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا بنيِّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ الله وَغَضَبَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بنيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5203)، كتاب: النكاح، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه في غير بيوتهنَّ. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5201)، كتاب: النكاح، باب: قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} [النساء: 34].

دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ: رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلَامٌ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (¬1) مغبورًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبًا مُعَلَّقَةٌ (¬2) فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله، فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ" (¬3). وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى ¬

_ (¬1) القرظ: ورق السَّلَم، مضبورًا: مجموعًا. (¬2) أهُبًا: جمع إهاب وهو الجلد قبل الدبغ. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4913)، كتاب: التفسير، باب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} [التحريم: 1]، ومسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء.

عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا بنتَ أبي بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَا يُحِبُّكِ وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: هُوَ في خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْحَدِرُ، فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ رَبَاحٌ إلى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ" قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا" قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى في وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ الله مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأبو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ الله- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ

سبب إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه

يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم: 4] وَكَانَتْ عَائِشَةُ بنتُ أبي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَطَلَّقْتَهُنَّ، قَالَ: "لَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِنْ شِئْتَ" فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ وَكَانَ مِنْ أَحسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ" فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْاَيَةُ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ (¬1). سبب إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه: عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عَسَلًا، قَالَتْ: فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ (¬2) أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَت ذَلِكَ لَهُ، ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1479)، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء. (¬2) المغافير: صمغ حلو ينضحه شجر يقال له: العُرفُط، له رائحة كريهة.

48 - وفي هذه السنة: لاعن عويمر العجلاني امرأته.

فَقَالَ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا} [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا (¬1). فكان هذا هو تظاهر عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب غضبه وإيلائه من نسائه - صلى الله عليه وسلم -. وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (¬2). 48 - وفي هذه السنة: لاعن عُوَيْمر العَجْلاني امرأته. الشرح: عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِى جَاءَ إلى عَاصِمِ بن عَدِيٍّ الْأَنْصارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِم أَرَأَيتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إلى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَم تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4912)، كتاب: التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق. (¬2) "عيون الأثر" 2/ 374.

49 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن.

رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا" قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ الله إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ذَاكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ" (¬1). وذكر ابن سيد الناس -رحمه الله- هذا الحدث ضمن أحداث السنة التاسعة (¬2). 49 - وفي هذه السنة: كانت سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن. الشرح: الذي في "الإصابة" (¬3)، و"الاستيعاب" (¬4)، و"أُسْد الغابة" (¬5). أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه عاملًا على صدقات اليمن، وليست سرية. والله أعلم. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4854)، كتاب: الحدود، باب: من أظهر الفاحشة والتهمة بغير بيِّنة، ومسلم (1492)، كتاب: اللعان. (¬2) "عيون الأثر" 2/ 374. (¬3) 1/ 461. (¬4) (229). (¬5) 2/ 87، 88.

السنة العاشرة من الهجرة

السنة العاشرة من الهجرة

السنة العاشرة من الهجرة وفيها ثمانية وثلاثون حدثًا: 1 - في ربيع الأوَّل من هذه السنة: كانت سرية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني عبد المدان بنجران. الشرح: أرسل -عليه الصلاة والسلام - خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المدان بنجران من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإِسلام ثلاث مرات، فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإِسلام، ويقولون: أسْلِموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، فأقام خالد بينهم يعلمهم الإِسلام والقرآن، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل (¬1). وذكر ابن إسحاق هذه السرية وقال: سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر (¬2). 2 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: جاء وفد الحارث بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم. الشرح: فأقبل خالد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، ¬

_ (¬1) "نور اليقين" ص 181، 182، والسرية ذكرها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 154، والطبري في "التاريخ" 2/ 194. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 139.

3 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم عدي بن حاتم الطائي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم.

منهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المَدَان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله بن قُراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القَناني، وعمرو بن عبد الله الضِّبابي، وأمَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني الحارث بن كعب قيسَ بن الحصين، فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة (¬1). 3 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم عدي بن حاتم الطائي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم. الشرح: عَنْ عَدِيِّ بن حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا عَدِيُّ بن حَاتِمٍ وَجِئْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلا كِتَابٍ فَلَمَّا دُفِعْتُ إِلَيْهِ أَخَذَ بِيَدِي وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ الله يَدَهُ فِي يَدِي" قَالَ: فَقَامَ فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ مَعَهَا، فَقَالَا: إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَامَ مَعَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُمَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَى بِي دَارَهُ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا يُضرُّكَ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى الله؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ الله أَكْبَرُ وَتَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكبَرُ مِنْ الله؟ "، قَال: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيهِمْ وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَعَلْتُ أَغْشَاهُ آتِيهِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ عَشِيَّةً إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ في ثِيَابٍ مِنْ الصُّوفِ مِنْ هَذِهِ النِّمَارِ، قَالَ: فَصَلَّى وَقَامَ فَحَثَّ عَلَيْهِمْ، ثُم قَالَ: ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 139، 140، "الطبقات" 1/ 339، مختصرًا.

4 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم وفد خولان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين مصدقين.

"وَلَوْ صَاعٌ وَلَوْ بنصْفِ صَاعٍ وَلَوْ بِقَبْضَةٍ وَلَوْ بِبَعْضِ قَبْضَةٍ يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَوْ النَّارِ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَاقِي الله وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَبَعْدَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَقِي بِهِ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ فَإنِّي لَا أَخَافُ عَلَيكُمْ الْفَاقَةَ فَإنَّ الله نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يثْرِبَ وَالْحِيرَةِ أَوْ أكثَرَ مَا تَخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقَ"، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ في نَفْسِي: فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيّىءٍ؟ (¬1). وذكره الطبري (¬2)، ضمن أحداث السنة العاشرة. 4 - وفي شعبان من هذه السنة: قدم وفد خولان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين مُصَدِّقين. الشرح: قدم وفد خولان في شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن صنمهم الذي يقال له: عَمُّ أَنَس، فقالوا: أُبدلنا به خيرًا منه، ولو قد رجعنا لهدمناه، وتعلَّموا القرآن والسنة، فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله (¬3). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الترمذي (2953)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، وحسنه الألباني "صحيح السنن". (¬2) "التاريخ" 2/ 200. (¬3) "الطبقات" 1/ 324، مختصرًا.

5 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

5 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد غامد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان، وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فسلَّموا عليه وأقرُّوا بالإِسلام، وكتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كتابًا فيه شرائع الإِسلام، وأتوا أبي بن كعب فعلَّمهم قرآنًا، وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يجيز الوفد وانصرفوا (¬1). 6 - وفي رمضان من هذه السنة: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين يومًا، وعارضه جبريل -عليه السلام- بالقرآن مرَّتين. الشرح: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ (¬2). 7 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم وفد غسَّان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: عن عدي بن بكير الغساني عن قومه غسان قالوا: قدمنا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر، المدينة، ونحن ثلاث نفر، فنزلنا دار رملة بنت ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 345. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4998) كتاب: فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (1769)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الاعتكاف.

8 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأسلمت على يده همدان كلها في يوم واحد.

الحارث، فإذا وفود العرب كلهم مصدقون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمنا وصدقنا، وشهدنا أن ما جاء به الحق، ولا ندري أيتبعنا قومنا أم لا، فأجاز لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين وأدرك واحد منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة فخبَّره بإسلامه فكان يكرمه (¬1). 8 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأسلمت على يده هَمْدان كلُّها في يوم واحد. الشرح: عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإِسلام، قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإِسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بعث عليَّ بن أبي طالب، وأمره أن يُقفل خالدًا، إلا رجلاً كان ممن مع خالد فأحبَّ أن يُعَقب مع عليٍّ فَلْيُعَقِب معه، قال البراء: فكنت فيمن عَقَّب مع عليِّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلَّى بنا عليٌّ، ثم صفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلمت همدان جميعًا، فكتب عليٌّ إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الكتاب خَرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همْدان، السلام على همْدان" (¬2). ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 338 - 339. (¬2) أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 396، وقال: رواه البخاري مختصرًا من وجه آخر، عن إبراهيم بن يوسف، قلت: الحديث رقم (4349)، وهو شاهد لرواية البيهقي المذكورة.

9 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما، فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الخلصة فهدمها.

9 - وفي رمضان من هذه السنة: قدم جرير بن عبد الله البَجَليُّ - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي الخلصة فهدمها. الشرح: عن جَرِير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَنَخْتُ رَاحِلَتِي، ثُمَّ حَلَلْتُ عَيْبَتِي، ثُمَّ لَبِسْتُ حُلَّتِي، ثُمَّ دَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ (¬1)، فَقُلْتُ: لِجَلِيسِي. يَا عبد الله ذَكَرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعَمْ ذَكَرَكَ آنِفًا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ عَرَضَ لَهُ في خُطْبَتِهِ، وَقَالَ: "يدخلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ- أَوْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ- مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ إِلَّا أَنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ" (¬2). قَالَ جَرِيرٌ: فَحَمِدْتُ الله -عز وجل- عَلَى مَا أَبْلَانِي (¬3). قال ابن حجر -رحمه الله-: جزم الواقديُّ بأنه وَفِدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنة عشر .... وفيه عندي نظر؛ لأنَّ شريكًا حدَّث عن الشيباني، عن الشعبي، عن جرير؛ قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ ... " الحديث. أخرجه الطبراني (¬4)، فهذا يدل علئ أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن ¬

_ (¬1) أي: نظروا إليَّ بأعينهم. (¬2) حيث كان جرير - رضي الله عنه - جميل الوجه. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد، وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 372: رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" ورجاله رجال الصحيح. (¬4) الطبراني في "المعجم الكبير" (5983، 8525).

10 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن المرة الثانية.

النجاشي مات قبل ذلك. اهـ (¬1). قَالَ جَرِيرٌ - رضي الله عنه - قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " وَكَانَ بَيْتًا في خَثْعَمَ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمانِيَةَ فَانْطَلَقْتُ في خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ (¬2)، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ في صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ في صدْرِي، وَقَالَ: "اللهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، فَانْطَلَقَ إِلَيهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَارَكَ في خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ (¬3). 10 - وفي رمضان من هذه السنة: كانت سرية عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن المرة الثانية. الشرح: قال ابن سعد -رحمه الله-: يقال مرتين: إحداهما في رمضان سنة عشر من مهاجره - صلى الله عليه وسلم -، وعقد له لواءً وعمَّمه بيده، وقال: "امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك"، فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانت أوَّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهي بلاد مَذْحج، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإِسلام فأبوا، ورموا بالنبل ¬

_ (¬1) "الإصابة" 1/ 266. (¬2) أَحْمس: رهط جرير؛ ينتسبون إلى أَحْمَس بن الغوث بن أنمار. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4356)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذي الخلصة، ومسلم (2475)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.

11 - وفي شوال من هذه السنة: قدم وفد سلامان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والحجارة، فصفَّ أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السَّلِمي، ثم حمل عليهم عليٌّ بأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرَّقوا وانهزموا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإِسلام فأسرعوا وأجابوا، وتابعه نفر من رؤسائهم على الإِسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا, فخذ منها حقَّ الله، ثم قفل عليٌّ فوافى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وقد قدمها للحج سنة عشر (¬1). 11 - وفي شوال من هذه السنة: قدم وفد سلامان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد سلامان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ثم جلس بين المنبر وبيته، فتقدم الوفد فسألوه عن أمر الصلاة وشرائع الإِسلام، وعن الرُّقى، وأسلموا، وأعطى كل رجل منهم خمس أواق، ثم رجعوا إلى بلادهم (¬2). 12 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: حجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع. الشرح: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حاجُّ هذا العام، فقدم المدينة بشر كثير- وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم- فتدارك الناس ليخرجوا معه، كلهم يلتمس أن يأْتمَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -ويعمل مثله عمله. ¬

_ (¬1) "الطبقات" 2/ 119، 170، بتصرف. (¬2) "الطبقات" 1/ 332، 333، بتصرف.

الإحرام

وقال جابر - رضي الله عنه - خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ومهل أهل الطريق الآخر الجُحْفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلَمْلَم". قال: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة -أو أربع- وساق هديًا، فخرجنا معه، معنا النساء والولدان، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عُميس: محمَّد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ فقال: "اغتسلي واستثفري (¬1) بثوب وأحرمي". فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وهو صامت (¬2). الإحرام ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهلَّ الحج- وفي رواية: أفرد الحج هو وأصحابه- قال جابر: نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَينَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيهِ يَنْزِلُ الْقُرآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيءٍ عَمِلْنَا بِهِ. فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ- وفي رواية: ولبى الناس- والناس يزيدون: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيْئًا مِنْهُ، ¬

_ (¬1) الاستثفار: أن تشدَّ المرأة فرجها بخرْقة عريضة بعد أن تحتشي قطنًا، فتمنع بذلك سيل الدم. (¬2) صامت: يعني لم يُلّبِّ بعد.

دخول مكة والطواف

وَلَزِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ. قَالَ جَابِرٌ: ونحن نقول: لبيك اللهم، لبيك الحج، نصرخ صراخا، لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ مفردا، لا نخلطه بعمرة- وفي رواية: لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، وفي أخرى: أهللنا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصًا ليس مع غيره، خالصًا وحده (¬1) - وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف (¬2) عركت (¬3). دخول مكة والطواف حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ صبح رابعة مضت من ذي الحجة، دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فاسْتَلَمَ الرُّكْنَ- وفي رواية: الحجر الأسود (¬4) - ثم مضى عن يمينه فَرَمَلَ حتى عاد إليه ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا هيّنته (¬5)، ثُمَّ نَفَذَ إلى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- فَقَرَأَ: ¬

_ (¬1) وهذا في أول الحجة، وقبل أن يعلمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مشروعية العمرة في أشهر الحج، وفي ذلك أحاديث منها: حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهلَّ بعمرة فليهل، قالت عائشة: وكنت فيمن أهل بالعمرة. (البخاري، ومسلم). قاله الألباني -رحمه الله- "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (56) هامش. (¬2) سرفٍ: بكسر الراء: موضع قرب التنعيم، وهو من مكة على عشرة أميال، وقيل: أقل، وقيل: أكثر. (¬3) عركت: أي: حاضت. (¬4) قال الألباني -رحمه الله-: واستلم الركن اليماني أيضًا في هذا الطواف، كما في حديث ابن عمر، ولم يقبّله، وإنما قَبَّل الحجر الأسود، وذلك في كل طوْفة."حجة النبي- صلى الله عليه وسلم -" (57) هامش. (¬5) قال الألباني -رحمه الله-: وطاف - صلى الله عليه وسلم - مضطبعًا، كما في غير هذا الحديث، والاضبطاع أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن، ويردَّ طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (58) هامش.

الوقوف على الصفا والمروة

{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ورفع صوته يسمع الناس فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَينَ الْبَيْتِ، فصلى ركعتين فَكَانَ يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} - وفي رواية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه، ثم رجع إلى الركن فاستلمه. الوقوف على الصفا والمروة ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ- وفي رواية: باب الصفا- إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وَكَبَّرَهُ ثلاثاً، وحمده وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يحيى ويميت، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لا شريك له، أَنْجَزَ وَعْدَه وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ" ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، وقَالَ: مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ نَزَلَ ماشيًا إلى الْمَروَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذا صَعِدَتَا -يعني: قدماه- الشق الآخر مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَروَةَ، فرقى عليها حتى نظر إلى البيت، فَفَعَلَ - عَلَى الْمَروَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا. الأمر بنسخ الحج إلى العمرة حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ- وفي رواية: كان السابع- عَلَى الْمَرْوَةِ، فَقَالَ: "يا أيها الناس لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرتُ لَم أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرةٌ"،- وفي رواية:

فقال: "أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا (¬1)، وأقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية (¬2) فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة". فَقَامَ سُرَاقَةُ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ - وهو في أسفل المروة- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أرأيت عمرتنا هذه لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ قال: فَشَبَّكَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الْأُخْرَى، وَقَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إلى يوم القيامة، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ"، ثلاث مرات، قال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما نستقبل؟ قال: "لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"، قال: ففيم العمل إذن؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (¬3). قال جابر: فأمرنا إذا حللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، كل ¬

_ (¬1) هذا هو السنة والأفضل بالنسبة للمتمتع أن يقصر من شعره، ولا يحلقه، وإنما يحلقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية وغيره، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُم اغْفِر لِلْمُحَلّقِينَ"، ثَلَاثًا، "وَللْمُقَصِّرِينَ"، مرة واحدة محمول على غير المتمتع؛ كالقارن والمعتمر عمرة مفردة، فالقول بأن الحلق للمتمتع أفضل- كما هو مذهب الحنفية- ليس بصواب. قاله الألباني -رحمه الله- "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (61) هامش. (¬2) هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سُمِّي بذلك لأنهم كانوا يرتوون من الماء لما بعده، أي: يسقون ويستقون. (نهاية). (¬3) زاد في حديث آخر: أما أهل السعادة فيُيسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسَّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} رواه البخاري وغيره. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (63) هامش.

النزول في البطحاء

سبعة منا في بدنة، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله. قال: فقلنا: حِلُّ ماذا؟ قال: الحِلُّ كله، قال: فكَبُر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا. النزول في البطحاء قَالَ: فَخَرَجْنَا إلى الْبَطْحَاءِ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: عَهْدِي بِأَهْلِي الْيَوْمَ، قَالَ: فتذاكرنا بيننا فقلنا: خرجنا حجاجًا لا نريد إلا الحج، ولا ننوي غيره، حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع- وفي رواية: خمس ليال- أمرنا أن نفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكرينا المني من النساء (¬1)، قال: يقول جابر بيده، قال الراوي: كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها، قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء بلغه من قِبَل الناس. خطبته - صلى الله عليه وسلم - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "أبالله تعلموني أيها الناس؟ قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، افعلوا ما آمركم به، فإني لولا هديي لحللتُ كما تحلون، ولكن لا يحل منِّي حرام (¬2). حتى يبلغ الهدي محلَّه، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلُّوا". قال: فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وسمعنا وأطعنا. فحلَّ الناس كلهم وقعدوا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي. ¬

_ (¬1) إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء (نووي). (¬2) أي: لا يحل من شيء حرام.

التوجه إلى منى محرمين يوم الثامن

قال: وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة (¬1). التوجُّه إلى منى مُحرمين يوم الثامن فلما كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر، توجهوا إلى مني فأهلوا بالحج من البطحاء. قال: ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك؟ " قالت: شأني أني قد حضت، وقد حلَّ الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي"، ففعلت- وفي رواية: فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت. وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى بها -يعني: مني وفي رواية: بنا- الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبَّة له- من شعر تُضرب له بنمِرة (¬2). التوجه إلى عرفات والنزول بنمرة فَسَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ¬

_ (¬1) قال الألباني -رحمه الله-: هذا ما اطلع عليه جابر - رضي الله عنه -،فلا يعارض قول عائشة: فكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، وقول أختها أسماء: وكان مع الزبير هدي فلم يحلل، أخرجهما مسلم, لأن من علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدَّم على النافي. "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (46) هامش. (¬2) هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات، وليست نَمِرة من عرفات. (¬3) وكان أصحابه في مسيره هذا منهم الملَبِّي ومنهم المكبِّر، كما في حديث أنس في "الصحيحين". قاله الألباني -رحمه الله-.

خطبة عرفات

بالمزدلفة، ويكون منزله ثَمَّ كَمَا كَانَتْ قُرَيْش تَصْنَعُ في الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضرِبَتْ لَهُ بنمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا. حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فركب حتى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي (¬1). خطبة عرفات فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْركُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتين مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بن الْحَارِثِ بن عبد المطلب، كَانَ مُسْتَرْضِعًا في بني سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا الله في النِّسَاءِ، فَإِنكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِة الله، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَاِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ الله، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ- وفي رواية: مسؤولون- عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ رسالات ربك، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ لأمتك، وقضيت الذي عليك، فَقَالَ بِإِصبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: "اللهُمَّ اشْهَدْ اللهمَّ اشْهَدْ". الجمع بين الصلاتين والوقوف على عرفة ثُمَّ أَذَّنَ بنداء واحد، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ ¬

_ (¬1) هو وادي عُرَنة، بضم العين وفتح الراء، وليست من عرفات. (نووي).

يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلى الصَّخَرَاتِ (¬1)، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بين يديه (¬2)، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ (¬3)، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ (¬4). وقال: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف". وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بن زيد خَلْفَهُ. ¬

_ (¬1) قال الألباني -رحمه الله-: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، قال النووي: فهذا هو الموقف المستحب، وأما ما اشتهر بين العوام من الأغبياء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلاَّ به فغلط. اهـ "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (73) هامش. (¬2) أي: مجتمعهم. السابق. (¬3) وجاء في غير حديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف يدعو رافعًا يديه ومن السنُّة أيضًا التلبية في موقفه على عرفة، خلافًا لما ذكره شيخ الإِسلام في "منسكه" ص 383، فقد قال سعيد بن جُبير: كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال لي: يا سعيد مالي لا أسمع الناس يلبون؟ فقلت: يخافون من معاوية، قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك. فإنهم قد تركوا السُّنَّة من بغض عليٍّ- رضي الله عنه -. ثم روي الطبراني في "الأوسط" 1/ 115/2، والحاكم من طريق أخرى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات, فلما قال:"لبيك اللهم لبيك"، قال:"إنما الخير خير الآخرة". وسنده حسن. وفي الباب عن ميمونة من فعلها. أخرجه البيهقي. اهـ. السابق. (¬4) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفه هذا مفطرًا، فقد أرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه، كما في "الصحيحين" عنها. السابق.

الإفاضة من عرفات

الإفاضة من عرفات وَدَفَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: أفاض وعليه السكينة- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى هكذا وأشار بباطن كفه إلى السماء: "أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ". كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا (¬1) مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ (¬2). الجمع بين الصلاتين في المزدلفة والبيات بها حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا، فجمع الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلَم يُسَبِّحْ (¬3) بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ (¬4) وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الفجر، بِأَذَانٍ وإقَامَةٍ. الوقوف على المشعر الحرام ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ (¬5) فرقى عليه، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ- وفي لفظ: فحمد الله- وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ. ¬

_ (¬1) الحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه. (نهاية). (¬2) وكان في سيره هذا يلبي لا يقطع التلبية، كما في حديث الفضل بن العباس، في "الصحيحين". "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (75) هامش. (¬3) لم يُسبح: المقصود منها: لم يصل نفلاً. (¬4) قال الألباني: قال ابن القيم: ولم يحيى تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء، قلت: وهو كما قال، وقد بينت حال تلك الأحاديث في "التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب" "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (76) هامش. (¬5) المشعر الحرام: هو جبل يُسمى قُزَح، بضم القاف وفتح الزاي، وهو جبل معروف في المزدلفة، وقيل: المشعر الحرام جميع مزدلفة.

الدفع من المزدلفة لرمي الجمرة

فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفُ حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، وقال: "وقفت ها هنا، والمزدلفة كلها موقف". الدفع من المزدلفة لرمي الجمرة فَدَفَعَ من جمع قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وعليه السكينة (¬1)، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بن عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الفضل، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلى الشِّقِّ الْآخَرِ، يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ. حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ (¬2) فَحَرَّكَ قَلِيلًا (¬3)، وقال: "عليكم السكينة". رمي الجمرة الكبرى ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا ضحى، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وهو على راحلته، يقول: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه" (¬4). قال: ورمى بعد يوم النحر في ¬

_ (¬1) واستمر - صلى الله عليه وسلم - على تلبيته لم يقطعها. السابق. (¬2) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة، سُمّي بذلك لأن خيل أصحاب الفيل حُسِر فيه، أي: أعي وكَلَّ، قال ابن القيم: ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة، لا من هذه، ولا من هذه. قال الألباني: قلت: لكن في صحيح مسلم والنسائي عن الفضل بن عباس أن محسرًا من مني. اهـ. (¬3) أي أسرع السير، كما في غير هذا الحديث، وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع الذي نزل فيها بأس الله بأعدائه. اهـ "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (78) هامش. (¬4) فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلانهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وحثُّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة في ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سُمِّيت حجة الوداع. (نووي).

النحر والحلق

سائر أيام التشريق (¬1)، إذا زالت الشمس، ولقيه سُراقة وهو يرمي جمرة العقبة، فقال: يا رسول الله ألنا هذه خاصة؟ قال: "لا، بل لأبد". النحر والحلق ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ - يقول: ما بقى- وَأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.- وفي رواية: قال: نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة، وفي أخرى قال: فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وفي رواية: فاشتركنا في الجزور سبعة، فقال له رجل: أرأيت البقرة أيشترك؟ فقال: "ما هي إلا من البدن"، وفي رواية: قال جابر: كنا لا نأكل من البدن إلا ثلاث منى، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كلوا وتزودوا"، قال: فأكلنا وتزودنا حتى بلغنا بها المدينة (¬2). رفع الحرج عمن قدم شيئًا من المناسك أو أخر يوم النحر وفي رواية: نَحَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ وَجَلَسَ بمنى يوم النحر لِلنَّاسِ، فَمَا سُئِلَ يومئذ عَنْ شَيءٍ قدم قبل شيء إِلَّا قَالَ: "لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ" حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: "لَا حَرَجَ". ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: "لَا حَرَجَ". ثم جاء آخر فقال: طفت قبل أن أرمي؟ قال: "لا حرج". وقال آخر: طفت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح لا حرج". ¬

_ (¬1) أيام التشريق: هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. (¬2) قال الألباني: وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - قد طيبته - صلى الله عليه وسلم - بالمسك، وذلك عقب رميه - صلى الله عليه وسلم - لجمرة العقبة يوم النحر كما تقدم. اهـ.

خطبة النحر

ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم لا حرج". ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد نحرت ها هنا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ، فانحروا من رحالكم". خطبة النحر وقال جَابِر - رضي الله عنه -: خَطَبَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: "أَيُّ يوم أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ " فَقَالُوا: يَوْمُنَا هَذَا، قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرمَةً؟ "، قَالُوا: شَهْرُنَا هَذَا، قَالَ: "أَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ "، قَالُوا: بَلَدُنَا هَذَا، قَالَ: "فَإنَّ دمَاءَكُم وَأَمْوَالَكم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا، هَلْ بَلَّغْتُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "اللهُمَّ اشْهَدْ". الإفاضة لطواف الصدر ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فطافوا (¬1)، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة (¬2)، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. فَأَتَى بني عبد الْمُطلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: "انْزِعُوا بني عبد الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. تمام قصة عائشة - رضي الله عنها - وقال جابر - رضي الله عنه - وإن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم ¬

_ (¬1) ثم حلَّ منهم كلَّ شيء حرم منهم، كما في "الصحيحين" عن عائشة وابن عمر (الألباني). (¬2) كذا أطلق جابر - رضي الله عنه - وفصلت ذلك عائشة - رضي الله عنها -، حيث قالت: فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مِنى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحداً. اهـ. أخرجه الشيخان (الألباني).

13 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: قدم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من نجران إلى مكة ليحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.

تطف بالبيت. قال: حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، والصفا والمروة، ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا". قالت: يا رسول الله أتنطلقون بحج وعمرة وانطلق بحج؟ قال: "إن لك مثل ما لهم". فقالت: إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه (¬1). قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، فاعتمرت بعد الحج، ثم أقبلت، وذلك ليلة الحَصْبة (¬2). وقال جابر: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحِجْر بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإن الناس غَشَوْه. وقال: رفعت امرأة صبيًا لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" (¬3). 13 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: قدم عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - من نجران إلى مكة ليحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: وقدم عليٌّ من سعايته من اليمن بِبُدْن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فاطمة - رضي الله عنها - ممن ¬

_ (¬1) معناه: إذا هويت شيئًا لا نقص فيه في الدين - مثل طلبها الاعتمار وغيره - أجابها إليه، وفيه حسن معاشرة الأزواج، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} , لا سيما فيما كان من باب الطاعة. (نووي). (¬2) سُمِّيت بذلك لأنهم نفروا من مني فنزلوا في المحصَّب وباتوا به. (نووي). (¬3) نقلت هذا المبحث بتمامه من كتاب "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه - " للعلامة المحدث الشيخ الألباني - رحمه الله -، وهو عبارة عن عدة روايات صحيحة ساقها الشيخ في سياق واحد.

14 - وفي ذي الحجة منه هذه السنة: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة يوم الجمعة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3].

حلَّ: ترجلَّت (¬1)، ولبست ثيابًا صبغًا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟! فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشًا على فاطمة للذي صنعت مُستفتيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فقال: "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، أنا أمرتها به". قال جابر: وقال لعليّ: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: "فإن معي الهدي فلا تحل، وامكث حرامًا كما أنت". قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن، والذي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مائة بدنة (¬2). 14 - وفي ذي الحجة منه هذه السنة: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة يوم الجمعة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. الشرح: عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ نزلت عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) ترجلَّت: أي: تمشَّطت. (¬2) المصدر السابق: 66 - 67.

15 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: ادعى مسيلمة الكذاب النبوة، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا فيه وفي الأسود العنسي، فتحققت.

وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الجُمُعَة (¬1). 15 - وفي ذي الحجة من هذه السنة: ادَّعى مُسَيلِمة الكذاب النبوة، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا فيه وفي الأسود العَنْسي، فتحقَّقتْ. الشرح: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأَوْحَى الله إِلَيَّ أَنْ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ (¬2). وفي "البخاري" عن أبي هريرة أيضًا: أحدهما العنْسي والآخر مسيلمة (¬3) 16 - وفي هذه السنة: قدم وفد الأَزْد بقيادة صُرَد بن عبد الله الأَزْدي - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم صُرَد بن عبد الله الأزدي في بضعة عشر رجلاً من قومه، وفدًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلوا على فروة بن عمرو فحيَّاهم وأكرمهم، وأقاموا عنده عشرة أيام، وكان صُرَد أفضلهم، فأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فقاتل بهم أهل ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (45)، كتاب: الإيمان, باب: زيادة الإيمان ونقصانه، ومسلم (3017)، كتاب: التفسير. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4375)، كتاب: المغازي، باب: وقد بني حنيفة ... (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4374)، والحديث أخرجه مسلم أيضًا (2274) في كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -.

17 - وفي هذه السنة: قدم وفد زبيد على النبي - صلى الله عليه وسلم -.

جُرَش، فهزمهم (¬1). 17 - وفي هذه السنة: قدم وفد زُبيد على النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم عمر بن معد يكرب الزبيدي في عشرة نفر من زبيد المدينة، فقال: من سيِّد أهل هذه البحرة من بني عمرو بن عامر؟ فقيل له: سعد بن عبادة، فأقبل يقول راحلته حتى أناخ ببابه، فخرج إليه سعد فرحَّب به، وأمر رحله فُحُطَّ وأكرمه وحباه، ثم راح به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم هو ومن معه, وأقام أيامًا، ثم أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجائزة وانصرف إلى بلاده، وأقام مع قومه على الإسلام فلما تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ارتدَّ، ثم رجع إلى الإسلام، وأبلى يوم القادسية وغيرها (¬2). 18 - وفي هذه السنة: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرْوُة بن مُسَيك المراديُّ، فأسلم، فولّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على: مُراد, وزُبيد، ومُذْحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: وقدم فروة بن مُسَيك المرادي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفارقًا لملوك كندة، ومباعدًا لهم، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مُراد، وزبيد، ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 337، 338، مختصرًا. (¬2) "الطبقات" 1/ 328، "سيرة ابن هشام" 4/ 133 - 134.

19 - وفي هذه السنة: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدمة الثانية، وفيهم الجاورد بن المعلى, وكان نصرانيا فأسلم.

سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 19 - وفي هذه السنة: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القَدْمَة الثانية، وفيهم الجاورد بن المعلَّى, وكان نصرانيًا فأسلم. الشرح: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجارود بن عمرو بن حَنَش أخو عبد القيس، وكان نصرانيًا، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّمه فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فخرج من عنده الجارود راجعًا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صُلبًا في دينه حتى هلك (¬2). 20 - وفي هذه السنة: قدم وفد بني حنيفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم مُسيلمة الكذَّاب. الشرح: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فكان منزلتهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار من بني النجار، فأتت به بنو حنيفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستره بالثياب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، معه عسيب من سَعَف النخل (¬3)، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسترونه بالثياب، كلمة وسأله, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه (¬4). ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" 4/ 132، مختصرًا. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 128. (¬3) العسيب: جريد النخل. (¬4) "سيرة ابن هشام" 4/ 128.

31 - وفي هذه السنة: قدم الشقيان: عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن جزء على النبي - صلى الله عليه وسلم - للغدر به، فدعا عليهما، فطعن أحدهما، وصعق الآخر.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَدِمَ مُسَيلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا في بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ ثَابِتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ في أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ الله فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ الله، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ". (¬1). 31 - وفي هذه السنة: قدم الشقيَّان: عامر بن الطفيل، وأَرْبَد بن قيس بن جَزْء على النبي - صلى الله عليه وسلم - للغدر به، فدعا عليهما، فطُعِن أحدهما، وصُعِق الآخر. الشرح: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم عامر بن الطفيل وأَرْبَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: "دعه فإن يرد الله به خيرا يهده"، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم"، قال: تجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: "لا ليس ذلك إلى إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء"، قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟، قال: "لا"، قال: فماذا تجعل لي؟ قال: "أجعل لك أَعنَّة الخيل تغزو عليها"، قال: أو ليس ذلك إلى اليوم؟ وكان أوصى إلى أَرْبَد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويراجعه، فدار أَرْبَد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضربه، فاخترط من ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4373)، كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة، ومسلم (2274) قوله: وإني لأراك ... يعني الرؤية التي تقدم ذكرها.

22 - وفي هذه السنة: قدم وفد طيئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم زيد الخير، فأسلموا.

سيفه شبرًا ثم حبسه الله تعالى فلم يقدر على سلَّه، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى أربد وما يصنع بسيفه, فقال: "اللهم اكفنيهما بما شئت"، فأرسل الله تعالى على أَرْبَد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربًا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلا جردًا وفتيانًا مردًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يمنعك الله تعالى من ذلك وابنا قيلة" - يريد الأوس والخزرج - فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضمّ عليه سلاحه، فخرج وهو يقول: واللات والعزى لئن أصحر محمَّد إليّ وصاحبه - يعني ملك الموت - لأنفذنّهما برمحي، فلما رأى تعالى ذلك منه أرسل ملكًا فلطمه بجناحيه فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة كغدة البعير، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية، ثم مات على ظهر فرسه، وأنزل الله تعالى فيه هذه القصة: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} حتى بلغ {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 13 - 14] (¬1). 22 - وفي هذه السنة: قدم وفد طيِّئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم زيد الخير، فأسلموا. الشرح: وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد طيئ فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلَّموه وعرض عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" (159، 160)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 320، وابن هشام في "السيرة" 4/ 122 - 124، وانظر: "البداية والنهاية" 5/ 125 - 128. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 129.

23 - وفي هذه السنة: قدم وبر بن يحنس على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام, فأسلم فيروز الديلمي، ووهب بن منبه، وعطاء بن مركبود، وغيرهم.

23 - وفي هذه السنة: قدم وَبَرُ بن يُحَنس على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام, فأسلم فيروز الديلمي، ووهب بن منبِّه، وعطاء بن مَرْكَبود، وغيرهم. الشرح: في سنة عشر قدم وبر بن يُحَنّس على الأبناء من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل على بنات النعمان بن بُزْرَج، فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي، فأسلم، وإلى مركبود، فأسلم (¬1). 24 - وفي هذه السنة: أسلم (باذان) ملك اليمن، وبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليمن. الشرح: كان باذان ملك اليمن في زمانه، وأسلم (باذان) لما هلك كسرى، وبعث بإسلامه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتغله على بلاده (¬2). 25 - وفي هذه السنة: قدم وفد كندة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم الأشعث بن قيس الكندي، فأسلموا. الشرح: قدم وقد كِنْدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا (¬3)، وعَن الْأَشْعَثِ بن قَيْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي وَفْدِ كِنْدَةَ، وَلَا يَرَوْنِي إِلَّا أَفْضَلَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا ¬

_ (¬1) انظر: "الإصابة" 3/ 2078 , و"تاريخ الطبري" 2/ 209. (¬2) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 133، و "الإصابة" 1/ 192. (¬3) انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 134.

26 - وفي هذه السنة: قدم وفد محارب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

رَسُولَ الله أَلَسْتُمْ مِنَّا؟ فَقَالَ: نَحْنُ بنو النَّضْرِ بن كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، قَالَ فَكَانَ الْأَشْعَثُ بن قَيْسٍ، يَقُولُ: لَا أُتِي بِرَجُلٍ نَفَى رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، ومِنْ النَّضْرِ بن كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ (¬1). 26 - وفي هذه السنة: قدم وفد مُحارب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم وفد محارب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر، منهم سواء بن الحارث، وابنه: خزيمة بن سواء، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، فأسلموا، وقالوا: نحن على من وراءنا. وأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى أهلهم (¬2). 27 - وفي هذه السنة: نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} [النور: 58] , وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك الشرح: قال ابن سيد الناس - رحمه الله - في معرض ذكره لأحداث السنة العاشرة من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ونزول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]، ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن ماجه (2612)، كتاب: الحدود، باب: من نفى رجلاً من قبيلته، وحسنه الألباني (الصحيحة) (2375). (¬2) "الطبقات" 1/ 299، مختصرًا.

28 - وفي هذه السنة: مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سنة ونصف.

وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك. اهـ (¬1). 28 - وفي هذه السنة: مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سنة ونصف. الشرح: قال ابن حجر - رحمه الله -: إبراهيم ابن سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، أمُّه مارية القبطية، ولدته في ذي الحجة سنة ثمان، قال مصعب الزبيري: ومات سنة عشر، جزم به الواقدي، وقال يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول. اهـ (¬2). 29 - وفي هذه السنة: كسفت الشمس يوم موت إبراهيم, فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف. الشرح: عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قال: كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ, فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا الله وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ" (¬3). وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَصَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلكَ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ عُرِضَ عَلَىَّ كُلُّ شَيْءٍ تُولَجُونَهُ فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ - أوْ قَالَ: تَنَاوَلْتُ مِنْهَما قِطْفًا - فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ، وَعُرِضَتْ عَلَىَّ النَّارُ، ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 2/ 374. (¬2) "الإصابة" 1/ 105، وانظر: "عيون الأثر" 2/ 374. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1060)، كتاب: الكسوف، باب: الدعاء في الكسوف.

فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بني إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ (¬1)، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بن مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ (¬2) في النَّارِ". وفي رواية: "وَرَأَيْتُ في النَّارِ امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْداءَ طَوِيلَةً" وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بني إِسْرَائِيلَ. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ حِينَ انْصَرَفَ - من الصلاة - وَقَدْ آضَتْ الشَّمْسُ (¬3)، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ، مَا مِنْ شَيءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ في صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَن يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ (¬4)، فَإنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ, وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ, الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ في مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ في صَلَاتِي هَذِهِ" (¬5). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: انْصَرَفَ رَسُولُ الله - من الصلاة - وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ الله، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا ¬

_ (¬1) خشاش الأرض: أي من هوامها وحشراتها، وقيل: من صغار الطير. (نووي). (¬2) قصبه: أمعاءه. (¬3) آضت الشمس: أي رجعت إلى حالها الأول قبل الكسوف، وهو من آض يئيض إذا رجع. (نووي). (¬4) المحجن: هو عصا معكوفة الطرف. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (904)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

قال ابن حجر - رحمه الله -

وَادْعُوا الله وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنْ الله أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ" (¬1). وفي رواية: عَنْ عَائِشَةَ أيضًا أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ وَرَأيتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ" (¬2). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أن الصحابة قَالُوا: يَا رَسُولَ الله رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا في مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ (¬3)، فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِ الْعَشِيرِ، وَبكُفْرِ الإِحْسَانِ، لَوْ أَحْسَنْتَ إلى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" (¬4). قال ابن حجر - رحمه الله -: يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم- يَعْنِي: اِبْن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُور أَهْل السِّيَر أَنَّهُ ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (1044)، كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1046)، كتاب: الكسوف، باب: خطبة الإمام في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، واللفظ لمسلم. قوله: "وهو الذي سيَّب السوائب"، السائبة: ناقة, أو بقرة, أو شاة إذا بلغت من العمر شيئًا اصطلحوا عليه سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، تقربًا للآلهة وكان ابن لحُيّ هو الذي سنَّ ذلك. (¬3) كففت: أي وقفت. (¬4) متفق عليه: أخرجه البخاري (1052)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907)، كتاب: الكسوف، باب: ما عُرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

30 - وفي هذه السنة: أسلم أمير من أمراء الروم، وأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بإسلامه، فعلم الروم، فأخذوه وقتلوه، وهو فروة بن عمرو الجذامي.

مَاتَ في السَّنَة الْعَاشِرَة مِنْ الْهِجْرَة، فَقِيلَ: في رَبِيع الْأَوَّل، وَقِيلَ: فِي رَمَضَان، وَقِيلَ: في ذِي الْحِجَّة، لِأَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّة في الْحَجّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ وَفَاته وَكَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَاف، نَعَمْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَة تِسْع فَإِنْ ثَبَتَ يَصِحّ، وَجَزَمَ النَّوَوِيّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَة الْحُدَيْبِيَة، وَيُجَاب بِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَجَعَ مِنْهَا في آخِر الشَّهْر. اهـ (¬1). 30 - وفي هذه السنة: أسلم أميرُ من أُمراء الروم، وأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بإسلامه، فعلم الروم، فأخذوه وقتلوه، وهو فروة بن عمرو الجذامي. الشرح: قال ابن إسحاق - رحمه الله -: وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه، غلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم، ثم أخذوه فصلبوه على ماء يقال له: عفرى بفلسطين، ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء. اهـ (¬2). 31 - وفي هذه السنة: قدم وفد الرهاويين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدم خمسة عشر رجلاً من الرهاويين، وهم حيٌّ من مذحج، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "فتح الباري" 2/ 614، 615. (¬2) "سيرة ابن هشام" 4/ 138، بتصرف.

32 - وفي هذه السنة: قدم وفد عنس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فتحدث عندهم طويلاً، وأهدوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدايا منها فرس يقال له: المرواح وأمر به فشوّر بين يديه فأعجبه، فأسلموا وتعلَّموا القرآن والفرائض، وأجازهم كما يُجيز الوفد (¬1). 32 - وفي هذه السنة: قدم وفد عَنْس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: ذكره ابن سعد في "الطبقات"، أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني عَنْس يقال له: ربيعة، وذكر له قصة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه مات بعد انصرافه من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى أهله (¬2). 33 - وفي هذه السنة: قدم وفد الصَّدِف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قدموا في بضعة عشر راكبًا فصادفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر، فجلسوا ولم يسلموا، فقال: "أمسلمون أنتم؟ "، قالوا: نعم، قال: "فهلَّا سلمتم"، فقاموا، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: "وعليكم السلام، اجلسوا"، فجلسوا، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أوقات الصلوات (¬3). 34 - وفي هذه السنة: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - إلى اليمن. الشرح: عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ ¬

_ (¬1) "الطبقات" 1/ 344، مختصرًا. (¬2) "الطبقات" 1/ 343. (¬3) "الطبقات" 1/ 329، مختصرًا.

يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وْلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وْقَبْرِي"، فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ الْتَفَتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إلى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا" (¬1). وعَنْ أبي بُرْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بن جَبَل إلى الْيَمَنِ قَالَ وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ (¬2)، قَالَ وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ ثمَّ قَالَ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلى عَمَلِهِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ في أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَسَارَ مُعَاذٌ في أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أبي مُوسَى فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَقَدْ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ يَا عبد الله بن قَيْسٍ أَيُّمَ هَذَا قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ قَالَ لَا أَنْزِلُ حَتَّىِ يُقْتَلَ قَالَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ قَالَ مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بهِ فَقُتِلَ ثُمَّ نزَلَ فَقَالَ يَا عبد الله كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا (¬3)، قَالَ فَكَيْفُ تَقْرَأُ أنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَ أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنْ النَّوْمِ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ الله لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي (¬4). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بن جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أحمد 5/ 235، بإسناد حسن. (¬2) المخلاف: هو الإقليم، بلغة أهل اليمن، وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وكانت جهة أبي موسى السفلى (فتح). (¬3) يعني: ألازم قراءته ليلاً ونهارًا، شيئًا بعد شيء، وحينًا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تُحلب ثم تُترك ساعة حتى تدر، ثم تُحلب هكذا دائمًا. (فتح). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4341، 4342)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع.

35 - وفي هذه السنة: ظهر الأسود العنسي باليمن، وادعى النبوة، وعظمت فتنته, فقتله فيروذ الديلمي.

الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرهُم أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله حِجَابٌ (¬1). وعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. الْبِتْعُ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ: نَبِيذُ الشَّعِيرِ (¬2). 35 - وفي هذه السنة: ظهر الأسود العَنْسي باليمن، وادَّعى النبوة، وعظمت فتنته, فقتله فيروذ الديلمي. الشرح: ذكره ابن عبد البر (¬3)، وقال: وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4347)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن ... ، ومسلم (19)، كتاب: الإيمان, باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4343) كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ .... (¬3) "الاستيعاب" (602). (¬4) انظر: "الكامل في التاريخ" 2/ 227، 231، "أسد الغابة" 3/ 463، 464، "الإصابة" 32/ 1511. انظر: فقرة (1) من السنة الحادية عشر، وكذلك فقرة (10).

36 - وفي هذه السنة: كانت سرية إلى رعيه السحيمي الذب وقع بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دلوه.

36 - وفي هذه السنة: كانت سرية إلى رعْيه السُّحيمي الذب وقَّع بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دَلْوَهُ. الشرح: عَنْ رِعْيَةَ السُّحَيْمِيّ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي أَدِيمٍ أَحْمَرَ، فَأَخَذَ كِتَابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَرَقَعَ بِهِ دَلْوَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً، فَلَمْ يَدَعُوا لَهُ رَائِحَةً وَلَا سَارِحَةً وَلَا أَهْلًا وَلَا مَالًا إِلَّا أَخَذُوهُ، وَانْفَلَتَ عُرْيَانًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى ابْنَتِهِ، وَهِيَ مُتَزَوِّجَةٌ في بني هِلَالٍ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ أَهْلُهَا، وَكَانَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ بِفِنَاءِ بَيْتِهَا فَدَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْبَيْتِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتْهُ أَلْقَتْ عَلَيْهِ ثَوْبًا، قَالَتْ: مَا لَكَ، قَالَ: كُلُّ الشَّرِّ نَزَلَ بِأَبِيكِ مَا تُرِكَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا سَارِحَةٌ وَلَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ، قَالَتْ: دُعِيتَ إلى الْإِسْلَامِ، قَالَ: أَيْنَ بَعْلُكِ؟ قَالَتْ: في الْإِبِلِ، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ، قَالَ: كُلُّ الشَّرِّ قَدْ نَزَلَ بِهِ مَا تُرِكَتْ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا سَارِحَةٌ وَلَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ وَأَنَا أُرِيدُ مُحَمَّدًا أُبَادِرُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ أَهْلِي وَمَالِي، قَالَ: فَخُذْ رَاحِلَتِي بِرَحْلِهَا، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، قَالَ: فَأَخَذَ قَعُودَ الرَّاعِي وَزَوَّدَهُ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ إِذَا غَطَّى بِهِ وَجْهَهُ خَرَجَتْ اسْتُهُ وَإِذَا غَطَّى اسْتَهُ خَرَجَ وَجْهُهُ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْرَفَ حَتَّى انْتَهَى إلى الْمَدِينَةِ، فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ بِحِذَائِهِ حَيْثُ يُصَلِّي، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله ابْسُطْ يَدَيْكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهَا قَبَضَهَا إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَفَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ ثَلَاثًا قَبَضَهَا إِلَيهِ وَيَفْعَلُهُ، فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ، قَالَ: "مَنْ أَنْتَ؟ "، قَالَ: رِعْيَةُ السُّحَيْمِيُّ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَضُدَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رِعْيَةُ السُّحَيْمِيُّ الَّذِي كَتَبْتُ إِلَيهِ فَأَخَذَ كتَابي فَرَقَعَ بِهِ دَلْوَهُ فَأَخَذَ يَتَضَرَّعُ إِلَيهِ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَهْلِي وَمَالِي، قَالَ: "أَمَّا مَالُكَ، فَقَدْ قُسِّمَ، وَأَمَّا أَهْلُكَ، فَمَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ"،

37 - وفي هذه السنة: قدم وفد قشير بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فَخَرَجَ، فَإِذَا ابْنُهُ قَدْ عَرَفَ الرَّاحِلَةَ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَهَا، فَرَجَعَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: هَذَا ابْنِي، فَقَالَ: يَا بِلَالُ اخْرُجْ مَعَهُ فَسَلْهُ أَبُوكَ هَذَا، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ بِلَالٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَبُوكَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا رَأَيْتُ أَحَدًا اسْتَعْبَرَ إلى صَاحِبِهِ (¬1)، فَقَالَ: "ذَاكَ جَفَاءُ الْأَعْرَابِ" (¬2). 37 - وفي هذه السنة: قدم وفد قُشَير بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نفر من قُشير، فيهم ثور بن عروة بن عبد الله بن قُشير، فأسلم، فأقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيعة وكتب له بها كتابًا، ومنهم: حيدة بن معاوية بن قُشير، وذلك قبل حجة الوداع وبعد حُنين، ومنهم: قُرَّة بن هبيرة بن سلمة الخير بن قُشير، فأسلم، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكساه بُردًا، وأمره أن يتصدّق على قومه - أي: يلي الصدقة - (¬3). 38 - وفي هذه السنة: قدم وفد بجيلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: سبق ذكر وفد بجيلة في الفقرة (9) من هذه السنة، قدوم جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فليُنظر، وقد ذكر هذا الوفد ابن سعد (¬4) ¬

_ (¬1) أي: ما رأيت منهم ما يحدث بين أب وابن إذا التقيا في مثل هذه الظروف، من حرارة اللقاء. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (22365)، وقال الحافظ في "الإصابة" 3/ 487: إسناده صحيح. (¬3) "الطبقات" 1/ 303. (¬4) "الطبقات" 1/ 347.

السنة الحادية عشر من الهجرة

السنه الحاديه عشر من الهجرة

السنه الحاديه عشر من الهجرة وفيها خمسة عشر حدثا: 1 - فى المحرم من هذه السنة: ظهر الأسود العنْسى الكذاب باليمن، فادَّعى النبوة، ودانت له نجران وصنعاء وعظمت فتنته. الشرح: ذكر ابنُ كثير -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- قصة ظهور الأسود العنسي وفتنته التي استفحلت، إلى حين قتله فيروز الديلمي. وهذا أمره الذي ذكره ابن كثير باختصار: خرج الأسود العنسي واسمه عَبْهَلَة بن كعب بن غوث، من بلد يقال لها: كهف خُبَّان، في سبعمائة مقاتل، وكتب إلى عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمن: أيها المورودون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثم ركب فتوجَّه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء، فخرج إليه شهر بن باذان، فتقاتلا فغلبه الأسود فقتله، واحتلَّ صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففرَّ معاذ بن جبل - رضي الله عنه - من هنالك، واجتاز بأبي موسى الأشعري، فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطاهر، ورجع عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوسقت اليمن بكاملها للأسود العنسي، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة، واشتدَّ ملكه، واسغلظ أمره، وارتدَّ خلق من أهل اليمن، وتزوج امرأة شهر بن باذان، وهي ابنة عم فيروز الديلمي، واسمها آزاذ، وكانت امرأة مؤمنة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الأسود العنسي، أرسل كتابًا مع وَبْر بن يُحنَّس

2 - وفي هذه السنه: قدم وفد النخع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الديلمي، يأمر فيه المسلمين بمقاتلة الأسود العنسي، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتمَّ القيام، وبلَّغوا هذا الكتاب إلى عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمن، فاتفقوا مع أمراء جنده ومنهم قيس بن عبد يغوث، وداذويه- وكانوا قد كرهوه وكرهوا أمره لاستهانته بهم- على قتله ودبَّروا لذلك مع امرأته آزاذ، فأدخلت فيروز الديلمي، فقتله وهو نائم (¬1). 2 - وفي هذه السنه: قدم وفد النخع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن سعد -رحمه الله -: كان آخر من قدم من الوفد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وفد النخع، وقدموا من اليمن للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرِّين بالإِسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن (¬2). 3 - وفي صفر من هذه السنة: أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أسامه بن زيد -رضي الله عنهما - على سريه لغزو الشام، فتوقَّف بالجُرف لمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قال ابن إسحاق رحمه الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد، وهو في وجعه، فخرج عاصبًا رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا في إمرة ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" 7/ 94 - 95. (¬2) "الطبقات" 1/ 346.

4 - وفي صفر من هذه السنة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل، فاسغفر لأهل البقيع كالمودع لهم.

أسامة: أمَّر غلامًا حدثًا على جلة المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: "أيها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقًا لها"، قال: ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانكمش الناس في جهازهم واستعز برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه (¬1)، فخرج أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف، من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، وتتام إِليه الناس، وثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقام أسامة والناس، لينظروا ما الله قاض في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 4 - وفي صفر من هذه السنة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل، فاسغفر لأهل البقيع كالمودِّع لهم. الشرح: عَنْ أبي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ. بَعَثَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ: ((السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ الله مِنْهُ أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا الْأخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى))، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَخُيِّرتُ بَينَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي- عز وجل- وَالْجَنَّةِ))، قَالَ: قُلْتُ بِأبي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: ((لَا وَاللهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدْ اخْتَزتُ لِقَاءَ رَبِّي-عز وجل-وَالْجَنَّةَ))، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أي: اشتدَّ وجعه. (¬2) "سيرة ابن هشام" عن عروة مرسلاً، وله شواهد في ((الصحيحين)) البخاري (4250)، ومسلم (2426).

5 - وفى أواخر صفر من هذه السنة: بدأ المرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

في وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ الله -عز وجل- فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ. وفي رواية: فما لبث بعد ذلك إلا سبعًا أو ثمانيًا حتى قُبض - صلى الله عليه وسلم- (¬1). 5 - وفى أواخر صفر من هذه السنة: بدأ المرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يشعر بالسُّم الذي وضعته له اليهودية بخيبر، فقال: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أكلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذلِكَ السُّمّ" (¬2). ثم شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصداع في رأسه (¬3). فكان هذا بداية مرضه - صلى الله عليه وسلم -، في أواخر شهر صفر (¬4). 6 - وفى ربيع الأول من هذه السنة: أشتد وجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو في بيت ميمونه -رضي الله عنها-، فدعا نساءه - دضي الله عنهن- فأستأذنهنَّ أن يُمرَّض فى بيت عائشه - رضي الله عنها - فأذنَّ له. الشرح: أَوَّلُ مَا اشْتَكَي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بَيتِ مَيمُونَةَ -رضي الله عنها-، فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِ عائشة - رضي الله عنها -، فأَذِنَّ لَهُ، قَالَتْ فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بن عَبَّاسٍ، ¬

_ (¬1) إسناده حسن: أخرجه أحمد (15938، 15939) بإسناد حسن. (¬2) أخرجه البخاري (4428) معلقًا، وقال الحافظ في "الفتح" 7/ 737: وَصَلَهُ الْبَزَّار، وَالْحَاكِم، وَالْإِسْمَاعِيلِيّ، مِنْ طَرِيق عَنْبَسَةَ بن خَالِد، عَنْ يُونُس بِهَذَا الْإِسْنَاد. (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) انظر: "تاريخ الطبري" 2/ 224، 226.

7 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: وقبل أن يتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس، خطب فى الناس، فبين فضل أبى بكر - رضي الله عنه -, وأوصى بالأنصار خيرا وحذر من اتخاذ القبور مساجد.

وَالأخرى عَلَى علي - رضي الله عنهما - (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: "بل أنا والله يا عائشة وا رأساه"، قالت: ثم قال: "وما ضرك لو مِتِّ قبلي، فقمتُ عليك وكفَّنتك وصليت عليك ودفنتك؟ " قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وتتامَّ به وجعه، وهو يدور على نسائه، حتى استعزَّ به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه، فاستأذنهنَّ أن يُمرَّض في بيتي فأذِنَّ له (¬2). 7 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: وقبل أن يُتوفَّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس، خطب فى الناس، فبيَّن فضل أبى بكر - رضي الله عنه -, وأوصى بالأنصار خيرًا وحذَّر من اتخاذ القبور مساجد. الشرح: عن جُنْدَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنِّي أَبْرَأُ إلى الله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُم خَلِيلٌ، فَإنَّ الله تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبلَكُم كَانُوا يتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَساجِدَ إِني أَنْهَاكُم عَنْ ذَلِكَ" (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4442)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ومسلم (418)، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر .... (¬2) صحيح: أخرجه ابن هشام في "السيرة" بإسناد صحيح. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (532)، كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة, باب: النهي عن بناء المساجد على القبور ... .

8 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يصلى بالناس، فصلى بهم ثلاثة أيام.

8 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يصلى بالناس، فصلَّى بهم ثلاثة أيام. الشرح: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَأُذِّنَ، فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ))، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِما قَامَ في مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ، فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: ((إِنكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ))، فَخَرَجَ أبو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أبو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِي أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِهِ، وَكَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَأبو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلونَ بِصلَاةِ أبي بَكْرٍ، فقال: برأسه نعم (¬1). 9 - وفى ربيع الأول من هذه السنة، وقُبيل وفاته - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالناس جالسًا، وصلَّى الناس خلفه قيامًا. الشرح: عَنْ عُبَيدِ الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَي عَائِشَةَ، فَقُلْتُ:- أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِي، فَقَالَ: ((أَصَلَّى النَّاسُ؟))، قُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ((ضَعُوا لِي مَاءً في الْمِخْضَبِ))، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَصَلَّي النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا هُم يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: ((ضَعُوا لِي مَاءً في الْمِخْضَبِ))، قَالَتْ: ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (664) كتاب: الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (418)، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر ....

10 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: وقبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - بيوم واحد قتل الأسود العنسى الكذاب، قتله فيروز الديلمى، فأخبرهم النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك قبل أن يأتيهم خبره.

فَقَعَدَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: ((أَصَلَّى النَّاسُ؟))، قُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: ((ضَعُوا لِي مَاءً في الْمِخْضَبِ))، فَقَعَدَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: ((أَصَلَّى النَّاسُ؟))، فَقُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ في الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْاَخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أبو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأبو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أبو بَكْرٍ ذهبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: ((أَجْلِسَانِي إلى جَنْبِهِ))، فَأَجْلَسَاهُ إلى جَنْبِ أبي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أبو بَكْرٍ يُصلِّي، وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلَاةِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أبي بَكْرٍ، وَالنَّبِى -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ (¬1). 10 - وفي ربيع الأول من هذه السنة: وقبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - بيوم واحد قُتل الأسود العنسى الكذاب، قتله فيروز الديلمى، فأخبرهم النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك قبل أن يأتيهم خبره. الشرح: ذكر ذلك ابن كثير (¬2): عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أتى الخبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من السماء الليلة التي قُتل فيها ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (687)، كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإِمام ليؤتم به, ومسلم (418)، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر .... (¬2) "البداية والنهاية" 7/ 98.

ثم قال - رحمه الله-

العنسي ليُبشِّرنا، فقال: "قُتل العنسي البارحه, قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين"، قيل: ومن؟ قال: فيروز، فاز فيروز. اهـ. ثم قال - رحمه الله-: وقد قَدَّمنا أن خبر العنسي جاء إلى الصديق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهز جيش أسامة، وقيل: بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والأول أشهر، والله أعلم. اهـ (¬1). 11 - وفى منتصف النهار من يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول من هذه السنة: تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بلغ رساله ربه، فداه أبى وأمى ونفسى وروحى. الشرح: عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ الله خَيَّرَ عَبدًا بَينَ الدُّنْيَا وَبَينَ مَا عِندَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله"، فَبَكَي أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - فَقُلْتٌ في نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنْ الله خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله، فَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الْعَبْدَ، وَكَانَ أبو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْاِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبقَيَنَّ في الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أبي بَكْرٍ" (¬2). وفي لفظ للدارمي: خَرَجَ عَلَينَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَنَحْنُ في الْمَسْجِدِ عَاصِبًا رَأسَهُ بِخِرقَةٍ، حَتَّى أَهْوَى نَحْوَ الْمِنْبَرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) السابق. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (466) الصلاة، ومسلم (2382) فضائل الصحابة.

وصايا النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته

وَاتَّبَعْنَاهُ، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إلى الْحَوْضِ مِنْ مَقَامِي هَذَا"، ثُمَّ قَالَ: "إنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، فَاخْتَارَ الْأخِرَةَ"، قَالَ: فَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا أَحَدٌ غَيْرُ أبي بَكْرٍ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: ثُم هَبَطَ، فَمَا قَامَ عَلَيهِ حَتَّى السَّاعَةِ. وصايا النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته عَنْ أبي عُبَيْدَةَ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (¬1). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصبٌ رَأْسَهُ بِخِرقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ في نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أبي بكْرِ بن أبي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْاِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ في هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبي بَكْرٍ" (¬2). عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى الله وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" (¬3). وعَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ، فَلَمْ أَجِدْكَ، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد: (1/ 195). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (467)، الصلاة وأحمد (1/ 270). (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (5666) المرض، ومسلم (3287) فضائل الصحابة.

قَالَ أَبِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ، قَالَ: "فَإنْ لَم تَجِدِيني فَأتِي أَبَا بَكْرٍ" (¬1). عَنْ ابْنِ أبي مُلَيكَةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ مَنْ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْلِفًا لَوْ اسْتَخْلَفَهُ، قَالَتْ: أبو بَكْرٍ، فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أبي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، ثُمَّ انْتَهَتْ إلى هَذَا (¬2). وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ: "وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي بَعْضَ أصحابي"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَلَا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلَا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلَا نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ، قَالَ: "نَعَم"، فَجَاءَ فَخَلَا بِهِ، فَجَعَلَ النَّبِي- صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّمُهُ، وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، قَالَ قَيسٌ: فَحَدَّثَنِي أبوسَهْلَةَ مَوْلَى عثمان أَنَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قَالَ يَوْمَ الدَّارِ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إِليَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ عَلِيُّ في حَدِيثِهِ: وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، قَالَ قَيْسٌ: فَكَانُوا يُرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْأَنْصَارَ قَدْ قَضوْا مَا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي عَلَيْكُمْ فَأَحْسِنُوا إلى مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ" (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (3659) فضائل الصحابة, ومسلم (2386) فضائل الصحابة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2385) فضائل الصحابة. (¬3) صحيح: رواه ابن ماجه (113) المقدمة وابن أبي عاصم في السنة (1175)، وابن سعد 3/ 66، وقال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي سهلة مولى عثمان وهو ثقة كما قال ابن حبان والعجلي والعسقلاني. وانظر: "ظلال الجنة في تخريج السنة" 2/ 560. (¬4) صحيح: رواه الشافعي والبيهقي في "المعرفه" عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1587).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا" (¬1). عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَعَلَيْهِ عِصَابَة دَسْمَاءُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ في الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ" (¬2). وفي رواية: عَنْ ابْنِ عَبَّاس - رضي الله عنهما - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا في النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ في الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ"، فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعَنْ أَنَسِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُغَرغِرُ بنفْسِهِ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (¬4). وعَنْ عَلِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ آخِرُ كَلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -:"الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا الله فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (959). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3800) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (927) الجمعة. (¬4) صحيح: رواه ابن ماجه (2697)، وأحمد (3/ 117)، وصححه الألباني "الإرواء" (2178). (¬5) صحيح: رواه أبو داود (5156)، وابن ماجه (2698)، وصححه الألباني.

وعَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صفُوفٌ خَلْفَ أبي بَكْرٍ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرآنَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّب-عز وجل-، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". وفي لفظ قال: قَالَ كَشَفَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: "اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا يَرَاهَا الْعبد الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَه"، ثُمَّ ذَكَرَ بقية الحديث (¬1). وعَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، فَقُلْتُ (¬2): يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، فَقَالَ:"ائْتُونِي أكتُبْ لَكُم كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي"، فَتَنَازَعُوا، وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: "دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيرٌ، أُوصِيكُم بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بنحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُم"، قَالَ: وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا (¬3). وفي رواية: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَفِي الْبَيتِ رِجَالٌ فِيهِم عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلُمَّ أَكتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غَلَبَ عَلَيهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُم الْقُرآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ الله، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (479) الصلاف وأبو داود (876). (¬2) القائل هو سعيد بن جبير. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (4431) المغازي، ومسلم (1637) الوصية.

النبى - صلى الله عليه وسلم - ينعى نفسه إلى فاطمة -عليها السلام-

الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا لَنْ تَضلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ الله: "قُومُوا"، قَالَ عُبَيدُ الله: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ (¬1). النبى - صلى الله عليه وسلم - ينعى نفسه إلى فاطمة -عليها السلام- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَم يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:"مَرْحَبًا بِابْنَتِي" فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا، فَقُلْتُ: لَهَا مَا يبكِيكِ، فَقَالَت: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَقُلْتُ لَهَا: حِينَ بَكَتْ أَخَصَّكِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِحَدِيثِهِ دُونَنَا، ثُمَّ تَبْكِينَ، وَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ: فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ في الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي فَقَالَ:"أَلَا تَرضَيْنَ أَنْ تكونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ"، فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ (¬2). وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَت: فَاطِمَةُ- عَلَيْهَا ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (114)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، ومسلم (1637)، كتاب: الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (3623، 3625) الأنبياء، ومسلم (2450) فضائل الصحابة.

قبل الوفاة بيوم

السَّلَام- وَا كَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كربٌ بَعْدَ الْيَوْمِ" (¬1). قبل الوفاة بيوم وقبل يوم من الوفاة- يوم الأحد- أعتق النبي - صلى الله عليه وسلم - غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه - صلى الله عليه وسلم - مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير (¬2). وعَنْ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ بن حارثة - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هَبَطْتُ، وَهَبَطَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَصْمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيَّ وَيَرفَعُهُمَا، فَأَعْرِفُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي (¬3). آخر يوم فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -. وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في صبح اليوم الذي لحق فيه بالرفيق الأعلى ينظر إلى ثمرة جهاده وصبره فألقى على أصحابه الذين أحبوه وأحبهم نظرة وداع فكادوا يُفتنون من الفرح به - صلى الله عليه وسلم - ظنا منهم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد عوفي من مرضه ولم يظنوا أنه ينظر إليهم نظرة الوداع حتى يلتقي بهم على حوضه وفي جنة الله-عز وجل- ولو علموا ذلك لتفطرت قلوبهم (¬4). عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه -, أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُم في وَجَعِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ في الصَّلَاةِ، كَشَفَ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4462) المغازي، وأحمد 3/ 204. (¬2) "سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " للشيخ محمود المصري. وقد أفدت غالبية هذا المبحث منه. (¬3) حسن: رواه الترمذي (3817)، وأحمد 5/ 201، وحسنه الألباني. (¬4) "سيرة الرسول" (685).

إلى الرفيق الأعلى

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِم كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَاحِكًا. قَالَ: فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ في الصَّلَاةِ مِنْ فَرَحٍ بِخُرُوجِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَنَكَصَ أبو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيهِم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُم، قَالَ: ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْخَى السِّتْرَ، قَالَ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ (¬1). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: إِنَّ مِنْ نِعَمِ الله عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُوُفي في بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ الله جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَىَّ عبد الرَّحْمَنِ وَبِيَدِه السِّوَاك، وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَم، فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ في الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا الله إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: "في الرَّفِيقِ الْأَعْلَى"، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ (¬2). إلى الرفيق الأعلى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ. وفي رواية قالت عائشة: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: "إِنَّهُ لَم ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (680) الأذان، ومسلم (419) الصلاة. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4449)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته.

يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ"، قالت عائشة: فَلَمَّا نَزَلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي، غُشِيَ عَلَيهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ (¬1)، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إلى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى". قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَرَفْتُ الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ في قَوْلِهِ: "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ، حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّة ثُمَّ يُخَيَّرُ". قَالَتْ عائشة: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قَوْلُهُ: "اللهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى" (¬2). وتسرب النبأ الفادح من البيت المحزون، وله طنين في الآذان. وثقل ترزح تحته النفوس، وتدور به البصائر والأبصار. وشعر المؤمنون أن آفاق المدينة أظلمت، فتركتهم لوعة الثكل حيارى، لا يدرون ما يفعلون. ووقف عمر بن الخطاب- وقد أخرجه الخبر عن وعيه- يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل قد مات. والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات (¬3)! ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (4435) المغازي، ومسلم (2444) فضائل الصحابة. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2444). (¬3) "فقه السيرة" للغزالي (519).

قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -

ولما علمت فَاطِمَةُ- عَلَيْهَا السَّلَام- قالت: وَا كَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: "لَيْسَ عَلَى أَبِيك كَرْب بَعْدَ الْيَوْمِ"، فَلَمَّا مَاتَ، قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِردَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إلى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ- عَلَيهَا السَّلَام-: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُم أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ (¬1). قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اضطرب المسلمون فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقعد فلم يطق القيام ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ومنهم من أنكر موته بالكلية وقال: إنما بُعث إليه (¬2). وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنُّح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فَقَدْ مُتَّها. ثم خَرَجَ أبو بكر وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعبد مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُم يَعبد الله فَإِنَّ الله حَىٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]، وَقَالَ ابن عباس: وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَم يَعْلَمُوا أَنَّ الله أَنْزَلَ هَذِهِ الْاَيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أبو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا أَسْمَعُ بَشرًا مِنْ ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4462)، المغازي، وأحمد 3/ 204. (¬2) "لطائف المعارف" (114).

تجهيز الجسد الشريف

النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا. قال ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قال عُمَرُ: وَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيتُ إلى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أَنَّ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ (¬1). تجهيز الجسد الشريف عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئًا، وكان طيبًا صلى الله عليه وآله وسلم حيًا وميتًا. ولي دفنه واجنانه دون الناس أربعة: علي والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ولُحِّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحدًا، ونُصب عليه اللبن نصبًا (¬2). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَالُوا: وَاللهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا، أَلْقَى الله عَلَيْهِمْ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ في صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ، أَنْ اغْسِلُوا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَلَهُ إِلَّا نِسَاؤُهُ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4452، 4453، 4454)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته. (¬2) أخرجه الحاكم: 1/ 362، والبيهقي 4/ 53، وإسناده صحيح، صححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬3) حسن: رواه أبو داود (3141)، وحسنه الألباني.

كفن النبي - صلى الله عليه وسلم -

كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ (¬1) مِنْ كُرْسُفٍ (¬2) لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، أَمَّا الْحُلَّةُ، فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتْ الْحُلَّةُ وَكُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، فَأَخَذَهَا عبد الله بن أبي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَأَحْبِسَنَّهَا حَتَّى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا الله-عز وجل- لِنَبِيِّهِ لَكَفَّنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا (¬3). الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال الناس لأبي بكر - رضي الله عنه -. يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيصلَّى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، حتى يدخل الناس، قالوا: يا صاحب رسول الله! يُدفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قَبض الله فيه روحه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أن قد صدق (¬4). ¬

_ (¬1) سحولية: بفتح السين وضمها: هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن، وقال آخرون: هي منسوبة إلى سحول مدينة باليمن تحمل منها هذه الثياب. (¬2) الكرسف: القطن. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (1264) الجنائز، ومسلم (941) الجنائز. (¬4) رواه بطوله الترمذي في "الشمائل" (378)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6367)، وقال البوصيري في "الزوائد" 1/ 406: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وأخرجه النسائي في "وفاهَ النبى" (42) وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 183: روى ابن ماجه =

المدينة تظلم بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

المدينة تُظِلم بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَئءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، وَلَمَّا نَفَضنَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الْأَيْدِي، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرنَا قلوبنا (¬1). وعن أنس أيضًا، قال: ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم أيمن زائرًا، وذهبت معه، فقربت إليه شرابًا، فإما كان صائمًا، وإما كان لا يريده، فرده فأَقْبلَتْ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تضاحكه، فَقَالَ أبو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله لِعُمَرَ انْطَلِقْ بنا إلى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالَا لَهَا مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِرَسُولِهِ فَقَالَتْ مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِرَسُولِهِ وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ ... فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى البكاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا (¬2). ¬

_ = بعضه ورواه الطبراني ورجاله ثقات. قال ابن كثير في "البداية" 5/ 376: وهذا الصنيع وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه أمر مجمع عليه لا خلاف فيه وقد اختلف في تعليله فلو صح الحديث الذي أوردناه عن ابن مسعود لكان نصا في ذلك ويكون من باب التعبد الذي يعسر تعقل سناه وليس لأحد أن يقول لأنه لم يكن لهم إمام لأنا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه عليه السلام بعد تمام بيعة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه وقد قال بعض العلماء إنما لم يؤمهم أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة من كل فرد من آحاد الصحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم حتى العبيد والإماء. (¬1) صحيح: رواه الترمذي "المناقب" 13/ 104، 105، وقال: هذا حديث غريب صحيح، وابن ماجه (1630)، وصححه الألباني. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2454).

12 - وفي يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع المسلمون أبا بكر - رضي الله عنه - بالخلافة.

12 - وفي يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع المسلمون أبا بكر - رضي الله عنه - بالخلافة. الشرح: ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه -صلى الله عليه وسلم-، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سَقِيفة بني ساعدة، وأخيرًا اتفقوا على خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، ومضى في ذلك بقية يوم الاثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان آخر الليل- ليلة الثلاثاء- مع الصبح، وبقى جسده المبارك على فراشه مغشي بثوب حِبَرَة، قد أغلق دونه الباب أهله (¬1). وَاجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ إلى سَعْدِ بن عُبَادَةَ في سَقِيفَةِ بني سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ بن الْخَطَّاب وَأبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ، فَأَسْكَتَهُ أبو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُول: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أبو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ في كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ، فَقَالَ حُبَابُ بن الْمُنْذِرِ: لَا وَاللهِ لَا نَفْعَلُ مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أبَا عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَيْرُنَا، وَأَحَبُّنَا إلى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بن عُبَادَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ الله (¬2). وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: ولما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر. فقام عمر قبل أبي بكر فتكلم فحمد الله وأثنى عليه ¬

_ (¬1) "الرحيق المختوم" (515). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3668) فضائل الصحابة.

13 - وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول من هذه السنة دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

بما هو أهله. ثم قال: أيها الناس إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عَهِده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدبر أمرنا- يقول: يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم-، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هدى له رسوله، إن الله قد جمعكم على خيركم- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثاني اثنين إذ هما في الغار- فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. فتكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد ولُيت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي، حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (¬1). 13 - وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول من هذه السنة دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الشرح: عَنْ عَائِشَة -رضي الله عنها- قَاَلَتْ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفُوا في اللَّحْدِ وَالشَّقِّ، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في"المصنف" 5/ 437، 438 وسنده صحيح، وابن إسحاق في "السيرة" كما في "سيرة ابن هشام" 4/ 183، وسنده أيضًا صحيح وصرح ابن إسحاق فيه بالتحديث.

أين دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟

حَتَّى تَكَلَّمُوا في ذَلِكَ وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُم. فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَصْخَبُوا عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حَيًّا وَلَا مَيِّتًا- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. فَأَرْسَلُوا إلى الشَّقَّاقِ وَاللَّاحِدِ، فَجَاءَ اللَّاحِدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ دُفِنَ -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وعن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ في مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَىَّ اللَّبِنَ نَصبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). أين دُفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفُوا في دَفْنِهِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ:"مَا قَبَضَ الله نَبِيًّا إِلَّا في الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ"، ادْفِنُوهُ في مَوْضِعِ فِرَاشِهِ (¬3). متي دُفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: تُوُفِّيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الِاثْنَينِ وَدُفنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ (¬4) وعَنْ عبد الله بن عَبَّاس -رضي الله عنهما- قَالَ: جُعِلَ في قَبْرِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ (¬5). وفي رواية للترمذي: الَّذِي أَلْحَدَ قَبْرَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أبو طَلْحَةَ، وَالَّذِي أَلْقَي ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الشق حديث رقم (1558)، وحسنه الألباني. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (966) الجنائز، والنسائي 4/ 80. (¬3) صحيح: رواه الترمذي (1018)، وابن ماجه (1628) وصححه الألباني. (¬4) حسن: رواه أحمد 21/ 257، بإسناد حسن. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (967) الجنائز.

من الذي تولى دفن النبى -صلى الله عليه وسلم-؟

الْقَطِيفَةَ تَحْتَهُ شُقْرَانُ مَوْلَي رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بن أبي رَافِعٍ، قَال: سَمِعْتُ شُقْرَانَ يَقُولُ: أَنَا وَاللهِ طَرَحْتُ الْقَطِيفَةَ تَحْتَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في الْقَبْرِ (¬1). من الذي تولى دفن النبى -صلى الله عليه وسلم-؟ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - العباس وعلي والفضل، وشق لحده رجل من الأنصار، وهو الذي يشق لحود قبور الشهداء (¬2). وعن علي بن أبي طالب قال: غسلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون منْ الميت، فلم أر شيئًا، وكان طيبًا -صلى الله عليه وسلم- حيًا وميتًا، ولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله، ولُحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحدًا، ونُصب عليه اللَّبِنُ نصبًا (¬3). 14 - وبعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر: تُوفِّيت ابنته فاطمه -رضي الله عنها-، وهي آخر أبنائه موتًا. الشرح: قال ابن عبد البر رحمه الله: وقال الواقدي: حدثنا معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة، قال: أخبرنا ابن جريج عن الزهري عن عروة: أن فاطمة تُوفّيت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) إسناده صحيح: رواه الترمذي (1047) الجنائز، وصحح إسناده الألباني. (¬2) رواه ابن الجارود في "المنتقي" حديث: (547)، وابن حبان كما في "الموارد" (2161)، والإحسان حديث: (6599)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 254، وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الحاكم 3/ 59.

15 - بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أربعين سنة، فمكث في مكه ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، ثم قبضه الله إليه وقد تم له ثلاث وستون سنة -صلى الله عليه وسلم- صلاة دائمه ما دامت السماوات والأرض.

بستة أشهر (¬1). 15 - بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أربعين سنة، فمكث في مكه ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، ثم قبضه الله إليه وقد تم له ثلاث وستون سنة -صلى الله عليه وسلم- صلاة دائمه ما دامت السماوات والأرض. الشرح: عَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لِأَرْبَعِينَ سَنَة، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتّينَ (¬2). ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (912). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3902)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في المدينة.

غزوات الرسول

غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-

غَزَوَاتَ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- وهي سبعٌ وعشرون غزوة: 1 - غزوة الأبواء في صفرٍ من السنة الثانية للهجرة. 2 - غزوة بواط في ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة. 3 - غزوة سفوان في ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة. 4 - غزوة العشيرة في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة. 5 - غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية للهجرة. 6 - غزوة الكدر من بني سليم في شوال من السنة الثانية للهجرة. 7 - غزوة بني قينقاع في شوالٍ من السنة الثانية للهجرة. 8 - غزوة السويق في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة. 9 - غزوة ذي أمرَّ في المحرم من السنة الثالثة للهجرة. 10 - غزوة الفرع من بحران في ربيع الآخر من السنة الثالثة للهجرة. 11 - غزوة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة. 12 - غزوة حمراء الأسد في شوال من السنة الثالثة للهجرة. 13 - غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة. 14 - غزوة بدر الآخرة (المَوْعِدُ) في شعبان من السنة الرابعة للهجرة. 15 - غزوة دومة الجندل في ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة. 16 - غزوة بني المصطلق في شعبان من السنة الخامسة للهجرة.

17 - غزوة الأحزاب في شوال من السنة الخامسة للهجرة. 18 - غزوة بني قريظة في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة. 19 - غزوة بني لحيان في جمادى الأولى من السنة السادسة للهجرة. 20 - غزوة الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة. 21 - غزوة ذي قردٍ في المحرم من السنة السابعة للهجرة. 22 - غزوة خيبر في المحرم من السنة السابعة للهجرة. 23 - غزوة ذات الرقاع في السنة السابعة للهجرة. 24 - غزوة فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة. 25 - غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة للهجرة. 26 - غزوة الطائف في شوال من السنة الثامنة للهجرة. 27 - غزوة تبوك في رجب من السنة التاسعة للهجرة. - سبق شرح جميع الغزوات في مواضعها من الكتاب.

سرايا الرسول

سرايا الرسول -صلى الله عليه وسلم-

سَرَايا الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- وهي ثلاث وسبعون سريةً: 1 - سرية حمزة بن عبد المطلب إلي سيف البحر في رمضان من السنة الأولي للهجرة. 2 - سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في شوال من السنة الأولى للهجرة. 3 - سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة من السنة الأولى للهجرة. 4 - سرية سعد بن أبي وقاص إلى حي من كنانة في رجب من السنة الثانية للهجرة. 5 - سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب من السنة الثانية للهجرة. 6 - سرية عمير بن عدي لقتل عصماء بنت مروان في رمضان من السنة الثانية للهجرة. 7 - سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي في شوال من السنة الثانية للهجرة. 8 - سرية محمَّد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشراف في ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة. 9 - سرية زيد بن حارثة إلى القردة في جمادى الآخرة من السنة الثالثة للهجرة. 10 - سرية أبي سلمة إلى طليحة الأسدي في المحرم من السنة

الرابعة للهجرة. 11 - سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد الهذلي في المحرم من السنة الرابعة للهجرة. 12 - سرية الرجيعِ في صفر من السنة الرابعة للهجرة. 13 - سرية بئر معونة في صفر من السنة الرابعة للهجرة. 14 - سرية عمرو بن أمية لقتل أبي سفيان في السنة الرابعة للهجرة. 15 - سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي في ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة. 16 - سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء في المحرم من السنة السادسة للهجرة. 17 - سرية عكاشة إلى الغمر في ربيع الأول من السنة السادسة للهجرة. 18 - سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في ربيع الآخر من السنة السادسة للهجرة. 19 - سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة في ربيع الآخر من السنة السادسة للهجرة. 20 - سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم في ربيع الآخر من السنة السادسة للهجرة. 21 - سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأولى من السنة السادسة للهجرة. 22 - سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الآخرة من السنة

السادسة للهجرة. 23 - سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة من السنة السادسة للهجرة. 24 - سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب من السنة السادسة للهجرة. 25 - سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان من السنة السادسة للهجرة. 26 - سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في شعبان من السنة السادسة للهجرة. 27 - سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة في رمضان من السنة السادسة للهجرة. 28 - سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال من السنة السادسة للهجرة. 29 - سرية كرز بن جابر إلى العرنيين في شوال من السنة السادسة للهجرة. 30 - سرية الخبط في السنة السادسة للهجرة. 31 - سرية بني عبس في السنة السادسة للهجرة. 32 - سرية أبان بن سعيد قبل نجد في السنة السابعة للهجرة. 33 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني ثعلبة في صفرٍ من السنة السابعة للهجرة.

34 - سرية أبي بكر إلى بني فزارة بنجدٍ في شعبان من السنة السابعة للهجرة. 35 - سرية عمر بن الخطاب إلى تربة في شعبان من السنة السابعة للهجرة. 36 - سرية بشير بن سعدٍ إلى بني مرة بفدك في شعبان من السنة السابعة للهجرة. 37 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة في رمضان من السنة السابعة للهجرة. 38 - سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار في شوال من السنة السابعة للهجرة. 39 - سرية أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي الحجة من السنة السابعة للهجرة. 40 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد في صفر من السنة الثامنة للهجرة. 41 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى فدك في صفر من السنة الثامنة للهجرة. 42 - سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر في ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة. 43 - سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح في ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة.

44 - سرية زيد بن حارثة إلى مدين في السنة الثامنة للهجرة. 45 - سرية مؤتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة. 46 - سرية ذات السلاسل في جمادى الآخرة من السنة الثامنة للهجرة. 47 - سرية أبي قتادة إلى خضرة في شعبان من السنة الثامنة للهجرة. 48 - سرية أبي حدردٍ إلى الغابة في شعبان من السنة الثامنة للهجرة. 49 - سرية أبي قتادة إلى إضمٍ في رمضان من السنة الثامنة للهجرة. 50 - سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات في السنة الثامنة للهجرة. 51 - سرية خالد بن الوليد لهدم العُزى في رمضان من السنة الثامنة للهجرة. 52 - سرية عمرو بن العاص لهدم سواع في رمضان من السنة الثامنة للهجرة. 53 - سرية سعد بن زيد الأشهلي لهدم مناة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة. 54 - سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة في شوال من السنة الثامنة للهجرة. 55 - سرية قيس بن سعد بن عبادة إلى صُداءٍ في السنة الثامنة للهجرة. 56 - سرية أوطاس في شوال من السنة الثامنة للهجرة. 57 - سرية الطفيل بن عمرو الدوسي لهدم ذي الكفين في شوال من السنة الثامنة للهجرة.

58 - سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم في المحرم من السنة التاسعة للهجرة. 59 - سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر من السنة التاسعة للهجرة. 60 - سرية الضحاك بن سفيان إلى القرطاء في ربيع الأول من السنة التاسعة للهجرة. 61 - سرية علقمة بن مجزر إلى الأحباش بجدة في ربيع الآخر من السنة التاسعة للهجرة. 62 - سرية علي بن أبي طالب لهدم الفلس في ربيع الآخر من السنة التاسعة للهجرة. 63 - سرية عكاشة بن محصن إلى الجناب في ربيع الآخر من السنة التاسعة للهجرة. 64 - سرية طلحة بن عبيد الله لحرق بيت سويلم اليهودي في رجب من السنة التاسعة للهجرة. 65 - سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر ملك دومة في رجب من السنة التاسعة للهجرة. 66 - سرية خالد بن الوليد إلى خثعم في السنة التاسعة للهجرة. 67 - سرية أبي سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم اللات في رمضان من السنة التاسعة للهجرة. 68 - سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن في السنة التاسعة للهجرة. 69 - سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران في ربيع الأول من

السنة العاشرة للهجرة. 70 - سريةٌ إلى رعية السحيمي في السنة العاشرة للهجرة. 71 - سيرة علي بن أبي طالب إلى اليمن في رمضان من السنة العاشرة من الهجرة. 72 - سرية جرير بن عبد الله البجلي لهدم ذي الخلصة في رمضان من السنة العاشرة للهجرة. 73 - سرية زيد بن حارثة إلى البلقاء بالشام في صفر من السنة الحادية عشر للهجرة. - سبق شرح جميع السرايا في مواضعها من الكتاب.

أمراؤه - صلى الله عليه وسلم -

أمراؤه - صلى الله عليه وسلم -

أمراؤه - صلى الله عليه وسلم - 1 - عتَّاب بن أسيد - رضي الله عنه - على مكة والحج سنة ثمان للهجرة (¬1). 2 - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على الحج سنة تسع للهجرة (¬2). 3 - عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الأخماس باليمن (¬3). 4 - باذان بن ساسان - رضي الله عنه - على اليمن (¬4). 5 - شهر بن باذان - رضي الله عنه - على صنعاء وأعمالها بعد موت أبيه (¬5). 6 - خالد بن سعيد بن العاص - رضي الله عنه - على صنعاء وأعمالها بعد مقتل شهر (¬6). 7 - زياد بن لبيد الأنصاري - رضي الله عنه - على حضرموت (¬7). 8 - أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - على زبيد، وعدن، وَزمَع، والساحل (¬8). 9 - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - على الجَنَد (¬9). ¬

_ (¬1) ذكره ابن هشام في "السيرة"، وانظر: "تهذيب سيرة ابن هشام" (210). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) تقدم ذكره. (¬4) تقدم ذكره. (¬5) تقدم ذكره. (¬6) انظر "البداية والنهاية" 7/ 96. (¬7) ذكره ابن هشام في "السيرة"، انظر: "تهذيب سيرة ابن هشام" (256). (¬8) ذكره ابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 122. (¬9) تقدم ذكره.

10 - أبو سفيان بن حرب - رضي الله عنه - على نجران (¬1). 11 - يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - على تيماء (¬2). 12 - المهاجر بن أبي أمية المخزومي - رضي الله عنه - على كِنْدة والصَّدِف (¬3). 13 - عمرو بن العاص - رضي الله عنه - على عُمان (¬4). 14 - عمرو بن أم مكتوم - رضي الله عنه - على المدينة إذا سافر (¬5). 15 - العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - على البحرين (¬6). 16 - أبان بن سعيد الأموي - رضي الله عنه - على البحرين سنة تسع للهجرة بعد عزل العلاء (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن القيم "زاد المعاد" 1/ 122. (¬2) انظر: "زاد المعاد" 1/ 122. (¬3) السابق. (¬4) السابق. (¬5) تقدم ذكره في أكثر من موضع. (¬6) ذكره ابن هشام في "السيرة"، انظر: "تهذيب سيرة ابن هشام" (256). (¬7) انظر:"الاستيعاب" (70، 71).

كُتاب النبي

كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -

كُتَّابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم ثمانية وثلاثون كاتبًا (¬1): 1 - أبان بن سعيد بن العاص - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 2 - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 3 - أبو سفيان - رضي الله عنه -: ذكره ابن مسكويه في كُتَّابِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5 - أبي بن كعب - رضي الله عنه -: وهو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. 5 - الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب كتبًا لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، وعاصم بن الحارث الحارثي، والأجب. 6 - بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 7 - ثابت بن قيس - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب الكتاب لوفد ثمالة والحدان. 8 - جهيم بن الصلت - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب الكتاب ليزيد بن الطفيل الحارثي. 9 - جهم بن سعد - رضي الله عنه -: وكان هو والزبير بن العوام - رضي الله عنه - يكتبان أموال الصدقة، وهو الذي كتب كتابًا لمجاعة بن مرارة. 10 - حنظلة بن الربيع - رضي الله عنه -: وهو أحدُ الذين كتبوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعرف بالكاتب. 11 - حويطب بن عبد العزى - رضي الله عنه -: ذكره ابن مسكويه في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) من (1 - 38) "سبل الهدى" 11/ 375 - 393، "عيون الأثر" 2/ 382.

12 - الحصين بن نمير - رضي الله عنه -: كان هو والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهما - يكتبان المداينات والمعاملات. 13 - حاطب بن عمرو - رضي الله عنه -: ذكره ابن مسكويه في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. 14 - حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: كان يكتب خرص النخل. 15 - خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب الكتاب إلى بني عذرة بن حمير يدعوهم إلى الإسلام. 16 - خالد بن سعيد بن العاص - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لوفد ثقيف يحرم عليهم وجًّا , ولراشد بن عبد السلمي، ولحرام بن عبد عوف، ولسعيد بن سفيان. 17 - خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: ذكره ابن عبد البر، وابن الأثير في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. 18 - الزبيربن العوام - رضي الله عنه -: كان هو وجهم بن سعد - رضي الله عنه - بكتاب أموال الصدقة. 19 - زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: كان من كتاب الوحي، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم لغة يهود، فتعلمها في خمسة عشريومًا. 20 - سعيد بن العاص - رضي الله عنه -: ذكره ابن عبد البر - رحمه الله - في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. 21 - شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنه -: وهو أول من كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 22 - طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 23 - عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب الكتاب لسراقة بن مالك أثناء الهجرة.

24 - عبد الله بن الأرقم - رضي الله عنه -: كان يكتب للملوك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. 25 - عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول - رضي الله عنه -: ذكره ابن عبد البر فيمن كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 26 - عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 27 - عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب الكتاب لمن أسلم من حدس من لخم. 28 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح - رضي الله عنه -: كان من كتاب الوحي. 29 - عبد الله بن عبد الأسد - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 30 - عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لنهشل بن مالك الوائلي. 31 - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 32 - عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: ذكره في "عيون الأثر". 33 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لنعيم بن أوس الداري، وللحصين بن أوس الأسلمي. 34 - العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لبني معنٍ الطائيين، ولبني شنخ من جهينة، ولأسلم من خزاعة. 35 - محمد بن مسلمة الأنصاري - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لمهري بن الأبيض. 36 - معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وإلى الأقيال من حضرموت، ولبلال بن الحارث، ولعتبة بن فرقد.

37 - معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي - رضي الله عنه -: ذكره عمر بن شبة فيمن كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 38 - المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: وهو الذي كتب لأساقفة نجران، ولبني الضباب، ولبني قنان بن ثعلبة، وليزيد بن المحجل، ولعامر بن الأسود، ولبني جوين الطائيين.

رسله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض

رسله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض

رسله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض وهم ثمانية وأربعون وسولًا (¬1): 1 - الأقرع بن عبد الله الحميري - رضي الله عنه - إلى ذي مران. 2 - أبي بن كعب - رضي الله عنه - إلى سعد هذيم. 3 - جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - إلى ذي الكلاع بن ناكور. 4 - حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إلى المقوقس ملك الأسكندرية. 5 - حسان بن سلمة - رضي الله عنه - مع دحية إلى هرقل ملك الروم. 6 - الحارث بن عمير الأزدي - رضي الله عنه - إلى صاحب بصرى. 7 - حريث بن زيد الخير - رضي الله عنهما - إلى يُحنَّة بن رؤبة الأيلي. 8 - حرملة بن حريث - رضي الله عنه - إلى يحنة بن رؤبة الأيلي. 9 - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى أكيدر ملك دومة. 10 - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أيضًا إلى بني الحارث بن كعب. 11 - دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه - إلى هرقل ملك الروم. 12 - رفاعة بن زيد الضبيبي - رضي الله عنه - إلى قومه. 13 - زياد بن حنظلة - رضي الله عنه - إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر. ¬

_ (¬1) قال الشيخ وحيد: من (1 - 48) "الطبقات" 1/ 222 - 252، "سبل الهدى" 11/ 344 - 374، ولم أتمكن من ترتيبهم زمنيًّا لعدم معرفة التاريخ في كثير منها، فرتبتها هجائيًا. اهـ.

14 - سليط بن عمرو العامري - رضي الله عنه - إلى هوذة بن علي الحنفي. 15 - عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - إلى مسيلمة الكذاب. 16 - السائب بن العوام - رضي الله عنه - إلى مسيلمة الكذاب. 17 - شجاع بن وهب الأسدي - رضي الله عنه - إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء. 18 - صدى بن عجلان أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - إلى قومه باهلة. 19 - صدي بن عجلان أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - إلى جبلة بن الأيهم. 20 - الصلصل بن شرحبيل - رضي الله عنه - إلى صفوان بن أمية. 21 - ضرار بن الأزور الأسدي - رضي الله عنه - إلى الأسود وطليحة. 22 - ضرار بن الأزور الأسدي - رضي الله عنه - إلى عوف الزرقاني. 23 - ظبيان بن مرثد - رضي الله عنه - إلى بني بكر بن وائل. 24 - عبد الله بن حذافة - رضي الله عنه - إلى كسرى. 25 - عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي - رضي الله عنه - إلى اليمن. 26 - عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - إلى اليمن. 27 - عبد الله بن عوسجة العرني - رضي الله عنه - إلى سمعان بن عمرو. 28 - عبد الرحمن بن بديل بن ورقاء الخزاعي - رضي الله عنه - إلى اليمن. 29 - أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه - إلى البحرين. 30 - عبيد الله بن عبد الخالق - رضي الله عنه - إلى طاغية الروم.

31 - العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين. 32 - عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى جيفر بن الجلندي ملك عمان. 33 - عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - إلى النجاشي ملك الحبشة. 34 - عمرو بن حزم - رضي الله عنه - إلى اليمن. 35 - عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - إلى صنعاء. 36 - عياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنه - إلى اليمن. 37 - فرات بن حيان - رضي الله عنه - إلى ثمامة بن أثال. 38 - قدامة بن مظعون - رضي الله عنه - إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين. 39 - قيس بن نمط - رضي الله عنه - إلى قيس بن عمرو. 40 - معاذ بن جبله - رضي الله عنه - إلى اليمن. 41 - مالك بن مرارة - رضي الله عنه - إلى اليمن. 42 - مالك بن عقبة - رضي الله عنه - إلى اليمن. 43 - المهاجر بن أمية - رضي الله عنه - إلى الحارث بن عبد كلال الحميري. 44 - نمير بن خرشة - رضي الله عنه - إلى ثقيف. 45 - نعيم بن مسعود الأشجعي - رضي الله عنه - إلى ابن ذي اللحية. 46 - واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - إلى أكيدر ملك دومة. 47 - وبر بن يحنس الأزدي - رضي الله عنه - إلى داذويه. 48 - الوليد بن بحر الجرهمي - رضي الله عنه - إلى أقيال اليمن.

الوفود التي وفدت على رسول الله

الوفود التي وفدت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الوفود التي وفدت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وهم أربعة ومائة: 1 - وفد مزينة في رجب من السنة الخامسة من الهجرة. 2 - وفد أشجع في السنة الخامسة من الهجرة. 3 - وفد جذام قبل السنة السابعة من الهجرة. 4 - وفد الأشعريين في المحرم من السنة السابعة من الهجرة. 5 - وفد دوس في السنة السابعة من الهجرة. 6 - وفد بني ثعلبة في السنة الثامنة من الهجرة. 7 - وفد سليم في السنة الثامنة من الهجرة. 8 - وفد ربيعة عبد القيس في السنة الثامنة من الهجرة. 9 - وفد صداء في السنة الثامنة من الهجرة. 10 - وفد ثمالة والحدان في السنة الثامنة من الهجرة. 11 - وفد باهلة في السنة الثامنة من الهجرة. 12 - وفد أسد في المحرم من السنة التاسعة من الهجرة. 13 - وفد عذرة في صفر من السنة التاسعة من الهجرة. ¬

_ (¬1) قال الشيخ وحيد: راجع "الطبقات" 1/ 252 - 309، "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" 6/ 386 - 679. تنبيه: بعد الوفود الواحد والخمسين لم أتمكن من ترتيبهم زمنيًا لعدم الوصول إلى تاريخ وفودهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ.

14 - وفد بلي في ربيع الأول من السنة التاسعة من الهجرة. 15 - وفد يحنة بن رؤبة في رجب من السنة التاسعة من الهجرة. 16 - وفد جرباء وأذرح في رجب من السنة التاسعة من الهجرة. 17 - وفد عروة بن مسعود الثقفي قبل رمضان من السنة التاسعة من الهجرة. 18 - وفد ثقيف في رمضان من السنة التاسعة من الهجرة. 19 - وفد ملوك حمير في رمضان من السنة التاسعة من الهجرة. 20 - وفد ضمام بن ثعلبة في السنة التاسعة في الهجرة. 21 - وفد الداريين من لخم في السنة التاسعة من الهجرة. 22 - وفد بهراء في السنة التاسعة من الهجرة. 23 - وفد بني البكاء في السنة التاسعة من الهجرة. 24 - وفد بني فزارة في السنة التاسعة من الهجرة. 25 - وفد ثعلبة بن منقذ في السنة التاسعة من الهجرة. 26 - وفد سعد هذيم في السنة التاسعة من الهجرة. 27 - وفد مرة في السنة التاسعة من الهجرة. 28 - وفد كلاب في السنة التاسعة من الهجرة. 29 - وفد كنانة في السنة التاسعة من الهجرة. 30 - وفد تجيب في السنة التاسعة من الهجرة.

31 - وفد الحارث بن كعب في ربيع الأول من السنة العاشرة من الهجرة. 32 - وفد عدي بن حاتم في شعبان من السنة العاشرة من الهجرة. 33 - وفد خولان في شعبان من السنة العاشرة من الهجرة. 34 - وفد غامدٍ في رمضان من السنة العاشرة من الهجرة. 35 - وفد غسان في رمضان من السنة العاشرة من الهجرة. 36 - وفد جرير البجلي في رمضان من السنة العاشرة من الهجرة. 37 - وفد سلامان في شوال من السنة العاشرة من الهجرة. 38 - وفد الأزد في السنة العاشرة من الهجرة. 39 - وفد زبيد في السنة العاشرة من الهجرة. 40 - وفد فروة بن مسك في السنة العاشرة من الهجرة. 41 - وفد عبد القيس للمرة الثانية في السنة العاشرة من الهجرة. 42 - وفد بني حنيفة في السنة العاشرة من الهجرة. 43 - وفد طييء في السنة العاشرة من الهجرة. 44 - وفد كندة في السنة العاشرة من الهجرة. 45 - وفد محارب في السنة العاشرة من الهجرة. 46 - وفد الرهاويين في السنة العاشرة من الهجرة. 47 - وفد عبس في السنة العاشرة من الهجرة. 48 - وفد الصدف في السنة العاشرة من الهجرة.

49 - وفد رعية السحيمي في السنة العاشرة من الهجرة. 50 - وفد قشير بن كعب في السنة العاشرة من الهجرة. 51 - وفد النخع في المحرم من السنة الحادية عشرة عن الهجرة. 52 - وفد أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي. 53 - وفد أبي صفرة. 54 - وفد أحمس. 55 - وفد أزد عمان. 56 - وفد أزد شنوأة. 57 - وفد أسلم. 58 - وفد أسيد بن أبي أناس. 59 - وفد أعشى بن مازن. 60 - وفد إياد. 61 - وفد بكر بن وائل. 62 - وفد بارق. 63 - وفد بني سحيم. 64 - وفد بني سدوس. 65 - وفد بني عبد بن عدي. 66 - وفد بني عذرة.

67 - وفد بني كلبٍ. 68 - وفد تغلب. 69 - وفد تميم. 70 - وفد الجارود بن المعلى وسلمة بن عياض. 71 - وفد جعدة. 72 - وفد جعفي. 73 - وفد جرم. 74 - وفد جهينة. 75 - وفد الجن. 76 - وفد جيشان. 77 - وفد الحارث بن حسان. 78 - وفد الحجاج بن علاطٍ السلمي. 79 - وفد حضرموت. 80 - وفد الحكم بن حزن الكلفي. 81 - وفد خثعم. 82 - وفد خشين. 83 - وفد خفاف بن نضلة. 84 - وفد ذباب بن الحارث. 85 - وفد رؤاس بن كلاب.

86 - وفد سعد العشيرة. 87 - وفد شيبان. 88 - وفد طارق بن عبد الله. 89 - وفد عامر بن صعصعة. 90 - وفد عبس. 91 - وفد عقيل بن كعب. 92 - وفد عنزة. 93 - وفد عنس. 94 - وفد غافق. 95 - وفد قيس بن عاصم. 96 - وفد كلب. 97 - وفد معاوية بن حيدة. 98 - وفد مهرة. 99 - وفد نافع بن زيد الحميري. 100 - وفد نجران. 101 - وفد هلال بن عامر. 102 - وفد همدان. 103 - وفد وائل بن حُجْر. 104 - وفد واثلة بن الأسقع.

مؤذنو رسول الله

مؤذنو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مُؤَذِّنو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أربعة: 1 - بلال بن رباح - رضي الله عنه -: وهو أول من أذَّن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - اشتراه الصديق، وأعتقه، فلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد معه جميع المشاهد، وتُوفِّي بالشام سنة عشرين من الهجرة (¬1). 2 - عمرو بن أم مكتوم - رضي الله عنه -: كان يُؤذِّن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهو من المهاجرين الأولين، تُوفِّي في آخر خلافة عمر- رضي الله عنه - (¬2). 3 - سعد بن عائذ القرظ - رضي الله عنه -: جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا بقُباء، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك بلال الأذان، نقله أبو بكر - رضي الله عنه - إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تُوفِّي سنة أربع وسبعين من الهجرة (¬3). 4 - أبو محذورة - رضي الله عنه -: هو أَوْسُ بن مِعْير، وكان يُرَجِّع الأذان، مات بمكة سنة تسع وخمسين من الهجرة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ذلك: "الاستيعاب" (120). (¬2) انظر ذلك: السابق (437). (¬3) انظر ذلك: السابق (311). (¬4) انظر ذلك: السابق (842، 843).

أمهات المؤمنين

أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن -

أمهات المؤمنين - رضي الله عنهنَّ - وهنَّ إحدى عشرة: 1 - خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -: تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وعمره خمس وعشرون سنة، وعمرها أربعون سنة، وتُوفِّيت في حياته في السنة العاشرة للبعثة (¬1). 2 - عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها -: عقد عليها في شوال سنة عشر من البعثة، وبنى بها في شوال من السنة الأولى للهجرة، وتُوفِّي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، وماتت بعده في رمضان سنة سبع وخمسين للهجرة (¬2). 3 - سودة بنت زمعة - رضي الله عنها -: تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال سنة عشر من البعثة، بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها -، وتوفِّيت سنة خمس وخمسين للهجرة (¬3). 4 - حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان من السنة الثالثة للهجرة، وماتت سنة خمس وأربعين للهجرة (¬4). 5 - زينب بنت خزيمة أم المساكين - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في السنة الثالثة للهجرة، وماتت بعد زواجها بشهور فصلَّى عليها ودفنها (¬5). 6 - زينب بنت جحش - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثالثة على ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (874). (¬2) السابق (901). (¬3) السابق (879). (¬4) السابق (871). (¬5) السابق (891).

الراجح، وماتت سنة عشرين من الهجرة (¬1). 7 - أم سلمة هند بنت أبي أُميَّة - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شوَّال سنة أربع من الهجرة، وتُوفِّيت سنة اثنين وستين من الهجرة، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا (¬2). 8 - جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس من الهجرة، وتُوفِّيت سنة خمسين من الهجرة (¬3). 9 - أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها -: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بالحبشة سنة سبع، وتُوفِّيت سنة أربع وأربعين للهجرة (¬4). 10 - صفية بنت حُييٍّ - رضي الله عنها -: وهي من نَسْل نبي الله هارون بن عمران- عليه السلام -، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع، وتُوفِّيت سنة خمسين للهجرة على الراجح (¬5). 11 - ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها -: تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة سنة سبع، وتُوفِّيت سنة إحدى، وخمسين للهجرة (¬6). ¬

_ (¬1) السابق (890). (¬2) السابق (922). (¬3) السابق (868). (¬4) السابق (926). (¬5) السابق (899). (¬6) السابق (919)، وقد سبق ذكر جميع أمهات المؤمنين -رضي الله عنهنَّ-.

سراري النبي

سراري النبي - صلى الله عليه وسلم -

سراري النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له سُرِّيَّتان: 1 - ريحانة بنت زيد بن عمرو - رضي الله عنها -: كانت من سبي بني قريظة، فأسلمت فتسرَّى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم سنة ستٍّ، وتُوفِّيت بعد مرجعه من حجة الوداع سنة عشر من الهجرة. 2 - مارية القبطية - رضي الله عنها -: أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، فأسلمت، فتسرَّى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع، وولدت له إبراهيم عليه السلام، وتُوفِّيت سنة ست عشرة من الهجرة (¬1). ¬

_ (¬1) سبق ذكر ذلك.

أولاد النبي

أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم -

أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم سبعة: 1 - زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم، وعبد الله، وإبراهيم - عليهم السلام-. الشرح: 1 - زينب: كانت أكبر بناته -رضي الله عنهنَّ-، قال محمَّد بن إسحاق السرَّاج: سمعت عبد الله بن محمَّد بن سليمان الهاشمي، يقول: ولدت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في سنة ثلاثين من عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وماتت في سنة ثمان من الهجرة (¬1). 2 - رقية: زوجة ذي النورين عثمان - رضي الله عنه -، وأم ابنه عبد الله، ولدت رقية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنة ثلاث وثلاثين سنة، وقد تقدم ذكر وفاتها (¬2). 3 - أم كلثوم: زوجة ذي النورين أيضًا عثمان - رضي الله عنه - تزوجها بعد وفاة أختها رقية واختلف هل هي أصغر أم فاطمة؟، وقد تقدم ذكر وفاتها في السنة التاسعة. 4 - فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -: زوجة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وقد تقدم ذكر وفاتها، بعد ستة أشهر من وفاة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -. 5 - القاسم: ولد بعد رقية - رضي الله عنها - وهو أكبر أبناؤه المذكور، عاش سبعة عشر ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (892). (¬2) "الاستيعاب" (884).

2 - كل أولاده من خديجه - رضي الله عنها - إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية - رضي الله عنها - ومات في ربيع الأول سنه عشرة وهو ابن ثمانية عشر شهرا.

شهرًا، وهو أول من مات من ولده - صلى الله عليه وسلم -، وقد مات قبل البعثة (¬1). 6 - عبد الله: كان يقال له الطيب والطاهر، ولد بعد النبوة، ومات صغيرًا (¬2). 7 - إبراهيم عليه السلام: وقد تقدم ذكر مولده في السنة الثامنة، ووفاته في السنة العاشرة. 2 - كل أولاده من خديجه - رضي الله عنها - إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية - رضي الله عنها - ومات في ربيع الأول سنه عشرة وهو ابن ثمانية عشر شهرًا. الشرح: قال ابن عبد البر رحمه الله في ترجمة خديجة - رضي الله عنها -: ولم يختلفوا أنه ولد له - صلى الله عليه وسلم - منها ولده كلهم حاشا إبراهيم (¬3)، وقد تقدم ذكر ما يتعلق بإبراهيم. 3 - كل أولاده ماتوا قبله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا فاطمة - رضي الله عنها -، ظلَّت بعده ستة أشهر، فماتت في رمضان سنة إحدى عشر، وهي ابنة تسع وعشرين سنة. ¬

_ (¬1) " البداية والنهاية" 6/ 32 - 33. (¬2) السابق. (¬3) "الاستيعاب" (874).

أعمامه وعماته - صلى الله عليه وسلم -

أعمامه وعماته - صلى الله عليه وسلم -

أعمامه وعماته - صلى الله عليه وسلم - 1 - أعمامه أحد عشر وهم: حمزة، والعباس، وأبو طالب، وأبو لهب، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوِّم, وضرار، وقُثَم, والمغيرة، والغيداق ... ولم يسلم منهم إلَّا حمزة, والعباس - رضي الله عنهما -. الشرح: 1 - حمزة: وهو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القُرشي الهاشمي، كان يقال له: أسد الله, وأسد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يكنَّى: أبا عمارة، وأبا يعلى أيضًا، بابنيه عمارة ويعلى، أمه: هالة بنت وهب بن عبد مناف، وكان - رضي الله عنه - أسنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين (¬1)، وقيل: كان أسنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين (¬2). 2 - العباس: ويكنى: أبا الفضل، وكان أسنَّ من رسول - صلى الله عليه وسلم - بسنتين أو ثلاث، وقيل: هو أصغر أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - سنًا، وأُمُّه: نُتيلة بنت خناب بن كلب، وقد تقدم ذكر إسلامه ومواقفه - رضي الله عنه - ,وقد تُوفِّي - رضي الله عنه - وأرضاه، بالمدينة في رجب أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلاً جميلاً أبيض (¬3). 3 - أبو طالب: واسمه عبد مناف، اشتُهر بكنيته، حيث كان يكنى بابنه طالب, وأُمُّه: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وكان أسن من ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (203): وهذا لا يصح عندي؛ لأن الحديث الثابت: أن حمزة وعبد الله بن عبد الأسد، أرضعتهما ثويبة مع رسول الله إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين. اهـ. (¬2) "الاستيعاب" (202، 203)، "الإصابة" 1/ 401، 402، وقد تقدم ذكر إسلامه، ومواقفه، ووفاته - رضي الله عنه -. (¬3) "الإصابة" 2/ 1000، 1001.

قال ابن سيد الناس رحمه الله

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ربَّاه بعد وفاة جده، وتقدم ذكر مواقفه ووفاته. 4 - أبو لهب: واسمه عبد العُزَّى، واشتهر بكنيته، حيث كناه أبوه بذلك، قيل: لحسن وجهه، قال السهيلي: كُنِّى بأبي لهب مقدمة لما يعد إليه من اللهب، أي: لما يعد إليه من نار جهنم، وأمُّه لُبْنى بنت هاجر بن خزاعة، وقد تقدم ذكر وفاته. 5 - الزبير: وكان شقيقًا لعبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه وأمه، فأُمُّه: فاطمة بنت عمرو بن عائذ. 6 - عبد الكعبة: وأُمُّه فاطمة بنت عمرو بن عائذ أيضًا، قال ابن سيد الناس: لم يُدرك الإِسلام ولم يُعقِّب (¬1). 7 - المقوِّم: كان شقيقا لحمزة -رضي الله عنه - فأُمُّهما: هالة بنت وهب بن عبد مناف. 8 - ضرار: وكان شقيقًا للعباس -رضي الله عنه - ,فأمهما: نُتيلة بنت جناب بن كلب. قال ابن سيد الناس رحمه الله: مات أيام أوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسلم، وكان من أبهى فتيان قريش جمالاً، وأكثرهم سخاءً (¬2). 9 - قُثم: وكان شقيقًا للعباس -أيضًا، وقيل: أمُّه: صفية بنت جُندب بن جُحير، وقد هلك قُثم صغيرًا. 10 - المغيرة: ولقبه: حَجَل، وهو شقيق حمزة -رضي الله عنه -. 11 - الغيداق: واسمه مصعب، وقيل: نوفل، وكان أكثر قريش مالاً، ¬

_ (¬1) "عيون الأثر" 2/ 387. (¬2) السابق.

2 - وعماته ست, وهن: صفية، وعاتكة، وبرة، وأروى, وأميمة, وأم حكيم البيضاء أسلم منهن: صفية، واختلف في إسلام عاتكة وأروى.

وكان جوادًا (¬1). وقد ذكر ابن القيم -عليه رحمة الله- من أعمامه - صلى الله عليه وسلم - الحارث، وقال: هو أسنَّ أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ذكره ابن عبد البر، وقال: أُمُّه صفية بنت جنيدب، وقيل: سمراء بنت جنيدب، وقال بعضهم: الحارث والمقوِّم واحداً (¬2). ولم يُسلم من أعمامه -عليه الصلاة والسلام - إلا حمزة والعباس على الصحيح (¬3). 2 - وعمَّاته ست, وهنَّ: صفية، وعاتكة، وبَرَّة، وأروى, وأميمة, وأم حكيم البيضاء أسلم منهنَّ: صفية، واختُلف في إسلام عاتكة وأروى. الشرح: 1 - صفية: أم الزبير بن العوام -رضي الله عنهما -، شقيقة أسد الله حمزة، أمهما هالة بنت وهب، خالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعاشت -رضي الله عنها - إلى خلافة أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه - (¬4). 2 - عاتكة: أمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ. ذكرها ابن عبد البر (¬5)، وقال: اختلف في إسلامها، والأكثر يأبون ذلك. اهـ. 3 - برَّة: أمها: فاطمة بنت عمرو أيضًا، وهي أم أبي سَلَمة عبد الله بن ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" 1/ 102، "عيون الأثر" 2/ 387. (¬2) "زاد المعاد" 1/ 102، "الاستيعاب" (203). (¬3) "عيون الأثر" 2/ 304. (¬4) "الاستيعاب" (900)، "الإصابة" 4/ 2560. (¬5) "الاستيعاب" (905).

عبد الأسد المخزومي، الصحابي المشهور -رضي الله عنه -. 4 - أروى: ذكرها ابن عبد البر في "الصحابة"، وقال: ذكرها العقيلي في "الصحابة"، وذكر أيضًا عاتكة، وهما مختلف في إسلامهما، فأما محمَّد بن إسحاق ومن قال بقوله، فذكر أنه لم يُسلم من عمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا صفية، وقال ابن سعد: أسلمت، وهاجرت إلى المدينة (¬1). 5 - أميمة: أمها: فاطمة بنت عمرو، وكانت عند جحش بن رئاب، فولدت له عبد الله بن المجدَّع، المقتول يوم أحد شهيدًا (¬2). 6 - أم حكيم البيضاء: شقيقة عبد الله والد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمها: فاطمة بنت عمرو، وهي أم أروى والدة عثمان بن عفان -رضي الله عنه - (¬3). ¬

_ (¬1) "الاستيعاب" (856)، "الإصابة" 4/ 2413. (¬2) "عيون الأثر" 2/ 388. (¬3) السابق.

§1/1