الأصول العلمية للدعوة السلفية

عبد الرحمن بن عبد الخالق

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد ابتلي المسلمون خلال تاريخهم الطويل بفتن عظيمة، ونسب إلى هذا الدين كثير من البدع والضلالات، وألقي على الكتاب الكريم كثير من التحريفات والشبهات، وتعرضت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم للانتحال والوضع تارة، والرد والإبطال تارات.. وكانت الواحدة من هذه العظائم كافية لطمس معالم الدين،

وتضيع أصوله، وتشويهه، وإتلافه؛ لولا أن الله سبحانه وتعالى شاء حفظه وأراد، ورد كيد أعدائه، وجعل سعيهم في تحريفه إلى ضلال، وهيأ في كل عصر من عصور الإسلام من ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، ولولا ذلك؛ لانطمست طريق هذا الدين كما انطمست اليهودية والنصرانية. ولقد كانت هذه الحركات التصحيحية التجديدية لهذا الدين هي الحركة السلفية التي حافظت على أصول هذا الدين نقية خالصة، ونفت عنه كل بدعة، وردت عنه كل ضلالة، وصححت كل تأويل وتحريف. فالصحابة العدول رضي الله عنهم نقلوا الأمانة كاملة، وبلغوها غير منقوصة، ووقفوا بالمرصاد لكل تأويل باطل وكل انتحال وتحريض، وحمل الراية من بعدهم علماء التابعين ومن وراءهم. وفي عهدهم اتسعت دائرة الأمة الإسلامية، وكثر الداخلون من الفرس والروم والشعوب الأخرى، وأراد بعضهم أن يدخل في الدين ما ليس منه؛ بقصد أو بغير قصد، فقام هؤلاء العلماء الأجلاء حراساً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحفظ لنا التاريخ جهادهم في هذا السبيل؛ حرباً للمبطلين، ورداً للزيف عن هذا الدين، ووقوفاً في وجه انحراف الحكم والسياسة، ونشراً للدين النقي الخالص في كل الربوع، حتى سلموا الراية لمَن بعدهم في العلم والإيمان كاملة، عزيزة الجانب، ظاهرة عالية.

وما يزال هذا الدين يخوض المعركة برجاله المخلصين وأبنائه البررة الميامين، الذين أخلصوا دينهم لله، فآمنوا بكتاب الله كما أنزل، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت، وتمسكوا بهما، وعضوا عليهما بالنواجذ، وحاربوا كل أفاك أثيم، يروم حمى هذا الدين؛ تحويلاً له وتحريفاً، أو زيادة له ونقصاً، وتمزيقاً له وتقطيعاً. وفي عصرنا الراهن زادت الهجمة على هذا الدين، وتميزت قلوب الكافرين عليه من الغيظ؛ أن دامت سيادته كل هذه القرون، واستمر عزه كل تلك السنين.. ورأوا من أبناء الإسلام غفلة عن كتاب ربهم وسنة رسوله الذين كان بهما العز والنصر والغلب، فأمكنوا السيوف من رقابهم، وأعملوا الفساد في هذا الدين برجال أعدوهم لهذا، ودربوهم عليه من أبنائهم أولاً، ونشؤوا من أبناء المسلمين تلامذة لهم، يقولون ويعتقدون مثل ما يعتقدون، فحارب الإسلام أبناؤه، وطعن الكتاب والسنة ورائهما. وليس لهذه الفتن الماحقة إلا رجال ينشؤون على الطراز الأول والمنهاج الأنف الذي كان به العز والسيادة والنصر والتمكين. ورحم الله مالكاً إذ يقول: "لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". رجال يعلمون الكتاب كما أنزل، والسنة كما بلغت؛ حسب الأصول والقواعد التي وضعها علماء السلف؛ جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، ويقفون بعد ذلك

في وجه هذا الباطل الزائف الذي ملأ الأرض شراً أو كاد. والله غالب على أمره، وقد شاء أن تظل طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ظاهرة إلى قيام الساعة. وهذه الرسالة الموجزة المختصرة بيان واضح للأصول التي ابتنى عليها مذهب علماء السلف في فهمهم للكتاب والسنة والعمل بهما، أردنا بها توضيح الطريق لسالكها؛ حتى لا تختلط الدروب، ويعمى على الناس الطريق المستقيم من الطرق المعوجة الهالكة. والله أسأل أن ينفع بهذا البيان ما بقيت الدنيا؛ إنه سميع مجيب، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. عبد الرحمن عبد الخالق الكويت ربيع الثاني 1395 هـ

الباب الثاني الأصول العلمية للدعوة السلفية

الباب الثاني الأصول العلمية للدعوة السلفية أولاً: التوحيد الأصل الأول من أصول الدعوة السلفية هو التوحيد. ولا يعني هذا الأصل ما يؤمن به وما يفهمه كثير من الناس من معنى التوحيد، وهو أنه لا خالق إلا الله، بل يفهم السلفي ويعلم من معاني التوحيد أصولاً عظيمة، وقضايا كبيرة، الإخلال بقضية منها إشراك بالله تعالى، أو إلحاد في أسمائه. وكثير من المسلمين يجهل كثيراً من هذه الأصول والقضايا، فيقع في الشرك، ويظن نفسه مؤمناً موحداً، والحال أنه إما أن يكون ملحداً في صفات الله وأسمائه مؤمناً بها على وجه آخر، أو مشركاً عابداً لغير الله سبحانه وتعالى. وأصول التوحيد في المعتقد السلفي كما يلي: أولاً: الإيمان بصفات الله سبحانه وأسمائه على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى دون تحريف أو تأويل. فالله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه في آيات كثيرة جداً، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة جداً، مدونة في كتب السنة؛ كالبخاري، ومسلم، و "مسند" الأمام أحمد، وغير ذلك؛ مما هو صحيح ثابت حسب قواعد أهل مصطلح الحديث. وما أخبرنا الله بذلك عن نفسه؛ إلا لنصدق ونؤمن. بل الأيمان

بصفات الله سبحانه وتعالى هو أكبر قضية من قضايا العبادة والأيمان؛ كما جاء في الحديث: أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا صفة الله سبحانه وتعالى. والمحرفون المؤولون عمدوا إلى هذه الآيات، فحجبوا نورها عن المسلمين: فإما أن يقولوا: هي آيات متشابهة، لا نخوض في معناها، ونؤمن بها كما جاءت؛ يعنون: أنه لا يجوز للمؤمن أن يفهم من معناها شيئاً، فيكون عند ذلك {وجاء ربك والملك صفا صفا} ، كقوله تعالى: {الم} ، {كهيعص} ، فكما أننا لا نفهم معنى محددا من هذه الحروف المقطعة؛ فآيات الصفات عندهم كذلك. وبذلك حجبوا نور هذه الآيات أن ينفذ إلى قلوب المؤمنين، وأن يستشعر المسلم عظمة الله كما يليق بجلاله وعلو شأنه وذاته. وبذلك فرغوا التوحيد من أعظم قضاياه، وهو الإيمان بصفات الله جل وعلا. وهل الإيمان إلا امتلاء القلب بنور صفات الله وإشراقه بمعرفة إلهه ومولاه؟! ومع ذلك؛ فقد زعموا -وخاب زعمهم- أن هذا الإيمان الأبله هو معتقد السلف، وحاشاهم، بل هم آمنوا بآيات الصفات وفق معناها الذي نزلت به باللغة العربية، مؤمنين أن الله جلت قدرته وعظمته لا يقدر قدره على الحقيقة إلا هو سبحانه وتعالى. وإما أن هؤلاء المؤولين يعمدون إلى آيات الصفات، فيحرفونها؛ زاعمين أنه تأويل! فيؤولون مجيء الله يوم القيامة بمجيء أمره، واستواءه على عرشه باستيلائه عليه، ويده بقدرته، ووجهه

سبحانه وتعالى بذاته.. ولا يؤمنون بذات فوق العرش، وإنما يقولون: ليس ثم عرش، وإنما العرش الملك، وليس لله مكان، فليس هو في مكان، بل إما أن يقولوا: لا مكان له في شيء من العالم، بل ولا خارجه. ولذلك لا يجوز عندهم أن يقول مؤمن: ربي في السماء. فإنهم يبدعونه، وقد يكفرونه. ويأتون إلى الأحاديث التي تذكر فيه صفة الله؛ كـ[ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة] ، فيسبون من يصدق ذلك بأقبح السباب، ويقولون: بل تنزل رحمته، وأما هو سبحانه وتعالى؛ فلا ينزل ولا يصعد؛ لأنه ليس فوق العرش شيء، بل ما ثم هناك عرش. وينفون عن الله سبحانه وتعالى كلامه، ويزعمون أن الله إذا أراد أن يكلم أحداً؛ خلق فيه الفهم لمراده، فيكون كلام الله عندهم؛ كالنفث في الروع، وبذلك يكذبون أحاديث البخاري التي جاء فيها أن الله يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كمن بعد؛ قائلاً: [أنا الملك! أين ملوك الأرض؟] (رواه البخاري) . وقد فصلنا هذه الأقوال والردود عليها بحمد الله في محاضرات التوحيد. والمهم هنا الإشارة إلى هذه الطوائف من المسلمين، الذين زعموا الهداية لأنفسهم، وهذا كذبهم على الله وافتراؤهم عليه. فإذا كان الله قد أنكر أشد الإنكار على من قال: إن الله حرم هذا،

ثانيا: إفراد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة.

ولم يحرمه الله؛ فكيف بمن وصف الله حسب هواء، فعمد إلى آياته فحرفها، وأحاديث رسوله فحجب نورها، وضلل المصدق المؤمن بها؟! وخلاصة هذا الأمر الأول: أن السلفي يؤمن بصفات الله وأسمائه سبحانه وتعالى؛ كما جاءت في كتابه، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت أخباراً متواترة، أو أخبار آحاد صحيحة. فخبر الآحاد الصحيح يوجب العلم والعمل؛ لأنهما سواء؛ فلا علم دون عمل، ولا عمل دون علم بل لا يجوز لمسلم أن يعمل عملاً ما من أعمال الدين إلا إذا ثبت عنده صدق المخبر به عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. وبذلك يفترق السلفي عن جمهور كثير يظنون أنفسهم موحدين لله، وما هم كذلك، وقد حرفوا صفات الله، ومنعوا الناس عن الإيمان بها والتصديق بمعانيها، أو بدلوا لهم معانيها وأمروهم أن يؤمنوا بها على نحو آخر. ثانياً: إفراد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة. وعندما نقول: إفراده بالعبادة؛ فلا نعني الصلاة والزكاة والصوم والحج فقط، بل نعني كل ما يندرج تحت هذه اللفظة من معانيها، وعلى رأس ذلك الدعاء. فالدعاء هو العبادة، فلا دعاء لغير الله كائناً من كان؛ رسولاً أو ولياً حقاً أو ولياً مزعوماً. ويأتي بعد الدعاء: السجود، وأنواع من الحب، والتعظيم، والخشية، والخوف، وكذلك الذبح والنذر،

والرغبة. وكل هذه الأمور من حق الله سبحانه وتعالى، وقد صرفها كلها أو بعضها كثير من الناس لغير الله، ويكفيك زيارة واحدة لقبر من القبور المشيدة حتى تشاهد كل ذلك الطلب الصريح من صاحب القبر بكل ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ كشفاء المرضى والانتصار من الأعداء، والشفاعة عند الله، والمدد، وإعطاء الأولاد، وخير الدنيا.. وبالجملة؛ فإنه يطلب من هؤلاء الأموات خيري الدنيا والآخرة، وهذا شرك أكبر، مخرج من ملة الإسلام. ويفعل هذا طوائف كثيرة ينسبون إلى الإسلام! ولا يكتفون بالدعاء، بل ويذبحون لهؤلاء تقربا؛ كما كانت الجاهلية تفعل عند طواغيتها، وينذرون لهم، بل ويطوفون بالقبور كما يطاف بالكعبة، ويسجدون عندها كما يسجد لله، وليس هناك شرك أكبر من هذا. وهذه الأمور لا يصنعها عوام الناس وجهلاؤهم فقط، بل ويصنعها كثيرون ممن يزعمون العلم الشرعي، ويحملون فيه شهادات عريضة، وكذلك من يزعمون التقوى والصلاح من أهل الطرق الصوفية والمناهج العبادية المبتدعة، ولا تجد دينهم ينبني إلا على تعظيم هذه القبور وبنائها وإسراجها ودعوة الناس إلى الذبح لها والنذر لها ودعائها من دون الله عز وجل، بل والطواف بها. وقد أصبح الله عند هؤلاء نسياً منسياً؛ لا يدعى ولا يرجى إلا بواسطة هذه القبور والأضرحة، ويظنون بعد ذلك أنهم مسلمون، وما هم بمسلمين، وقد شابهوا المشركين الذين عبدوا غير الله وقالوا: {ما نعبدهم

ثالثا: الإيمان بأن لله وحده سبحانه وتعالى وليس لأحد سواء حق التشريع للبشر في شؤون دنياهم.

إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) . والدعوة السلفية تجعل نصب عينها تطهير معتقد الناس من هذا الشرك الظاهر الجلي، الذي لا يماري فيه إلا مشرك، ولا يكابر فيه أو يدافع عنه إلا مطموس القلب، بعيد عن نور التوحيد والإيمان. ثالثاً: الإيمان بأن لله وحده سبحانه وتعالى وليس لأحد سواء حق التشريع للبشر في شؤون دنياهم. كما قال جل وعلا: {والله يحكم لا معقب لحكمه} (الرعد: 41) . وكما قال سبحانه: {إن الحكم إلا لله} (الأنعام: 57) . فالتشريع حق للرب جل وعلا؛ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين والمنهج والطريق والصبغة هو ما شرعه الرب جل وعلا. واعتداء سلاطين الأرض وملوكها ورؤسائها على شرعة الله؛ بتحليل ما حرم، وتحريم ما أحل: عدوان على التوحيد، وشرك بالله، ومنازعة له في حقه وسلطانه جل وعلا. وأكثر سلاطين الأرض اليوم وزعماؤها قد تجرؤوا على هذا الحق، وتجرؤوا على الخالق الملك سبحانه وتعالى، فأحلوا ما حرم، وحرموا ما أحل، وشرعوا للناس بغير شرعه؛ زاعمين تارة أن تشريعه لا يوافق العصر والزمن، وتارة أنه لا يحقق العدل والمساواة والحرية، وأخرى بأنه لا يحقق العزة والسيادة. والشهادة لهؤلاء الظالمين بالإيمان عدوان على الإيمان وكفر بالله سبحانه وتعالى. ونأسف إن قلنا: إن سواداً كبيراً من الناس قد أطاعوا كبراءهم فيما شرعوا لهم

رابعا: نؤمن في المنهج السلفي أن قضايا التوحيد الثلاثة السالفة قضايا لا تتجزأ ولا تقبل المساومة؛ لأنها أركان في فهم العقيدة السليمة وفي معنى لا إله إلا الله.

من شرع مخالف لشرعه سبحانه وتعالى، وكثير من هذا السواد يصلي ويصوم -مع ذلك- ويزعم أنه من المسلمين. والدعوة السلفية جهاد بكل معاني الجهاد؛ لرد الحق إلى نصابه، وجعل الدين لله وحده، وتخليص الأمة من هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي استشرى فيها، وذلك لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا تكون كذلك في واقع الناس؛ إلا إذا كان الحكم لله وحده، والتشريع لله وحده؛ وفق ما جاء في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووفق ما يجتهد فيه أئمة العصر من المسلمين؛ ليتوصلوا باجتهادهم إلى ما يرضي ربهم، ويوافق شرعته. وتخليص الأمة من هذا الشرك بالبيان والدعوة والجهاد واجب؛ لأن هذه القضية إحدى قضايا المعتقد السلفي. رابعاً: نؤمن في المنهج السلفي أن قضايا التوحيد الثلاثة السالفة قضايا لا تتجزأ ولا تقبل المساومة؛ لأنها أركان في فهم العقيدة السليمة وفي معنى لا إله إلا الله. فمن آمن بإله واحد؛ يجب أن يعتقد أنه هو الموصوف سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب الإيمان به وفق هذه الصفات. وكذلك يجب دعاؤه سبحانه وتعالى وحده، وإفراده بسائر أصناف العبادة؛ من ذبح، ونذر، وخوف، وخشية، وإنابة، وتوكل، وحلف، وتعظيم، وتطهير القلب مما يخدش هذا التوحيد أو يلغيه. وكذلك يجب الإيمان والعمل لتكون كلمته وشرعه هو الأعلى وهو المحكم في حياة الناس جميعها؛ فلا دين إلا

ما شرع، ولا طاعة إلا لله أو ما يقتضي أن تكون طاعة الله؛ أعني: لا طاعة لمخلوق إلا بما يوفق طاعته سبحانه، فإن خالف طاعته؛ فلا طاعة. والمنهج السلفي يأخذ هذه القضايا جملة، ويطهر قلوب أتباعه من الشرك فيها جميعاً؛ لأننا نعتقد أن من مات وهو يدعو غير الله؛ لم يكن من أهل الجنة، ونعتقد أيضا أن بعض التحريف لمعاني الصفات والأسماء؛ شرك بالله وكفر به، وإن كان بعضه لا يبلغ ذلك، ونعتقد كذلك أن من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر، ومن اعتقد أن لأحد من البشر أن يشرع للناس في شؤون معاشهم ودنياهم دون الرجوع إلى شرع الله والالتزام به والسير بمقتضاه؛ فقد عبد غير الله وأشرك به شركاً جلياً؛ كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} (النساء: 65) . هذه القضايا الثلاث السالفة هي الأركان التي يقوم عليها الأصل الأول من الأصول العلمية للدعوة السلفية. إنها قضايا التوحيد الثلاثة التي إذا اختل شرط منها؛ اختل أصل التوحيد. وهذا الأصل هو بمثابة المدخل للمعتقد السلفي؛ لأن التوحيد هو

وقد يسأل سائل: لماذا تهتمون بالتوحيد هكذا وتجعلونه الأصل الأول من أصول الدعوة السلفي؟

أهم قضايا الدين، بل رأسه، وبدونه لا يكون المسلم مسلماً. وتحت القضايا السالفة توجد كثير من الفرعيات والتفصيلات، قد بينا بعضها في مواضع أخرى، وقد فصلها علماء السلف عبر القرون في كتبهم. والسائر في المنهج السلفي يجعل نصب عينه دائما تعلم هذه الفرعيات؛ تكميلاً لتوحيده، وتثبيتاً لإيمانه. وبهذا الأصل يفترق المنهج السلفي عن كثير من مناهج الإصلاح المنسوبة للإسلام، التي لا تدخل هذه القضايا في حسبانها، ولذلك نجد أن كثيرا منهم يفنون أعمارهم في قضايا فرعية عملية، وفي خلافات جزئية، وينسون أصل الدين الأصيل، وهو التوحيد الخالص الذي ما جاء الشرع إلا لأجله. وأمثال هؤلاء لا يعنون من الشرك إلا عبادة المسيح والأصنام، وأما تلك الصور التي عرضناها عليك آنفاً؛ فإنهم لا ينكرونها، بل يباركونها ويوافقون أصحابها، وإن حصل لها عند بعضهم إنكار؛ فإنما هو كإنكار بدعة يسيرة لا تضر عندهم بالدين، والحال أنها أصل من أصول التوحيد، وتفويتها قدح في العقيدة والإسلام. وقد يسأل سائل: لماذا تهتمون بالتوحيد هكذا وتجعلونه الأصل الأول من أصول الدعوة السلفي؟ والجواب على هذا السؤال يأتيك مفصلا بحمد الله في الباب الأخير من هذه الرسالة: (السلفية دعوة التوحيد) .

ثانيا: الاتباع

ثانياً: الاتباع بعد أن يعلم السائر في المنهج السلفي توحيد الله سبحانه وتعالى حسب أركانه السالفة؛ فإنه يتوجب عليه إفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالاتباع، وذلك تحقيقاً لقوله: "أشهد أن محمداً رسول الله". وهذه الشهادة لا تكون كاملة إلا بالأمور الآتية: أولا: أن يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول مبلغ عن ربه جل وعلا، وأنه قد جاء بوحيين: الأول كتاب الله القرآن. الثاني: سنته صلى الله عليه وسلم. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه] (رواه أبو داود وغيره بسند صحيح) . فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل كلام الله تعالى؛ سواء في الاعتقاد والعمل والقبول؛ لأن هذا وهذا من الله سبحانه وتعالى، والرسول لا يأمر ولا ينهى ولا يحرم ولا يحل في أمور الدين بشيء من عند نفسه، بل بأمر الله سبحانه وتعالى، ولا يخبر بشيء من الغيب إلا بوحي منه جل وعلا؛ كما قال سبحانه وتعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة: 44-47) . وإذا كان أمر السنة كذلك؛ فإنه يشملها جميع أحكام التكليف؛ من: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، ويكون من رد

ثانيا: الدين هو المنهج والطريق والحكم والصبغة العامة، وليس هو التقرب فقط؛ كالمفهوم الشائع بين الناس اليوم.

الثابت الصحيح منها؛ كمن رد القرآن. ثانياً: الدين هو المنهج والطريق والحكم والصبغة العامة، وليس هو التقرب فقط؛ كالمفهوم الشائع بين الناس اليوم. ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع بأمر الله لجميع شؤون الحياة التي له فيها أمر ونهي وحكم، وليس للطاعات والقربات فقط؛ فمعصية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شؤون البيع والتجارة والزواج والطلاق والحكم والسياسة والحدود؛ كمعصيته في شؤون العبادة؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها. ثالثاً: للأمرين السابقين تصبح منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة المطلقة لا تدانيها منزلة لأحد من البشر. ولذلك، فلا يقبل قول أحد؛ سواء كان: إماماً فقيهاً، أو زعيماً سياسياً، أو مفكراً أو مصلحاً؛ يخالف قولاً للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قدم قولاً لأحد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أساء وتعدى وظلم وخالف إجماع الأمة وكتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعاً: لا تكمل هذه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا بكمال الحب له. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده والناس أجمعين] (متفق عليه) . ومما يعين على هذا الحب: التزام أمره دائماً، والمسارعة في طاعته، وتقديم قوله على كل قول، وتذكر مواقفه ومشاهده، ومدارسة سنته وسيرته

1- القول بجواز التقليد:

صلوات الله وسلامه عليه. ومما يؤسف له في أوساط المسلمين اليوم أنه قد ضعفت هذه المتابعة، وخبا ذلك الحب للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك للأسباب الآتية: 1- القول بجواز التقليد: وذلك بعد تدوين الفروع الفقهية لكل مذهب من المذاهب الفقهية، والإفتاء بالعمل بهذه الفروع الفقهية مطلقاً، سواء كانت موافقة أو مخالفة للحديث الصحيح، بل والإفتاء بأنها جميعاً صواب، وإن كانت مختلفة متناقضة. وقد أدى هذا إلى الركون إلى كل قول ينسب إلى الفقه، والقعود عن طلب الدليل من القرآن والسنة، وبذلك ضعف العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى وبالأحاديث الصحيحة. 2- الإفتاء بغير علم ودليل: أ) بعد الإفتاء بأن كل رأي فقهي في مذهب ما صواب؛ أفتى المفتون كل مستفت بما يناسبه من قول منسوب إلى الفقه، بل بحث بعضهم على ما سماه بالأيسر من كل مذهب في كل مسألة فأفتى به. وناهيك بما في هذا من توهين العمل بالشريعة، بل بزوالها، إذ ما من مذهب إلا وله كثير من الأقوال المتساهلة جداً، التي جاء

3- توعير طريق دراسة القرآن والسنة:

القرآن والحديث بخلافها، وليست هذه الرسالة مجالاً لبيان ذلك. بل وتساهل بعض الناس أكثر من هذا، فأفتى بأي قول يصدر عن عالم ما! وقد علم القاصي والداني ما أفتى به كثير من العلماء المحدثين في شأن الربا والخمر وملابس النساء وحقوقهن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولو جمعنا الفتاوى الباطلة في هذه وغيرها، لخرجنا بأكثر من مجلد فيه ما يهدم الإسلام جملة وتفصيلاً. ب) لم يقف الأمر بالفتاوى الباطلة وبأن كل قول صواب عند الإفتاء في أمور الشريعة، بل تعدى ذلك إلى العقائد والغيبيات، فوقعت أيضاً تحت الرأي والظن، وبذلك نفى كثير من العلماء الأحاديث الصحيحة في أمور كثيرة من أمور العقائد، وقالوا بالرأي والظن والاجتهاد في أمور العقيدة والغيب التي لا اجتهاد فيها، وجاروا آراء العصر الصادرة عن غير المسلمين. 3- توعير طريق دراسة القرآن والسنة: وذلك بالتخويف والتحذير الذي لا نفتأ نسمعه من كل ناعق: أن دراسة القرآن والسنة والتلقي منهما ضلال (راجع كتاب "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران" للقاضي أحمد بن حنبل حجر آل بن علي) !! وأنه يجب أولا عرض الآيات والأحاديث على أقوال الأئمة والفقهاء!! وكأن الأصل قد أصبح أقوال الناس لا قول الله ورسوله.

4- إيقاف العمل بالشريعة في كثير من نواحي الحياة.

وبهذا التخويف والتحذير وعَّر هؤلاء طريق الفهم السليم للكتاب والسنة، وصدوا عن سبيل الله بعلم أو بغير علم، وجعلوها معوجة للسالكين فيها. وقد خالفوا بذلك كتاب الله الذي يأمر باتباع الدليل مطلقاً، وبالبصيرة أبداً، وينهى عن التقليد والسير على منهاج الآباء والأجداد دون دليل وبرهان، وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم الآمر بتبليغ حديثه مما نطق به صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: [نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها] . وقوله: [وبلغوا عني ولو آية] . 4- إيقاف العمل بالشريعة في كثير من نواحي الحياة. لا يشك مسلم يفهم الإسلام في الوقت الحاضر أن الشريعة الإسلامية قد أقصيت إلا قليلاً عن مجالات حياة المسلمين، وذلك في شؤون كثيرة؛ كالحكم، والسياسة، وكثير من المعاملات، والحدود، والتربية، والاجتماع، والآداب العامة. وكان لهذا أسباب كثيرة؛ كغلبة الكفار على أرض الإسلام وغرس أفكارهم وتقاليدهم وعاداتهم في بلاد الإسلام. وكان من ذلك أيضاً مما نحن بصدده: جمود حركة الاجتهاد الفقهي، وذلك بالوقوف فقط عند ما دونه أئمة الفقه في عصور قديمة استحدثت بعدها كثير من الأقضيات والحوادث في شتى شئون

الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان لابد من حركة فقهية تحكم هذه الأمور؛ لتعطي المسلم الحركة الصحيحة بإسلامه في المجتمع الذي يعيش فيه. ولكن هذا الجمود في الفقه وانفصال السلطة السياسية عن المنهج الإسلامي أدى إلى شل حركة المسلمين، وجعلهم حيارى بين ما يأخذون وما يدعون فيما جدَّ من أمورهم، وكانت الغلبة بالطبع للتيار القوي الذي تقوم عليه أجهزة الحكم وتوجهه أجهزة الإعلام المسخرة للسلطة السياسية. وكان لهذا كله آثاره في انطماس طريق الإسلام وشريعته، وغياب المعنى الحقيقي لشهادة المسلم: أشهد أن محمداً رسول الله. والمنهج السلفي لفهم الإسلام والعمل به يضع نصب عينه تذليل هذه العقبات التي حالت بين الناس ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن ينادي دائماً بالقول بتحريم التقليد، ويوجب على كل مسلم السؤال عن القول بدليله من الكتاب والسنة. ولا يعنى هذا أننا نوجب على كل أحد أن يكون مجتهداً، لا؛ إنما نأمر كل أحد بأن يكون متبعاً للدليل، باحثاً عن الحجة من كتاب ربه أو سنة نبيه. وبذلك تتوحد صفوف الأمة، وينمو فيها معرفة الكتاب والسنة، وتزكو فيها الروح العلمية والمسامحة الأخوية، ولا يستطيع مضل أن يضلها بسهولة؛ لأن ميزان الكتاب والسنة سيكون منصوباً لكل مفت ومتحدث في الدين، وبذلك أيضا يعظم عند المسلمين شأن الرسول

صلى الله عليه وسلم، وتعظم شأن متابعته. وكذلك نلجم الألسنة التي تفتي دائماً بغير دليل عندما تعلم أن الناس لا يقبلون قولاً إلا بدليل وحجة، فإذا قال رأيه للناس؛ قال: هذا حكم الشارع؛ طالبه الناس بدليله من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. وبالأمرين السابقين وغيرهما يفتح للناس ميدان جديد لدراسة جادة للقرآن والسنة، فتجدد حياة الأمة، ويشع نورها، وتتضح معالم الطريق أمامها، ولا يستطيع أي من الناس -مهما كان دوره- أن يضل الناس -إلا أن يشاء الله- وأن يقودهم خلفه كالسائمة. وإذا أحيينا فقه الكتاب والسنة على هذا النحو؛ استطعنا أن نوقف تيار العصر الإلحادي عند حده، وذلك أننا سنوقف الناس أمام مسؤولياتهم؛ فنحن نقدم لهم قول الله وقول رسوله لا قول فلان وفلان، فإن أذعنوا؛ فقد أسلموا، وإن جحدوا وأنكروا؛ فقد كفروا. وبذلك تتضح السبل، ويحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

ثالثا: التزكية

ثالثاً: التزكية التزكية إحدى المهمات التي من أجلها بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي غاية الرسالات وثمرتها. قال تعالى ممتناً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة: 2) . وقال أيضاً: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران: 164) . فالله امتن علينا في هاتين الآيتين ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم الذي من مهماته قراءة آيات الله، وهذه نعمة كبرى؛ إذ نسمع كلام الله على لسان بشر منا. ثم إنه يزكي هذه الأمة؛ بما يقرأ عليها، وبما يوحى إليه. ثم هو يخرج هذه الأمة من ظلمات الجهالة، وذلك بتعليم الكتاب والحكمة. والكتاب: القرآن. والحكمة: العلم النافع، الذي يضع من الإنسانية الأمور في نصابها. ولذلك؛ فالسنة من الحكمة، والكتاب قد جاء بالحكمة أيضاً. السؤال الآن: ما هي التزكية التي عرفنا آنفاً أنها إحدى وظائف النبي صلى الله عليه وسلم؟ التزكية للنفوس: تطهيرها، وتطبيبها، وتنقيتها من قبائحها؛

فالنفس الزكية: هي الطيبة الطاهرة البعيدة عن كل ما يدنس النفوس من غش وحقد وحسد وظلم وسخيمة. وهذا المعنى مأخوذ من قول العرب: (زكا الزرع: إذ نما وأينع) ، والرائحة الزكية: هي الطيبة. قال تعالى مبيناً افتراق النفوس في الزكاة: {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها} (الشمس: 7-10) . فالنفس الزكية: هي الطيبة الطاهرة النقية. وقد أقسم سبحانه وتعالى أن الفلاح منوط بتزكية النفس وتطهيرها، وذلك في سورة الشمس، بعد أحد عشر قسماً، وليس في القرآن أقسام متوالية بهذه الكثرة على حقيقة واحدة؛ إلا في هذه السورة. قال تعالى: {والشمس وضحاها* والقمر إذا تلاها* والنهار إذا جلاها* واليل إذا يغشاها* والسماء وما بناها* والأرض وما طحاها* ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها} (الشمس: 1-10) . وبين في آيات أخر أنه لا يدخل الجنة إلا من اتصف بهذه الزكاة والطيبة والطهر؛ كما قال تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر: 73) . والطيبة هنا هي سبب دخولهم الجنة، وهي ثمرة العبادة وغايتها،

والآن يأتي سؤال آخر، وهو: ما الوسائل التي شرعها الله سبحانه وتعالى وبينها رسوله للوصول إلى هذه الغاية؟ وبمعنى آخر: كيف تزكو النفس وتصبح طيبة؟ وما الذي صنعه الرسول حتى يقوم بهذا الواجب؟

وهي تزكية النفس التي جاء الرسول من أجلها صلوات الله وسلامه عليه. وبهذا البيان نصل إلى حقيقتين: أولهما: أن التزكية إحدى مهمات النبي صلى الله عليه وسلم وغاية من غايات رسالته، بل سنعلم أنها غاية الرسالة والوجود الإنساني كله. والثانية: أنها السبب في دخول الجنة، بل هي الصفة الواجبة التي من لم يتصف بها؛ لم يكن من أهل الجنة. والآن يأتي سؤال آخر، وهو: ما الوسائل التي شرعها الله سبحانه وتعالى وبينها رسوله للوصول إلى هذه الغاية؟ وبمعنى آخر: كيف تزكو النفس وتصبح طيبة؟ وما الذي صنعه الرسول حتى يقوم بهذا الواجب؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نستعرض شرائع الإسلام كلها ونستقرئها جميعاً -سواء كانت عقائد أو عبادات أو معاملات- وننظر ارتباط هذا بالتزكية والتطهير. وسنتبين بهذا الاستقراء أنه ليس للتزكية أعمال خاصة من مجموع أعمال الدين وعقائده، بل جميع شرائع الإسلام وعقائده وآدابه إنما هي أعمال غايتها ونهايتها التزكية والتطهير. ما دمنا عرفنا أن الزكاة هي الطيبة والطهر والبعد عن الدنس: فالتوحيد تزكية؛ لأنه اعتراف وإقرار بالإله الواحد الذي لا رب غيره، وهذا الاعتراف والشهادة تزكية؛ لأن الاعتراف بالحق فضيلة، وجحده وإنكاره رذيلة، وأي رذيلة؟! وليس هناك حق أكبر من الله ولا أجلى وأظهر منه عند كل ذي لب وعقل، وإنكار

الله وجحده والشرك به أكبر الرذائل والتدسية، ولذلك قال تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: 28) . وذلك لنجاسة قلوبهم ونفوسهم بما تلبسوا به من شرك وجحود ونكران لصفات الله سبحانه وتعالى، وليست نجاستهم لما على أبدانهم من نجاستهم؛ فقد يتطهر كثير منهم ظاهراً، ولكن؛ ما دام أحدهم متلبساً بالشرك والكفر؛ فهو متلبس بالنجاسة المعنوية المدنسة للنفس والشعور. والعبادات كلها -مالية أو بدنية- ما هي إلا عمليات تزكية؛ لأنها تربط القلب الخالق سبحانه وتعالى، وتذكره به، وبذلك تحصل التقوى للقلب، ومن اتقى وخاف ربه؛ ابتعد عن المحرمات، والمحرمات قاذورات، وفعل الخير طيبة وإحسان وبر وعدل. ولذلك كانت الصلاة على رأس هذه الأعمال؛ لأنها من أنجع الوسائل للوصول إلى هذه التزكية، فتكررها في اليوم والليلة، وذكر الله فيها، وحركاتها تصل القلب حقيقة بالله. قال تعالى: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45) . وذلك لأنها تربي الواعظ وتورث التقوى. ولذلك أفتى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله بأن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة، وذلك من عظيم فقهه؛ فقد رأى أن قيام المصلي وقعوده وذكره لربه في أرض اغتصبها يدل على كذبه وزوره وبهتانه ونجاسة قلبه؛ لأن هذا لو كان ذاكراً لله حقيقة؛ لما أمسك هذه الأرض التي اغتصبها، بل لأنخلع عنها وردها إلى أصحابها.

ولذلك أيضاً لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امرأة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها؟ قال: [هي من أهل النار] (والحديث رواه أبو هريرة؛ قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا خير فيها، هي من أهل النار] . قال: فلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأتوار الأقط، ولا تؤذي أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هي من أهل الجنة] "الأحاديث الصحيحة (رقم 190) " وقال الشيخ ناصر الدين: "إسناده صحيح. رواه: البخاري في "الأدب المفرد"، وابن حبان، والحاكم، وأحمد") . والحكمة في هذا ظاهرة؛ إذ لو كانت هذه المرأة مصلية صائمة حقاً؛ لامتنعت عما يدنس النفس أقبح تدنيس، وهو إيذاء الجار. ولذلك أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] (رواه البخاري) . وذلك أن الصائم الذي راقب الله -بزعمه- في تركه للطعام والشراب، ولم يستطع أن يراقبه في قول الزور والعمل بالزور: مبطلٌ في ادعاء خوف الله وتقواه، مبطلٌ لثمرة العبادة وغايتها وثمرة الصوم وغايته. ولذلك لا يجوز لنا أن نفصل بين عبادات الإسلام وغايتها وثمرتها، فنظن أن أعمال القربات مقصودة لذواتها، وبذلك نفرغ العبادة من ثمرتها وغايتها. بل قرن الله سبحانه وتعالى دائماً بين العمل والثمرة؛ كما قال عز وجل في الصوم: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183) . وقال تعالى عن غاية العبادة: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) . ففهم من هذا أن غاية العبادة كلها التقوى، وقد عبر الله هنا بـ {لعل} التي تفيد الترجي، والله لا يرجو شيئاً؛ لأنه ما شاء كان سبحانه وتعالى، ولكن الرجاء هنا بالنظر للعابد؛ لأنه ليس كل مؤد لهذه العبادة متقياً، بل المنافقون يؤدون الطاعات والعبادات ظاهراً وهم كافرون جاحدون. ونفهم من هذا أيضاً أن

من لم تحصل له هذه التقوى مع أدائه للعبادة؛ كان غاشاً في عبادته، مبطلاً فيها. فمن شأن العابد أن يكون تقياً خائفاً من ربه محسناً، وهذه التزكية والطيبة والطهر، والعبادة قد وضعت لذلك، ولا يكون المرء طيباً طاهراً بغير العبادة؛ أن الطاعة من التزكية، فطاعة الله الذي له الفضل علينا والمنة والنعمة هي أول صور المعروف والإحسان والاعتراف، ولذلك لا يتصور زكاة وطهر بغير طاعة أمر الله واجتناب نواهيه. وقد تكرر معنى "العبادة للتقوى" في آيات كثيرة من القرآن: كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ ياأولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة: 179) . وكقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام: 153) . وبهذا نصل إلى هذا المعنى الثالث من معاني التزكية، وهي أن شرائع الإسلام كلها؛ من: توحيد، وعبادة، وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وبر الوالدين، وصلة أرحام، ونهي عن الفواحش والمنكرات، ومعاملات تحقق العدل والإحسان؛ ما كل ذلك إلا لتحقيق هذه التزكية. وهذه الأوامر والنواهي: إما أن تكون هي بذاتها من أركان هذه التزكية ولوازمها، وإما أن تكون مما يورث هذه التزكية ويؤدى إليها. ومما يدلُّك على هذا المعنى جليا، بحيث لا يترك لنفسك فيه شبهة: أن تعلم أن الله وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4) . ولقد كان هذا الخلق متمثلاً في العمل بكتاب الله، الذي تضمن كل أنواع التزكية؛ كما جاء في "صحيح البخاري": أن سعد بن

هشام سأل السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: [كان خلقه القرآن] . ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق] (الأحاديث الصحيحة (رقم 45) ، وقال الشيخ ناصر الدين: "رواه البخاري في: الأدب المفرد"، وابن سعد في "الطبقات"، والحاكم، وأحمد، وابن عساكر") . وحصر الرسول رسالته في هذا يعطيك الدليل الكامل على أن رسالة الإسلام كلها رسالة للتزكية والتطهير. إذا علمنا أن الإسلام دين تزكية وتطهير، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا لهذا؛ فيجب علينا أن نعلم أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قد أتم هذه التزكية منهجاً وعملاً. لأن الله أتم دينه ونعمته على رسوله والمؤمنين؛ كما قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة: 3) ومعنى هذا أنه لا يجوز الإحداث فيها؛ كما هو الشأن في جميع شؤون التقرب. وذلك أن الإحداث في العبادة يؤدي إلى الفساد والانحلال؛ فضلاً عن أنه مرفوض غير مقبول عند الله سبحانه وتعالى. وقد رأينا كيف انفتح هذا الباب على المسلمين، فدخل منه شر مستطير وبلاء عظيم؛ فمناهج إصلاح النفس والتربية التي اندرجت تحت اسم التصوف قد جمعت في طياتها بلاء لا حصر له ولا حد، وامتد الفساد من حقل التربية والأخلاق والتعبد إلى وضع الحديث وإفساد العقيدة وتحطيم الشرع الذي سموه بالظاهر، وفتح الباب للخرافات والخزعبلات والترهات، ثم وقوع الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى، ثم الفلسفات الهالكة؛ كالقول بوحدة الوجود

والمنهج السلفي يقوم بين المنهجين السابقين:

والحلول وغير ذلك من عقائد الفرس والهنادك، ثم إسقاط التكليف جملة، والقول في القضاء والقدر بمراد الله مطلقاً، حيث جعل المطيع والعاصي سواء، بل فضَّل العاصي على الطائع.. وقد فصلنا هذا الفكر بحمد الله في كتابنا "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة". وفي مقابل هذا الفكر الصوفي قام الجمود الفقهي الذي جعل النصوص حرفيات مرادة لذاتها، وظواهر لا معنى وراءها، وخاصة بعد أن صُبَّت أحكام الكتاب والسنة في قوالب من صنع البشر، أشبه بقوالب التقنين. وبعد أن بعد الناس عن المصدر الأصيل -كتاب الله وسنة رسوله-؛ تعاملوا مع هذه القوالب الكلامية البشرية، ولم يشعروا تجاهها بتلك الرهبة والتقديس؛ كما يكون التعامل مع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سهل عليهم التحايل على هذه القوالب، فأحلت معاملات كثيرة: ظاهرها العقد الشرعي، وباطنها الحرام، ومن ذلك: بيوع العينة، ونكاح المحلل، والربا في صور البيع، والزنى بصورة الهبة دون ولي وإشهاد. ثم توسع الناس في اتباع الأقوال والآراء، فأصبح كل قول في الدين حجة ما دام أنه لشيخ ما أو لعالم ما، وبذلك ضعف الوازع، وانهدم ركن الأخلاق، وفسدت مناهج التزكية التي ما جاء الإسلام إلا لأجلها. والمنهج السلفي يقوم بين المنهجين السابقين: منهج التصوف ومنهج الظاهر الفقهي، فيحل التزكية محلها من دين الله سبحانه

وتعالى، فيجعلها غاية للمسلم؛ يسعى إليها ويتخذ لها الوسائل المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة؛ فلا تزكية بغيرهما، ولا تزكية دونهما أبداً. وبذلك يبطل في هذا المنهج جميع الاجتهادات العبادية والسلوكية التي ابتدعت في المنهج الصوفي؛ من الانفراد في الخرائب والقبور، والعيش على طعام بعينه، والعزلة مدة محددة، وترك النظافة والتطهر، وترك الكلام، والجلوس في الشمس، وتعذيب النفس بشيء لم يأت به الشارع، وقراءة الأذكار المبتدعة، والرقص والغناء والسماع الشيطاني الذي أصبح من لوازم الطرق الصوفي. وكذلك يبطل المنهج السلفي هذا السعي الضال وراء ما يسمى بالفتوحات والكشوف، التي ما هي إلا وساوس شيطانية وأفكار فلسفية إلحادية، كشفنا زيفها في كتابنا الآنف؛ فارجع إليه؛ لتقف على هذه الحقائق العجيبة. ويبطل في المنهج السلفي هذه الظاهرية الجامدة التي تتعامل مع نص وتنسى أهدافه وغاياته، وهذا الفقه الأعوج الذي جعل كل قول في الدين حجة، وكل فتوى -لا دليل عليها- حكماً شرعياً، وبذلك استحلت الحرمات، وفسدت مناهج الإصلاح، وأظلمت النفوس، وخبا فيها نور الوحي السماوي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والمنهج السلفي للإصلاح والتربية والسلوك والتزكية لا يجعل مثلاً أعلى في هذا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو أطهر البشر نفساً، وأعلاهم مقاماً، وأقومهم خلقاً وأرشدهم طريقة ومنهجاً؛ كما قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: [إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله: أنا] . ولذلك يجعل هذا المنهج السلفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلقه هي الأساس بعد كلام الله في التزكية والتطهير والاتباع. وكذلك يجعل سيرة الصحابة الأول ورجال الصدر الأول الذين تمثلوا القرآن والسنة قولاً وعملاً وخلقاً قدوة في التزكية؛ فهم المُثُل الحية لزكاة النفس وطهارتها، ولا يقاس بهم من بعدهم أبداً؛ فهم خير القرون وأنفعها للمسلمين، ويأتي بعدهم التابعون بإحسان، والعلماء العاملون في كل عصر؛ وفق ذلك المنهج السلفي الذي شرحنا أصوله آنفاً. فالعلماء الذين اتبعوا منهج الكتاب والسنة؛ توحيداً، واتباعاً، وتزكيةً، ولم يقعوا في الشرك الظاهر، أو التأويل الباطل، أو ظلال السلوك، وترهات التصوف: هم القدوة بعد الصحابة والتابعين. وبهذا يتحدد المنهج السلفي في التزكية. إنه امتثال حقيقي لا ظاهري صوري لكلام الله وكلام رسوله. ونعني بالامتثال الحقيقي: الذي يكون باطناً وظاهراً، حقيقة لا تصنعاً، إيماناً لا نفاقاً، وزكاةً وطهراً لا خبثاً ولؤماً، وطيبة يستحق المرء معها أن تسلم عليه ملائكة الله على باب الجنة: {طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر: 73) . فنسأل الله أن يجعلنا من أولئك الأبرار الصالحين.

الباب الثالث أهداف الدعوة السلفية

الباب الثالث أهداف الدعوة السلفية ليست الدعوة السلفية -كما أسلفنا القول- دعوة إلى شعبة من شعب الإيمان، ولا لقضية واحدة من قضايا الإسلام، وليست هي دعوة إصلاحية اجتماعية، ولا دعوة سياسية حزبية، وإنما هي دعوة الإسلام.. الإسلام بكل ما تعني هذه الكلمة من معاني العزة والسيادة والإصلاح والعدل والفلاح في الدنيا والآخرة. والإسلام دين الله للعالمين؛ فليس هو دين وطن بعينه، ولا شعب بالذات، وإنما هو دين الأرض كلها والناس جميعاً. ولذلك؛ فالدعوة السلفية كذلك ليست دعوة وطن بعينه، ولا شعب بعينه، وإنما هي المنهج المنضبط لفهم الإسلام والعمل به؛ كما أسلفنا هذا في تعريف هذه الدعوة. وينبني على القضية السابقة: أن أهداف الدعوة السلفية هي أهداف دعوة الإسلام، وذلك أنها ليست حزباً دينياً بمفهوم العصر، ولا حزباً سياسياً.. إنها منهج ودعوة وطريق لفهم الإسلام والعمل به. وها هي أهداف هذه الدعوة التي هي نفسها أهداف الدعوة الإسلامية: أولا: إيجاد المسلم الحقيقي: جاءت شريعة الإسلام أول ما جاءت لصناعة المسلم، إن صح هذا التعبير، وهو صحيح؛ لقوله تعالى لموسى: {ولتصنع على عيني} (طه: 39) .

فصناعة الرجال هي مهمة الدعوة الإسلامية.. الرجال بمفهوم الرجولة الكامل.. والإنسان بمفهوم الإنسان الكامل.. والمرأة المسلمة بالمفهوم الصحيح أيضا.. والمسلم الحق والمسلمة الحق يشترط فيهما هذه الشروط، وهي: التوحيد، والامتثال، والتزكية. المسلم الحق هو الذي يشهد لله بالوحدانية، ويمتثل أوامره، ويبتعد عن نواهيه ما استطاع، ويزكي نفسه بهذا الدين ما استطاع. ومناهج هذه التربية هي مناهج الدعوة السلفية التي أسلفنا فيها القول تحت عنوان: (الأصول العلمية للدعوة السلفية) . وإذا قلنا: المسلم الحق؛ فإنما نعني التفريق بين هذا الغثاء المنسوب للإسلام زوراً وبهتاناً وبين المسلم بمفهومه الصحيح الآنف. فالذين ينسبون إلى الإسلام، وهم يمارسون الشرك قولاً واعتقاداً، ويبدلون آيات الله ويحرفونها، ويتحاكمون إلى غير شرعه، ويعادون سنة نبيه، ويستهزئون بها؛ كل أولئك لا يجوز الحكم لأحد منهم بالإسلام. وقد فصلنا هذا بحمد الله تفصيلاً سهلاً موجزاً في كتابنا "الحد الفاصل بين الإيمان والكفر". والمهمة الأولى للدعوة السلفية هي مهمة التعليم والتربية والصناعة بعد التعريف والبيان بالمفهوم الحقيقي للإسلام. وهذه مهمة عظيمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم] (رواه البخاري) . فهداية فرد واحد للإسلام نعمة عظيمة وعمل جليل، أيا كان هذا الفرد: سيداً أو

ثانيا: المجتمع المسلم الذي تكون كلمة الله فيه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى:

عبداً، فقيراً أو غنياً، عاجزاً أو قوياً، وحسبنا أن الله سبحانه وتعالى عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انصرف عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى إلى سيد من سادات قريش؛ يدعوه، ويلح عليه؛ منصرفاً عن هذا الذي جاء يطلب الهداية. قال تعالى: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدربك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى} (عبس: 1-4) . يعني الله عز وجل هذا الأعمى. ثم قال: {أما من استغنى* فأنت له تصدى} (عبس: 5-6) . أي: هذا القرشي الذي رأى نفسه مستغنياً عن دعوة الله، فتتصدى أنت له؟! قال: {ما عليك ألا يزكى} (عبس: 7) . أي: ما يضيرك لو لم يتزك هذا المستكبر المستغني. ثم قال: {وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى} (عبس: 8-10) . أي: لا تفعل! لا تتلهى عن هذا الذي جاءك يخاف الله ويطلب مرضاته! ويعنينا الآن أن نفهم أن هذه المهمة الأولى والهدف الأول للدعوة الإسلامية هو مقصود الرب جل وعلا، وهو بذل الهداية؛ ليهتدي من يوفقهم الله، ويشرح صدورهم، أياً كان هؤلاء. ثانياً: المجتمع المسلم الذي تكون كلمة الله فيه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى: الهدف الثاني للدعوة السلفية هو إيجاد المجتمع المسلم الذي يقوم بتآلف تلك اللبنات التي ربيت على أساس الإسلام عقيدة ومنهجاً. وذلك أن لله أحكاماً في المعاملات، والحدود، والسياسات

العامة، والحكم؛ لا يمكن تطبيقها؛ إلا بأن يدين المجتمع بدين الله، ويذعن لشريعته. وكذلك لا يجد المسلم بالمفهوم الحقيقي لمعنى الإسلام متنفسه وراحته وأمنه وطمأنينته إلا في ظل مجتمع مسلم؛ يحكم بشرع الله، ويعظم حرماته، ويحي شعائره. ومنذ أن غلب الكفار على أرض الإسلام فمزقوها وأحلوا كفرهم وأنظمتهم وشرائعهم محل شريعة الله ونظامه، والمسلمون في جميع أمصارهم يعانون من هذا البلاء، ويحنون في شوق ولوعة إلى العيش في ظل نظام إسلامي صحيح، تشيع فيه المحبة بين الحاكم والمحكوم، وتختفي فيه المظالم، ويأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، وتسود فيه المحبة والإيثار والإخلاص، ويرجع به للمسلمين عزهم ومجدهم الغابر، ويرتفع به الظلم والحيف والفتنة الواقعة على المسلمين في أغلب البلاد. ولكن مناهج الدعوات للوصول إلى هذه الغاية قد تشعبت وتشتت، وكل منهج في الإصلاح والتربية يحتكر الوصول إلى الهدف وحده؛ غير مقدر للعقبات الهائلة التي وضعت في هذا السبيل. ومن هذه العقبات على طريق المثال لا الحصر: تلك الردة الجماعية الهائلة في الشعوب الإسلامية، وذلك بعد الصياغة الرهيبة التي صيغت بها عقول أبناء المسلمين، وذلك بالثقافة والقيم المنافية للإسلام، وقد ساعد على هذه الصياغة وسائل الإعلام الضخمة التي

تملكها أيدي غير إسلامية، ومناهج التعليم التي وضعت بأمر المستعمر وتخطيطه. أقول: لم يقدر أصحاب مناهج الإصلاح والدعوات الإسلامية ضخامة العبء الواقع في طريق إقامة مجتمع إسلامي، وتصوروا قيامه بين عشية وضحاها، وبجهود مئة فرد أو مئتين، أو ألف أو ألفين، ولم يدروا أن الأمر أصبح أعظم من هذا؛ إذ يحتاج إلى جهاد وصبر طويل وسنين طويلة؛ في التربية، والتعليم، ونشر الإسلام الصحيح، والتعاون الكامل بين جميع العاملين في حقل الدعوة إلى الله؛ طبقاً للأصول العلمية السلفية السابقة. ومما يحيرك في أمر تلك المناهج المشار إليها آنفاً أنهم عندما يتخيلون مجتمعاً إسلامياً وحكماً إسلامياً؛ فإنهم لا يجعلون الحكم العثماني مثلاً نموذجاً له، ولا يتواضعون فيرضون أن يكون على مثال الحكم العباسي، ولا يعجبهم أيضاً أن يكون على طراز أموي.. يريدون أن تكون خلافة راشدة.. وأيضا كحكم الشيخين أبي بكر عمر!! وهذا التصور حسن في ذاته، ولكن هؤلاء المتشدقين بالحكم الإسلامي، الزاعمين الدعوة إليه؛ لا تجد في أخلاقهم وأعمالهم وسلوكهم وعلمهم ما يؤهلهم أن يكونوا أفراداً من هذا المجتمع؛ فضلاً عن أن يكونوا مسؤولين عن إقامته؛ فالأثرة، وحب النفس، والشح، والخوف، والاستبداد، والتعصب للرأي المخالف، والمجادلة بالباطل؛ كل هذه أمراض بلوناها في كثير من هؤلاء المتشدقين، وهي أمراض يسيرة إذا قيست بما هو أعظم منها مما لا يحسن ذكرها

في هذه الخلاصة. والمهم أن أولئك الحالمين بالحكم الإسلامي المتشدقين به بعيدون بعد المشرق والمغرب عن أهدافهم التي يدعونها، فضلاً عن تعجلهم وجهلهم الفاضح بمجريات الأمور من حولهم، ولذلك تتبدد طاقتهم، وتذهب جهود العاملين معهم أدراج الرياح. ومما يجعل تلك المناهج بعيدة كل البعد عن أهدافها: عدم وضع أصول محددة لفهم الإسلام والعمل به. وبذلك يصطدم أفراد الدعوة بالاجتهاد الفردي الذي لا يحتكم إلى أصول واحدة، أو بالواقع المرير الذي تحياه أمة الإسلام، فيقع التمزق والضياع، أو اليأس ثم الانحراف. وقد ظهرت جماعات كثيرة، كثر أفرادها، ولكن سرعان ما تشتت وتمزقت وحدتها؛ لأن أصول فهم العقيدة والشريعة والعمل بالإسلام لم تكن واضحة محددة. والمنهج السلفي يراعي هذا كله؛ فيؤسس بنيانه على أصول ثابتة لفهم الكتاب والسنة وتوحيد الكلمة والوصول إلى الحق، ويربي أفراده تربية سليمة وفق الأصول العلمية السابقة: التوحيد، الاتباع، التزكية، ويراعي حاضر العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، والعقبات العظيمة التي وضعت في سبيل استئناف المسلمين لحياة إسلامية كاملة في ظل حكم إسلامي كامل، فيصلح ما استطاع، ويوحد جهود العاملين للإسلام ما أمكن، والملك كله بيد الله وحده. {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك

ثالثا: إقامة الحجة لله:

ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير} (آل عمران: 26) . ثالثا: إقامة الحجة لله: كان من أهداف بعثة الرسل أن ينذروا الكافرين والمعاندين حتى لا يكون لهم عذر عند الله يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبرهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمن وءاتينا داود زبوراً* ورسلاً قد قصصنهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً* رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً} (النساء: 163-165) . وأتباع الرسل يقومون بهذه المهمة بعد لحوق الرسل بربهم، وهي أن يبشروا الناس وينذروهم حتى لا يكون للمعاندين منهم حجة أمام الله يوم القيامة؛ كما قال سبحانه وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحن الله وما أنا من المشركين} . (يوسف: 108) . فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم خلفاؤه في مهماته -إلا النبوة والرسالة-؛ فجهاد الكافرين، وتنفيذ أحكام الله، والدعوة إليه، والتبشير، والإنذار؛ كل هذه من مهمات الرسل وأعمالهم، وهي واجبة أيضاً في حق أتباعهم والسائرين على منهاجهم. والمدعو إما أن يستجيب للدعوة، فيهتدي، فيتحقق بذلك

الهدف الأول من أهداف الدعوة، وهو بذلك الهدف الثالث للدعوة، وهو ما نحن بصدده الآن؛ أي: تقوم عليه الحجة، وينقطع عذره عند الله تبارك وتعالى. وفي هذا من الأمر ما فيه؛ لقوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء} (البقرة: 272) . وقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى: 48) . وقوله تعالى: {إنما أنت منذر} (الرعد: 7) . فعلم من هذا أن الأمر موكول بالدعوى ليس إلا، وأما الهداية؛ فإنها من فعل الله سبحانه وتعالى، والله يجريها على من شاء من عباده؛ توفيقاً وإحساناً، نسأل الله أن يجعلنا ممن يجري الخير على يديه؛ إنه هو السميع العليم. وخلاصة هذا الهدف من أهداف الدعوة هو أن الداعي إلى الله إن لم يتحقق هدفه الأول ويهتدي من يدعوه إلى الله تبارك وتعالى؛ فلا يظنن أن عمله قد ذهب سدى، بل قد أدى واجبه الحقيقي، وهو إقامة الحجة لله، وقطع عذر هذا المعاند أمام ربه يوم القيامة. وإقامة الحجة تكون في أصل الإسلام -وهو الشهادتين- كما تكون في أركانه. فمن أقر بالشهادتين، وادعى أنه ناج يوم القيامة؛ دون الصلاة؛ أقيمت عليه الحجة في ذلك بالآيات والأحاديث. وكذلك الشأن في أركان الإسلام م، بل وفي الواجبات والمحرمات عامة. فإقامة الحجة على مسلم معاند -وليس من شأن المسلم أن يعاند في ترك واجب أو فعل حرام- واجبه أيضاً؛ لأنها من الدعوة إلى دين

الله تبارك وتعالى. وبهذا ينفرد المنهج السلفي ببيانه لأصول الإسلام وفروعه وآدابه ومستحباته. وبذلك يظل العمل بالإسلام كاملاً على مدار الزمن؛ لأن إهمال السنن يؤدي إلى إهمال الواجبات، وإهمال الواجبات يؤدي إلى نقض التوحيد.. وهكذا. والمحافظة على شريعة الإسلام كاملة في العلم والتطبيق هو أحد غايات المنهج السلفي لفهم الإسلام والعمل به. ولذلك؛ فنحن في المنهج السلفي لا نبرم بإيضاح سنة مهملة، ولا ببيان واجب؛ لأننا نرى أن كل هذه الفرعيات تلتقي مع الأصل الأصيل، وهو إبراز الإسلام دائماً في صورته الكاملة النقية على مدار العصور، وذلك لتبقى شخصية المسلمين واضحة جلية مميزة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وأصحاب المناهج الأخرى يهتمون بقضايا بعينها من الدين، ويهملون سائره، بل ويضيقون ببيانه لهم وحثهم عليه، وما هذا إلا لجهلهم بحقيقة الدين، وذلك أن ترك نصيب وحظ وقسم مما أمر الله به يورث العداوة والبغضاء؛ كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة: 14) . وهكذا عاب الله على اليهود إيمانهم ببعض آيات الكتاب وكفرهم بالبعض، وما كان كفرهم إلا تركهم العمل به. وهكذا يحل بالمسلمين إن هم نسوا بعض ما وعظهم الله به وذكرهم وبعض ما أوجبه عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

رابعا: الإعذار إلى الله بأداء الأمانة:

ولذلك؛ فالدعوة السلفية دعوة شمولية لأركان الإسلام ومناهجه جميعاً: {يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافةً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (البقرة: 208) . فالعمل بجزء من الشريعة وترك جزء آخر من اتباع خطوات الشيطان، الذي يبرر لبعض العاملين في الحقل الإسلامي ترك الواجبات وفعل كثير من المحرمات بدواعي المصلحة المزعومة للدعوة ... والخلاصة: أن إقامة الحجة تكون بالبيان الدائم لأصول الإسلام وفروعه ... هذا البيان الذي لا يترك في الحق لبساً حتى ينقطع العذر، ولا يكون لأحد العدول عن فعل الواجب وترك الحرام. رابعاً: الإعذار إلى الله بأداء الأمانة: الدعوة إلى الله تبارك وتعالى واجب حتم في الإسلام وأمانة في عنق كل مسلم حمل علماً وأمكنه الله من نشره وإبلاغه، وذلك لأدلة كثيرة جداً؛ منها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110) . ومعنى الآية أن المسلمين لم يكونوا خير أمة إلا بذلك. وقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (104) . ومعنى {منكم} هنا: البدء لا التبعيض؛ أي: لتكونوا أمة داعية إلى الخير؛ كما أقول: ليكن منك رجل صالح؛ أي: لتكن أنت رجلاً صالحاً. وكذلك قول الرسول

والتثبت من قضاياها والتعرف على منهجها، وسيعلمون كما علمنا أنها المنهج الوحيد لفهم الإسلام والعمل به، سيذوقون حلاوة الإيمان ولذته؛ لأن إيمانهم سيكون إيمان يقين وعلم، لا تقليداً وحمية وجهلاً، وسيكون اندفاعهم للعمل اندفاع الواثق العالم المطمئن، لا اندفاع العاطفة وفورة الحماس الموقوتة، التي سرعان ما تتبدد وتضمحل.

§1/1