الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة

محمد بن إبراهيم الحمد

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن حسن الخلق هو بذل الندى، وكفّ الأذى، واحتمال الأذى. وهو التخلي من الرذائل، والتحلي بالفضائل. وجماع حسن الخلق أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. ثم إن لحسن الخلق فضائل عديدة، فهو امتثال لأمر الله ورسوله"وبه ترفع الدرجات، وتيسر الأمور، وتستر العيوب، وتكسب القلوب. وبه يسلم المرء من شرور الخلق، ويفي بالحقوق الواجبة والمستحبة، كما أن به السلامة من مضار الطيش والعجلة، وبه راحة البال، وطيب العيش إلى غير ذلك من فضائل حسن الخلق.

ولقد يسر الله أن كتبت في هذا الشأن كتابا عنوانه: سوء الخلق مظاهره- أسبابه- علاجه ولقد تضمن ذلك الكتاب فصلا في أسباب اكتساب حسن الخلق، بعد أن تم الحديث عن سوء الخلق ومظاهره وأسبابه. وبما أن ذلك الكتاب من القطع الكبير وعدد صفحاته183 رأيت أن يفرد ذلك الفصل مستقلا في كتيّب لأجل أن يسهل تداوله وقراءته وتوزيعه، فيسر الله ذلك بمنه وكرمه، وأسميته: الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة ولقد حذف في هذا الكتيب أكثر الهوامش إلا ما لا بدّ منه، فمن أراد التفصيل والإحالة فليراجع الأصل، والله المستعان وعليه التكلان. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي 4/1/1418هـ ص. ب: 460 11932

أسباب اكتساب حسن الخلق

أسباب اكتساب حسن الخلق لا ريب أن أثقل ما على الطبيعة البشرية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس، إلا أن ذلك ليس متعذرا ولا مستحيلا. بل إن هناك أسبابا عديدة، ووسائل متنوعة يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حسن الخلق. ومن ذلك ما يلي: 1- سلامة العقيدة: فشأن العقيدة عظيم، وأمرها جلل; فالسلوك- في الغالب- ثمرة لما يحمله الإنسان من فكر، وما يعتقده من معتقد، وما يدين به من دين. والانحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في المعتقد. ثم إن العقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا; فإذا صحت العقيدة حسنت الأخلاق تبعا لذلك; فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق من صدق، وكرم، وحلم، وشجاعة، ونحو ذلك.

كما أنها تردعه وتزمّه عن مساوئ الأخلاق من كذب، وشحّ، وطيش، وجهل، ونحوها. 2- الدعاء: فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات. فمن رغب بالتحلي بمكارم الأخلاق، ورغب بالتخلي من مساوئ الأخلاق- فليلجأ إلى ربه، وليرفع إليه أكف الضراعة; ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيئه; فالدعاء مفيد في هذا الباب وغيره، ولهذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- كثير الضراعة إلى ربه يسأله أن يرزقه حسن الخلق، وكان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق; لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها; لا يصرف عني سيئها إلا أنت" 1. وكان من دعائه: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء" 2. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر،

_ 1 رواه مسلم "771". 2 أخرجه الحاكم 1/532 وصححه، ووافقه الذهبي.

ومن فتنة المحيا والممات" 1. 3- المجاهدة: فالمجاهدة تنفع كثيرا في هذا الباب; ذلك أن الخلق الحسن نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة. قال عز وجل: {والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} [العنكبوت:69] . فمن جاهد نفسه على التحلي بالفضائل، وجاهدها على التخلي من الراذئل حصل له خير كثير، واندفع عنه شر مستطير; فالأخلاق منها ما هو غريزي فطري، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالدربة والممارسة. والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرتين أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت; ذلك أن المجاهدة عبادة، والله- تبارك وتعالى- يقول: {واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] . 4- المحاسبة: وذلك بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقا ذميمة، وحملها على ألا تعود إلى تلك الأخلاق مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب إذا أحسنت، وأخذها بمبدأ العقاب

_ 1 رواه البخاري 7/159. ومسلم "2706".

إذا توانت وقصّرت. فإذا أحسنت أراحها، وأجمّها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح. وإذا أساءت وقصّرت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد. على أنه لا يحسن المبالغة في محاسبة النفس; لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباضها وانكماشها. قال ابن المقفّع: ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلا، فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء السيل إلى الحدورة. 5- التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق: فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها- من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها. فكلما تصعّبت النفس فذكّرها تلك الآثار، وما تجني بالصبر من جميل الثمار; فإنها حينئذ تلين، وتنقاد طائعة منشرحة; فإن المرء إذا رغب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجل غنيمة غنمها الموفقون- سهل عليه نيلها واكتسابها.

6- النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق; فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها. 7- الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك من إذا ابتلي بمساوئ الأخلاق ظن أن ذلك الأمر ضربة لازب لا تزول، وأنه وصمة عار لا تنمحي. وهناك من إذا حاول التخلص من عيوبه مرة أو أكثر فلم يفلح- أيس من إصلاح نفسه، وترك المحاولة إلى غير رجعة. وهذا الأمر لا يحسن بالمسلم، ولا يليق به أبدا; فلا ينبغي له أن يرضى لنفسه بالدّون، وأن يترك رياضة نفسه; زعما منه أن تبدّل الحال من المحال. بل ينبغي له أن يقوّي إرادته، ويشحذ عزمته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدّ في تلافي عيوبه; فكم من الناس من تبدّلت حاله، وسمت نفسه، وقلّت عيوبه; بسبب دربته، ومجاهدته وسعيه، وجدّه، ومغالبته لطبعه. قال ابن المقفع: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه

مساويها في الدين، والأخلاق، وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره، أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلّة أو الخلتين في اليوم، أو الجمعة، أو الشهر. فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. 8- علو الهمة: فعلو الهمة يستلزم الجد، والإباء، ونشدان المعالي، وتطلاب الكمال، والترفع عن الدنايا، والصغائر، ومحقرات الأمور. والهمة العالية لا تزال بصاحبها تضربه بسياط اللوم والتأنيب، وتزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد. قال ابن القيم رحمه الله: فمن علت همته، وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل. وقال- رحمه الله: فالنفوس الشريفة لا ترضى من

الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة. والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار; فالنفوس العليّة لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة; لأنها أكبر من ذلك وأجل. والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك. فإذا توفر المرء على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلا، ويبقي لها الذكر الجميل آجلا- لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام، ويرتقي إلى النهاية من الكمال، فيحوز السعادة الإنسانية، والرئاسة الحقيقية، ويبقى له حسن الثناء مؤبدا، وجميل الذكر مخلّدا. 9- الصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخلق الحسن; فالصبر يحمل على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة.

وقلّ من جدّ في أمر تطلّبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر 10- العفة: فهي تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمل على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنع من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة. 11- الشجاعة: فهي تحمل على عزة النفس، وإباءة الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس، وقوّتها على إخراج المحبوب ومفارقته. وهي تحمل صاحبها على كظم الغيظ، والحلم; فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزق والطيش. 12- العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط; فيحمل على خلق الجود الذي هو توسط بين البخل والإسراف، وعلى خلق التواضع الذي هو توسط بين الذلة والكبر، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم

الذي هو توسط بين الغضب، والمهانة وسقوط النفس. 13- تكلّف البشر والطلاقة، وتجنّب العبوس والتقطيب: قال ابن حبان رحمه الله: البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء; لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي. وقال أبو جعفر المنصور: إن أحببت أن يكثر الثناء الجميل عليك من الناس بغير نائل- فالقهم ببشر حسن. قيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول. وقال محمد بن حازم: وما اكتسب المحامد حامدوها ... بمثل البشر والوجه الطليق وقال آخر: أخو البشر محبوب على حسن بشره ... ولن يعدم البغضاء من كان عابسا وقال آخر: البشر يكسب أهله ... صدق المودة والمحبة

والتّيه يستدعي لصا ... حبه المذمة والمسبة وقال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: البشر مؤنّس للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده. بل إن تبسم الرجل في وجه أخيه المسلم صدقة يثاب عليها. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" 1. وقال- عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" 2. ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أن السرور يعتمد على النّفس أكثر مما يعتمد على الظروف الخارجية. ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلّها في الظروف الخارجية، فيشترط; ليسرّ مالا، وبنين، وصحة، وظروفا مواتية ونحو ذلك من أسباب السرور.

_ 1 أخرجه الترمذي "956" وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في الصحيحة "272"، وصحيح الجامع "2905". 2 رواه مسلم "2626".

فإذا حصلت له أنس وسرّ، وإن لم تحصل له عبس، وقطّب، ونغّص على نفسه وعلى من حوله، وقال: على الدنيا العفاء. لا، ليس الأمر كذلك; فالسرور نابع من النفس، والكرام يجودون بالبشر، والتبسم ولو كانت أسبابه بعيدة عنهم. ومن أحكم ما قالته العرب: ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه فالابتسام للحياة يضيؤها، ويعين على احتمال مشاقها. والمبتسمون للحياة أسعد الناس حالا لأنفسهم ومن حولهم. بل هم مع ذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالا للمسؤولية، وأجدر بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس; فذو النفس الباسمة المشرقة يرى الصعاب فيلذّه التغلب عليها، ينظرها فيبتسم، وينجح فيبتسم، ويخفق فيبتسم. وذو النفس العابسة المتجهّمة لا يرى صعابا، فيوجدها، وإذا رآها أكبرها، واستصغر همته بجانبها، فهرب منها،

وطفق يسب الدهر، ويعاتب القدر. وإذا كان الأمر كذلك فأجدر بالعاقل ألا يرى إلا هاشّا باشّا، متهلّلا متطلّقا. فإن كان ذلك سجية في المرء وطبعا- فليحمد الله، وليتعاهد هذه الخصلة الحميدة من نفسه. وإلا فليجاهد نفسه على تكلّف البشر والطلاقة، وعلى تجنّب العبوس والتقطيب جملة; حتى تألف ذلك نفسه، وتأنس به أنس الرضيع بثدي أمه. وحينئذ ترقّ حواشيه، وتلين عريكته، ويؤنس في حديثه، ويرغب في مجلسه. ومن أعظم ما يعين على اكتساب تلك الخلّة الإقبال على الله عز وجل وطهارة القلب، وسلامة المقاصد، والبعد عن موطن الإثارة قدر المستطاع. ومن ذلك قوة الاحتمال، ومحاربة اليأس، وطرد الهم والكآبة. 14- التغاضي والتغافل: فذلك من أخلاق الأكابر والعظماء، وهو مما يعين على استبقاء المودة واستجلابها، وعلى وأد العداوة وإخلاد المباغضة.

ثم إنه دليل على سموّ النفس، وشفافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة. قال ابن الأثير متحدثا عن صلاح الدين الأيوبي: وكان رحمه الله حليما حسن الأخلاق، متواضعا، صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم مايكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته1، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه; ليتغافل عنها. وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما يسأل عن ذلك كان يقول: ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي 15- الحلم: فالحلم من أشرف الأخلاق، وأحقها بذوي

_ 1 السرموزة: نعل معروفة وهي كلمة فارسية معناها رأس الخف.

الألباب; لما فيه من سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد. وحد الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب. وليس من شرط الحلم ألا يغضب الحليم، وإنما إذا ثار به الغضب عند هجوم دواعيه كفّ سورته بحزمه، وأطفأ ثائرته بحلمه. فإذا اتصف المرء بالحلم كثر محبوه، وقل شانئوه، وعلت منزلته، ووفرت كرامته. هذا وستتضح بعض معالم الحلم في الفقرات الآتية إن شاء الله. 16- الإعراض عن الجاهلين: فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه. قال عز وجل: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] . فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها; إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع،

قال بعض الشعراء: إني لأعرض عن أشياء أسمعها ... حتى يقول رجال إن بي حمقا أخشى جواب سفيه لا حياء له ... فسل وظنّ أناس أنه صدقا والعرب تقول: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشّرّ. وروي أنّ رجلا نال من عمر بن عبد العزيز، فلم يجبه، فقيل له: ما يمنعك منه?. قال: التقيّ ملجم. 17- الترفع عن السباب: فذلك من شرف النفس، وعلوّ الهمة، كما قالت الحكماء: شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم. قال رجل من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط. فقال بعضهم: إن ذكرت أمّه غضب. فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلا1، ففعلوا، فأتاه في الموسم، فقال له:

_ 1 الجعل: هو الأجر على الشيء فعلا أو قولا. انظر لسان العرب 11/111.

يا أمير المؤمنين إن عينيك لتشبهان عيني أمك. قال: نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان! ثم دعا مولاه شقران فقال له: أعدد لأسماء المنى دية ابنها; فإني قد قتلته وهو لا يدري. فرجع، وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمرو بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا. فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات. فبلغ معاوية، فقال: أنا والله قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول: ألا قل لأسماء المنى أمّ مالك ... فإني لعمر الله أهلكت مالكا وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة خرج ليلة في السّحر إلى المسجد ومع حرسيّ، فمرّا برجل نائم على الطريق، فعثر به، فقال: أمجنون أنت? فقال عمر: لا; فهمّ الحرسيّ به، فقال عمر: مه; فإنه سألني: أمجنون أنت? فقلت: لا. وقيل: وجاء رجل إلى الأحنف بن قيس فلطم وجهه، فقال: بسم الله، يا ابن أخي ما دعاك إلى هذا?

قال: آليت1ن ألطم سيّد العرب من بني تميم. قال: فبرّ بيمينك، فما أنا بسيدها، سيدها حارثة ابن قدامة. فذهب الرجل فلطم حارثة، فقام إليه حارثة بالسيف فقطع يمينه. فبلغ ذلك الأحنف، فقال: أنا والله قطعتها. قال الأصمعي: بلغني أن رجلا قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا. فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة!. وشتم رجل الحسن، وأربى عليه، فقال له: أما أنت فما أبقيت شيئا، وما يعلم الله أكثر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا سبني نذل تزايدت رفعة ... وما العيب إلا أن أكون مساببه ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة ... لمكّنتها من كل نذل تحاربه

_ 1 آليت: حلفت وأقسمت، والالية: الحلف.

18- الاستهانة بالمسيء: وذلك ضرب من ضروب الأنفة والعزة، ومن مستحسن الكبر والإعجاب. حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه، فنادى: أين عمرو بن جرموز- وهو الذي قتل أباه الزبير- فقيل له: أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أويظن الجاهل أني أقيده- أي أقتص منه- بأبي عبد الله? فليظهر آمنا; ليأخذ عطاءه موفرا، فعدّ الناس ذلك من مستحسن الكبر. ومثل ذلك قوله بعض الزعماء في شعره: أو كلما طنّ الذباب طردته ... إن الذباب إذا عليّ كريم وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال السابّ: والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه. وفي مثله يقول الشاعر: نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا وشتم رجل الأحنف، وجعل يتبعه حتى بلغ حيّه، فقال

الأحنف: يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء فهاته، وانصرف; لا يسمعك بعض سفهائنا; فتلقى ما تكره. وقيل للشعبي: فلان يتنقصك ويشتمك، فتمثل الشعبيّ بقول كثيّر: هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلت أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه، فقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض. 19- نسيان الأذية: وذلك بأن تنسى أذية من نالك بسوء; ليصفو قلبك له، ولا تستوحش منه; فمن تذكّر إساءة إخوانه لم تصف له مودتهم، ومن تذكر إساءة الناس إليه لم يطب له العيش معهم; فانس ما استطعت النسيان. 20- العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان: فهذا سبب لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، وفيه من الطمأنينة، والسكينة، والحلاوة، وشرف النفس، وعزها، وترفعها عن تشفيها بالانتقام- ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا" 1. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أحبّ الأمور إلى ثلاثة: العفو عند المقدرة، والقصد في الجدة، والرفق بالعبدة. وعن داود بن الزبرقان قال: قال أيوب: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عمّا في أيدي الناس، والتجاوز عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من ظلم العداوات ومن جميل ما يذكر في هذا قول المقنّع الكندي: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدّا إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم ... قدحت لهم في كلّ مكرمة زندا

_ 1 رواه مسلم 4/2001، "2588".

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: وإني لأكسو الخلّ حلّة سندس ... إذا ما كساني من ثياب حداده وعن عبد الملك أو قيس عبد الملك قال: قام عمر بن عبد العزيز إلى قائلته- يعني لنومة القيلولة- فعرض له رجل بيده طومار- صحيفة مطوية- فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين، فخاف أن يحبس دونه، فرماه بالطومار، فالتفت عمر، فوقع في وجهه، فشجّه. قال: فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو قائم في الشمس، فلم يبرح حتى قرأ الطومار، وأمر له بحاجته، وخلّى سبيله. وقال ابن القيم × متحدثا عن حسن الخلق والعفو، والإحسان إلى من أساء: وما رأيت أحدا أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه

وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له- فنهرني، وتنكّر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسرّوا به، ودعو له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه. فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجدر بالعاقل- كما قال ابن حبان-: توطين نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة; إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها. وقد يظن ظانّ أن العفو عن المسيء، والإحسان إليه مع القدرة عليه- موجب للذلة والمهانة، وأنه قد يجر إلى تطاول السفهاء. وهذا خطأ; ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه بالذلة

بحال; فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة، أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة. سياسة الحلم لا بطش يكدّرها ... فهو المهيب ولا تخشى بوادره فالعفو إسقاط حقك جودا، وكرما، وإحسانا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك; رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق. بخلاف الذل; فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا، وخوفا، ومهانة نفس، فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه. 21- السخاء: فالسخاء محبة ومحمدة، كما أن البخل مذمة ومبغضة، فالسخاء يجلب المودة، وينفي العداوة، ويكسب الذكر الجميل، ويخفي العيوب والمساوئ. وإن كثرت عيوبك في البرايا ... وسرّك أن يكون لها غطاء تستر بالسخاء فكلّ عيب ... يغطّيه كما قيل السخاء

فإذا ما اتصف الإنسان بالسّخاء زكت نفسه، ولانت عريكته، وقاده ذلك إلى أن يترقى في مكارم الأخلاق، ومدارج الفضيلة; فالسخي قريب من كل خير وبر. ولهذا كان الأكابر يبادرون إلى تلك الخلّة، ويحرصون كل الحرص على اكتسابها، ويوصون غيرهم بأن يتحلى بها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغبرّت قدماه في المشي إليّ; إرادة التسليم عليّ. أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله! قيل: من هو? قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بم ينزله، ثم رآني أهلا لحاجته; فأنزلها بي. قال الرافع يرحمه الله: فمن ألزم نفسه الجود والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع ونحوه. أما الشح فلا يناقض تلك الطبيعة، ولكنها يدعها جامدة مستعصية، لا تلين، ولا تستجيب، ولا تتيسر.

ومما تحس الإشارة إليه أن السخاء سخاءان; سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عمّا في أيدي الناس. وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم، وأبرأ من الدنس، وأنزه من العيب. فإن هو جمعهما، فبذل وعف فقد استكمل الجود والكرم. 22- نسيان المعروف والإحسان إلى الناس: وهذه مرتبة عالية، ومنزلة رفيعة، وهي أن تنسى ما يصدر منك من إحسان، حتى كأنه لم يصدر. فمن أراد أن يرتقي في المكارم فلينس ما قدم من إحسان ومعروف; حتى يسلم من المنة والترفع على الناس، ولأجل أن يتأهل لنيل مكارم أخرى أرفع وأرفع. 23- الرضا بالقليل من الناس، وترك مطالبتهم بالمثل: وذلك بأن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوّعت له به أنفسهم سماحة واختيارا، وألا يحملهم على العنت والمشقة. قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] .

قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في هذه الآية: أمر الله نبيّه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم. قال المقنع الكندي واصفا حاله مع قومه: وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا ... وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا وقال الآخر: خذ العفو واصفح عن أمور كثيرة ... ودع كدر الأخلاق واعمد لما صفا ولما قدم حاتم الأصم إلى أحمد بن حنبل قال له: أحمد بعد بشاشته به: أخبرني كيف التخلص إلى السلامة? فقال له حاتم: بثلاثة أشياء. فقال أحمد: ما هي? قال: تعطيهم مالك، ولا تأخذ مالهم، وتقضي حقوقهم،

ولا تطالبهم بقضاء حقوقك، وتصبر على أذاهم ولا تؤذهم. فقال أحمد: إنها لصعبة! قال حاتم: وليتك تسلم. قال الرافعي رحمه الله: إن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وإن الزائفة هي الأخذ دون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق. 24- احتساب الأجر عند الله- عز وجل-: فهذا الأمر من أعظم ما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهو مما يعين على الصبر، والمجاهدة، وتحمل أذى الناس; فإذا أيقن المسلم أن الله- عز وجلّ- سيجزيه على حسن خلقه ومجاهدته لنفسه- فإنه سيحرص على اكتساب محاسن الأخلاق، وسيهون عليه ما يلقاه في ذلك السبيل. 25- تجنّب الغضب: لأن الغضب جمرة تتقد في القلب، وتدعو إلى السطوة والانتقام والتشفي. فإذا ما ضبط الإنسان نفسه عند الغضب، وكبح جماحها عند اشتداد سورته- فإنه يحفظ على نفسه عزتها وكرامتها، وينأى بها عن ذلّ الاعتذار، ومغبة الندم، ومذمة الانتقام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال:

يا رسول الله، أوصني، فقال: "لا تغضب"، ثم ردد مرارارا، قال: "لا تغضب" 1. قال الماوردي: فينبغي لذي اللب السوي، والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها، ويقابل دواعي شرّته بحزمه فيردها; ليحظى بأجل الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة. هذا ومما يعين المرء على تسكين الغضب أن يذكر الله- عز وجل- وأن ينتقل عن الحالة التي هو عليها، وأن يتذكر ثواب العفو وعواقب الغضب، وأن يوطن المرء نفسه على ما يصيبه من أذى الخلق، وألا ينفذ غضبه بعد أن يغضب. 26- تجنب الجدال: لأن الجدال يذكي العداوة، ويورث الشقاق، ويقود إلى الكذب، ويدعو إلى التشفي من الآخرين. فإذا تجنبه المرء سلم من اللجاج، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه، وإطلاق لسانه في بذئ الألفاظ، وساقط القول. ثم إن اضطر إلى الجدال فليكن جدالا هادئا يراد به

_ 1 رواه البخاري 7/99.

الوصول إلى الحق، وليكن بالتي هي أحسن وأرفق. قال تعالى: {وجادلهم بالّتي هي أحسن} [النحل: 125] . أما إذا لجّ الخصم في الجدال، وعلا صوته في المجلس فإن السكوت أولى، وإن أفضل طريقة لكسب الجدال- حينئذ- هي تركه. قال عليه الصلاة والسلام: "أنا زعيم ببيت في ربض1 الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" 2. 27- التواصي بحسن الخلق: وذلك ببث فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق. فحسن الخلق من الحق، والله تبارك وتعالى يقول: {وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر} [العصر:3] .

_ 1 ربض الجنة: أدناها. 2 رواه أبو داود "4800" من حديث أبي إمامة الباهلي، وصححه النووي في رياض الصالحين ص 301 وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/911 رقم "4015".

28- قبول النصح الهادف، والنقد البناء: فهذا مما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، ومما يبعث على التخلي عن الأخلاق الساقطة. فعلى من نصح أن يتقبل النصح، وأن يأخذ به; حتى يكمل سؤدده، وتتم مروءته، ويتناهى فضله. بل ينبغي لمتطلب الكمال- خصوصا إذا كان رأسا مطاعا- أن يتقدم إلى خواصه، وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وحاشيته- فيأمرهم أن يتفقّدوا عيوبه ونقائصه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها; فهذا مما يبعثه للتنزه من العيوب، والتطهر من دنسها. بل ينبغي له أن يتلقى من يهدي إليه شيئا من عيوبه بالبشر والقبول، ويظهر له الفرح والسرور بما أطلعه عليه. بل المستحسن أن يجيز الذي يوقفه على عيوبه أكثر مما يجيز المادح على المدح والثناء الجميل، ويشكر من ينبهه على نقصه، ويتحمل لومته بفعله; فإنه إذا لزم هذه الطريقة، وعرف بها- أسرع أصحابه وخواصه إلى تنبيهه على عيوبه. وإذا نبّه على ما فيه من النقص أنف منه، واستشعر أن

أولئك سيعيّرونه به، ويصغرونه من أجله; فيلزمه حينئذ أن يأخذ نفسه بالتنزه من العيوب، ويقهرها على التخلص منها; فإصلاح النفس لا يتم بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها. 29- قيام المرء بما يسند إليه من عمل على أتم وجه: حتى يسلم بذلك من التوبيخ، والتقريع، ومن ذل الاعتذار، ومن تكدر النفس، واعتلال الأخلاق. 30- التسليم بالخطأ إذا وقع، والحذر من تسويغه: فذلك آية حسن الخلق، وعنوان علو الهمة، ثم إن فيه سلامة من الكذب، ومن الشقاق; فالتسليم بالخطأ فضيلة ترفع قدر صاحبها. 31- لزوم الرفق: قال عليه الصلاة والسلام: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" 1. وقال: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" 2. فمن أعطي الرفق والخلق فقد أعطي الخير كله والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته.

_ 1 رواه مسلم "2594" عن عائشة. 2 رواه البخاري 7/8 , ومسلم "2165" عن عائشة.

ومن حرم الرفق والخلق كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية إلا من عصمه الله. 32- لزوم التواضع: فالتواضع في حقيقته هو بذل الاحترام، والعطف، والمجاملة لمن يستحق ذلك. فالتواضع دليل على كبر النفس، وعلو الهمة، وهو سبيل لاكتساب المعالي، والترقي في الكمالات، فهو خلق يرفع من قدر صاحبه، ويكسبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ويبعثه على الاستفادة من كل أحد، وينأى به عن الكبر والتعالي. 33- استعمال المداراة: فالناس خلقوا للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته. وللإنسان عوارض نفسية كالحب، والبغض، والرضا، والغضب، والاستحسان والاستهجان. فلو سار الإنسان على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال- لاختل الاجتماع، ولم يحصل التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون. فكان من حكمة الله في خلقه أن هيّأ الإنسان لأدب

يتحامى به ما يحدث تقاطعا، أو يدعو إلى تخاذل، ذلك الأدب هو المداراة. فالمداراة مما يزرع المودة والألفة، ويجمع الآراء المشتتة، والقلوب المتنافرة. والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب، أو استنكار إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من كتمانه. فمن المداراة أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق، وتقضيه حق التحية، وترفق به في الخطاب. قال أحد الحكماء: وامنحه مالي وودّي ونصرتي ... وإن كان محنيّ الضّلوع على بغضي وقال الشافعي رحمه الله: إني أحيّي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشرّ عني بالتحيّات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد حشا قلبي محبات

بل إن المدارة قد تبلغ إلى إطفاء العدواة، وقلبها إلى صداقة. فما أحوج المرء إلى هذه الخصلة الحميدة، خصوصا مع من لا بدّ له من معاشرته، أو ممن يتوقع الأذى منه. قال ابن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدّا حتى يأتيه اللهمنه بالفرج أو المخرج. وقال العتابي: المداراة سياسة لطيفة، لا يستغني عنها ملك ولا سوقة، يجتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثرت مداراته كان في ذمة الحمد والسلامة. وقال بعضهم: ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري. وقال الحسن: حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المؤونة. ومما ينسب لأمير المؤمنين عليّ: يقول لك العقل الذي زيّن الورى ... إذا أنت لم تقدر عدوا فداره 34- لزوم الصدق: فإن للصدق آثارا حميدة، وعوائد

عديدة; فالصدق حسنة تنساق بصاحبها إلى الحسنات، فهو دليل على حسن السيرة، ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل. فبالصدق يشرف قدر المرء، وتعلو منزلته، ويصفو باله، ويطيب عيشه; فهو ينجي صاحبه من رجس الكذب، ووخز الضمير، وذل الاعتذار، ويحميه من إساءة الناس إليه، ونزع الثقة منه، كما أنه يكسبه عزة، وشجاعة، وثقة في النفس، فيظل موفور الكرامة، عزيز النفس، مهيب الجناب. ولا يمكن أن يستقيم لأحد سؤدد، ولا تعلو له مكانة، ولا يحرز قبولا في القلوب، ما لم يرزق لسان صدق. ثم إن الصدق يهدي إلى البر، وحسن الخلق من جملة ذلك البر. 35- تجنّب كثرة اللوم والتعنيف على من أساء: فلا يحسن بالعاقل أن يسرف في لوم من أساء، خصوصا إذا كان المسيء جاهلا، أو كان ممن يندر وقوع الإساءة منه; فكثرة اللوم مدعاة للغضب، وغلظ الطبع. ثم إنها موجبة للعداوة، ومجلبة لسماع ما يؤذي. فالعاقل اللبيب لا يعاتب إخوانه على كل صغيرة وكبيرة،

بل يلتمس لهم المعاذير، ويحملهم على أحسن المحامل. ثم إن كان هناك ما يستوجب العتاب فليكن عتابا لينا رفيقا. 36- تجنب الوقيعة في الناس: فالوقيعة في الناس، والتعرض لعيوبهم ومغامزهم- مما يورث العدواة، ويشوش على القلب، فتسوء الأخلاق تبعا لذلك. بل إن ذلك مدعاة لأن يبحث الناس عن معايب ذلك الشخص. ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذموه بالحق والباطل قالت أعرابية توصي ولدها: إياك والتعرض للعيوب; فتتخذ غرضا، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهام غرضا حتى يهي ما اشتدّ من قوته. وقال الأحنف رحمه الله: من أسرع إلى الناس فيما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. 37- أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: فهذا يدعو لالتماس المعاذير، والكف عن إنفاذ الغضب، والبعد عن

إساءة الظن. فالواحد منا- على سبيل المثال- ينزعج كثيرا إذا كان خلفه في السيارة شخص يطلق الأبواق، ونحن قد نقع موقعه ونفعل ما فعله، إما حرصا على اللحاق بموعد مهم، أو أن يكون مع بعضنا مريض، أو نحو ذلك. فإذا وضعنا أنفسنا موضع الخصم وجدنا ما يسوغ فعله، فنقصر بذلك عن الإساءة والجهل، ونحتفظ بهدوئنا وحلمنا. قال ابن المقفع: أعدل السّير أن تقيس الناس بنفسك; فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. قال ابن حزم رحمه الله: من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه; فإنه يلوح له وجه تعسفه. 38- أن يتخذ الناس مرآة لنفسه: فهذا مما يحسن بالمرء فعله، والأخذ به، فكل ما كرهه، ونفر عنه من قول، أو فعل، أو خلق- فليتجنّبه، وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله. وإذا أعجبتك خصال امرئ ... فكنه تكن مثل ما يعجبك

فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك 39- مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة: فهذا الأمر من أعظم ما يربي على مكارم الأخلاق، وعلى رسوخها في النفس; فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه. والصداقة الشريفة تشبه سائر الفضائل من حيث رسوخها في النفس، وإيتاؤها ثمرا طيبا في كل حين; فهي توجد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاء. فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر; ليحمي صديقه من نكبة. والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانبا من ماله; لإنقاذ صديقه من شدة. فالصداقة المتينة لا تحلّ في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة. فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئا من كظم الغيظ، فيجلس إلى أصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد

التواضع والحلم، فيصير بعد ذلك متواضعا حليما. فإذا ما وفق المرء لصحبة الأجلاّء العقلاء من ذوي الدين والمروءة- فإن ذلك من علامات توفيقه وهدايته. فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللبّ أن يبحث عن إخوان الثقات; حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر. 40- الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات: فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم- ولو لم يصاحبهم باستمرار- تخلّق بأخلاقهم، وقبس من سمتهم ودلّهم. يروى أن الأحنف بن قيس قال: كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه. ولا يلزم أن يكون هؤلاء الذي يختلف إليهم من أهل العلم، بل قد يوجد في العوام من جبل على كريم الخلال وحميد الخصال. قال ابن حزم: وقد رأيت من غمار العامة من يجري في الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جدّا.

41- وبالجملة أن ينتفع الإنسان بكل من خالطه وصاحبه: فصاحب البصيرة النافذة، والهمة العالية ينتفع بكل من خالطه وصاحبه، من كامل، وناقص، وسيّىء الخلق وحسنه، وعديم المروءة، وغزيرها. وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها، كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيئ الخلق، فظّ، غليظ، لا يناسبه. فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق. وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه، ويكون بتمرين النفس على مصاحبته، ومعاشرته، والصبر عليه. بل إن كثيرا من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه، وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره. قيل لرجل: من علّمك البكور في حوائجك أوّل النهار لا تخلّ به؟ قال: من علّم الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض. وقيل لآخر: من علّمك السكون، والتحفظ، والتماوت

حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟ قال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة، فلا تتحرك، ولا تتلوّى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وثبت عليها كالأسد. وقيل لآخر: من علمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟ قال: من علم الديك يصادف الحبة في الأرض، وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبا حثيثا حتى تجيء الواحدة منهن، فتلتقطها وهو مسرور بذلك، طيب النفس به. وإذا وضعت له الحبّ الكثير فرّقه ههنا، وههنا، وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام! 42- توطين النفس على الاعتدال حال السراء والضراء: فيحسن بالعاقل الذي يروم نيل المعالي، واكتساب الفضائل أن يوطن نفسه على الاعتدال حال السراء والضراء؛ لأن من أدب صاحب المروءة أن يقف موقف الاعتدال في حالي الضراء والسراء.

ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ومن هنا نرى أن صاحب المروءة لا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة، ولا يحمله الغني على الأشر والبطر، ولا ينحط به الفقر إلى الذلة والخنوع. وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: كلا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعا وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي، لا أبالي على أيهما ركبت. وبهذا تستقيم أخلاق المرء، وتعتدل أفعاله وأحواله، فيسلم بذلك من التقلب واختلاف الأخلاق. 43- معرفة أحوال الناس، ومراعاة عقولهم، ومعاملتهم بمقتضى ذلك: فهذا الأمر دليل على جودة النظر في سياسة الأمور، وعلى حسن التصرف في تقدير وسائل الخير، وهو مما يعين على اكتساب الأخلاق الرفيعة، وعلى استبقاء المودة في قلوب الناس.

فالرجل العاقل الحكيم الحازم يحكم هذا الأمر، وينتفع به عند لقائه بالطبقات المختلفة، فتراه يزن عقول من يلاقونه، ويحس ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفوسهم، فيصاحب الناس، ويشهد مجالسهم، وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول، وسرائر، وعواطف. فيتيسر له أن يسايرهم إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق. ومراعاة عقول الناس وطباعهم ونزعاتهم فيما لا يقعد حقا، ولا يقيم باطلا- مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة. وكما أن هذا الأمر عائد إلى الألمعية- وهي في أصلها موهبة إلهية- فهو كذلك يأتي بالدربة، والممارسة، وتدبر سير أعاظم الرجال، والنظر في مجاري الحوادث باعتبار، فهذا مما يقوي هذه الخصلة، ويرفع من شأنها. 44- مراعاة أدب المحادثة والمجالسة: فذلك مما يزرع المودة، وينمي الأخلاق الفاضلة. فمن الآداب التي يحن مراعاتها الإصغاء للمتحدث، وتجنب مقاطعته، أو تكذيبه، أو الاستخفاف به، أو المبادرة إلى إكمال حديثه، أو القيام عنه قبل إتمام كلامه.

ومنها تجنب الثرثرة والاستئثار بالمجلس، والحديث عن النفس على سبيل المفاخرة. ومن ذلك الحذر من سرعة الجواب، والتعميم في الذم، وتكرار الحديث بلا داع، وكثرة الأسئلة، وتعمّد الإحراج فيها. ومن تلك الآداب الحديث بما يناسب المقام، والتواضع لمن يتحدث إليهم. ومن ذلك مراعاة المشاعر، وتجنب البذاءة وهجر القول. ومن أدب المجالسة أن يجلس المرء على هيئة محترمة، بعيدة عما ينافي الذوق، أو يشعر بقلة الأدب. ومنها إلقاء السلام حال الدخول وحال الخروج، والتفسح في المجالس، وألا يقيم المرء شخصا ويجلس مجلسه، وألا يفرق بين اثنين متجالسين إلا بإذنهما، وألا يتناجى الاثنان دون الثالث. إلى غير ذلك من الآداب التي تكسب الأخلاق الكريمة، وترفع قيمة صاحبها، وتبعثه إلى الإفادة والاستفادة1.

_ 1 انظر: أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة للكاتب.

45- المحافظة على الصلاة: فهي سبب عظيم لحسن الخلق، وطلاقة الوجه، وطيب النفس، وسموها، وترفعها عن الدنايا. كما أنها في مقابل ذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر. وسوء الخلق من جملة ما تنهى عنه الصلاة. ثم إنها سبب لعلاج أدواء النفس الكثيرة كالبخل، والشح، والحسد، والهلع، والجزع، وغيرها. 46- الصيام: فبالصيام تزكو النفوس، ويستقيم السلوك، وتنشأ الأخلاق الرفيعة من رحمة، وكرم، وبر، وصلة، وبشاشة، وطلاقة، ونحو ذلك. وبالصيام تعلو الهمة، وتقوى الإرادة، ويتحقق الاطمئنان. فهو تدريب منظم على حمل المكروه، ودرس مفيد في سياسة المرء نفسه. ثم إن الصيام يحرك النفوس للخير، ويسكّنها عن الشر، ويطلقها من أسر العادات، ويحرّرها من فساد الطباع، ويجتث منها رعونة الغرائز. فهذه الأمور وغيرها من أعظم ما يعين على اكتساب

حسن الخلق. 47- قراءة القرآن بتدبر وتعقل: فهو كتاب الهدى والنور، وهو كتاب الأخلاق الأول، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، وحسن الخلق من جملة ما يهدي إليه القرآن الكريم. اقرأ على سبيل المثال سورة الإسراء، أو سورة النور، أو سورة الحجرات أو غيرها- تجد الوصايا العظيمة الجامعة التي لا توجد في أي كتاب آخر، والتي لو أخذت بها البشرية لتغير مسارها، ولاستنارت سبلها، ولعاشت عيشة الهناءة والعز. بل إن آية واحدة في القرآن جمعت مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] . ثم إن القرآن يدفع النفوس إلى الكمالات، ويملؤها بعظم الهمة، وإذا رأينا من بعض قرائه همما ضئيلة، ونفوسا خاملة- فلأنهم لم يتدبروا آياته، ولم يتفقهوا في حكمه. 48- تزكية النفس بالطاعة: فإن تزكية النفس

بطاعة الله- عز وجل- من أعظم ما يكسب الأخلاق الفاضلة إن لن تكن أعظمه. قال تعالى: {قد أفلح من زكّاها} الشمس: [9] . وقال: {قد أفلح من تزكّى} [الأعلى: 14] . 49- لزوم الحياء: فالحياء خلق سنيّ، يبعث على فعل الجميل وترك القبيح. فإذا تحلى المرء به انبعث إلى الفضائل، وأقصر عن الرذائل. والحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء خلق الإسلام، وهو شعبة من شعب الإيمان. قال عليه الصلاة والسلام: "الحياء لا يأتي إلا بخير" 1. وقال: "إن لكل دين خلقا؛ وخلق الإسلام الحياء" 2. وقال: "الحياء شعبة من شعب الإيمان" 3. وقال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى- إذا

_ 1 رواه البخار ي7/100، ومسلم 37. 2 رواه ابن ماجه 4181، وحسنه الألباني في صحيحه الجامع 2149. 3 رواه البخاري 1/8، ومسلم 35.

لم تستحي فاصنع ما شئت". قال ابن حبان: فالواجب على العاقل لزوم الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبذر الخير، وتركه أصل الجهل، وبذر الجهل. قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. 50- إفشاء السلام: فالسلام مدعاة للمحبة، ومجلبة للمودة، فإذا ما أفشى الناس السلام توادوا، وتحابوا، وإذا توادوا وتحابوا زكت نفوسهم، وزالت الوحشة فيما بينهم، فتحسن أخلاقهم تبعا لذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" 1. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن مما يصفّي لك ودّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب

_ 1 رواه مسلم "54"، وأخرجه أبو داوود "5193"، والترمذي "2688".

الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس. 51- إدامة النظر في السيرة النبوية: فالسيرة النبوية تضع بين يدي قارئها أعظم صورة عرفتها الإنسانية، وأكمل هدي وخلق في حياة البشرية. قال ابن حزم رحمه الله: من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها- فليقتد بمحمد رسول الله "وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الإتساء به بمنّه آمين. 52- النظر في سير الصحابة الكرام رضي الله عنهم: فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وسمته، وخلقه. فالنظر في سيرهم والاطلاع على أحوالهم- يبعث على التأسي بهم، والاهتداء بهديهم. 52- قراءة سير أهل الفضل والحلم: فإن قراءة سيرهم، والنظر في تراجمهم مما يحرك العزيمة إلى المعالي ومكارم الأخلاق؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام

القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم. وكثيرا ما بعث الناس إلى محاسن الأخلاق حكاية قرؤوها عن رجل فاضل، أو حادثة رويت عنه. 54- قراءة كتب الشمائل والكتب في الأخلاق: فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها. كما أنها تحذره من مساوئ الأخلاق، وتبين له سوء عواقبها، وطرق التخلص منها. والكتب في هذا الباب كثيرة جدا ومنها: أ- كتاب الشمائل المحمدية للترمذي. ب- كتب الأدب من الصحاح والسنن. ج- أدب الدنيا والدين للماوردي. د- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان. هـ- بهجة المجالس وأنس المجالس، وشحذ الذاهن والهاجس لابن عبد البر. و عيون الأخبار لابن قتيبة. ز- الأخلاق والسير في مداواة النفس لا بن حزم. ح- الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح.

ط- عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل. ي- جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب للقاسمي. ك- رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين. 55- الاطلاع على الحكم المأثورة: فالحكم أقوال مأثورة، وكلمات موجزة مؤثّرة، تشتمل على رأي سديد، وحكم صائب، وقول ناتج عن تجربة، وخبرة، ودراية بالأمور ومجرياتها. والحكم لا تصدر في الغالب إلا من عاقل حكيم، قد حنّكته التجارب، وعركته الأيام، ووسمته بميسمها. والحكم لها الأثر البالغ في النفوس؛ فهي تغري بالفضائل، وتبين معالمها، وترشد إلى المكارم والمعالي، وتدعو إلى اكتسابها، وتعين على التحلي بها؛ ذلك أن الحكم وليدة التعقل، وثمرة التجربة، وعصارة الفكر. والحكم توجد في الشعر والنثر على حد سواء. ولقد ورد عن الأسلاف من الحكم الجامعة، والوصايا النافعة ما يتعذر جمعه واستقصاؤه. وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك زيادة على ما ذكر في

تضاعيف هذا الكتاب. أ- قالت عائشة رضي الله عنها-: خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه ولا ابنه، وقد تكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب: صدق الحديث، ومداراة الناس، وصلة الرحم، وحفظ اللسان، والتذمم للجار، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، ورأسهن الحياء. ب- وقال الشاعر أبو العمثيل يمدح عبد الله بن طاهر، ويوصي مصعب بن عبد الله بن طاهر أن يسير على نول أبيه: يا من يحاول أن تكون خلاله ... كخلال عبد الله أنصت واسمع فلأقصدنّك بالنصيحة والذي ... حجّ الحجيج إليه فاقبل أو دع إن كنت تطمع أن تحلّ محلّه ... في المجد والشرف الأشم الأرفع

فاصدق وعفّ وبرّ وارفق واتّئد ... واحلم ودار وكاف واصبر واشجع والطف ولن وتأنّ وانصر واحتمل ... واحزم وجدّ وحام واحمل وادفع هذا الطريق إلى المكارم مهيعا ... فاسلك فقد أبصرت قصد المهيع قال علي بن عبد الرحمن بن هذيل عن هذه الأبيات: وقد جمعت هذه الأبيات خلال المكارم، وموجبات السؤدد، وتفاريق المروءة. ج- وقيل لقيس بن عاصم: بم سوّدك قومك؟ قال: بكفّ الأذى، وبذل الندى، ونصرة المولى. د- وقيل في وصف المكارم: إن المكارم أخلاق مطهرة ... فالعقل أولها والدين ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والصبر خامسها والصدق سادسها والشكر سابعها والجود ثامنها ... والرفق تاسعها واللين عاشيها

56- معرفة الأمثال السائرة: فالأمثال أقوال موجزة، تشبّه حالا مشاهدة منظورة بأحوال سابقة، والذي جمع بين الحال السابقة والحال القائمة هو المماثلة. هذا وللأمثال أثر في النفوس، وسيرورة في الناس؛ فهي تبعث على العمل، وتقوم السلوك، وتضيء السبل، وتهدي في معترك الحياة. وذلك بسبب ما تتضمنه من توجيه أو تنبيه أو تعليم؛ فالعاقل يسترشد إذا سمع المثل، والغافل يتذكر بالمثل ما مضى من حوادث التاريخ، وهكذا. وللأمثال أهداف تربوية وخلقية بما تدعو إليه من قيم نبيلة، ومثل عليا، وبما ترسمه للمرء في حياته من أنواع السلوك الحميد، والاحتياط للأمور، وحسن التصرف فيها، وبما تنهى عنه من السلوك السّيئ، والتصرفات الشائنة. ذلك أن الأمثال خفيفة الظل، سريعة الحفظ، تمزج الهزل بالجد، وتشير إلى ما تريد بطرف خفي، فتعالج كثيرا من الأمور بكلام يسير يصل إلى أعماق النفس. وما من موقف يمر به الإنسان في حياته إلا ويجد من الأمثال ما يعبر عنه، ويهوّن عليه بلاءه، أو يخفف من

غلوائه، أو يوجهه الوجهة الصحيحة التي تقوم سلوكه، فتحبّبه في الجميل، وتنفره من القبيح. قال علي بن عبد الرحمن بن هذيل: وليس يكمل أدب المرء حتى يعرف المثل السائر، والبيت النادر، وما يحكى عن أهل العصور من الأخبار العجيبة، وما وقع لهم من الألفاظ البليغة، والمعاني الغريبة؛ ففي ذلك العلم بالأمور، والعقل المكتسب، والأدب الصادر عن ذي المروءة والحسب. وهذا عند العرب رصيد ضخم من الأمثال لا يحويه كتاب، ولا يستوفيه مصنف. ومن الكتب المؤلفة في هذا الشأن ما يلي: 1- كتاب الأمثال لأبي عبيد. 2- مجمع الأمثال للميداني. 3- المستقصى من أمثال العرب للزمخشري. هذا ما تيسر جمعه وتقييده من الأسباب والأمور المعينة على اكتساب حسن الخلق، والله المسؤول أن يهدينا لأرشد أمرنا، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

§1/1