الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية

سعيد حوَّى

سعيد حوى الأساس في السنة وفقهها المجلد الأول القسم الأول السيرة النبوية دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة

الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلاَةُ وَالسّلامُ عَلَىَ رَسُولِ اللهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ راجع هذا القسم ودققه فضيلة الشيخ عبد الحميد الأحدب حفظه الله

[بين يدي الكتاب]

بسم الله الرحمن الرحيم مُقَدِّمَةُ النَّاشِر الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبع سنتهم وعمل بهديهم إلى يوم الدين. فقد روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه" فلقد يسر الله لنا أن قدمنا للأمة الإسلامية تفسير كتاب الله (الأساس في التفسير) وهو يعتبر القسم الأول من سلسلة الأساس في المنهج وأرجو أن نكون وقفنا في ذلك وها نحن والحمد لله نقدم لأمتنا الغالية (التي لم تعرف قدر نفسها) الكتاب الأول من القسم الثاني من سلسلة الأساس في المنهج والمكون من خمس كتب. والتي تمثل الأساس في السنة وفقهها، وهذا القسم له ما للتفسير من الأهمية، وخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الصيحات للأخذ بالقرآن دون السنة وهذا عن جهل أحياناً وعن علم وتخطيط ومكر أحياناً أخرى وقد اتخذت هذه الدعوات أشكالاً شتى، تارة بالطعن فيها وتارة بطبع الكتب وتوزيعها وتارة بالتشكيك في حجيتها ونصوصها وتارة في صحة نقلها وتارة بالطعن في رواتها كما تفعل بعض الفرق الضالة. وهذا الاتجاه قديم يعود للقرن الهجري الأول فقد أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً والغداة - أي الصبح - ركعتين والظهر أربعاً والعصر أربعاً؟ قال لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ الحديث، وفي نهاية الحديث يقول عمران بن حصين رضي الله عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله أشياء ليس لكم بها علم. بل إن الرسول صلى لله عليه وسلم قد أخبرنا عن أمثال هؤلاء المشككين في السنة النبوية وحذر

منهم فقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن المقدام بن معد يكرب (رضي الله عنه) قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله". وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول الله تبارك وتعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وأقول: الحمد لله الذي حفظ لنا القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عيه وسلم، والشائع أن الآية الكريمة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} هي للقرآن فقط، وإن كان هذا على أرجح الأقوال إلا أن حفظ السنة النبوية من لوازم حفظ الشريعة، وقد اختارها الله تعالى ديناً لعباده إلى قيام الساعة، وختم بها الشرائع، فكان من لوازم التدبير الإلهي أن تحفظ هذه الشريعة الغراء ولن يتحقق ذلك الحفظ إلا بحفظ أصيلها العظيمين الكتاب والسنة. وقد انفرد هذه الأمة عن باقي الأمم بأنها حفظت نصوص دينها حفظاً دقيقاً كاملاً لا مثيل له لتبقى زاد الأمم ومصدر هدايتها إلى قيام الساعة. إلا أن فهم هذه النصوص هي التي محل اجتهاد وتقديمها للناس بأسلوب يناسب العصور على تتابعها، والتركيز على ما يهم كل جيل من الأجيال وتلمس حاجاته ومراعاة مدى استيعابه وفهمه، وحل مشاكله. فهذا هو الذي نحن بحاجة إليه في عصرنا، فكان هذا الكتاب، الذي نأمل من الله تبارك وتعالى أن يسد ثغرة في وجه المشككين بالسنة. وأكرر دعوة وجهتها للقارئ الكريم على صفحات المقدمة في الأساس في التفسير أن لا يألو جهداً في توجيه النصح لنا لكي نتدارك ذلك في الطبعات القادمة إن شاء الله سواء ذلك للمؤلف حفظه الله أو للناشر فنكون له من الشاكرين، ورحم الله عملاق هذه الأمة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال: رحم الله أمرأ أهدى إليَّ عيوبي. وفي الختام اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. الناشر عبد القادر البكار

بسم الله الرحمن الرحيم تستطيع أن تقول إذا قرأت هذا الكتاب أنك كدت تحيط بمعاني السنة النبوية، لأنه حوى الهدي النبوي الذي روته أمهات كتب السنة: صحيحا البخاري ومسلم، والسنن الخمسة: لأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وموطأ الإمام مالك، ومسانيد: الإمام أحمد وأبي يعلي الموصلي وأبي بكر البزار، وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان، ومعاجم الطبراني الثلاثة ومستدرك الحاكم وما تيسر جمعه من يغر هذه الكتب من صحيح السنة وحسنها.

مقدمة الأساس في السنة وفقهها

مقدمة الأساس في السنة وفقهها وفيها أولاً: تعريف بهذا الكتاب. ثانياً: التعريف بأصول هذا الكتاب ومصنفيها.

أولا: تعريف بهذا الكتاب

أولاً: تعريف بهذا الكتاب تمهيد أقبلت على الدعوة الإسلامية - بفضل الله - في سنِّ مبكرة من حياتي، وكانت المكتبة الإسلامية لحديثة فقيرة، وكان من أبرز الكُتَّاب الذين تصادفنا كتبهم في تلك الأيام الشيخ محمد الغزالي - أطال الله بقاءه - وكان مما قرأت له كتاب فقه السيرة، وكان مما قاله في هذا الكتاب: إن القرآن روح الإسلام ومادته، وفي آياته المحكمة شُرِحَ دستوره وبُسِطَتْ دعوته، وقد تكفل الله بحفظه فصِينت به حقيقة الدين، وكُتِبَ لها الخلود أبد الآبدين، وكان الرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالته (قرآناً) حياً يسعى بين الناس، كان مثالاً لما صوَّره القرآن من إيمان وإخبات، وسعي وجهاد، وحق وقوة، وفقه وبيان، فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه، ونواحي حياته كلها تعد ركناً في الدين، وشريعة للمؤمنين. إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه، فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال؟ ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي يتواءم مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة؟ إن تطبيق القانون لا يقل خطراً عن صياغته، وللقانون نص وروح، وعند علاج الأحداث المختلفة لتسير وفق القانون العتيد، تجدُّ فتاوى وتدوّنُ نصائح، وتُحفظ تجارب وعِبر، وتثبت أحكام بعضها أقرب إلى حرفية النص وبعضها أدنى إلى روحه .. وهكذا. والقرآن هو قانون الإسلام، والسنة هي تطبيقه، والمسلم مكلف باحترام هذا التطبيق تكليفه باحترام القانون نفسه، وقد أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم حق الاتباع فيما يأمر به وينهى عنه لأنه - في ذلك - لا يصدر عن نفسه بل عن توجيه ربه، فطاعته هي طاعة الله، قال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ

حَفِيظًا} (1). وقال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2). وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3). إن السير في ركاب المرسلين هو الخير كله، ومن ثَمَّ كانت سنة محمد - عليه الصلاة والسلام - مصدراً لشريعته مع الكتاب الذي شرفهُ الله به، إلا أن السنن المأثورة عرض لها ما يوجب اليقظة في تلقيها، فليس كل ما ينسب إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - سنة تقبل، ولا كل ما صحت نسبته صح فهمهن أو وُضِعَ موضعه. والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة - لسهولة تزييفها وفضحها - قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أُسيءَ فهمها واضطربت أوضاعها، حتى جاء أخيراً من ينظر إلى السنن جمعاء نظرة ريبة واتهام، ويتمنى لو تخلص المسلمون منها. وهذا خطأ من ناحيتين: إهمال الحقيقة التاريخية أولاً، فإن الدنيا لم تعرف بشراً أحصيت آثاره ونقدت بحذر، ومُحِّصت بدقة، كما حدث ذلك في آثار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. والناحية الأخرى أن في السنة كنوزاً من الحكمة العالية، لو نسب بعضها إلى أحد من الناس لكان من عظماء المصلحين، فلماذا تضيع ويحرم الناس خيرها؟! عندما درسنا تراث محمد - صلى الله عليه وسلم - في (الأخلاق) وذاكرنا أحاديثه التي تربو على الألوف في شتى الفضائل، خيل إلينا: لو أن جيشاً من علماء النفس والتربية اجتمع ليسوق للعالم مثل هذا الأدب لعجز، والأخلاق شعبة واحدة من رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - الضخمة أهـ. وهكذا استقر في ذهني منذ بدايات سيري إلى الله ضرورة التعرف على السنة الصحيحة والحسنة، وضرورة فهمها فهماً صحيحاً. وبعد مطالعات كثيرة في كتب السنة وجدت أن الحاجة ملحة لوجود كتاب يجمع السنة الصحيحة والحسنة، ويقدم مع ذلك الفهم الصحيح للنصوص التي تحتاج إلى شرح أو توضيح. ومن ثم ولدت فكرة هذا الكتاب.

_ (1) النساء: 80. (2) النحل: 44. (3) الحشر: 7.

وأثناء مطالعاتي في كتب السنة كنت أتردد في قراءة بعض الكلمات أو الأسماء بسبب من غياب الشكل والضبط، وإذا ما أردت التحقيق كان ذلك يستغرق قسماً من الوقت ليس قليلاً، وكثيراً ما كانت تفوتني معاني بعض الكلمات والتراكيب، وكان ذلك يقتضي مني بحثاً طويلاً إن أردت المعرفة، فشعرت أنه إذا كان من الضروري أن تجمع السنة المعتمدة في كتاب، وأن يعرض ي هذا الكتاب الفهم الصحيح لبعض النصوص، فلابد أن يكون هذا الكتاب مشكلاً مشروحاً فيه كل ما هو غامض في حق القارئ العادي. وأثناء مطالعاتي ف يكتب السنة كنت ألاحظ أن المؤلفين فيها ما تركوا شيئا إلا وعملوا على خدمة السنة النبوية فيه، ولكنه شيء عادي أن يتحكم في تأليف كل عصر اهتمامات ذلك العصر، فالتأليف في الأصل وليد الحاجة أو وليد الظرف، فمثلاً حيثما وجد صراع مذهبي أو وجدت فرقة ضالة أو جهل معين أو انحراف ما فلابد أن يراعى في تأليف أهل ذلك العصر مثل هذا، ومن ههنا تبرز عناوين ويركز على موضوعات، وقد يتغلب نوع من الترتيب في عصر على غيره، وقد وجدت أن موضوعات كثيرة مما تهم عصرنا لم تنل حظها من الإبراز، كما أني وجدت أن نوعاً من الترتيب يمكن أن يكون أكثر مناسبة للقارئ العادي، وأكثر تحقيقاً لبعض المعاني التربوية أو النفسية التي أحرص عليها. وكان مما استقر ف نفسي أن احتياجات القارئ العادي غير احتياجات القارئ المختص، فالقارئ العادي يهمه الجوهر دون ما احتاجه حفظ هذا الجوهر أو تمييزه عن غيره، ولما كانت أكثر كتب الحديث تهتم بما أحاط بالسنة أو لزم لتمحيصها اهتمامها بالسنة نفسها فقد وجدت أن كتاباً ينصبُّ الكلام فيه على السنة ذاتها دون ما أحاط بها من ضرورات التحقيق هو الذي يحتاجه القارئ غير المختص في عصرنا. وهذا الكتاب للقارئ المسلم مطلقاً. وإذ كنت أرى أن من واجبات دعاة الإسلام في عصرنا أن يقدموا للناس نصوص الكتاب والسنة بأسهل عرض وأجوده، وأقوم شرح وأعدله، خاصة وهم يريدون أن يقدموا للعالم هذا الإسلام، ويريدون أن يصوغوا الحياة عليه، فقد وجدت من الضرورة أن توجد

سلسلة في هذا الشأن، وهكذا تأكد لديَّ إصدار سلسلة الأساس في المنهج بأقسامها الثلاثة: (الأساس في التفسير) و (الأساس في السنة) و (الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص). وإذ كنت أتصور أنه لا تنضج شخصية الداعية والقائد المسلم في عصرنا إلا باستكماله دراسة عدة أمور، منها السنة النبوية، فقد رأيت أنه لابد من كتاب جامع لنصوص السنة الصحيحة والحسنة يدرسه كل من يتصدر للدعوة إلى الله أو تؤهله مؤهلاته لذلك، أو يقدمه إخوانه للقيادة الإسلامية الراشدة. وكان هذا عاملاً من عوامل تأليف هذا الكتاب. * * * هذه بعض الدوافع التي دفعت إلى التفكير في إخراج هذا الكتاب. ودعني الآن أحدثك بعض الحديث عن بعض المباحث الحديثية وغيرها بين يدي ما فعلته؛ ليخرج هذا الكتاب بالشكل الذي تراه، والذي أطمع أن يكون قد حقق كل ما استهدفته منه. (1) انفردت الأمة الإسلامية عن جميع الأمم بأنها حفظت نصوص دينها حفظاً دقيقاً كاملاً، وذلك من معجزات الإسلام، وأن ما قاله كتابه هو الحق والصدق، يشهد لذلك تحقق قوله - جل جلاله -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) فلقد حفظ القرآن حفظاً لا ينتطح فيه عنزان، وحفظت السنة النبوية التي تشرح القرآن حفظاً هو وحده معجزة، فلقد وُقِّفَتْ هذه الأمة إلى اعتماد كل ما يلزم لحفظ النصوص، وقد قامت جهود هائلة من أجل ذلك، ومن عرف حقائق هذا الأمر أدرك معجزة الإسلام هذه. (2) اعتمدت الأمة الإسلامية من أجل حفظ نصوص الوحي مبدأي الرواية والتثبت،

_ (1) الحجر: 9.

وتوضَّعَتْ نتيجة لاعتماد هذين المبدأين مئات الاصطلاحات والقواعد والضوابط وعشرات العلوم وأنواع الدراسات، ونتج عن ذلك عشرات الألوف من الكتب، وكل ذلك للوصول في النهاية إلى ما يصح اعتماده من النصوص ومالا يصح. (3) انصب جهد القراء على حفظ الشاردة والواردة مما له علاقة بالقرآن الكريم، أحرفه ورواياته، من الهمس فيه إلى تعدد اللهجات في النطق به، إلى استقراء طرائق الأداء التي أدى بها الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرآن لشتى القبائل. وانصبَّ جهد المحدثين على حفظ الحديث وتبيان ما داخله أو خالطه أو أدخل عليه. وبهذا الجهد وذاك قدم القراء والمحدثون المادة الخام لكل علوم الإسلام التي انبثقت عن الكتاب والسنة، كعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم التفسير وعلم الأصول وعلوم العقائد والفقه والأخلاق والآداب والسلوك وعلوم السيرة والشمائل والخصائص إلى غير ذلك من علوم أمهات، ولقد وسِعَتْ هذه المادة الخام الحياة كلها؛ ولذلك فإن الدراسات والمعاني التي يمكن أن تنبثق عن الكتاب والسنة لا تتناهى. وإذا كانت المحصلة المرادة من النصوص هي الأحكام الشرعية فقد وجد علم أصول الفقه الذي يضبط كيفية الوصول إلى الأحكام الشرعية التي تسع الزمان والمكان والتي لا تتناهى كذلك. وهذا العلم - علم أصول الفقه - هو الذي وضع القواعد التي تضع السنة في محلها بالنسبة لأصول التشريع، والذي وضع قواعد الوصول إلى الحكم الشرعي من خلال استشراف النصوص وأصول الأحكام. وهكذا تعاون القراء والمحدثون والمجتهدون والأصوليون والراسخون في العلم بعامة على وضع كل نص في محله بالنسبة لبناء الإسلام.

(4) وقد اشتغل المحدثون للتثبت من المرويات على محورين: محور السند، ومحور المتن. فعلى محور السند: درسوا وضع الرواة: عدالتهم وصدقهم وضبطهم، واجتماعهم ببعضهم، وإمكانية أخذ بعضهم عن بعض، إلى غير ذلك. وعلى محور المتن: قارنوا بين المتون المروية فإذا خالف الثقة من هو أوثق منه أو إذا خالف الثقة الثقات لم يقبلوا المتن إلا إذا أمكن الجمع بين الحديثين. وهكذا من خلال سير السند ومقارنة المتون أحكموا أمر التثبت، ومع ذلك فإنهم لم يكتفوا بذلك بل أوجبوا على أنفسهم أن ينظروا نظرة شمولية إلى السند والمتن بعي الخبير بشأنها البصير بهما، لعلهم يكتشفون قادحاً خفياً، ومن ثم أوجدوا ما يسمى بعلم العلل، ولم يعتبروا الحديث صحيحاً إلا إذا سلم من الشذوذ والعلة. وهذا كله كان جهد المحدثين، وأكمل عملهم الأئمة المجتهدون، فإذا كان المحدثون مهمتهم النظر في السند والمتن ومقارنة متون السنة النبوية ببعضها البعض لمعرفة الشذوذ في الرواية، فمهمة المجتهدين أن يستشرفوا نصوص الكتاب والسنة، وأن يلحظوا ما إذا كانت رواية من الروايات تخالف معنى قرآنياً أو قاعدة تشريعية، وهكذا أكمل المجتهد عمل المحدث، ولذلك ترى بعض النصوص صححها المحدثون ولم يأخذ بها الأئمة المجتهدون إما لاعتبارها مخالفة لنص قرآني أو لقاعدة شرعية محكمة أو لاعتبارهم إياها سنة يومية فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم قيادته السياسية للدولة الإسلامية، وإذ كانت هذه القضية من أخطر القضايا لما يترتب عليها من تعطيل السنن فإنها محرمة إلا على أهل الاجتهاد، ولذلك اعتبروا من يتصدر للاجتهاد وليس أهلاً له ضالاً مضلاً؛ لما يترتب على اجتهاده من تعطيل لبعض النصوص أو مس لهيكل الشريعة. وهكذا تضافرت جهود لا مثيل لها حتى بقيت نصوص الإسلام سليمة من الخلط أو التحريف أو التبديل أو الزيادة أو النقص، لتبقى زاد الأمم ومصدر هدايتها إلى قيام الساعة. * * *

ضخامة المكتبة الحديثية

ضخامة المكتبة الحديثية: وائذن لي أن أحدثك من أقرب طريق - عن المكتبة الحديثية، وذلك من خلال استعراض كتاب مشهور عنوانه: (الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة) لمؤلفه السيد: محمد بن جعفر الكتاني - رحمه الله - وذلك بين يدي ما فعلت لتحقيق ما استهدفته في هذا الكتاب. بدأ المؤلف الحديث عن المؤلفات الأولى في السنة النبوية، وذكر أعلام المؤلفين في القرنين الأول والثاني، ثم تحدث عن تتابع التأليف فقال: ثم كثرت بعد ذلك التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، حتى أربت على العد وارتقت من كثرتها عن التفصيل والحد، وهي مراتب متفاوتة وأنواع مختلفة، فمنها ما ينبغي لطالب الحديث البداءة به، وذكر الأصول الستة صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه. ثم ذكر كتب السنة التي تعتبر أساساً لمذاهب الأئمة الأربعة فذكر موطأ الإمام مالك ومسند الإمام أبي حنيفة وقد قال في الأخير منهما: ومسند إمام الأئمة - أيضاً - ركن الإسلام أبي حنيفة النعمان بن ثابت القارئ الكوفي فقيه العراق، المتوفى ببغداد سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة، وله خمسة عشر مسنداً، وأوصلها الإمام أبو الصبر أيوب الخلوتي في ثبته إلى سبعة عشر مسنداً، كلها تنسب إليه لكونها من حديثه وإن لم تكن من تأليفه، وقد جمع بين خمسة عشر منها أبو المؤيد محمد بن محمود بن محمد بن الحسن الخطيب الخوارزمي - نسبة إلى خُوارِزم بضم الخاء وكسر الراء ناحية معلومة - المتوفى سنة خمس وخمسين وستمائة، في كتاب سماه جامع المسانيد، رتبه على ترتيب أبواب الفقه بحذف المعاد وترك تكرير الإسناد. ثم ذكر مسند الإمام الشافعي وعرّف به ثم ذكر مسند الإمام أحمد وعرف به وبعد ذلك قال: فهذه كتب الأئمة الأربعة وبإضافتها إلى الستة الأول تكمل الكتب العشرة التي هي أصول

الإسلام وعليها مدار الدين. ثم قال: ومنها - أي ومن كتب السنة - كتب التزم أهلها فيها الصحة من غير ما تقدم. فذكر: صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان وصحيح الحاكم وكتاب الإلزامات للدارقطني كتاب المستدرك للحافظ أبي ذر الهروي وصحيح الحافظ أبي حامد النيسابوري المعروف بابن الشرفي وكتاب الأحاديث الجياد المختارة لضياء الدين المقدسي وكتاب المنتقى لابن الجارود وكتاب المنقى لابن أصبع الأندلسي وصحيح ابن السكن، والكتب المخرّجة على الصحيحين أو أحدهما: كمستخرج الإسماعيلي، ومستخرج الغطريفي ومستخرج أبي ذهل ومستخرج ابن مردويه الكبير ومستخرج أبي عوانة ومستخرج ابن أصبع ومستخرج أبي جعفر الحبري ومستخرج محمد بن محمد النيسابوري ومستخرج الجوزقي ومستخرج الشاركي ومستخرج أبي الوليد القزويني ومستخرج أبي عمران الجويني ومستخرج أبي النصر الطوسي ومستخرج أبي عثمان الحيري ومستخرج أحمد بن سلمة النيسابوري ومستخرج أحمد بن محمد الطوسي البلاذري ... إلى كثيرين آخرين ذكرهم، لهم مستخرجات بأسانيد أخرى للصحيحين أو لأحدهما، وكلها تفيد توثيق أحاديث الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم. ثم تحدث عن الكتب المؤلفة في السنن، وهي الكتب المؤلفة على أبواب الفقه، فذكر زيادة على الكتب الأربعة المشهورة: سنن الإمام الشافعي للمزني وسنن النسائي الكبرى وسنن ابن جريج الرومي وسنن سعيد بن منصور وسنن الكشي وسنن محمد بن الصباح البزار وسنن أبي قرة موسى بن طارق وسنن الأشرم وسنن الخلال وسنن سهل بن أبي سهل وسنن الصفار وسنن الهمداني وسنن ابن لال وسنن النجاد وسنن بان إسحاق وسنن يوسف بن يعقوب الأزدي اللالكائي. ثم قال: فهذه هي مشاهير كتب السنة وبعضها أشهر من بعض وبإضافتها إلى السنن الأربعة السابقة تكمل كتب السنن خمسة وعشرين كتاباً. ثم تحدث عن نوع آخر من التأليف، وهو في الحض على اتباع السنة وترك الأهواء والبدع، فذكر ستة عشر كتاباً.

ثم ذكر نوعاً آخر من التآليف في السنة وهي كتب مرتبة على الأبواب الفقهية، مشتملة على السنن وما هو في حيزها أو له تعلق بها بعضها يسمى مصنفاً وبعضها جامعاً وغير ذلك سوى ما تقدم، فذكر اثنين وعشرين كتاباً. ثم ذكر نوعاً آخر من التصانيف وهي الكتب المفردة في الآداب والأخلاق والترغيب والترهيب والفضائل ونحو ذلك فذكر حوالي مئة وأربعين كتاباً. ثم ذكر نوعاً آخر من التصانيف وهي كتب المسانيد - جمع مسند - وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحاً كان أو حسناً أو ضعيفاً، مرتبين على حروف الهجاء أو على القبائل أو على السابقة في الإسلام أو الشرف في النسب، وقد يقتصر في بعضها على أحاديث صحابي واحد أو أكثر. قال: (والمسانيد كثيرة جداً) ثم عدد ما تيسر له ذكره منها فذكر اثنين وثمانين مسنداً ثم ذكر كتباً لم تؤلف في السنة قصداً، ولكنها حوت الكثير من نصوصها، ككتب التفسير والكتب المؤلفة في المصاحف والقراءات وكتب الناسخ والمنسوخ وذكر أسماء العشرات منها. ثم تحدث عما يُسمى بالأجزاء الحديثية وهي كتب مفردة في موضوع أو في روايات أو مرويات فذكر العشرات منها. ثم ذكر كتباً مؤلفة تحت عنوان (الفوائد) فذكر كثيراً منها. ثم ذكر ما يُسمَّى خصوصيات انفرد بها بعض الأئمة وألف فيها آخرون فذكر الكثير من ذلك. ثم تحدث عن كتب الشمائل النبوية والسير المصطفوية والمغازي فذكر منها تسعة

وعشرين كتاباً. ثم تحدث عن نوع من الكتب يجمع أحاديث شيوخ بأعيانهم فذكر أحد عشر كتاباً. ثم ذكر كتباً تجمع طرق بعض الأحاديث فذكر عشرة كتب. ثم تحدث عن نوع من الكتب فذكر رواية بعض الأئمة المشهورين فذكر اثني عشر كتاباً. ثم ذكر الكتب التي تتحدث عن الأحاديث الأفراد فذكر أربعة كتب. ثم تحدث عن الكتب التي تتحدث عن المتفق لفظاً وخطأ والمفترق معنى من الأسماء والألقاب والأنساب وعن المتفق خطا والمختلف لفظاً .. وذكر ثلاثة وثلاثين كتاباً مؤلفاً فيها. ثم تحدث عن نوع آخر من التأليف وهو في مهمات الأسانيد والمتون فذكر ثلاثة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب الأنساب فذكر أحد عشر كتاباً. ثم تحدث عن الكتب المؤلفة في معرفة الصحابة فذكر ثمانية عشر كتاباً. ثم تحدث عن الكتب المؤلفة في تواريخ الرجال وأحوالهم فذكر ثلاثة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب المعاجم، وهي الكتب التي تذكر الأحاديث على ترتيب الصحابة أو الشيوخ أو البلدان أو غير ذلك فذكر ثلاثة وأربعين معجماً. ثم تحدث عن كتب الطبقات وهي التي تشتمل على ذكر الشيوخ وأحوالهم ورواياتهم طبقة بعد طبقة وعصراً بعد عصر إلى زمن المؤلف فذكر ثمانية عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب المشيخات، وهي التي تشتمل على ذكر الشيوخ الذين لقيهم مؤلف وأخذ عنهم، أو أجازوه وإن لم يلقهم فذكر ثلاثة عشر كتاباً.

ثم تحدث عن الكتب المؤلفة في علوم الحديث - أي مصطلحه -، ذكرت فيها أحاديث بأسانيد فذكر منها ثمانية كتب. ثم تحدث عن الكتب التي تتحدث عن الضعفاء من الرواة، أو تتحدث عن الثقات، فذكر خمسة وعشرين كتاباً. ثم ذكر الكتب التي تتحدث عن الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ثلاثة وعشرين كتاباً. ثم ذكر الكتب المؤلفة في غريب الحديث - أي في شرح الكلمات الغامضة منه - فذكر سبعة عشر كتاباً. ثم ذكر كتباً تتحدث عن مشكل الحديث وهي كتب تجمع بن النصوص فترد المتشابه إلى المحكم او ترجح النسخ أو عدمه فذكر خمسة كتب. وهناك كتب الأمالي التي يملي فيها الشيخ على تلاميذه في جلسات عامة فتسجل، ذكر منها واحداً وثلاثين كتاباً. ثم ذكر الكتب التي تتحدث عن رواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الآباء عن الأبناء والعكس، فذكر ستة كتب مؤلفة فيها. ثم تحدث عن الكتب التي يجمع فهيا الأسانيد العالية أي التي يقل فيها الرواية بين الشيخ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أربعة عشر كتاباً. ثم ذكر كتباً في التصوف فيها أحاديث بأسانيد فذكر ثلاثة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب الأطراف، وهي التي يقتصر فيها على ذرك طرف الحديث الدالِّ على بقيته، مع الجمع لأسانيده إما على طريق الاستيعاب أو على جهة التقيد بكتب مخصوصة، فذكر خمسة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب الزوائد، أي الأحاديث التي تزيد فيها بعض كتب الحديث على بعض آخر معين منها، كزوائد سنن ابن ماجه على كتب الحفاظ الخمسة للشهاب البوصيري،

فذكر تسعة عشر كتاباً. ثم ذكر الكتب التي تجمع بين بعض الكتب الحديثية فذكر سبعة عشر كتاباً. ثم ذكر كتباً مجردة من الأسانيد أو كتباً فيها أحاديث منتقاة فذكر واحداً وثلاثين كتاباً. ثم ذكر كتباً تختص بتخريج الأحاديث الواردة في كتب بعض المصنفين فذكر ثلاثة وأربعين كتاباً. ثم ذكر بعض الكتب التي تتحدث عن الأحاديث المشتهرة على الألسنة فذكر أحد عشر كتاباً. ثم تحدث عن الكتب التي جمعت فتاوى مبناها على النصوص، والتي تسمى الفتاوى الحديثية، فذكر منها ستة كتب. ثم تحدث عن كتب تجمع نوعاً من الحديث كالحديث المتواتر، فذكر خمسة كتب. ثم ذكر كتباً في التفسير والشروح الحديثية لأهلها اعتناء بالحديث ومعرفة به وإكثار من رواياته، فذكر عشرة كتب. ثم ذكر كتباً في السيرة النبوية والخصائص المحمدية غير ما سبق، فتحدث عن ثلاثة وثلاثين كتاباً. ثم تحدث عن كتب في أسماء الصحابة غير ما ذكر، فذكر ثلاثة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب تذكر أحوال الرواة وتضبط أسماءهم وأسماء بلدانهم غير ما ذكره من قبل، فذكر ثلاثة وخمسين كتاباً. ثم تحدث عن كتب الوفيات فذكر أربعة عشر كتاباً. ثم تحدث عن كتب مصطلح الحديث فذكر ستة وثلاثين كتاباً. ثم ختم كتابه بالحض على الاشتغال بعلوم الحديث. * * *

من هذا العرض المختصر ندرك الجهود الهائلة التي بذلتها الأمة الإسلامية في خدمة سنة نبيها صلى الله عليه وسلم حتى تبقى غضة طرية متميزة عما سواها، معلماً للهداية الربانية، فإذا ما ألقيت نظرة على كتب مصطلح الحديث تجد الدقة العلمية في البحث بما لا تطال العقول أرفع منه، ولا تحكم العقول بأن هناك أكثر منهجية في الوصول إلى الحق الخالص منه، فهناك قواعد لجرح وتعديل الرواة، وهناك قواعد تُسيرُ بها المتون. وكأثر عن هذا كله ميز العلماء بين أكثر من خمسين نوعاً من أنواع الأحاديث كلها متفرعة عن دراسة السند والمتن، وكل ذلك في النهاية للوصول إلى ما تبنى عليه الأحكام من المرويات، كالأحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، أو معنى فقط، والأحاديث الصحيحة والحسنة، ومن أجل ذلك كتبوا كل رواية لأن الروايات الضعيفة يمكن أن يكون لها دخل في تحسين حديث أو في تصحيحه، واقتضى ذلك منهم جهوداً كبيرة، حتى إن الإمام أحمد كان يحفظ مليون حديث بأسانيدها ومتونها، وهذا يعني بالضرورة أنه دخل كثيرون من الرجال تحت أشعة رصده، فإذا ما عرفنا أن تشعب الروايات يكثر كلما تطاول الزمن أدركنا كم من الجهود بذلت في خدمة السنة النبوية. ومن أجل الوصول إلى هذا الجوهر كم وجدت من دراسات وتوضعت من قواعد، ويكفي أن تقرأ كتاباً في مصطلح الحديث حتى تدرك جلل ما تذكره لك. فمن أجل تمحيص الرواية وُجدتْ علوم كعلم الوفيات وسني الولادة، ووجدت دراسات مستوعبة عن كل راوٍ، عن عقيدته وسلوكه وصدقه وكذبه وعن عوامل الجرح أو التعديل في حياته، ومن أجل المتن وجدت علوم كعلم المقارنة بين المتون لمعرفة العلل والشذوذ، ولمعرفة الناسخ والمنسوخ، وتوضعت نتيجة لذلك مصطلحات. ثم كان علم أصول الفقه هو العلم المكمل بالنسبة للسنة النبوية، إذ أنه هو العلم الذي تحدث عن محل السنة بالنسبة لأصول التشريع الأربعة الرئيسية وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهو الذي تحدث عن قوة إلزامية السنة بحسب كونها متواترة أو صحيحة أو حسنة أو غير ذلك، وهو الذي وضع القواعد التي تجمع بين النصوص بعضها مع بعض وبين

النصوص والأحكام العقلية والعادية، وهو الذي وضع القواعد لاستخراج الحكم الشرعي بناء على أن هناك رخصة وعزيمة وقواعد أصلية وأحوالاً استثنائية ... إن من ثمرات العلم بالكتاب والسنة وأصول الفقه الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي في كل قضية من قضايا المكلفين، وثمرة ذلك كله الاعتقاد الصحيح والعمل الصحيح، المقبولان عند الله تعالى، وإن ذلك لشيء عظيم وكبير، فهؤلاء الذين اجتمع لهم حسن الاعتقاد وحسن العمل هم وحدهم من بين أفراد هذا العالم الذين حققوا معنى العبودية لله - عز وجل -. * * * إذا عرفت ما مرَّ وثقت في تحقيقات الراسخين في العلم، وأدركت عظم الجهود التي قام بها علماؤنا في خدمة السنة النبوية، تثبتاً في شأنها وتخليصاً لها عن سواها، وفي الوقت نفسه تدرك استحالة جمع كل ما ورد في السنة النبوية في كتاب، بل استحالة أن يطلع إنسان ما على كل ما كتب في السنة، فضلاً عن جمع كل روايات السنة في كتاب. ولكن إذا عرفت معاني أخرى فإن ذلك يرجعك إلى أن تطمئن إلى أنه بإمكانك أن تطلع بسرعة على معاني السنة دون أن تغرق في بحار التآليف. إنك إذا عرفت أن الكتب الستة المشهورة في السنة وهي: صحيحا البخاري ومسلم، والسنن الأربعة لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، والمختلف في السادس منها: هل هو الموطأ أو سنن ابن ماجه - والتي تلقتها ألأمة بالقبول - ما فاتها إلا القليل من الأحاديث الصحيحة، وإذا عرفت أن هذه الكتب الستة تمت محاولات لجمع معانيها في مجلدين كما فعل ذلك ابن الديبع الشيباني في كتابه: (تيسير الوصول إلى جامع الأصول) مثلاً؛ إذا عرفت ذلك أدركت أن بإمكانك أن تعرف معاني السنة النبوية عن طرق مختصرة. وقد اشتهرت بجانب الكتب الستة كتب أخرى، كمسند الإمام أحمد ومسند أبي بكر والبزار ومسند أبي يعلي الموصلي، ومعاجم الطبراني الثلاثة، فلو أنك قرأت زوائد هذه الكتب على الكتب الستة أو السبعة فإنك تستطيع أن تثق أنه ما فاتك إلا القليل، وإلا تحقيقات وكماليات، فإذا اطمأننت إلى كلامنا هذا فقد آن الأوان لنحدثك عن كتابنا هذا. * * *

منهج تأليف هذا الكتاب

منهج تأليف هذا الكتاب 1 - تستطيع أن تقول إذا قرأت هذا الكتاب أنك كدت أن تحيط بمعاني السنة النبوية، لأنه حوى الهدي النبوي الذي روته أمهات كتب السنة وهي سبعة عشر كتاباً هي: صحيحا البخاري ومسلم، والسنن الخمسة: لأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وموطأ الإمام مالك، ومسانيد الإمام أحمد وأبي يعلي الموصلي وأبي بكر البزار، وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان، ومعاجم الطبراني الثلاثة، ومستدرك الحاكم، وما تيسر جمعه من غير هذه الكتب من صحيح السنة وحسنها. فقد اتجه الهمة لأن تكون هذه الكتب السبعة عشر هي أصول هذا الكتاب، على أن أستفيد من الكتب التي جمعت بعضها أو أكثر من أمثال الجامع للأصول لابن الأثير أو مجمع الزوائد للهيثمي أو جمع الفوائد لحمد بن محمد بن سليمان المغربي. 2 - وقد ألزمت نفسي ألا آخذ من هذه الأصول إلا حديثاً صحيحاً أو حسناً، وقد أدخلت في الكتاب بعض ما صادفني من الحديث الصحيح أو الحسن مما ليس في الكتب السبعة عشر، فتميز هذا الكتاب على كتب الجمع الأخرى بأنه ما حوى إلا الصحيح والحسن، وحاول أن يستقصي أصوله، مع ملاحظة أن هناك روايات في أصول هذا الكتاب لا تدخل بشكل مباشر في مقصوده، فأسقطتها، فهناك روايات كثيرة مثلاً تتحدث عن أنساب الصحابة وعن تاريخ وفياتهم مما يصلح لدراسات إحصائية استقرائية، ومما محله كتب التاريخ ومما لا تعلق مباشراً له بالهدي النبوي الذي يحتاجه كل مسلم، أو بالمعرفة التي يُطالب بها كل مسلم، ولذلك فقد أسقطت مثل هذه الروايات في الغالب من كتابي. وقد أدخلت في هذا الكتاب بعض الأحاديث المرسلة مع ما يقال في الأحاديث المرسلة، لأن لها محلها في البناء الأصولي لمن يريد التحقيق، وأدخلت روايات أناس اختلف عليهم إذا حكم إمام لحديثهم بالصحة أو الحسن إذا وُجد ما يقوي الرواية. 3 - ولم أكتف بتصحيح أو تحسين من اشتهر عنهم أنهم يتساهلون في التصحيح والتحسين كالترمذي وابن حبان والحاكم إلا إذا أكد ذلك إمام آخر أو محقق ثبت، وكل ذلك ليطمئن

القارئ والداعية أن ما يأخذه من هذا الكتاب حجة وبه تقوم الحجة بإذن الله، ونرجو أن يكون مأجوراً في علمه وعمله إذا بناه على هذا الكتاب. وإذا كنا أد خلنا روايات لأناس اختلف عليهم فذلك لأن التصحيح والتحسين والتضعيف يخضع في بعض حيثياته لعوامل ذوقية. وللتبحر في علم الحديث، وللخبرة دخلهما في ذلك، ومن ثم كان للاجتهاد دخل في التصحيح أو التحسين أو التضعيف، ألا ترى أن بعض قواعد الجرح والتعديل محل خلاف؟ ومع أننا أدخلنا بعض ما اختلف فيه إذا كان التحقيق يوصل إلى تصحيح أو تحسين، فقد حاولنا أن نذكر وجهات النظر الأخرى إذا عثرنا عليها احتياطاً لحرمة جناب السنة النبوية المطهرة. وإنما انصب جهدي على جمع الصحيح والحسن؛ لأنهما اللذان عليهما مدار الأحكام، وبهما تقوم الحجة، ولم أدخل الضعيف في متن هذا الكتاب - مع أن الضعيف لا يعتبر موضوعاً بالضرورة، وبالتالي فاحتمال أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم - لأنني استهدفت بهذا الكتاب معاني متعددة .. منها: أن يألف القارئ العبارة النبوية وأن يراها خالصة لا يخالطها غيرها. ومنها: حفظ القارئ عن التشويش والاضطراب وتغير الخاطر وقلق الفكر. ومنها: حفظ وقت القارئ. ومنها: أن يندفع القارئ في العمل دون تردد. 4 - وقد كنت ذكرت في مقدمة كتاب الأساس في التفسير بعض احتياجات الأمة الإسلامية في عصرنا بالنسبة للسنة فقلت: أ - المسلم المعاصر عنده رغبة في أن يتعرف على السنة المتواترة والصحيحة والحسنة السند، ويحتاج إلى كتاب جامع لذلك كله، على أن يكون هذا الكتاب مضبوطاً شكله

مشروحاً غريبه. ب - والمسلم غير المتخصص في الحديث يهمه كذلك أن يأخذ الجوهر - دون ما احتاجه هذا الجوهر لحمايته - أي هو يحرص على أن يقرأ متون السنة دون أسانيدها. جـ - والمسلم المعاصر بحاجة إلى أني فهم السنة فهماً صحيحاً وأن يأخذ الجواب الشافي على كثير من الإشكالات، وأن يعرف كثيراً من الأمور التي يتلجلج في قلبه سؤال عنها. د - وهناك شبهات حول السنة يثيرها أعداء الله عز وجل، وهناك مناقشات حادة حول الكثير من الأمور بين المسلمين أنفسهم في شأن فهم الكثير من متون السنة، وكل ذلك يحتاج المسلم المعاصر إلى أن يرتاح قلبه في شأنه. هذا ما ذكرته في مقدمة كتاب التفسير عما يحتاجه المسلم المعاصر بالنسبة للسنة وشيء عادي أن أراعي ذلك في هذا الكتاب. 5 - ولما كان هذا الكتاب ليس جمعاً للسنة فقط، بل جمع للسنة وحديث عن شيء من فقهها، وذلك من أهداف هذا الكتاب، فإنني أدخلت بعض تحقيقات أهل الاختصاص فيه، وذلك شيء لابد منه لمريد فهم السنة؛ فهناك نصوص في السنة فهمها بعض الناس فهماً خاطئاً فضلوا وأضلوا، كتلك الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية. وهناك نصوص يمكن أن يفهمها بعض الناس فهماً خاطئاً كالنصوص التي تتحدث عن تسلسل الأحداث إلى قيام الساعة، وأقواله - عليه الصلاة والسلام - من جوامع الكلم، وأفعاله كلها في غاية من الحكمة، وفي هذا وذاك يوجد الفقيه والأفقه، والاستفادة من فقه أهل الفقه مهمة. وهناك نصوص تعددت في فهمها أو في الموقف منها آراء أئمة الاجتهاد فكان لابد من تبيان أسباب ذلك لتبقى ثقة الأمة الإسلامية بأئمتها على أشدها فذلك هو الذي يعصم من السير وراء الأهواء، أو عن الاندفاع وراء الآراء الشاذة، أو عن الخطأ في المواقف. وهناك - أيضاً - قضايا كثيرة تحتاج إلى أن يذكر فيها تحقيق المحققين كل في

اختصاصه، فمثلاً: تجد في السيرة كثيراً من النصوص الصحيحة والحسنة تشير إلى حادثة بعينها، ولكنك لا تجد في النصوص الصحيحة والحسنة التفصيلات، فإذا ما وجدت تفصيلات عند أئمة السير والمغازي فهذه التحقيقات مهمة ومفيدة، فهي لا تخرج عن أن يكون مضمونها مذهباً لصاحب التحقيق، فإذا كان إماماً فلنا في هذه الحالة أن نتابعه في قضية ليس فيها نص مخالف، وفي قضايا العقائد أو السلوك أو الفقه أو الطب أو التفسير نجد تحقيقات مهمة ومفيدة، تعين على الفهم أو تجيب على تساؤلات. كل ذلك دعاني إلى إدخال تحقيق أهل التحقيق من أهل الاختصاص في هذا الكتاب، ولكن بأقصى ما أستطيع من الاختصار حتى لا يتوسع حجم الكتاب، وعلى هذا الهدي علقت وحشيت وهمشت وأدخلت كثيراً من الفوائد ليحقق الكتاب مجموع أهدافه. 6 - وإذ كنت مولعاً بالبحث عن الكليات وربط أجزائها بها فقد راعيت في هذا الكتاب أن تأخذ موضوعات السنة محلها ضمن تسلسل يستشعر فيها القارئ وحدة السنة النبوية وكأنها في الأصل كتاب واحد. 7 - وقارئ هذا الكتاب يخرج بانطباع أنه أمام أعظم هدي بشري لنبي. وقد راعيت فيه أن لا يمل قارئه وأن يزداد رغبة في القراءة كلما أوغل فيه، كما راعيت فيه أن يخرج قارئه وقد فقه السنة حق الفقه، مركزاً على ما يغفل عنه أبناء العصر من موضوعات تفرضها وقائع ومناقشات. 8 - وقد بذلت جهداً كبيراً في تحقيق روايات بعض الكتب التي لم تنل من التحقيق ما يكفي، مما يعتبر وحده جهداً تتوجه إليه مقاصد الراغبين في السنة، كمجمع الزوائد للهيثمي، وقمت بضبط وتحقيق وتشكيل ما يشكل على القارئ العادي، معتمداً في ذلك على مصادر السنة الصحيحة المحققة وكتب اللغة المعتمدة. 9 - وقد كان لأعداء الإسلام دور كبير في محاولة التشكيك في السنة وفي بعض معانيها، مما جعلني ألحظ ذلك في تأليف هذا الكتاب بشكل غير مباشر، بحيث تعود الكرة إلى مرمى أهلها، فيصبح ما هو محل تشكيك في زعمهم محل إيمان كما هو في الواقع والحقيقة.

10 - وإذا كانت بعض الموضوعات تحتاج إلى الاستفادة من معطيات عصرنا، وإذ كانت بعض معطيات عصرنا تُظهر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم الكثير، فقد كان هذا وهذا محل تركيز في هذا الكتاب. 11 - ثم إن المسلم في عصرنا يحتاج إلى أن تفتح أمامه آفاق جديدة على الحاضر والمستقبل التزاماً وتطبيقاً، وأملاً وتفاؤلاً، وإذ كانت النصوص تعطي هذا كله فقد كان هذا محل تركيز في الكتاب، خاصة وأن بعض الموضوعات قد فهمت فهماً مغلوطاً انعكس على نفسية الأمة يأساً وإحباطاً. 12 - وكما أن بعض الموضوعات قد ركزت عليها شرحاً وتقديماً وتعليقاً وتلخيصاً وإلحاقاً إياها بمسائل وفوائد، فإنني سردت أحاديث بعض الموضوعات سرداً؛ لرؤيتي أن حاجة المسلم هي تملي هذه النصوص صرفاً لم تُشبْ بتعليقات الرجال. 13 - ومع هذا كله فإن هذا الكتاب لا يعتبر شرحاً تقليدياً للسنة ولا يعتبر تحقيقاً تقليدياً لها، ولكنه كتاب يعطيك السنة عن أقرب طريق ويعطيك فهماً لها عن أيسر طريق، الحشو فيه مستبعد، والتعقيد فيه متروك، هذا مع المحاولة بألا يفوتك شيء من الهدي النبوي إن شاء الله. 14 - والأصل عندي أن أختصر ما أمكن ليسهل على القارئ الاستيعاب السريع، ولذلك لم أكرر إلا حيث وجدت ملحظاً يقتضي التكرار: إما لإعلام أن أكثر من صحابي قد روى معنى من المعاني، وإما لضرورة أن يكرر حديث في أكثر من مكان إلى غير ذلك من الضرورات، ولقد أهملت بعض المعاني الفنية عمداً رغبة في الاختصار، حيث أجد أن ما أذكره كاف ليثق المسلم فيعتقد ويعمل. ومن باب الاختصار أيضاً أنني في بداية كل حديث أذكر من أخرجه، ثم أحذف السند، وأكتفي بالصحابي الذي رواه فأقول مثلاً: روى البخاري عن أبي هريرة ... وكان ينبغي أن يقال: روى البخاري بسنده عن أبي هريرة، ولكن حذفت الجار والمجرور تخفيفاً، اعتماداً على أن هذا مفهوم من الكلام، ويستطيع القارئ الكريم أن يقدرهن بناء على معرفته بشرط هذا الكتاب.

15 - وفي عملية جمع النصوص من أصول هذا الكتاب صادفني أن بعض الروايات موجودة في أكثر الأصول فلم أر أن أذكر الصول كلها في العزو لأن ذلك يضخم حجم الكتاب دون فائدة للقارئ العادي، ولذلك اختصرت في العزو بالقدر الذي يحقق الغرض، وإذ كانت أكثر روايات الأصول الزائدة على الكتب الستة تكراراً لما في الكتب الستة، فإنك لا تجد كثيراً من العزو إلى هذه الأصول، فلا تظنن أن هذا قصور في الكتاب. 16 - وعلى عادتي فيما أؤلف فإنني لا أتوانى أن أنقل تحقيقات المحققين مما يحتاجه كتابي، دون أن أحاول إعادة صياغته، ولا حرج عليَّ في كل ما فعلته فلقد درج علماء المسلمين خلال العصور على أن يعتبروا مجرد الدمج بين كتابين أو أكثر هدفاً، وأن يعتبروا الانتقاء والاختيار من كتاب أو مجموعة كتب هدفاً، وأن يزيد اللاحق على فعل السابق آخذاً جهده مضيفاً إليه هدفاً، ومجرد تجميع الفوائد من كتب متعددة هدفاً. فإذا حاولت أن أوجد عقد جوهر من جواهر مبثوثة، فإني لا أجد حرجاً من أن أكثر النقل فقد لا يصل الكتاب المنقول عنه إلى قارئي فأكون وسيطاً، ثم إن كثيرين يعرضون بعض الأمور عرضاً موفقاً قد لا أطيقه لو أني أردته، فماذا لو أنني رصعت كتابي بفوائد أمثال هؤلاء؟! 17 - وقد أفدت من تحقيقات البوصيري لزوائد ابن ماجه، وتحقيقات عبد الله اليماني لجمع الفوائد وتحقيقات عبد القادر أرناؤوط لجامع الأصول وتحقيقات الهيثمي لمجمع الزوائد وتحقيقات الذهبي للحاكم وتحقيقات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وناصر الألباني وشعيب الأرناؤوط وغيرهم، فجزى الله الجميع خيراً. 18 - ولعل قصة الجهد الذي بذلناه في هذا الكتاب تجعل لنا عند أهل الإنصاف عُذراً فيما يرونه من تقصير، فلكي أتجنب أخطاء النقل الكتابي، ولكي لا يفوتني حديث من أحاديث الكتب التي قررت أن أجمع منها هذا الكتاب، فقد جعلت كل حديث من أصول هذه الكتب في ورقة مستقلة تصويراً أو أخذاً مباشراً من نسخ هذه الكتب، حتى إذا انتهى

هذا الجهد، وجدتني أمام عشرات الآلاف من أوراق، فبدأت بحذف الضعيف، وضم النظير إلى النظير، على ضوء نظرية جامعة في الترتيب والتبويب، ثم كانت مرحلة ثانية وثالثة ورابعة، وخامسة حتى استكمل هذا الكتاب شكله الذي أقدمه إليك. ونرجو من أي إنسان عنده علم في السنة أن يقدم لنا ملاحظاته، فنحن بفضل الله نفرح إن أهدانا أحد هدية الدلالة على خطأ. * * *

أقسام الكتاب

أقسام الكتاب وقد جعلت هذا الكتاب مقدمة وخمسة أقسام: المقدمة: وفيها تعريف بهذا الكتاب ومنهج البحث فيه، وإلمامه بأصوله، وتعريف بالجهود الكبرى التي جمعت بين هذه الأصول وأفدت منها. وجعلت القسم الأول من الكتاب في السيرة النبوية، لأن التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم مقدم على التعريف بالرسالة، ولأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم هو المقدمة العادية لتلقي هديه. وجعلت القسم الثاني في العقائد، لأنها هي الأساس، وعنها يصدر العمل وإذا صحت وجد القبول، ولأنها أول ما يخاطب به الإنسان، وهي المظهر الأول لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسب أن يكون أول ما يطالعه الإنسان بعد سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العقائد، وقد جمعت في قسم العقائد بين الفهم الفطري للنصوص، ومباحث الأصوليين، وتحقيق المحققين. وجعلت القسم الثالث في العبادات الرئيسية وما هو ألصق بها. وجعلت القسم الرابع في الأخلاقيات وأحكام الحياتيات والعاديات. وجعلت القسم الخامس في الحكم وما أهو ألصق به وفي حقوق الإنسان. وسنرى أن الربط بين أبحاث كل قسم والتسلسل بين الأقسام كان قوياً لدرجة يجعل الكتاب بعضه أخذاً برقاب بعض، وقد لحظت في هذا الترتيب معاني تربوية ونفسية نرجو أن تكون ذا نفع. * * * وبعد: فهاك السنة النبوية تكاد تكون مجموعة من كتاب، وإني لأرجو لمن قرأ هذا الكتاب وكتاب الأساس في التفسير وكتاب الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم، أن يكون قد اجتمع له إبصار كامل بمواطن الحق والباطل والخطأ والصواب. ولقد مرت على المسلمين أدوار، دور كانوا يأخذون فيه الكتاب والسنة وحدهما، ودور

أخذوا فيه الكتاب والسنة مع أقوال العلماء كل بدليله، ودور أخذوا فيه أقوال العلماء بلا دليل وأهملوا دراسة الكتاب والسنة، مع أن أكثر أقوال العلماء تبحث في غير الأمور المشهورة في الكتاب والسنة، فحدث نتيجة لذلك أخطاء كثيرة، وجهل عريض، وغفلة كبيرة، ولا أزعم أنه ليست لهذا استثناءات ولكنه هو الغالب، ولعل جهدي في سلسلة (في المنهج) يشارك في إعادة الأمور إلى نصابها. * * * وها أنذا أكرر توجيه الدعوة لأهل العلم والفضل أن يوافوني بأي وجهة نظر - مباشرة أو عن طريق الناشر - أستكمل فيها ما فاتني، أو أحرر فيها ما ذكرته، أو أرصع بها هذا الكتاب، فكل ذلك أفتح له صدري بل أطلبه، وليس عندي من حرج أن يرُدُّ عليِّ من يردّ في كتاب أو مجلة سيارة أو في صحيفة، فإنني أرجو أن أستفيد من ذلك كله، لله وفي الله. وإذا وجد أحد أن هذا الكتاب لم يبلغ الكمال فأي جهد بشري بلغ الكمال؟! إنما هو خطوة في طريق جمع الأحاديث الصحيحة والحسنة لعلي أو لعل غيري يسير خطوات أخرى نحو الكمال والله الموفق، وما يجد القارئ في هذا الكتاب من خير وسداد فمن الله تعالى وما يجد فيه من نقص وخلل فمني وأستغفر الله. هذا وإني لأدعو الله - عز وجل - أن يتقبلني ويتقبل أعمالي وأن ينفع بها، كما أنني أدعو لنفسي ولكل من ساعدني في إنجاز هذا المشروع أو انتفع به أن يتغمدنا الله وأهلينا وذرياتنا برحمته، وأن يكرمنا برعايته، إنه سميع مجيب. (رب اغفر لي ولوالدي رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)

ثانيا: تعريف بأصول هذا الكتاب ومصنفيها

ثانياً: تعريف بأصول هذا الكتاب ومصنفيها أصول هذا الكتاب الحديثية سبعة عشر كتاباً، هي: صحيحا البخاري ومسلم، والسنن الخمسة لأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وموطأ الإمام مالك، ومسانيد الإمام أحمد وأبي يعلي الموصلي وأبي بكر البزار، وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومعاجم الطبراني الثلاثة. والجامع لهذه الكتب لا يستطيع إلا أن يستهدي بجمع من جمع منها، احتياطاً في البحث، واسترشاداً بجهود المتقدمين، وبعض كتب الجمع هي السبيل الوحيد المتوفر عندي للوصول إلى مروياتها لأنها لم تطبع حتى تأليف هذا الكتاب. وأهم ما انصبت عليه عملية الجمع قديماً جمع الأصول الستة للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي والموطأ، وجمع زيادات بعض الكتب على الأصول الستة ولكن بتبديل الموطأ بابن ماجه، وهي عملية الجمع التي قام بها نور الدين الهيثمي، ثم الجمع بين الجامع للأصول ومجمع الزوائد، مضافاً إليهما زيادات من ابن ماجه وسنن الدارمي، والتي قام بها محمد بن محمد بن سليمان المغربي في كتابه جمع الفوائد. ونحن في هذا الكتاب مع استرشادنا بكتاب جمع الفوائد الذي هو أرقى عمليات الجمع فقد جمعنا الروايات كلها من الأصول الأقرب حتى لا تفوتنا رواية من روايات الكتب الأصول فكانت المحصلة هي ما جمعناه لك أو اعتمدناه في هذا الكتاب. وسنقدم لك في هذه الفقرة تعريفاً بأصول هذا الكتاب وأصحابها وتعريفاً ببعض من جمع الأصول الستة وبمجمع الزوائد وبجمع الفوائد. * * *

1 - الإمام البخاري وصحيحه

1 - الإمام البخاري وصحيحه قال ابن الأثير - صاحب جامع الأصول - في ترجمة البخاري: هو أبو عبد الله: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجُعفي البخاري. وإنما قيل له: الجُعْفي لأن المغيرة - أبا جدِّه - كان مجوسياً، أسلم على يد يمان البخاري، وهو الجعفي والي بُخارّى، فنُسب إليه حيث أسلم على يده. وجُعْفي: أبو قبيلة من اليمن، وهو جُعْفي بن سعد العشيرة بن مذحج، والنسبة إليه كذلك. ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خَلّتْ من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين، وعمره اثنتان وستون سنة، إلا ثلاثة عشر يوماً، ولم يعقب ذكراً. والبخاري - الإمام في علم الحديث - رحل في طلب العلم إلى جميع محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال، والعراق والحجاز، والشام ومصر، وأخذ الحديث عن المشايخ الحفاظ. منهم: مكي بن إبراهيم البلخي، وعبدان بن عثمان المروزي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وأبو عاصم الشيباني، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي نُعيم الفضل بن دُكَيّن، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسماعيل بن أبي أويس المدني، وغير هؤلاء من الأئمة. وأخذ عنه الحديث خَلْقٌ كثير في كل بلدة حدث بها. قال الفِرَبْرِي: سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري، وكذلك لا يروي اليوم - صحيح البخاري - عن أحد سواه. وردَّ على المشايخ وله إحدى عشرة سنة، وطلب العلم وله عشر سنين.

الجامع الصحيح

قال البخاري: خرجت كتاب الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه حديثاً إلا صليت ركعتين. وقدم البخاري بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوها على البخاري، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث. فلما اطمأن المجلس بأهله، وانتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. حتى فرغ من العشرة. والبخاري يقول: لا أعرفه. فأما العلماء فعرفوا بإنكاره أنه عارف، وأما غيرهم فلم يدركوا ذلك منه. ثم انتدب رجل آخر من العشرة فكان حاله معه كذلك، ثم انتدب آخر بعد آخر، إلى تمام العشرة، والبخاري لا يزيد على قوله: لا أعرفه. فلما فرغوا التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول، فهو كذا، والثاني كذا على النسق، إلى آخر العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، ثم فعل بالباقين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل. الجامع الصحيح قال الشيخ محمد أبو شهبة: كان الأئمة قبل البخاري لا يقصرون مؤلفاتهم على الأحاديث الصحيحة، بل كانوا يجمعون بين الصحيح والحسن والضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين بنقد الأحاديث، والتمييز بين المقبول والمردد، إلى أن جاء البخاري فرأى أن يخص الصحيح بالتأليف، فألف كتابه الصحيح، وسماه: (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه). وبذلك يكون الإمام البخاري قد خطا بالتأليف في الحديث خطوة موفقة يسرت

الحامل له على تأليف الصحيح

معرفة الحديث والاحتجاج به على الطالبين، ولا سيما المتأخرين. الحامل له على تأليف الصحيح: وقد وجهه إلى هذا العمل الجليل كلمة سمعها من أستاذه إسحاق بن راهويه. روي عن البخاري أنه قال: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوقع في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح، وقد قوّي عنده العزم رؤيا رآها فقد روي عنه أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذب الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. منهج البخاري في جمع الصحيح: لقد نهج البخاري في جمع صحيحه منهجاً يدعو إلى الثقة والاطمئنان إلى صحة أحاديثه، وقد بالغ في التحري عن الرواة، والتوثق من صحة المرويات، وبذل في هذا أقصى ما وصل إليه الجهد الإنساني، وما زال يوازن بين المرويات، ويمحصها، ويتخير منها ما تركن إليه نفسه حتى صار كتابه إلى الحالة التي هو عليها تحريراً وتنقيحاً، يدل على ذلك ما روي عنه أنه قال: صنفت هذا الجامع من ستمائة ألف حديث - في ست عشرة سنة. ومع أن البخاري اتبع في جمع صحيحه قواعد البحث العلمي الصحيح فقد استلهم الجانب الروحي من نفسه، قال تلميذه الفربري. سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: صنفت كتاب الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثاً إلا استخرت الله، وصليت ركعتين، وتبينت صحته. ومراده أنه بوب أبوابه، ووضع أساسه في المسجد الحرام، ثم بيض تراجمه، وأصوله في

براعة البخاري في النقد

الروضة (1) بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، ثم صار يجمع ما يتيسر له من الأحاديث، ويضعها في أبوابها اللائقة بها في الحرمين وغيرهما من البلاد التي ارتحل إليها، وقد مكث في تأليف صحيحه ست عشرة سنة، وهو يحرر ويدقق، وينتقي ويتخير ما هو على شرطه حتى جاء كتابه على ما أحب، ويحبه طلاب الحقيقة، ورواد البحث. وبذلك اجتمع لهذا الكتاب الصحيح من دواعي التوفيق إلى الحق والصواب ما لم يجتمع لغيره، فلا عجب أن كانت له منزلة سامية في نفوس العلماء، وأن تلقته الأمة الإسلامية بالقبول والاطمئنان إلى ما فيه، وأن استحق أن يطلق عليه أنه أصح الكتب المدونة في الحديث النبوي. براعة البخاري في النقد: وللإمام البخاري في تعديل الرجال وتجريحهم، ونقد المتون، ونقد الرواية شروط عالية دقيقة، وشفوف نظر، وملكة عجيبة اكتسبها من طول ما بحث، ونقد، ومن طول ما عرض له من علل الأسانيد والمتون وذلك: كالنطاسي البارع الذي يحصل له من طول ملازمته لمهنة الطب وكثرة ما عرض عليه من الأمراض، نوع من العلم، قد يصل إلى حد الإلهام، بالعلل والأمراض، والوقوف على حقيقتها ومكامنها مهما كانت خفية، أو كانت عوارضها غير واضحة. وكالصيرفي الماهر الذي اكتسب بطول ملازمته الصيرفة التمييز بين النقود الجيدة السليمة، والنقود الزائفة وربما تسأله عن السبب في الحكم عليها فلا يجيب. وهذه الملكة في التمييز بين الصحيح من الحديث والعليل تكاد تكون عند معظم أئمة الحديث وجهابذته، وإن كانوا يتفاوتون فيها على حسب الأصالة في النقد والاستعداد، وسعة الاطلاع ولعلك لمحت هذا التنظير بين المحدثين والأطباء في كلمة الإمام مسلم للبخاري: (يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله) وبين المحدثين والصيارفة في تعبيرهم عن نقاد الحديث: (صيارفته).

_ (1) في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".

شروط البخاري في التصحيح في القمة

شروط البخاري في التصحيح في القمة: من المعروف المقرر عند أئمة الحديث وعلمائه أن شروط الحديث الصحيح أن يكون: راويه مسلماً، عاقلاً، صادقاً، غير مدلس ولا مختلط (1)، متصفاً بصفات العدالة (2)، ضابطاً لما يرويه، متحفظاً عليه، سليم الذهن والحواس التي لابد منها في السماع والضبط، قليل الوهم - الغلط - سليم الاعتقاد. وأن يكون إسناده (3) متصلاً، فلا إرسال فيه، ولا انقطاع، ولا إعضال (4) وأن يكون متن الحديث غير شاذ، ولا معلل (5). فإذا اجتمعت هذه الشروط في الحديث كان صحيحاً - يعني في نسبته إلى قائله - وترجح ترجحاً قوياً في صدق هذه النسبة يكاد يصل عند أهل هذا الفن المتمرسين فيه إلى حد العلم واليقين. ومن ثم يتبين لنا أن الشروط التي وضعها المحدثون لصحة الحديث تقتضي الثقة والطمأنينة، وترجح جانب الصدق على الكذب، والصواب على الخطأ، ومما ينبغي أن يعلم أن البخاري لم ينقل عنه أنه قال: شرطي في صحيحي كذا وكذا على التفصيل والتصريح كما يصنع بعض المؤلفين، وإنما عرف ذلك من سبر (6) كتابه، والبحث فيه.

_ (1) المدلس: هو الذي يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، والمختلط: هو الذي طرأ عليه كثرة الغلط أو الخطأ بسبب كبر سن أو عمى أو ضياع كتبه مثلاً. (2) العدالة: ملكة أي حالة نفسية راسخة تحمل على ملازمة التقوى، والمروءة. والتقوى: امتثال المأمورات واجتناب المنهيات فلا يفعل كبيرة ولا يصر على صغيرة، ولا يكون مبتدعاً بدعة تخل بعدالته. والمروءة: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات فيترفع عن صغائر الخسة، والمباحات التي تواضع العرف على إخلالها بالكرامة. (3) السند والإسناد: هم الرواة الذين يروون الحديث. (4) المرسل: من الحديث: ما حذف من سنده الصحابي، والمنقطع: ما حذف من سنده راو واحد غير الصحابي ولو في مواضع، والمعضل: ما حذف من سنده إثنان فأكثر على التوالي. (5) الشاذ: هو الحديث الذي خالف فيه الثقة من هو أوثق منه، والمعلل: ما اطلع فيه على علة خفية غامضة تطعن في صحة الحديث. (6) اختبرها وتعرف عليها.

والذي استخلصه العلماء بعد البحث والتتبع أن الإمام البخاري في صحيحه التزم أعلى درجات الصحة، ولا ينزل عن هذه الدرجة إلا في بعض الأحاديث التي ليست من أصل موضوع الكتاب كالمتابعات والشواهد (1)، والأحاديث المروية عن الصحابة والتابعين. وليس من شك في أن الرواة يتفاوتون في الأخذ عن شيوخهم إتقاناً وضبطاً، وطول ملازمة ومصاحبة وقلة ذلك، كما يتفاوتون في العدالة والأمانة، والبخاري في صحيحه إنما يعتمد من الرواة من كانوا في أعلى الدرجات من هذه الصفات وسأوضح ذلك بمثال: ذلك أن تلامذة الإمام الزهري مثلاً على خمس طبقات ودرجات ولكل طبقة مزية على التي تليها: الطبقة الأولى: هم الذي امتازوا بالعدالة والحفظ والإتقان والأمانة، وطول الملازمة للزهري في السفر والحضر مثل: مالك وسفيان بن عيينة ورجال هذه الطبقة هم مقصد البخاري في صحيحه. الطبقة (2) الثانية: وهم الذين شاركوا الأولى في التثبت والأمانة، إلا أن رجال الأولى امتازوا بطول المصاحبة للزهري سفراً وحضراً، أما رجال الثانية فلم يلازموا الزهري إلا مدة يسيرة فكانوا في الإتقان والمعرفة بحديثه دون الأولى، وذلك مثل: الأوزاعي والليث بن سعد ورجال هذه الدرجة الثانية يعتمد رواياتهم الإمام مسلم، أما البخاري فلا يخرج من أحاديثهم إلا قليلاً في غير أصول الكتاب كما ذكرنا آنفاً. الطبقة الثالثة: " وه من دون الثانية مثل: جعفر بن برقان وزمعة بن صالح، فلا يخرج لهم البخاري أصلاً. وقد يخرج لهم في المتابعات والشواهد. أما رجال الطبقة الرابعة والخامسة: وهم المجروحون والضعفاء فلا يخرج لهم البخاري ومسلم. وهكذا يتبين لنا أن شرط البخاري في صحيحه في القمة. * * *

_ (1) المتابعة: موافقة راو لراو آخر في رواية لفظ الحديث، والشاهد: الحديث الذي يوافق حديثاً آخر في معناه. (2) الطبقة: هم الرواة الذين تقاربوا في السن ولقاء الشيوخ.

2 - الإمام مسلم وصحيحه

2 - الإمام مسلم وصحيحه قال ابن الأثير في ترجمة مسلم: هو أبو الحسين: مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ. ولد سنة ست ومائتين، وتوفي عشية يوم الأحد لست بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين. رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر. وأخذ الحديث عن يحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن الجعد، وأحمد بن حنبل، وعبيد الله القواريري، وشريح بن يونس، وعبد الله بن مسلمة القعْنبي، وجرملة بن يحيى، وخلف بن هشام، وغير هؤلاء من أئمة الحديث وعلمائه. وقدم بغداد بغير مرة وحدث بها. روى عنه خلق كثير؛ منهم: إبراهيم بن محمد بن سفيان، ومن طريقه روينا صحيحه، وكان آخر قُدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين. قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا زُرعة وأبا حاتم يُقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على أهل عصرهما. وقال الحسن بن محمد الماسِرُجِسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلماً يقول: صنفت (المسند الصحيح) من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقال محمد بن إسحاق بن منده، سمعت أبا عليّ بن عليّ النيسابوري يقول: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث. وقال أبو عمرو بن محمد بن حمدان الحيري: سألت أبا العباس بن عُقْدة عن محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري أيهما أعلم؟ فقال: كان البخاري عالماً، وكان مسلم عالماً، فكررت عليه مراراً وهو يجيبني بمثل هذا

صحيح الإمام مسلم

الجواب، ثم قال: يا أبا عمرو: قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم، فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنهما اثنان، فأما مسلم، فقلما يقع له الغلط، لأنه كتب المقاطيع والمراسيل. وقال محمد بن يعقوب الأخرم - وذكر كلاماً معناه -: قلما يفوت البخاري ومسلماً مما يثبت في الحديث حديث. قال الخطيب أبو بكر البغدادي: إنما قفا مسلم طريق البخاري، ونظر في علمه وحذا حذوه. ولما ورد البخاري نيسابور في آخر مرة، لازمه مسلم، وأدام الاختلاف إليه. وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء. صحيح الإمام مسلم وهو أحد الكتابين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، واللذين تلقتهما الأمة الإسلامية بالقبول. وقد بالغ الإمام مسلم في البحث والتحري عن الرجال، والتمحيص للمرويات، والموازنة بينهما، والتدقيق في تحرير الألفاظ، والإشارة إلى الفروق بينها، حتى جاء صحيحه على الهيئة الكاملة، التي ينشدها أهل البحث والمعرفة. وليس أدل على هذا من أنه انتقى كتابه من ألوف الروايات المسموعة، روى عنه أنه قال: (صنفت هذا الصحيح من ثلثمائة ألف حديث). والكتاب ثمرة حياة مباركة استغلها صاحبها في السفر والارتحال والكد والجد، والجمع والحفظ، والكتابة والتنقيح، حتى كان كما ترى صحة وتهذيباً وتنسيقاً، وقد مكث هو وبعض تلاميذه يكتبون ويحررون حتى تم تأليفه في خمس عشرة سنة. روي عن أحمد بن سلمة أنه قال: كتبت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث.

سماحة الإمام في البحث

فلا تعجب إذا كان مسلم يشيد بذكر صحيحه فيقول - تحدثاً بنعمة ربه عليه -: لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة ما كان مدارهم إلا على هذا المسند. ويدل على شدة تحريه، واستيثاقه من المرويات قوله: ما وضعت شيئاً في كتابي هذا إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئاً إلا بحجة. سماحة الإمام في البحث: ولم يكن مسلم متعصباً لرأيه بل كان يتسم بسمة العلماء الذين يبتغون الحق، ولا عليهم لو ظهر على لسان أي شخص كان، ولا يرون غضاضة في الرجوع إلى الحق إذا ظهر، بل يعتبرونه فضيلة. وبعد انتهائه من تدوين صحيحه عرضه على أئمة هذا العلم النبوي الشريف. روى الخطيب بإسناده عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور قال: سمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي (1)، فكل ما أشار أنه له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته. وهذا غاية التواضع، وعدم الاغترار بالنفس، والإعجاب بالرأي، وهو أدب عال من آداب البحث في الإسلام. منهج مسلم في صحيحه: لم ينص الإمام مسلم على أن شرطه في صحيحه (2) هو كذا، وإنما استخرج العلماء ذلك من النظر في كتابه؛ والذي استخلصوه أن شرطه في صحيحه أنه لا يخرج الأحاديث إلا عن العدول الضابطين، الموثوق بصدقهم وأمانتهم، وحفظهم ويقظتهم وعدم غفلتهم، كما يخرج عمن دون ذلك من الرواة وأنه لا يخرج في كتابه بالأصالة إلا الأحاديث المسندة المتصلة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) هو حافظ عصره عبيد الله بن عبد الكريم، كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاء وديناً، وإخلاصاً، وعلماً وعملاً، وكانت وفاته سنة أربع وستين ومائتين. (2) وذلك فيما عدا العنعنة فقد ذكر في مقدمة صحيحه اكتفاءه في إفادتها الاتصال بالمعاصرة ولم يشترط الملقي وأنحى باللائمة على من اشترطه أيضاً.

خصائص صحيح مسلم

ومعنى هذا أنه لم يلزم نفسه بما التزم به البخاري من مراعاة مستوى خاص في الرواية والرواة، بل توسع في شرطه فروى عن رواة لم يرو لهم البخاري في صحيحه، ولعلك على ذكر من المثال الذي ذكرناه أثناء الكلام على شرط البخاري في صحيحه، وهو أن تلامذة الإمام ابن شهاب الزهري على خمس طبقات: الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ولكل طبقة مزية على التي تليها في الحفظ والإتقان وطول الملازمة والصحبة. وقد ذكرنا هناك أن البخاري يخرج أحاديث الطبقة الأولى، ويخرج من أحاديث الطبقة الثانية قليلاً وفي غير أصول الكتاب. أما مسلم فيخرج أحاديث رجال الطبقة الأولى والثانية استيعاباً، ويخرج من أحاديث الطبقة الثالثة قليلاً، وذلك في المتابعات والشواهد لا في أصل الكتاب، ولعل فيما ذكره مسلم في مقدمة صحيحه ما يلقي لنا ضوءاً نتعرف به شرطه في صحيحه ذلك أنه قسم الأحاديث ثلاثة أقسام: الأولى: ما رواه الحفاظ المتقنون. الثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان. الثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون وقد ذكر أنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني وأما الثالث فلا يعرج عليه (1) وهو يؤيد ما ذكرناه. خصائص صحيح مسلم: وقد امتاز صحيح مسلم بأن مؤلفه سلك فيه طريقة حسنة، ذلك أنه يجمع المتون كلها بطرقها في موضع واحد، ولا يفرقها في الأبواب، ولا يكررها إلا في القليل النادر، إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا التكرار كفائدة زائدة في سند الحديث أو متنه. وقد سهل له هذا المنهج أنه لم يقصد أن يضم إلى جمع الأحاديث بيان فقهها واستنباط الأحكام والآداب منها.

_ (1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ 1 ص 48.

أما البخاري فقد قصد إلى ذلك فمن ثم اضطر إلى طريقته التي سلكها في صحيحه. ومن هذه الخصائص: التدقيق في الألفاظ، والمحافظة على اللفظ ما وسعه الأمر حتى إذا خالف راوٍ راويا آخر في لفظه والمعنى واحد فرواها بعضهم بلفظ والآخر بلفظ آخر، بينهُ، وكذا إذا قال راوٍ (حدثنا) وقال آخر (أخبرنا) (1) بيّن الخلاف في ذلك، وكذلك إذا روى الحديث جماعة وكانت هناك مغايرة في بعض الألفاظ فإنه يبين أن اللفظ المذكور من رواية فلان، ولذا تجده يقول ي هذا النوع من الحديث: (واللفظ لفلان) وهذا غاية الدقة والأمانة في النقل اللتين امتاز بهما مثل الإمام مسلم. وأيضاً فقد حرص مسلم أن لا يذكر في كتابه إلا الأحاديث المسندة المرفوعة - أي المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فلذلك لم يذكر أقوال الصحابة ولا التابعين وليس فيه بعد المقدمة إلا الأحاديث المرفوعة. وكذلك لم يكثر مسلم في كتابه من الأحاديث المعلقة (2) فليس فيه إلا اثنا عشر حديثاً وهي في المتابعات لا في أصول الكتاب ومقاصده، هذا وهناك - غير ما ذكرنا - خصائص تظهر لمن يدرس الكتاب حق الدرس. * * *

_ (1) الذي عليه جمهور المحدثين - ومنهم مسلم - التفرقة بين حدثنا، وأخبرنا، فالأول: بما سمعه الراوي من لفظ شيخه، والثاني: لما قرأه التلميذ على شيخه. (2) هي ما حذف من مبتدأ إسنادها واحد أو أكثر.

3 - الإمام أبو داود وسننه

3 - الإمام أبو داود وسننه قال ابن الأثير في ترجمة أبي داود: هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني، أحد من رحل وطوف، وجمع وصنف، وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين. ولد سنة اثنين ومائتين، وتوفي بالبصرة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. وقدم بغداد مراراً، ثم خرج منها آخر مراته سنة إحدى وسبعين. وأخذ الحديث عن مسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، وعثمان بن أبي شيبة وأبي الوليد الطيالسي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، ومُسدد بن مُسرْهد، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وقتيبة بن سعيد، وأحمد بن يونس، وغير هؤلاء من أئمة الحديث، ممن لا يحصى كثرة. وأخذ الحديث عنه: ابنه عبد الله، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأحمد بن محمد الخلال، وأبو علي محمد بن عمرو اللؤلؤي، ومن طريقه نروي كتابه. وكان أبو داود سكن البصرة. وقدم بغدد، وروى كتابه المصنَّف في (السنن) بها، ونقلها أهلها عنه، وصنفه قديماً، وعرضه على أحمد بن حنبل، فاستجاذه واستحسنه. قال أبو بكر بن دَاسة: قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح، وما يشبهه ويقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديثز

أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات". والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه". والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات ... الحديث. وقال أبو بكر الخلال: أبو داود: سليمان بن الأشعث: الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد في زمانه، رجل ورع مقدم. وكان إبراهيم الأصفهاني، وأبو بكر بن صدقة، يرفعان من قدره، ويذكرانه بما لا يذكران أحداً في زمانه بمثله. وقال أحمد بن حنبل بن ياسين الهروي: كان سليمان بن الأشعث، أبو داود، أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عِلْمِهِ وعِلَلِهِ وسَنَدِهِ، وكان في أعلى درجة من النسك والعفاف، والصلاح والورع، من فرسان الحديث. وقال محمد بن أبي بكر بن عبد الرزاق: كان لأبي داود كُمٍّ واسع وكُمٍّ ضيق، فقال له: يرحمك الله! ما هذا؟ قال: الواسع للكتب، والآخر لا نحتاج إليه. وقال أبو سليمان لخطابي: كتاب (السنن) لأبي داود، كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس، على اختلاف مذاهبهم، فصار حَكَماً بين فرق العلماء، وطبقات الفقهاء، فلكل فيه ورد، ومنه شرب، وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض، فأما أهل خراسان، فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل البخاري، وكتاب مسلم بن الحجاج النيسابوري. وقال: قال أبو داود: ما ذكرت في كتابي حديثاً اجتمع الناس على تركه. وكان تصنف علماء الحديث قبل زمان أبي داود: (الجوامع) و (المسانيد) ونحوهما، فتجمع تلك الكتب - إلى ما فيها من (السنن) و (الأحكام) - أخباراً وقصصاً، ومواعظ

وأدباً. فأما (السنن) المحضة، فلم يقصد أحد منهم إفراده واستخلاصها من أثناء تلك الأحاديث، ولا اتفق له ما اتفق لأبي داود، ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب، فضربت إليه أكباد الإبل، ورامت إليه الرحل. قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب، أُلين لأبي داود الحديث، كما أُلين لداود عليه السلام الحديد. وقال ابن الأعرابي عن كتاب أبي داود: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله - عز وجل - ثم هذا الكتاب، لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة. * * *

4 - الإمام الترمذي وسننه

4 - الإمام الترمذي وسننه قال ابن الأثير في ترجمة الترمذي: هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السُّلمي الترمذي، وُلد سنة تسع ومائتين. وتوفي بـ (ترمذ) ليلة الاثنين الثالث عشر من شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وهو أحد العلماء الحفاظ الأعلام، وله في الفقه يد صالحة. أخذ الحديث عن جماعة من أئمة الحديث، ولقي الصدر الأول من المشايخ مثل: قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن موسى، ومحمود بن غيلان، وسعيد بن عبد الرحمن، ومحمد بن بشار، وعلي بن حجر، وأحمد بن منيع، ومحمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغير هؤلاء، وأخذ عن خلق كثير لا يحصون كثرة. وأخذ عنه خلق كثير: منهم محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي المروزي، ومن طريقه روينا كتابه (الجامع). وله تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه (الصحيح) أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً، وأقلها تكراراً، وفيه ما ليس في غيره: من ذكر المذاهب، ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب (العلل) قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها. قال الترمذي - رحمه الله تعالى -: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب، فكأنما في بته نبي يتكلم. وقال الترمذي: كان جدي مروزياً انتقل من مرو، أيام الليث بن سيار. * * *

5 - الإمام النسائي وسننه

5 - الإمام النسائي وسننه قال ابن الأثير في ترجمة النسائي: هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي، ولد سنة خمس وعشرين ومائتين. ومات بمكة سنة ثلاثة وثلاثمائة، وهو مدفون بها. قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: سمعت أبا علي الحافظ غير مرة يذكر أربعة من أئمة المسلمين رآهم فيبدأ بأبي عبد الرحمن. وهو أحد الأئمة الحفاظ العلماء، لقي المشايخ الكبار. وأخذ الحديث عن قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن إبراهيم، وحميد بن مسعدة وعلي بن خشرم، ومحمد بن عبد الأعلى، والحاث بن مسكين، وهناد بن السري، ومحمد بن بشار، ومحمود بن غيلان، وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وغير هؤلاء من المشايخ الحفاظ. وأخذ عنه الحديث خلق كثير، منهم: أبو بشر الدولابي - وكان من أقرانه - وأبو القاسم الطبراني، وأبو جعفر الطحاوي، ومحمد بن هارون بن شُعيب، وأبو الميمون بن راشد، وإبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان، وأبو بكر أحمد بن إسحاق السُّني الحافظ، ومن طريقه روينا كتابه (السنن). وله كتب كثيرة في الحديث والعلل، وغير ذلك. قال مأمون المصري الحافظ: خرجنا مع أبي عبد الرحمن إلى طرسوس سنة الفداء، فاجتمع جماعة من مشايخ الإسلام، واجتمع من الحفاظ عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد ابن إبراهيم مُريِّعُ، وأبو الآذان، وكِيْلَجَةَ وغيرهم، فتشاوروا من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فاجتمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه.

وقال الحاكم النيسابوري: أما كلام أبي عبد الرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر، ومن نظر في كتاب السنن له تحير في حسن كلامه. وقال: سمعت علي بن عرم الحافظ غير مرة يقول: أبو عبد الرحمن مُقدِّم على كل من يذكر بهذا العلم في زمانه. وكان شافعي المذهب، له مناسك، ألفها على مذهب الشافعي وكان ورعاً متحرياً، ألا تراه يقول في كتابه (الحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع) ولا يقول فيه: (حدثنا) ولا (أخبرنا) كما يقول عن باقي مشايخه. وذلك: أن الحارث كان يتولى القضاء بمصر، وكان بينه وبين أبي عبد الرحمن خشونة، لم يمكنه حضور مجلسه، فكان يستتر في موضع، ويسمع حيث لا يراه فلذلك تورع وتحرى فلم يقل: حدثنا وأخبرنا. وقيل: إن الحارث كان خائضاً في أمور تتعلق بالسلطان، فقدم أبو عبد الرحمن فدخل إليه في زي أنكره، قالوا: كان عليه قباء طويل، وقلنسوة طويلة فأنكر زيه، وخاف أن يكون من بعض جواسيس السلطان، فمنعه من الدخول إليه فكان يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع ما يقرؤه الناس عليه من خارج، فمن أجل ذلك لم يقل فيما يرويه عنه (حدثنا، وأخبرنا). وسأل بعض الأمراء أبا عبد الرحمن عن كتابه (السنن): أكله صحيح؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منهج مجرداً، فصنع المجتبي، فهو (المجتبي من السنن) ترك كل حديث أورده في (السنن) مما تكلم في إسناده بالتعليل، والله أعلم بالصواب. * * *

6 - ابن ماجه وسننه

6 - ابن ماجه وسننه قال الشوكاني: وأما ابن ماجه فهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه القزويني مولى ربيعة بن عبد الله. ولد سنة تسع ومائتين، ومات يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث أو خمس وسبعين ومائتين. وهو أحد الأعلام المشاهير، ألف سننه المشهورة، وهي إحدى السنن الأربع وإحدى الأمهات الست. وأول من عدها من الأمهات ابن طاهر في الأطراف ثم الحافظ عبد الغني، قال ابن كثير: إنها كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه. رحل ابن ماجه وطوّف الأقطار وسمع من جماعة منهم أصحاب مالك والليث، وروى عنه جماعة منهم أبو الحسن القطان. وقد تحدث صاحب الرسالة المستطرقة عن ابن ماجه وسننه بقوله: وسنن أبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه، وهو لقب أبيه لا جده، ولا أنه اسم لأمه خلافاً لمن زعم ذلك، وهاؤه ساكنة وصلاً ووقفاً لأنه اسم أعجمي، الربعي نسبة إلى ربيعة مولاهم، القزويني نسبة إلى قزوين مدينة مشهورة بعراق العجم، المتوفى سنة ثلاثة أو خمس وسبعين ومائتين. وهي التي كملت بها الكتب الستة والسنن الأربعة بعد الصحيحين، واعتنى بأطرافها الحافظ ابن عساكر ثم المزي مع رجالها، ولم يذكر ابن الصلاح والنووي وفاته، كما لم يذكرا كتابه في الأصول، بل جعلاها خمسة فقط تبعاً لمتقدمي أهل الأثر وكثير من محققي متأخريهم. ولما رأى بعضهم كتابه كتاباً مفيداً قوي النفع في الفقه ورأى من كثرة زوائده على الموطأ أدرجه على ما فيه في الأصول وجعلها ستة.

وأول من أضافه إلى الخمسة مكملاً به الستة أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي في أطراف الكتب الستة له، وكذا في شروط الأئمة الستة له، ثم الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي في الكمال في أسماء الرجال، أي رجال الكتب الستة، الذي هذبه الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي - بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة، نسبة إلى المزة قرية بدمشق - فتبعهما على ذلك أصحاب الأطراف والرجال والناس، ومنهم من جعل السادس الموطأ كرزين بن معاوية العبدري في التجريد، وأثير الدين أبي السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري الشافعي في جامع الأصول. وقال قوم من الحفاظ منهم ابن الصلاح والنووي وصلاح الدين العلائي والحافظ ابن حجر: لو جعل مسند الدارمي سادساً كان أولى، ومنهم من جعل الأصول سبعة فعد منها زيادة على الخمسة كلأ من الموطأ وابن ماجه، ومنهم من أسقط الموطأ وجعل بدله سنن الدارمي، والله أعلم. وقد تحدث الدكتور محمد أديب الصالح في كتابه (لمحات في أصول الحديث) عن سنن بان ماجه فقال: أحد السنن الأربع، وأحد الكتب الستة والأمهات: الصحيحين والسنن الأربع، وإنه - بشهادة العلماء الأثبات - غزير الفقه والفوائد، وفيه الكثير من الزيادات على الموطأ، بل والزيادات على الكتب الخمسة، فقد روى عنه الحافظ الذهبي أنه قال: عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في إسناده ضعيف. ووصفه الحافظ ابن كثير بأنه كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه. ومع شهادة العلماء بجودة هذا الكتاب لم يغفلوا ذكر ما فيه من الضعيف، قال ابن حجر: كتابه في السنن - يعني ابن ماجه - جامع جيد كثير الأبواب والغرائب وفيه أحاديث ضعيفة جداً، وقد نقل مثل هذا الكلام عن ابن الأثير أيضاً: وكل هذه الأحاديث معروف

عند العلماء متميز عن غيره من الصحيح. ولكن عدد الضعيف قليل إذا قيس بعدد الأحاديث التي يشتمل عليها الكتاب، فقد ذكر أبو الحسن القطان - من أصحاب ابن ماجه - أن في السنن - يعني سنن ابن ماجه - ألفاً وخمسمائة باب، وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث. وهذه الجملة دقق فيها أحد علماء العصر الحديث، محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، فبلغت في تعداده (4341) حديثاً. من هذه الأحاديث (3002) حديثاً أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم، ولكنه هو رواها من طرق غير طرقهم، وباقي الأحاديث مما يحتج به عند العلماء. وتفصيل الزوائد - كما أثبتها محمد فؤاد عبد الباقي في آخر الجزء الثاني من (سنن ابن ماجه) كما يلي: (438) أحاديث رجالها ثقات، وصحيحة الإسناد. (199) أحاديث حسنة الإسناد. (613) أحاديث ضعيفة الإسناد. (99) أحاديث واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة. وبعد هذا التقسيم قرر رحمه الله أن من مزايا الكتاب: ... رواية أحاديث الكتب الخمسة من طرق أخرى يؤيد بعضها بعضاً مما يعطي الأحاديث قوة على قوة، ثم كون الأحاديث - صحيحة الإسناد وحسنة الإسناد - تشكل عدداً كبيراً مما انفرد به، فإذا أضيف هذا إلى مزاياه الأخرى ظهرت لنا قيمة هذا الكتاب بشكل جلي. * * *

7 - الدارمي وسننه

7 - الدارمي وسننه قال صاحب الرسالة المستطرقة: وسنن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي السمرقندي الدارمي، نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم، المتوفى بمرو سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أسانيد عالية وثلاثياته (1) أكثر من ثلاثيات البخاري. قال الدكتور أديب الصالح: وذهب جماعة من العلماء منهم ابن الصلاح والنووي والحافظ ابن حجر إلى أنه لو جعل مسند الدارمي سادساً (أي سادس كتب السنة المعتمدة) لكان أولى. وقد قدم محقق سنن الدارمي: محمد أحمد دهمان، للسنن معرفاً بالسنن وبمؤلفها فقال: هو الحافظ الكبير، شيخ الإسلام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام ابن عبد الصمد التميمي السمرقندي الدارمي - بكسر الراء - نسبة إلى دارم بن مالك بن حنظلة ابن زيد مناة بن تميم أحد بطونه. روى ابن عساكر بسنده إلى أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الوراق قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن يقول: ولدت سنة مات ابن المبارك سنة 181 هـ. نشأ على غاية من العقل والديانة يضرب به المثل في الحلم والدراية والحفظ والعبادة والزهد. ورحل في طلب الحديث فدخل مصر والشام والعراق والحرمين، وأظهر علم الحديث والآثار بسمرقند، وذب عنها الكذب، وكان مفسراً كاملاً، وفقيهاً عالماً، طلب للقضاء على سمرقند فأبى، فألح عليه السلطان حتى تقلده فقضى مرة واحدة ثم استعفى فأعفي. توفى سنة (255 هـ) يوم التروية بعد العصر ودفن يوم عرفة يوم الجمعة وهو ابن (75)

_ (1) الثلاثية: السند الذي فيه ثلاثة رواة بين المؤلف والنبي صلى الله عليه وسلم.

شيوخه

سنة ودفن بمرو، وقيل إن وفاته سنة (250 هـ) وهو وهم. قال إسحاق بن أحمد: كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري فورد عليه كتاب فيه نعي عبد الله بن عبد الرحمن فنكس رأسه ثم رفع واسترجع، وجعل يسيل دموعه على خديه ثم أنشد: إن تبق تفجع بالأحبة كلهم ... وفناء نفسك لا أبالك أفجع ولم يكن ينشد شعراً إلا ما ورد في الأحاديث. ومن مؤلفاته: التفسير، والجامع، والمسند وهو هذا. شيوخه: سمع من أبي مسهر ومروان بن محمد، وعبد الوهاب بن سعيد المغني والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وسعيد بن عامر الضبعي وجعفر بن عون وزيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي ووهب بن جرير وخالد بن مخلد وطبقتهم بالحرمين وخراسان والشام والعراق. من روى عنه: روى عنه البخاري في غير جامعه، ومسلم في صحيحه، وأبو داود، والترمذي، والنسائي خارج سننه، والحسن بن الصباح البزار، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبقي بن مخلد، وعمر بن محمد البجيري، وجعفر بن محمد القرباني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعيسى بن عمر بن العباس السمرقندي، وغيرهم. ثناء الأئمة عليه: قال إسحاق سمعت محمد بن المبرد المحرمي ببغداد يقول: يا أهل خراسان! ما دام عبد الله بن عبد الرحمن بين أظهركم فلا تشتغلوا بغيره، قال إسحاق: وسمعت أبا سعيد الأشج يقول: عبد الله بن عبد الرحمن إمامنا. قال إسحاق: وسمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: إن عبد الله بن عبد الرحمن أعظم من ذاك فيما يقولون من البصر والحفظ وصيانة النفس عافاه الله.

وقال إسحاق: سمعت شريح بن يونس البغدادي يقول: طوبى لكم يا أهل خراسان بعبد الله بن عبد الرحمن. وقال محمد بن عبد الله بن بكير: غلبنا عبد الله بن عبد الرحمن بالحفظ والورع. وقال عبد الرحمن بن أبي حتم سمعت أبي يقول: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي إمام أهل زمانه. وقال زاهر الخطيب السمرقندي: كنت عند أحمد بن حنبل فذكر عبد الله بن عبد الرحمن فقال: هو ذاك السيد، ثم قال عُرض علي الكفر فلم أقبل وعرضت عليه الدنيا فلم يقبل. وقال أحمد بن حامد: سمعت رجاء بن مرجي يقول: رأيت أحمد بن حنبل وإسحاق وابن المديني والشاذكوني فما رأيت أحفظ من عبد الله. وقال أبو سعيد الجريري، عمر بن الحسن: كنت بمصر والشام - وذكر البلدان - ما رأيت أحداً من أهل العلم إلا وهو يعرف عبد الله بن عبد الرحمن، ولا يعرفون رجاء بن المرجي ولا محمد بن إسماعيل. وقال أبو حامد بن الشرقي: إنما أخرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة رجال محمد بن يحيى، ومحمد بن إسماعيل، وعبد الله بن عبد الرحمن، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب. وقال أبو محمد جعفر بن محمد الأمي سمعت رجاء الحافظ يقول: ما أعلم أحداً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عبد الرحمن. وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: يا أبت ما الحفاظ؟ قال: يا بني شباب كانوا عندنا من أهل خراسان وقد تفرقوا. قلت: من هم يا أبت؟

مرتبة هذه السنن عند المحدثين

قال: محمد بن إسماعيل ذاك البخاري، وعبد الله بن عبد الكريم ذاك الرازي - يعني أبا زرعة. وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي. قلت: فمن أحفظ هؤلاء؟ قال: أما أبو زرعة فأسردهم، وأما محمد بن إسماعيل فأعرفهم، وأما عبد الله بن عبد الرحمن فأتقنهم، وأما الحسن بن شجاع فأجمعهم للأبواب. وقال بندار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالرَّي، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخاري. وقال أبو حاتم الرازي: البخاري أعلم من دخل العراق، ومحمد بن يحيى أعلم من بخراسان اليوم، ومحمد بن سليم أورعهم، والدارمي أثبتهم. وقال النووي عنه: هو أحد حفاظ المسلمين في زمانه، قل من يدانيه في الفضيلة والحفظ. مرتبة هذه السنن عند المحدثين: اشتهرت هذه السنن عند المحدثين بالمسند، على خلاف اصطلاحهم. قال السيوطي في تدريب الراوي: ومسند الدارمي ليس بمسند، بل هو مرتب على الأبواب، وبعض المحدثين سموه بالصحيح. وقال الحافظ الذهبي عنه: صاحب المسند العالي الذي في طبقة منتخب مسند عبد بن حميد. قال الحافظ الذهبي: وسمي كتابه مسنداً وإن لم يكن على ترتيب المسانيد. وقال ملا علي القاري في المرقاة: ومسنده المشهور وهو على الأبواب دون الصحابة خلافاً لمن وهم فيه. والذي وهم فيه هو ابن الصلاح فقد عده من المسانيد على وجه اليقين: قال السيوطي

في تدريب الراوي: قيل ومسند الدارمي ليس بمسند بل هو مرتب على الأبواب وقد سماه بعضهم بالصحيح. قال شيخ الإسلام: ولم أر لمغلطاي سلفاً في تسميته الدارمي صحيحاً إلا قوله أنه رآه بخط المنذري. وقال شيخ الإسلام: إنه ليس دون السنن في الرتبة بل لو ضم إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجه فإنه أمثل منه بكثير. وقال العراقي في النكت: اشتهر تسميته بالمسند كما سمى البخاري كتابه بالمسند لتكون أحاديثه مسندة. * * *

8 - الإمام مالك وموطؤه

8 - الإمام مالك وموطؤه قال ابن الأثير: هو أبو عبد الله: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خُثَيْل بن عمرو بن الحارث - وهو ذو أصبح - بن سويد، من بني حمير بن سبأ الأكبر، ثم من بني يشجب بن قحطان، وفي نسبه خلاف غير هذا. ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة، ومات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وله أربع وثمانون سنة. وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة، وله ولد اسمه يحيى، ولا يعلم له غيره. هو إمام أهل الحجاز، بل إمام الناس في الفقه والحديث، وكفاه فخراً أن الشافعي من أصحابه. أخذ العلم عن: محمد بن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ونافع مولى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة بن الزبير، وإسماعيل بن أبي حكيم، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي سعيد المقْبَري، ومخْرَمة بن سليمان، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأفتى معه، وعبد الرحمن بن القاسم، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر - وليس بالقاضي - وخلق كثير سواهم. وأخذ العلم عنه خلق كثير لا يحصون كثرة، وهم أئمة البلاد. منهم: الشافعي، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وأبو هشام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وأبو عبد الله عبد العزيز بن أبي حازم، وعثمان بن عيسى بن كنانة؛ هؤلاء نظراؤه من أصحابه ومَعْن بن عيسى القَزَّاز، وأبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ومن طريقه روينا الموطأ - وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن وهب وأصْبغَ بن الفرج، وغير هؤلاء ممن لا يحصى عدده. وهؤلاء مشايخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن

معين، وغيرهم من أئمة الحديث. قال مالك - رحمه الله تعالى -: قل من كتبت عنه العلم، ما مات حتى يجيئني ويستفتيني. وقال بكر بن عبد الله الصُنعاني: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة بن عبد الرحمن وكنا نستزيده من حديثه. فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة، وهو نائم في ذلك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبهناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم. قلنا: الذي يتحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟! قال: أما علمتم أن مثقالاً من دولةٍ خيرٌ من حِمل علم؟! (1). وكان مالك مبالغاً في تعظيم العلم والدين، حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومر يوماً على أبي حازم وهو جالس فجازه، فقيل له، فقال: إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم. قال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصح حديثاً من مالك. وقال الشافعي - رحمه الله - إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنَّ علي من مالك - رحمة الله عليه -. وروي أن المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دسَّ عليه من يسأله، فروى على ملأ من الناس: (ليس على مستكره طلاق) فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث. وروي أن الرشد سأل مالكاً فقال: هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال: اشتر بها داراً، فأخذها ولم ينفقها فلما أراد الرشيد الشخوص. قال لمالك: ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على

_ (1) يعني: أن مالك بن أنس محظوظ، جعل الله له شهرة وسمعة وإقبالاً، بخلاف حالي.

القرآن. فقال: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، لأن أصحاب رسول الله صلى الله علي وسلم تفرقوا بعده في الأمصار فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اختلاف أمتي رحمة" (1) وأما الخروج معك فلا سبيل إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" وقال: "المدينة تنفي خبثها" وهذي دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها. يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليَّ فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي - رحمه الله - رأيت على باب مالك كراعاً من أفراس خراسان وبغال مصر، ما رأيت أحسن منه، فقلت له: ما أحسنه، فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله، فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها، فقال: أنا أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة. وكم مثل هذه المناقب لهذا الطود الأشم، والبحر الزاخر. قال صاحب الرسالة المستطرفة: ولأبي عمر بن عبد البر .. كتاب في وصل ما في الموطأ، من المرسل والمنقطع والمفضَل. قال: وجميع ما فيها من قوله بلغني، ومن قوله عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثاً، كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة لا تعرف، ثم ذكرها. قال الشيخ صالح الفلاني: قد رأيت لابن الصلاح تأليفاً وصل هذه الأربعة فيه بأسانيده. * * *

_ (1) حديث سنده ضعيف، وبعضهم قال: لا أصل له.

9 - الإمام أحمد ومسنده

9 - الإمام أحمد ومسنده قال الشوكاني: وأما أحمد بن حنبل فهو الإمام الكبير، المجمع على إمامته وجلالته، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيابني، رحل إلى الشام والحجاز واليمن وغيرها، وسمع من سفيان بن عيينة وطبقته، وروى عنه جماعة من شيوخه وخلائق آخرون لا يحصون، منهم البخاري ومسلم. قال أبو زرعة: كانت كتب أحمد بن حنبل اثني عشر حملاً وكان يحفظها عن ظهر قلبه وكان يحفظ ألف ألف حديث. ولد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين على الأصح، وله كرامات جليلة وامتحن المحنة المشهورة. وقد طول المؤرخون ترجمته وذكروا فيها عجائب وغرائب، وترجمة الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في مقدار خمسين ورقة وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة. وله - رحمه الله - المسند الكبير انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث ولم يدخل فيه إلا ما يحتج به وبالغ بعضهم فأطلق على جميع ما فيه أنه صحيح، وأما ابن الجوزي فأدخل كثيراً منه في موضوعاته، في كتاب الموضوعات لابن الجوزي، حيث أورد فيه أحاديث موضوعة مكذوبة. لكنه رحمه الله كان يورد أحاديث ضعيفة، بل حسنة وصحيحة في كتابه - وتعقبه بعضهم في بعضها، وقد حقق الحافظ ابن حجر نفي الوضع عن جميع أحاديثه وأنه أحسن انتقاء وتحريراً من الكتب التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها كالموطأ والسنن الأربعة، وليست الأحاديث الزائدة فيه على الصحيحين بأكثر ضعفاً من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي، وقد ذكر العراقي أن فيه تسعة أحاديث موضوعة، وأضاف إليها خمسة عشر حديثاً أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي فيه، وأجاب عنها حديثاً حديثاً. قال

السيوطي: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي وهي فيه وقد جمعها السيوطي في جزء سماه (الذيل الممهد) وذب عنها وعدتها أربعة عشر حديثاً. قال الحافظ ابن حجر في كتابه، (تعجيل المنفعة في رجال الأربعة) ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفاً، قال: والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهواً، قال الهيثمي في زوائد المسند: إن مسند أحمد أصح صحيحاً من غيره، لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته. قال السيوطي في خطبة كتابه (الجامع الكبير) ما لفظه: وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن. وقال صاحب الرسالة المستطرفة: ومسند الإمام الأوحد محيي السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، ثم البغدادي المتوفى ببغداد سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان يحفظ ألف ألف حديث، ومسنده هذا يشتمل على ثمانية عشر مسنداً أولها مسند العشرة، وما معه من زيادات ولده عبد الله ويسير من زيادات أبي بكر القطيعي الراوي عن عبد الله. وقد اشتهر عند كثير من الناس أنه أربعون ألف حديث. قال أبو موسى المديني: لم أزل أسمع ذلك من الناس حتى قرأته على أبي منصور بن زريق. وقد صرح بذلك الحافظ شمس الدين محمد بن الحسين في التذكرة فقال: عدة أحاديثه أربعون ألفاً بالمكرر. وقال ابن المنادي: إنه ثلاثون ألفاً، والاعتماد على قوله دون غيره. وقد انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألف حديث. ولم يدخل فيه إلا ما يحتج به عنده، وتفضيل ابن الصلاح كتب السنن عليه منتقد، وبالغ بعضهم فأطلق عليه اسم الصحة، والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة وبعضها أشد في الضعف من بعض، حتى إن ابن الجوزي أدخل كثيراً منها في موضوعاته، ولكن تعقبه في بعضها الحافظ أبو الفضل العراقي، وفي سائرها الحافظ ابن حجر في (القول المسدد في الذب عن مسند أحمد) والسيوطي في ذيله المسمى: (الذيل الممهد على القول المسدد). وحقق الأول منهما نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريراً من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها. قال: وليست الأحاديث الزائدة

فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفاً من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي عليهما. وقال غيره: ما ضعف من أحاديثه أحسن حالاً مما يصححه كثير من المتأخرين. وقد رتبه على الأبواب بعض الحفاظ الأصبهانيين، وكذا الحافظ ناصر الدين بن زريق، وكذا بعض من تأخر عنه، ورتبه على حروف المعجم في أسماء المقلين الحافظ أبو بكر بن المحب، ولولده أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل البغدادي الحافظ المتوفى سنة تسعين ومائتين كتاب في زوائد مسنده هذا وهو نحو من ربعه في الحجم، قيل إنه مشتمل على عشرة آلاف حديث، وله أيضاً زوائد كتاب الزهد لأبيه، وللإمام الحافظ أبي بكر محمد بن الحافظ أبي محمد عبد الله المقدسي الحنبلي ترتيب مسند أحمد هذا على حروف المعجم. ومن أجود الخدمات المعاصرة التي قدمت لمسند الإمام أحمد: خدمة الشيخ أحمد شاكر له على أنها خدمة لم تتم، وخدمة الشيخ عبد الرحمن البنا والد الشيخ حسن البنا - رحم الله الجميع - إذ رتب المسند على حسب الأبواب الفقهية والعلمية وشرحه. وقال المناوي في التعريف بالإمام أحمد وبكتابه: والإمام أحمد هو ابن محمد بن حنبل، الناصر للسنة، الصابر على المحنة، الذي قال فيه الشافعي: ما ببغداد أفقه ولا أزهد منه. وقال إمام الحرمين: غسل وجه السنة من غبار البدعة وكشف الغمة عن عقيدة الأمة. ولد ببغداد سنة أربع وخمسين ومائة، وروى عن الشافعي وابن مهدي وخلق وعنه الشيخان وغيرهما، ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين، وارتجت الدنيا لموته. قال ابن المديني: مسنده - وهو نحو أربعين ألفاً - أصل من أصول الإسلام، وقال ابن الصلاح: مسند أحمد ونحوه من المسانيد كأبي يعلي والبزار والدارمي وابن راهويه وعبد بن حميد لا يلتحق بالأصول الخمسة وما أشبهها - أي كسنن ابن ماجه - في الاحتجاج بها والركون إليها. وقال العراقي: وجود الضعيف في مسند أحمد محقق، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء. وتعقبه تلميذه الحافظ ابن حجر بأنه ليس فيه حديث لا أصل له

إلا أربعة منها خبر ابن عوف أنه يدخل الجنة زحفاً. قال (أعني ابن حجر في تجريد زوائد البزار): وإذا كان الحديث في مسند أحمد لا يعزى لغيره من المسانيد. * * *

10 - 11 - 12 - معاجم الطبراني الثلاثة

10 - 11 - 12 - معاجم الطبراني الثلاثة قال صاحب الرسالة المستطرفة: كتب المعاجم جمع معجم، وهو في اصطلاحهم ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة أو الشيوخ أو البلدان أو غير ذلك، والغالب أن يكونوا مرتبين على حروف الهجاء، كمعجم الطبراني الكبير: المؤلف في أسماء الصحابة على حروف المعجم، عدا مسند أبي هريرة: فإنه أفرده في مصنف، يقال: إنه أورد فيه ستين ألف حديث ف اثني عشر مجلداً، وفيه قال ابن دحية: هو أكبر معاجم الدنيا، وإذا أطلق في كلامهم (المعجم) فهو المراد وإذا أريد غيره قيد. والأوسط: ألفه في أسماء شيوخه، وهم قريب من ألفي رجل، حتى إنه روى عمن عاش بعده لسعة روايته وكثرة شيوخه، وأكثره من غرائب حديثهم، قال الذهبي: فهو ينظر الأفراد للدارقطني بين فيه فضيلة سعة روايته ويقال: إن فيه ثلاثين ألف حديث وهو في ست مجلدات كبار، وكان يقول فيه: هذا الكتاب روحي، لأنه تعب فيه. قال الذهبي: وفيه كل نفيس وعزيز ومنكر. والصغير: وهو في مجلد خرّج فيه عن ألف شيخ، يقتصر فيه غالباً على حديث واحد عن كل واحد من شيوخه، قيل: وهو عشرون ألف حديث ذكره غير واحد، لكن ذكر المقري في (فتح المتعال) نقلاً عن كتاب (إرشاد المهتدين لمشايخ ابن فهد تقي الدين) أن المعجم الصغير للطبراني في مجلد، يشتمل على نحو من ألف وخمسمائة حديث بأسانيدها، قال: لأنه خرّج فيه عن ألف شيخ، كل شيخ حديثاً أو حديثين، وهو التحرير والصواب وخلافه سبق قلم، والله أعلم، أهـ. وقد عرف المناويُّ المؤلف بقوله: سليمان اللخمي أبو القاسم أحد الحفاظ المكثرين الجوالين، صاحب التصانيف الكثيرة أخذ عن أكثر من ألف شيخ منهم: أبو زرعة وطبقته، وعنه: أبو نعيم وغيره. قال

الذهبي: ثقة صدوق، واسع الحفظ، يصير بالعلل والرجال والأبواب، كثير التصانيف، إليه المنتهى في كثرة الحديث وعلومه، تكلم ابن مردويه في أخيه فأوهم أنه فيه وليس به، بل هو حافظ ثبت، مات بأصبهان سنة ستين وثلاثمائة عن مائة سنة وعشرة، أهـ. وحظنا من معاجم الطبراني في هذا الكتاب هو ما أخرجه نور الدين الهيثمي منها في كتابه مجمع الزوائد، الذي يفترض فيه أنه جمع فيه زوائد الطبراني على الكتب الست، ولذلك تقول: إن من قرأ كتابنا هذا لم يفته معنى من العاني التي انفرد بها الطبراني من هديه - عليه الصلاة والسلام -. وبعد أن سرت شوطاً بعيداً في هذا الكتاب، وصلتني بعض الأجزاء المطبوعة من كتاب المعجم الكبير لكني لم أجد فيها ما يجعلني أعيد النظر فيما سرت فيه. * * *

13 - ابن حبان وصحيحه

13 - ابن حبان وصحيحه قال محمد بن جعفر الكتاني: وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ اليمني الدارمي، البُستي - بضم الموحدة، وإسكان السين - نسبة إلى بست بلد كبير من بلاد الغور بطرق خراسان، الشافعي، أحد الحفاظ الكبار، صاحب التصانيف العديدة، المتوفى ببست سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو المسمى بالتقاسيم والأنواع في خمسة مجلدات، وترتيبه مخترع ليس على الأبواب ولا على المسانيد، والكشف منه عسر جداً، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب ترتيباً حسناً، وهو الأمير علاء الدين أبو احسن علي بن بلبان بن عبد الله الفارسي الحنفي الفقيه النحوي، المتوفى بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وسماه (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) كما أنه رتب معجم الطبراني الكبير على الأبواب أيضاً، وصحيح ابن حبان موجود الآن بتمامه، بخلاف صحيح ابن خزيمة فقد عدم أكثره كما قال السخاوي. وقد قيل إن أصح من صنف في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة فابن حبان. وقد تحدث الدكتور محمد أديب الصالح في كتابه (لمحات في أصول الحديث) عن ابن حبان وصحيحه بقوله: صاحب هذا الصحيح هو: الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي الشافع. سمع من كثير: أبو عبد الرحمن النسائي، وأبو بكر بن خزيمة، وجعفر بن أحمد الدمشقي، وغيرهم من مصر إلى خراسان، وممن حدث عنه: الحاكم، ومنصور، وعبد الله الخالدي وآخرون. وهو أحد الحفاظ الكبار. قال الخطيب: كان ثقة نبيلاً فهماً، وله بجانب (صحيحه) العديد من التصانيف في الحديث والتاريخ، وله كتاب (الضعفاء) وقال عنه الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث. وقال ياقوت الحموي: أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره .. توفى سنة (254). وقال المناوي في التعريف به:

محمد بن حبان أبو حاتم التميمي الفقيه الشافعي البستي، أحد الحفاظ الكبار، روى عن النسائي وأبي يعلي وابن خزيمة وخلقٍ، وعنه الحاكم وغيره، وصنف كتباً نفيسة منها: تاريخ الثقات وتاريخ الضعفاء. ولي قضاء سمرقند، وكان رأساً في الحديث، عالماً بالفقه والكلام والطب والفلسفة والنجوم، ولهذا امتحن ونسب للزندقة وأمر بقتله، ثم مات بسمرقند سنة أربع وخمسين وثلثمائة في عشر الثمانين. وقال عن صحيحه: المسمى بالتقاسيم والأنواع المقدم عندهم على مستدرك الحاكم. قال الحازمي: ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم، والحاكم أشد تساهلاً منه، غايته أن ابن حبان يسمى الحسن صحيحاً، وما اقتضاه كلام التقريب كأصله مما يخالف ذلك رده الزين العراقي بأن ابن حبان شرط تخريج مراويه ثقة غير مدلس سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه. ووفى بالتزامه، ولم يعرف للحاكم، قال: وصحيح ابن خزيمة أعلى رتبة من صحيح ابن حبان لشدة تحريه، فأصح من صنف في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة فابن حبان فالحاكم قال ابن حجر: وذكر ابن حبان في كتابه أنه إنما لم يرتبه ليحفظ، لأنه لو رتبه ترتيباً سهلاً لاتّكل كل من يكون عنده على سهولة الكشف فلا يحفظه، وإذا توعر طريق الكشف كان أدعى لحفظه ليكون على ذكر من جمعه. * * *

14 - ابن خزيمة وصحيحه

14 - ابن خزيمة وصحيحه قال صاحب الرسالة المستطرفة: ومنها - أي كتب السنة - كتب التزم أهلها فيها الصحة من غير ما تقدم من الموطأ والصحيحين، منها صحيح أبي عبد الله وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة السلمي النيسابوري الشافعي شيخ ابن حبان المتوفى سنة إحدى عشر وثلاثمائة، ويعرف عند المحدثين بإمام الأئمة. وقد تحدث الدكتور محمد أديب الصالح في كتابه (لمحات في أصول الحديث) عن ابن خزيمة وصحيحه بقوله: صاحب هذا الصحيح هو شيخ الإسلام الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق (ابن خزيمة) النيسابوري، سمع من كثيرين مثل: محمود بن غيلان، وعتبة بن عبد الله اليحمدي، وأحمد ابن منيع، وعبد الجبار بن العلاء وطبقتهم، وانتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان. وقد حدث عنه الكثيرون من العلماء، منهم: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أحد شيوخه، وأحمد بن المبارك المستملي، وأبو علي النيسابوري، وحدث عنه الشيخان البخاري ومسلم في غير صحيحهما. ولد رحمه الله سنة (223 هـ) وتوفي سنة (311 هـ). إلا أن الكتاب (صحيح ابن خزيمة) غير موجود بتمامه لأن أكثره قد عدم، علماً بأنه قيل: إنه أصح ما صنف في الصحيح بعد البخاري ومسلم. وهذا الموجود هو في غاية القبول عند العلماء. وإنك واجد في نقول الثقات الكثير من رد أحاديثهم إليه. وقد تحدث محقق صحيح ابن خزيمة الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي، في تقديمه لصحيح ابن خزيمة عن ابن خزيمة وصحيحه، وكان من كلامه: يعد القرنان الثالث والرابع الهجريان من أنضج قرون الثقافة الإسلامية إنتاجاً، وما

غرس في القرن الأول على يد الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين - وسقي على أيدي التابعين وأتباع التابعين في القرن الثاني، بدأ يؤتي أكله ناضجاً شهياً في القرنين الثالث والرابع. في هذا العصر الذهبي ولد إمام الأئمة فقه الآفاق المجتهد المطلق أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة النيسابوري مولى مجشر بن مزاحم، في شهر صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين بنيسابور. عني بالحديث منذ حداثته، ومع من إسحق بن راهويه المتوفى سنة 238 هـ، ومحمد بن حميد المتوفى سنة 230 هـ ولم يحدث عنهما لكونه كتب عنهما في صغره وقبل فهمه وتبصره. رحلات لطلب العلم: وعلى سنة الزمان أراد أن يرتحل لسماع الحديث النبوي، وكان يرغب في الذهاب إلى قتيبة فاستأذن أباه، فأجابه: (اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك) يقول ابن خزيمة: فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث أولاً حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن ي، فخرجت إلى مروٍ، وسمعت بمرو الروذ من محمد بن هشام - يعني صاحب هشيم - فنعى إلينا قتيبة. وكانت وفاة قتيبة في سنة أربعين ومائتين. فعلى هذا بدأ ابن خزيمة رحلاته العلمية وهو في السابعة عشرة من عمره، وقد اتسعت رحلاته حتى شملت الشرق الإسلامي حينذاك فسمع: بنيسابور: ابن راهويه وغيره. وبمرو: علي بن محمد وغيره. وبالري: محمد بن مهران وغيره. وبالشام: موسى بن سهل الرملي وغيره. وبالجزيرة: عبد الجبار بن العلاء وغيره.

وبمصر: يونس بن عبد الأعلى وغيره. وبواسط: محمد بن حرب وغيره. وببغداد: محمد بن إسحق الصاغاتي وغيره. وبالبصرة: نصر بن علي الأزدي الجهضمي وغيره. وبالكوفة: أبا كريب محمد بن العلاء الهمداني وغيره. كما سمع من البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري والذهلي وخلق. وروى عنه جماعة من مشايخه منهم البخاري ومسلم خارج الصحيحين، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم شيخه، ويحيى بن محمد بن صاعد، وأبو علي النيسابوري وخلائق، وآخر من روى عنه بنيسابور حفيده أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحق بن خزيمة. شجاعته الأدبية: كان ابن خزيمة جريئاً لا يخاف قال أبو بكر بن بالويه: سمعت ابن خزيمة يقول: كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد فحدث عن أبيه. بحديث وهم في إسناده فرددته عليه، فلما خرجت من عنده قال أبو ذر القاضي: قد كنا نعرف أن هذا الحديث خطأ منذ عشرين سنة، فلم يقدر واحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديث رسول الله صلى الله لعيه وسلم فيه خطأ أو تحريف فلا أرده. * * *

15 - أبو يعلي ومسنده

15 - أبو يعلي ومسنده قال صاحب الرسالة المستطرفة: ومسند أبي يعلي أحمد بن علي بن المثني التميمي الموصلي الحافظ المشهور الثقة المتوفى بالموصل سنة سبع وثلاثمائة، وقد زاد على المائة وعمر وتفرد ورحل الناس إليه، وله مسندان صغير وكبير. وفيه قال إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الحافظ: قرأت المسانيد كمسند العدني ومسند أبي منيع وهي كالأنهار، ومسند أبي يعلي كالبحر فيكون مجموع الأنهار. وقال المناوي في التعريف بأبي يعلي: الحافظ الثبت محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثنى التميمي، سمع ابن معين وطبقته، وعنه ابن حبان والإسماعيلي وغيرهما، أهل صدق وأمانة وعلم وحلم، وثقه ابن حبان والحاكم، ولد سنة عشر ومائتين ومات سنة سبع وثلاثمائة. * * *

16 - أبو بكر البزار ومسنده

16 - أبو بكر البزار ومسنده قال محمد بن جعفر الكتاني: ومسند أبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار البصري الحافظ الشهير المتوفى بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وله مسندان الكبير المعلل وهو المسمى (البحر الزاخر) يبين فيه الصحيح من غيره، قال العراقي: ولم يغفل ذلك إلا قليلاً، إلا أنه يتكلم في تفرد بعض رواة الحديث ومتابعة غيره عليه. وحظنا في هذا الكتاب من مسند البزار هو زوائده على الكتب الستة التي أخرجها الهيثمي في (مجمع الزوائد) أو في كتاب (كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة) فنحن في هذا الكتاب نختار منها ما اجتمع فيه شرط الحسن أو الصحة ووافق غرضنا من هذا الكتاب. قال الهيثمي في تقديمه لكشف الأستار: وبعد فقد رأيت مسند الإمام أبي بكر البزار المسمى بـ (البحر الزخار) قد حوى جملة من الفوائد الغزار، يصعب التواصل إليها على من التمسها، ويطول ذلك عليه قبل أن يخرجها، فأردت أن أتتبع ما زاد فيه على الكتب الستة، من حديث بتمامه، وحديث شاركهم .. وفيه زيادة. * * *

17 - الحاكم ومستدركه

17 - الحاكم ومستدركه قال صاحب الرسالة المستطرفة: وصحيح أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن الييّع - بوزن قيّم - صاحب التصانيف التي لم يسبق لمثلها ككتاب (الإكليل) وكتاب (المدخل إليه) (وتاريخ نيسابور) (وفضائل الشافعي) وغيرها، المتوفى بنيسابور سنة خمس وأربعمائة، وهو المعروف بـ (المستدرك على الصحيحين) مما لم يذكراه وهو على شرطهما، أو شرط أحدهما، أولا على شرط واحد منهما. وهو متساهل في التصحيح. واتفق الحفاظ على أن تلميذه البيهقي أشد تحرياً منه. وقد لخص مستدركه هذا الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز التركماني الفارقي الأصل الذهبي نسبة إلى اذهب كما في النصير الدمشقي الشافعي المتوفى بدمشق سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وتعقب كثيراً منها بالضعف والنكارة أو الوضع، وقال في بعض كلامه: إن العلماء لا يعتدون بتصحيح الترمذي والحاكم. وذكر له ابن الجوزي في موضوعاته ستين حديثاً أو نحوها. ولكن انتصر له الحفاظ في أكثرها. وفي التعقيبات أنه جَرَّد بعض الحفاظ منه مائة حديث موضوعة في جزء، ولجلال الدين (توضيح المدرك في تصحيح المستدرك) لم يكمل ولخصه أيضاً - أعني المستدرك - برهان الدين الحلبي - وزعم أبو سعد الماليني أنه ليس فيه حديث على شرطهما، ورده الذهبي بأنه غلو وإسراف، بل فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده، وإن كان فيه علة، وما بقي فهو مناكير وواهيات لا تصح وفي بعض ذلك موضوعات، ويقال: إن السبب في التساهل الواقع فيه أنه صنفه أواخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغير أو أنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جداً بالنسبة لباقيه، وقد قال الحافظ: وجدت قريباً من نصف الجزء الثاني - من تجزئة ستة من المستدرك - إلى هنا انتهى إملاء الحاكم، قال: وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة،

والتساهل في القدر المملى قليل جداً بالنسبة إلأى ما بعده. وقد قال الحازمي: ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم. وقال العماد ابن كثير: قد التزم ابن خزيمة وابن حبان الصحة وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف أسانيد ومتوناً، وقال غيرهما: صحيح ابن خزيمة أعلى مزية من صحيح ابن حبان وصحيح ابن حبان أعلى من الحاكم، وهو مقارب للحاكم في التساهل، لأنه غير متقيد بالمعدِّلين، بل ربما يخرج للمجهولين لا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح، ولكن هذا كله اصطلاح له ولا مُشاحة فيه، على أن في صحيح ابن خزيمة أيضاً أحاديث محكوم منه بصحتها وهي لا ترتقي عن درجة الحسن، بل وفيما صححه الترمذي من ذلك أيضاً جملة من أنه يفرق بين الصحيح والحسن وحينئذ فلابد من النظر في أحاديث كل ليحكم على كل واحد منه بما يليق به. والله أعلم. وفي تدريب الراوي: واعتنى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في المستدرك بضبط الزوائد عليهما، مما هو على شرطهما أو على شرط أحدهما، أو صحيح مصحح وإن لم يوجد شرط أحدهما، وربما أورد فيه ما لم يصح عنده منبهاً على ذلك وهو متساهل في التصحيح. وقد لخص الذهبي مستدركه وتعقب كثيراً منه بالضعف والنكارة، وجمع جزءاً في الأحاديث التي فيه وهي موضوعة فذكر نحو مئة حديث. فما صححه الحاكم ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً، حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه، أهـ ملخصاً. وقد أغنانا عن ذلك الذهبي، فما أقره عليه فهو صحيح، وما سكت عنه ولم يتعقبه بشيء فهو كما قال ابن الصالح: حسن. وقد رأيت العزيزي في (شرحه للجامع الصغير) يحتج كثيراً بتقرير الذهبي للحاكم على التصحيح، فليعلم ذلك. والله أعلم. أهـ. وقد علق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على قول صاحب تدريب الراوي: (فما صححه الحاكم ولم تجد فيه لغيره من المعتمدين ..) بقوله: هذا كلام ابن الصلاح في (مقدمته) ووافقه النووي في (التقريب) وقد انتقده السيوطي في (التدريب) ص 53 فقال عقبه: اله البدر بن جماعة: والصواب أنه يتتبع

عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف، ووافقه العراقي وقال: إن حكمه أي: ابن الصلاح - عليه بالحسن فقط تحكم. قال إلا أن ابن الصلاح قال ذلك بناء على رأيه: أنه قد انقطع التصحيح في هذه الأعصار، فليس لأحد أن يصحح، فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه، والعجب من المصنف - أي النووي - كيف وافقه هنا؟ مع مخالفته له في المسألة المبني عليها. * * *

18 - رزين وابن الأثير وابن الديبع الشيباني والأصول الستة

18 - رزين وابن الأثير وابن الديبع الشيباني والأصول الستة قال في الرسالة المستطرفة: والجمع بين الأصول الستة أي: الصحاح الثلاثة التي هي البخاري ومسلم والموطأ، والسنن الثلاثة وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي، لأبي الحسن (رزين) بوزن أمير، ابن معاوية العبدري السرقسطي الأندلسي المالكي، المتوفى بمكة - بعد ما جاور بها أعواماً - سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وهو المسمى بـ (التجريد للصحاح والسنن)، والجمع بينهما أيضاً لأبي السعادات مجد الدين المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف (بابن الأثير) الجزري نسبة إلى جزيرة ابن عمر لكونه ولد بها ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل وبه توفي سنة ست وستمائة ودفن برباطه، وهو المسمى (جامع الأصول من أحاديث الرسول) على وضع كتاب رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، في عشرة أجزاء، واختصره أبو زيد وأبو الضياء حافظ العصر وجيه الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر الشهير (بابن الديْيَع) بدال مهملة مفتوحة فياء تحتية ساكنة فياء موحدة مفتوحة أيضاً فعين مهملة آخره، الشيباني الزبيدي اليمني الشافعي المولود بزبيد سنة ست وستين وثمانمائة، والمتوفى ضحى يوم الجمعة سادس عشر رجب سنة أربع وأربعين وقيل سنة خمسين وتسعمائة وهو أحسن مختصراته سماه (تيسير الوصول إلى جامع الأصول) في مجلدين. وإذن فعندنا ثلاثة كتب: (تجريد الصحاح والسنن) لرَزِين، و (جامع الأصول من أحاديث الرسول) لابن الأثير و (تيسير الوصول إلى جامع الأصول) مبني على كتاب جامع الأصول محاولاً فيه صاحبه الخروج من التكرار وهو لابن الدييع الشيباني، وأصول هذه الكتب الثلاثة: صحيحا البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك وسنن أبي داود والترمذي والنسائي. قال ابن الأثير في مقدمة كتابه الجامع للأصول:

لما وقفت على هذه الكتب أي الستة ورأيتُها في غاية من الوضع الحسن والترتيب الجميل، ورأيت كتاب (رَزِين) هو أكبرها وأعمها، حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث، وأشهرها في أيدي الناس وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء، وأثبتوا الأحكام، وشادوا مباني الإسلام. ومصنفوها أشهر علماء الحديث، وأكثرهم حفظاً، وأعرفهم بمواضع الخطأ والصواب، وإليهم المنتهى، عندهم الموقف. فحينئذ أحببت أن أشتغل بهذا الكتاب الجامع لهذه الصحاح، وأعتني بأمره، ولو بقراءته ونسخه، فلما تتبعته وجدته - على ما قد تعب فيه - قد أودع أحاديث في أبواب، غير تلك الأبواب أولى بها، وكرر فيه أحاديث كثيرة، وترك أكثر منها. ثم إنني جمعت بين كتابه وبين الأصول الستة التي ضمنها كتابه، فرأيت فيها أحاديث كثيرة لم يذكرها في كتابه، إما للاختصار، أو لغرض وقع له فأهملها، ورأيت في كتابه أحاديث كثيرة لم أجدها في الأصول التي قرأتها وسمعتها ونقلت منها، وذلك لاختلاف النسخ والطرق، ورأيته قد اعتمد في ترتيب كتابه على أبواب البخاري، فذكر بعضها وحذف بعضها. فناجتني نفسي أن أهذب كتابه، وأرتب أبوابه، وأوطيء مقصده، وأسهل مطلبه، وأضيف إليه ما أسقطه من الأصول، وأُتبعه شرح ما في الأحاديث من الغريب والإعراب والمعنى، وغير ذلك مما يزيده إيضاحاً وبياناً، فاستصغرت نفسي عن ذلك، واستعجزتها، ولم يزل الباعث يقوى والهمة تنازع، والرغبة تتوفر، وأنا أُعللها بما في ذلك من التعرض للملام، والانتصاب للقدح، والأمن من ذلك جميعه مع الترك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فتحققت بلطف الله العزيمة، وصدقت بعونه النية، وخلصت بتوفيقه الطوية. فشرعت في الجمع بين هذه الكتب الستة التي أودعها (رزين) - رحمه الله - كتابه، وصدفت عما فعله ورتبه، فاعتمدت على الأصول دون كتابه، واخترت له وضعاً يزيد بيانه حسبما أدى إليه اجتهادي، وانتهى إليه عرفاني.

لكن ابن الأثير كرر الأحاديث على حسب احتياجات الأبواب إليها، فخرج كتابه كبيراً واسعاً؛ لذلك اختصره ابن الديبع في مجلدين. وقد عرف الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - محقق كتاب الجامع - على ابن الأثير وكان مما قال: هو الإمام البارع مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، ثم الموصلي المعروف بابن الأثير. ولد في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة في جزيرة ابن عمر، وهي - على ما يقول ياقوت الحموي معاصر المؤلف - بلدة فوق الموصل: بينهما ثلاثة أيام، ونشأ بها وتلقى من علمائها معارفه الأولى، من تفسير وحديث ونحو ولغة وفقه، ثم تحول سنة (565 هـ) إلى الموصل، وفيها بدأت معارفه تنضج وثقافته تزداد، وأقام بها إلى أن توفي. قرأ الأدب على ناصح الدين أبي محمد سعيد بن المبارك بن الدهان البغدادي، وأبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي، وأبي الحزم مكي بن الريان بن شبة النحوي الضرير، وسمع الحديث بالموصل من جماعة منهم خطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد الطوسي، وقدم بغداد حاجاً فسمع بها من أبي القاسم صاحب ابن الخل، وعبد الوهاب بن سكينة، وعاد إلى الموصل فروى بها وحدث وانتفع به الناس. وصفه من أرخ له بأنه كان من محاسن الزمن، ذا دين متين، وطريقة مستقيمة، عارفاً، فاضلاً، ورعاً، عاقلاً، سيداً، مطاعاً، رئيساً، مشاوراً، ذا بِرَ وإحسان. قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث والفقه، وصنف تصانيف مشهورة وألف كتباً مفيدة. منها: (غريب الحديث) على حروف المعجم، وهو المعروف بالنهاية، و (الشافي في شرح مسند الشافي) و (الإنصاف بين الكشف والكشاف)، جمع فيه بين تفسيري الثعلبي والزمخشري، و (البديع) في النحو، و (الباهر في الفروق) في النحو أيضاً، و (تهذيب فصول ابن الدهان) و (المصطفى المختار من الأدعية والأذكار) و (كتاب لطيف في صناعة الكتابة) وله رسائل في الحساب مُجدّوْلات، وكتاب ديوان رسائله: كتاب البنين

والبنات، والآباء والأمهات، والأذواء والذوات، و (جامع الأصول في أحاديث الرسول) وهو هذا الكتاب. إلى غير ذلك من المؤلفات القيمة والمصنفات النافعة. قال ياقوت الحموي في (معجم الأدباء): حدثني أخوه أبو الحسن قال: تولى أخي أبو السعادات الخزانة لسيف الدين الغازي بن مودود ب زنكي، ثم ولاه ديوان جزيرة ابن عمر وأعمالها، ثم عاد إلى الموصل، فناب في الديوان عند الوزير جلال الدين أبي الحسن علي بن جمال الدين محمد بن منصور الأصبهاني، ثم اتصل بمجاهد الدين بن قايماز - وكان نائب المملكة - بالموصل أيضاً، فنال عنده درجة رفيعة، فلما قُبض على مجاهد الدين سنة 589 هـ اتصل بخدمة أتابك عز الدين مسعود بن مودود إلى أن توفي عز الدين وآل الأمر إلى ولده نور الدين شاه، فاتصل بخدمته حتى صار واحد دولته حقيقة، بحيث إن السلطان كان يقصده في منزله في مهام نفسه، لأنه أُقعد في آخر زمانه، فكانت الحركة تصعب عليه، فكان يجيئه بنفسه أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤاً. وكان قد عرض عليه غير مرة أن يستوزره، وهو يأبى، فركب السلطان إليه، فامتنع أيضاً، حتى غضب عليه، فاعتذر إليه وقال له: أنا رجل كبير، وقد خدمت العلم عمري واشتهر ذلك عني في البلاد، وأعلم أني لو اجتهدت في إقامة لعدل بغابة جهدي ما قدرت أن أؤدي حقه، ولو ظُلِم أكِّار (حرِّاث) في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إليَّ، ورجعت أنت وغيرك باللائمة عليِّ، والملك لا يستقيم إلا بشيء من العسف والظلم، وأخذ الخَلْق بالشدة، وأنا لا أقدر عليه، ولا يليق بي، فعذره وأعفاه. ولما أقعد في آخر عمره، جاء رجل مغربي فعالجه بدهن صنعه، فبانت ثمرته، وتمكن من مدِّ رجليه، فقال لأخيه عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير: أعطه ما يرضيه، واصرفه، فقال أخوه: لماذا وقد ظهر النجح؟! قال: هو كما تقول، ولكني في راحة من صحبة هؤلاء القوم - يعني الأمراء والسلاطين، وقد سكنت نفسي إلى الانقطاع والدعة، وبالأمس كنت أذل نفسي بالسعي إليهم، وهنا في منزلي لا يأتون إليَّ إلا في مشورة مهمة، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعش باقيه حراً سليماً من الذل، قال أخوه: فقبلت قوله وصرفت الرجل بإحسان.

فلزم بيته صابراً محتسباً، يقصده العلماء، ويفد إليه السلاطين والأمراء، يقبسون من علمه، وينهلون من فيضه، حتى توفي رحمه الله بالموصل سنة 606 هـ. * * *

19 - نور الدين الهيثمي ومجمع الزوائد

19 - نور الدين الهيثمي ومجمع الزوائد هو علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر بن عمر بن صالح نور الدين أبو الحسن الهيثمي القاهري الشافعي الحافظ ويعرف بالهيثمي. كان أبوه صاحب حانوت بالصحراء، فولد له هذا في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، ونشأ فقرأ القرآن، ثم صحب الزين العراقي وهو بالغ، ولم يفارقه سفراً وحضراً، حتى مات بحيث حج معه جميع حجاته، ورحل معه سائر رحلاته، ورافقه في جميع مسموعه بمصر والقاهرة والحرمين وبيت المقدس ودمشق وبعلبك وحلب وحماة وطرابلس وغيرها، وربما سمع الزين بقراءته، ولم ينفرد عنه الزين بغير ابن البابا، والتقي السبكي وابن شاهد الجيش. كما أن صاحب الترجمة لم ينفرد عنه بغير صحيح مسلم على ابن عبد الهادي. وممن سمع عليه سوى ابن عبد الهادي: الميدومي ومحمد بن إسماعيل بن الملوك ومحمد بن عبد الله النعماني وأحمد بن الرصدي وابن القطرواني والعرضي ومظفر الدين محمد بن محمد بن يحيى العطار وابن الخباز وابن الحموي وابن قيم الضيائية وأحمد بن عبد الرحمن المرداوي، فمما سمعه على المظفر: صحيح البخاري، وعلى ابن الخباز: صحيح مسلم، وعليه وعلى العرضي: مسند أحمد، وعلى العرضي والميدومي: سنن أبي داود، وعلى الميدومي وابن الخباز: جزء ابن عرفة. وهو مكثر سماعاً وشيوخاً، ولم يكن الزين يعتمد في شيء من أموره إلا عليه حتى إنه أرسله مع ولده الولي لما ارتحل بنفسه إلى دمشق، وزوجه ابنته خديجة، ورزق منها عدة أولاد. وكان عجباً في الدين والتقوى والزهد والإقبال على العلم والعبادة والأوراد وخدمة الشيخ وعدم مخالطة الناس في شيء من الأمور، والمحبة في الحديث وأهله. وحدث بالكثير رفيقاً للزين بل قل أن حدث الزين بشيء إلا وهو معه، وكذلك قل أن حدث هو بمفرده، لكنهم بعد وفاة الشيخ أكثروا عنه، ومع ذلك فلم يغير حاله ولا تصدر ولا تمشيخ، وكان مع كونه شريكاً للشيخ يكتب عنه الأمالي بحيث كتب عنه جميعها وربما استملى عليه،

ويحدث بذلك عن الشيخ لا عن نفسه إلا لمن ضايقه. ولم يزل على طريقه حتى مات في ليلة الثلاثاء تاسع عشر من رمضان سنة سبع وثمانمائة، بالقاهرة ودفن من الغد، خارج باب البرقية منها، رحمه الله وإيانا. أهـ. قال الهيثمي في مقدمته على مجمع الزوائد: وبعد فقد كنت جمعت زوائد مسند الإمام أحمد وأبي يعلي الموصلي وأبي بكر البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة - رضي الله تعالى عن مؤلفهم وأرضاهم وجعل الجنة مثواهم - كل واحد منها في تصنيف مستقل - ما خلا المعجم الأوسط والصغير فإنهما في تصنيف واحد - فقال لي سيدي وشيخي العلامة شيخ الحفاظ بالمشرق والمغرب ومفيد الكبار ومن دونهم الشيخ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن العراقي - رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثوانا ومثواه -: اجمع هذه التصانيف واحذف أسانيدها لكي يجتمع أحاديث كل باب منها في باب واحد من هذا، فلما رأيت إشارته إليَّ بذلك صرفت همتي إليه، وسألت الله تعالى تسهيله والإعانة عليه، وأسأل الله تعالى النفع به إنه قريب مجيب. قال صاحب الرسالة المستطرفة: و (غاية المقصد في زوائد المسند) - أي مسند أحمد - على الكتب الستة، للحافظ نور الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي بالثاء المثلثة، وأما أحمد بن حجر الهيثمي، فقال الأمير في ثبته "بالمثناة الفوقية نسبة للهياتم من قرى مصر" الشافعي المصري المتوفى بالقاهرة سنة سبع وثمانمائة وهو رفيق أبي الفضل العراقي في سماع الحديث وصهره وتلميذه، وهو الذي أشار عليه بجمع الزوائد المذكورة وهي في مجلدين، وله أيضاً زوائد مسند البزار على الكتب الستة وسماها "البحر الزخار في زوائد مسند البزار" في مجلد ضخم، وزوائد مسد أبي يعلي الموصلي عليها أيضاً في مجلد، وزوائد المعجم الكبير للطبراني عليها أيضاً، وسماها (البدر المنير في زوائد المعجم الكبير) في ثلاثة مجلدات، وزوائد المعجم الأوسط والصغير له عليها أيضاً وسماها (مجمع البحرين في زوائد المعجمين) في مجلدين، ثم جمع الزوائد الستة المذكورة كلها في كتاب واحد محذوف الأسانيد مع الكلام عليها بالصحة

والحسن والضعف، وما في بعض رواتها من الجرح والتعديل، وسماه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) وهو في ست مجلدات كبار ويوجد في ثمان مجلدات وأكثر وهو من أنفع كتب الحديث، بل لم يوجد مثله كتاب، ولا صنف نظيره في هذا الباب. * * *

20 - محمد بن محمد بن سليمان المغربي وكتابه جمع الفوائد

20 - محمد بن محمد بن سليمان المغربي وكتابه جمع الفوائد قال صاحب الرسالة المستطرفة: وللشيخ الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن محمد بن سليمان المغربي الروداني، صاحب (صلة الخلف بموصول السلف) المتوفى سنة أربع وتسعين وألف، ودفن بسفح جبل قاسيون من دمشق الشام، كتاب (جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد) اشتمل على الصحيحين والموطأ والسنن الأربعة ومسند الدارمي ومسند أحمد ومسند أبي يعلي ومسند البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة. وقد تحدث الشيخ محمد بن محمد في مقدمة كتابه عن كتابه فقال: فهذا (جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد). (الأول) للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري الموصلي - رحمه الله - جمع فيه ما في تجريد رزين بن معاوية للأصول الستة، بإبدال ابن ماجه بالموطأ، وما نقصه رزين منها، وعزا كل حديث إلى مخرجه سوى ما زاده - أعني ما في تجريد رزين - ولم يجده ابن الأثير في الأصول الستة، فإنه بيض له مكاناً حتى إذا عثر على مخرجه عزاه إليه فيه، ورتبه على ترتيب بديع، لكن لغموض دقة وضعه واتساع حجمه في جمعه؛ قل أن ينتفع به إلا ذو فكرة ذاكية وحافظة واعية. (وأما الثاني) للحافظ نور الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر ابن سليمان الهيثمي - رحمه الله - جمع فيه ما في مسند الإمام أحمد وأبي يعلي الموصلي وأبي بكر البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة من الأحاديث الزائدة على ما في الأصول الستة بجعل ابن ماجه ههنا دون الموطأ وعقب كل حديث بالكلام على رواته تعديلاً وتجريحاً، فجاء حجمه في ست مجلدات يتناهز بجامع الأصول، فتجشمت هذا الجمع منهما لضيق وسعي عن الإحاطة بكل ما فيهما، فاقتضى الجمع أن أضيف إليهما سنن ابن ماجه، لكن لكون جامع الأصول أخرجه من الستة فلم يذكر

ما فيه، وكون مجمع الزوائد أدخله فلم يذكر زوائده، لم يحسن مني أن أضيف كله إلى الجامع أو زوائده إلى المجمع لأن ذلك كجبر لأحدهما على خلاف مراده، فلهذا أفردت زوائده وعزوتها إليه، ولما كان اختلاف القوم في سادس الستة أهو ابن ماجه أو الموطأ أو مسند الدارمي؟ راعيت هذا الخلاف، فأضفت لذلك أيضاً زوائد الدارمي مفردة، إلا أن يتفق مع ابن ماجه فأجمعهما، وتكلمت على رجالهما تجريحاً وتعديلاً بما في الكاشف للذهبي وتهذيب التهذيب والتقريب للحافظ ابن حجر وغيرها، ورتبته على ترتيب أصوله لكونه مألف طبعي دون ترتيب الجامع، وأينما عثرت على حديث مكرر عندهم في أبواب أثبته في أليق تلك الأبواب به وحذفته في غيرها، إلا لفائدة أو غفلة مني كما فعل مسلم - رحمه الله - وأينما ورد في حكم أو معنى حديثان فأكثر أو روايتا حديث فأكثر، فإني أقتصر فيه على ما هو أكثر فائدة من تلك الأحاديث أو الروايات، وأحذف غيره إلا إن اشتمل على زيادة، فإني أخلص منه تلك الزيادة، أو أذكر كله، والحديث الذي تعدد من أخرجه أذكره بلفظ أحدهم وسياقه ثم تارة أذكر من له اللفظ وتارة لا أذكره. أقول: وقد جعلت كتاب محمد بن محمد بن سليمان أنيساً لي، ودليلاً في عملي، فقد اجتمع فيه ما تفرق في غيره، بل وجدت فيه الكثير مما يحقق مقاصد كتابنا هذا، ولولا أني أستهدف أكثر مما استهدف، وأريد أكثر مما أراد لاكتفيت بخدمة كتابه، ولكن حاجة عصرنا أوسع، فتطلعت إلى التأليف المستقل فكان هذا الكتاب، الذي أرجو أن يكون قد انصبت فيه كل هذه الجهود التي خدمت السنة النبوية، كما أرجو أن أكون قد وفقت لاستخلاص جناها وعبيرها، ورصف جواهرها، وإحكام البناء والزخرفة من لبنات ذهبها. وها نحن أولاء نسلمك للقسم الأول من هذا الكتاب. * * *

القسم الأول في السيرة النبوية ويشتمل على: مقدمة وستة أبواب الباب الأول: من البدء حتى النبوة الشريفة الباب الثاني: من البعثة حتى الاستقرار في المدينة الباب الثالث: من الاستقرار في المدينة حتى الوفاة الباب الرابع: في الصفات والخصائص والشمائل الباب الخامس: في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الباب السادس: دوائر شرف حول الرسول صلى الله عليه وسلم

المقدمة

المقدمة

السيرة النبوية - في الأصل - هي الكتاب والسنة، إنك لا تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرفت الكتاب الذي أنزل عليه، وعرفت مجموع أقواله وأفعاله وصفاته وتقريراته، وتلك هي سنته. لقد كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ولقد كان القرآن نفسه سجلاً لأهم الأحداث في حياته - عليه الصلاة والسلام - فمن هنا قلنا إن القرآن سيرته، وإن أقواله وأفعاله وصفاته وتقريراته هي سيرته، ومن ثم فإن هذا الكتاب وكتاب الأساس في التفسير من سلسلة في المنهج هما في سيرته. وبهذا المعنى تقول: إن السيرة النبوية تسع الزمان والمكان والأشخاص فهي منهج متكامل متجدد، فما من وضع للإنسان وللناس وللمكلفين إلا والسيرة النبوية تسعه قدوة وعملاً ملاحظاً في ذلك أحوال الناس جميعاً من ضعف إلى قوة، وما دام الإنسان على مقتضى الفتوى فإنه على نوع من القدوة. على أن كُتاب السيرة درجوا على أن يرسموا صورة لشخصه ومسرى لأحداث حياته - عليه الصلاة والسلام - ومن ههنا أصبحت السيرة في الاصطلاح جزءاً من كلٍّ، وأصبحت علماً على علم خاص أشبه بالتاريخ الشخصي وما يحيط به. ولهذا جعلنا الكلام عن سيرته - عليه الصلاة والسلام - قسماً من أقسام هذا الكتاب. وقد أدخلنا في هذا القسم ما هو ألصق بالسيرة الذاتية، وما فاتنا ذكره هنا مما هو ألصق بموضوعات أخرى يجده القارئ في بقية الأقسام. وكما توضَّعت حول أي موضوع من موضوعات الكتاب والسنة دراسات وتحقيقات وأصبح لكثير من الموضوعات مختصون ومحققون، فكذلك هذا القسم من السنة النبوية، فكما وجد في الفقه وفي التوحيد وفي التفسير أئمة" فقد وجد في السيرة أئمة، من أمثال ابن إسحق وموسى بن عقبة والواقدي، وغيرهم كثير.

وهناك فارق بين المحدِّث وكاتب السيرة، كالفارق بين المحدث والفقيه، كالفارق بين المنقِّب عن الآثار والمؤرخ. فالمنقب عن الآثار مهمته: أن يعثر على الأثر وأن يُقدِّم دراسة عنه، ولكن مهمة المؤرخ: أن يستفيد من هذا الأثر وغيره ليقدم صورة متكاملة عن حدث أو مرحلة، أو يقدم نظرية متكاملة في مسرى الأمور. والفارق بين المحدث والفقيه: أن المحدث مهمته: جمع الروايات وتحقيقها، وهو لا يدخل في حسابه ما زاد على ذلك من التتبع للنصوص القرآنية، أو البحث في مَحِلِّ هذه الروايات بالنسبة لبناء الشريعة، أما الفقيه فمهمته: رؤية كل ما ورد من كتاب أو سنة في موضوع ما، وإذا كانت هناك مسائل تحتاج إلى جواب وليس في النصوص الصحيحة والقرآن جواب واضح عليها فعليه أن يبحث عن الجواب من خلال قياس أو إجماع أو روايات ضعيفة يسندها قياس أو استئناس بروح الشريعة إلى غير ذلك، قلْ مثل هذا في الفارق بين المحدث وكاتب السيرة، فكاتب السيرة محدث وزيادة، فهو من حيثية كونه محدثاً عليه أن يروي وأن يجمع الروايات وأن يمحصها وأن ينتقد الرواة وأن يقارن بين المرويات، ولكنه ككاتب سيرة له مهمة زائدة: أن ينظر في هذه الروايات على ضوء النصوص القرآنية، وما كان له أصل صحيح وليس فيه تفصيلات فعليه أن يبحث عن هذه التفصيلات، وإذا كان هناك تعارض بين الروايات فعليه أن يرجح، وإذا كانت هناك فجوة في تسلسل الأحداث فعليه أني بحث ليملأها، وقد يملؤها من خلال استقراء أو استنتاج أو من خلال روايات ضعيفة، وأحياناً من خلال روايات وصلته دون إسناد، فهو من هذه الحيثية محقق ومؤرخ بل قد يكون مجتهداً. وكما يختلف الفقهاء في النهاية فقد يختلف محققو السيرة في النهاية. وفي حالة الاتفاق أو الاختلاف فهناك صور لا يترتب عليها عمل، سواء اتفقوا أو اختلفوا كالقضايا التاريخية البحتة، فمثلاً: م هي مدة فترة الوحي التي حدثت بين نزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ..} من سورة العلق، وبين نزول سورة (المدثر)؟ لا يترتب على المعرفة التفصيلية ههنا عمل، وإن كان بعض علماء التربية قد يستفيد منها نوع فائدة. وهناك قضايا يترتب عليها عمل، ولاتفاق المحققين أو اختلافهم تأثير، فمثلاً: المعاهدات التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول استقراره في المدينة مع غير المسلمين، هذه

المعاهدات تعتبر سوابق دستورية للحركة الإسلامية في تعاملها مع الآخرين إذا لم تكن منسوخة، نفرض أن هذه المعاهدات نقلت لنا على طريقة المحدثين، وسندها صحيح أو حسن، فالأمر في هذه الحالة واضح، إذ تأخذ هذه الروايات محلها من أصول الأحكام فحكمها حكم السنة النبوية المعتمدة. ولكن لنفرض أن هذه الروايات لم تبلغ هذا المستوى وأجمع عليها كُتَّابُ السير المعتمدون وأئمة هذه الشأن أو اختلفوا، فهل هذه الروايات لا قيمة لها أبداً؟ الذي أذهب إليه أن هذه الروايات إذا لم يكن لها معارض، وكان لها أصل صحيح ترجع إليه، لا تنزل عن أن تكون مذهباً لصاحبها، فإذا كان صاحبها إماماً أو مرجعاً في هذه الشأن صح تقليده، وللمسلمين أن يبنوا على مثل هذه الروايات، والحجية في هذه الحالة لا من حيث إن ما ورد تقوم به الحجة سنداً، لكن من حيث إن من رواه يعتبره جزءاً من السيرة، ويعتبره أهلاً للبناء عليه. واحتراساً أقول: ليس كل إنسان مرشحاً لأن يفتي بناء على ذلك. إنني أذهب إلى مثل هذا في كتب التراث، فمن كان من أئمة شأن من الشؤون، وقد وصل إلى أن يكون مرجعاً فيه، وليس متهماً في عقيدته أو ورعه أو علمه، فإن للمسلم أن يعتمد تحقيقه، وأن يبني عليه، قل مثل هذا في كتب الحديث أو التفسير أو الفقه أو السيرة الصادرة عن الراسخين في العلم. وإنما أوردنا هذه المعاني حتى لا يظن ظان أن كتب السيرة وكتب الحديث يحرم النظر فيها إلا إذا كانت محققة على الأصول الفنية التي هي محل اجتهاد، فذلك باب لو أغلقناه ينسد به باب القراءة للتراث كله، وهذا مخالف للإجماع، فما أحد من أهل العلم في تاريخ هذه الأمة قال: يحرم على المسلم أن يقرأ سيرة ابن هشام أو مسند الإمام أحمد أو سنن الترمذي. وكذلك أوردنا هذه المعاني هنا للتقديم لعملنا في هذا القسم، فعملنا في هذا القسم أن نذكر الروايات الصحيحة والحسنة الواردة في سيرته - عليه الصلاة والسلام - في أصول هذا الكتاب وقد نذكر ما صح أو حسن من يغر هذه الأصول مع الخدمة التي وعدنا بها، وتحقيق الأغراض التي استهدفناها، ولكنا في الوقت نفسه ننقل خلاصات من أقوال المحققين

تصحيح مفاهيم حول السيرة

من أئمة أهل السير والمغازي، فما تنقله عن هؤلاء لا ينزل في رأينا عن أن يكون مذهباً لصاحبه، ونحن مضطرون لذلك لأنه إذا لم نفعله فإن قارئ هذا القسم سيخرج بفوائد أقل، وقد التزمنا في كتابنا هذا أن ننقل في كل بحث تحقيقات أهل الاختصاص فيه، ولا نحب أن نخل بهذا الالتزام في هذا القسم أو غيره. * * * وإنما جعلنا هذا القسم مقدمة وستة أبواب، لأننا حريصون على تصحيح مفاهيم وترسيخ أخرى حول السيرة، فاخترنا أن يكون هذا في المقدمة، واعتمدنا الأبواب الستة - كما سنعرضها - كشيء لابد منه لتكامل العرض. فالمراحل الرئيسية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: ما قبل البعثة، ثم ما بعد البعثة حتى الاستقرار في المدينة، ثم من الهجرة حتى الوفاة؛ فهذه ثلاثة أبواب. وهناك دائرتان لابد من الحديث عنهما لتتكامل الصورة: دائرة آل بيته وفيهم أزواجه، ودائرة أصحابه ومنهم خلفاؤه، فهؤلاء الذين حملوا الراية، وتابعوا مرحلة التأسيس فأصبحت الأبواب أربعة. ومعرفة صفاته وشمائله وخصائصه جزء من سيرته، والتعرف على معجزاته طريق الإيمان به فتمت الأبواب بذلك ستة، وما سيأتي في بقية أقسام هذا الكتاب يكمل صورة ما فات، فهذه الموضوعات هي الألصق بالسيرة. * * * تصحيح مفاهيم حول السيرة: إن هذه المقدمة قد خصصناها لتصحيح مفاهيم ولترسيخ أخرى، والمفاهيم الخاطئة في موضوع السيرة نوعان: فمنها أخطاء عند بعض الإسلاميين، ومنها مفاهيم خاطئة أو قاصرة عند الكافرين. ألا إن هناك أغلاطاً في شأن السيرة النبوية، بعضها ناشئ عن جهل بكمالات السيرة النبوية، وبعضها ناشئ عن القصور في تصور أصول التشريع الإسلامي

وكيفية انبثاق الأحكام عنها، ومحل السيرة النبوية - في الاصطلاح - منها. وقد وجدت أن كثيراً من المفاهيم التي أحب تصحيحها أو ترسيخها، وكثيراً من الأغلاط التي أرغب في تصويبها، قد تعرَّض لها الشيخ سليمان الندوي - رحمه الله في محاضراته الثمان التي خرجت باسم (الرسالة المحمدية)، بل إن المعاني التي ذكرها لا يستغني عنها قارئ للسيرة النبوية في عصرنا، ولذلك فإنني سأعطيك تصوراً عن بعض ما ذكره في هذه المحاضرات، ثم أنطلق بعد ذلك في المقدمة مكملاً ما أردت لها من أغراض. * * * إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حلقة من سلسلة النبوات والرسالات، وللنبوة والرسالة خصائصها وميزاتها، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع اشتراكها في خصائص النبوات والرسالات لها خصائصها وسماتها الخاصة، ومحاضرات الشيخ سليمان الندوي الثمان كانت في هذه الشؤون، فقد أبرز المؤلف في محاضرته الأولى أهمية رسالات الله في الحياة البشرية، وأن الرسل وحدهم - عليهم الصلاة والسلام - هم الهداة الحقيقيون بالدعوة والقدوة لكن هؤلاء الرسل باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم لم يصلنا عنه ما يغطي احتياجات البشر في الهداية والقدوة، ولذلك حكمته، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الخاتم ورسالته هي الرسالة الخاتمة ولذلك اجتمع لها أربعة شروط لابد منها لسيرة القدوة والهادي: التاريخية، والشمول، والكمال، والواقعية العملية. وهذا هو محور المحاضرة الثانية. ثم جاءت المحاضرات الأربع التالية لتفصل في كل شرط من هذه الشروط وكيف أنه موجود على التمام في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وصل إلى المحاضرة السابعة تحدث عن أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي تجمعت فيها كل شروط القدوة والهداية ينبغي أن تهتدي بها الأمم، لأنها موجهة إلى الأمم جميعها، ولأن الأمم كلها بحاجة إليها، ثم تأتي المحاضرة الثامنة لتذكر بعض أيادي الرسالة المحمدية على البشرية، وفيها تأكيد لضرورة اهتداء البشرية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما فيها تعداد لجوانب كثيرة في هذه الرسالة وأنها هي الدواء والبلسم لأصعب أمراض الأمم القديمة والمعاصرة.

(1) حاجة البشرية إلى الدين

هذا هو الخط العريض لهذه المحاضرات، وكم فيها من معانٍ عظيمة، وكنوز راقية، وكم فندت فيها أخطاء وشبهات، لذلك أجدني أسير النقل عنها في هذه المقدمة شعوراً مني بأن ذلك يخدم أغراضها. (1) حاجة البشرية إلى الدين إن أعظم احتياجات البشر على الإطلاق هي حاجتهم إلى دين، يعطيهم تصورات صحيحة، ويطلق طاقاتهم في طريق مستقيم وبسلوك قويم، والرسل من بين خلق الله تعالى هم الذين قدموا للبشرية ذلك من خلال الدعوة والقدوة، أما من سواهم من أمراء وملوك وشعراء وأدباء وغير ذلك ممن ليسوا على قدم الأنبياء فهؤلاء مهما أعطوا البشرية فإنهم يعطونها ما هو دون الاحتياج الأعظم، بل هم يضلونها ويعذبونها، وفي كل الأحوال فهم لا يشكلون القدوة الرفيعة للإنسانية الجديرة بالاحترام. هذا هو المحور الرئيسي للمحاضرة الأولى التي سار فيها المؤلف على الترتيب التالي: أ - الحديث عن مكانة الإنسان في هذا الكون، ومحله في تسلسل مراتب الكمال الحياتي، وأنه أُعطِيَ استعداداً للكمالات فاقت ما أُعطيه كل مخلوق، وقد سخر الله له المخلوقات كلها. ب - هذا الإنسان عنده استعداد للعدل والعلم كما أن عنده استعداداً للظلم والجهل، وهو بدون هداية الأنبياء يغلب عليه الظلم والجهل، بينما تجعله هداية الأنبياء سائراً في طريق العدل والعلم، والبشرية لم يزل مستقراً في ضميرها حب العلم والعدل، ولذلك فقد استقر في ضميرها تقديس الأنبياء والرسل، وازدراء الظالمين والجاهلين. ج - وإذا كان الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم الذين دعوا بالحال والمقال إلى العدل والعلم، فقد استقامت بهم الحياة، وتحقق بهم فلاح الإنسان وصلاحه وسعادته، بينما نجد غيرهم في تاريخ البشرية قد لمعت أسماؤهم، ولكن من منهم ترك لمن أتى بعده أسوة

يتأسى بها في تعميم الخير؟ ومن منهم إذا اهتدى الناس بهديه ينجون من المهالك ويسلكون سبل السعادة والهناء؟ ومَن مِن هؤلاء مَن استعملوا سيوفهم البواتر في قطع حبائل العقائد الفاسدة، وتخليص العقول من الأوهام الواهية والأفكار الباطلة؟ ومَن منهم من وقف حياته على حل معضلات بني آدم، وكان حريصاً على عقد أواصل الإخاء بينهم على الحق والتواصي بالخير؟ وهل يوجد في حياة من ذكرنا من هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان على تخفيف ما يعانونه من الغمرات في حياتهم الاجتماعية؟ أم في أخلاقهم وأعمالهم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟ أم في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق فتقاً في الحياة الاجتماعية؟ وقد تحدث المؤلف حديثاً مستفيضاً عن أصناف من الأعلام شعراء وكتاب وقانونيين واجتماعيين وأمراء وملوك، وأقام الدليل على أن هؤلاء ليسوا في منصب الإصلاح الحقيقي، مهما كان شأنهم إذا قورنوا بالأنبياء. ثم تحدث عن الأنبياء والمرسلين الذين لم يترك الله أمة إلا وقد أرسل لها طائفة منهم وأن كل لمعة خير في قلب أو في أمة إنما هي بقايا فطرة وأثر دعوة نبي. وبعد أن يقارن بين آثار الملوك والجبابرة وبين آثار الأنبياء، وبين ما تجيش به العواطف والقلوب نحو الأنبياء، وبين تأثيرات الملوك على القلوب والعواطف، يقول: أظنكم قد استمعتم لما ألقيت عليكم من الأدلة العقلية والبراهين التاريخية، وإخالها قد تركت فيكم أثراً أورث في قلوبكم يقيناً بأنه لم تكن طائفة من الناس أصلحت من فساد الأخلاق، وقومت من عوجها، وهذبت النفوس، وهدتها من ضلال، مثل الذي قام به الأنبياء عليهم السلام، فهم الذين أصلحوا الحياة الاجتماعية، وعلموا الناس الاقتصاد في المعيشة، والاعتدال في كل شيء، وهم الذين أقاموا العدل في الدنيا، وحكموا بالقسط بين الناس، وزكوا القلوب، وأخذوا بيد الإنسانية إلى الحق والخير وأنقذوها من حمأة الرذائل، وأن الله سبحانه قد بعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات - ظلمات العقائد، وظلمات الأخلاق، وظلمات الأعمال - إلى النور - نور الإيمان، ونور الخلق الكريم، ونور العمل

(2) محمد الرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم

الصالح -، وتركوا بعدهم سنة للناس يتبعها السوقة ويعمل بها الملوك، وينتفع بها صغار الناس وكبارهم، ويتمتع بخيراتها الأغنياء والبؤساء على السواء، وإن مثل الأسوة بهم كمثل عين ثرةٍ فياضة تروي البلاد وتسقي العباد، يشرب منها كل عطشان بقدر حاجته، ويرتوي بمائها العذب الزلال كل ظمآن فينقع غلته. وبعد ذلك يتحدث عن أعلام الأنبياء في القرآن، ويذكر المعالم الكبرى لشخصية كل نبي، وأن مجموع هذه المعالم هي التي تحتاجها الحياة البشرية. ثم تحدث عن دور البناة جميعاً في الحياة البشرية من مهندسين وأطباء وحكماء وأنصف الجميع، ثم برهن على أن ذلك كله بالنسبة لاحتياجات البشرية هو الجانب الأدنى إذا قورن باحتياجات البشر إلى هداية الأنبياء. وبعد هذا خلص إلى الحديث عن الدعوة والقدوة في حياة الأنبياء، وكمالهما وتكاملهما، وذلك هو المظهر الأرقى للرشد والإرشاد في حياة البشرية. تلك هي بعض معالم المحاضرة الأولى التي بينت عظم الفضل وعظيم العمل الذي قام به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فطوقوا جيد البشرية بالمنِّة. * * * (2) محمد الرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم ومن بين الرسل جميعاً يظهر محمد صلى الله عليه وسلم كأكمل رسول، وهو من بين الرسل جميعاً تصلنا دعوته مفصلة وسيرته كاملة، ولذلك فهو الذي يمكن أن يُهتدى بهديه اهتداءً كاملاً، ويُقتدى بسيرته اقتداءً كاملاً، لأنه من بين الأنبياء كانت سيرته ورسالته تجتمع فيها: التاريخية والشمولية والكمال والعملية، عدا عن كون رسالته هي الرسالة الخاتمة والناسخة، وهي التكليف الرباني الذي لا يقبل الله غيره، ولكنها كذلك جعلها الله على ما ذكرنا. هذا هو محور المحاضرة الثانية:

إن لكل رسول ميزة وخصيصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بين الرسل تجمعت فيه الميزات والخصائص جميعها على كمالها وتمامها، ولكل رسول إضاءته وتبشيره وإنذاره ودعوته، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بين الرسل الشمس المنيرة والبشير الأعظم والمنذر الأكبر والداعية الأجل، فهو النبي الجامع محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث ليختم الله به النبيين والنبوات، فأعطي الرسالة الأخيرة ليبلغها إلى البشر كافة، فجاء بالشريعة الكاملة التي لا يحتاج البشر معها إلى غيرها، ولم تنزل من السماء إلى الأرض شريعة على قلب بشر بعد هذه الشريعة، لقد حظيت التعاليم المحمدية بالخلود، واختصت بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، فكانت نفس محمد صلى الله عليه وسلم جامعة لجميع الأخلاق العالية والعادات السنية، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق. ثم يأتي بالأدلة والبراهين على ذلك، وأول برهان على ذلك: أن سيرته وشريعته باقيتان خالدتان معروفتان. ثم يتحدث عن أشهر الديانات المعروفة: الهندوسية والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية واليهودية والمسيحية، ليقيم الدليل على أن المنقول منها لا يغطي احتياجات البشرية في الهداية ولا في القدوة. يقول المؤلف: إنه ليس في مئات الألوف من المصلحين والنبيين من يشهد لهم التاريخ إلا ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك فإن التاريخ لا يعرف من تفاصيل أحوالهم وشؤون حياتهم ودخائل سيرتهم إلا نزراً يسيراً وغير كامل، فكيف يتسنى للإنسان أن يتخذ من ذلك أسوة لحياته ذات النواحي المختلفة؟. وأخذ يضرب الأمثلة في البرهان على ذلك من خلال ما يعرفه الناس عن بوذا وزرادشت وموسى وعيسى، مع البرهان على أن هذه المعلومات - كما وردت عن أهلها - لا تشكل روايات ثابتة، ويخلص بالتالي إلى أن كل ما تعرفه البشرية عن الأنبياء السابقين عن طريق أتباعهم لا تجتمع فيه شروط التاريخية أو الواقعية أو الشمولية أو الجمع لكل ما يلزم الإنسان وهي شروط الاهتداء والاقتداء. ثم إن هذه الديانات نفسها على حسب ما

نقلت لنا ليس فيها ما يتفق مع الفطرة البشرية، إنَّ في شأن الربوبية أو في شأن السلوك أو في شأن العمران، فعدا عن قصورها فإن فيها انحرافاً وضلالاً وخراباً، فبعض هذه الديانات ليس لله فيها ذكر كالديانة البوذية والصينية، وبعضها ليس في أصولها المنقولة تفصيل عن طبيعة العلاقة مع الله كالديانة اليهودية والمسيحية، وفي التعامل بين بني الإنسان لا تجد تفصيلاً شاملاً بل نجد قصوراً وأخطاء فطرية، ولو طبقت هذه الأديان حرفياً كما وصلت إلينا لترتب على ذلك خراب العالم وشقاء الإنسان. يقول المؤلف: لم تكن سيرة بوذا قط أسوة للهناء العائلي، ولا لأهل الصناعات والمتاجر، ولو اتخذ أتباع بوذا قدوة لهم من حياة بوذا لما قامت لهم هذه الدول في الصين واليابان وسيام وتبت وبرما، ولما عمرت للتجارة في بلادهم سوق، ولا دبت الحياة في صناعاتهم ومصانعهم، ولو اختار أهل تلك البلاد سيرة متبوعهم سيرة لهم وساروا عليها لأقفرت الأرض العامرة وتحولت إلى صحاري قاحلة، ولأصبحت المدن خراباً أو أرضاً جرداء. ولو أن الناس في أيامنا هذه آثروا التأسي بحياة عيسى - عليه السلام - وأرادوا أن يعيشوا كما عاش، لخربت الدنيا واستحال عمرانها خراباً يباباً، ولأصبحت القرى مقابر تتردد في أنحائها أصوات البوم، أما الحضارة وتقدمها فسرعان ما يعتريهما الزوال ويمحى اسمهما، وأوروبا المسيحية لن تبقى بعد ذلك يوماً واحداً. ويخلص في نهاية المحاضرة إلى قوله: إن الإنسان ينشد مثالاً يقتدي به في كل عمل يقدم عليه، في غناه وفقره، وفي سلمه وحربه، ويتحرى السبيل الذي يسلكه إذا تزوج أو بقي عزباً، ويريد أنموذجاً عالياً يأتم به إذا عبد ربه، أو عاشر الناس، ويحاول أن يلم بالقوانين التي ينبغي العمل بها بالنسبة إلى الراعي والرعية والحكام والمحكومين. جميع هذه الأمور ينبغي للمرء أن يتخذ لنفسه القدوة فيه، لأن الأمم قد التوت عليها هذه المسألة، فأهمها التماس الطريق الموصل إلى حلِّ هذه المعضلات وتذليل هذه المصاعب،

ومعظم الشعوب تشعر بالحاجة الشديدة إلى المثل العليا في ذلك لتخفف عن الإنسانية آلامها وتأسو جراحها، وهي متلهفة على مثال لذلك من الأعمال، لا على مثال عليه من الأقوال. ولست بمبالغ إذا قلت: إن التاريخ أصدق شاهد على أنه ليس في الدنيا أحد يصح أن يكون للإنسانية أسوة من سيرته وحياته غير سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وحياته. وليكن على ذكر منكم ما تحدثت به إليكم من قبل، وهو أن حياة العظيم التي يجدر بالناس أن يتخذوا منها قدوة لهم في الحياة ينبغي أن تتوافر فيها أربع خصال: 1 - أن تكون (تاريخية) أي أن التاريخ الصحيح المحض يصدقها ويشهد لها. 2 - أن تكون (جامعة) أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شئونها. 3 - أن تكون (كاملة) أي أن تكون متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة. 4 - أن تكون (عملية) أي أن تكون الدعوة إلى المبادئ والفضائل والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه، وأن يكون كل ما دعا إليه بلسانه قد حققه بسيرته وعمل به في حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية، فأصبحت أعماله مثلاً عليا للناس يتأسون بها. وأنا لا أقول إن الأنبياء صفرت صحائف حياتهم من هذه الميزة مدة وجودهم في الحياة الدنيا، بل أقول إن سيرتهم التي توجد الآن بين أيدي الناس لا تنص على هذه الأمور، ويخيل إليَّ أن الحكمة الإلهية في ذلك ترجع إلى أن أولئك الأنبياء إنما بعثِ الواحد منهم لزمن قصير نسبياً فكان الموفقون للخير من شعوبهم يعرفون سيرتهم فيتأسون بها، ولم يكن هنالك حاجة إلى أن تبقى سيرتهم معلومة للأجيال التالية بعدهم؛ لأن النبؤات ستختم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الكاملة إلى الناس كافة في كل زمان ومكان، فمست الحاجة إلى أن تكون سيرته صلى الله عليه وسلم معلومة عل حقيقتها في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، ليتيسر التأسي بها لجميع أمم الأرض. وهذا من أصدق البراهين على كون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1).

_ (1) الأحزاب: 40.

(3) شرط التاريخية

الشروط الصحيحة لسيرة الهادي القدوة ثم جاءت المحاضرات الأربع اللاحقة تنصبُّ على الشروط التي يجب أن تتوافر فيها سيرة الهادي القدوة. فالأولى في شرط التاريخية، والثانية في شرط الكمال، والثالثة في شرط الشمول، والرابعة في شرط العملية. * * * (3) شرط التاريخية وها هو ذا يتحدث عن التاريخية في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت الدنيا أصدق شهادة، ثم ازداد ذلك ثبوتاً على الأيام، بأن المسلمين لم يقتصروا على حفظ سيرته صلى الله عليه وسلم بل توسعوا في ذلك إلى ما يتعلق بها من كل النواحي، فصانوا هذه الأمانة القدسية فلم تلمسها يد الضياع، ولم تعبث بها عوامل الدهر، إلى درجة أن العالم كله يقف من ذلك موقف العجب والاستغراب. والذين وقفوا حياتهم منذ العصر النبوي على حفظ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ورواية أحاديثه، وكل ما يتعلق بحياته، أدوْها إلى من ضبطوها بعدهم، وكتبوها وصاروا يسمون (رواة الحديث) أو (المحدثين) و (أصحاب السير) وهم طبقات متسلسلة من (الصحابة) و (التابعين) و (تابعي التابعين). وقد بلغ عدد الصحابة - رضي الله عنهم - في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حجوا معه حجة الوداع [حوالي] مائة ألف، ومن هؤلاء [حوالي] عشرة آلاف صحابي مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ التي أفردت لتدوين أحوالهم خاصة، لأن كل واحد منهم حفظ شيئاً من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته وهديه وسيرته. ثم جال المؤلف جولات موفقة في عرض طبقات المشتغلين بنقل السنة النبوية وتعليمها، متحدثاً خلال ذلك عن تحري الصحابة والأئمة العدول صدق النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتحدثاً عن قوة ذاكرة العرب خاصة، ثم المشتغلين بالسنة بشكل عام، وكيف أنهم كانوا يجمعون مع الحفظ الكتابة لزيادة التوثيق، وإنه مع هذا وهذا وجدت العلوم التي تُمحِّص

وتقارن وتحقق، ووجد الجهابذة الذين يمتلكون القدرة على التمييز بين المرويات. وخلال ذلك ردْ على فرية بعض المستشرقين الذين يزعمون أن السنة النبوية تأخر تدوينها، فيقيم الأدلة التاريخية القاطعة على كذب هؤلاء، فلم ينقطع التدوين منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن وجدت كتب السنة المشهورة، ولعل هذه الصفحات من كتابه من أروع الصفحات. ومما قاله في هذه الصفحات: فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كتبوا بأيديهم في عهده صلى الله عليه وسلم وجمعوا من أحاديثه في حياته، وتركوا ذلك لمن بعدهم، والذين جاءوا بعدهم أدخلوه في كتبهم، ولا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن التابعين - رضي الله عنهم - جمعوا جميع المرويات في عهد الصحابة، وكتبوا في حياتهم ما وصل إلى علمهم من الأخبار والشؤون، وبحثوا عن ذلك بحثاً طويلاً، وبذلوا فيه جهودهم وسافروا له، وطرقوا أبواب العلماء والمحدثين، حتى لقد كانوا يطوون لأجل الحديث الواحد مسافة طويلة وشُقَّة بعيدة. والحق أن جميع الأحاديث والأحكام والأخبار تم تدوينها عند المسلمين في ثلاثة أطار: الطور الأول هو الذي كان فيه الصحابة وكبار التابعين. الطور الثاني هو الذي كان فيه صغار التابعين وتابعو التابعين. والطور الثالث هو عهد المحدثين وأئمة السنة كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم صاحب الجامع الصحيح، والإمام الترمذي، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم من المحدثين. وما جمع في الطور دوِّن في كتب الطور الثاني، وما دوِّن في الطور الثاني جمع ونُظِّم في كتب الطور الثالث، ونرى أمامنا أكثر ما جمع في الطورين الثاني والثالث مدوناً في كتب كثيرة تشتمل على آلاف من الأوراق هي في الواقع من أثمن الذخائر العلمية في العالم، بل لا يوجد في جميع ذخائر الدنيا لعلمية أوثق منها سنداً وأصح تاريخاً ورواية. ولقد صدق الأستاذ الكبير العلامة الشيخ شبلي النعماني حين قال:

(لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم، كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شئون أمة قد خلت، ولم يميزوا بين غثِّ ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسماءهم ولا تواريخ ولادتهم فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم ويلائم بيئتهم وينطبق على مقاييسهم، ثم لمي مض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدوَّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السقيم صنفت أكثر الكتب الأوروبية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشئونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها. أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها وأصولاً متقنة يتمسكون بها وأعلاها أن لا تُروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي يشهدها، وكلما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمَّن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدث عنها إلى زمن وقوعها. والتثبت من أمانة هؤلاء الرواة وفقههم وعدالتهم وحسن تحملهم للخبر الذي يروونه، وإذا كانوا على خلاف ذلك وجب تيينه أيضاً. وهذه المهمة من أشق الأمور، ومع ذلك فإن مئات من المحدثين تفرغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحري ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة لينقدوا أحوالهم، وإذا اطمأنوا إلى سيرة فرق منهم سألوهم عما يعرفونه من أحوال الطبقة التي كانت قبلهم، وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم علم مستقل من العلوم الإسلامية أطلق عليه فيما بعد عنوان (أسماء الرجال) فتيسر لمن أتى بعدهم أن يقفوا على أقدار مئات الألوف من الحفاظ والعلماء والرواة وغيرهم). هذا فيما يتعلق بالرواية وحملتها، وهنالك (عالم نقد الحديث) من جهة الدراية والفهم، وأن له أصولاً محكمة وقواعد متقنة اتخذوها لنقد المرويات وتمييز صحيحها من سقيمها وغثها من السمين والراجح من المرجوح، وقد تحرى علماء السنة في هذا الأمر الحق وحده، وتمسكوا

فيه بالمحجة البيضاء، وكل ما يؤدي إليه الصدق، فكان عملهم هذا من مفاخر الإسلام. وبعد ذلك يجول المؤلف جولة موفقة فيما يؤكد التوثيق، في شأن نقل السنة النبوية وتمحيص رواياتها، ثم بعد ذلك يخص السيرة النبوية بالحديث، فيتحدث عن مصادرها فيقول: وأريد أن ألفت أنظاركم إلى المصادر التي أخذت عنها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وكيف دونت تلك المصادر وجمعت، وأن أهم ما في سيرته صلى الله عليه وسلم وأوثقها وأكثرها صحة هو ما اقتبس من القرآن الحكيم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وهو الذي لم يشك في صحته العدو اللدود، فضلاً عن الحبيب الودود. فالقرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر السيرة النبوية: والقرآن يقص علينا جميع مناحي السيرة النبوية وطرفاً من حياته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فيذكر لنا يتمه وفقره وتحنثه، كما يذكر لنا شئونه بعد النبوة من هبوط الوحي الإلهي عليه وتبليغه إياه والعروج به وعداوة الأعداء وهجرته وغزواته، وفي القرآن الكريم ذكر أخلاقه صلى الله عليه وسلم. كل ذلك تراه مذكوراً في القرآن ببيان واضح وأسلوب متين رائق: ومن ذلك تعلمون أنه لم تطرق أذن التاريخ سيرة رجل بأحسن ولا أصح ولا أوثق من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم. والمصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية كتب الحديث: وهي كتب حفظت لنا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله ما يبلغ مائة ألف حديث، وقد امتاز الصحيح منها عن الضعيف والموضوع، والقوي منها عن غير القوي. ومن الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة التي محص العلماء كل ما ورد فيها، وذكروا شواهده ومتابعاته، حتى لم يتركوا في النفوس منزع ظفر لمحقق منصف، بل ولا لمدقق جائر، ويتلو الكتب الستة كتب المسانيد، وأعظمها مسند الإمام أحمد بن حنبل، في ستة مجلدات كبار، كل مجلد منها يحتوي على نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير بحروف دقيقة، وقد تضمن هذا المسند مرويات كل صحابي مجموعة ومذكورة على

حدة، وفي هذه المجموعات جميع تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وسيرته غير مرتبة على المواضيع. والمصدر الثالث كتب المغازي: ومعظم ما فيها ذكر الغزوات النبوية، وقد تتضمن أموراً أخرى، ومن المصنفات القديمة في المغازي: مغازي عروة بن الزبير المتوفى سنة 94 هـ، ومغازي الزهري المتوفى سنة 124 هـ. ومغازي ابن إسحاق المتوفى سنة 150 هـ، ومغازي زياد البكائي المتوفى سنة 182 هـ، ومغازي الواقدي المتوفى سنة 207 وغيرهم. والمصدر الرابع كتب التاريخ الإسلامي العام: التي تبتدئ بالسيرة النبوية ومن أوثقها وأصحها وأطولها وأضخمها: طبقات ابن سعد، وتاريخ الرسل والملوك للإمام أبي جعفر الطبري، والتاريخ الصغير والتاريخ الكبير لمحمد بن إسماعيل البخاري، وتاريخ ابن حبان، وتاريخ ابن أبي خيثمة البغدادي المتوفى سنة 299 هـ وغيرهم. والمصدر الخامس الكتب التي ألفت في المعجزات: وتسمى بكتب الدلائل ومنها: دلائل النبوة لأبي إسحق الحربي المتوفى سنة 255 هـ، ودلائل النبوة لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ، ودلائل النبوة للإمام البيهقي المتوفى سنة 430 هـ، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 430 هـ، ودلائل النبوة للمستغفري المتوفى سنة 432 هـ، ودلائل أبي القاسم إسماعيل الأصفهاني المتوفى سنة 535 هـ، وأضخمها وأبسطها كتاب الخصائص الكبرى للجلال السيوطي المتوفى سنة 911 هـ. والمصدر السادس كتب الشمائل: وهي مقصورة على ذكر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وعاداته وفضائله وما كان يعمل في يومه من الصباح إلى المساء، وفي ليله من المساء إلى الصباح. وأشهر هذه الكتب وأولها: كتاب الشمائل للحافظ المنذري. وقد كتب كبار العلماء زيادات عليه أهمها وأضخمه وأطولها: كتاب الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض، وقد شرحه الشهاب الخفاجي وسماه نسيم الرياض، وصنف في هذا الموضوع علماء آخرون، منها: كتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي العباس المستغفري المتوفى سنة 432 هـ، والنور الساطع لابن المقري الغرناطي المتوفى سنة 552 هـ، وسفر السعادة لمجد الدين الفيروزابادي المتوفى سنة 812 هـ.

يضاف إلى ما ذكرناه الكتب التي صنفها بعض العلماء المتقدمين في أحوال مكة المعظمة والمدينة المكرمة، وذكروا فيه ما في هذين البلدين الطيبين من بقاع وأماكن وأودية وجبال وخطط، وذكروا من تولى إمارتهما، بادئين بكل ما له علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأقدم كتاب في هذا الموضوع: أخبار مكة للأزرقي المتوفى سنة 223 هـ، وأخبار المدينة لعمر بن شبة المتوفى سنة 268 هـ، ثم أخبار مكة للفاكهي، وأخبار المدينة لابن زبالة. ثم بعد ذلك يتحدث عن التأليف في السيرة النبوية وأنه تجاوز على مدى العصور كل تصور، وبعد أن يضرب أمثلة على سعة التأليف في السيرة النبوية ينقل نقلاً عن كاتب متحامل على الإسلام هو (ريوزورند باسورث سميث) من كتابه (محمد والمحمدية) يقول فيه هذا الكاتب: كل ما يقال في الدين يغلب فيه الجهل ببدايته، ومما يؤسف له أن هذا يصح إطلاقه على الديانات الثلاث (1) وعلى أصحابها الذين نعدهم تاريخيين، لأننا لا نعلم لهم وصفاً أحسن من هذا الوصف، فإننا قلما نعلم عن الذين كانوا في طلائع الدعوة، والذي نعلمه عن الذين جاءوا بعدهم واجتهدوا في نشر عقائدهم أكثر من الذي نعلمه عن أصحاب الدعوة الأولين، فالذي نعلمه من شئن زردشت وكونفوشيوس أقل من الذي نعلمه عن سولون وسقراط. والذي نعلمه عن موسى، وبوذا أقل مما نعلمه عن أمبرس Ambrase وقيصر، ولا نعلم من سيرة عيسى إلا شذرات تتناول شعباً قليلةً من شُعَبِ حياته المتنوعة والكثيرة، ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف لنا الستار عن شئون ثلاثين عاماً هي تمهيد واستعداد للثلاثة أعوام التي لنا علم بها من حياته، إنه بعث ثلث العالم من رقدته، ولعله يحيي أكثر مما أحيا، وحياته المثالية بعيدة عنا مع قربها منا، وإنها تتراوح بين الممكن والمستحيل، بيد أن كثيراً من صفحاتها لا نعلم عنها شيئاً أبداً، وما الذي نعلمه عن أم المسيح، وعن حياته في بيته؟ وعيشته العائلية؟ وما الذي نعلمه عن أصحابه الأولين وحوارييه؟ وكيف كان يعاملهم؟ وكيف تدرجت رسالته الروحية في الظهور؟ وكيف فاجأ الناس بدعوته ورسالته؟ وكم وكم من السئلة تجيش في نفوسنا، ولن يستطيع أحد أن يجيب عليها إلى يوم القيامة؟!

_ (1) يريد ديانات: بوذا وكونفوشيوس وزرادشت.

أما الإسلام فأمره واضح كله، ليس فيه سر مكتوم عن أحد، لا غُمة ينْبَهِم أمرها على التاريخ. ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح، وهم يعلمون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم كالذي يعلمونه من أمر لوثر وملتن، وإنك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطير ولا أوهاماً ولا مستحيلات، وإذا عرض لك طرف من ذلك أمكنك تمييزه عن الحقائق التاريخية الراهنة، فليس لأحد هنا أن يخدع نفسه ولا أن يخدع غيره، والأمر كله واضح وضوح النهار، كأنه الشمس رأد الضحى، يتبين تحت أشعة نورها كل شيء. أهـ. هذا كلام كاتب متحامل على الإسلام، لكنه لم يسعه إلا أن يقرر هذه الحقيقة التي كانت وراء محور هذه المحاضرة، إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم تاريخية لا ريب في ذلك ولا لبس، وقد ختم المؤلف المحاضرة الثالثة بقوله: لقد ألف المسلمون في السيرة النبوية ألوف الكتب بل أكثر من ذلك، ولا يزالون ماضين في التأليف فيها، كل كتاب في السيرة المحمدية - مهما كان - لا ريب أنه أوضح بياناً وأوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتبه الناس في قصص النبيين وسيرهم - عليهم السلام -. والكتب الأولى في السيرة المحمدية تلقاها عن أصحابها مئون وآلاف من تلاميذهم، وأتقنوها فهماً، وأحكموها فقهاً، ولم يتركوا فيها كلمة غامضة ولا عبارة معضلة إلا أوضحوا مبهمها وحلوا معضلها. وأول كتاب عندنا في الحديث النبوي كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، وقد سمعه من مؤلفه ستمائة من تلاميذه فيهم الخلفاء والولاة والعلماء والفقهاء والأدباء والزهاد والنساك، والجامع الصحيح لأبي عبد الله بن إسماعيل البخاري تلقاه ستون ألفاً من أهل العلم عن تلميذ واحد من تلاميذه وه الإمام الفِرَبْرِي، فهل في العالم دين احتاط أهله مثل هذا الاحتياط واهتموا مثل هذا الاهتمام بكل ما يتعلق بأمر نبيهم وهدايته؟ وهل ألف في هذا الباب تأليف أكثر صحة وأعظم ثقة وتثبتاً؟ وهل نال مثل هذه الصحة التاريخية دين غيره؟ وهل حفظ التاريخ من تفاصيل حياة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - مثل الذي حفظه من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم؟.

(4) شرط الكمال المطلق

(4) شرط الكمال المطلق قد يوجد في تاريخ البشرية من سيرتُه تاريخية ولا يعتبر ذلك وحده كافياً للهداية والاقتداء، بل قد تكون سيرة هؤلاء شراً وخبثاً، فلابد أن يجتمع مع شرط التاريخية شرط آخر لتصلح السيرة للاقتداء والاهتداء، هذا الشرط هو أن يكون تصرف صاحب السيرة في الصغيرة والكبيرة هو الكمال المطلق، وهذا الذي نجده على الكمال والتمام في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو محور المحاضرة الرابعة، فلقد أخذ المؤلف يضرب على ذلك الأمثال في الصغيرة والكبيرة من تصرفاته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها في حياته البيتية وغيرها مقيماً الأدلة على ذلك. ومن كلامه في هذه المحاضرة: إن أعظم الناس وأجلهم إذا انقلب إلى بيته كان فيه رجلاً من الرجال وواحداً كآحاد الناس، ولقد صدق فولتير في كلمته المشهورة: (إن الرجل لا يكون عظيماً في داخل بيته، ولا بطلاً في أسرته) يريد أن عظمة المرء لا يعترف بها من هو أقرب الناس إليه، لاطلاعه على دخيلته في مباذله. وهذا الحكم يشذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول باستور سميث: (إن ما قيل عن العظماء في مباذلهم لا يصح - على الأقل - في محمد رسول الإسلام) واستشهد بقول كين: (لم يمتحن رسول من الرسل أصحابه كما امتحن محمد صلى أصحابه" إنه قبل أن يتقدم إلى الناس جميعاً، تقدم إلى الذين عرفوه إنساناً، المعرفة الكاملة، فطلب من زوجته وغلامه وأخيه وأقرب أصدقائه إليه وأحب خلانه أن يؤمنوا به نبياً مرسلاً، فكل منهم صدق دعواه وآمن بنبوته، وإن حليلة المرء أكثر الناس علماً بباطن أمره ودخيلة نفسه وألصقهم به، فلا يوجد من هو أعرف منها بنهاته ونقائصه، أليس أول من آمن بمحمد رسول الله زوجه الكريمة التي عاشرته خمسة عشر عاماً، واطلعت على دخائله في جميع أموره وأحاطت به علماً ومعرفة فلما ادعى النبوة كانت أول من صدقه في نبوته).

إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه - وإن كانت له زوج واحدة - بأن تحدث الناس عن جميع ما تراه من تحليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله. لكن رسول الله كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن من الرسول بأن تقول عنه للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهُن في حِلٍّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في الحجرات، فهل عرفت الدنيا رجلاً كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذه الثقة، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد لأنه أبعد الناس عن السوء. إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ولمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عام لما يكون عنه في بيته وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله وأقواله، عند تعبده في مسجده، أو قيامه على منبره خطيباً، أو جهاده في ساحة الحرب تجاه أعدائه، وهو يسوِّي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلى ربه في حجرة منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرع إليه فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعاً بكل ما يصدر عنه من قول أو عمل. ثم إنه كان تجاه مسجده صُفَّة يأوي إليها فقراء الصحابة الذين لم تكن لهم بيوت يأوون إليها، فكانوا يتناوبون الخروج إلى ما بعد بنيان المدينة يحتطبون من أشجار الصحراء والجبل، ويبيعون مايأتون به ليقتاتوا جميعاً بثمنه، ولم يكن لسائرهم عمل غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم مجالسه ليحفظوا عنه ما يقول وما يعمل ثم يروونه للناس بعناية وأمانة، وقد بلغ عدد أهل الصَفَّة هؤلاء [في بعض الأحوال] سبعين رجلاً، كان منهم أبو هريرة الذي لم يكن صحابي أكثر منه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء السبعون يسرهم الله لحفظ كل ما يستطيعون حفظه مما يدخل في موضوع الحديث النبوي لا يفترون عن ذلك أناء الليل وأطراف النهار، وقد استمر الحال بهم على ذلك يومياً، وإذا ارتحل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة في غزوة أو حج كانوا معه، وكذلك غيرهم من الصحابة، حتى لم تخف عنهم خافية من أمره، ولم يغب عنهم معنى من معاني رسالته، ولما كان فتح مكة كان معه من أصحابه

حوالي عشرة آلاف، ولما سار إلى تبوك كان في معسكره حوالي ثلاثين ألفاً، ولما حج حجة الوداع حج معه تلك السنة حوالي مائة ألف مسلم، ينطبق عليهم عنوان الصحابة، وما منهم إلا من يحرص على الوقوف على شيء من هداية نبيه صلى الله عليه وسلم أو أي أمر من أموره فيتحدث عنه، بل هو الذي أمرهم أن يبلغوا عنه ما يسمعون منه أو يرون من تصرفاته، فما ظنكم به بعد ذلك هل يخفى عن التاريخ وجه من وجوه حياته أو ناحية من نواحيها. هذا من جهة أصحابه، وأما أعداؤه فإنهم أفرغوا جهدهم، واستنفدوا سعيهم ليقفوا على دخيلة من دخائله وليؤاخذوه بحقيقة يعلمونها عنه فلم يستطع أحد منهم أن يجد له ناحية ضعف ولا ما يندد به وأقصى ما استطاع أعداؤه في كل زمان ومكان أن يقولوه عنه إنه سلَّ سيفه للقتال وأنه كان كثير الزوجات. وقد تبين لكم أن حياته الطاهرة هي حياة العصمة من كل نقص، البريئة من كل عيب. إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقض حياته كلها بين أحبائه وأصحابه، بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يبعث، فكان بين أهلها مشركي قريش، وكان يتعاطى فيهم التجارة، ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار، وهي الحياة اليومية وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق للمرء فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة وإخفار عهد وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة وتطفيف الكيل وبخس الحقوق وإخلاف الوعد. وإن الرسول صلى الله لعيه وسلم اجتاز هذه السبيل الشائكة الوعرة وخلص منها سالماً نقياً لم يصبه شيء مما يصيب عامة الناس، حتى لقد دعوه (الأمين) وإن قريشاً بعد بعثته وادعائه النبوة كانوا يودعون عنده ودائعهم وأموالهم لعظيم ثقتهم به، وقد علمتم أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة خلفَ عليها علياً ليردِّ ما كان لديه من الودائع إلى أهلها. فقريش خالفوه أشد الخلاف في دعوته ولم يتركوا سبيلاً إلى ذلك إلا سلكوه، فقاطعوه وعاندوه وصدوا عن

سبيله، وألقوا عليه سلى جزور وهو يصلي، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم، وسموه ساحراً ودعوه شاعراً، وفندوا آراءه وسخفوا حلمه، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على أن يقول شيئاً في أخلاقه، ولا أن يرميه بالخيانة، أو ينسب إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد أو إخفار الذمة أو نقض العهد. وإن من ادعى النبوة وقال إن الله يوحي إليه فكأنه ادعى العصمة البراءة من جميع المفاسد ومساوئ الأعمال. ألم يكن يكفي قريشاً في ردهم على الرسول أن يذكروا أموراً عمل فيها الرسول بغير الحق، وأن يشهدوا عليه بأنه أخلفهم وعداً أو خانهم في أموالهم أو كذبهم في شيء مما قاله لهم؟ إن قريشاً أنفقوا أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوة الرسول، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله حتى قتل منهم وجرح كثيرون، لكنهم لم يستطيعوا أن يُدنسوا ذيله الطاهر ولا أن يصموه بشيء في عظيم أخلاقه. وكانت أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وشئونه وهديه ظاهرة لجميع الناس معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه ولم يخف عليهم شيء من أمره. ثم أفاض المؤلف في ذكر الأعجوبة الهائلة أن يقدم شخص للعالم كل ما يحتاجه هذا العالم، بحيث يزيد سعة وشمولاً ويفوق كمالاً - مع السلامة من النقص - على ما تبنيه الأمم خلال عصور، مما لا نجده في ما وصلنا عن أحد غيره، ألا أنها الرسالة والنبوة. ويختتم محاضرته بقوله: نحن لا نزال نقدم للناس تلك السيرة الكاملة، التي هي لنا سراج وهاج في جميع شئون الحياة البشرية، فكأن السيرة المحمدية مرآة صافية للدنيا كلها، يرى فيها كل إنسان صورته وروحه، ظاهره وباطنه، قوله وعمله، خلقه وأدبه، هديه وسنته، وفي استطاعته أن يصلح أخلاقه ويثقف عوجه بحسب ما يراه في تلك المرآة الصافية. لأجل ذلك لا ترى أمة مسلمة تبحث - في خارج دينها وبمنأى عن سيرة نبيها - عن أصول وضوابط تقوم بها اعوجاجها وتثقف منآدها وتصلح زيفها. لأنها في غنى عما هو أجنبي عنها، وعندها في هدي سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم الميزان القويم والقسطاس المستقيم، الذي تبين

(5) شرط الشمولية

به ما في العلم من خير وشر وتميز به الحق من الباطل. وفي الحق إن العالم كله لفي حاجة شديدة إلى سيرة بشر كامل تتخذ من حياته الأسوة العظمى، وليس في الدنيا إنسان كامل يعرف التاريخ سيرته على التفصيل كما يعرف تفاصيل حياة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فالناس كلهم في أمس الحاجة إلى أن يتخذوا من السيرة المحمدية منهاج حياتهم ففيها الأسوة الطاهرة، وهي الحياة المثالية للناس جميعاً، صلى الله عليه سلم. * * * (5) شرط الشمولية قد توجد التاريخية في حياة بعض الناس، وقد يوجد شيء من الكمال في حياة هؤلاء، ولكن أن تكون حياتهم من الخصب والغنى بحيث تسع الناس زماناً ومكاناً - حيث إن هذا هو المطلوب في سيرة القدوة والهادي - فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اجتمع في سيرته التاريخية والكمال في التصرفات، والشمولية، حتى لتسع سيرته الزمان والمكان والأشخاص، بالقدوة والهداية، وهذا هو محور المحاضرة الخامسة. يقول المؤلف: ليس من الممكن أن يكون جميع الداخلين في دين من الأديان من طائفة بشرية واحدة، أو أن يكونوا من شعب إنساني واحد، لأن الدنيا قد قام بنيانها على التنوع في الأعمال والاختلاف في الأفعال، ولولا أن الناس مختلفون في مهنهم ومكاسبهم وأشغالهم ومعايشهم، وهم يتعاونون ويساعد بعضهم بعضاً، لخربت الدنيا. ولابد للعالم من ملك أو رئيس جمهورية أو وال يتولى أمورهم العامة، وحاكم يحكم بينهم فيما يختلفون فيه. وكذلك لا تخلو الدنيا من رعية يرعى أمورهم رئيس، ومن محكومين يحكم فيهم حاكم، ومن خصوم يقضي بينهم قاض بالعدل، ليسود الأمان ويستتب

السلام. وكذلك الأمم تحتاج إلى أن يكون لها جنود يدافعون عن كيانها، وأن يكون على الجنود ضباط وقادة، وتجد فيهم الفقراء الذين يعانون الشدة والبؤس، كما تجد فيهم الأغنياء من أهل الترف والسرف. وفيهم عباد لله يقومون بطاعته في جوف الليل، وزهاد تحرروا من متع الدنيا وزخرفها، ومجاهدون في سبيل الله يقارعون الباطل ويقيمون الحق في الأرض، وكذلك الدنيا لا تخلو من قادة الأمم وساسة الشعوب وزعماء الأحزاب. وعلى شتى الطوائف ومختلف الفرق قام نظام هذه الدنيا، وكل منهم يحتاج في عمله إلى حياة مثالية وأسوة كاملة يقتدي بها ليكون سعيداً في الحياة. والإسلام دعا جميع هذه الفرق والطوائف والأحزاب لأن يتبعوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم ويقتفوا آثاره ويسلكوا طريقه. ومن تتبع ذلك يتبين له أن السيرة المحمدية تكفي جميع شعوب البشر وطوائفهم وفرقهم، إذا اتخذوا منها الأسوة والقدوة، ففيها النور الذي يستضاء به في ظلمات الحياة الاجتماعية وكم من ظلمة حالكة في الحياة! ومن هنا تعلم أن سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعة تجد فيها كل طائفة من طوائف البشر المثل الأعلى الذي تقتدي به، والأسوة التي يتأسى بها. ومن الظاهر الواضح أن حياة المحكوم لا تصلح لأن تكون قدوة لحياة الحاكم، كما أن حياة الحاكم لا تلح لأن تكون قدوة لحياة المحكوم. وكذلك الفقير المعدم لا يتسنى له أن يسير في معيشته على ضوء من حياة الغني المثري" ومن ثم مست الحاجة إلى أن تكون الحياة المحمدية جامعة يجد فيها الناس كلهم - على اختلاف طوائفهم - الأسوة الكاملة في جميع ألوان الحياة وأطوارها، وإن مثلها كمثل الياقة الجامعة لكل أصناف الزهور والورود بجميع ألوانها، ففيها الأحمر القاني والأبيض الناصع والأخضر الناضر والأصفر الفاقع. وفي البشر طوائف مختلفة وفرق شتى تحتاج كلها إلى حياة مثالية تكون نموذجاً لها في حياتها ومعيشتها. ولكل إنسان من هذه الطوائف أعمال وأحوال تتقلب عليه بتقلب الظروف، بين قيام وقعود ومشي وأكل وشرب ونوم ويقظة وضحك وبكاء وارتداء الملابس وخلعها وأخذ وعطاء وتعلم وتعليم، وقد يموت حتف أنفه أو يقتل، ويكون محسناً لغيره أو محتاجاً لإحسان الآخرين إليه، وقد يكون في عبادة ربه أو في معاملة الناس

ومعاشرتهم، وقد ينزل على غيره ضيفاً أو يستقبل الضيف ويقوم له بحق القِرَى. هذه الأحوال وغيرها تطرأ على الإنسان وتعرض له فيما يتعلق بجسمه وجوارحه فيحتاج في كل حال منها إلى هداية نافعة وأسوة كاملة. وأعظم من الأسوة في أعمال الإنسان الظاهرة، الأسوة فيما يتعلق بخطرات القلوب ومجالات الفكر ونزعات العواطف، فنحن نشعر بين كل حين وآخر بنزعات وعواطف تخالج قلوبنا وأفكارنا، فنرضي ونسخط، ونفرح ونحزن وتعترينا السكينة والطمأنينة أو القلق والضجر، وتترتب على هذه الأحوال عواطف مختلفة ونوازع متعددة، وليس الخلق الحسن إلا التعديل بين هذه الأحوال، وإقامة الوزن بالقسط بين العواطف القوية والنوازع الثائرة، ولا يحظى بنصيبه من مكارم الأخلاق إلا الذي يعرف كيف يكبح النفس عند جموحها، ويحسن التصرف فيها وقت ثورتها، ومع ذلك فلابد للإنسان من إمام تكون له فيه الأسوة التامة في هذه الأمور، فيأتم به في قهر هذه القوى الثائرة والعواطف المتوثبة، إلى أن تسكن ثورة نفسه، ويسلك في ذلك مسلك قدوته الأعظم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحمل بين جنبيه قلباً زكياً ونفساً طاهرة وروحاً عالية نزيهة. وهكذا المرء في كل خلة من خلال العزيمة والشجاعة والشكر والتوكل والرضا بالقدر والصبر على النوائب والتضحية والقناعة والاستغناء والإيثار والجود والتواضع والمسكنة، وسائر ما يطرأ على البشر في منفسح حياتهم ومدى عيشهم، وما ربما يعتري هذه الخصال في ساعات مختلفة من مضطرب حياة الإنسان، فإنه يحتاج في كل ذلك إلى أسوة وهداية ممن سبق له العمل بذلك، وأنى لنا هذه الأسوة الكاملة والهداية التامة إلا في حياة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا كنت غنياً مثرياً فاقتد بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان تاجراً يسير بسلعه بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين. وإن كنت فقيراً معدماً فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شعب أبي طالب، وحين قدم إلى المدينة مهاجراً إليها من وطنه وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً.

وإن كنت ملكاً فاقتد بسنه وأعماله حين ملك أمر العرب، وغلب على آفاقهم، ودان لطاعته عظماؤهم، وذوو أحلامهم، وإن كنت رعية ضعيفاً فلك في رسول الله أسوة حسنة أيام كان محكوماً بمكة في نظام المشركين. وإن كنت فاتحاً غالباً فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة، وإن كنت منهزماً - لا قدر الله ذلك - فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح. وإن كنت معلماً فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صُفَّة المسجد، وإن كنت تلميذاً متعلماً فتصور مقعده بين يدي الروح الأمين جاثياً مسترشداً. وإن كنت واعظاً ناصحاً ومرشداً أميناً فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي. وإن أردت أن تقيم الحق وتصدع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا ميعن فانظر إليه وهو ضعيف بمكة لا ناصر ينصره ولا معين يعينه، ومع ذلك فهو يدعو إلى الحق ويعلن به. وإن هزمت عدوك، وخضدت شوكته، وقهرت عنده، فظهر الحق على يدك، وزهق الباطل، واستتب لك الأمر، فانظر إلى النبي صلى لله عليه وسلم يوم دخل مكة وفتحها. وإن أردت أن تصلح أمورك وتقوم على ضياعك فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد ملك ضياع بني النضير وخيبر وفدك كيف دبر أمورها وأصلح شئونها وفوضها إلى من أحسن القيام عليها. وإن كنت يتيماً فانظر إلى فلذة كبد آمنة وزوجها عبد الله وقد توفيا وابنهما صغير رضيع. وإن كنت صغير السن فانظر إلى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية. وإن كنت شاباً فاقرأ سير راعي مكة. وإن كنت تاجراً مسافراً بالبضائع فلاحظ شئون سيد القافلة التي قصدت بُصرى. وإن كنت قاضياً أو حكماً فانظر إلى الحكم الذي قصد الكعبة قبل بزوغ الشمس ليضع الحجر الأسود في محله وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين الناس بالعدل يستوي عنده منهم الفقير المعدم والغني المثري.

وإن كنت زوجاً فاقرأ السيرة الطاهرة والحياة النزيهة لزوج خديجة وعائشة. وإن كنت أبا لأولاد فتعلم ما كان عليه والد فاطمة الزهراء وجد الحسن والحسين. وأياً من كنت، وفي أي شأن كان شأنك، فإنك مهما أصبحت أو أمسيت وعلى أي حال بت أو أضحيت فلك في حياة محمد صلى الله عليه وسلم هداية حسنة وقدوة صالحة تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتقوِّم بسنته عوجك. وإن السيرة الطيبة الجامعة لشتى الأمور هي ملاك الأخلاق وجماع التعاليم لشعوب الأرض وللناس كافة في أطوار الحياة كلها وأحوال الناس على اختلافها وتنوعها، فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي وإرشادها ملجأ لكل مسترشد. بمثل هذا البيان تحدث المؤلف عن الشمولية في السيرة النبوية، وقارن في هذه المحاضرة بين حياة محمد صلى الله عليه وسلم وحياة غيره من الأنبياء، فأثبت أن سيرة غير سيرته لم يثقل لنا منها مثل هذه الشمولية، ومن ثم كلف الله عز وجل الإنسانية جميعاً - وإلى قيام الساعة - أن تقتدي به، وبيّن أن الاقتداء بغيره ليس كافياً، عدا عن كونه لا يمثل التكليف الإلهي بعد بعثته - عليه الصلاة والسلام -. وقدّم في جملة ما قدّم براهين على شمولية سيرته صلى الله عليه وسلم أن دعوته منذ نشأتها كانت موجهة لكل الناس، ودخل فيها كل الناس، وكل الأصناف، وظهرت في أتباعه جميع الطبقات، وكلهم سواء كانوا سياسيين أو عسكريين أو زهاداً أو عباداً أو علماء مربين وسعتهم سيرته وكان لهم القدوة الكاملة. وكما أنه في المحاضرة السابقة استطرد ليبعث على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستجلب التصديق، فههنا كذلك استطرد ليعمق الإيمان، فضرب الأمثلة على الانقلاب الهائل الذي حدث في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحوا أكمل الخلق في كل شيء، كما تحملوا في سبيل هذه الدعوة ما لا يتحمله إل أصحاب الدعوات الربانية، وذلك وحده علامة من علامات الرسالة.

(6) واقعية السيرة المحمدية

وختم هذه المحاضرة بقوله: لقد بينت لكم في هذه المحاضرة ما كان في الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من خلالٍ جامعة. وقد أشرت إلى مظاهرها العديدة ونواحيها المختلفة، وإخالكم قد ألفتم مما درستم في طبيعة الكون من ألوان مختلفة، وما عرفتم في طبائع البشر من مواهب شتى وهذه الدنيا ليست إلا مظهراً من مظاهر الحياة متنوعة الألوان - أن العالم لا يمكن أن تكون هدايته إلا بالمصلح الأخير للدنيا وهو خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي اجتمعت فيه خلال الإرشاد كلها وخصال الإصلاح للنوع البشري بأجمعه، ولذلك قال له الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) فوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى كل من يدعي محبة الله بأن يتبعه ويطيع أمره، ونادى الملوك في ممالكهم، والرعاع في شوارعهم، والمعلمين في مدارسهم، والتلاميذ في فصولهم، والفقراء في أكواخهم، والأغنياء في قصورهم، كما دعا المظلومين والمقهورين والمخذولين، بل أهاب بالعالم كله أن يتبعوا سبيله ويقتفوا أثره، لأن سيرته الشريفة هي المثل الأعلى، وفيها الأسوة الكاملة لكل من يحب الخير ويبتغي الصلح لنفسه. اللهم صل وسلم عليه وآله وصحبه أجمعين. * * * (6) واقعية السيرة المحمدية وبعد أن أثبت تاريخية السيرة المحمدية وكمالها وشمولها، خشي أن يفهم فاهم أن هذه السيرة غير عملية أو غير واقعية أو غير ممكنة التطبيق فكانت المحاضرة السادسة في ذلك: فأثبت واقعيتها من خلال نقطتين، الأولى: أن رسول الله ما كان يأمر بشيء إلا فعله. الثانية: أنه ارتفع بأصحابه إلى تطبيق ما دعا إليه، فسيرته قائمة على التطبيق العملي في حياة

_ (1) آل عمران: 31.

القدوة، وفي حياة الجيل الذي رباه، والذي كان خيراً على العالم لا يمكن أن يكون إلا عملياً وواقعياً وقابلاً للتطبيق، هذا مع الكمال والشمول والنقل التاريخي التفصيلي، إن ذلك لم يجتمع لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك دليل من أدلة رسالته، وذلك يجعله القدوة الأولى لهذا العالم. استعرض في هذه المحاضرة أعظم التكليفات الإسلامية وبرهن أنه عليه الصلاة والسلام كان أكثر خلق الله التزاماً بها، وأعظمهم تطبيقاً لها، سواء في ذلك الأذكار والدعوات أو الصلوات والإنفاق أو الصوم والجهاد. كما استعرض كل الأخلاق التي استقر في ضمير البشرية تقديسها وتعظيم أهلها، من ثبات على الدعوة، إلى الرحمة والعفو، إلى العدل والحزم، إلى التوكل والصبر، إلى الرضا بالقضاء والتسليم لله في المحنة إلى الشجاعة والنجدة، إلى غير ذلك من أخلاق عظيمة وكيف أن رسول الله كان أكمل خلق الله فيها. هذا مع القدرة والاقتدار، فلم يكن حليماً لأنه لا يستطيع إلا الحلم، بل كان حليماً وهو قادر على البطش. ولم يكن رحيماً وهو عاجز عن العقوبة، بل كان قادراً على الاستئصال. وكما كان في نفسه كذلك فإنه كان يحمل أصحبه وأهله على ذلك، حتى سمَا بهم هذا السمو الذي لم يعرف في تاريخ البشرية إلا لماماً. لقد تحدث المؤلف عن هذه الموضوعات فأطنب، وضرب كثير الأمثال حتى استوعب وأقام الحجة واستخرج من القلوب كوامن الفطرة، داعياً إياها إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكان معلماً وداعية وواعظاً في محاضرته بآن واحد. وهكذا من خلال تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا إليه، ومن خلال ارتقاء الجيل الذي رباه للتطبيق العملي رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً وحاكمين ومحكومين ومحاربين ومسالمين، أثبت المؤلف العملية والواقعية وإمكانية التطبيق في الرسالة المحمدية. * * *

(7) عالمية السيرة المحمدية

(7) عالمية السيرة المحمدية بعد أن أقام المؤلف الحجة على أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي السيرة المثلى التي لا يوجد في غيرها ما يوجد فيها، بيَّن في المحاضرة السابعة أن هذه السيرة وهذه الرسالة تُطالب بها الأمم جميعها، تطالب بالاهتداء بها والاقتداء بصاحبها، فهي رسالة للجميع ويطالب بها الجميع، ولا نجاة لأحد ولا فلح لإنسان إلا باتباعها، وقد سلك لإقامة الحجة في هذا مسالك شتى. تحدث عن التوقيت في حياة الرسل، وتحدث عن التخصيص في حياة الرسل، فكل رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان لزمان، والدليل على ذلك ضياع هديهم، وكل رسول بعث لقومه خاصة والدليل على ذلك موجود في كتبهم، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بَشَّر به من سبقه، وهذه نصوص دعوته محفوظة، وقد دعا كل الأقوام، وأتى على كل ذلك بالأدلة الكثيرة. ثم سلك في إقامة الحجة مسلكاً آخر، فذكر أن الدين الذي يحتاجه كل إنسان هو ما اجتمع في تفصيل في قضايا الإيمان والعبادة والمعاملات والآداب والأخلاق، ويدخل في المعاملات القوانين والمبادئ الدستورية، ويدخل في الأخلاق والآداب: أخلاق النفس وآداب السلوك وآداب التعامل الاجتماعي. ثم تحدث عن أن هذه الأمور لا تجد تفصيلاتها إلا في الإسلام، ومع هذا فإن كل جزء منها معقول المعنى صحيح المضمون ممكن الفهم والتطبيق، أما الأديان الأخرى - كما هي عليه منذ الدعوة المحمدية - فلا تجد فيها شيئا صمن ذلك، فكم من خرافات في شأن الربوبية عند الأديان القائلة بها، وكم من أباطيل في التصورات، ثم إنك لا تجد أي تفصيل لقضية العبادات في أي من الكتب الدينية المنقولة إلينا، وفي المعاملات لا تجد تفصيلاً، وإذا وجدت تفصيلاً ففي الغالب يرافق التطبيق حرج، وأكثر الأخلاق التي فصلتها كتب الأديان أخلاق سلبية بعضها جيد تجده في الإسلام وبعضها تفنى به الحياة، لكن الإسلام كما فصل في الرذائل فصل في الفضائل، كبيرها وصغيرها. وبعد جولة موفقة في هذه الأمور كلها، قال:

والذي يعنينا الآن من هذا الكلام على الرسالة المحمدية ناحية الكمال فيها، وإتمامه ما كان ناقصاً في الديانات السابقة مما يرجع إلى العقائد والأعمال، فأصلحت ما كان من قبل فاسداً، وردَّت البدع الطارئة، وقمعت المفاسد العظيمة الفاشية التي شَوَّهَتْ وجه الإنسانية، وكانت باباً لكل شر، وأصلاً لكل فسادن وبذلك سدت في أصول الدين جميع الثلمات التي تسربت منها المفاسد، التي كانت سبباً في انحطاط الإنسانية عن مستواها الكريم. ثم سلك في إقامة الحجة على عالمية الإسلام، وأنه التكليف الوحيد للإنسان، وأن أي إنسان لا يكون منسجماً مع فطرته وعقله إلا باتباعه الإسلام، عدة مسالك يطول شرحها ثم سلك في إقامة الحجة في ذلك مسلكاً آخر، هو مسلك التركيز على جوانب بعينها من الرسالة المحمدية تقوم بها الحجة على كل مخلوق. فتحدث عن التوحيد، وكيف أن الإسلام بواسطته نقل الإنسان من كونه أحط المخلوقات بسبب الشرك إلى أن أصبح سيد الوجود بسبب التوحيد، ثم تحدث عن نظرة الإسلام إلى الإنسان، وكيف أن فطرته بريئة في الأصل، بل كيف أن تكاليف الإسلام هي الفطرة، فالفطرة والدين توأمان بل متطابقان، وأن لإنسان ليس مسؤولاً إلا عن عمله ولا يتحمل وزر من تقدمه أو سبقه أو ولده، أين هذا من الأديان القائلة بالتناسخ، والتي تجعل الإنسان الحالي أثراً عن مل من تقدمه؟ أين ذلك من الأديان التي تجعل الأصل في الإنسان الشر، وتجعله مسؤولاً عن خطيئة أبيه، وتنطلق في التكليف من مبدأ التناقض مع الفطرة؟ إن هذه المعاني وحدها كافية لإقناع المنصف أن الإسلام هو دين الله، وأنه الدين الحق، وأنه ليس أمام الإنسان إلا طريق وحيد هو الإيمان به، والالتزام بتعاليمه، فهو تكليف الله إلى كل الأمم، وقد جعل الله فيه من مشرقات البراهين ما لا يسع المنصف إلا التسليم به. ثم سلك المؤلف مسلكاً آخر للتدليل على عالمية الإسلام، وأن البشرية مطالبة به، ذلك أن الإسلام هو الذي طالب بالإيمان برسل الله جميعاً، فطالب بالإيمان بهم وعدم التفريق فيما

(8) حقية الرسالة المحمدية وأياديها على البشرية

بينهم وصحح النظرة إليهم، فالغلاة من أتباعهم أرجعهم إلى القصد، والمنتقصون لأقدارهم أرجعهم إلى الرشد. بهذا وأمثاله وبمسالك متعددة أقام المؤلف الحجة على عالمية الإسلام، وأنه لكل الأمم، وأن على الأمم جميعاً أن تؤمن به، وأن تقتدي بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن تهتدي بهداه. * * * (8) حقية الرسالة المحمدية وأياديها على البشرية وبعد أن برهن المؤلف على أن الرسالة المحمدية لكل الأمم، وأن على جميع الشعوب والأفراد أن يدخلوا فيها، ختم محاضراته بالمحاضرة الثامنة التي تحدث فيها عن حقية هذه الرسالة، وعن حقية مضموناتها، وعن بعض أياديها على البشرية، وعن احتياجات البشرية حالاً واستقبالاً لها. تحدث عن مظاهر متعددة من انحراف البشر قديماً وحديثاً، وكيف أن الرسالة المحمدية صححت، وأنها وحدها أعطت الحلِّ الصحيح والجواب لمشكلات البشرية ولتساؤلاتها. تحدث بالنسبة للذات الإلهية عما وقعت فيه البشرية من تشبيه وتمثيل، وكيف أن الإسلام صحح ذلك. وأن نظريات الخير والشر وفلسفة الخير والشر وأسباب الخير والشر، كل ذلك قد وجدت فيه أخطاء، وجاء الإسلام فصحح ذلك. وأن فكرة تعذيب الأجسام أصبحت جزءاً من كل الديانات، فجاء الإسلام وحسم ذلك. وأن فكرة الانتحار تضحية لله في زعمهم أو فراراً من ألم كانت ولا زالت جزءاً من تفكير

الإنسان، وجاء الإسلام فأبطل ذلك وحرمه. وأن فكرة قتل الأولاد أو وأد البنات أو حرق المرأة نفسها بعد وفاة زوجها كانت في بعض الأديان، ولا زالت في بعضها بصور شتى، وجاء الإسلام فحرم ذلك وأبطله. ومن أكبر الجرائم التي اقترفتها الأمم ولا تزال باقية في بلاد لم تبلغها دعوة الإسلام ولم تشرق أنواره في أرضها، أنهم جعلوا ثراء المال ونقاء الدم وشرف النسب وكرم المحتد ولون البشرة أساس الكرامة ورأس ما يتفاضلون به ويتفاخرون، فجاء الإسلام بأسس جديدة هي وحدها الأسس الحميدة في تقويم الإنسان. وكانت حياة الرقيق والمستعبدين والأسرى لا تطاق، فجاء الإسلام برحمته الشاملة، ففتح الباب لتحرير الرقيق، ووضع الأساس لحسن التعامل مع الأسير. ولقد وجد من فرَّق بين الدين والدنيا، وجاء الإسلام فألغى هذا التناقض، ولقد جاء الإسلام وفي العالم رهبانية وعزلة رهيبة عن الحياة فوضع الأمور مواضعها، فهناك واجبات حياتية لا يسع أحداً أن يفرط فيها. وفي شأن المرأة كانت ولا زالت أخطاء، وفي شأن الأسرة كانت ولا زالت أخطاء، وفي شأن السلم والحرب، وفي شأن الحياة الاقتصادية كانت ولا زالت أخطاء، وفي علاقات الشعوب مع بعضها البعض، وفي نظرة الإنسان إلى الإنسان، جاء الإسلام مصححاً وموجهاً ومعلمً ومربياً وقاطعاً الطريق على الانحراف. كل ذلك بعض أيادي الإسلام على البشرية، وكل ذلك وغيره تحتاجه البشرية بلا استثناء، وكل ما في الإسلام حق وعدل. فيا شعوب هذا العالم ويا أبناءه ليس أمامكم إلا الإسلام فآمنوا به والتزموا هديه. وقد عرض المؤلف هذه المعاني كلها أجمل عرض وأقواه وضرب له من الأمثلة ما يشفي ويغني. وقد ترددت كثيراً أن أجعل هذا التلخيص جزءاً من هذه المقدمة لطوله، ولكن غلبني أسره فأثبته. * * *

وعلى كل حال فقد عرفنا من هذه المحاضرات القيمة الكبرى لدراسة كل ما له علاقة بالرسالة المحمدية، وعرفنا أن السيرة النبوية لا تعني فقط أن ندرس بعض أحداث هذه السيرة تاريخياً، وقد أصاب الشيخ محمد الغزالي عندما ختم كتابه (فقه السيرة) بهذه الكلمات: قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ، إنك لن تفقه السيرة حقاً إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. أهـ. * * * ولقد صحح ما نقلناه عن الشيخ سليمان الندوي بعض المفاهيم والأغلاط ورسَّخ بعض المعاني، وقد آن الأوان لنكمل أغراض هذه المقدمة في التصحيح والترسيخ فأقول: السيرة في الاصطلاح هي التأريخ لحياته - عليه الصلاة والسلام - كما جرت عليه عادة كتاب السيرة. فالسيرة من هذه الحيثية يدخل فيها جزء من أفعاله وأقواله وتاريخه صلى الله عليه وسلم وفي السيرة بالمعنى الاصطلاحي يقع بعض الناس في أغلاط. من هذه الأغلاط أن بعضهم يعتبر السيرة النبوية بالمعنى الاصطلاحي وكأنها المصدر التشريعي الوحيد الذي تستخرج منه الأحكام، وبعضهم يستخرجون من السيرة قواعد وعموميات ويحاولون تطبيقها على جزئيات حياتية قد تدخل فيها وقد لا تدخل، وأحياناً يفرضون على الأمة ألا تخرج على ما يستنبطون، ويحرمون على الأمة ألا تسير على ما يستخرجون، وهناك ناس يعتبرون أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها على حد سواء في فرضية الاقتداء، وهناك ناس يعطون أنفسهم حق التمييز بين أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا سنة وهذا مباح، وهذا فعَله بحكم رئاسته للدولة، وهذا فعله بحكم أنه مشرع للأمة، يعطون أنفسهم هذا الحق وهم ليسوا مؤهلين لذلك، وهذا كله يستدعي توضيحاً. إن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم كلها جزء من سنته، وسنته هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، ومصادر التشريع الأصلية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما المصادر

الفرعية فمتعددة وهي محلُّ خلاف بين المذاهب الأربعة، ومنها: الاستحسان والاستصحاب والاستصلاح .. إلخ. والمسلمون بمجموعهم مكلفون أن يسيروا على ضوء حكم الله في الواقعة التي تواجههم، والمسلم مكلف بالسير على ضوء حكم الله في الواقعة التي تواجهه، وحكم الله يؤخذ من المصادر الأصلية والفرعية، وتطرأ عليه طوارئ بسبب من ظروف خاصة زماناً أو مكاناً أو شخصاً، فما دام المسلم ملتزماً بحكم الله وبالفتوى المبصرة من أهلها فهو على إسلام، وهو على سنة، وهو مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) وهكذا لا تقيد الأمة الإسلامية ولا الفرد المسلم إلا بهذا القيد، وهو الفتوى البصيرة من أهلها. فإذا اتضح هذا نقول: إن من مصادر التشريع - التي تبني عليها الفتوى - السنة، وأفعال الرسول جزء من السنة النبوية وسيرته من أفعاله، وللأصوليين مباحث بخصوص هذا الشأن منها: هل إذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً فذلك يفيد الوجوب إلا إذا وجدت قرينة، أم أنه لا يفيد الوجوب إلا إذا وجدت قرينة؟ هناك وجهتا نظر. قال أبو حامد الغزالي في (المنخول): والمختار عندنا وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه إن اقترن به قرينة الوجوب كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو للوجوب. وإن لم يقترن نظر، فإن وقع من جملة الأفعال المعتادة، من أكل، وشرب، وقيام وقعود، واتكاء، واضطجاع، فلا حكم له أصلاً. وظن بعض المحدثين أن التشبه به في كل أفعاله سنة، وهو غلط؛ وإن تردد بين الوجوب والندب، فإن اقترنت به قرينة القربة فهو محمول على الندب، لأنه أقل، والوجوب متوقف فيه. وإن تردد بين القربة والإباحة، فيتلقى منه رفع الحرج، وليس هذا متلقى من صيغة الفعل، إذ الفعل لا صيغة له، ومستنده مسلك الصحابة فإنا نعلم أن الممنوع من فعل فيما بينهم، لو نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله لفهموا منه رفع الحرج.

_ (1) الأحزاب: 21.

وأما الإباحة فلا نتلقاه، فإنه حكم يقتضي التخيير مع تساوي الطرفين، وهو يناقض الندب، والفعل متردد بينه وبين رفع الحرج، فأقل الدرجات رفع الحرج. فإن تمسك أبو حنيفة - رحمه الله - بإجماع الأمة على كون النبي - عليه السلام - أسوة وقدوة ومطاعاً، وشرطه الاقتداء به في كل ما يأتي ويذر. قلنا: معناه أن أمره ممتثل، كما يقال: الأمير مطاع في قومه، ولا يراد به أنهم يتربعون إذا تربع، أو ينامون إذا نام. فإن تمسك بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (2) وقوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) فكل ذلك محمول على الأمر، وهو الذي أتانا به دون الفعل. وهل الأصل فيما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم الحرمة أو الإباحة؟ الذي عليه جماهير الأمة سلفاً وخلفاً أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومن هنا ندرك خطأ الذين يقولون: هات الدليل على أن هذا الشيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يعتبر جائزاً، الصواب أن يقال: هات الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرّمه، فشيء لم يفعله ولم يأمر به ولم ينه عنه فالأصل فيه الجواز. إذا اتضحت هذه المعاني فإننا نستطيع أن ندرك كثيراً من الأخطاء، خطأ الذين يحرمون شيئاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وخطأ الذين يعتبرون أن مجرد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد الفرضية. لقد وجد ناس قرأوا السيرة فاستخرجوا منها أن المنحى العام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية كان على طريقة معينة: دعوة دون قتال مع طلب النصرة ثم هجرة ثم ... ، وبناء عليه فن الأمة الإسلامية يفترض عليها أن تسير على نفس المنحى، مع أن الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية تختلف، والأحكام قد اكتملت ولم يعد النسخ في الشريعة متصوراً، والعبرة لآخر ما استقر عليه التشريع، ومن ثم فالمسلم مكلف في ما

_ (1) الحشر: 7. (2) النور: 63. (3) آل عمران: 31.

يواجهه أن يبحث عن حكم الله، والأمة الإسلامية مقيدة في سيرها بحكم الله، فقد يكون حكم الله القتال ابتداء، وقد يكون غير ذلك. وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما يفيد الإباحة، ومنها ما يفيد السنية، ومنها ما يفيد الوجوب، والقرائن هي التي تحدد، وحتى أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم للقرائن دخل في فهم الوجوب أو الحرمة منها، وفهم هذه القضية بالمكان الأعلى من فقه الحركة، صحيح أن من قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله غير المنسوخة فهو مأجور في كل حال، ولكن هذا شيء وادعاء الفرضية أو الحرمة شيء آخر. ولاشك أن بعض أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطبق عليه وصف السياسة الشرعية، وبالتالي فبعض أفعاله جزء من السياسة اليومية التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم إدارته لشؤون المسلمين. ولكن هل كل أحد مرشح لأن يقول عن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا يفيد السنية، وهذا يفيد الوجوب؟ وهل كل إنسان مرشح لأن يقول: هذا من السياسة اليومية وهذا من التشريع الدائم؟ إن هناك معلومات من الدين بالضرورة يستوي في معرفتها والفتوى بها العام والخاص ولكن ما سوى ذلك من أمور مشتبهات لا يستطيعها إلا مجتهد استشرف نصوص الكتاب والسنة واستوعب الكليات والجزئيات، أمثال هؤلاء هم المرشحون للبيان قال - عليه الصلاة والسلام - في الحدث الصحيح: "وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس" وإذن فهناك م يعلمها وهم الأئمة المجتهدون، ولخطورة أن يتكلم في هذا الموضوع أحد لم يصل إلى رتبة الاجتهاد، حكم الأئمة على من يتصدر للاجتهاد وليس أهلاً له بأنه ضال مُضِل، لأنه في هذه الحالة يجعل الحرام حلالاً، والواجب مباحاً، أو المباح حراماً، أو يعطل لنصوص بحجة أنها مؤقتة بوقت، أو كانت مرحلية، إلى غير ذلك من أقوال إن لم تكن صادقة فهي الضلال عينه. * * * وإلى الباب الأول من قسم السيرة النبوية.

الباب الأول من سيرته صلى الله عليه وسلم وهو من البدء حتى النبوة الشريفة

الباب الأول من سيرته صلى الله عليه وسلم وهو من البدء حتى النبوة الشريفة

هذه المرحلة في سطور

هذه المرحلة في سطور * لم نقصد بكلمة (البدء) الميلاد، وإنما أردنا في هذا الباب أن نذكر بعض النصوص التي تعتبر معالم كبرى متعلقة به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، سواء كانت قبل الميلاد أو بعده. * أخذ الله على الرسل جميعاً أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث وهم أحياء، وقد بشر به الرسل أقوامهم، ولا زالت في بقايا الوحي آثار كثيرة تبشر به صلى الله عليه وسلم ففي كتب الهند الدينية، وفي كتب الفرس الدينية، وفي العهدين القديم والجديد، كثير من البشارات به، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو مع ذلك كله من ذرية إبراهيم عن طريق إسماعيل - عليهما السلام -. * ظهرت إرهاصات كثيرة تبشر ببعثته، وظهرت علامات تمهد لاستقبال الوحي. * ولد من أبوين قرشيين، يعتبران أكرم خلق الله نسباً، هما: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب الزهرية. * ولد عام الفيل، ونبئ على رأس الأربعين، توفي أبوه في المدينة المنورة وأمه حامل به - على القول الراجح -، ومن حواضنه: بركة أم أيمن، ومن مراضعه: ثويبة مولاة أبي لهب، وحليمة السعدية. * بقي في حضانة حليمة السعدية حتى السنة السادسة من عمره - في رواية - ثم أعادته إلى أمه بعد حادثة شق الصدر، وفي نفس السنة ذهبت أمه إلى المدينة المنورة لزيارة قبر زوجها، وفي العودة توفيت ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة. * وفي أوائل السنة التاسعة من عمره توفي كافله ومربيه: جده عبد المطلب، بعد أن عهد إلى ابنه أبي طالب بكفالته. * وفي أوائل السنة الثالثة عشرة من عمره خرج به أبو طالب إلى الشام، وأرجعه من الطريق بناء على وصية بَحِيرا الراهب. * وفي السنة العشرين من عمره - على قول - حضر حرب الفجار التي كانت بين قومه

وكتانة وبين قيس، وكان يجهز فيها النبل لأعمامه. * وشارك بعد حرب الفجار في حلف الفضول في دار ابن جدعان، وهذا الحلف من مكارم قريش الكبرى، إذ كان حلفاً على نصرة المظلوم. * وقد رعى أثناء هذه المرحلة الغنم، وكان لا يألو جهداً في العمل. * وأخيراً أجر نفسه لخديجة، فذهب هو وغلامه ميسرة إلى الشام في تجارة لها، وتمخضت العلاقة التجارية عن زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي بنت أربعين، وولدت له جميع أولاده وبناته، ما عدا إبراهيم عليه السلام. * ووالى العمل التجاري بعد ذلك، وكان له في مرحة من المراحل شريك هو السائب ابن أبي السائب. * وشارك وهو في سن الخامسة والثلاثين في بناء الكعبة، وحكّمته قريش فيمن يضع الحجر الأسود. * وغلبت عليه العبادة في أخريات هذه المرحلة، وأصبحت رؤياه كفلق الصبح، ورأى خلال هذه المرحلة نوراً، وسمع صوتاً، وكلمته بعض الجمادات، وحدث له في صغره حادثة شق الصدر، ثم تكررت. * ولم يشارك طوال حيته في أعمال الجاهلية، ولا في عبادات أهلها، وكان قومه يطلقون عليه لقب الأمين. * تبنى زيد بن حارثة بعد أن أعتقه على إثر إيثار زيد له صلى الله عليه وسلم على أهله، وبقائه معه. * وكانت له صداقاته القليلة، وعلاقاته النظيفة، وسمعته الطاهرة، واجتمع له الفقر والعمل مع مكارم الأخلاق كلها. * كفل في أخريات هذه المرحلة عليّ بن أبي طالب، ليخفف عن عمه أبي طالب.

* وصفته خديجة بعد النبوة - ملخصة صفاته قبل النبوة بما معناه - بأنه: يحمل المنقطع، ويقري الضيف، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق، مستدلة بهذه الصفات على السلامة من الآفات، ومثبتة له على أمر النبوة. * * *

فصل: في فضل النسب وفي فضل الجيل

فَصْلٌ: في فضل النَّسَبِ وفي فضل الجيل نسب الرسول صلى الله عليه وسلم: * ذكر البخاري (1) نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هو صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان). أقول: ثم يصل نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - ويرى بعض النسابين أن بين عدنان وإبراهيم أربعين جداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من أبناء إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - ثم بعد ذلك يدخل في ينسب إبراهيم الذي تلمع فيه نبوات ورسالات كبرى إلى آدم - عليه السام - وإنما اتصل نسب إبراهيم - عليه السلام - بالعرب من خلال ابنه إسماعيل، حيث أسكنه وأمه بوادٍ غير ذي زرع في مكة المكرمة، كما هو معلوم من القرآن والسنة الصحيحة. * * * اصطفاء نبينا من خير بني آدم ومن خير الأجيال (2): 1 - * روى مسلم عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". 2 - * روى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قلت:

_ (1) ذكر رَزِينّ أنه عن ابن عباس. (2) لهذه الفقرة تعلق بفصل النسب من حيث شرفه صلى الله عليه وسلم. 1 - مسلم (4/ 1782) 43 - كتاب الفضائل - 1 - فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. والترمذي (5/ 583) 50 - كتاب المناقب - 1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. 2 - الترمذي (5/ 584) 50 - كتاب المناقب - 1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. كبوة: الكبوة ههنا محل تجمع الغبار والطمي.

يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق، فجعلني من خيرهم من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوتَ، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً". 3 - * روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه". 4 - * روى الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى: قال: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (1) "من صلب نبي إلى صلب نبي حتى صرت نبياً". وقد علق الدكتور البوطي على ما ورد بخصوص نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم بقوله: فيما أوضحناه من نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم، دلالة واضحة على أن الله - سبحانه وتعالى - ميَّزَ العرب على سائر الناس، وفضل قريشاً على سائر القبائل الأخرى. واعلم أن مقتضى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد ... بل من حيث الحقيقة المجردة، ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها - ولا ريب - بانتساب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. ولا ينافي ذلك ما قد يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين، عن صراط الله - عز وجل - وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامي التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط من شأنه أن يودي بما كان من نسبة بينه وبين رسول الله صلى الله لعيه وسلم ويلغيها من الاعتبار.

_ 3 - البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب - 33 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. القرون: جمع قرن، وهو الأمة في عصر من الأعصار، كلما انقضى عصر سمي أهله قرناً، سواء طال أو قصر. 4 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 86) وقال: رواه البزار والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح، غير شبيب بن بشر، وهو ثقة. (1) الشعراء: 216.

تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللصحابة

أقول: وفي الحديث قبل الأخير ما يفيد أن إيجابيات بعض النفوس البشرية في عصره كانت أرقى منها في أي عصر مضى أو سيأتي بعده، ومن عرف خصائص جيل الصحابة أدرك أنه جيل فريد لم يوجد مثله ولن يوجد جيل في مستواه. * * * تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللصحابة (1): 5 - * روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قُلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوبِ العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالاته، ثم نظر في قولب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه. يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء. فائدة: هذا الحديث أصل من الأصول التي يستدل بها على حجية الإجماع. وفيه تعليل لاختيار الله محمداً صلى الله عليه وسلم. كما أن فيه تعليلاً لفضل الصحابة على غيرهم، ولفضل جيلهم على الأجيال. ومن الحديث تعرف سر قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2) فقلب من نوع معين هو الذي يستأهل أن يتلقى الوحي {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3). * * *

_ (1) تعلق هذه الفقرة بعنوان الفصل من حيث إنها حديث عن كرامة الجيل الذي وجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - أحمد في مسنده (1/ 379). وذكر البزار جزءاً منه، راجع: كشف الأستار (2/ 164) كتاب علامات النبوة - باب في منزلته صلى الله عليه وسلم. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله موثقون، راجع: مجمع الزوائد (8/ 252) - كتاب علامات النبوة - باب عظم قدره صلى الله عليه وسلم. (2) الأنعام: 174. (3) الشعراء: 193، 194.

[هاجر] جدة رسولنا- عليهما الصلاة والسلام -

[هاجر] جدة رسولنا - عليهما الصلاة والسلام - (1): 6 - * روى البخار يعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذبْ إبراهيم النبي - عليه السلام - قط، إلا ثلاث كذباتٍ، ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} (2)، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (3). وواحدة في شن سارة، فإنه قدم أرض جبارٍ ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضهُ رآها بعض أهل الجبار، أتاهُ فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتى بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلتْ عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضتْ يدهُ قبضةً شديدة، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلتْ، فعاد، فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله أن لا أضرك، ففعلتْ، وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني

_ (1) تعلق هذه الفقرة بفصل النسب واضح لأن فيها حديثاً من المجد الأشرف لرسولنا عليه الصلاة والسلام وفي هذه الفقرة كلام عن جدته هاجر أم إسماعيل عليهما السلام. 6 - البخاري: (6/ 388) 60 - كتاب الأنبياء - 8 - باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)، وقوله: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله). وأخرجه مسلم، واللفظ له: (4/ 1840) 43 - كتاب الفضائل - 41 - باب من فضائل إبراهيم الخليل - عليه السلام -. يغلبني عليك: يقتلني ليتزوجك. فذلك الله: أي شاهد وضام أن لا أضرك. مهيم: كلمة معناها: ما شأنك؟ وما خبرك؟. الخادم: يطلق على الذكر والأنثى. بنو ماء السماء: هم العرب، سموا بذلك لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل: لأنهم يرعون العشب الذي ينبته ماء السماء. (2) الصافات: 89. (3) الأنبياء: 63.

تعليق حول صدق إبراهيم - عليه السلام-

بشيطانٍ، ولم تأتني بإنسانٍ، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم - عليه السلام - انصرف، فقال لها: مهيمُ، قالت: خيراً، كف الله يد الفاجرِ، وأخدم خادماً". قال أبو هريرة: فتلك أمكمْ يا بني ماء السماء. تعليق حول صدق إبراهيم - عليه السلام -: ما ذكره إبراهيم - عليه السلام - في المواقف الثلاثة إنما هو من التورية الجائزة، وإنما أطلق عليه الكذب مجازاً، قال النووي في شرحه لمسلم: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " .... ثنتين في ذات الله - تعالى - .... ، وواحدة في شأن سارة .. " فمعناه: أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فهم الخاطب والسامع، وأما في نفس الأمر فليست كذباً مذموماً، لوجهين، أحدهما: أنه ورَّى بها، فقال في سارة: أختي في الإسلام، وهو صحيح في باطن الأمر، وسنذكر - إن شاء الله تعالى - تأويل اللفظين الآخرين (1). والوجه الثاني: أنه لو كان كذباً لا تورية فيه لكان جائزاً في دفع الظالمين، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً، وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز بل واجب لكونه في دفع الظالم فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم. ولعله من أجل كمال صدق إبراهيم - عليه السلام - سماه الله - تعالى - في التنزيل الشريف: {.... صِدِّيقًا نَبِيًّا} (2)، ولعل أيضاً من إنعامات الله عليه لهذا الصدق أن

_ (1) قال النووي في موضع آخر: وذكروا في قله: إني سقيم، أي: سأسقم، لأن الإنسان عرضة للأسقام، وأراد بذلك الإعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم. وقيل: سقيمبما قدر عليَّ من الموت. وقيل: كانت تأخذه الحي في ذلك الوقت. وأما قوله: بل فعله كبيرهم، فقال ابن قتيبة وطائفة: جعل النطق شرطاً لفعل كبيرهم، أي فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقال الكسائي: يوقف عند قوله: بل فعله، أي فعله فاعله فأضمر، ثم يبتديء فيقول: كبرهم هذا، فأسألوهم عن ذلك الفاعل. (2) مريم: 41.

قصة إسماعيل الذبيح- عليه السلام- وبناء البيت

جعل من نسله إمام الصديقين وخاتم المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم الذي ربى أمة على الصدق في القول والحال والعمل، فكانت خير أمة أخرجت للناس. قصة إسماعيل الذبيح - عليه السلام - وبناء البيت (1): 7 - * روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أول ما اتخذ النساءُ المنطق من قِبَلِ أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل - وهي تُرضعه - حتى وضعها عند البيت، عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يُضيعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيمُ حتى إذا كان عند التثنية - حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} (2). وجعلت أمُّ إسماعيل تُرضعُ إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفدَ ما في السِّقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظرُ هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت

_ (1) تعلق هذه الفقرة بفصل النسب من حيث إنها حديث عن إبراهيم وإسماعيل جدي رسول الله عليهم الصلاة والسلام وما أحاط بسرية السكنى في الحرم. 7 - البخاري (6/ 396) 60 - كتاب الأنبياء - 1 - باب يزفون النسلان في المشي. المِنْطق: هو ما تشد به المرأة وسطها من عمل الأشغال لترفع ثوبها. وهو أيضاً النطاق. لتعفي: لتخفي. الدوحة: الشجرة العظيمة. قَفِّي: ولاك قفاه رجعاً عنك. ألله أمرك بهذا: أي هل أمرك الله بهذا؟. الثنية: الطريق في العقبة، وقيل: هو المرتفع من الأرض فيها. (بواد غير ذي زرع): مكة، فلا ينبت فيها زرع. يتلبط: يضطرب ويتقلب ظهراً لبطن. درعها: قميصها. الإنسان المجهود: الذي أصابه الجهد. (2) إبراهيم: 37.

المروة، فقامت عليها فنظرت، هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مراتٍ قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صَهٍ - تريدُ نفسها - ثم تسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عند غِواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبهِ - أو قال: بجناحهِ - حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرفُ من الماء في سقائها، وهو يفورُ بعد ما تغرفُ. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرفُ من الماء - لكانت زمزمُ عيناً معيناً". قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملكُ: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيعُ أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذُ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة من جُرهُم - أو أهل بتٍ من جُرهم - مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدورُ على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريِّين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا - قال: وأم إسماعيل عند الماء - فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندكِ؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبُّ الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بهما أهل أبياتِ منهم، وشبَّ الغلامُ، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم، بعد ما تزوج إسماعيل، يطالعُ تركته، فلم يجد

_ = صهِ: نسكت، وقوله: (تريد نفسها) معناه: لما سمعت الصوت سكتت نفسها لتتحققه. غواث: الغواث والغياث والغوث: المعونة، وإجابة المستغيث. تحوضه: أي: تجعل له حوضاً يجتمع فيه الماء. معيناً: الماء الظاهر الجاري الذي لا يتعذر أخذه. الضيعة: الضياع والحاجة. الرابية: ما ارتفع من الأرض. جَرْهُم: قبيلة من اليمن، تزوج منه إسماعيل - عليه السلام -، كفاء: بالفتح والمد: الثنية من أعلى مكة مما يلي المقابر. وبالضم والقصر: من أسفلها مما يلي باب العمرة. عائفاً: العائف: المتردد حول الماء. الجري: الرسول والوكيل. أنفسهم: أي: صار عندهم نفيساً مرغوباً فيه. تركته: التركة بسكون الراء: ولد الإنسان، وهو في الأصل: بيضة النعام - والتركة: اسم للشيء المتروك.

إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بِشَرّ، نحن في ضيق وشدة، فشكتْ إليه، قال: فإذا جاء زوجُك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني: كيف عيشُنا؟ فأخبرته أنا في جهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقَكِ، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى. فلبِثَ عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعدُ، فلم يجدْه، فدخل على امرأته، فسألها عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخيرٍ وسعة، وأثنتْ على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحمُ، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذٍ حبٍّ. ولو كان لهم دعا لهم فيه"، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاهَ. قال: فإذا جاء زوجُكِ فاقرئي عليه السلام، ومُريه يثبتُ عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حسنُ الهيئة - وأثنت عليه - فسألني عنك؟ فأخبرته، فسألني، كيف عيشُنا؟ فأخبرته أنا بخيرٍ، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرُك أن تُثبتَ عتبة بابك، قال: ذاك أب وأنتِ العتبة، أمرني أن أمِسكَكِ. ثم لبِثَ عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيلُ يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولدُ بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنعْ ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً - وأشار إلى أكمة مرتفعةٍ على ما حولها -

_ يبتغي لنا: يطلب لنا الرزق ويسعى فيه. اقرئي عليه السلام: بلغيه السلام. آنس شيئاً: أبصر شيئاً، وأراد: كأن رأى أثر أبيه وبركة قدومه. أفراقك: أي أطلقك. أكمة: الأكمة ما ارتفع من الأرض كالرابية. القواعد: مفردها قاعدة، وهي أساس البيت.

فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيمُ يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1). 8 - * روى الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - عز وجل -: قال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} (2) من شيعة نوح إبراهيم على منهاجه وسنته. {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} (3): شب حتى بلغ سعيه سعى إبراهيم في العمل. {فَلَمَّا أَسْلَمَا}: ما أمرا به. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (4): وضع وجهه إلى الأرض، فقال: لا تذبحني وأنت تنظر، عسى أن ترحمني فلا تجهز عليَّ، اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي على الأرض، فلما أدخل يده ليذبحه، فلم يحك المدية حتى نودي: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (5): فأمسك يده ورفع. قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (6): بكبش عظيم متقبل. وزعم ابن عباس أن الذبيح إسماعيل. أقول: ما قاله ابن عباس يوافق دقائق فهم القرآن من أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام -، ولا

_ (1) البقرة: 137. 8 - المستدرك (2/ 430) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. لا تجهز عليّ: معناه: ترحمني فلا تقتلني. (2) الصافات: 83. (3) الصافات: 102. (4) الصافات: 103. (5) الصافات: 104، 105. (6) الصافات: 107.

فائدة في التعريف بالقبائل العربية

أعلم في تاريخ العالم مثلاً أرقى على لاستسلام لله من هذا المثل، فلا عجب أن أكرم الله - تبارك وتعالى - إبراهيم وإسماعيل أن جعل من نسلهما محمداً صلى الله عليه وسلم أول المسلمين وخاتم المرسلين. وقد سارع إبراهيم وإسماعيل إلى تحقيق الرؤيا، لأن رؤيا الأنبياء وحيّ واجب الطاعة، وأما رؤيا غير الأنبياء فحملها النظر. فائدة في التعريف بالقبائل العربية (1): يحسن بنا ونحن بصدد بعض النصوص التي تتحدث عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نتعرف في عجالة سريعة على قبائل العرب، خاصة العرب المستعربة، أو العدنانية المنحدرة من صلب إسماعيل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليمات. قال المباركفوري في الرحيق المختوم (2): أقوام العرب قد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام، بحسب السلالات التي ينحدرون منها: 1 - العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم، مثل: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعملاق، وسواها. 2 - العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُبْ بن يَشْجُبَ بن قحطان، وتسمى بالعرب القحطانية. 3 - العرب المستعربة وهم العرب المنحدرة من صلب إسماعيل، وتسمى بالعرب العدنانية. فأما العرب العاربة - وهي شعب قحطان - فمهدها بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها

_ (1) لهذه الفقرة صلة بفصل النسب لأنها تعرفنا على قبائل الشعب العربي وعلى محل قبيلته عليه الصلاة والسلام من هذه القبائل. (2) الرحيق المختوم: (20 - 37).

وبطونها، فاشتهرت منها قبيلتان: أ - حِمْيَر، وأشهر بطونها: زيد الجمهور، وقضاعة، والسكاسك. ب - كهْلان: وأشهر بطونها: هَمْدان، وأنمار، وطييء، ومَذْحج، وكِندة، ولخْم، وجُذام، والأزد، والأوس، والخزرج، وأولاد جفنة ملوك الشام (1). وأما العرب المستعربة، فأًل جدهم الأعلى - وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام - من بلاد العراق، من بلدة يقال لها (أور) على الشاطيء الغربي من نهر الفرات، بالقرب من الكوفة ... ومعلوم أن إبراهيم - عليه السلام - هاجر منها إلى حاران - أو حران -، ومنها إلى فلسطين، فاتخذها قاعدته لدعوته، وكانت له جولات في أرجاء هذه البلاد وغيرها، وقدم مرة إلى مصر، وقد حاول فرعون مصر كيداً وسوءاً بزوجته سارة، ولكن الله رد كيده في نحره، وعرف فرعون ما لسارة من الصلة القوية بالله، حتى أخدمها (هاجر) اعترافاً بفضلها، وزوجتها سارة إبراهيم (2). ورجع إبراهيم إلى فلسطين، ورزقه الله من هاجر إسماعيل، وغارت سارة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدها الصغير - إسماعيل - فقدم بهما إلى الحجاز، وأسكنهما بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم الذي لم يكن إذ ذاك إلا مرتفعاً من الأرض كالرابية .... والقصة معروفة بطولها (3). وقد كان إبراهيم يرحل إلى مكة بين آونة وأخرى ليطالع تركته، ولا يعلم كم كانت هذه الرحلات، إلا أن المصادر التاريخية حفظت أربعة منها (4). وقد رزق الله إسماعيل من ابنة مضاض (5) اثني عشر ولداً ذكراً، وهم: نابت أو

_ (1) وانظر: المصدر السابق (20 - 33) لتفصيل هذه القبائل وهجراتها. (2) انظر: نص الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، لتفصيل قصة هاذ الكيد: ص 141 من هذا الفصل. (3) انظر: نص الحديث الذي رواه البخاري، لتطالع تفصيل هذه القصة: ص 143 إلى ص 146. (4) انظر: النص السابق والذي بعده، ففيه تفصيل الرحلات الأربع التي ارتحلها إبراهيم - عليه السلام - إلى مكة. (5) وهي الزوجة الثانية التي أمر إبراهيم ولده إسماعيل أن يثبتها ولا يفارقها، راجع الحديث ص 145 وهي لمجنة مضاض كبير قبيلة جرهم وسيدهم.

بنالوط، وقيدار، وأدبائيل، ومبشام، ومشماع، ودوما، وميشا، وحدد، ويتما، ويطور، ونفيس، وقديمان. وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، سكنت كلها في مكة مدة، وكانت جُلُّ معيشتهم التجارة من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ومصر، ثم انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزيرة بل إلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان، إلا أولاد نابت وقيدار. وازدهرت حضارة الأنباط في شمال الحجاز، وكونوا حكومة قوية دان لها من بأطرافها، واتخذوا البتراء عاصمة لهم، ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وقد رجح السيد سليمان الندوي بعد البحث الأنيق والتحقيق الدقيق أن ملوك آل غسان وكذا الأنصار من الأوس والخزرج لم يكونوا من آل قحطان، وإنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل، وبقاياهم في تلك الديار. وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: "كذب النسابون" فلا يتجاوزه. وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان، مضعفين للحديث المشار إليه، وقالوا: إن بين عدنان وبين إبراهيم - عليه السلام - أربعين أباً بالتحقيق الدقيق. وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار - قيل: لم يكن لمعد ولد غيره - فكان لنزار أربعة أولاد، تشعبت منهم أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة، وعنزة، وعبد القيس، وأبنا وائل - بكر وتغلب -، وحنيفة، وغيرها. وتشعبت قبائل مضر إلى شبعتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس بن مضر، فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوازن، وبنو غطفان - ومن غطفان: عبس وذبيان وأشجع وغني بن أعصر. ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، وبطون كنانة بن خزيمة.

ومن كنانة قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، من أشهرها: جمع وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة، وبطون قصي بن كلاب وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العُزى بن قصي وعبد مناف بن قصي. وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس، ونوفل، والمطلب، وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله - تعالى - منه سيدنا محمداً بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم (1). ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب، متتبعين مواقع القطر ومنابت .. (2). وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم، وكون لهم وحدة شرفتهم ورفع من أقدارهم. * * *

_ (1) ذلك مصداقه ما رواه واثلة بن الأسقع والعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم، راجع: ص 138 من هذا الفصل. (2) ولتفصيل ذلك، راجع: الرحيق المختوم ص 36، 37.

فصل: في بعض البشارات بنبينا صلى الله عليه وسلم

فصل: في بعض البشارات بنبينا صلى الله عليه وسلم بشارات في الكتب السابقة: 9 - * روى البخاري عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -: أن هذه الآية التي في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (1). قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعف ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. 10 - * روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، خرج منها نور، أضاءت له قصور الشام، وكذلك أمهات النبيين يرين". 11 - * روى الطبراني عن أبي مريم رضي الله عنه قال: أقبل أعرابي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده خلق من الناس، فقال: ألا تعطيني شيئاً أتعلمه وأحمله وينفعني ولا يضرك؟

_ 9 - البخاري (8/ 585) 65 - كتاب التفسير - 3 - باب (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً). حرزاً: أصل الحرز هو الوعاء الحصين الذي يحفظ فيه الشيء. الأميون: جمع الأمي، وهم العرب، وذلك أنهم لا يحسنون الكتابة، والذي لا يكتب يقال له: أمي. فظ: الفظ القاسي القلب، الغليظ الجانب. سَخَّاب: السخب بالسن والصاد: الصياح والجلبة، أي: ليس ممن ينافس في الدنيا وجمعها، فيحصر الأسواق لذلك. بالسيئة: لا يقابل الإساءة والشر بالمثل. آذانا صماً: لا تسمع، أو أعرض أصحابها عن السماع، الغلف: جمع أغلف، وهو الذي عليه غلاف. (1) الأحزاب: 45. 10 - أحمد في مسنده (4/ 137) وكشف الأستار (3/ 112) وللحاكم قريب منه، وقد حسنه بعضهم. منجدل في طينته: أي ملقي على الجدالة وهي الأرض. 11 - المعجم الكبير (23/ 223) ورجاله وثقوا، وهو حسن.

فقال الناس: مه، اجلس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، فإنما يسأل الرجل ليعلم". فأفرجوا له حتى جلس. فقال: أيُّ شيء كان أول نبوتك؟ قال: "أخذ الله الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (1) وبشر بي المسيح ابن مريم. ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام". فقال الأعرابي: هاه، وأدنى منه رأسه، وكان في سمعه شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ووراء ذلك". قصة تدل على أن الراسخين في العلم من أهل الكتاب كانوا يعرفون علامات في شأنه: 12 - * روى ابن سعد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات، فلما كان ليلة وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم مولود هذه الليلة؟ قالوا: لا نعلمه، قال: أخطأت والله حيث كنت أكره، انظروا يا معشر قريش، واحصوا ما أقول لكم: وُلِدَ الليلة نبي هذه الأمة أحمد الآخر. فإن

_ مه: اسكت. سراج: هو المصباح الزاهر. هاه: بمعنى: ماذا تقول؟ ووراء ذلك؛ أي وراء قصور الشام من البلاد. (1) الأحزاب: 45. 12 - أخرجه ابن سعد، قال: أخبرنا علي بن محمد عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، به. (الطبقات الكبرى: 1/ 162 - 163). الآخر: الخاتم، يبز أحبارهم: أي يغلبهم ويدحرهم ويبطل باطلهم. والبزر: الغلبة. ليسطون بكم: ليبطشن بكم وليقهرنكم.

تعليق

أخطأكم فبفلسطين. به شامةً بين كتفيه سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات، فتصدع القوم من مجالسهم وهم يعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم ذكروا لأهاليهم، فقيل لبعضهم: وُلِدَ لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام فسماه محمداً، فالتقوا بعد من يومهم فأتوا اليهودي في منزله فقالوا: أعلمت أنه ولد فينا مولود؟ قال: أبعد خبري أم قبله؟ قالوا: قبله واسمه أحمد، قال: فاذهبوا بنا إليه، فخرجوا معه حتى دخلوا على أُمِّه، فأخرجته إليهم، فرأى الشامة في ظهره، فغشي على اليهودي ثم أفاق، فقالوا: ويلك! مالك؟ قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، وخرج الكتاب من أيديهم، وهذا مكتوب يقتلهم ويبزُّ أحبارهم، فازت العرب بالنبوة، أفرحتم يا معشر قريش؟ أما والله ليسطُونَّ بكم سطوةً يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب. تعليق: تحدث العقاد في كتابه (مطلع النور) عن كتاب بعنوان (محمد في الأسفار الدينية العالمية) لمؤلفه (عبد الحق فدبارتي) ونقل منه نقولاً واضحة الدلالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم مذكور في كتب العهدين القديم والجديد، ومذكور في كتب الهند الدينية السامافيدا وغيرها، وفي كتب الديانة الفارسية القديمة المنسوبة لزرادشت. وقد نقلنا في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) الكثير من هذه النقول، سواء ما كان منها موجوداً في هذا الكتاب أو في غيره، ومن تتبع هذا الأمر في مصادره، ومن تأمل النصوص والحوادث والأحدث يجد أن الأمر كان على غاية الوضوح عند أصحاب الديانات أن رسولاً عربياً اسمه محمد صلى الله عليه وسلم سيبعث. وقد ذكرنا الحديث الأخير هنا ليعلم أنه كان عند أهل الكتاب علامات كثيرة يتعرفون بها على الحدث الجلل والنبأ العظيم، نبأ الرسالة الخاتمة، وهذا معنى سيتأكد لك مرة بعد مرة. أقول: وقد أشارت الأحاديث إلى التمهيدات الكبرى التي قدمت لبعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم. ولقد اختير لرسول الله صلى الله عليه وسلم الزمان والمكان والنسب والبيئة، كما اختيرت له حتى الأسماء، فكان في ذلك توفيق على توفيق على توفيق، وذلك من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.

في قصة بحيرا شاهد على أنه عليه الصلاة والسلام مبشر به

وفي قصة بحيرا شاهد على أنه عليه الصلاة والسلام مبشر به: 13 - * روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبط فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عيه وسلم، قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما عِلْمُكَ؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلى لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به فكان هو في رعية الإبل فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أُخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيرة لك بطريقك هذا.

_ 13 - الترمذي: (5/ 510) 50 - كتاب المناقب - 1 - باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه: وقد رواه البزار بنحوه. وقد أقر الترمذي على تحسينه، لكن العلماء قالوا: ذِكْرَ بلالٍ فيه غير محفوظ، وغده الأئمة وهما، فإن سِنُ النبي إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن في ذلك الوقت. وفي رواية البزار: "وأرسل معه عمه رجلاً" ولعل ذكر أبي بكر وبلال مدرج في الحديث، ووهم من أحد الرواة، فإذا انتهى هذا الإشكال فقد صحح الحديث أكثر من محدث. أشرفوا: اقتربوا. حلوا رحالهم: كناية عن التوقف عن المسير والاستراحة. وإنزال حوائج الاستراحة عن الرواحل وهي الإبل، غضروف كتفه: رأس لوحة الكتف.

فائدة حول موضوع الكشف للأولياء

قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس ردهُ؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه قال: أنشدكم بالله أيكم وليهُ؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزودهُ الراهب من الكعك والزيت. فائدة حول موضوع الكشف للأولياء: تحدثنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) عما يسمى في اصطلاح العلماء بالكشف، وذكرنا هناك أدلة وجوده وإمكانية وقوعه، وههنا نقول: إن الكشف في حق الأنبياء معجزة، وهو في حق الأولياء كرامة، فقد يكشف للنبي من أمر الغيب، وقد يكشف للنبي الشيء ولا يُكشف لمن هم معه، وذلك يمكن أن يكون لأولياء هذه الأمة، ومن سياق قصة الراهب بحيرا نعلم أنه من بقايا أهل الكتاب الذين حافظوا على ديانة المسيح نقية، ومن ثم فإن تعليلنا لبعض ما ورد فيها أنه كشف كوشف به الراهب بحيران فلقد كوشف بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، وكوشف بسجود الشجر والحجر له عليه الصلاة والسلام. * * *

_ معه: يعني: بايعوا بحيراً، ودخلوا معه في سلك الرهبنة.

فصل: في الميلاد

فصل: في الميلاد متى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 14 - * روى الحاكم عن أبي قتادة؛ أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: "إن ذلك اليوم لذي وُلدتُّ فيه وأُنزل عليَّ فيه". 15 - * روى الترمذي عن قيس بن مخزمة قال: وُلدتُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليثٍ: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد، قال: ورأيت حذق الطير أخضر محيلاً. 16 - * روى الطبراني عن قيس بن مخزمة قال: وُلد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وبين الفِجار والفيل عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعثه صلى الله عليه وسلم خمس سنين، فبُعث وهو ابن أربعين. فائدة: قال الشيخ الغزالي في فقه السيرة: كانت حرب الفجار بالنسبة إلى قريش دفاعاً عن قداسة الأشهر الحرم، ومكانة أرض الحرم، وهذه الشعائر بقية مما احترمه العرب من دين إبراهيم، وكان احترامها مصدر نفع

_ 14 - المستدرك (2/ 602)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 15 - الترمذي (5/ 589) 50 - كتاب المناقب - 2 - باب ما جاء في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق. حلق الطير: الحذُق والذرق والخره، كلها بمعنى واحد، وهو القذرة، أي: براز الطائر. وقد قيل: إن المراد هنا الفيل لا الطير، وهو يعني أن الراوي رأى براز الفيل أخضر محيلاً، أي: بالياً قد دثر، وذلك لأن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وهو أسن من النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر وعلل ذلك بأنه رأى حذق الطير أو الفيل. ولأن رواية "حذق الطير" صحيحة، فلعله أراد الطير التي أرسلها الله على أصحاب الفيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وذلك صحيح أيضاً. 16 - قال في مجمع الزوائد (8/ 257): رواه الطبراني، وفيه جعفر بن مهران السباك، وقد وثق وفيه كلام، وبقية رجاله ثقات. الفجار: اسم للحروب التي اندلعت في الجاهلية في الأشهر الحرم.

ولد يتيما صلى الله عليه وسلم

كبير لهم، وضماناً لانتظام مصالحهم وهدوء عداوتم. كان الرجل يلقى قاتل أبيه خلالها فيحجزه عن إدراك ثأره شعوره بهذه الحرمات. ولكن أهل الجاهلية ما لبثوا أن ابتُلوا بمن استباحها، فظلموا أنفسهم فيها، وكانت حرب الفجار من آثار هذه الاستباحة الجائرة، وليس هنا تفصيل خبرها، وقد ظلت أربعة أعوام كان عُمْرُ (محمد صلى الله عليه وسلم) في أثنائها بين الخمسة عشرة والتسعة عشر، قيل: قاتل فيها بنفسه. وقيل: بل أعان المقاتلين. أقول: اختير له - عليه الصلاة والسلام - في جملة ما اختير له عام الميلاد، فكان ميلاده في عام الفيل، وهو العام الذي وقع فيه أعظم حدث في تاريخ الجزيرة العربية وقتذاك، مما مكن لقريش ولكعبتها. * * * ولد يتيماً صلى الله عليه وسلم: 17 - * روى الحاكم عن قيس بن مخرمة أنه ذكر ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تُوفي أبوه وأمه حُبلى به. أقول: يذكر أهل السير أن أباه توفي في المدينة وأمه حُبلى به، وأن أمه توفيت بعد زيارة لقبر زوجها، وهو - عليه الصلاة والسلام - في الستة السادسة من عمره، ودفنت بالأبواء، وتوفي جده عبد المطلب بعد السنة الثامنة من مولده فانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي كان فقيراً.

_ 17 - المستدرك (2/ 605) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

تعليق حول الحكمة من هذا اليتم وذاك الفقر

تعليق حول الحكمة من هذا اليتم وذاك الفقر: يقول الدكتور سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة: لقد اختار الله عز وجل لنبيه هذه النشأة لحكمٍ باهرةٍ، لعل من أهمها أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريب القلوب، أو إيهام للناس بأن محمد صلى الله عليه وسلم إنما وضع لبان دعوته ورسالته التي نادى بها منذ صباه، بإرشادٍ وتوجيهٍ من أبيه وجده، ولم لا؟ وإنَّ جده عبد المطلب كان صدراً في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة (1) والسقاية. ومن الطبيعي أن يُربي الجد حفيده أو الأب ابنه على ما يحفظ لديه هذا الميراث. لقد شاءت حكمة الله - عز وجل - أن لا يكون للمبطلين من سبيل إلى مثل هذه الريبة، فنشأ رسوله بعيداً عن تربية أبيه وأمه وجده، وحتى فترة طفولته الأولى، فقد أرادت حكمة الله عز وجل أن يقضيها في بادية بني سعد بعيداً عن أسرته كلها، ولما توفي جده وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات كان من تتمة هذه الحكمة أن لا يُسلم عمه. حتى لا يُتوهم أن لعمه مدخلاً في دعوته، وأن المسألة مسألة قبيلةٍ وأسرةٍ وزعامةٍ ومنصب. وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيماً، تتولاه عناية الله وحدها، بعيداً عن الذراع التي تمعن في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني. * * *

_ (1) الرفادة: شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، أي: تتعاون به، فيخرج كل إنسان بقدر طاقته فيجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به طعاماً وزبيباً ونبيذاً، ويطعمون الناس ويسقونهم أيام موسم الحج حتى ينقضي.

فصل: في أسمائه صلى الله عليه وسلم

فصل: في أسمائه صلى الله عليه وسلم 18 - * روى البخاري عن جُبير بن مُطعمٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسةُ أسماءٍ: أنا محمدٌ، وأنا أحمدُ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر النسا على قدمي، وأنا العاقبُ"، والعاقب الذي: ليس بعده نبي. وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً. 19 - * روى مسلم عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمى لنا نفسه أسماء فقال: "أنا محمدٌ، وأحمدُ، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة" وفي رواية (1) "ونبي الملاحم"، وفي أخرى (2): "وإذا كان يوم القيامة كنتُ إمام المرسلين، وصاحب شفاعتهم". 20 - * روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مُذمماً، ويلعنون مذمماً، وأن محمد".

_ 18 - البخاري: (6/ 554) 61 - كتاب المناقب - 17 - باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسلم: (4/ 1828) 42 - كتاب الفضائل - 34 - باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: "وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد". 19 - أخرجه مسلم: (4/ 1828) 43 - كتاب الفضائل 34 - باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم. 20 - البخاري: (6/ 554) 61 - كتاب المناقب - 17 - باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنسائي: (6/ 159) - كتاب الطلاق - باب الإبانة والإفصاح بالكلمة الملفوظ بها إذا قصد بها لم لا يحمل معناها لم توجب شيئاً ولم تثبت حكماً. (1) هذه الرواية عند أحمد في مسنده (4/ 395). (2) هذه الرواية عند الطبراني في الكبير والأوسط عن جابر.

تعليق

تعليق: أسماؤه صلى الله عليه وسلم مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال. فمحمد: اسم مفعول، مشتق من الفعل المضعف حمد، فهو صلى الله عليه وسلم يستجلب الحمد من الناس بصفاته وأقواله وأفعاله، وهو محل الحمد، ومن ههنا فهو محمد. وأحمد: اسم على زنة أفعل التفضيل، مشتق - أيضاً - من الحمد، فهو صلى الله عليه وسلم أكثر خلق الله حمداً لله، فمن ههنا كان أحمد. والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه: بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أول من يُحشر من الخلق، ثم يحشر الناس على قدمه، أي: على أثره، وقيل: أراد صلى الله عليه وسلم عهده وزمانه، يقال: كان ذلك على رِجْلِ فلان وعلى قدم فلان، أي: في عهده. والمقفي: الذاهب المولي، لأنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وإذا قفى فلا نبي بعده. وقيل: المقفي المُتبع، أراد أنه مُتبع النبيين. ونبي الملاحم: الملاحم جمع ملحمة وهي من التلاحم في لحرب، أي: التقاء اللحم باللحم، أو التقاء السيف باللحم. وفي وصفه صلى الله عليه وسلم لنفسه بأنه نبي الملاحم إشارة إلى المعارك الكبرى التي خاضتها أمته والتي ستخوضها، كما أنه يمكن أن يكون فيها إشارة إلى أن عهد نبوته الممتد إلى قيام الساعة ستكون فيه معارك ضخمة، وعلى هذا الفهم فالحربان العالميتان الأولى والثانية من جملة الملاحم. * * * 21 - * روى الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا أقسم".

_ 21 - المستدرك (2/ 604) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، وأخرج الطبراني نحو ذلك في حديث صحيح.

ما جاء عن رضاعه وتنشئته في البادية

أقول: يفيد الحديث أن من مهماته صلى الله عليه وسلم القسمة، والقسمة تقتضي عدلاً، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقبل على أصحابه إقبالاً واحداً في التربية والتعليم والتوجيه، حتى ليكاد يظن كل واحد من أصحابه أنه أحب إليه مما سواه ثم إن كل إنسان يأخذ على قدر استعداده، وذلك هو العطاء الرباني. وفي هذا الباب أدب للدعاة أن يقبلوا على المريدين إقبالاً واحداً، كما أن في ذلك درساً للذين يزهدون في بعض المريدين فمن يدري فقد يكون المزهود فيه خيراً من كثير من المرغوب فيهم، وفي سورة (عبس) درس. * * * ما جاء عن رضاعه وتنشئته في البادية: 22 - * روى أبو يعلي عن حليمة بنت الحارث - أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية التي أرضعته - قالت: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكرٍ نلتمس الرُّضعاء بمكة على أتانٍ لي فمراء قد أذمت بالرُكب. قالت: وخرجنا في سنة شهباء لم تُبقِ لنا شيئاً، ومعي زوجي الحارث بن عبد العُزى. قالت: ومعنا شارفٌ لنا والله إن يبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي، إن تنام ليلتنا مع بكائه، ما في ثديي ما يمصه، وما في شارفنا من لبن نغذوه، إلا أنا

_ 22 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 221): رواه أبو يعلي، والطبراني بنحوه، إلا أنه قال: حليمة بنت أبي ذؤيب، ورجالهما ثقات الأتان: أنثى الحمار، وجمعها: أتن، وأُتُن. قمراء: أي صاحبة لون قريب إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة، وأذمت الركب: حبستهم لضعفها انقطاع سيرها، سنة شهباء: لا خضرة فيها أو لا قطر. شارف: الشارف من السهام العتيق القديم، ومن النوق المسنة الهرمة. تبض: بض الماء يبض بضاً وبضوضاً وبضيضاً، سال قليلاً قليلاً. نظره: أي نفذيه. رواء: من الري وهو ضد العطش. كفي علينا: بمعنى انتظرينا. الحاضر: الحاضر والحضارة خلاف البادية، والحضارة الإقامة في الحضر، أي المدينة أو القرية التي يقيم الناس فيها إقامة دائمة دونما ترحال. بطانا: أي أن بطونها ملأى من الشبع، لبناً: حافلة باللبن، حفلاً: ممتلأت الضروع باللبن. الشعب: الطريق بين حلين، غلام جفر: استجفر الصبي: بمعنى قوي على الأكل. ونحن أضن بشأنه: أصل الضن البخل، والمعنى هنا: أننا نحرص على أنه يبقى معنا، يرعيان أبهما: مفردها بهمة، وهي صغار الضأن، جاء أخوه يشتد: أي: جاء يعدو، والشد: العدو، شِهاب: شعلة من نار ساطعة.

نرجو. فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عُرِض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرج كرامة رضاعهِ من والد المولود، وكان يتيماً، فكنا نقول، ما عسى أن تصنع أمه. حتى لم يبق من صواحبي امرأةً إلا أخذت صبياً غيري، وكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئاً وقد أخذ صواحبي فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك فلآخذنه. قالت: فأتيته فأخذته فرجعته إلى رحلي، فقال زوجي: قد أخذتيه؟ فقلت: نعم، والله ذاك أني لم أجد غيره. فقال: قد أصَبْتِ، فعسى الله أن يجعل فيه خيراً. فقالت: والله ما هو إلا أن حملته في حجري، قالت: فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن. قالت: فشرب حتى روي، وشربه أخوه - تعني ابنها - حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا هي حامل، فحلبت لنا ما شئنا، فشرب حتى روي، قالت: وشربت حتى رويت، فبتنا ليلتنا تلك بخيرٍ شباعاً رواء، وقد نام صبينا. قالت يقول أبوه - يعني زوجها -: والله يا حليمة ما أراك إلا أصبتِ نسمةً مباركةً، قد نام صبينا وروي. قالت: ثم خرجنا فوالله لخرجت أتاني أمام الركب قد قطعته، حتى ما يبلغونها، حتى أنهم ليقولون: ويحك يا بنت الحارث كفي علينا: أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها، فأقول: بلى والله، وهي قدامنا حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر. فقدمنا على أجدبِ أرض الله فوالذي نفسُ حليمة بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطاناً لبناً حفلاً، وتروح أغنامهم جياعاً هالكةً ما بها من لبن. قال: فشربنا ما شئنا من لبن، وما في الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها. فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسْرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشعبِ الذي يسرح فيه راعينا. قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يشبُّ في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ ستاً وهو غلام جفر. قالت: فقدمنا أمه فقلنا لها، وقال لها أبوه: رُدوا علينا ابني فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وباء مكة. قلت: ونحن أضن بشأنه لما رأينا من بركته قالت: "فلم نزل بها حتى قالت: ارجعا به فرجعنا به. فمكث عندنا شهرين قالت: فبينما هو يلعب وأخوه يوماً خلف البيوت يرعيان بُهماً

فائدة حول تنشئته صلى الله عليه وسلم في البادية

لنا، إذ جاءنا أخوه يشتدُّ، فقال لي ولأبيه، أدرِكا أخي القرشي، قد جاءه رجلان فأضجعاه، فشقا بطنه. فخرجنا نحوه نشتدُّ، فانتهينا إليه وهو قائم منتقعٌ لونه فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قلنا: مالك يا بُني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بياضٍ فأضجعاني، ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا. قالت: فاحتملناه فرجعنا به. قالت يقول أبوه: والله يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه. قالت فقلت: لا والله إنا كففناه وأدينا الحق الذي يجبُ علينا فيه. ثم تخوفتُ الأحداث عليه. فقلت: يكون في أهله. قالت فقالت أمه: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما وخبره، قالت: فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره. قالت: فتخوفتما عليه، كلا والله إن لابني هذا لشأنا، ألا أخبركما عنه، إني حملت به فلم أر حملاً قط كان أخفه ولا أعظم بركة منه، ثم رأيت نوراً كأنه شهاب خرج من حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببُصرى، ثم وضعته فما وقع كما تقع الصبيان، وقع واضعاً يده بالأرض رافعاً رأسه إلى السماء، دعاه والحقا بشأنكما. فائدة حول تنشئته صلى الله عليه وسلم في البادية: قال الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة: وتنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود - فيما يعود إليه - إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع. ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم. وكثير من علماء التربية يود لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه، ويبدو أن هذا حُلمٌ عَسِر التحقيق. أهـ.

فصل: في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتكرار هذه الحادثة

فصل: في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتكرار هذه الحادثة * سبق ذكر ما ورد عن حليمة السعدية في مسألة شق الصدر، في الفصل السابق. 23 - * روى الحاكم عن عتبة بن عبد السُّلمى أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف كان أول ِأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد ابن بكر، فانطلقتُ أنا وابن لها في بُهمٍ لنا، ولم نأخذ معنا زاداً فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزادٍ من عند أمنا فانطلق أخي، وكنت عند البهم، فأقبل طيرانِ أبيضانِ كأنهما نسرانِ فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفاء، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: حصهُ - يعني خِطهُ - واختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخروا عليِّ، فقالا: لو أن أمته وُزنت به لمال بهم. ثم انطلقا وتركاني وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقتُ إلى أمي فأخبرتها بالذي رأيت، فأشفقتْ أن يكون قد التبس بي فقالت: أعيذُك بالله، فرحلت بعيراً لها فجعلتني على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا أمي فقالت: أديتُ أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت. فلم يرُعها ذلك، فقالت: إني رأيت خرج مني نوراً أضاءت منه قصور الشام". 24 - * روى مسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان - فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئرهُ - فقالوا: إن محمداً قد قتل؛ فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.

_ 23 - المستدرك (2/ 616)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. حاضنتي: الحاضنة هي التي تقوم على تربية الصغير مقام الأم. بُهم: مفردها بهمة وهي الصغير من الشأن. 24 - مسلم (1/ 147) - 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات. العلقة: القطعة من الدم، لأمه: جمعه وضم بعضه إلى بعض. ظئره: مرضعته: وهي حليمة، ويقال أيضاً لزوج المرضعة ظئر. منتقع: يقال: انتقع لونه وامتقع: إذا تغير.

25 - * روى النسائي عن أنس - أيضاً - قال: إن الصلوات فُرضت بمكة، وإن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه، وأخرجا حشوه في طستٍ منْ ذهبٍ، فغسلاه بماء زمزم، ثم كبسا جوفه حكمةً وعلماً. أقول: الحادثة التي أخرجها مسلم غير الحادثة التي ذكرها النسائي، فتلك في الصحراء وهذه في مكة، وهذه متأخرة. 26 - * روى عبد الله بن أحمد عن أُبي بن كعب، أن أبا هريرة كان حريصاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله! ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، وقال: "لقد سألت أبا هريرة، إني لفي صحراء ابن عشر سنين وأشهرٍ، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجلٍ يقول لرجلٍ: أهو هُوَ؟ قال: نعم" فاستقبلاني بوجوهٍ لم أرها لخلق قط، وأرواحٍ لم أجدها من خلق قط، وثيابٍ لم أرها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كل واحدٍ منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مساً، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصرٍ، فقال أحدهما لصاحبه: أفلق صدرهُ. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقها - فيما أرى - بلا دمٍ ولا وجعٍ. فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئاً كهيئةِ العلقةِ، ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرحمة والرأفة، فإذا مثلُ الذي أخرج شبيه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، فقال: أغدُ وأسلم فرجعتُ بها أغدو بها رقة على الصغير ورحمة على الكبير".

_ 25 - النسائي (1/ 224) كتاب الصلاة - باب أين فرضت الصلاة. 26 - رواه عبد الله بن أحمد في زياداته على أبيه ورجاله ثقات وثقتهم ابن حبان. لقد سألت أبا هريرة: أي: لقد سألت سؤالاً مهماً يا أبا هريرة، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر: القصر الإجبار، والهصر: الجذب والإمالة والكسر والدفع، والمعنى أنهم شقاو صدره بكل لطف وحنان دون إجبار أو قسوة، إفلق: من الفلق وهو الشق، وفلقه: شقه.

فوائد حول حادثة شق الصدر

فوائد حول حادثة شق الصدر: 1 - قال الشيخ الغزالي: وهذه القصة التي روعت حليمة وزوجها، ومحمد مسترضع فيهم، نجدها قد تكررت مرة أخرى ومحمد - عليه الصلاة والسلام - رسول جاوز الخمسين من عمره، فعن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينا أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجع بين النائم واليقظان أتاني آتٍ، فشق ما بين هذه إلى هذه - يعني ثغرة نحره إلى شعرته - قال: فاستخرج قلبي: ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي، ثم حُشيَ ثم أُعيد ... . وشيء واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الآثار، أن بشراً ممتازاً كمحمد لا تدعه العناية غرضاً للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس، فإذا كانت للشر (موجات) تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها فقلوب النبيين - بتولي الله لها - لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في (متابعة الترقي) لا في (مقاومة التدلي) وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته. * * * 2 - قال القسطلاني في المواهب: وهذا الشق روي أنه وقع له - عليه الصلاة والسلام - مرات في حال طفولته إرهاصاً، وتقدم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص. * * * 3 - أقول: لقد ذكر العلماء أن هناك قلباً حسياً للإنسان يرتبط به - نوع ارتباط - القلب الذي هو محل الكفر والإيمان ومحل الرجاء والخوف والحب والبغض، ولا شك أن الشق الحسي

فصل: في رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم والحكمة من ذلك

استهدف القلب الثاني الذي هو غيب من الغيب، وإن كان بعض ما يجري فيه وعليه محساً من الإنسان، هذا القلب يمرض، وتتراكم عليه تراكمات، وتطرأ عليه الحجب. تكرر حادثة الشق بل النبوة أي قبل التكليف فيه إشارة إلى إرادة الله - عز وجل - في أن يبقى قلب محمد على حالة خاصة استصلاحاً وإعداداً، وهذا يفيد أنه حتى أطهر القلوب يحتاج إلى شيء من عالم الأسباب ليبقى على صفاء ونقاء، وتكرر حادثة شق الصدر قبيل الإسراء والمعراج فيه إشارة إلى أن بعض مقامات القلوب يحتاج إلى مزيد من الصفاء القلبي. * * * فصل: في رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم والحكمة من ذلك 27 - * روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة". فوائد: 1 - عن حكمة رعي الغنم: قال الحافظ في الفتح: قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أني جعل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها،

_ 27 - البخاري: (4/ 441) 37 - كتاب الإجارة - 2 - باب رعي الغنم على قراريط. وأخرج نحوه ابن ماجه: (3/ 737) 12 - كتاب التجارات - 5 - باب الصناعات مع خلاف يسير في اللفظ. بالقراريط: يعني كل شاة بقيراط، والقيراط هو من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وأهل الشام يعنونه جزءاً من أربعة وعشرين.

ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل البقر، وبالإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياداً من غيرها، وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم أنه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمننه عليه وعلى إخوانه الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. 2 - وعن الأخذ بالأسباب للتكسب: أقول: يتحدث بعض العلماء عن الأخذ بالأسباب، وعن التجريد في موضوع كسب القوت، ويعتبرون كُلا منهما في محله هو الكمال. وهكذا كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت حياته قبل النبوة عملاً متواصلاً لكسب القوت، فمن رعى غنم إلى رعي إبل إلى تجارة، ومن إجارة إلى شركة، وقد استمر هذا بعد النبوة ضمن حدد، حتى إذا اقتضت الدعوة الإسلامية تجريداً لم يبق لمحاولة الكسب محل، فكان التجريد على أكمله، فحتى فتحت خيبر لم يكن له - عليه الصلاة والسلام - معلوم في الرزق، بل هو الزهد والعفة والتوكل، وكلا المقامين من أعلام نبوته - عليه الصلاة والسلام -. * * *

فصل: في عصمته صلى الله عليه وسلم مما يشينه حتى قبل البعثة

فصل: في عصمته صلى الله عليه وسلم مما يشينه حتى قبل البعثة بناء البيت وعصمته من كشف العورة: 28 - * روى الحاكم عن أبي الطفيل، قال: لما بُني البيت كان الناسُ ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم، فأخذ الثوب ووضعه على عاتقه فنودي: لا تكشف عورتك، فألق الحجر ولبس ثوبه. 29 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: لما بُنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقك من الحجارة، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناهُ إلى السماء، ثم أفاق فقال: "إزاري إزاري"، فشد عليه إزاره. قال في الفتح: وقد وردت رواية بنحوها وفيها: فما رئي بعد ذلك عرياناً صلى الله عليه وسلم. * * * عصمته من فعل الجاهلية: 30 - * روى الحاكم عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بما كان أهل الجاهلية يُهمون به إلا مرتين من الدهر، كلاهما يعصمني الله تعالى منهما، قلت ليلةً لفتى كان معي من قُريش في أعلى مكة في أغنام لأهلها ترعى: أبصر لي غنمي حتى أسْمُر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان قال: نعم، فخرجتُ فلما جئتُ أدنى دارٍ من دور مكة سمعتُ غناء وصوت دفوفٍ وزمرٍ فقلت: ما هذا؟ قالوا فلان تزوج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة، فلهوتُ

_ 28 - المستدرك (4/ 179)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، العاتق: التقاء الذراع بالكتف، ويسمى بالمنكب أيضاً. 29 - البخاري (7/ 145) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 25 - باب بنيان الكعبة. ومسلم (1/ 268) 3 - كتاب الحيض - 19 - باب ما يستتر به لقضاء الحاجة، باختلاف يسير. الإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن، طمحت: طمع بصري أي: امتد وعلا. 30 - المستدرك: (2/ 245)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وقد ضعف بعضهم هذا الحديث.

تعليق

بذلك الغناء والصوت حتى غلبتني عيني فنمتُ فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، فرجعتُ فسمعتُ مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعتُ وغلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس. ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت فقلت: ما فعلت شيئاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما هممتُ بعدها أبداً بسوءٍ مما يعملُ أهلُ الجاهلية حتى أكرمني الله تعالى بنبوته". تعليق: في هذه الأحاديث مظهر من مظاهر حفظ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما يتنافى مع الهمة العلية والسيرة المرضية، فالمرشحون لجلائل الأعمال لا يليق بهممهم أن تتوجه إلى مثل هذه الأفعال. * * *

فصل: في حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول

فصل: في حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول 31 - * روى ابن سعد عن جُبير بن مُطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أُحبُّ أن لي بحلفٍ حضرته بدار ابن جُدعان حُمر النعم وأني أغدر به، هاشمٌ وزُهرةُ وتيمٌ، تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفةً، ولو دُعيت به لأجبتُ، وهو حلف الفضول". قال محمد بن عمر: ولا نعلم أحداً سبق بني هاشم بهذا الحلف. تعليق: قال ابن هشام: وكان حلف الفضول بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة. فوائد حول حادث حلف الفضول: 1 - قال الشيخ الغزالي في حلف الفضول: أما حلف الفضول فهو دلالة على أن لحياة مهما اسودت صحائفها وكلحت شرورها، فلن تخلو من نفوس تهزها معاني النبل، وتستجيشها إلى النجدة والبر. ففي الجاهلية الغافلة نهض رجال من أولي الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة وحرب المظالم، وتجديد ما اندرس من هذه الفضائل في أرض الحرم. أهـ. 2 - هل يجوز لبعض المسلمين أن يتعاقدوا عقداً كعقد حلف الفضول؟ وهل يجوز للمسلمين أن يتعاقدوا عقداً مع غيرهم كعقد الفضول؟ أقول: لقد أوجب الله على المسلمين التعاون على البر والتقوى بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى

_ 31 - ابن سعد في الطبقات (1/ 128) من طريق محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف بن عبد الرحمن بن أزهر عن جبير بن مطعم.

الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) فأن يتعاقد بعض المسلمين عقداً في مثل هذا، فذلك جائز، لأنه ليس إلا مجرد تأكيد لشيء مطلوب شرعاً، على ألا يكون ذلك شبيهاً بمسجد الضرار، بحيث يتحول التعاقد إلى نوع الحزبية الموجهة ضد مسلمين آخرين ظلماً وبغياً، وأما تعاقد المسلمين مع غيرهم على دفع ظلم أو في مواجهة ظالم، فذلك جائز لهم، على أن تلحظ في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين في الحاضر وفي المستقبل، وفي هذا الحديث دليل، والدليل فيه هو استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للاستجابة بعد الإسلام لمن ناداه بهذا الحلف. * * *

_ (1) المائدة: 2.

فصل: في الإجارة عند خديجة ثم زواجه صلى الله عليه وسلم منها

فصل: في الإجارة عند خديجة ثم زواجه صلى الله عليه وسلم منها 32 - * روى الحاكم عن جابر، قال: استأجرت خديجة - رضوان الله عليها - رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جَرَشٍ، كل سفرة بقَلوصٍ. 33 - * روى الطبراني عن جابر بن سمرة - أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً، فاستعلى الغنم فكان في الإبل، هو وشريكٌ له. فأكْريا أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شيء، فجعل شريكهم يأتيها فيتقاضهم، ويقول لمحمد: انطلق فيقول: اذهب أنت فإني أستحي. فقالت مرة وأتاهم: فأين محمد؟ قال: قد قلت له، فزعم أنه يستحي. فقالت: ما رأيت رجلاً أشد حياء ولا أعف ولا ولا، فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه فقالت: ائت أبي فاخطبني. قال: أبوكِ رجل كثيرُ المال، وهو لا يفعل. قالت: انطلق فألقه فكلمه فأنا أكفيك، وائتِ عند سُكْرِه. ففعل، فأتاه فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس، فقيل له: أحسنت زوجت محمداً. فقال: أو قد فعلتُ. قالوا: نعم. فقام فدخل عليها فقال: إن الناس يقولون إني قد زوجت محمداً وما فعلتُ. قالت: بلى فلا تسفهن رأيك فإن محمداً كذا. فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوقيتين من فضة، أو ذهبٍ وقالت: اشتر حلة وأهدها لي وكبشاً وكذا وكذا، ففعل. 34 - * روى الطبراني عن ابن عباس - فيما يحسب حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يُزوجه، فصنعت طعاماً وشراباً، فدعتْ أباها ونفراً

_ 32 - المستدرك (3/ 182)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. جرش: لعلها جرش المدينة الواقعة في شمال الأردن حالياً. قلوس: القلوس من الإبل الفتية المجتمعة الخلق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها ثم هي ناقة. 33 - قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار - ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي خالد الوالي وهو ثقة، ورجال البزار أيضاً إلا شيخه أحمد بني حيى الصوفي: ثقة. انظر: مجمع الزوائد (9/ 321) كتاب المناقب - باب فضل خديجة بنت خويلد. أكريا: الكراء معناه أجر المستأجر. 34 - قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد (9/ 220) كتاب المناقب - باب: فضل خديجة بنت خويلد، وراجع نفس الحديث عند أحمد في مسنده (1/ 212).

تعليق حول الروايات السابقة

من قريش، فطَعِمُوا وشربوا حتى ثمِلُوا. فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه، فخلعته وألبسته حلةً، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء. فلما سري عنه سَكْرُه نظر فإذا هو مخلق وعليه حُلة. فقال: ما شأني؟ ما هذا؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله. فقال أنا أزوج يتيم أبي طالب إلا لعمري. قالت خديجة: ألا تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخير الناس أنك كنت سكران. فلم تزل به حتى رضي. تعليق حول الروايات السابقة: قال الواقدي: والثابت عندنا المحفوظ عن أهل العلم، أن أباها (أي خديجة) خويلد ابن أسد مات قبل الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: وفي زواج خديجة روايات كثيرة، وإنما أثبتنا هنا ما ذكر في الأصول التي اعتمدناها، وقد حمل بعضهم حملاتٍ منكرةً على هاتين الروايتين، لما ذكر فيهما من إسكار خديجة والدها، ولا أرى في ذلك شيئاً، بل هذا يدل على دهائها وحسن تأتيها للأمور، إذ الوقت وقت جاهلية ولا تحليل فيه ولا تحريم، وإذا انتفى المحظور، فبالإمكان الجمع بين هاتين الروايتين والمشهور، فقد تطلق العرب على العم أباً، فيكون المراد بالأب في الروايتين عم خديجة، إذا ثبت أن أباها كان متوفى وقتذاك. * * *

فصل: في رجاحة عقله صلى الله عليه سلم وتلقيبه بالأمين قبل البعثة

فصل: في رجاحة عقله صلى الله عليه سلم وتلقيبه بالأمين قبل البعثة 35 - * روى الإمام أحمد عن مجاهد عن مولاه أنه حدثه أنه كن فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولي حجر أنا أنحته بيدي أعبده من دون الله تعالى، فأجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشفر فيبول، فبنينا حتى بلغنا موضع لحجر، وما يرى الحجر أحدٌ، فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: نحن نضعه فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً، قالوا أول رجلٍ يطلع من الفج. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين فقالوا له فوضعه في ثوبٍ، ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه فوضعه هو صلى الله عليه وسلم. 36 - * روى الطبراني عن علي بن أبي طالبٍ - في بناء الكعبة - قال: لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل قالوا: قد جاء الأمين. فائدة حول تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود: في حادثة تجديد بناء الكعبة تجد كمال الحفظ الإلهي وكمال التوفيق الإلهي في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنك تجد كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها، وذلك معلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله. * * *

_ 35 - أحمد في مسنده (3/ 435) وقال الهيثمي في المجمع: وفيه هلال بن جنابٍ وهو ثقة وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح. اللبن الخاثر: الرائب. آنف: أنفاً وأنفه، استنكف واستكبر، يقال: فيهم أنف وأنفة. يشغر: أي يرفع الكلب إحدى رجليه ليبول. يتراءى منه وجه الرجل: أي كالمرأة. البطن: دون القبيلة ودون الفخذ. الفج: الطريق الواسع بين جبلين، وجمعه: فجاج وأفجة. 36 - قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير حفص بن عمر الضرير، وخالد بن عرعرة، وكلاهما ثقة. انظر: مجمع الزوائد (8/ 226) كتاب علامات النبوة، باب: ما كان يدعى به صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.

بركته ومحبة الناس له وثقتهم به

بركته ومحبة الناس له وثقتهم به: 37 - * روى الحاكم عن كندر بن سعيد عن أبيه قال: حججتُ في الجاهلية فإذا أنا برجلٍ يطوفُ بالبيت وهو يرتجزُ ويقول: رب رُدَّ إلي راكبي محمداً ... ردهُ إليَّ واصطنعْ عندي يداً فقلت: من هذا؟ فقالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث بابن ابنه محمدٍ في طلب إبل له ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد أبطأ عليه، فلم يلبث أن جاء محمد والإبل فاعتنقه، وقال: يا بُني لقد جزعت عليك جزعاً لم أجزعه على شيء قط، والله لا أبعثك في حاجةٍ أبداً، ولا تفارقني بعد هذا أبداً. أقول: ذكرت هذا الحديث هنا ليعلم كيف أن البركة والحب والشفقة كانت تحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً، فبركته يحسها الجميع، وكل من يعرف يحبه أصفى الحب وأرقاه، وكل من يخالطه يمتلئ قلبه ثقة به في صغره وكبره، ولو أنك تتبعت الروايات التي سجلها كتاب سيرته صلى الله عليه وسلم لوجدتها كلها تنصب فيما ذكرناه. 38 - * روى الحاكم عن صهيب قال: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحي إليه. أقول: نذكر هذا الحديث تأسيساً لموضوع سيطالعنا كثيراًن وهو أن كل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالطه قبل النبوة آمن به بعد النبوة كأشد ما يكون الإيمان وأرقاه، وصهيب واحد من هؤلاء، وذلك من أعلام نبوته، فلولا أن حياته قبل النبوة تستدعي الإيمان به، ما كان مخالطوه ليؤمنوا به على مثل هذه الشاكلة، فهذه خديجة وزيد وأبو بكر ... وغيرهم

_ 37 - المستدرك (2/ 603)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 38 - المستدرك: (2/ 400)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

فصل: في مقدمات بعثته صلى الله عليه وسلم

فصل: في مقدمات بعثته صلى الله عليه وسلم تطلعات إلى دين جديد صحيح: 39 - * روى البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نُفيلٍ بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرةً، فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: إني لست آكل مما تبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسمُ الله عليه، وأن زيد بن عمروٍ كان يعيبُ على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له. 40 - * روى البخاري قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله - ولا أعلمهُ إل تحدث به عن ابن عمر - أن زيد بن عمرو بن نُفيلٍ خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيدٌ: ما أفرُّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأني أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دينُ إبراهيم؛ لم يكن يهودياً ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فخرج زيدٌ فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحملُ من لعنةِ الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأني أستطيع؟ فهل تدلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيدٌ قولهم في إبراهيم - عليه السلام - خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدُ أني على دين إبراهيم. 41 - * روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: رأيتُ زيد بن

_ 39 - 40 - 41 - هذه الأحاديث الثلاثة أخرجها البخاري: (7/ 142 - 143) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 24 - باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل. بلدح: هو مكان في طريق التدميم بمكة، ويقال: هو وادٍ. أنصابكم: الأنصاب جمع نَصب، وهي الحجارة التي كانوا

عمرو بن نُفيل قائماً مُسنداً ظهرهُ إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيى الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنتهُ: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها. 42 - * روى أبو يعلي عن سعيد بن زيدٍ، قال: سألتُ أنا وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو، فقال: "يأتي يوم القيامة أمةً وحده". أقول: ذكرت هذه الروايات عن زيد بن عمرو بن نفيل ههنا للإشعار بأنه كانت قبل البعثة تطلعات لدين يروي ظمأ القلوب العطشى إلى الحق، ولكن هذه التطلعات كانت ترتد خائبة، فتجتهد، وكل ما تصل إليه كان محدوداً، وهذا كله من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فالناس بحاجة إلى دين صحيح، والاجتهادات لا تغني فتيلاً في هذا الشأن عن الوحي المعصوم، فأن يظهر رجل يروي الظمأ ويقيم صرح دينٍ كله حق يملأ الساحة البشرية إلى قيام الساعة فذلك وحده دليل على أن الرجل رسول الله وعلى أن دينه دين الله. ضلال العرب في عقائدهم وفساد تصرفاتهم: 43 - * روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا سَرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ

_ = ينصبونها ويذبحون عليها القرابين. وقول زيد: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم" يشعر بأنه توهُم أن هذا الذي دعي إليه قد ذبح على الأنصاب، ولم يكن الأمر كذلك" فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحاشى هذا وأمثاله من أمر الجاهلية، وما ورد من روايات تفيد ذلك فمرجعها إلى اختلاط بعض الرواة. الموءودة: هي الطفلة التي كانوا يدفنونها وهي حية، وذلك أنهم كانوا إذا ولد لهم بنت حفروا لها حفرة ودفنوها فيها وهي حية، يحملهم على ذلك الغيرة - في زعمهم - والبخل، فحرم الله ذلك. 42 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 417) - كتاب المناقب - باب ما جاء في زيد بن عمرو بن نفيل: رواه أبو يعلي، وإسناده حسن. 43 - البخاري (6/ 551) 61 - كتاب المناقب - 12 - باب قصة زمزم وجهل العرب.

سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى قوله: {.... قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (1). أقول: تذكر الآيات فيما بعد ذلك من سورة الأنعام أن العرب حرموا الإناث من الأنعام كما اعتبروا أن ما يفعلونه من كفر وشرك يمثل مشيئة الله، وتذكر هذه الآيات تكذيب العرب بالآيات واليوم الآخر، وإشراكهم بالله عز وجل، ولو أنك تتبعت نصوص الكتاب والسنة التي تتحدث عما كان عليه العرب وغيرهم قبل البعثة النبوية لرأيت عجباً، ولخلصت إلى أن من أعلام النبوة أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم والحال على ما هي عليه، لأنه لا أمل في أي نوع من الهداية للبشرية إلا بهذه البعثة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (2). 44 - * روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاحُ الناس اليوم يخطبُ الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه،

_ 44 - البخاري (9/ 182 - 183) 63 - كتاب النكاح - 36 - باب من قال: لا نكاح إلا بولي. وأخرجه أبو داود (2/ 281 - 282). الطمث: الحيض والدم. الاستبضاع: هو استفعال من البضع وهو الجماع، وذلك أن تطلب المرأة جماع الرجل لتنال منه الولد فقط، القافة: الذين يشبهون بين الناس، فيثبتون النسب بالشبه، فالتاط به: أي ألصقه بنفسه وجعله ولده. (1) الأنعام: 140. (2) البينة: 1/ 3.

نقل حول ما وصل إليه العرب من سوء الأحوال وحاجتهم إلى الدين الجديد

فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن راياتٍ تكن علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطتة به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم. أقول: هذا نموذج على ما كان عليه الحال في الجاهلية، فإذا ما عرفت أن بعض النساء كن يطفن بالكعبة عاريات أدركت أين وصل الإسفاف في العبادات وفي العلاقات، فإذا ما اجتمع لذلك عبادة الأصنام عرفت الرحمة الإلهية بالبشرية إذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأعطى أصفى أنواع التوحيد وأرقى أنواع العبادة وأطهر أنواع المعاملات والآداب. نقل حول ما وصل إليه العرب من سوء الأحوال وحاجتهم إلى الدين الجديد: لخص الأستاذ الندوي الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتذاك بقوله: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون في أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر. ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض جاهلية، ووثنية تخريبية، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي

الفترة التي بين عيسى ونبينا - عليهما الصلاة والسلام-

الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) قضية اقتلاع جرثومية الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخاً لا يتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية، والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف بكل مقاومة، وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طرق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون. وآخرها جنة الخلد التي وعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قول الله - تعالى - في معرض المن يبعثه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (2). * * * الفترة التي بين عيسى ونبينا - عليهما الصلاة والسلام -: 45 - * روى البخار يعن سلمان - رضي الله عنه - قال فترة بين عيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - ستمائة سنةٍ. نقل: قال الحافظ في الفتح: المراد بالفترةِ المدة التي لا يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها من يدعو إلى شريعة الرسول الأخير، ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا، وتعقب بأن الخلاف في ذلك منقول، فعن قتادة: .... خمسمائة وستين سنة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه.

_ 45 - البخاري: (7/ 237) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 52 - باب إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه. (1) الأنعام: 132. (2) آل عمران: 103.

إرهاصات بنبوته صلى الله عليه وسلم

أقول: قد يكون مرجع الخلاف بين روايتي سلمان وقتادة إلى أن أحدهما اعتبر الزمن الواقع بين البعثة والبعثة، وآخر اعتبر الزمن الواقع بين بعثة وميلاد، ولا يترتب على ذلك حكم، أو أن أحدهما أعتبر السنين الشمسية والآخر القمرية، والمشهور أن بين المولدين 570 سنة شمسية، والقياس بالسنة الشمسية أو القمرية يترتب عليه فارق كبير. ويلحظ من هذا الحديث طول فترة انقطاع الوحي، مما يؤكد حاجة الناس إلى من يصحح لهم المسار، ويربطهم من جديد بالسماء. * * * إرهاصات بنبوته صلى الله عليه وسلم: 46 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة، كان يُسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". 47 - * روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني أرى ضوءاً وأسمع صوتاً وإني أخشى أن يكون بي جنن". قالت: لم يكن الله ليفعل ذلك بك يا ابن عبد الله. ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقاً فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بعث وأنا حي فسأعززه وأنصره وأومن به. فائدة: في هذا الحديث والذي قبله مظهران من الإرهاصات والتمهيدات التي هيأت رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمر الجلل وهو استقبال الوحي

_ 46 - مسلم: (4/ 1782) - 43 - كتاب الفضائل - 1 - باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. والترمذي (5/ 593) 50 - كتاب المناقب - 5 - باب ما جاء في آيات نبوة النبي صلى الله عيه وسلم وما قد خصه الله به. وقال: حديث حسن غريب. 47 - رواه أحمد في مسنده (1/ 312)، والطبراني بنحوه وزاد: وأعينه. الناموس: صاحب السر المطلع على باطن أمرك، أو صاحب سر الخير. وجبريل - عليه السلام - " والظاهر أنه الوحي. عززه: شدده وقواه.

خاتمة الباب

خاتمة الباب ونختم هذا الباب بتعليق: هذه السيرة العامرة العطرة النظيفة قبل النبوة، كانت من أعظم التمهيدات للنبوة وللثقة بصاحبها، فإذا ما اجتمع إلى ذلك التمهيدات القديمة لهذه النبوة، فإن رصيداً ضخماً من المقدمات أوصل إلى أن يستقبل هذا العالم النبوة الخاتمة كاستقبال المطر، فلا غرو أن تنتشر رسالته هذا الانتشار. انظر إلى وصفه من قومه بالأمين قبل النبوة. انظر إلى وصف خديجة له - بما معناه - من أنه يصل الرحم، ويحمل المنقطع، ويقري الضيف، ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الحق. ثم انظر إلى البشارات به في النبوات السابقة، واصطفائه من العرب الأمة الفطرية، واختياره من ذرية إبراهيم لتكون له عراقة النبوة. وانظر إلى ما اختار الله له من كمال الاسم والنسب والتركيب الخلقي والخُلقي، وإلى الإرهاصات التي رافقت حياته الأولى. ثم انظر إلى ما سخره الله له وما هيأه له من علاقات نظيفة، وما كان فيه من فقر وعمل ويُتْمٍ وحلم وبُعد عن التطلعات الهابطة أو التطلعات الدنيوية. فإنك تجد في هذا كله قوة الأساس للمرحلة اللاحقة (مرحلة النبوة). إن هذا وغيره ليدل على أن قدر الله يسوق كل شيء لصالح هذه النبوة وهذه الرسالة، فلقد سبقت هذه الرسالة بمرحلة ممتدة في الزمان. وُجِدَت فيها كل المقدمات التي تخدم الدعوة الخاتمة من مكانة قريش بين العرب، والنسب إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وحفظ النسب من السفاح والضياع، وأخذ العهد على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أن يؤمنوا بمحمدٍ إذا بعث، وما سبق من تعميق قضية النبوة في الحياة البشرية.

كل ذلك كان مقدمات خدمت الرسالة الخاتمة والدين الخاتم الذي ستطالب به البشرية كلها. ولعل من أهم المقدمات التي تقدمت الدعوة الإسلامية فساد الدين والدنيا قبل البعثة؛ فالنصوص الدينية حُرفت، والتصورات خرفِت، والضمائر فسدت، والظلم كثر، والشهوات تحكمت، والفطرة البشرية السليمة بدأت تتطلع إلى نبوة جديدة ورسول، وجاءت النبوة والرسالة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ * * *

الباب الثاني من البعثة حتى الاستقرار في المدينة

الباب الثاني من البعثة حتى الاستقرار في المدينة

هذه المرحلة في سطور

هذه المرحلة في سطور * بعد ثلاث سنوات من العزلة والخلوة، وبعد ستة شهر من الرؤيا الصادقة، وفي يوم الإثنين لإحدى وعشرين مضت من رمضان ليلاً - على ما رجحه المباركفوري في (الرحيق المختوم) - وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثني عشر يوماً، أي تسعة وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، نزل عليه الوحي. * أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة بما حدث فطمأنته، وأخبرت هي بدورها ورقة بن نوفل فطمأنها وبشرها بأنها النبوة. * فتر الوحي بعد ذلك أياماً لتذهب حرة المفاجأة وليحدث التشوق، ثم ظهر له جبريل مرة ثانية جالساً على كرسي بين السماء والأرض، فعاد إلى أهله طالباً التزمل والتدثر فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ....} و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * ....}، وكان في ذلك الأمر بالتبليغ والدعوة. * بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو سراً، واستمرت الدعوة السرية ثلاث سنين، ثم دعا جهراً في مكة، فلم يتحرك أحد من أهلها أو ممن حولها أو ممن يأتي إليها حاجاً أو معتمراً إل وقد حاول إيصال الدعوة إليه، على مدى سبع سنين بعد الدعوة السرية، ثم حاول أن يخرج بالدعوة إلى الطائف في السنة العاشرة، ولكن أهل الطائف لم يستجيبوا له، فعاد إلى مكة ودخلها في حماية المطعم بن عدي، ثم بعد ذلك وعلى مدار ثلاث سنوات دخل الإسلام إلى المدينة المنورة، وتمت في اسنتين الأخيرتين بيعتا العقبة الأولى والثانية، ثم كان الإذن بالهجرة والاستقرار في المدينة. * استجاب للدعوة خلال المرحلة السرية حوالي أربعين نفراً - ويرى بعضهم أن هذا العدد لم يكتمل إلا في السنة السادسة أي بعد ثلاث سنين من الجهر على رأي ابن هشام - وكانت الصلاة المفروضة عليهم وقتذاك - وبقي هذا حتى حادثة الإسراء - ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي - على قولٍ -، وقد فرض عليهم في المرحلة الأولى قيام الليل. * بدأت الدعوة الجهرية بدعوة عشيرته الأقربين جهراً، دعوة جماعية، ثم دعا قريشاً

جميعها دعوةً جماعيةً، ثم بدأ ينقض البنيان الديني للناس نقضاً مباشراً وصريحاً؛ وههنا بدأ أصعب صراع وأشده، ومنذ المرحلة السرية بدأ الكيد يأخذ أبعاده الكثيرة المتعددة، والإيذاء ينصب على المسلمين الذين لا يجدون حماية. * ثم زاد الأمر شدة فتمخض ذلك عن الهجرة الأولى إلى الحبشةن وانطلق أول فوج في رجب من السنة الخامسة للبعثة وكان مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة. * ثم حدثت حادثة مشاركة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده إثر تلاوة سورة (النجم)، فبلغ ذلك مهاجري الحبشة فظنوا أن قريشاً أسلمت فرجعوا، ثم تبين لهم كذب الشائعة فرجع بعضهم إلى الحبشة، ودخل بعضهم مكة مستخفياً أو في جوار، واشتد البلاء على المسلمين، فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وفي هذه المرة هاجر ثلاثة وثمانون رجلاً وثماني عشرة امرأة أو تسع عشرة امرأة، وكادت قريش للمسلمين عند النجاشي ولكنها لم تفلح. * ثم لجأت قريش إلى تهديد أبي طالب وإغرائه ليتخلى عن محمد صلى الله عليه وسلم أو يُسلمه إياها، فباءت محاولاتها بالفشل. * وأسلم في السنة السادسة للبعثة حمزة وعمر بن الخطاب وكان إسلامهما نصراً وفتحاً، وههنا مالت قريش للمفاوضة والمسالمة فلم تنجح، وجد أبو طالب في الحماية فعبأ بني هاشم وبني المطلب لذلك. فاجتمعوا على ذلك ما عدا أبا لهب. * وعلى إثر هذا كله تعقدت قريش في السنة السابعة للبعثة على مقاطعة المسلمين ومقاطعة بني هاشم وبني المطلب، ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، حتى يُسلموا إليهم رسول الله صلى الله لعيه وسلم. وكانت محنةً عظيمة استمرت ثلاث سنين. * وفي المحرم سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق بتوفيق من الله، تم بترتيب من بعض المتعاطفين وأصحاب الأريحية. * ثم حاولت قريش المحاولة الأخيرة مع أبي طالب ليثنوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وهو

على فراش المرض، فلم تنجح. * وكان العام العاشر للبعثة عام حزن، فقد توفي فيه أبو طالب في رجب سنة عشر للبعثة بعد الخروج من الشعب بستة أشهر، وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين - على قولٍ - توفيت أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة ولها خمس وستون سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره، وفقد بذلك الدعم البيتي والدعم الخارجي، ولله في ذلك حكمة، وتجرأ المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزادوا في أذاه، فخرج إلى الطائف لعله يجد أرضاً أكثر خصباً، ولكن لم يجد استجابة. * وفي شوال من السنة العاشرة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - على إثر وفاة خديجة، وكانت ممن أسلم قديماً وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو الذي توفي بأرض الحبشة أو بعد العودة إلى مكة. * وفي موسم الحج في السنة الحادية عشرة من النبوة دخلت الكوكبة الأولى من خزرج المدينة في الإسلام وكانوا ستة وعادوا دعاة مبشرين، ففشا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي شوال من نفس السنة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة - رضي الله عنها - وكانت صغيرة السن؛ لذلك لم يدخل بها إلا بعد الهجرة. * وفي هذه المرحلة حدثت حادثة الإسراء - على خلاف كبير في تعيين زمنها، هل هو في السابع والعشرين من رجب في السنة العاشرة للبعثة؟ أم في رمضان في السنة الثانية عشرة للبعثة؟ أو المحرم في السنة الثالثة عشرة للبعثة؟ أو ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة؟ وهناك أقوال أخرى. وأشهر الأقوال وأقواها القول الأول. * وفي السنة الثانية عشر للبعثة وافى موسم الحج اثنا عشر نفراً من المدينة منهم خمسة سبقوا في العام السابق وسبعة جدد وكانت بيعة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء مصعب ابن عمير ليعلمهم ويفقههم ويقرئهم القرآن ويدعو إلى الله، وانتشر الإسلام في المدينة. * وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة تمت بيعة العقبة الثانية مع بضع وسبعين نفراً من أهل المدينة المنورة، واختاروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيباً منهم.

من ملامح هذه المرحلة

* جاء بعد ذلك الإذن بالهجرة، وتآمرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه وأنجاه الله منهم، وكانت الهجرة، وتم الاستقرار في المدينة، وكانت مرحلة جديدة. * * * من ملامح هذه المرحلة 1 - إنها مرحلة تبليغ ودعوة مستمرين، فلقد سمع بالدعوة كل العرب تقريباً، ولقد استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسم الحج، فبلغ تبليغاً مباشراً على مدى سنوات كل من استطاع الوصول إليهم. قال المقريزي: ثم عرض نفسه على القبائل أيام الحج، ودعاهم إلى الإسلام وهم: بنو عامر وغسان وبنو فزارة وبنو مرة وبنو حنيفة وبنو سليم وبنو عبس وبنو نصر وثعلبة بن عكاية وكندة وكلب وبنو الحارث بن كعب وبنو عُذرة وقيس بن الخطيم وأبو الحيسر أنس بن أبي رافع وبنو شيبان وبنو مجاشع وسويد بن الصامت والطفيل بن عمرو الدوسي وصمام بن ثعلبة. وقد اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة. ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بكِندة فدعاهم إلى الإسلام ثم أتى كلباً ثم بنى حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: مَنْ رجلٌ يحملني إلى قومه فينعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا؛ وعمُّه أبو لهب وراءه يقول للناس: إنه كاذب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه شاعر، أكاذيب يقترفونه بها حسداً من عند أنفسهم وبغياً؛ فيُصغي إليهم من لا تمييز له من أحياء العرب، وأما الألباء فإنهم إذا سمعوا كلامه صلى الله عليه وسلم وتفهموه شهدوا بأن ما يقوله حق وصدق، وأن قومه يفترون عليه الكذب، فيسلمون. 2 - إنها مرحلة تكوين رفيع المستوى للجيل الأول، فقد انصهر فيها ذلك الجيل بالمعاني القرآنية واحترق بمعاني العبادة، وخرج ذهباً من محنة الاضطهاد والإيذاء

والتشكيك، وتجرد للآخرة حق التجرد، وانسلخ عن الجاهلية انسلاخاً تاماً، وبذلك وُجِدَ الجيل القادر على حمل الدعوة وصهرِ الناس فيها حتى إذا جاءت مرحلة الدولة في المدينة المنورة كان الملاك القيادي معداً. لقد كانت المرحلة المكية مرحلة تعريف وتكوين، وضع فيها الأساس للعمل الدعوي والتكويني إلى قيام الساعة، كما أنها المرحلة التي تعد لأعباء المرحلة اللاحقة مرحلة الجهاد المتواصل، على أعلى وأرقى ما يكون. لقد كانت مرحلة مران على ضبط النفس والطاعة المطلقة، وكانت مرحلة تعلق بالمثل العليا - وهم رسل الله صلى الله عليه وسلم جميعاً - ولذلك نزلت أكثر قصص الأنبياء في هذه المرحلة. وقد أخذ الأستاذ البنا - رحمه الله - من هذه المرحلة والمرحلة اللاحقة فكرته الرئيسية: أن الدعوة الإسلامية مر بثلاث مراحل: مرحلة التعريف ومرحلة التكوين ومرحلة التنفيذ. ولقد صاغ نظريته هذه متأسياً بالسيرة، ومنسجماً مع اكتمال الوحي واستقرار التشريع، وملاحظاً الأوضاع المعاصرة للمسلمين، فكانت نظرية لا أجمل منها ولا أكمل. 3 - وتجد في هذه المرحلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتجنب الصراع السياسي والصراع العسكري، ويكرس كل جهوده للوصول بالدعوة إلى قلوب الناس وعقولهم، دون أن يعطي لعدوه فرصة الاستئصال للدعوة والداعية، بل كان كثير الحرص على تأمين الحماية للدعوة والداعية والمستجيبين، ولقد عدّد الطرق التي تتأمن بها الحماية: فمن دخول في حماية، إلى أمر بهجرة، إلى طلب لبعضهم أن يعيشوا في أكناف قبائلهم مستفيداً من الأعراف والعادات والتقاليد. وهذا وضع يجب أن يفطن له الدعاة فلا يعطوا فرصاً لخصومهم كي يستأصلوهم، وعليهم أن يستفيدوا من الأعراف الدولية والقوانين المحلية ليعطوا لدعوتهم فرصة السير. 4 - كما أنه من الواضح في هذه المرحلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائب البحث عن الجهة القادرة على حماية هذا الدين ونصرته والقيام بنشره، وفي اصطلاح عصرنا كان دائم

البحث عما تقوم به دولة الإسلام يعيش المسلمون في ظلها أحراراً آمنين، وتقوم هذه الدولة بحمل الإسلام والتبشير به والانتصار له ولأهله، وجاءت الفرصة بقبول الأوس والخزرج القيام بهذا الدور، وبذلك قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وهذا درس للدعاة ألا تقف هممهم دون الوصول إلى دولة للإسلام تقيمه في واقع الحياة وتحمي حماه. 5 - إنها مرحلة بطيئة من حيث الكم كبيرة من حيث الكيف؛ لأنها المرحلة التي تمهد لكل المراحل اللاحقة إلى قيام الساعة. * * *

فصل: في بدء الوحي وفترته واستئنافه

فصل: في بدء الوحي وفترته واستئنافه 48 - * روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنثُ فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لِمُثُلِهَا. حتى جاءه الحق - وفي رواية: حتى فجأه الحق - وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئٍ، قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأن قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهدُ، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ!؟ فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني،

_ 48 - البخاري (1/ 33) 1 - كتاب بدء الوحي. 2 - باب حدثنا يحيى بن بكير. مسلم (1/ 129) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. التحنُّث: التعبد وهو أن يفعل فعلاً يخرج به من الحنث، وهو الإثم. نزعتُ إلى أهلي: أي رجعت. غطه: إذا حطه بشدة كما يغطه في الماء إذا بالغ في حطه فيه. الجهد: بفتح الجيم: المشقة، وبضمها: الطاقة، وقيل: هما لغتان. زملوني: التزميل والتدثير: واحد وهو التغطية والتلفف في الثوب. لقد خشيت على نفسي تكلم العلماء في معنى هذه الخشية بأقوال كثيرة: فذهب أبو بكر الإسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه: مجنون. وقد قيل في قوله: "لقد خشيت على نفسي"، أي: خشيت ألا أنهض بأعباء النسوة، وأن أضعف عنها، ثم أزال الله خشيته، ورزقه الأيد والقوة والثبات والعصمة، وقد قيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والإذاية الشديدة ما يخشاه البشر، ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية، ويجلب إلى قلبه كل شجاعة قوة. الكل: الأثقال والحوائج المهمة والعيال، وكل ما يتكلفه الإنسان من الأحوال، ويحمله عن غيره فهو كلّ. تكسب المعدوم: جعل الكسب لنفسه وأنه يصل إلى كل معدوم ويناله فلا يتعذر عليه لتعذره. وقيل: أي يعطي الشيء المعدوم غيره ويوصله إلى كل من هو معدوم عنده. ويقال كسبت مالاً: وكسبت زيداً مالاً: أي أعنته على كسبه ومنهم من عداه بالهمزة، يقال: أكسبت زيداً مالاً، أي جعلته يكسبه. والقول الثاني أولى القولين، لأنه أشبه بما قبله في باب التفضل والإنعام، إذ لا إنعام أن يكسب هو لنفسه مالاً كان معدوماً عنده، وباب الحظ السعادة في الاكتساب غير باب التفضل والإنعام، الناموس: صاحب سر الملك الذي لا يحضر إلا بخير، ولا يُظهر إل الجميل، وسمي جبريل عليه السلام ناموساً، لأنه مخصوص بالوحي والغيب الذي لا يطلع عليه أحد من الملائكة سواه. =

فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (1). فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: "زملوني، زملوني، زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروعُ، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسدٍ بن عبد العزى ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي - فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيه جذاعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحي. قال البخاري: وتابعه هلال بن رداد عن الزهري، وقال يونس ومعمر: (ترجف بوادره). وفي حديث معمر عن الزهري عند مسلم (فوالله لا يحزنك الله أبداً) بالحاء والنون. وزاد البخاري (2) في رواية أخرى قال: (وفتر الوحي فترة، حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم -

_ = جذعاً: الجذع هاهنا: كناية عن الشباب، يقول: يا ليتني كنت شاباً عند ظهورك لأنصرك وأعينك. نصراً مؤزرا: أي: مؤكداً قوياً، ترجف: تخفق وبوادره جمع بادرة، وهي اللحمة تكون بين عتق الإنسان ومنكبه، وكذلك في غير الإنسان. (1) العلق: 1، 2، 3. (2) البخاري (12/ 352) 11 - كتاب التعبير - 1 - باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة. يتردى: التردي: الوقوع من وضع عال، الشواهق: الجبال العالية، الواحد: شاهق، أوفى: أشرف على الشيء. وذروة كل شيء: أعلاه، الجأش: الجنان والقلب.

السر في الخلوة

فيما بلغنا - حُزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يُلقي نفسه منه: تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك). وأخرج الترمذي (1) طرفاً من هذا الحديث عن عائشة قالت: (أول ما ابتُدئ به رسول الله صلى الله عيه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به: أن لا يرى شيئاً إلا مثل فلق الصبح فمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث، وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو. * * * السر في الخلوة: عند قوله: (ثم حبب إليه الخلاء) قال صاحب الفتح: والخلاء بالمد الخلوة، والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له. أقول: وقد أخذ بعض أهل السلوك إلى الله من ذلك فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحل السلوك؛ لتنوير القلب وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفواته، وبعضهم يستحبها للسالك في أول سيره ويركز على الاعتكاف في رمضان وغيره، أخذاً من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الابتداء والانتهاء. * * * حياته قبل النبوة: عند قول خديجة: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك .....). قال صاحب الفتح: استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي،

_ (1) الترمذي (5/ 596) 50 - كتاب المناقب، باب: 6. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.

المراحل الأولى للوحي

وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفناه به. أقول: لعل أبلغ وصف توصف به حياته - عليه الصلاة والسلام - قبل النبوة ما وصفته به خديجة - وهي أعرف الخلق به - لقد اجتمع له - عليه الصلاة والسلام - أطهر قلبٍ وأكرمُ سلوكٍ، فكانت كرامة الله. * * * المراحل الأولى للوحي: قال في الفتح: (فائدة): وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان. وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. أخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: "بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر

الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم، والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر. فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال ثلاث عشرة أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً. أقول: على القول: إن فترة الوحي كانت ثلاث سنين فيكون نزول سورة المدثر والمزمل بعد بدء الوحي بثلاث سنين، وبسبب هذا القول ذهب من ذهب أن النبوة كانت على رأس الأربعين، وأن الرسالة كانت بعد ثلاث سنين، والراجح عندي أن الأمر بالدعوة لم يكن متأخراً كثيراً عن بدء الوحي، ولكن منذ بدء الوحي حتى انتهاء الفترة السرية كان ثلاث سنين، وعلى كل الأحوال فإن سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت بعد فترة الوحي، وعلى هذا تحمل الرواية التي تذكر أن أول ما نزل سورة المدثر فهي أولية نسبية ذلك أنها أول ما نزل بعد فترة الوحي. 49 - * روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: سعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدث عن فترة الوحي قال: "فقلت زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " قال هي الأوثان. يؤكد هذا الحديث أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الحي فليس هي أول سورة نزلت بإطلاق، بل هي أول ما نزل بعد فترة الوحي. 50 - * روى البخاري عن جُندُب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: اشتكى رسولُ

_ 49 - المستدرك (2/ 251) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه اللفظة. زملوني: أي لفوني بثيابي، والمزمل هو الملتف بثيابه، وكذلك دثروني. الأوثان: الأصنام، والوثن هو الصنم. 50 - البخاري (8/ 710) 65 - كتاب التفسير - 93 - سورة الضحى - 1 - باب: ما ودعك ربك وما قلى. ومسلم (3/ 1422) 32 - كتاب الجهاد والسير - 39 - باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين. =

الله صلى الله عليه وسلم، فلميقُم ليلتين أو ثلاثاً، فجاءته امرأةٌ، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (1). وفي رواية قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال المشركون: قد ودع محمدٌ، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. 51 - * روى الترمذي عن جُندب البجلي قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غارٍ، فدميتْ إصبعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ ... وفي سبيل الله ما لقيتِ؟ قال: فأبطأ عليه جبريل عليه السلام، فقال المشركون: قد ودع محمدٌ، فأنزل الله تبارك وتعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. ذكرت هذه الرواية ههنا لأنه اختلط على بعض العلماء فترة الوحي هذه بفترة الوحي التي كانت بعد فجأة الوحي وليس ذلك صحيحاً. قال صاحب الفتح: والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الحي. فإن تلك دامت أياماً وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثاً. وههنا إشكال: أن بعض الروايات تذكر: أن خديجة قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، وقد قال صاحب الفتح في هذا: وقع في رواية أخرى عن الحاكم (فقالت خديجة) وأخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الله بن شداد (فقالت خديجة ولا أرى ربك) ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه

_ = اشتكى: أي: مرض. والمرأة: هي أم جميل - بفتح الجيم - امرأة أبي لهب وأخت أبي سفيان، وقرب: بالضم لازم، يقال: قرب الشيء، أي: دنا، وبالكسر: متعد، يقال: قربته، أي: دنوت منه. شيطانك: أي أنها كانت تقول عن الوحي شيطان، قاتلها الله وتبت يداها ويدا زوجها. والليل إذا سجى: أي ثبت بظلامه وسكن بأهله. قلا: قلاه: إذا هجره، والاسم: القلي. ودع: أي فورق، ويقال ودع المسافر الناس أي فارقهم محيياً لهم. (1) الضحى: 1 - 3. 51 - الترمذي (5/ 422) 48 - كتاب تفسير القرآن - 82 باب: ومن سورة الضحى، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

(فقالت خديجة لما ترى من جزعه)، وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلاً من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت - لكونها كافرة - بلفظ شيطانك. وخديجة عبرت - لكونها مؤمنة - بلفظ ربك أو صاحبك، وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعاً. وفي الجمع بين سببي النزول لقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، أقول: إنه قد يتكرر نزول الآية مرة بعد مرة على إثر حوادث متعددة. 52 - * روى البخاري ومسلم عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قال أبو سلمة سألت جابراً، فقلت له مثل ما قلت لي، فقال لي جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله لعيه وسلم، قال: "جاروتُ بحراءٍ شهراً، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرتُ عن شمالي، فلم أر شيئاً، ونظرتُ أمامي فلم أر شيئاً، ونظرتُ خلفي، فلم أر شيئاً، فرفعتُ رأسي، فرأيت شيئاً، فأتيتُ خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماء بارداً، فنزلت {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (1) " وذلك قبل أن تفرض الصلاة. وفي رواية (2) "فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديتُ فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ، فنظرت فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي، فإذا هو قاعدٌ على عرشٍ في

_ 52 - والبخاري (8/ 676) 65 - كتاب التفسير - 74 - سورة المدثر. مسلم (1/ 144) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضيت جواري: أي محاورتي واعتكافي في الغار. فاستبطنت الوادي: أي: صرت في باطنه، فأخذتني رجفة شديدة: الرجفة: الاضطراب. (1) المدثر: 1 - 5. (2) مسلم (1/ 144) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الهواء - يعني جبريل - فأخذتني رجفةً شديدةً، فأتيت خديجة فقلت: دثرُوني، فدثِّروني، وصبوا عليَّ ماءً بارداً، فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ". وفي رواية (1) "فإذا هو جالسٌ على العرش بين السماء والأرضِ". وفي رواية (2) عن أبي سلمة عن جابرٍ قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُحدثُ عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعتُ رأسي، فإذا الملكُ الذي جاءني بحراءٍ جالسٌ على كُرسيٌّ بين السماء والأرض فجُثِثْتُ منه رعباً، فرجعت، فقلتُ: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " قبل أن تُفرض الصلاة، والرُّجزُ هي الأوثان. وفي أخرى "فجُثِثْتُ منهُ حتى هويت إلى الأرضِ" وفيه: قال أبو سلمة (والرُّجزُ: الأوثان) قال: "ثم حمِيَ الوحيُ، وتتابع". وأول هذه الرواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثُمَّ فترَ الوحيُ عنِّي فترةً، فبينا أنا أمشي ... " ثم ذكر نحوه. أقول: أولية نزول {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أولية نسبية فهي أول ما نزل بعد فترة الوحي. فالصحيح أن أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وأما {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فكانت بعد ذلك. ويصدق في ذلك ما وقع في بعض روايات هذا الحديث "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" وقوله "ثم تتابع الوحي" أي بعد فترته.

_ (1) البخاري (8/ 678) 65 - كتاب التفسير - 74 - سورة المدثر - باب: (وثيابك فطهر). (2) مسلم (1/ 145) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب: بدء الوحي. فإذا هو على العرش: المراد بالعرش الكرسي. قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل سرير الملك. قال تعالى: (ولها عرش عظيم). فجُثثتُ منه: يقال: "جُثِثْتُ" بهمزة قبل ثاء، وبثاءين، وبياءٍ وتاءٍ: كلمة بمعنى فَزِعْتُ، والذي في الرواية: الأول: هويت: هوى إلى الأرض وأهوى إليها. أي: سقط. ثم حمى الوحي وتتابع: أي كثر نزوله وازداد من قولهم حميت الشمس والنار أي قويت حرارتها.

وقبل كل ذلك الحديث الطويل الذي رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها في قصة أول بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول جبريل عليه بحراء. بدأ الوحي بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعد فترة نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} .... {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} فلنقف وقفة عند ذلك: عند قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال السهيلي: أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقكم وكما نزعه عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية. أقول: أخذ بعض أهل السلوك إلى الله عز وجل من هذا أن السالك إلى الله يبدأ بقراءة هذا الكون مستعيناً باسم الله، حتى إذا احترق بالذكر وأذن له شيوخه بالدعوة إلى الله قام بالدعوة، وعليه في هذا الحال أن يجتمع له دعوة وعبادة {قُمْ فَأَنْذِرْ} {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ولا ينجح بالدعوة إلا من اجتمع له تعظيم الله {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وطهارة الظاهر والباطن {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} والتباعد عن عبادات الجاهلية {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والعمل مع رؤية التقصير {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} والصبر على مقتضيات الدعوة {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}. * * *

فصل: في ظاهرة الوحي

فصل: في ظاهرة الوحي 53 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشامٍ - رضي الله عنه - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللهِ، كيف يأتيك الوحيُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحياناً يأتيني مثل صلصلةِ الجرسِ - وهو أشَدُّه عليَّ - فيَفْصِمُ عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيُكلمني، فأعي ما يقولُ". قالت عائشة - رضي الله عنها -: ولقدْ رأيته ينزلُ عليه الوحيُ في اليوم الشديد البردِ فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصدُ عرقاً. وفي رواية النسائي (1) إلى قوله: "فيفصمُ عني وقدْ وعيتُ عنهُ" ثم قال: "وهو أشدُّ عليَّ، وأحياناً يأتيني في مثل صورة الفتى، فيبذُهُ إليِّ". 54 - * روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويِّ النحلِ، فانزل عليه يوماً فمكثنا ساعةً فسُرِّي عنهُ فاستقبل القبلةَ ورفع يديهِ وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنا، وأعطنا ولا حرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أُنزل علي عشر آياتٍ، من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) حتى ختم عشر آيات. 55 - * روى أحمد عن عائشة قالت: إنْ كان ليُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على

_ 52 - البخاري (1/ 18) 1 - كتاب بدء الوحي، باب: 2. ومسلم (4/ 1817) 43 - كتاب الفضائل - 22 - باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد، وحين يأتيه الوحي. والترمذي (5/ 597) 50 - كتاب المناقب - 7 - باب: ما جاء كيف كن ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح. الصلصلة: صوت الأشياء الصلبة اليابسة. قصم عني: انفصل عني وفارقني، وعيت الكلام: إذا حفظته وعرفته. ليتفصد عرقاً: أي: جرى عرقه كما يجري الدم من الفصاد. فينبذه إليَّ: أي يلقيه إليَّ. (1) النسائي (2/ 146) كتاب الافتتاح باب: جامع ما جاء في القرآن. 54 - الترمذي (5/ 326) 48 - كتاب تفسير القرآن - 24 - باب: ومن تفسير سورة المؤمنين، وهو حديث حسن. كدوي النحل: صوتها وطنينها. آثرنا ولا تؤثر علينا: أي أكرمنا ولا تكرم غيرنا دون أن تكرمنا. (2) المؤمنون: 1. 55 - أحمد في مسنده (6/ 118) وقال عنه الهيثمي في المجمع (8/ 257): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

راحلته فتضرب بجِرَانِهَا. 56 - * روى الطبراني عن زيد بن ثابت قال: كنُتُ أكتبُ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه أخذتهُ برحاء شديدةً وعرقَ عرقاً شديداً مثل الجانِ ثم سُرِّي عنهُ، فكنتُ ادخلُ عليه بقطعةِ العسبِ أو كسرهِ فأكتبُ وهو يملي عليَّ، فما أفرغُ حتى تكادُ رجلي تنكسرُ من ثقل القرآن حتى أقول لا أمشي على رجلي أبداً، فإذا فرغتُ قال اقرأهُ فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس. 57 - * روى مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي كُرِب لذلك، وتربَّدَ وجهه. وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عيه الوحيُ نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما أبلَّ عنه رفع رأسهُ. وفي رواية (1): كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه كُرِبَ لذلك، وتربّد له وجهه، فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سُري عنه قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البِكرُ بالبِكرِ جلدُ مائةٍ، ونفيُ سنة، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائة والرجمُ".

_ = فتضرب بجرانها: أي تمد عنقها على الأرض من التعب. قال الحافظ في الفتح: الجران بكسر الجيم وتخفيف الراء المفتوحة: باطن العنق والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي وهو راكب على راحلته بركت من ثقل الوحي وضربت الأرض بباطن عنقها. أي مدت عنقها على الأرض لأن في ذلك راحة لها. 56 - الطبراني (5/ 142) وقال الهيثمي في المجمع (8/ 257): رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقلت. الوحي: الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك والصوت يكون في الناس وغيرهم والوحي ما يوحيه الله إلى أنبيائه. برحاء: البرحاء: الشدة. ومنه برحاء الحمى، الجمان: اللؤلؤ. سري: مضى وذهب. العسب: (العسيب) من النخل مستقيمة دقيقة يكشط خوصها والذي لم يثبت عليه الخص من السعف. 57 - مسلم (4/ 1817) 43 - كتاب الفضائل - 23 - باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد، وحين يأتيه الوحي. كرب الملك: أي أصابه الكرب وهو المشقة. تربد: أي تغير لون وجهه فأصبح قريباً من لون السحاب. أبلٌ: المريض من مرضه: إذا زال عنه، وكذلك المغمى عليه، والمراد: زوال ما كان يعرض عند نزول الوحي، وكذلك سُري عنه، أي: كشف عنه ذلك. (1) مسلم (3/ 1366) 26 - كتاب الحدود - 3 - باب حد الزنى.

سبب ورود قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد جعل الله لهن سبيلاً" أن الله عز وجل قد أنزل في سورة النساء في الحكم بشأن من يزني من النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1). قال مكي بن أبي طالب في الإيضاح: كان الله جل ذكره قد فرض في الزانين المحصنين إذا شهد عليهما بالزنا أربعة شهود أن يحبسا في البيت حتى يموتا أو يجعل الله لهما سبيلاً، فجعل الله السبيل بالرجم، المتواتر نقله، الثابت حكمه للمنسوخ تلاوته. 58 - * روى البخاري عن صفوان بن يعلي بن أمية، أني يعلي كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعُرانة وعليه ثوب قد أظل عليه ومعه الناس من أصحابه، إذ جاءهُ رجل متضمخٌ بطيب فقال: يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي: فأشار عمر إلى يعلي أي تعال، فجاء يعلي فأدخل رأسه، فإذا هو محمرُّ الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه فقال: أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً؟ فلا تمس الرجل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجُبة فأنزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك". ذكرنا هذه النصوص ههنا للتعريف على ظاهرة الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ظاهرة لا تشبه أي ظاهرة من الظواهر التي علل بها الكافرون لحدوثها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن تعليلاتهم حقد خالص، فمن يصدق أن ظاهرة مرضية من الظواهر التي يزعمون أن يخرج على أثرها نص كنصوص القرآن؟ وقد ناقش الأستاذ البوطي في كتابه فقه السيرة المشككين في ظاهرة الوحي ثم قال:

_ (1) النساء: 16. 58 - البخاري (9/ 9) 66 - كتاب فضائل القرآن - 3 - باب نزول القرآن بلسان قريش والعرب. ومسلم (2/ 837) 150 - كتاب الحج - 1 - باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه.

إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً ضرباً من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال. وإذاً فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمداً عليه الصلاة والسلام، وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده الله عز وجل. وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحدٌ منهم سواه؟ والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن تُرى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحد معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوماً إذا ابتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جل جلاله - وهو الخالق لهذه العيون المبصرة - أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: إن عمي الألوان مثلاً يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهناك أيضاً مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علمياً أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون. فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية. ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل نفس الدلالة على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي. 1 - التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فوراً، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة بله، بل لأن القرآن موحي به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما

الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو. 2 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور فلا يجيب عليها، وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزل آيات من القرآن تصرف عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له. 3 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً، وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف، وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة فرعون، ولقد كان هذا من جملة الحِكَم في كونه صلى الله عليه وسلم أمياً: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1). 4 - إن صدق النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقاً مع نفسه بما لا يمكن أن يشك في صدقه فيما بعد ذلك، أهـ. وقال الدكتور مصطفى السباعي: إن الله إذا أراد لعبد أن يوجهه لدعوة الخير والإصلاح ألقى في قلبه كره ما عليه مجتمعه من ضلال وفساد. إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يكن يستشرف للنبوة، ولا يحلم بها. وإنما كان يلهمه الله الخلوة للعبادة تطهيراً، وإعداداً روحياً لتحمُّل أعباء الرسالة. ولو كان عليه الصلاة والسلام يستشرف للنبوة، لما فزع من نزول الوحي عليه، ولما نزل إلى خديجة يستفسرها عن سر تلك الظاهرة التي رآها في غار حراء. ولم يتأكد من أنه رسول إلا بعد رؤية جبريل يقول له: يا محمد أنت رسول الله. وأنا جبريل، وإلا بعد أن أكد له ولخديجة وورقة بن نوفل أن ما رآه في الغار هو الوحي الذي كان ينزل على موسى عليه الصلاة والسلام. * * *

_ (1) العنكبوت: 48.

أقسام الوحي

أقسام الوحي: ذكر ابن القيم وغيره مراتب الوحي فأوصلوها إلى الثمانية: إحداها: الرؤيا الصادقة. وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم. الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته". الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً. الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها. الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن. وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء. وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي: تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف. [الرحيق المختوم]. * * *

حفظ أمر السماء بعد النبوة

حفظ أمر السماء بعد النبوة: 59 - * روى البخاري عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظٍ، وقد حِيلَ بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبني خبر السماء، وأرسلت علينا الشهبُ. قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخالة وهُو عامدٌ إلى سوق عكاظٍ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بنكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نُشرك بربنا أحداً. وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} (1) وإنما أوحي إليه قول الجن. هذه رواية البخاري. وقد أخرجها مسلم مع زيادة فيها نفي ابن عباس لرؤية الجن

_ 59 - البخاري (8/ 669) 65 - كتاب التفسير باب - 1، سورة (قل أوحي إليَّ). ومسلم (1/ 321) 4 - كتاب الصلاة - 33 - باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. هامدين: عمدتُ إلى الشيء: قصدت نحوه. عكاظ: موسم معروف للعرب قال في الفتح، بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخل في واد بين مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب، بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن. وقال البكري: أول ما أحدثتْ قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقاً إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، وكانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان: سأنشر إن حييت لكم كلاماً ... ينشر في المجامع من عكاظ وكان المكان الذي يجتمعون به منه يقال له الابتداء. وكانت هناك صخور يطوفون حولها، ثم يأتون بحنة فيقيمون بها عشرين ليلة من ذي القعدة. ثم يأتون ذا المجاز، وهو خلف عرفة فيقيمون به إلى وقت الحج. جيل: حلت بين الشيئين: فصلت بينهما، ومنعت أحدهما من الآخر. تِهامة: بكسر التاء: وهو اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، ومكة من تهامة. نخلة: بفتح النون وسكون المعجمة. موضع بين مكة والطائف، على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخل. وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر: المراد به ههنا صلاة الغداة في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس لأن الصلوات الخمس فرضت ليلة الإسراء، أما قبل ذلك فقد كان الفرض صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها.

وذلك محمول على ما كان في ابتداء النبوة وهو ما ذكره ابن عباس هنا، أما رواية ابن مسعود التي ذكر فيها اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجن فتلك حادثة متأخرة سنراها، قال الحافظ في الفتح جامعاً بين نفي ابن عباس وإثبات ابن مسعود (ويمكن الجمع بالتعدد). قال في الفتح: وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة. وفيه مشروعيتها في السفر. والجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وأن الاعتبار بما قضى الله للعبد من حسن الخاتمة لا بما يظهر منه من شر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم يكونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها. ومع ذلك فغلب عليهم ما قضي لهم من السعادة بحسن الخاتمة. أهـ. وهناك روايات صحيحة تثبت أن الشهب كانت موجودة قبل البعث فلا تعارض بغيرها لذلك قال الزهري في قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (1) غلظ أمرها وشدد. قال في الفتح: والشهب عند علماء الكون نيازك تشتعل إذا اصطدمت بالهواء من جراء الاحتكاك. وإثبات هذا المعنى لا ينفي أن يكون لبعضها آثار على عالم الجن فأن يكون لشيء واحد مظهر حسي وارتباط عيني فذلك جائز كالموت يكون له سبب حسي كالمرض وهو أثر عن نزع الروح كذلك. ومن فكرة أن اشتعال النيازك إنما يكون بعد ملامستها الهواء، ومن تفسير المفسرين: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} أي قصدناها فُهِمَ أن مقاعد الجن في السماء إنما هي في جو الأرض. والتشديد في حراسة السماء لا يمنع أن يستمر الجن في المحاولة وأن يسمعوا شيئاً.

_ (1) الجن: 1.

قال صاحب الفتح: فإن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بما بعده، وقد قال عمر لغيلان بن سلمة لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا أن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب، فإن أصابه قبل أن يلقيه لصحبه فاتت وإلا سمعوها وتداولها. أهـ. ومن الحديث نعلم أن السماء قد حفظت من بدء رسالته عليه الصلاة والسلام حتى لا يشتبه أمر النبوة على الخلق. * * *

القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة

القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة 60 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلهُ آمن عليه البشرُ، وإنما كان الذي أوتيتهُ وحياً أوحاهُ الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة". المعجزة الرئيسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي القرآن، والقرآن معجزة فيها معجزات: ففي القرآن كله إعجاز مظهره عجز البشر أن يأتوا بسورة مثله مع أنه كلام يتألف من اسم وفعل وحرف، وزيادة على الإعجاز الموجود في القرآن كله فهناك معجزات كثيرة أخرى، من مثل إخباره عن غيوب سابقة ولاحقة، ومن مثل حديثه عن أسرار كونية لم تعرف إلا في عصور متأخرة لاحقة. وبالإعجاز القرآني والمعجزات القرآنية تقوم الحجة على الخلق إلى قيام الساعة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا كانت المعحزة الرئيسية لرسولنا هي القرآن فهناك معجزات أخرى لا تعد ولا تحصى تقوم بها الحجة، فهناك خوارق للعادات حدثت في عصره على يديه، وهناك نبوءات تحققت في عصره وفيما بعد ذلك، وهناك كرامات أولياء أمته. وبسبب من كون القرآن هو المعجزة الرئيسية لرسولنا عليه الصلاة والسلام، وبسببٍ من كون هذا القرآن باقياً محفوظاً، فالمعجزة مستمرة في حق الأمم وهي محسوسة ملموسة، بينما معجزات الرسل انقضت بوقوعها فلم يصل إلى الأمم إلا خبرها، فمن هذه الحيثية فإن للتوقع أن يكون أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثراً

_ 60 - البخاري (9/ 2) 66 - كتاب فضائل القرآن - 1 - باب كيفية نزول الوحي. مسلم (1/ 124) - 1 - كتاب الإيمان - 70 - باب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملة بملة. آمن عليه البشر: أي: آمنوا عند معاينة ما آتاه الله من الآيات والمعجزات والدلائل الواضحات، أراد إعجاز القرآن الذي تحص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان كل نبي من الأنبياء أوتي من المعجزات ما يوجب على البشر الإيمان به. وحياً أوحاه الله: أراد القرآن، فإنه ليس شيء من كتب الله المنزلة كان معجزاً إلا القرآن.

متى وكيف نزل القرآن

بهذا القرآن بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وبهذا القرآن ربي من استجاب له وعلمهم، وبهذا القرآن واجه وجابه، ولأمر أراده الله عز وجل لم تصلنا تفصيلات شاملة كاملة عن تسلسل الآيات في النزول، وقد تكون الحكمة قطع الطريق على التفكير في إعادة ترتيب القرآن لأن ترتيبه رباني ومعجز كما أثبتنا ذلك في كتاب (الأساس في التفسير)، وعلى كل فقد بقيت هناك معالم كبرى للقرآن الذي نزل في مكة قبل الهجرة، ومعالم كبرى لما نزل في المدينة، كما أن هناك معالم كبرى في تحديد زمن نزول بعض السور، فقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (1) نزل بعد أربع سنين من البعثة، وسورة المزمل نزلت في أوائل البعثة. ومن استعراض لهذه المعالم الكبرى نستطيع أن نتعرف على كيفية المواجهة والمجابهة بين الوحي والفكر الجاهلي، كما نتعرف على مجموع الأفكار التي واجهت بها الجاهلية هذه الدعوة، لكن الترتيب الرباني لسور القرآن تسلسلت فيه المعاني على نمط لا يتقيد بترتيب النزول، وقد كان هذا بصيغة خالدة تسع الزمان والمكان فالتسلسل ذاك ملاحظ به الجيل الأول، أما هذا فقد جاء بشكل آخر يسع احتياجات البشر بعد كمال التشريع، ولا يفوت قارئ القرآن حالياً أن يستأنس بمكيتها أو مدنيتها ليتعرف على ما كان في المرحلة الأولى والثانية. * * * متى وكيف نزل القرآن: قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2) وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (3). فيستشهد بذلك على أن القرآن أنزل في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وهذا يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون أراد بدء النزول وأوله، لأن القرآن نزل في أكثر من عشرين

_ (1) الحديد: 16. (2) البقرة: 185. (3) القدر: 1.

سنة في رمضان وغيره، والثاني: ما قاله ابن عباس: أنه نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، فجُعل في بيت العزة مكنوناً في الصحف المكرمة، المرفوعة المطهرة، ثم نزلت منه الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، في أجوبة السائلين، والنوازل الحادثة، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل أشبه بالظاهر، وأصح في النقل والله أعلم. * * *

فصل: في الدعوة السرية

فصل: في الدعوة السرية بعد نزول قوله تعالى {اقْرَأْ} عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث على خديجة وورقة بن نوفل فآمنا ابتداء لمجرد العرض دون دعوة منه عليه الصلاة والسلام، وبنزول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ....} (1) أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفاً بالإنذار ومكلفاً بالصلاة والطهارة والتوحيد والصبر وتجنب الأوثان، وهي هي التكاليف التي جاءت بعد فترة الوحي، ولم يسبق ذلك إلا التكليف بالقراءة باسم الله وذلك في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ...} (2) وهكذا بدأ التكليف بالتوحيد والعبادة والدعوة والصبر. والعبادة في هذه المرحلة تتلخص في الصلاة وقراءة القرآن والذكر والفكر، فالصلاة رافقت نزول سورة المدثر، وعلى رواية المقريزي أنها رافقت نزول سورة اقرأ، ولذلك فسنرى روايات تذكر الصلاة من الابتداء، وقد دخل في تكليف الصلاة ابتداء صلاة في الصباح وصلاة في المساء على سعة في الوقتين، ثم تكليف بقيام الليل {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ...} (3) وبعد سنة خفف الأمر بقيام الليل عن عامة المسلمين وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام فريضة، واستمر الحال على ذلك حتى حادثة الإسراء والمعراج إذ فرضت الصلوات الخمس، وقد بدأت الدعوة سرية وفردية حتى جاء الأمر بالجهر بالإنذار والصدع بالدعوة وذلك على القول الراجح بعد ثلاث سنين من البعثة، ويبدو أن الاضطهاد بدأ مبكراً منذ هذه المرحلة، واشتد بعد الجهر بالدعوة مما ألجأ إلى الاختباء في دار الأرقم ثم أسفر عن الهجرتين إلى الحبشة، وقد شدد المشركون القبضة بفرض المقاطعة والحصار مما ألجأ المسلمين ومن تعاطف معهم إلى الانكماش في شعب أبي طالب ... كما سنراه. وإذ كنا لا نملك تأريخاً محققاً لكل حادثة في المرحلة المكية متى كانت إلا في حدود ضيقة، فإننا سنعرض الروايات على تسلسل معين مستأنسين لهذا التسلسل ببعض المعاني، لكنه في الكثير من الأحيان لا يصل إلى حد الجزم فليلاحظ القارئ ذلك، فبعض

_ (1) المدثر: 1 - 4. (2) العلق: 1. (3) المزمل: 1 - 2.

الروايات التي نذكرها قبل الهجرتين إلى الحبشة قد يكون زمنها بعد الهجرتين، وبعض الروايات التي نذكرها بعد الهجرتين قد تكون وقعت قبلهما. ولنعد إلى استعراض الحال قبل نزول الأمر بالجهر بالدعوة، فالدعوة في هذه المرحلة سرية وفردية وقد قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بمن استجاب له كأبي بكر رضي الله عنه. قال المقريزي: ثم استجاب له عبادُ الله من كل قبيلةٍ، فكان حائز قصب السبق؛ أبو بكر عبد الله بن أبي قُحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن غالب القرشي التيمي رضي الله عنه فآزره في دين الله وصدقه فيما جاء به، ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر رضي الله عنه جماعة منهم: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي القرشي الأموي، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي، وسعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، والزبير بن العوام بن خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة بن كلاب القرشي الزهري، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا له بالإسلام وصلوا، فصار المسلمون ثمانية نفر، أول من أسلم وصلى الله تعالى. وأما عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي فلم يشرك بالله قط، وذلك أن الله تعالى أراد به الخير فجعله كفالة ابن عمه سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وأخبر خديجة رضي الله عنها وصدقت، كانت هي وعلي بن أبي طالبن وزيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العُزى بن امرئ القيس بن عامر ابن عبد وُد ابن كنانة بن عوف بن عُذرة بن زيد اللات بن رُفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة الكلبي، حِبُّ رسول الله صلى الله لعيه وسلم يصلون معه، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش. وكان إذا صلى في سائر اليوم بعد ذلك قعد عليٌّ أو زيدٌ رضي الله عنهما يرصُدانه.

وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشِّعاب فُرادى ومثنى، وكانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة. فلم يحتج علي رضي الله عنه أن يُدعى، ولا كان مشركاً حتى يوحد فيقال أسلم، بل كان - عندما أوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرهُ ثماني سنين؛ وقيل سبع سنين، وقيل إحدى عشرة سنة. وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله بين أهله كأحدِ أولاده يتبعه في جميع أحواله. وكان أبو بكر رضي الله عنه أول من أسلم ممن له أهلية الذبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والحماية والمناصرة. هذا هو التحقيق في المسألة لمن أنصف وترك الهوى من الفريقين. أي: الذين يقدم أحدهما إسلام أبي بكر، والآخر إسلام علي رضي الله عنهما. وقال صاحب الرحيق المختوم: ومن أوائل المسلمين: بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر ابن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قُدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت لاخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود الهُذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً. وفي ذكر بعضهم في السابقين الأولين نظر. قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتُحدث به. أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفياً لن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمي نزوله بعد نزول أوائل المدثر. وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير

بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك. وتعليقاً على سرية الدعوة في السنين الثلاثة الأولى للدعوة قال الدكتور البوطي: وبناءً على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة - من حيث التكتم والجهر، أو اللين والقوة - حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه. وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية اعتماداً على واقع سيرته صلى الله عليه وسلم ... على أن يكون النظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية. ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا قتالهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدين موهومة أو منفية الوقوع. ويقر العز بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد قائلاً: فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة. ليس في طيها مصلحة. وتقديم مصلحة النفس هنا من حيث الظاهر فقط، أما من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دين، إذ المصلحة الدينية تقتضي - في مثل هذه الحال - أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. وإلا فإن هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين نفسه وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. أهـ. أقول: إن صاحب الدعوة لابد أن يعطيها فرصة لتتمكن في الأنفس فلا تؤثر فيها الأعاصير، قدر لو أن الرعيل الأول انشغل بغير التكوين النفسي فكيف سيكون قادراً على الصبر والتحمل إذا جاءت المحنة؟ وكيف يستطيع مقارعة الباطل وشبهه؟ وهل يستطيع صهر المستجيبين وحمل الدعوة؟.

61 - * روى الإمام أحمد بن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده قال: كنت امرءاً تاجراً فقدمت الحج، فأتيتُ العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان امرءاً تاجراً، فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجلٌ من خباءٍ قريبٍ منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت قام يُصلي، قال: ثم خرجت امرأةً من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي، قال: فقلت للعباس من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قال قلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه، قال فقلت: فما هذا الذي يصنع؟ قل: يصلي وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إل امرأته وابن عمه، هذا الفتى، وهو يزعم أنه يفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول: - وأسلم بعد ذلك وحسُنَ إسلامه - لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب. قال صاحب الفتح الرباني: مالت الشمس: أي إلى جهة المغرب، وجاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهما حين زالت الشمس فهي تفسر ما هنا، ولا يعارضه قول مقاتل كانت الصلاة أول فرهضا ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (1) فقد قيل العشي ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه قيل للظهر والعصر صلاتا العشي (قال الحافظ) كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعاً وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فقيل إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى {وَسَبِّحْ} أي: صل حال كونك متلبساً {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ

_ 61 - أحمد في مسنده (1/ 309) والطبراني (18/ 100). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 103)، رواه أحمد وأبو يعلي بنحوه والطبراني بأسانيد، ورجال أحمد ثقات. (1) غافر: 55.

قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (1). 62 - * روى الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن ورقة بن نوفلٍ فقال: "يُبعثُ يوم القيامة أمةً وحده". وذلك لأنه آمن ونوى النصرة وتوفي قبل أن يدعى. 63 - * روى أحمد والترمذي عن زيدٍ بن أرقم قال: أول من صلى (وفي لفظ) أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليٍّ (قال عمرو أحد الرواة) فذكرت ذلك لإبراهيم (أي: النخعي) فأنكر ذلك، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال في الفتح: وروى ابن إسحاق في السيرة قال: أول ذكر ٍآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام. وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعليٍّ، وأسلم علي قبل أبي بكر وكان علي يكتم إيمانه خوفاً من أبيه حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟ قال: نعم. قال: آزر ابن عمك وانصره، قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام، وروى الطبراني عن أبي رافع: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الإثنين وصلت خديجة آخره، وصلى علي يوم الثلاثاء، وروى الحاكم في المستدرك من حديث بريدة الأسلمي قال: أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى عليٍّ يوم الثلاثاء. وصححه الحاكم وأقره الذهبي. وتوفيقاً بين النصوص التي تذكر أول من أسلم قال صاحب الفتح: ولا منافاة، فإن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وعليًّا أول من أسلم من الصبيان، فقد روي أنه كان حينذاك بين تسع سنين وعشر، وكان إسلامه قبل إسلام أبي بكر رضي

_ (1) طه: 130. 62 - المعجم الكبير (24/ 82) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 416) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 63 - أحمد في مسنده (4/ 271) والترمذي (5/ 642) 50 - كتاب المناقب. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح مجمع الزوائد (9/ 103) وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح.

الله عنهما. 64 - * روى أحمد والبزار عن حبَّة العُرني قال: رأيتُ علياً رضي الله عنه يضحكُ على المنبر لم أرهُ ضحِكَ ضحكاً أكثر منه حتى بدت نواجذُهُ، ثم قال: ذكرتُ قول أبي طالب: ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نُصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، ولكن لا تعلوني إستي أبداً. فضحك تعجباً لقولة أبيه ثم قال: اللهم لا أعترف عبداً من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك - ثل ثمرات - لقد صليتُ قبل أن يصلي الناس سبعاً. 65 - * روى الطبراني عن ابن شهاب قال: أول من أسلم زيد بن حارثة. زيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وقصة تبني رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بعد عتقه مشهورة، وإسلام زيد وأمثاله ممن هم أكثر الناس خلطة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم معرفة به علم من أعلام نبوته. 66 - * روى الترمذي عن جَبَلة بن حارثة رضي الله عنه قال: قَدِمْت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ابعثْ معي أخي زيداً، قال: "هو ذا، فإن انطلق معك لم أمنعه". قال زيد: يا رسول الله، والله لا أختار عليك أحداً، قال: فرأيت رأي أخي أفضل من رأيي. 67 - * روى أحمد عن ابن مسعود قال: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي

_ 64 - أحمد في مسنده (1/ 99) والبزار: كشف الأستار (3/ 182)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 102) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي باختصار، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن. نواجذه: النواجذ هي الأسنان التي تبدو عند الضحك. بطن نخلة: اسم مكان، سبعا: تحتمل كثراً وتحتمل سبع ليال. لا تعلوني استي أبدا: أي لا ترتفع مقعدتي عن رأسي كما يحدث للساجد. 65 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 374) وقال: رواه الطبراني مرسلاً وإسناده حسن. 66 - الترمذي (5/ 671) 50 - كتاب المناقب - 40 - باب مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عنه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن الرومي عن علي بن مُسْهِر. والحاكم (3/ 314) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره الحافظ في الفتح سكت عنه وذلك أمارة تحسينه. 67 - أحمد في مسنده (1/ 462). قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلي ورجالهما رجال الصحيح.

مُعيطٍ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين، فقالا: يا غلام هل عندك من لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. كان هذا أول الإسلام قبل إسلام عبد الله بن مسعود، وقد يكون المراد بالفرار في الرواية: ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من استخفاء إذا ما أرادوا الصلاة ولكن الظاهر أن الأمر غير ذلك، وهذا يفيد أن الاضطهاد بدأ مبكراً، والرواية تدلنا على أمانة ابن مسعود مما يشير إلى أن هذه النوعية من الناس هي التي تملك الاستعداد الرفيع للدخول في الإسلام كما حدث لابن مسعود، وسؤاهما اللبن كان بناء على أن من حق ابن مسعود أن يسقيهما كأن يكون هو صاحب الغنم أو أنه مأذون بالضيافة. 68 - * روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد رأيتُني وأنا ثُلُثُ الإسلام. وفي رواية: ما أسلم أحدٌ إلا في أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيامٍ، وإني لثلث الإسلام. قال في الفتح شارحاً قوله: (وإني لثلث الإسلام) قال ذلك بحسب اطلاعه، والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه، ولعله أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر، أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقد كانت خديجة أسلمت قطعاً فلعله خص الرجال، وقد تقدم في ترجمة الصديق حديث عمار (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر) وهو يعارض حديث سعد، والجمع بينهما ما أشرت إليه، أو يحمل قول سعد على الأحرار البالغين يخرج الأعبد المذكورون وعلي رضي الله عنه، أو لم يكن اطلع على أولئك، ويدل على هذا الأخير أنه وقع عند الإسماعيلي من رواية يحيى بن سعيد الأموي عن هاشم بلفظ (ما أسلم أحد قبلي) ومثله عند ابن سعد من وجه آخر عن عامر بن سعد عن أبيه، وهذا مقتضى رواية الأصيلي، وهي مشكلة لأنه قد أسلم قبله جماعة، لكن يحمل ذلك على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ. وقد رأيت في (المعرفة لابن منده) من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ (ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه) وهذا

_ 68 - البخاري (7/ 83) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 15 - باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري. ثلث الإسلام: أي ثالث رجل أسلم.

لا إشكال فيه إذ لا مانع أن يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم، لكن أخرجه الخطيب من الوجه الذي أخرجه ابن منده فأثبت فيه (إلا) كبقية الروايات فتعين الحمل على ما قلته. 69 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إنه نزلت فيه آياتٌ من القرآن، قال: حلفت أمُّ سعدٍ أن لا تكلمهُ أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثاً حتى غُشي عليها من الجهد فقام ابن لها يُقال له: عمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعدٍ، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2). قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمةٌ عظيمةٌ، فإذا فيها سيفٌ، فأخذتهُ فأتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نفَّلني هذا السيف، فأنا من قد علمت حالهُ، فقال: "رُده من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردتُ أن ألقيهُ في القبض، لامتنى نفسي، فرجعت إليه، فقلت: أعطنيه، قال: فشد لي صوته: "رُده من حيث أخذتهُ"، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (3). ومرضتُ، فأرسلتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

_ 69 - مسلم (4/ 1877) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب في فضل سعد بن أبي وقاص. نفلني: نفلته كذا، أي: أعطيته نافلة وزيادة على سهمه من الغنيمة. القبض: بسكون الباء: مصدر قبضت الشيء قبضاً: أخذته إليك فصار في قبضتك، أي: في يدك وتحت تصرفك، وبفتح الباء: الشيء المقبوض وأراد به: ما يجمع من الغنائم ويحرز، وهو المراد في الحديث. الجزُور: البعير، ذكراً كان أو أنثى، وأصله: البعير يُنْحَرُ ويقطع لحمه، إلا أن اللقطة مؤنثة. الميسر: القمار. الأنصاب: الأصنام أو الحجارة التي كانوا يذبحون عليها لآلهتهم. والأزلام: القداح، وإحداها: زلم، وزلم - بفتح الزاي وضمها - وهي سهام بلا نصول ولا ريش، كانوا يضربون بها في القمار ليعرفوا نصيب كل واحد منهم، وكانوا يضربون بها أيضاً عند الشروع في الأمر يعرض لهم، من سفر أو زواج أو بيع أو نحو ذلك، يعرفون بها - في زعمهم - ما هو الأصلح لهم، فإن خرج لهم "افعل" فعلوا، وإن خرج "لا تفعل" لم يفعلوا. رجس: الرجس: النجس. شجروا فاها: أي: فتحوه كرهاً. أو جرت: الدواء في فيه: إنا ألقيت فيه، لفشبه إلقاء الطعام في فيها كرهاً بإلقاء الدواء عن غير اختيار. مفزوراً: أي: مشقوقاً. (1) سورة العنكبوت: 8. (2) سورة لقمان: 15. (3) سورة الأنفال: 1.

فأتاني، فقلتُ: دعْنِي أقسمُ مالي حيثُ شئتُ، قال: فأبي، قلتُ: فالنصفُ، قال: فأبي قلتُ: فالثلثُ، قال: فسكت، فكان بعدُ الثلثُ جائزاً، قال: وأتيتُ على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعِمُكَ، ونُسقيك خمراً - وذلك قبل أن تُحرم الخمرُ - قال: فأتيتُهم في حشٍّ - والحشُ: البُستانُ - فإذا رأس جزورٍ مشويٍّ عندهم، وزق من خمر فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصارُ والمهاجرون عندهم، فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحي الرأس، فضربني به، فجرح أنفي، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتهُ، فأنزل الله في - يعني نفسهُ - شأن الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (1). وفي رواية في قصة أم سعد: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعمواه شجروا فاها بعصاً، ثم أوجروها. وفي آخرها: فضرب به أنف سعدٍ ففزرهُ، فكان أنف سعدٍ مفزوراً. واختصره الترمذي (2) قال: أُنزلت في أربع آياتٍ، فذكر قصةً فقالت أم سعدٍ: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم طعاماً، ولا أشربُ شراباً حتى أموتُ، أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعموها شجروا فاها، فنزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ...} (3) الآية. 70 - * روى البخاري عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبدٍ وامرأتان وأبو بكرٍ. نجد ههنا نوعية المستجيبين الأوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأصالة ومكارم الأخلاق والمضطهدين والنساء، وفي ذلك تذكير للدعاة ألا يهملوا المضطهدين والفقراء من عمال

_ (1) المائدة: 90. (2) الترمذي (5/ 241) 48 - كتاب تفسير القرآن - 20 - باب ومن سورة العنكبوت. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (3) العنكبوت: 8. 70 - البخاري (7/ 18) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 35 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً".

وفلاحين، وألا يهملوا النساء، وأن يركزوا على المثقفين. 71 - * روى أحمد عن سالم بن أبي العجد قال: دعا عثمان ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عمار بن ياسر فقال: إني سائلكم وإني أحبُّ أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم فقال عثمان: لو أن يبدئ مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم، فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني عماراً - أقبلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيدي نتمشى بالبطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يُعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبر"، ثم قال: "اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت". 73 - * روى الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمارٍ وأهله وهم يعذبون فقال: "أبشروا آل عمران وآل ياسر فإن موعدكم الجنةُ". 73 - * روى الحاكم عن كردوس: أن خباباً أسلم سادس ستة، كان سُدس الإسلام. 74 - * روى ابن ماجه عن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر فقال: ادن فما أحد أحقُّ بهذا المجلس منك إلا عمار، فجعل خباب يريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون

_ 71 - أحمد في مسنده (1/ 63). وأورده الهيثمي في الزوائد (9/ 363)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. نشدتكم بالله: نشدتك بالله أي سألتك بالله. البطحاء: مسيل واسع فيه دقائق الحصى. يقصد عثمان - رضي الله عنه - أنه كما أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وبني هاشم وآثرهم لأنهم قرابته فهو يفعل ذلك ببني أمية لأنهم قرابته حتى لو استطاع أن يدخلهم الجنة لفعل، ومن السياق نعلم أن عماراً - رضي الله عنه - كان لا يرتاح لإيثار بني أمية، لأن الإيثار لم يقتصر على ما هو شخصي وخاص، ورضي الله عن الجميع. والنص يدل على ما تقدم إسلام عثمان - رضي الله عنه -. 72 - المستدرك (3/ 389) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 73 - المتسدرك (2/ 382) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 298) رواه الطبراني مرسلاً ورجاله إلى كردوس رجال الصحيح وكردوس ثقة. 74 - ابن ماجه (1/ 54) المقدمة - 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزوائد: إسناده صحيح.

75 - * روى البخاري عن خبابِ بن الأرتِّ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال: "كان الرجلُ فيمن قبلكم يحفرُ له في الأرض فيُجعلُ فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون". 76 - * روى مسلم عن أبي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنتُ، وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالةٍ. وأنهم لسوا على شيء. وهم يعبدون الأوثان. فسمعت برجلٍ بمكة يخبر أخباراً. فقعدتُ على راحلتي. فقدمتُ عليه. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً، جرءاءُ عليه قومه. فتلطفتُ حتى دخلت عليه بمكة. فقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبي" فقلت: ما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيءٍ أرسلك؟ قال: "أ {سلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوحد الله لا يشرك به شيء" قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: "حر وعبدٌ" (قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به) فقلت: إني مُتبعُك. قال: "إنك لا تستطيعُ ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك. فإذا سمعت بي قد ظهرتُ فأتني" قال: فذهبت إلى أهلي. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار ... أقول: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت

_ 75 - البخاري (6/ 619) 69 - كتاب المناقب - 35 - باب علامات النبوة في الإسلام. وأبو داود (3/ 47) كتاب الجهاد، باب: الأسير يكره على الكفر. 76 - مسلم (1/ 569) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 52 - باب إسلام عمرو بن عبسة. الأرحام: مفردها رحم وهو بيت منبت الولد ورعاؤه، والقرابة أصلها وأسبابها، والمقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يأمر الناس بأن يبتعدوا عن التشاحن والبغضاء والاقتتال والغدر والكيد بين بعضهم وخاصة الأقارب منهم وأن ينشروا بينهم الحب والإخاء والمعاملة لحسنة والوفاء. ظهرت: ظهر الشيء ظهوراً: تبين وبرز بعد الخفاء، وظهر على عدوه: غلبه.

فأتني"، نأخذ منه درساً في الدعوة: أن تكديس المريدين والأعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه نحو الرجوع إلى الأقوام، وأمر كما سنرى بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لا يشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل، وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال. 77 - * روى الحاكم عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبةُ بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذاء، وإنما بقي منها صُبابة كصبابة الإناء يصطبُّها صاحِبُها، وإنكم منتقلون منها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضركم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقى من شفير جهنم فيهوي بها سبعين عاماً وما يدرك لها قعراً فوالله لتملأنهُ: أفعجبتُم وقد ذُكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما أربعون سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظٌ من الزحام. ولقد رأيتُني وإني لسابعُ سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطتُ بردة فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص فارس الإسلام فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، وما أصبح منا اليوم أحد حي إلا أصبح أمير مصر من الأمصار، وإنني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكنْ نبوءة قط إل تناقصت حتى يكون عاقبتها ملكا، وستجربون أو ستبلون الأمراء بعدي. قوله: (وما أصبح منا اليوم أحد حيٌ إلا أصبح أمير مصر من الأمصار) فيه إشارة إلى ملاحظة السبق والقدم في التأمير دون أن يكون ذلك قاعدة مطلقة، ومن الملاحظ أن الخلفاء الراشدين الأربعة كلهم ممن تقدمت له سابقة إسلام وتقدم إسلام. قوله: (لم تكن نبوة قط إلا تناقصت حتى يكون عاقبتها ملكاً) هذا هو الواقع التاريخي قديماً وهو ما حدث بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة الإسلامية الآن أن تحكم أمرها

_ 77 - المستدرك (3/ 361) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. أذنت بصرم وولت حفاء: المراد انقطاع الدنيا، والحفاء: المقطوعة. صبابة: البقية من الماء واللبن في الإناء. شفير جهنم: أي جانبها وطرفها، كظيظ: ممتلئ من الازدحام. قرحت أشداقنا: أي تجرحت.

للوصول إلى الخلافة الراشدة ووضع القواعد لضمان استمرارها. 78 - * روى مسلم عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفارٍ وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن هلك خالف إليهم أُنيس، فجاء خالنا قنثا علينا الذي قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك، فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد، فقربنا صُرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطي خالنا ثوبه، فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها. فأنيا الكاهن، فخير أنيساً، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها قال: وقد صليتُ يا ابن أخي قبل أن ألقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجهُ؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي. أصلي عشاءً، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيتُ كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، فقال أنيسٌ: إن لي حاجة بمكة، فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث عليِّ، ثم جاء، فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعرٌ، كاهنٌ، ساحرٌ، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس:

_ 78 - مسلم (4/ 1919) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 28 - باب من فضائل أبي ذر. قثا: الحديث ينتوء نتوأ: إذا أظهره وأشاعه وأفشاه. لا جِمَاع: أي: لا مجامعة لنا معك ولا مُقام. صرمتنا: الصرمة: القطعة من الإبل نحو الثلاثين. فنافر: المنافرة: المحاكمة تكون في تفضيل أحد الشيئين على الآخر، يقال: نافرته، فنفرته، أي: حاكمته، فغلبته، ونفره الحاكم في المنافرة، أي: غلبه وحكم له. خفاء: الخفاء بالخاء المعجمة وكسرها، كساء يطرح على السقاء. فراث: رأت فلان علينا: أبطأ. أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه، واحدها: قرء - بفتح القاف. فتضعفت: أي نظرت إلى أضعفهم فسألته لأن الضعيف مأمون الغائلة ومع ذلك فإنه لم يسلم من قبله. الصابئ: منصوب على الإفراء أي: انظروا وحذوا هذا الصابئ. والصابئ من غير دينه. مدرة: المدرة: الطينة المستحجرة. نصب: النُّصب: الحجر أو الصنم الذي كانوا ينصبونه في الجاهلية ويذبحون عليه، فيحمر من كثرة دم القربان والذبائح، أراد: أنهم ضربوه حتى أدموه، فصار كأنه نُصب أحمر. تكسرت عكن بطني: جمع عكنة وهو الطي من البطن من الممن، ومعنى تكسرت أي انثنت وانطوت طاقات لحم بطنه. سخفة جوع: سخفة الجوع: رقته وهزاله. ليلة إضحيان: وإضحيانه، أي: مضيئة لا غيم فيها، فقمرها ظاهر يضيئها. ضرب على أسمختهم: الأسمخة: جمع سماخ، وهو ثقب الأذن، والضرب هاهنا: المنع من الاستماع، وذلك كناية عن النوم المفرط. إسافاً ونائلة: إساف ونائلة: صنمان تزعم العرب أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا. هن مثل الخشية: ألهن من الرجل ذكره. تولولان: الولولة: الاستغاثة والصياح. أو الدعاء بالويل. أنفارنا: الأنفار: الجماعة، أي: من أصحابنا وجماعتنا، وهو من النفر الذي هو من الثلاثة إلى العشرة. تملأ الفم: قولها: تملأ الفم، أي أنها عظيمة لا شيء أقبح منها، فمدعْتُه: أي: منعته. طعام طعمٍ: يقال: هذا طعامُ =

لقد سَمعتُ قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء، فما يلتئم على لسان أحدٍ بعدي أنه شعرُ، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فانظر، قال: فأتيت مكة فتضعفتُ رجلاً منهم، فقلتُ: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إليَّ، فقال: الصابئ؟ فمال عليَّ أهل الوادي بكل مدرةٍ وعظمٍ، حتى خررتُ مغشياً عليِّ، قال: فارتفعت حين ارتفعتُ. كأني نُضُب أحمر، قال: فأتيتُ زمزم، فغسلتُ عني الدماء، وشربتُ من مائها، ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين، بين ليلةٍ ويومٍ، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنتُ حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدتُ على كبدي سخفة جوعٍ، قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، إذ ضُرب على أسمختهم فما يطوفُ بالبيت أحدٌ، وامرأتانِ منهم تدعوان إسافاً ونائلة، قال: فأتنا عليَّ في طوافهما، فقلت: هن مثل الخشبة - غير أني لا أكني - فانطلقنا تولولان، وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا؟ قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهما هابطان، قال: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى فلما قضى صلاته، قال أبو ذر: فكنتُ أنا أول من حياهُ بتحية الإسلام، قال فقلتُ: السلام عليك يا رسول الله. فقال: "وعليك السلام ورحمة الله"، ثم قال: "من أنت؟ " قلتُ: مِنْ غفارٍ، قال: فأهوى بيده، فوضع أصابعه على جبهته، فقلتُ في نفسي: كره أن انتميتُ إلى غفارٍ، فذهبتُ آخذُ بيده، فقعدني صاحبه، وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه، فقال: "متى كنت هاهنا؟ " قال: قلت: قد كنت هاهنا منذ ثلاثين، بين ليلةٍ ويومٍ، قال: "فمن كان يطعمك؟ " قال: قلتُ: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جُوع، قال: "إنها مباركةٌ، إنها طعامُ

_ = طعمٍ، أي: طعام شبع، يعني أنه يشبع ويكف الجوع ويكفي منه. ظهرت: الغابر هاهنا: الباقي، وهو من الأضداد، أي بقيت ما بقيت. يثرب: المدينة المنورة طابة وطيبة. وقد جاء في حديث في النهي عن تسميتها يثرب. فنفوا له: أي: أبغضوه ونفروا منه، والشنف: البغض، تقول: شنفته. وشنفت له. تجهموا: تجهمت لفلان، أي: تنكرت له واستقبلته بما يكره، وفلان جهم المحيا، أي: كريه المنظر.

طعمٍ"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرتُ ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه قد وُجهت لي أرض ذات نخلٍ، لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم؟ " فأتيت أنيساً، فقال: ما صنعت؟ قلتُ: صنعت أني قد أسلمتُ وصدقتُ، قال: ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الفغاري، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إخواننا نُسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غِفار غفر الله لها، وأسلمُ سالمها الله". زاد بعض الرواة - بعد قول أبي ذر لأخيه: (فاكفني حتى أذهب فأنظر) - (قال: نعم، وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا). وفي رواية قال: (فتنافرا إلى رجلٍ من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا). وفي رواية البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنتُ رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه، وأتني بخبره. 79 - * روى البخار يعن ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي؛ فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر،

_ 79 - البخاري (7/ 172) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 23 - باب إسلام أبي ذر الغفاري. ومسلم (4/ 1922) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 28 - باب: من فضائل أبي ذر. الشنة: الزق البالي الذي يحمل فهي الماء

فقال: رأيتُه يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شَفَيْتَني مما أردتُ، فتزود وحمل شَنَّةً له فيها ماء، حتى قَدِمَ مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه - حتى أدركه بعض الليل فرآه عليٍّن فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٍّ، فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقامه معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لتُرشدني فعلت، ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أُريق الماء، فإذا مضيتُ فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم، حتى يأتيك أمري"، قال: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس، فأكب عليه، وقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تُجاركم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد فضربوه، وثاروا إليه، فأكب العباس عليه. وفي الرواية الأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أسلم: "يا أبا ذر، اكتُم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظُهورُنا فأقبِل"، قال: فقلتُ: والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين أظهرهم .. وذكر نحوه". قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رضي الله عنه. 80 - * روى الحاكم عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: انطلق أبو ذر ونعيم ابن عم أبي

_ 80 - المستدرك (3/ 112) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. مكتتم: أي متخفف وهو اسم فاعل من الكتم: وكتم الشيء، كتماً وكتماناً: ستره وأخفاه. وفي هذا تصريح بأن إسلام أبي ذر كان في المرحلة السرية.

ذر وأنا معهم نطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالجبلِ مُكتتمٌ، فقال أبو ذر: يا محمد أتيناك نسمعُ ما تقول وإلى ما تدعو، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: "أقول لا إله إلا الله وإني رسول الله" فآمن به أبو ذر وصاحبه وآمنتُ به، وكان عليٍّ في حاجةٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله سلم أرسله فيها، وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يوم الإثنين وصلى عليٍّ يوم الثلاثاء. والجمع بين هذه الرواية والتي قبلها أنها حادثة لاحقة للحادثة الأولى، فبعد أن أسلم أبو ذر أتى بهذين معه متظاهراً أنه لم يسبق له إسلام من أجل ان يسمع رفيقاه فيسلما. 81 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: لقد رأيتُني سادس ستةٍ ما على الأرض مسلم غيرنا. 82 - * روى الحاكم عن عروة قال: كانت نفحة من الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وآله سلم قد أُخِذَ، فسمع بذلك الزبير وهو ابن إحدى عشرة سنة فخرج بالسيف مسلولاً حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأنُكَ؟ " فقال: أردتُ أن أضرب من أخذَكَ فدعا له النبي صلى الله عليه وآله سلم ولسيفهِ، وكان أول سيف سُلَّ في سبيل الله عز وجل. 83 - * روى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقدام فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم من أحدٍ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأخذوه فأعطوهُ

_ 81 - المستدرك (3/ 313) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 82 - المستدرك (3/ 360) وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وإنما أردناه ههنا مع أن فيه ابن لهيعة لموافقته للمحفوظ من تقدم إسلام الزبير وهو صغير. 83 - ابن ماجه (1/ 53) المقدمة 11 - باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد. والحاكم (3/ 384)، وصححه ووافقه الذهبي. منعه: أي عصمه الله من أذاهم، صهروهم: من صهر كمنع أي عذبوهم. واتاهم: أي وافقتهم على ما أرادوا من ترك إظهار الإسلام. هانت: أي حقرت وصغرت عنده لأجله تعالى: الشعاب: جمع شعب وهو الطريق في الجبل.

الولْدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقولُ أحدٌ أحدٌ. 84 - * روى الحاكم عن محمد بن عمار بن ياسرٍ عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله سلم وذكر آلهتهُم بخيرٍ ثم تركوهُ، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: "ما وراءك؟ " قال: شَرٍّ يا رسول الله ما تركت حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهُم بخيرٍ. قال: "كيف تجدُ قلبك؟ " قال: مُطمئن بالإيمان. قال: "إن عادوا فعُد". 85 - * روى مسلم عن سعد أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت: أنا وابن مسعود ورجل من هُذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (1). 86 - * روى أحمد والطبراني عن ابن مسعود في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وقوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} قال: مر الملأ من قريشٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمارٌ فقالوا: يا محمدُ أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}

_ 84 - المستدرك (2/ 307) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. نلت منك: سببتك وشتمتك. كيف تجد قلبك: أي هل ما زال على الإيمان بالله واليوم الآخر، فالقول إذا كان من غير تصديق القلب فلا حرج فيه حال الإكراه وهذا مصداق قول الله عز وجل: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (النحل: 106). وقد أجاز فقهاء الحنفية للمسلم أن يقول ما يخرج به من البلاء إذا كان هذا البلاء قتلاً أو قطعاً أو سجن ظالم. 85 - مسلم (4/ 1878) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب في فضل سعد بن أبي وقاص. لا يجترئون: من الجرأة وهو الإقدام على الشيء. والمعنى: أي أبعد هؤلاء عن مجلسنا معك حتى لا يتسلطوا علينا ولكي يحترمونا ويقدرونا حق قدرنا. فوقع في نفس رسول الله: أ] خطر في قلبه: وأصل الوقوع في اللغة السقوط. (1) الأنعام: 52. 86 - أحمد في مسنده (1/ 420) المعجم الكبير (10/ 318). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 21)، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس وهو لغة.

بداية الدعوة في سريتها وفرديتها

إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وفي رواية الطبراني أنه قال: فقالوا: يا محمد أهؤلاء من الله عليهم من بيننا لو طردت هؤلاء لاتبعانك فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. * * * بداية الدعوة في سريتها وفرديتها: سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع الزمان والمكان والأشخاص، وهي بمجموعها يجد فيها كل عامل قدوة وأسوة، وأحكام الإسلام المنبثقة عن الكتاب والسنة تكمل الاستجابة لحاجات الإنسان وظروفه، ومن ههنا نقول: إن من واجه ظروفاً كالظروف التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة يسنّ له أن يدعو سراً، وقد يتعين ذلك عليه إذا كان واجب الدعوة وتحقيق الهدف لا يتمان إلا بالسرية، فليست السرية مفروضة دائماً أو مسنونة دوماً، بل الحكم فيها منوط بالظروف التي تواجهها الدعوة وأصحابها. ورأينا في مرحلة الدعوة السرية كيف أن الدعوة كانت فردية يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، وأن الإيذاء بدأ مبكراً، والعروض والإغراءات والتزهيد بالمستجيبين من قِبل الكبراء كل ذلك كان واضحاً، وهي قضايا يجب أن يلتفت إليها الدعاة، وقد رأينا أكثر من نموذج أسلم فأرجعه رسول الله إلى قومه متربصاً منتظراً داعياً، مما يشير إلى أن هناك حالات يفضل فيها الانتشار على التجمع في المكان الواحد، وهذا كذلك موضوع يخضع لظروف الدعوة والداعية فليس التجمع في المكان الواحد مفروضاً في كل الأحوال، فلكل وضع أحكامه. ولم نستقص فيما نقلناه كل الأحوال والأحداث التي حدثت في المرحلة السرية والفردية لتداخلها مع ما بعدها فكان ما ذكرناه نموذجاً يكفي لتوضيح الصورة.

_ (1) الأنعام: 51، 52.

قال السباعي: إن دعوة الإصلاح إذا كانت غريبة على معتقدات الجمهور وعقليته، ينبغي أن لا يجهر بها الداعية حتى يؤمن بها عدد يضحون في سبيلها بالغالي والرخيص. حتى إذا نال صاحب الدعوى أذى. قام أتباعه المؤمنون بدعوته بواجب الدعوة، فيضمن بذلك استمرارها. * * *

فصل: في الدعوة الجهرية

فصل: في الدعوة الجهرية اعتاد المؤلفون أن يعنونوا لهذه المرحلة بمثل العنوان الذي عنونا به، فوافقناهم عليه مع أنه ملتبس، فالمرحلة الثانية كان فيها دعوة جهرية جماعية، لكن قد بقيت الدعوة الفردية مستمرة، وبقيت السرية قائمة فالاستخفاء في دار الأرقم لازال موجوداً، وهناك روايات تصرح بذلك، المهم أن التكتم بقي مستمراً مع الجهر بالدعوة، ولعل هذه المرحلة تشد لمن ينادون بجهرية الدعوة وسرية التنظيم، والظاهر أن هذه المرحلة استمرت حتى إسلام عمر فعندئذ وُجدت جهرية الدعوة على كمالها، وخلال ذلك كان كثيراً ما ينكشف إسلام من أسلم، وعلى كل الأحوال فجهرية الدعوة وسرية التنظيم منوطان بالظروف والمصلحة والأوضاع التي تواجهها الدعوة أو يواجهها الدعاة. وبعد ثلاث سنين من البعثة على القول الراجح نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1)، وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2)، وعندئذ بدأت الدعوة الجهرية فخص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعم تنفيذاً لأمره تعالى. 87 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قُريش - أو كلمةً نحوها - اشترو أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبد منافٍ، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباسُ بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفيةُ عمةٌ رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمةُ بنت محمدٍ، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً". وللبخاري أيضاً (3) قال: يا بني عبد منافٍ، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني

_ (1) الشعراء: 214. (2) الحجر: 94. 87 - البخاري (8/ 501) 65 - كتاب التفسير - باب - (وأنذر عشيرتك الأقربين). (3) البخاري (6/ 551) 61 - كتاب المناقب - 13 - باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية.

عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله، يا أم الزبير بن العوام عمة رسول الله، يا فاطمةُ بنت محمدٍ، اشتريا أنفسكما من الله، لا أملكُ لكما من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما". ولمسلم أيضاً (1) قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، نعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعبٍ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمسٍ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد منافٍ، أنقذوا أنفسكم من النارٍ. يا بني هاشمٍ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملكُ لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً، سأبلُّها ببلالها. وأخرجه الترمذي (2) عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فخص وعم، فقال: "يا معشر قريشٍ، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً. يا معشر بني عبد منافٍ، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً. يا معشر بني قُصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً. يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملكُ لكم ضراً ولا نفعاً. يا فاطمة بنت محمدٍ، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضراً ولا نفعاً، إن لك رحماً، سأبُلُّها ببلالها".

_ (1) مسلم (1/ 192) 1 - كتاب الإيمان - 89 - باب في قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين). أنقذوا: أنقذت فلاناً: إذا خلصته مما يكون قد وقع فيه، أو شارف أن يقع فيه. سأبلها: البلالُ: ما يُبل به، وإنما قالوا في صلة الرحم: بل رحمة، لأنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل ويختلط بالنداوة، ويحصل بينهما التجافي والتفرق باليبس، استعاروا البل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، والمعنى: سأًل الرحم بصلتها، وقيل: البلال: جمع بلٍ. (2) الترمذي (5/ 238) 48 - كتاب تفسير القرآن - 37 - باب: ومن سورة الشعراء. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

88 - * روى مسلم عن قبيصة بن مُخارق وزهير بن عمرو رضي الله عنهما قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} انطلق إلى روضة من جبلٍ فعلا أعلاها حجراً، ثم نادى: "يا بني عبد منافاه إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ رأى العدو، فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتفُ: يا صباحاه". يغفل كثير من الدعاة عن تذكير أسرهم وأهليهم وعشيرتهم وأقاربهم، وهذا مجافٍ للفطرة ولفقه الدعوة ولسنة الدعوة فعلى الداعية إلى الله أن يخص أرحامه وأقاربه ببعض الوقت لدعوتهم وتعليمهم وتربيتهم. إن أصل الفطرة أن يحب الإنسان أقاربه وأرحامه، وأن يحرص على ما ينفعهم وأن يبعد عنهم ما يضرهم، والداعية إلى الله همه الأول أن ينقذ الناس من النار، فإذا ما أهمل أقرب الناس إليه، فكأنه يدلل على عدم صدقه في دعوته، فإن كان همه الإنقاذ فهؤلاء أولى الناس بالبداءة، أما إذا كان همه الزعامة والرئاسة وهؤلاء مطمئن لموقفهم منه فهذه كارثة، أو كان لا تحركه نحوهم عاطفة خاصة فهذا مجاف للفطرة، المهم أن كل داعية لابد أن يخص أهله وأقاربه بمزيد عناية ابتداءاً أو توسطاً أو انتهاءاً، والابتداء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال السباعي: إن على الداعية أن يهتم بأقربائه، فيبلغهم دعوة الإصلاح. فإذا أعرضوا، كان له عذر أمام الله والناس، عما هم عليه من فساد وضلال. 89 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهرٍ، يا بني عديٍ" - لبطون قريش - حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً، لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهبٍ وقريشٌ، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي،

_ 88 - مسلم (1/ 192) 1 - كتاب الإيمان - 89 - باب في قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين). رضة: الرُضة: واحدة الرضم: وهي الحجارة والصخور بعضها على بعض. يربأ: الربيئة: الذي يحرسُ القوم، ويتطلع لهم، خوفاً من أن يكبسهم العدو. يا صباحاه: كلمة يقولها الملهوف والمستغيث. 89 - البخاري (8/ 501) 65 - كتاب التفسير - 2 - باب (وأنذر عشيرتك الأقربين). تباً لك: التبُّ: الهلاك: أي هلاكاً لك، وهو منصوب بفعل مضمر. البطحاء: الأرض المستوية.

تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جرينا عليك إلا صدقاً، قال: "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (1). وفي بعض الروايات: (وقد تب) كذا قرأ الأعمش. وفي رواية (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعِدَ إلى الجبل، فنادى: "صباحاه، يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش فقال: "أرأيتم إن حدثتكم: أن العدو مُصبحكم، أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ " قالوا: نعم، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديدٍ" وذكر نحوه. وللبخاري (3) أيضاً قال: لما نزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم قبائل، قبائل. وفي رواية للبخاري (4): لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صباحاه" فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذباً .. وذكر الحديث. قال في الفتح: والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولاً أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم. وفيه جواز تكنية الكافر، وفيه خلاف بين العلماء، كذا قيل.

_ (1) سورة المسد: 1، 2. (2) البخاري (8/ 737) 65 - كتاب التفسير - تفسير سورة (111) - 2 - باب (وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب). (3) البخاري (6/ 551) 61 - كتاب المناقب - 13 - باب: من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية. (4) البخاري (8/ 537) 65 - كتاب التفسير - تعسير سورة (111)، باب: 1 - . (ورهطك منهم المخلصين): هذا مما نسخت تلاوته.

أصناف خصوم الدعوة الجهرية

90 - * روى الإمام أحمد عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته فاجتمع له ثلاثون رجلاً فأكلوا وشربوا قال: فقال لهم: "من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي" فقال رجل لم يُسمه شريكٌ: يا رسول الله أنت كنت بحراً من يقوم بهذا، قال: ثم قال: لآخر فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي: أنا. نفهم من الحديث أدباً وهو أن يكون للداعية إلى الله سواء كان شيخاً أو أمير جماعة أن يكون معه من يحفظ مواعيده ليذكر بها أو ليوفيها، وقد يكون منصب أمين السر في عصرنا يحقق الضبط لهذه الشؤون، وخلفاء القائد عليهم مراعاة ذلك، ومن فقه الدعوة في الحديث أن يخص الداعية الأخص من أهل بيته بمزيد عناية في الدعوة، وأن يصطنع المناسبات لتبليغ دعوته، والوليمة مناسبة من المناسبات عند الداعية لتحقيق هدف أو لتبليغ دعوة. * * * أصناف خصوم الدعوة الجهرية: ويبدو أن الدعوة الجهرية لقريش لم تلق استجابة مباشرة بل لقيت صداً مباشراً وكيداً عنيفاً، وبهذه المناسبة تحدث الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة عن أنواع الخصوم الذين واجهوا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ومن أولئك الخصوم: * متعصبون تحجرت عقولهم. تزين لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...} (1). * .. أو مترفون سرتهم ثروتهم يحبون الباطل لأنه على أرائك وثيرة ويكرهون الحق

_ 90 - أحمد في مسنده (1/ 111) وإسناده جيد وتقدمت له طرق في علامات النبوة. مواعيدي: أي ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً ولم يتم له أن يعطيه. بحراً: أي كانت مواعيده وعطاؤه كثيرين كالبحر. (1) الحج: 72.

لأنه عاطل عن الحلي والمتاع {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ..} (1)!! * .. أو متعنتون يحسبون هدايا الرحمن عبث صبية، أو أزياء غانية فهم يقولون: دع هذا وهات هذا {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (2)!! * .. أو مهرجون يتواصون بينهم عال ضجة عالية وصياح منكر عندما تقرأ الآيات، حتى لا تسمع فتفهم فتترك أثراً في عقل نقي وقلب طيب {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (3)!! لو أن أهل مكة ترددوا في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبحثوا أمره ويمحصوا رسالته، ويزنوا - على مهل - ما لديهم وما جاء به، لما عليهم على هذا عاقل. ولكنهم نفروا من الإسلام نفور المذنب من ساحة القضاء بعدما انكشفت جريمته وثبتت إدانته. أهـ. 91 - * روى الطبراني عن جُبيرٍ بن نُفيرٍ قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً ومر بنا رجل واستمعنا إليه فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت، فأقبل إليه فقال: ما يحملُ الرجل أن يتمنى محضراً غيبة الله عنه لا يدري كيف يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه، ألا يحمد الله تعالى أحدكم أن لا تعرفوا إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم، فقد كفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حالٍ بعث عليها نبي من الأنبياء في فترةٍ وجاهليةٍ لم يروا أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقانٍ فرق قه بين الحق والباطل وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه

_ (1) مريم: 73. (2) يونس: 15. (3) فصلت: 26. 91 - المعجم الكبير (20/ 359) وأحمد في مسنده (6/ 2)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 17): رواه الطبراني بأسانيد في أحدها يحيى بن صالح، وثقه الذهبي وقد تكلموا فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح. طوبى: اسم للجنة. وقيل هي شجرة فيها وأصلها في اللغة فعلى من الطيب. لوددنا: من الود وهو الحب أي أحببنا. فترة وجاهلية: الفترة أي زمان انقطع فيه مجيء الأنبياء، وهي الفترة ما بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، والجاهلية: ما كان عليه العرب قبل الإسلام من عبادة الأصنام والجهل والضلال، بفرقان: أي القرآن، حميمه: أي قريبه.

كافراً، وقد فتح الله تعالى قِفْلَ قلبهِ للإيمان ليعلم أنه قد هلك من دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلمُ أن حميمهُ في النار، وأنها التي قال الله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (1). 92 - * روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفرُ محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيتهُ يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نارٍ وهؤلاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عضواً عضواً" قال: فأنزل الله عز وجل، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه، {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * ... أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ} (2) زاد عبيد الله في حديثه قال: وأمره بما أمره به. وزاد ابنُ عبد الأعلى فليدعُ ناديهُ: يعني قومه. قال في الفتح: وإنما شدد الأمر في حق أبي جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي مُعيط حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حالة صلاته، لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوى أهل طاعته وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلى الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه وعلى من شاركه في فعله فقتلوا يوم بدر.

_ (1) الفرقان: 74. 92 - مسلم (4/ 3154) 250 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 6 - باب قوله: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. التعفير: التمريغ في التراب. يعفر أي يسجد ويلصق وجهه بالغفر وهو التراب. فجئهم: بكسر الجيم ويقال أيضاً فجأمه. نكص على عقبيه: رجع إلى ورائه القهقري. الاختطاف: الاستلاب بسرعة. كذب وتولى: يعني أبا جهل. (2) العلق: 6 - 19.

93 - * روى الحاكم عن خال بن سعيد أن سعيد بن العاص بن أمية مرض فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا لا يُعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبداً فقال خالد بن سعيد عند ذلك: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك. 94 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (1) قال: نزلت في أبي طالبٍ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعدُ عما جاء به. 95 - * روى البخاري عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: سمعتُ سعيد بن زيد بن عمرو في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عُمر لموثقي على الإسلام قبل أن يُسلم عمر، ولو أن أحداً رفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض. 96 - * روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أخفتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحدٌ. ولقد أتت علي ثلاثون من بين يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكله ذو كبدٍ إلا شيء يواريه إبطُ بلال". ومعنى هذا الحديث: حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هارباً من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه.

_ 92 - المستدرك (3/ 249) وسكت عنه الحافظ الذهبي في التلخيص. لئن رفعني الله من مرضي: أي: لئن شفاني الله من مرضي" ومثل هذا النذر من هذا الشرك يدل على مقدار ثقة المشركين أنهم على حق، وهذا يبين الصعوبة التي واجهها الرسول في التغيير. ابن أبي كبشة: أي: محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ينسبونه لأبيه من الرضاعة. وفي دعاء خالد: على أبيه مظهر من مظاهر الولاء الخالص الشديد عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا لدين. 94 - المستدرك (2/ 315) وقال: صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي. ينأون: يبتعدون. أي أنهم لا يستجيبون لدعوته. (1) الأنعام: 26. 95 - البخاري (7/ 176) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 34 - باب إسلام سعيد بن زيد. لموثقي علي الإسلام: أي أن عمر - رضي الله عنه - ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزاماً بالرجوع عن الإسلام. ارفض: والارفضاض: التفرُّق. 96 - الترمذي (4/ 645) 38 - كتاب صفة القيامة - 24 - باب حدثنا هارون بن إسحاق ... وقل: حسن غريب. وابن ماجه (1/ 54) 1 - المقدمة - 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث حسن بشواهده، ورواه ابن حبان - الإحسان (8/ 182).

97 - * روى أبو يعلي عن جابر بن عبد الله قال: اجتمعت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأتِ هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه، قالوا: ما نعلمُ أحداً غير عتبة ابن ربيعة، قالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبةُ فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنت خيرٌ أم بعد المطلبِ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خيرٌ منك قد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كُنت تزعمُ أنك خيرٌ منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، ما يُنتظرُ إلا مثل صيحةِ الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى تتفانى. أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريشٍ رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرغت؟ " قال: نعم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (2) فقال عتبة: حسبُك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركتُ شيئاً أرى أنكم تكلمونهُ به إلا كلمته، قالوا: هل أجابك؟ قال: نعم، قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك رجل بالعربية فلا تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. أقول: إن فتح باب الحوار لمصلحة الإسلام والمسلمين إذا وجد الداعية الكامل هو

_ 97 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 19): رواه أبو يعلي وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. وقال عنه الحافظ في التقريب (1/ 49) (صدوق) لذا فالحديث حسن إن شاء الله تعالى، ويزيده ما رواه ابن إسحاق مرسلاً بإسناد جيد (1/ 313). الباء ة: النكاح (1) فصلت: 1، 2. (2) فصلت: 13.

الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يغلق باب الحوار مع أحد، ولكنه في أي حوار كان يدعو إلى الله ويحقق مصلحة للإسلام والمسلمين. 98 - * روى الترمذي عن عروة بن الزبير بن العوام، أن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (1) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني - وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عُظماء المشركين - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويُقبل على الآخرين، ويقول: "أترى بما أقول بأساً؟ " فيقول: لا، ففي هذا أنزل. هذه حادثة خالدة ولذلك سجلها القرآن الكريم، لأنها تشكل ظاهرة متجددة في الدعوة إلى الله، وهي من الخطورة بالمكان العظيم، فالدعاة دائماً يتطلعون إلى كسب جديد للدعوة، وفي غمرة التطلع هذا قد يغفلون حقوق المستجيبين للدعوة، وفي كثير من الأحيان لا يستجيب الآخرون ويفقد الداعية صفته. وأول مبادئ العمل الإسلامي أن تحرص على رأس المال أكثر من حرصك على الكسب، ثم إن التطلع المبكر نحو رؤوس القوم ليس هو الأصل، فالعادة جرت أن هؤلاء تتأخر استجابتهم، فالتركيز على المستجيبين ليشكلوا القيادة الحقيقية للأمة هو الأساس، ثم إن الأولوية يجب أن تعطى دائماً للمستجيبين وللصف لتبقى أرواحهم معلقة بالملأ الأعلى. 99 - * روى الطبراني وأبو يعلي عن عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيُسمعنا ما يؤذينا

_ 98 - الترمذي (5/ 422) 48 - كتاب تفسير القرآن - 73 - باب ومن سورة عبس. وقال: حديث حسن غريب، والموطأ (1/ 203) 15 - كتاب القرآن - 4 - باب: ما جاء في القرآن، وصححه ابن حبان (موارد: 1769). أرشدني - اهدني ودلني على الخير. والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه. أترى بما نقول بأساً: أي هل قلت شيئاً مذموماً؟ (1) عبس: 1. 99 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 14): رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وأبو يعلي باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلي رجال الصحيح المعجم الكبير (17/ 192). الكبس: بيت صغير، لمطاعاً: أي لمطواعاً أي لمطيعاً إما أنه ضمن اسم الفاعل معنى المفعول أو أنه بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم مطاع. حلق: حلق ببصره: رفعه. راشدين: مهتدين.

به، فإن رأيت أن تكفهُ عنا فافعل. فقال لي: يا عقيل التبس لي ابن عمك، فأخرجته من كبسٍ من أكباس أبي طالب، فأقبل يمشي معي يطلبُ الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه، حتى انتهى إلى أبي طالب فقال له: يا ابن أخي والله ما علمت أن كنت لي لمطاعاً، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تُسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم، فحلق ببصره إلى السماء فقال: "والله ما أنا بأقدر أدع ما بعثتُ به من أن يُشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار"، فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط ارجعوا راشدين. 100 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نُكذبك ولكن نُكذب بما جئت به، فأنزل الله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1). * * *

_ 100 - الترمذي (5/ 261) 48 - كتاب تفسير القرآن - 7 - باب: ومن سورة الأنعام. والحديث صحيح، وهو عند الحاكم بلفظ: إنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا تكذبك، ولكن نكذب ... قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي: ما خرجنا لتاجية شيئاً. قال ابن حجر: ناجية ثقة عن علي. يجحدون: جحد الأمر جحداً أو جحوداً: أي أنكره مع علمه به. (1) الأنعام: 33.

فصل ووصل

فصل ووصل الوحي، ففترة الوحي، فالأمر بالإنذار، فالدعوة الفردية السرية، فالدعوة الجماعية الجهرية، فالهجرة الأولى إلى الحبشة، وإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ هذه هي للعالم الكبرى لأحداث السنين الست بعد البعثة. دامت فترة الوحي على الأرجح أياماً وستة شهور ثم نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة سرية وفردية واستمر على ذلك ثلاث سنين، ثم أمر بالجهر بالدعوة، فبدأ بعشيرته الأقربين فجهر ودعا فزاد المقاومة والاضطهاد مما اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتخاذ دار الأرقم مقراً سرياً للدعوة والتربية والتعليم والعبادة، وكان ذلك في بداية السنة الخامسة، وفي رجب من السنة الخامسة، هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة وكان مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، وفي شوال من نفس السنة عاد هؤلاء بعد أن بلغتهم شائعة أن قريشاً أسلمت فلما عرفوا جلية الأمر رجع بعضهم إلى الحبشة ودخل بعضهم مكة مستخفياً أو في جوار، واشتد الاضطهاد فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة والتي شارك فيها ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشر أو تسع عشر امرأة، والذي يبدو أن الهجرة الثانية كانت على دفعات، والراجح أن إسلام حمزة وعمر كان بعد الهجرة الثانية أواخر السنة السادسة من البعثة، والرايات تذكر أن عمر أسلم بعد تسعة وثلاثين رجلاً وثلاث وعشرين امرأة، أو بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، أو بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى وعشرين امرأة، أو بعد ثلاثة وثلاثين رجلاً، والتوفيق بين هذا العدد وبين أن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا حوالي المئة، إما أن إسلام عمر كان بين الهجرتين فانتعشت الدعوة أو كان بعد الهجرتين، لكن الهجرة الثانية كانت على دفعات وكانت محصلتها العدد المذكور. وكان المسلمون لا يقدرون يصلون عند الكعبة، فلما أسلم عمر رضي الله عنه قاتل قريشاً حتى صلى عندها وصلى معه المسلمون، وقد قووا بإسلامه وإسلام حمزة رضي الله عنهما، وجهروا بالقرآن ولم يكونوا قبل ذلك يقدرون أن يجهروا به ففشا الإسلام وكثر المسلمون.

101 - * روى الحاكم عن عثمان بن الأرقم، أنه كان يقول: أنا ابن سبع الإسلام، أسلم أبي سابع سبعةٍ، وكانت داره على الصفا هي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون فيها في الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام فأسلم فيها قوم كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإثنين فيها: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام" فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرةً فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين، ودُعيت دار الأرقم دار الإسلام. تشير هذه الرواية إلى تقدم اتخاذ دار الأرقم فإذا كان الأرقم سابع سبعة دخلوا الإسلام، وإذا شهدت دار الدعوة السرية الفردية فاتخاذ الدار إذن متقدم، وكونُ عمر بن الخطاب أسلم فيها فهذا يفيد أنها استمرت مركزاً للدعوة سنوات طويلة. يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: إن على الداعية أن يجتمع بأنصاره على فترات في كل نهار أو أسبوع: ليزيدهم إيماناً بدعوتهم، وليعلمهم طرقها وأساليبها وآدابها، وإذا خشي على نفسه جماعته من الإجتماع بهم علناً وجب عليه أن يكون اجتماعه بهم سراً لئلا يجمع المبطلون أمرهم فيقضوا عليهم جميعاً، أو يزدادوا في تعذيبهم واضطهادهم. أهـ. ومن فكرة اتخاذ دار الأرقم نأخذ ضرورة وجود مراكز للدعوة على أن يتولى الدعوة فيها الدعاة الكبار. * * *

_ 101 - المستدرك (3/ 502) وسكت عنه الذهبي. وآخر الحديث موجود عن الترمذي (5/ 617) 50 - كتاب المناقب - 18 - باب: في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال: حسن صحيح غريب. وصححه ابن حبان.

فصل: في هجرتي الحبشة

فصل: في هجرتي الحبشة اشتد البلاء على المسلمين فوجد بعهم حماية وبعضهم لم يجد، ووجد هناك تطلع لحرية العبادة فكانت فكرة الهجرة إلى الحبشة حيث كان يحكمها ملك عادل. كان عمر في تلك الأثناء مشركاً هو وحمزة، وقد دخلا في الإسلام في هذه المرحلة بعد ابتداء الهجرة إلى الحبشة وقبل حصار الشعب في السنة السابعة، وترتب على إسلامهما وضع جديد مما جعل قريشاً تفكر بوسائل جديدة، فاخترعت فكرة حصار الشعب، وهكذا تعددت أنواع الإيذاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماض يبلغ الناس في المواسم وحيثما لقيهم، أفراداً وجماعات. والهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة للبعثة وكان عدد الذين هاجروا فيها اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، ورجع بعض هؤلاء على أثر سجود المشركين عند تلاوة سورة النجم، فوجدوا الأمر على أشده فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وتمت على دفعات، ومجموع من ذكرت أسماؤهم في الهجرة الثانية ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان أو تسع عشرة امرأة. 102 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه ليلى قالت: كان عمرُ ابن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة، فأتى عمر بن الخطاب وأنا على بعيري وأنا أريد أن أتوجه، فقال: أين يا أم عبد الله؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذي. فقال: صحبكم الله ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يُسلم، والله لا يسلم حتى يُسلم حمارُ الخطاب. وهذا يد لعلى أن إسلام عمر تأخر إلى ما بعد البدء بالهجرة الأولى إلى الحبشة. 103 - * روى الطبراني عن عروة في تسمية الذين خرجوا إلى الحبشة المرة الأولى قبل

_ 102 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 22): رواه الطبراني وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح. 103 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 22): رواه الطبراني في الكبير بلين وإرسال. قلت: وإنما ذكرناه ليتعرف القارئ على أسماء بعض من خرج في الهجرة الأولى.

خروج جعفر وأصحابه: الزبير بن العوام، سهل بن بيضاء، عامر بن ربيعة، عبد الله بن مسعود، عبد الرحمن بن عوف، عثمان بن عفان، مع امرأته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، عثمان ابن مظعون، مصعب بن عمير، أبو حذيفة بن عتبة، مع امرأته سهلة بنت سهيل، وولدت بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، أبو سبرة بن أبي رهم، مع امرأته أم كلثوم بنت سهيل، أبو سلمة بن عبد الأسد، مع امرأته أم سلمة. 104 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجمِ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وراجت على أثر هذا السجود شائعة أن قرشاً ومن معها أسلم فرجع بعض الهاجرين فوجدوا الأمر على غير ما شاع فرجع بعضهم ودخل بعضهم مستخفياً أو بجوار. 105 - * روى الطبراني والبزار عن عمير بن إسحاق قال: قال جعفر: يا رسول الله ائذنُ لي أن أتي أرضاً يعبدُ الله فيها لا أخاف أحداً، قال: فأذن له فيها، فأتى النجاشي. قال عمير: حدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيتُ جعفراً وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته قلت: لا تستقبلن لهذا وأصحابه فأتيتُ النجاشي فقلت: ائذن لعمرو بن العاص، فأذن لي، فدخلت فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد وإنا والله إن لم تُرحنا منه وأصحابه لاقطعتُ إليك هذه النطفة ولا حد من أصحابي أبداً، فقال: وأين هو؟ قلت: إنه يجيء مع رسولك إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولا فوجدناه قاعداً بين أصحابه، فدعاه فجاء، فلما أتيتُ الباب ناديتُ ائذن لعمرو بن العاص، ونادى خلفي ائذن لحزب الله عز وجل فسمع صوته فأذن له قبلي، فدخل ودخلت، وإذا النجاشي على السرير قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلاً من أصحابي

_ 104 - البخاري (8/ 614) 65 - كتاب التفسير (53) سورة النجم - 4 - باب (فاسجدوا لله واعبدوا). 105 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 29): رواه الطبراني والبزار وصدر الحديث في أوله له، وزاد في آخره قال: ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين. وعمير بن إسحق وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح، وروى أبو يعلي بعضه ثم قال: فذكر الحديث بطوله، وانظر كشف الأستار: 2/ 297. النطفة: الماء الصافي قل أو أكثر، والمراد به هنا ماء بحر جدة. القشرة: اللباس.

فقال النجاشيُّ: نجروا. قال عمرو: يعني تكلموا. قلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إنْ لم تقطعه وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبداً، قال جعفر: صدق ابن عمي وأنا على دينه، قال: فصاح صياحاً وقال: أوهِ، حتى قلت: ما لابن الحبشية لا يتكلم؟ وقال: أنامُوسٌ كناموس موسى؟. قال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قال: أقول هو روح الله وكلمته. قال: فتناول شيئا صمن الأرض، فقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا، فوالله لولا مُلكي لاتبعتكم وقال لي: ما كنت أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبداً، أنت آمن بأرضي، من ضربك قتلته، ومن سبك غرمتهُ، وقال لآذنه: متى استأذنك هذا فائذن له إلا أن أكون عند أهلي فإن أبي إلا أن تأذن له فأذن له. قال: فتفرقنا ولم يكن أحد أحب إليّ أن ألقاهُ من جعفرٍ، قال: فاستقبلني من طريق مرة فنظرتُ خلفه فلم أر أحداً، فنظرتُ خلفي فلم أر أحداً فدنوت منه وقلت: أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: فقد هداك الله فأثبت، فتركني وذهب، فأتيتُ أصحابي فكأنما شهدوه معي، فأخذوا قطيفة أو ثوباً فجعلوه علي حتى غموني بها قال، وجعلتُ أخرج رأسي من هذه الناحية مرة ومن هذه الناحية رمة حتى أفلتُ وما علي قشرة، فمررتُ على حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي، فأتيتُ جعفراً فدخلت عليه فقال: مالك؟ فقلتُ: أخذ كل شيءٍ لي ما ترك علي قشرة فأتيتُ حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي، فانطلق وانطلقت معه حتى أتى إلى باب الملك، فقال جعفر لآذنه: استأذن لي، قال: إنه عند أهله فأذن له فقلت: إن عمراً تابعني على ديني، قال: كلا، قلت: بلى، فقال لإنسان: اذهبْ معه فإن فعل فلا تقل شيئاً إلا كتبته، قال: فجاء فقال: نعم، فجعلتُ أقول وجعل يكتبُ حتى كتبتُ كل شيء حتى القدح، قال: ولو شئت آخذ شيئاً من أموالهم إلى مالي فعلتُ. 106 - * (1) روى الطبراني عن ابن شهاب في تسمية من هاجر إلى أرض الحبشة فأقام بها

_ 106 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 31): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

حتى قَدِم بعد بدرٍ: شرحبيل بن عبد الله بن حسنة وهي أمهُ. 107 - * روى الطبراني عن أبي موسى، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعا للنجاشي هدية، وقدِما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم، فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: ل يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس وعمرو بن العاص عن يمينه وعُمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله، قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسولاً وهوا لرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أنْ نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرنا أن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم، فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر ولم يفترضها ولد. فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من المُلك لأتيته حتى أُقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعامٍ وكسوة، وقال: رُدوا على هذين هديتهما. وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً وكان عُمارة رجلاً جميلاً وكانا أقبلا إلى النجاشي فشربوا يعني خمراً ومع عمرو بن العاص امرأته، فلما شربوا من الخمر قال عمارة لعمرو:

_ 107 - قال الهيثمي في مجمع الزوئد (6/ 30): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. سماطين: السماط: الصف يقال مشى بين سماطين: أ] بين صفين. لم يفترضها: لم يؤثر فيها ولم يجزها أي قبل المسح عليه السلام، طار مع الوحش: جُن وبار مع الوحوش.

مر امرأتك فلتقبلني. فقال له عمرو: ألا تستحي؟ فأخذ عمارة عمراً فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة، فحقد عمرو على ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عُمارة في أهلك. فدعا النجاشي عمارة. فنفخ في إحليله فطار مع الوحش. 108 - * روى أحمد عن أم سلمة ابنة أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله، لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قرشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يُهُدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لتردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك قد صبا إلى بلدك منا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدعٍ لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعماهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن

_ 108 - أحمد في مسنده (1/ 201) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 27)؛ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. البطريق: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم وهو ذو منصب عندهم.

العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم على بهم عيناً وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله أيم الله، إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على منْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذا في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض، ما تقولون للرجل إذا جئتموه، قالوا: تقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحدٍ من هذه الأمة؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية: نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيءٍ؟ قالت: فقال لهُ

جعفر: نعَمْ، فقال له النجاشي: فاقرأه. فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيتهُ وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرجْ منْ مشكاةٍ واحدةٍ انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما بداً ولا أكادُ. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غداً أيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عليه السلام عبدٌ. قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قلت: ولم ينزل بنا مثلها واجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: تقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما غدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سُيومٌ بأرضي - والسيوم الآمنون - من سبكم غَرِمَ، فما أحبُّ أن لي دبراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم (والدبر بلسان الحبشة: الجعل)، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهُم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ فوالله إنا على ذلك إذ تنزل به من يُنازعه في مُلكه

_ خضراءهم: أصلهم الذي منه تفرعوا. الناخرت: نخر ينخر نخيراً: مد الصوت في خياشيمه، استوسق: اتسق وانتظم.

دروس من الهجرة إلى الحبشة

قالت: فوالله ما علمنا حُزناً قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرفه منه. وقالت: وسار النجاشي وبينهما عرضُ النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجلٌ يخرج حتى يحضر القوم ثم يأتينا بالخبر. قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قلت: وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا له قرية فجعلوها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزلٍ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. * * * دروس من الهجرة إلى الحبشة: 1 - هناك ناس يعتبرون مجرد التفكير في أمن الدعوة ورجالها ونسائها علامة ضعف، ويعتبرون البحث عن الأمن والأمان جريمة، وهذا تفكير ناس قطع الله قلوبهم عن أن تستشعر حاجات الإنسان، نعم لا يصح أن يكون البحث عن الأمن والأمان على حساب الدعوة إلا في الحدود التي رخص فيها الإسلام، والرخصة في محلها طيبة، فهذا عمار بن ياسر قال كلمة الكفر تحت التعذيب، وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجروا إلى الحبشة بحثاً عن الأمن والأمان، والعبرة في النهاية لإذن القيادة الراشدة ولحسن تقديرها. 2 - لقد هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قطرٍ كافر فيه عدالة وحرية يستطيعون من خلالها أن يأمنوا وأن يقيموا شعائر الإسلام، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في العمل والحركة، فهناك بلدان في العالم تسمح للمسلم بأن يقيم شعائره الدينية وتعامله كما تعامل أبناءها في الحقوق والواجبات، مثل هذه البلدان تصلح للتفكير فيها إذا ما اضطهد المسلم في بلده بل تصلح للإقامة فيها، ولا حرج إذا ما ضمن المسلم إمكانية تربية أسرته بل قال فقهاء الشافعية: لو أن مسلماً استطاع أن يظهر شعائر الإسلام في دار كفر، فالأولى له البقاء لأنه بذلك تصبح داره دار إسلام في أرض كفرن والمسألة تخضع في النهاية للموازنات بين المصالح

والأضرار كما تخضع للفتوى البصيرة من أهلها. 3 - يلاحظ أن مهاجري الحبشة لم يكلفوا بأية مهام دعوية على أرض الحبشة، وهذا يفتح أمامنا باباً واسعاً في آداب المسلم إذا ما اضطرته ظروفه إلى هجرة، فإنه في هذه الحالة يسعه أن يلاحظ قوانين البلد الآخر وألا يتدخل في شؤونه الداخلية إلا بالقدر الذي يسمح به البلد الآخر، والأمر واسع فهو يدور بين رخصة وعزيمة وللقيادة الراشدة دور في تحديد العمل المطلوب من المهاجرين على أن لا يقع غدر أو نكث أو خيانة من قِبَلِنا، ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف جعفراً وأصحابه بالدعوة فإن هناك روايات تفيد أن جعفراً قد دعا واستجيب له. 4 - من قصة النجاشي ابتداء وانتهاء نصل إلى قضية على غاية من الأهمية في العمل الحركي، فالنجاشي أسلم في النهاية، وبقي على رأس نظام له قوانين غير إسلامية، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وصلى عليه لما مات، وهذا يفيد أن الحكم على نظام بالكفر لا يعني الحكم على كل فرد فيه بذلك، بل قد يوجد نظام كافر ويحكم للرأس المدبر لهذا النظام بالإسلام ظاهراً وباطناً، كما هو حال النجاشي. 5 - نذكر بمناسبة الكلام عن الهجرية الأولى للحبشة الأولى للحبشة حادثة سجود المشركين عندما سمعوا سورة "النجم" ويذكر في سياق ذلك حادثة الغرانيق من أن الشيطان أسمع المشركين تمجيداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصنامهم أثناء تلاوته عليه الصلاة والسلام، وتلك قصة باطلة لا أصل لها. 6 - وفي حكم الهجرة قال الدكتور البوطي: أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة: أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج .. ، وأما الجواز فيكون عندما يصبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى، وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره. 7 - وقال الدكتور البوطي تلعيقاً على حادثة الهجرة إلى الحبشة:

يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي - إذ كان نصرانياً عندئذ ولكنه أسلم بعد ذلك -، أو كان مشركاً كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف. 8 - قال الدكتور السباعي رحمه الله: إن على الداعية إذ وجد جماعته في خطر على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة، أن يهيئ لهم مكاناً يأمنون فيه من عدوان المبطلين، ولا ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية، فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاءاً مبرماً، فيتخلصوا من دعوتهم، وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لاستمرار الدعوة وانتشارها. 9 - وقال: إن في أمر الرسول أصحابه أولاً وثانياً بالهجرة إلى الحبشة، ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين - ولو اختلفت دياناتهم - هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين. 10 - وقال: إن المبطلين لا يستسلمون أمام أهل الحق بسهولة ويسر، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق، ابتكروا وسائل أخرى، وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة. * * *

فصل: في إسلام عمر وحمزة

فصل: في إسلام عمر وحمزة 109 - * روى الطبراني عن محمد بن كعب القرظي قال: كان إسلام حمزة رضي الله عنه حَمِيَّةَ وكان يخرج من الحرم فيصطادُ فإذا رجع مر بمجلس قريش، وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة فيمر بهم فيقول: رميت كذا وكذا وصنعت كذا وكذا ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات يوم فلقيته امرأة فقالت: يا أبا عُمارة ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام؟ شتمه وتناوله وفعل وفعل، فقال: هل رآه أحد؟ قالت: أي والله لقد رآه ناس، فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم فاتكأ على قوسه وقال: رميتُ كذا وفعلت كذا وكذا، ثم جمع يديه بالقوس فضرب بها بين أذني أبي جهل فدق سيتها، ثم قال: خذها بالقوس وأخرى بالسيف، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله، قالوا: يا أبا عمارة إنه سب آلهتنا، وإن كنت أنت وأنت أفضل منه ما أقررناك وذاك، وما كنت يا أبا عمارة فاحشاً. 110 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر". قال: فأصبح، فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم. 111 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب. المراد بالجهر هنا التحدي، وإلا فقد جهر قبله غيره. 112 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر

_ 109 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 267)، رواه الطبراني مرسلاً ورجاله رجال الصحيح. 110 - الترمذي (5/ 617 - 618) 50 - كتاب المناقب - 18 - باب في مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهذا الحديث غريب من هذا الوجه، وتشهد لهذه الرواية روايات أخرى صحيحة. فغدا: غد عليه غدواً وغدوة - بالضم - واغتدى: بكر، أي ذهب إليه مبكراً. والغدوة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس. 111 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 63): رواه الطبراني وإسناده حسن. 112 - البخاري (7/ 41) - 62 - كتاب فضائل الصحابة - 6 - باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

113 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: إن كان إسلامُ عمر لفتحاً، وهجرته لنصراً، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر. 114 - * روى الحاكم عن عثمان بن عبد الله بن الأرقم عن جده الأرقم، وكان بدرياً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوى في داره عند الصفا حتى تكاملوا أربعين رجلاً مسلمين وكان آخرهم إسلاماً عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فلما كانوا أربعين خرجوا إلى المشركين. قال الأرقم: فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأودعه وأردتُ الخروج إلى بيت المقدس، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أين تُريدُ؟ " قلت: بيت المقدس. قال: "وما يخرجك إليه أفي تجارةٍ؟ " قلت: لا ولكن أصلي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة ها هنا خيرٌ من ألف صلاةٍ". ذكر رقم الأربعين هنا يحتمل أنهم تكاملوا أربعين بعد هجرة من هاجر إلى الحبشة لأن الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الثانية أكثر من ثمانين، أو نقول: إن الثمانين لم يهاجروا دفعة واحدة فالمسلمون تزايدوا بعد إسلام عمر وقسم منهم هاجر فزاد رقم المهاجرين على الثمانين وهذا الذي نرجحه، فيكون عمر هو الموفي على العدد الأربعين وهي حصيلة عمل خمس سنين من الدعوة، وفي هذا درس للمتعجلين. 115 - * روى البخاري عن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: بينما هو في الدار خائفاً، إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو عليه حُلةُ حبرٍ وقميصُ مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمتُ، قال: لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنتُ - فخرج العاص، فلقيَ

_ 113 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 62): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود. المعجم الكبير (9/ 178). 114 - المستدرك (3/ 504) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 115 - البخاري (7/ 177) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 35 - باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. الحسرة: بُرد يماني، والجمع: حسر وجيرات. الحلفاء: جمع حليف، وهو الذي يحلف لك وتحلف له على التعاضد والتناصر، لا سبيل إليك: أي لن يقربك أحد بسوء، صبأ: صبأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره. كر =

دروس من إسلام عمر وحمزة

الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه. فكر الناسُ. وفي رواية قال: لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره، وقالوا: صبأ عمر - وأنا غلامٌ فوق ظهر بيتي - فجاء رجلٌ عليه قباء من ديباجٍ، فقال: قد صبأ عمر، فما ذاك؟ فأنا له جاز، فرأيتُ الناس تصدعوا عنه، فقلت: من هذا؟ قالوا: العاص بن وائلٍ. 116 - * روى الطبراني عن عمر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لا أدعُ مجلساً جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإسلام، فأتى المسجد وفيه بطون قريش متحلقة فجعل يعلن الإسلام ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فثار المشركون فجعلوا يضربونه ويضربهم. فلما تكاثروا عليه خلصه رجل فقلت لعمر: من الرجل الذي خلصك من المشركين؟ قال: ذاك العاص بن وائل السهمي. * * * دروس من إسلام عمر وحمزة: إن معرفة الرجال وإدراك مزاياهم والاستفادة من كفاءاتهم شيء لا يلحق به أحد من الناس رسولنا عليه الصلاة والسلام وفي قصة عمر نموذج، والقائد الذي لا يدرك مزية الرجال ويحسن الاستفادة من قوة القوي منهم قائد فاشل وضائع. ولقد عز الإسلام بعمر من حيث إنه حمل هذا الدين جهرة وتحدى به وصارع من أجله - دون قتال - ومن هنا نعرف أن مجرد إظهار الدعوة والوقوف بقوة معها واثبات على ذلك يعتبر نصراً للإسلام وأهله. وبإسلام حمزة وعمر وجد وضع جديد في مكة، وبخروج بعض الأصحاب إلى الحبشة

_ = الناس: رجعوا. القباء: ثوب يبس فوق الثياب. الديباج: نوع من الثياب يصنع من الإبرسيم، وهو أحسن أصناف الحرير، جار: أنا لفلان جار، أي: حام، وفلان في جواري: في حِمَاي وحفطي، تصدعوا عنه: أي تفرقوا عنه. 116 - قال في المجمع (9/ 65): روا الطبراني ورجاله ثقات.

زادت أضغان المشركين، ولكن أبا طالب كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله دعا قريشاً لأن تفكر وتعمل الحيلة، فهداها شيطانها إلى فكرة المقاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن يتعاطف معهم مما ألجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبا طالب وبني هاشم وبني المطلب ما عدا أبا لهب إلى الدخول في شعب أبي طالب لمواجهة الحصار الاقتصادي والاجتماعي مجتمعين، وكانت محنة جديدة استمرت ثلاث سنين، أنهك فيها أبو طالب وخديجة فتوفيا على إثرها، وههنا ازدادت المحنة وبدأت قريش بالإيذاء المباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من آثار ذلك أن قرر رسول الله الرحلة إلى الطائف للدعوة هناك، فوقفت منه ثقيف موقفاً هو شر من موقف قريش فعاد إلى مكة ودخلها بحماية المطعم بن عدي. وخلال هذه الأحداث كلها كانت الدعوة مستمرة، والتبليغ قائماً على قدم وساق، وفُتح آخر الأمر الطريق إلى المدينة بدخول الإسلام إلى أهلها على مدار ثلاث سنوات متوالية حدثت خلالها حادثة الإسراء والمعراج كمقدمة لميلاد الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ثم كان آخر الأمر الهجرة إلى المدينة. * * *

فصل: في حصار الشعب

فصل: في حصار الشِّعْب بدأ حصار الشعب في السنة السابعة للبعثة، واستمر ثلاث سنوات وانتهى على القول الراجح في المحرم من السنة العاشرة. تعاقدت قريش على بني هاشم وبني المطلب ألا ينكاحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، وكتبوا هذا في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب إلى شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، واشتد الحصار وقطعت عنهم الميرة والمادة حتى بلغهم الجهد والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً ولا يشترون حوائج إلا في الأشهر الحرم أو مما يرد إلى مكة من خارجها، ومع ذلك كانت قريش تزيد عليهم في السعر، ثم تحركت عواطف أهل النخوة والأريحية فأبطلوا الصحيفة، ولما أرادوا تمزيقها وجدوا الأرضة أكلتها إلا قولهم (باسمك اللهم). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عمه بذلك فكانت معجزة، وقد ذكر البخاري حادثتين أشار فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تقاسم المشركين على كفرهم هذا في خيف (1) بني كنانة مرة بمناسبة غزوة حنين ومرة بمناسبة الحج، وكتب السيرة طافحة بأخبار هذا الحصار ومأسيه، وقد ذكره البخاري في صحيحه مرتين وها نحن ننقل إحدى الروايتين وننقل ما ذكره ابن حر بمناسبة إحداهما: 117 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من الغد يوم النحر وهو بمنى: "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" يعني بذلك المحصب، وذلك أن قُريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب - أو بني المطلب - أن لا يُنكاحوهم ولا يُبايعوهم حتى يُسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سلامةُ عن

_ (1) خيف: الخيف: الناحية أو ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسب مسيل الماء وبها سمي مسجد الخيف أو لأنها ناحية من منى. 117 - البخاري (2/ 453) 25 - كتاب الحج - 45 - باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة. الحصب: الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح، أو المحصب موضع رمي الجمار بمنى.

عُقيل ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي: أخبرني ابنُ شهاب وقالا: بني هاشم وبني المطلب، قال أبو عبد الله بن يالمطلب أشبه. قال ابن حجر: قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً وأن عمر أسلم وأن الإسلام فشا في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتاباً أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت أصابعه، ويقال إن الذي كتبها النضر ابن الحارث، وقيل طلحة بن أبي طلحة العبدي، قال ابن إسحاق: فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش، وقيل كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من البعثة، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات. إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعاً إلى المطعم بن عدي وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطئوا عليه فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسماً لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم.

درس من الحصار

وذكر الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب. ولما لم يثبت عند البخاري شيء من القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر". * * * درس من الحصار: نلاحظ من خلال قصة الحصار أن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن ههنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة على أن يكون ذلك مبنياً على فتوى صحيحة من أهلها. إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثير من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصاً، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موازنات دقيقة. قال الدكتور البوطي بمناسبة حادثة الحصار: والمهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أكن أن تستغل هذه الحماية من قِبَلِ المسلمين وسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها. * * *

جزاء المقاطعة

جزاء المقاطعة: 118 - * روى مسلم عن مسروق بن الأجدع رحمه الله قال: كنا عند عبد الله جلوساً - وهو مُضطجع بيننا - فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا عند أبواب كندة يقص، ويزعم: أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام، فقال عبد الله وجلس وهو غضبان: يا أيها الناس، اتقوا الله، من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال: "اللهم سبعٌ كسبع يوسف". وفي راية للبخاري (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشاً استعصوا عليه، فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" فأخذتهم السنة حتى حصت كل شيء. حتى أكلوا الجلود والميتة، وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان، فقال: أي محمد، إن قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم فدعا، ثم قال: "تعودوا بعد هذا" ثم قرأ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حتى بلغ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (3). قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال: والبطشة الكبرى يوم بدرٍ. وفي رواية للبخاري (4) قال: قال عبد الله: إنما كان هذا، لأن قريشاً لما استعصوا على

_ 118 - مسلم (4/ 2155) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 7 - باب الدخان. سبع كسبع: أراد بالسبع: سبع سنين التي كانت في زمن النبي يوسف عليه السلام المجدبة التي ذكرها الله تعالى في القرآن. حصت: حلفت واستأصلت. قحط: لقحط: احتباس المطر. الجهد: بفتح الجيم - المشقة. لمضر: أي: أتأمرني أن أستسقي الله لمضر، مع ما هم عليه من المعصية والإشراك به؟!. الرفاهية. الدعة وسعة العيش. (1) ص: 86. (2) البخاري (8/ 573) 65 - كتاب التفسير (44) سورة الدخان - 5 - باب (ثم تولوا عنه). (3) الدخان: 15. (4) البخاري (8/ 571) 65 - كتاب التفسير - 2 - باب: يغشي الناس هذا عذاب أليم.

النبي صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهدٌ، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظرُ إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهدِ، فأنزل الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله، استسق الله لِمُضَر، فإنها قد هلكت، قال: "لمُضر؟ إنك لجريء"، فاستقى لهم، فسقوا، فنزلت {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فلما أصابهم الرفاهيةُ، عادُوا إلى حالهم، حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قال: يعني يوم بدر. وفي رواية للبخاري (1): فقيل له: إن كشفنا عنهم، عادوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله: {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}. وفي رواية الترمذي (2) مثل الرواية الأولى إلى قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهل يكشف عذاب الآخرة؟ قد مضى البطشة واللزامُ والدخانُ، وقال أحدهم: القمر، وقال الآخر: الروم واللزام يعني: يوم بدرٍ. وروى مسلم (3) عن عبد الله قال: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر. * * *

_ (1) البخاري (8/ 572) 65 - كتاب التفسير (44) سورة الدخان، باب: 2. (2) الترمذي (5/ 279) 48 - كتاب تفسير القرآن - 46 - باب: ومن سورة الدخان. وقال: هذا حديث حسن صحيح. (3) مسلم (4/ 2157) 50 - كتاب المنافقين وأحكامهم - 7 - باب الدخان.

فصل: في انشقاق القمر

فصل: في انشقاق القمر ذكر البخاري انشقاق القمر بين إسلام عمر بن الخطاب وبين هجرة الحبشة، وقد فهم من ذلك ابن حجر إشارة إلى أن حادثة انشقاق القمر كانت في تلك المرحلة قال: جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر فاقتضى صنيع المؤلف أنه وقع في تلك الأيام، وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة لحبشة الأولى أهـ. وقد ذكر الألوسي في تفسيره بصيغة الجزم أن انشقاق القمر كان قبل الهجرة بنحو خمس سنين. وبناء على قول الألوسي فإن انشقاق القمر كان بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة وخلال حصار الشعب وإني أرجح ذلك، فحصار الشعب كان أشد المحن، وفي المحن تأتي التثبيتات في الغالب، ومعجزة انشقاق القمر كانت من أشد التثبيتات. 119 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. وفي أخرى: فأراهم القمر شقين (1). وزاد الترمذي (2): فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} - إلى - {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (3) يقول: ذاهب. 120 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمرُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" وفي أخرى: ونحن معه، فقال

_ 119 - البخاري (6/ 631) 61 - كتاب المناقب - 37 - باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر. ومسلم (4/ 2154) - 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 8 - باب: انشقاق القمر. (1) البخاري (7/ 182) 62 - كتاب مناقب الأنصار 36 - باب انشقاق القمر. (2) الترمذي (5/ 297) 48 - كتاب تفسير القرآن - 55 - باب: ومن سورة القمر. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (3) سورة القمر: 1، 2. 120 - ومسلم (4/ 2158) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 8 - باب: اشقاق القمر.

"اشهدُوا، اشهدُوا", وفي أخرى قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة دونهُ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وللبخاري (1) قال: وقال مسروق عن عبد الله (بمكة) وأخرج الترمذي مثله. 121 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، مثل حديث قبلهُ قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد". 122 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن القمر انشق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. 123 - * روى الترمذي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، صار فرقتين على ها الجبل، وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وزاد رُزين: فكانوا يتلقون الركبان، فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم. أقول: وفي رواية أبي نعيم في الدلائل: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك، ذكره في الفتح. لقد روى هذه الحادثة ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة، قال ابن حجر: وهؤلاء شاهدوها. ورواها من صغار الصحابة عن كبارهم ابن عباس وأنس مما يدل على أن ذلك كان متداولاً يرويه الصغار عن الكبار.

_ 121 - مسلم (4/ 2159) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 8 - باب انشقاق القمر. (1) البخاري: (6/ 631) 61 - كتاب المناقب - 2 - باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر. ومسلم (4/ 3159) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - 8 - باب: انشقاق القمر. 122 - الترمذي (5/ 298) 48 - كتاب تفسير القرآن - 55 - باب: ومن سورة القمر. وقال: حديث حسن.

قال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. وقال صاحب الفتح الرباني: وهذا من المعجزات الكونية التي لم تسبق لنبي غير نبينا صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. قال: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. وقال في التاريخ: وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك زمنه، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها، وذكر كثيراً من الأحاديث وطرقها في التفسير والتاريخ، أهـ. وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس مشاهدة، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان به بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياماً ومستكينين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه،

ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاماً لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. أهـ من الفتح. أقول: لما كان هناك خلاف بين الأئمة في تواتر انشقاق القمر، ولما كانت الآية {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قابلة للتأويل الضعيف بمعنى أنه سينشق، فإننا لا نحكم بكفر من أنكر الانشقاق، لكنه إما ضال وإما فاسق لتكذيبه الأحاديث الصحيحة، وعلى العموم فمثل هذا الإنكار دليل على مرض القلب. * * *

فصل: الإيذاء مستمر والدعوة مستمرة

فصل: الإيذاء مستمر والدعوة مستمرة 124 - * روى أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا" قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم ولتتركوا اللات والعُزى، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بين بُردين أحمرين، مربوعُ، كثير اللحم، حسن الوجه، شديد سواد الشعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشعر. 125 - * روى أحمد عن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهلياً قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" والناس مجتمعون عليه ووراءه رجلٌ وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابيء كاذب، يتتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب، وفي رواية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه وهو يتبعه، وفي رواية والناس منقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً وهو لا يسكت. 126 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". 127 - * روى الطبراني عن الحارث بن الحارث قال: قُلت لأبي ما هذه الجماعةُ قال:

_ 124 - أحمد في مسنده (5/ 276) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 32): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. يحثي: حثى عليه التراب: حثا في وجهه التراب: هاله عليه. يغوينكم: غوي: أمعن في الضلال. أغواه: أضله وأغراه. مربوع: الربعة: الوسيط القامة. سابغ: سبغ الشيء سبوغاً: تم وطال واتسع. 125 - أحمد في مسنده (4/ 341) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 22): رواه أحمد وأمنه والطبراني في الكبير بنحوه والأوسط باختصار بأسانيد وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات. المعجم الكبير (5/ 61). منقصفون: أي متزاحمون حتى يقصف بعضهم بعضاً، من القصف: الكسر والدفع الشديد لفرط الزحام. 126 - البخاري (6/ 514) 60 - كتاب أحاديث الأنبياء، باب: 54. ومسلم (3/ 1417) 32 - كتاب الجهاد والسير - 37 - باب: غزوة أحد. 127 - المعجم الكبير (3/ 268)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 21): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان، وهم يرُدون عليه ويؤذونه حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً فتتناوله منها فشرب وتوضأ ثم رفع رأسه فقال: "يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك" قلنا: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنته. 128 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: "ألا رجلٌ يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي". 129 - * روى الطبراني عن مدركة بن الحارث قال: حججت مع أبي فلما نزلنا مني إذا نحن بجماعةٍ، فقلت لأبي: ما هذه الجماعة، قال: هذا الصابئ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناسُ قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". لم ينقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة أبداً منذ كُلف بها. وهذه نماذج: فلا الإيذاء شخصه ولا لأهله ولا لأصحابه ولا المقاطعة أوقفته عن الدعوة صلى الله عليه وسلم، وقد وضعنا هذا الفصل بين فصل المقاطعة وفصل عام الحزن مع أنهما متتابعان حتى لا يقع في خلد أحد أن الدعوة توقفت. * * *

_ = صابئ: صبأ الرجل: ترك دينه ودان بآخر. انصدع: انشق. وانصدع الصبح: أسفر. قدحاً: القدح: إناء يشرب به الماء أو النبيذ ونحوها. خمري: التخمير: التغطية. نحرك: نحر: الصدر أعلاه أو موضع القلادة. 128 - أبو داود (4/ 224) كتاب السنة - باب في القرآن. والترمذي (5/ 184) 46 - كتاب فضائل القرآن، 24 - باب حدثنا محمد بن إسماعيل. وقال: حسن غريب صحيح. وابن ماجه (1/ 73) - 12 - المقدمة - باب: فيما أنكرت الجهمة. وإسناده صحيح. 139 - المعجم الكبير (20/ 242)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 21): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

فصل: عام الحزن والشدة

فصل: عام الحزن والشدّة انتهى حصار الشعب في المحرم من السنة العاشرة للبعثة وتُوفي أبو طالب بعد ستة أشهر من ذلك أي في شهر رجب، وقد جاوز الثمانين من عمره، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معلومات حتى أصابه مرض الوفاة ثم تُوفي، وبعد وفاته بشهرين على قول توفيت أم المؤمنين خديجة في شهر رمضان من السنة العاشرة للبعثة ولها خمس وستون سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره، وحاولت قريش أن تأخذ من رسول الله شيئاً قبل وفاة أبي طالب فلم تفلح، فلما توفي آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الإيذاء، ولعل أكثر روايات الإيذاء وقعت في هذه المرحلة مما اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الطائف. ويذهب الدكتور البوطي إلى أن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على فراق عمه وزوجه بل لانسداد أبواب الدعوة أمامه، ومع التسليم بالثاني فإنني لا أنفي الأول، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في كل شيء، ومن ذلك أنه كان أكملهم عواطف، وعاطفتا الوفاء والرحمة كانتا بارزتين عنده، فإذا ما حزن على عمه وفاءً، وعلى زوجته رحمة ووفاء، فلا حرج في ذلك بل هو الكمال بعينه، ونحن سنذكر في هذا الفصل بعض روايات الإيذاء لأنها مظنة أن تكون وقعت بعد وفاة أبي طالب ولكن ليس ذلك شرطاً فاقتضى التنويه: 130 - * روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرِضَ أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم - وعند أبي طالب مجلس رجل - فقام أبو جهل كي يمنعه وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: "أريدُ منهم كلمةً واحدةً، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجمُ الجزية". قال: كلمة واحدة؟ قال: "كلمة واحدة، قال: ياعم، يقولوا: لا إله إلا الله". فقالوا: إلهاً واحداً؟ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ *

_ 130 - الترمذي (5/ 365) 48 - كتاب تفسير القرآن - 39 - باب ومن سورة "ص". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن أهـ. والحاكم (2/ 432) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره وفي مسنده يحيى بن عمارة لم يوثقه غير ابن حبان فلعل تحسينه لشواهده. تدين: دان له بدين: إذا أطاعه ودخل تحت حكه. الملة الآخرة: النصرانية. اختلاق: الاختلاق: الكذب.

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (1). 131 - * روى البخاري ومسلم عن المسيب بن حزنٍ رضي الله عنه قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهدُ لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويُعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله، لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك"، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2). وأنزل الله عز وجل في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3). 132 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما زالت قريش كاعةً حتى تُوفي أبو طالب. 133 - * روى أحمد (4) عن عُروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تُظهر من عداوته، قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما

_ (1) ص: 1 - 7. 131 - البخاري (8/ 341) 65 - كتاب التفسير 16 - باب (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ومسلم (1/ 54) 1 - كتاب الإيمان (9) باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت. والنسائي (4/ 90)، كتاب الجنائز، باب - النهي عن الاستغفار للمشركين. (2) التوبة: 113. (3) القصص: 56, 132 - المستدرك (2/ 622) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كاعة: كع - يكع: وتكع: بالضم كعوعا جبن وضعف. 133 - أحمد في مسنده (2/ 218) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 16)؛ قلت: في الصحيح طرف منه، رواه أحمد وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجله رجال الصحيح.

رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. قال: فبينما كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال: فعرفتُ ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوهُ بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: "أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسُ محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح" فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان الغدُ اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعضٍ: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجلٍ واحد، فأحاطوا به قولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا - لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم - قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا الذي أقول ذلك" قال: فلقد رأيتُ رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟، ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. 134 - * روى البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيتُ عقبة بن أبي معيطٍ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (1).

_ = سفه أحلامنا: جهل عقولنا. غمزوه: غمزه بيده يغمزه: نخسه. أشدهم فيه وصاة: يعني أشدهم له آذى ويهيأ عن أتباعه. 134 - البخاري (7/ 22) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". البينات: المعجزات الظاهرات. فناء الكعبة: الساحة التي حولها. والفناء: الساحة في الدار أو بجانبها وتجمع على أفنية. المنكب: المنكب مجتمع رأس الكتف والعضد أي. نقطة التقاء الذراع بالكتف. (1) غافر: 28.

وفي رواية: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذكر الحديث. 135 - * روى البزار والطبراني في الأوسط، عن عبد الله بن مسعود قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعقبة بن ابي معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فلما سجد أطال السجود، فقال أبو جهل: أيكم يأتي سلا جزور بني فلان فيأتينا بغرثها فنكفئهُ على محمدٍ؟، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيطٍ فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد. قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهبُ، إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه، ثم استقبلت قريشاً تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئاً، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "اللهم عليك بقريش - ثلاثاً - عليك بعتبة وعقبة وأبي جهل وشيبة". ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوطٍ يتخصرُ به، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه

_ 135 - البزار: كشف الأستار (3/ 136). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 18): قلت: حديث ابن مسعود في الصحيح باختصار قصة أبي البختري - رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي، وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره، أهـ وبقية رجاله ثقات. قلت: الأجلح الكندي قال عنه الحافظ في التقريب (1/ 49) "صدوق" وعلى ذلك فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. السلا: يفتح السين المهملة: قال في النهاية الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه، وقيل هو في الماشية السلا وفي الناس المشيمة والأول أشبه لأن المشيمة تخرج بعد الولد ولا يكون الولد فيها حين يخرج أهـ (وقال الحافظ ابن كثير) في تاريخه: السلا هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة، وفي بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميل على بعض أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله. الجزور: ما يصلح لأن يذبح من الإبل. ولفظه أنثى، يقال للبعير: هذه جزور سمينة يجمع على جزائر وجزر. الفرث: الأوساخ في الكرش. نكفئه: (كفأ) الإناء - كفئا: كبه وقلبه. العاتق: ما بين المنكب والعنق. السوط: ما يضرب به من جلد". يتخصر بالسوط: يلفه على خاصرته. خلى: خلى الأمر: تركه. ويقال خلى سبيله: تركه وأرسله. الملأ: أي: أشراف القوم وسراتهم.

فقال مالك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "خل عني" قال: عَلِمَ الله لا أخلي عنك أو تخبرني ما شأنك فلقد أصابك شيء، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مخلٍ عنه أخبره، فقال: "إن أبا جهلٍ أمر فطُرح علي فرثٌ" فقال أبو البختري: هلم إلى المسجد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد، ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فطرح عليه الفرثُ؟ قال: نعم، قال: فرفع السوط فضرب به رأسه، قال: فثار الرجال بعضها إلى بعضٍ، قال: وصاح أبو جهلٍ: ويحكم هي له، إنما أراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه. وفي رواية فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعدُ، اللهم عليك بالملأ من قريشٍ". 136 - * روى أبو يعلي والطبراني عن عمرو بن العاص قال: ما رأيت قريشاً أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي مُعيط فجعل رداء في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه، وتصايح الناس وظنوا أنه مقتول، قال: وأقبل أبو بكر يشتدُّ حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوسٌ في ظل الكعبة فقال: "يا معشر قريش أنا والذي نفسي بيده ما أُرسلت إليكم إلا بالذبح" وأشار بيده إلى الحلق، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت منهمْ". 137 - * روى أبو يعلي والبزار عن أنس بن مالك قال: لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنونُ

_ 136 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 16): رواه أبو يعلي والطبراني وفيه محمد بن عمرو عن علقمة وحديثه حسن، وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح. وجب: سقط. الضبع: وسط العضد. جهولاً: جهل فلان على غيره، جهلاً، وجهالة: جفا وتسافه. 137 - البزار: كشف الأستار (3/ 125) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 17): رواه أبو يعلي والبزار. وراد فتركوه وأقبلوا على أبي بكر ورجاله رجال الصحيح. خشي عليه: أغمي عليه. ويلكم: من الويل وهو حلول الشر، أو هي كلمة عذاب، وقيل إنها واد في جهنم.

138 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحِجْرِ فتعاهدوا باللات والعُزى ومناة الثالثة الأخرى، وقد رأينا محمداً، قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى تقتله. فأقبلت فاطمة رضي الله عنها بكي حتى دخلت على أبيها، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوكن فليس منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك. قال: "يا بنية أدني وضوءاً" فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد فلما رأوه قالوا: هو هنا فخفضوا أبصارهم، وعُقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولمي قم منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: "شاهت الوجوه" قال: فما أصابت رجلاً منهم حصاة، إلا قتل يوم بدر كافراً. أقول: ليس كل ما ذكرناه في هذا الفصل من الإيذاء قد وقع بالضرورة في عام الحزن، ولكن يحتمل إلى حد كبير أن يكون قد وقع في هذا المقام في هذا العام ولذلك أثبتناه ههنا، والظاهر أن هذا العام وصلت الدعوة إلى حد معين وقفت عنده فقد استقر الوضع في مكة بين مستجيب ومعارض، والقبائل العربية وقفت تنتظر، ولكن موقفها الرسمي هو موقف قريش، وقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرك هذا السكون فتحرك نحو الطائف فكانت محنة جديدة. * * *

_ 138 - أحمد في مسنده (1/ 368) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 228): رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

فصل: في رحلة الطائف

فصل: في رحلة الطائف 139 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُدٍ؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها بجبريل، فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملكُ الجبال، وسلم عليِّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً". قال ابن حجر في شرح هذا لحديث: وذكر موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب توجه إلى الطائف رجاء أن يؤووه، فعمد إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم سادتهم وهم إخوة عبد ياليل وحبيب ومسعود بنو عمرو فعرض عليهم نفسه وشكى إليهم ما انتهك منه قومه فردوا عليه أقبح رد، وكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد مطولاً، وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث وأنه كان بعد موت أبي طالب وخديجة. وقد لخص الدكتور البوطي رحلة الطائف من سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد بقوله:

_ 139 - مسلم (3/ 1430) 32 - كتاب الجهاد والسير - 39 - باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين والبخاري (6/ 312). 59 - كتاب بدء الخلق - باب: إذا قال أحدكم (آمين) والملائكة في السماء. على وجهي: أي على الجهة المواجهة لي. بقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد ويقال له قرن المنازل أيضاً، وهو على يوم وليلة من مكة، وقرن كل جبل صغير منقطع من جبل كبير، وحكى عياض أن بعض الرواة ذكره بفتح الراء قال: هو غلط، وحكى القابسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركها أراد الطريق التي يقرب منه، وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بالطائف كانت عشرة أيام. ملك الجبال: أي: الموكل بها، الأخشبان: جبلا مكة المحيطان بها، وكل جبل عظيم فهو أخشب.

ولما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما وصفناه من الأذى، خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادته، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم من أجله فردوا عليه رداً منكراً، وفاجأوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول، فقام رسول الله من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش إذاً، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضاً. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه عدة شجاج، حتى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بستان لعتبة بن ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه. فعمد عليه الصلاة والسلام، وقد أنهكه التعب والجراح إلى ظل شجرة عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، فلما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظل رفع رأسه يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستعضفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك". ولا سند لهذا الدعاء، فلم ندخله في المتن. ثم إن ابني ربيعة - صاحبي البستان - تحركت الشفقة في قلبيهما، فدعوا غلاماً نصرانياً لهما يقال له (عداس) فأرسلا إليه قطفاً من العنب في طبق. فلما وضع عداس العنب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: كل. مد الرسول يده قائلاً: "بسم الله". ثم أكل. فقال عداس متعجباً: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ " قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوي (قرية بالموصل). فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونُس بن متي؟ " فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك أخي، كان نبياً وأنا نبي" فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. وسند هذه القصة مرسل، فلم ندخلها في المتن.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر (من الجن) من الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، فاستمعوا له. فلما فرغ من صلته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. وقد قص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (1) إلى قوله: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} (3) الآيات. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة - يريد دخول مكة، فقال له زيد: كيف تخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: "يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه" ثم أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره. فاستجاب مطعم لذلك، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. أقول: دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بجوار المطعم بن عدي ثابت ومما يدل على ثبوت هذا: 140 - * روى البخاري عن جُبير بن مُطعمٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أُسارى بدرٍ: "لو كان المطعمُ بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له". قال سفيان: وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، وكان أجزى الناس باليد. وقال ابن حجر: وبيَّن ابن شاهين من وجه آخر السبب في ذلك، وأن المراد باليد المذكورة ما وقع منه حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، وقد ذكر ابن إسحاق القصة في ذلك مبسوطة، وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل. فإذا ثبت ذلك فيكون هذا أصلاً كبيراً من أصول الحركة للدعوة الإسلامية، فللإسلاميين الحق أن يستفيدوا

_ (1) الأحقاف: 29. (2) الأحقاف: 30. (3) الجن: 1. 140 - البخاري (6/ 343) 57 - كتاب فرض الخمس - 16 - باب ما منُ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس.

من الأعراف والقوانين التي تعطيهم أمناً وحماية لأشخاصهم ولحرياتهم، كما أن هذا التصرف أصل يستند إليه في فعل كل ما هو من مصلحة الدعوة الإسلامية وحملتها ومن ذلك التحالفات والتعاقدات المرحلية. وبمناسبة ما ذكره كتاب السير أن الجن استمعوا قراءته مَقْفِلَه من الطائف فسيكون الفصل اللاحق في بعض الروايات التي تذكر سماع الجن منه عليه الصلاة والسلام. * * *

فصل: في تبليغ الجن

فصل: في تبليغ الجن قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1)، فرسالته عليه الصلاة والسلام رحمة للخلق جميعهم، وهذه الرحمة مظهرها الأول أن المستجيبين لها مرحومون في الدنيا والآخرة، وبرحمتهم وبتطبيقهم لشريعة الله يرحم الخلق وترحم أنفسهم فتعطى طمأنينة قلب واستقامة سلوك، والمكلفون من الخلق هم من يملكون إدراكاً يستطيعون به فهم الخطاب، وهم مبتلون بالشر والخير ولهم إرادة يختارون بها طريق الخير من الشر وهذا ينطبق على الإنسان والجن. ولقد حدث في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى أن تسمع الجن لقراءته عليه الصلاة والسلام، وقد قص القرآن علينا ذلك في سورتي الأحقاف والجن فكان ذلك نوع بلاغ، ولكن البلاغ المباشر المقصود تم كذلك، وإن كنا لا نستطيع تعيين الزمن الذي تم فيه هذا النوع من البلاغ بدقة، لكن الشيء الثابت أن سماع الجن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغهم المباشر قد حدث، وقد مر معنا فصل من قبل في حفظ أمر السماء، وههنا نذكر بعض الروايات بمناسبة أن كتاب السير ذكروا أنه قد حدث سماع الجن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رحلة الطائف. قال الحافظ في الفتح: تقدم في أوائل البعث في (باب ذكر الجن) أن ابن إسحاق وابن سعد ذكرا أن ذلك كان في ذي القعدة سنة عشر من البعث لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رجع منها، ويؤيده قوله في هذا الحديث: (إن الجن رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر) والصلاة المفروضة إنما شرعت ليلة الإسراء، والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث فتكون القصة بعد الإسراء، لكنه مشكل من جهة أخرى، لأن محصل ما في الصحيح كما تقدم في بدء الخلق وما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وهنا قال إنه انطلق في طائفة من أًحابه، فلعلها كانت

_ (1) الأنبياء: 107.

وجهة أخرى. ويمكن الجمع بأنه لما رجع لاقاه بعض أصحابه في أثناء الطريق فرافقوه. 141 - * روى مسلم عن علقمة رحمه الله قال: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناهُ في الأودية والشعاب، فقلنا استُطير، أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلةٍ بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراءٍ، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلةٍ بات بها قومٌ، فقال: "أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن" قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: "لكم كل عظمٍ ذُكر اسمُ الله عليه، يقعُ في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرةٍ علفٌ لدوابكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم". وفي رواية بعد قوله: (وآثار نيرانهم) قال الشعبي: وسألوه الزاد؟ وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث، من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله. وفي رواية أن ابن مسعود قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووددتُ أني كنت معه. وأخرجه الترمذي (1)، وذكر فيه قول الشعبي، كما سبق في هذه الرواية الآخرة، وزاد فيه: أو روثةٍ. وأخرج أبو داود منه طرفاً (2)، قال: قلت لعبد الله بن مسعود: مَنْ كان منكم ليلة الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان معه منا أحدٌ.

_ 141 - مسلم 1/ 222) 4 - كتاب الصلاة - 33 - باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. استطير: استفعل من الطيران، كأنه أخذ شيء وطار به. اغتيل: أُخذ غيلة والاغتيال: الاحتيال. (1) الترمذي (5/ 382) 48 - كتاب التفسير - 47 - باب: ومن سورة الأحقاف. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح. (2) أبو داود (1/ 22) كتاب الصلاة - باب - الوضوء بالنبيذ.

قال الحافظ في الفتح: وقد روى ابن مردويه أيضاً من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: "انظرني حتى آتيك" وخط عليه خطاً.؟ الحديث. والجمع بين الروايتين تعدد القصة، فإن الذين جاءوا أولاً كان سبب مجيئهم ما ذكر في الحديث من إرسال الشهب، وسبب مجيء الذين في قصة ابن مسعود أنهم جاءوا لقصد الإسلام وسماع القرآن والسؤال عن أحكام الدين وقد بينت ذلك في أوائل المبعث في الكلام على حديث أبي هريرة، وهو من أقوى الأدلة على تعدد القصة. فإن أبا هريرة إنما أسلم بعد الهجرة، والقصة الأولى كانت عقب المبعث، ولعل من ذكر في القصص المفرقة كانوا ممن وفد بعد، لأنه ليس في كل قصة منها إلا أنه كان ممن وفد، وقد ثبت تعدد وفودهم. وتقدم في بدء الخلق كثير مما يتعلق بأحكام الجن والله المستعان. 142 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود، حتى خرج به إلى بطحاء مكة، فأجلسه، ثم خط عليه خطاً، ثم قال: "لا تبرحن خطك، فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم، فإنهم لا يكلمونك" ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي، إذ أتاني رجال كأنهم الزُّطُّ أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورةً، ولا أرى قشراً، وينتهون إليَّ، لا يُجاوزون الخط، ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءني وأنا جالس، فقال: لقد أراني منذُ الليلة، ثم دخل عليِّ في خطي، فتوسد فخذي فرقد، وكان رسول الهل صلى الله عليه وسلم إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُتوسد فخذي، إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم نم الجمال، فانتهوا إليِّ، فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبداً قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه

_ 142 - الترمذي (5/ 145) 45 - كتاب الأمثال - 1 - باب ما جاء ف يمثل الله لعباده. وقال هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وهو كما قال. الدارمي (1/ 7) المقدمة باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب قبل مبعثه. قشراً: أراد بالقشر: الثوب، وذلك أنه قال: لا أرى عورة منكشفة منهم، ولا أرى عليهم ثياباً تغطي عوراتهم، الزط: جيل من الناس.

تنامانِ، وقلبه يقظان، اضربوا له مثلاً: مثل سيد بن يقصْرا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه ألك من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يُجبه عاقبهُ - أو قال: عذبه - ثم ارتفعوا، واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقال: "سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هم الملائكةُ، فتدري ما المثل الذي ضربوا؟ " قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: "المثل الذي ضربوا: الرحمن تبارك وتعالى بني الجنة، ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة، ومن لم يحبه عاقبه وعذبهُ". 143 - * روى البخاري عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ أبي، قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك - يعني: عبد الله - أنه آذتْ بهم شجرة. 144 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}. قال: كان نفرٌ من الإنس يعبدون نفراً من الجن، فأسلم النفرُ من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم، فزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (1). قال الحافظ: أي: استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك، لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وروى الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود فزاد فيه: والإنس كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم وهذا هو المعتمد في تفسير الآية.

_ 143 - البخاري (7/ 171) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 32 - باب: ذكر الجن وقول الله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). ومسلم (232) 4 - كتاب الصلاة - 32 - باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. آذن: بالمد أي أعلم. 144 - مسلم (4/ 2321) 54 - كتاب التفسير - 4 - باب: قوله تعالى: (أولئك الذين .... الوسيلة). (يبتغون إلى ربهم الوسيلة): الوسيلة: ما يتوسلُ به إلى الشيء، أ]: يطلبون القُربة إلى الله تعالى بطاعته. النفر: دون العشرة من الرجال وتجمع على أنفار. (1) الإسراء: 57.

وقد علق الدكتور البوطي على سماع الجن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في عودت من الطائف فقال: والذي يهمنا أن نعلمه بعد هذا كله هو أن على المسلم أن يؤمن بوجود الجن وبأنهم كائنات حية كلفها الله عز وجل بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم فذلك لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعاً معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة. ولما كان وجود هذه الخليقة مسنداً إلى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنة، وكان أمرها معلوماً من الدين بالضرورة، أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في وجودهم يستلزم الردة والخروج عن الإسلام. إذ إن إنكارهم إنكار لشيء عُلم أنه من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع العلم، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحس بهم. إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل للتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها. والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود. أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقوداً أو غير موجود. أهـ. أقول: لم يزل بين المسلمين الثقات العدول من يحدثنا عن صلة له بالجن، وتاريخنا طافح بأخبار علماء كانت للجن بهم صلة تلمذة، وقد كتب الشيخ ابن عابدين الفقه الحنفي المشهور رسالة عن صلات أحد شيوخه بالجن وتلمذتهم عليه، ولا أذكر هذا كتدليل على وجود الجن فكفى بشهادة القرآن والسنة الثابتة، ولكن أقول هذا بين يدي الدعوة إلى

الفرج بعد الشدة

تتبع هذه الروايات وجمعها في كتاب مع التحليل والتعليل. الفرج بعد الشدة: والى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة بعد رحلة الطائف، وفي أوائل السنة الحادية عشر للبعثة اجتمع مع وفد من الأوس، جاءوا يطلبون النصرة والحلف من قريش بعد وقعة بعاث التي كانت بينهم وبين أقاربهم من الخزرج، فتجاوب أحد أعضاء الوفد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة للبعثة استجاب ستة من الخزرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رجع هؤلاء إلى المدينة المنورة حملوا إليها رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة وفي موسم الحج وفد اثنا عشر رجلاً من المدينة المنورة فيهم خمسة من الستة الذين استجابوا في عام سابق وكان منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وكانت بيعة العقبة الأولى، وأرسل الرسول مع هؤلاء مصعب بن عمير ليعلمهم ويقوم بالدعوة إلى الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وخاصة بعد أن أسلم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وقبل حلول موسم الحج التالي عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث وليهيئ لبيعة العقبة الثانية، وفي موسم الحج من السنة الثالثة عشرة للبعثة تمت بيعة العقبة الثانية وكانت بعدها الهجرة. وخلال هذه السنوات الثلاث بقي البلاغ مستمراً، وحدثت أثناءها حادثة الإسراء. وهناك حادثة نرجح أنها حدثت في هذه المرحلة وهي حادثة تكسيره عليه الصلاة والسلام لبعض الأصنام، ومن ثم سنعرض لكل هذا بالتفصيل. * * *

فصل: في تكسير بعض الأصنام

فصل: في تكسير بعض الأصنام 145 - * روى أحمد عن علي بن أبي طالب قال: انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" وصعد على منكبين فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفاً فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اصعد على منكبي" قال: فصعدتُ على منكبيه، قال: فنهض بي، فإنه يخيلُ إلي أني لو شئت لنلتُ أفق السماء، حتى صعدتُ على البيت وعليه تمثال أصفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنتُ منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقذف به" فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلتُ. فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق، حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس. وفي روايةٍ: كان على الكعبة أصنام، فذهبت أحمل النبي صلى الله عليه وسلم فلم أستطع، فحملني فجعلتُ أقطعها، ولو شئت لنلتُ السماء. هذه الحادثة الثابتة الوقوع يرويها الحاكم على أنه حدثت ليلة لهجرة، وقد وصف الذهبي رواية الحاكم بأن إسنادها نظيف ومتنها منكر، والظاهر أن نكارة متنها سببه أن هذه الرواية ذكرت أن الحادثة تمت ليلة الهجرة، وإلا فالرواية صحيحة كما رأينا، ولذلك اعتمدنا الرواية التي لم تذكر الهجرة، ورجحنا أن الحادثة تمت خلال السنوات الثلاث الأخيرة دون تحديد زمن فعقدان لها هذا الفصل. وبعد أن ذكر الله عز وجل عدداً من رسله في سورة الأنعام قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وممن ذكر هناك وممن أمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولقد كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك اقتداء به، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً في التطبيق، ومن ثم فإننا نلفت النظر إلى ضرورة التأمل في قصص الأنبياء في القرآن، وأن يحاول المسلم الاقتداء فيما

_ 145 - أحمد في مسنده (1/ 84)، والبزار: كشف الأستار، (3/ 138)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 33) وقال: رواه أحمد وابنه وأبو يعلي والبزار ورجال الجميع ثقات. لنلت: (نلته) والنيل والنائل ما نلته وما أصابه منه نيلاً ولا نيلة ولا نولة. الصفر: النحاس مخلوط بغيره. أزاوله: (زاوله) مزاولة وزوالاً: عالجه وحوله وطلبه، القوارير: الزجاج. نستبق: (استبقا): تسابقا.

يستطيعه من أخلاقهم. وغلب على بعض المسلمين تصور أن المرحلة المكية لم يحدث فيها تغيير للمنكر باليد، وهذه الحادثة تدل على عكس ذلك، ولكنا ننبه دائماً على أن تغيير المنكر يحتاج إلى موازنات كثيرة، حتى لا يؤدي تغيير منكر إلى منكر أكبر. * * *

فصل: في الإسراء والمعراج

فصل: في الإسراء والمعراج 1 - تحدث القرآن عن الإسراء في سورة الإسراء وعن المعراج في سورة النجم، وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (1) وقال في سورة النجم بعد ذكر ما حدث: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (2). لقد كانت حكمة الإسراء والمعراج أن يري الله رسوله من آياته الكبرى توطئة لمرحلة المجابهة المسلحة، فمن حكمة الله أنه عندما كلف موسى بمواجهة فرعون أراه آياته الكبرى لأنها مواجهة تحتاج إلى مزيد من اليقين: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} إلى قوله تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} (3). لقد كانت رؤية الآيات الكبرى توطئة للأمر بمواجهة فرعون، وكان الإسراء والمعراج توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق، والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: الذهاب إلى بيت المقدس، العروج إلى السماء، رؤية الغيب الذي دعا إليه: الأنبياء والمرسلين، الملائكة، السماوات، الجنة والنار، نماذج من النعيم والعذاب، ولقد رأى الله عز وجل ذاته بقلبه وبعينيّ بصره على قول. وبذلك يكون قد شاهد عياناً ما دعا إليه الناس من الإيمان بالغيوب، وكان بذلك الشاهد المبصر على أمر الغيوب: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4). 2 - هذا والإسراء والمعراج من معجزاته عليه الصلاة والسلام التي تقوم بها الحجة على

_ (1) الإسراء: 1. (2) النجم: 18. (3) طه: 17 - 24. (4) الأحزاب: 45 - 46.

الخلق، لا من حيث أنهما خارقتان حدثتا له وأخبر الناس عنهما - وهو الصادق المصدوق - ثم أكد وقوعهما القرآن، فذلك حجة بالنسبة للمؤمن، ولكن بما رافق ذلك من مشاهد أخبر بها الناس ما كان ليستطيع الإخبار بها لولا أنه قد أسري به عليه الصلاة والسلام. 3 - ولقد حدث نوع آخر من المعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالروح أو بالرؤيا، مما جعل الأمر يختلط على بعضهم، والأمر من النصوص واضح فالإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح، وهذا لاينفي أن يكون له عليه الصلاة والسلام معراج آخر كان توطئة أو تأكيداً، سابقاً أو لاحقاً على المعراج الذي تحدث عنه القرآن. 4 - وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر، فهو يؤكد وجود السماوات السبع - وهي من أمر الغيب عندي بما فيه - وفي المعراج، فرضت الصلوات الخمس، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم خواتيم سورة البقرة، فذلك إيمان وعمل ورمز على معان كثيرة، منها أن الصلاة معراج القلب. قال الأستاذ أبو الحسن الندوي: ولم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعياناً - بل زيادة إلى ذلك - اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضحت قصة الإسراء، وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه وتسميان سورة (الإسراء) وسورة (النجم) أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى ألأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم.

زمن الإسراء والمعراج

وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وأوقاتها، وكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه يصلون ركعتين صباحاً ومثلهما مساء. زمن الإسراء والمعراج: قال المباركفوري في الرحيق المختوم: واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى: 1) فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، اختاره الطبري. 2) وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي. 3) وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة، واختاره العلامة المنصورفوري. 4) وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهراً، أي في رمضان سنة 12 من النبوة. 5) وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة. 6) وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة. ورُدتْ الأقوال الثلاثة الأولى: بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء. أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحداً منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جداً. قال البوطي: والذي رواه ابن سعد في طبقاته أنها كانت قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً. الإيمان بالإسراء والمعراج: قال الشيخ أديب الكيلاني رحمه الله في شرحه على جوهرة التوحيد: وأجزم بمعراج النبي صلى الله عليه وسلم كما رووا: أي أعتقد جازماً بعروج النبي صلى الله عليه وسلم وصعوده إلى

الإسراء بالروح وبالجسد

السماوات السبع إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء الله بعد الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حال كون العروج الذي جزمت به مثل الذي رواه أهل الحديث والتفسير والسير. وقد استغنى الناظم بذكر المعراج عن الإسراء لشهرة إطلاق أحد الاسمين على ما يعم مدلوليهما، وهو سيره صلى الله عليه وسلم ليلاً إلى أمكنة مخصوصة على وجه خارق للعادة. والحق أنه كان يقظة روحاً وجسداً خلافاً لمن قصره على المنام، والإسراء ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فمن أنكره كفر، وأما المعراج فثابت بالأحاديث المشهورة من المسجد الأقصى إلى السماوات السبع، ومنها إلى الجنة، ثم إلى المستوى أو العرش وبخير الواحد، لذا لا يكفر منكره بل يفسق. والتحقيق أنه لم يصل إلى العرش. الإسراء بالروح وبالجسد: وقال الدكتور البوطي: كان الإسراء والمعراج بكل من الروح والجسد معاً. على ذلك اتفق جمهور المسلمين من المتقدمين والمتأخرين. قال النووي في شرح مسلم ما نصه: والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أُسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل. ويقول ابن حجر في شرحه على البخاري: إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل. ومن الأدلة التي لا تقبل الاحتمال على أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح، ما ذكرنا من استعظام مشركي قريش لذلك، وتعجبهم للخبر وسرعة تكذيبهم له. إذ لو كانت المسألة مسألة رؤيا وكان إخباره إياها لذلك على هذا الوجه، لما استدعى الأمر منهم أي

تعجب أو استعظام أو استنكار، لأن المرئيات في النوم لا حدود لها، بل ويجوز مثل هذه الرؤيا حينئذ على المسلم والكافر، ولو كان الأمر كذلك لما سألوه أيضاً عن صفات بيت المقدس وأبوابه وسواريه بقصد الإلزام والتحدي. أما كيف تمت هذه المعجزة وكيف يتصورها العقل فكما تتم كل معجزة غيرها من معجزات الكون والحياة! .. لقد قلنا آنفاً أن كل مظاهر هاذ الكون ليست في حقيقتها إلا معجزات، فكما تتصورها العقول في سهولة ويسر يمكن لها أن تتصور هذه أيضاً في سهولة ويسر. وقال الدكتور البوطي: احذر وأنت تبحث عن قصة الإسراء والمعراج أن تركن إلى مايسمى بـ (معراج ابن عباس) فهو كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند. أهز قلت: وبعضها صحيح، إلا أن التمييز عسير على غير أهل العلم. وسنسرد هنا الروايات دون توقف؛ لأن الحادثة وما جرى فيها من أمر الغيب الذي يجب الإيمان به والتسليم. ومما يضيء لنا فهم بعض النصوص أن نعرف أن هناك اتجاهاً يقول: إن حادثة الإسراء قد تكررت وأن حادثة المعراج قد تكررت، وهناك اتجاه يقول: إنه دق كان بين يدي المعراج رؤيا مهدت له ووطأت، وبذلك يجمع بين النصوص. ولقد كان الإسراء على البراق، أما المعراج فهناك قولان فيه فبعضهم ذهب أنه كان على البراق، وبعضهم ذهب إلى أنه نصب شيء فكان العروج عليه. 146 - روى ابن حبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ ليلة أُسري بي رجالاً تُقرضُ شفاههم بمقاريض من النار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون"

_ 146 - ابن حبان: موارد الظمآن (39) رقم 25. وأخرجه البيهقي وهو صحيح.

147 - * روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أُسري بي وأصبحتُ بمكة فَظِعْتُ بأمري، وعرفتُ أن الناس مُكذبيِّ، فقعدتُ معتزلاً حزيناً"، فمر به عدو الله أبو جهلٍ، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيءٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: وما هو؟ قال: "إنه أُسري بي الليلة" قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظاهرنينا؟ قال: "نعم" فلم ر أنه يُكذبه، مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتُحدثهم ما حدثتني؟ قال: "نعم" قال: هيا معشر بني كعب بن لؤي حتى قال: فانتقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال: حدث قومك بما حدثتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أُسري بي الليلة" قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم" قال: فمن بين مصفقٍ ومن بين واضعٍ يده على رأسه متعجباً للكذب - زعم - قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبتُ أنعت فما زلت انعت حتى التبس عليَّ بعض النعت قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر حتى وُضِعَ دون دار عقاب أو عقيل فنعتهُ، وأنا أنظرُ إليه قال: وكان مع هذا نعتٌ لم أحفظهُ" قال: فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب. 148 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليلة

_ 147 - أحمد في مسنده (1/ 309) والبزار: كشف الأستار (1/ 46)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 65) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح. فظعت بأمري: أي: اشتد علي رهبته. 148 - البخاري (6/ 476) 60 - كتاب أحاديث الأنبياء - 48 - باب: قول الله تعالى: (اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها). ومسلم (1/ 154)، 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب: الإسراء برسول الله إلى السماوات وفرض الصلاة. والترمذي (5/ 300) 40 - كتاب التفسير - 18 - باب: ومن سورة بني إسرائيل. مُضطربُ: رجل مضطرب الخلقة، يجوز أن يريد به: أنه غير متناسب الخلقة، وأن أعضاءه متباينة، لكنه قال في حديث آخر في صفة موسى عليه السلام: "إنه ضربٌ من الرجال" والضرب: الرفيق، فيجوز على هذا أن =

أُسري به لقيتُ موسى، قال: فنعتهُ فإذا رجلٌ - حسبتهُ قال: مُضطربٌ - رَجِلُ الرأس، كأنه من رجال شنوءةَ، قال: ولقيتُ عيسى، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، ربعةً أحمرُ كأنما خرج من ديماسٍ - يعني: الحمام - ورأيت إبراهيم، وأنا أشبهُ ولده به، قال: وأتيتُ بإناءين أحدهما لبنن والآخر فيه خمرٌ، فقيل لي: خُذ أيهما شئت، فأخذتُ اللبن فشربته، فقيل لي: هُديت الفطرة - أو أصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمكت". وفي رواية نحوه، وفيه: "فإذا موسى، ضربٌ من الرجال، كأنه من رجال شنوءةَ". في رواية لمسلم (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي؟ فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكُربتُ كُربة ما كُربت مثلها قط، قال: فرفعه الله لي، أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا انبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضربٌ جعدٌ كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي، أقربُ الناس به شبهاً عروة بن مسعودٍ الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يُصلي، أشبه الناس به: صاحبُكم - يعني نفسه فحانت لصلاة فأممتُهُم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمدُ هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام".

_ = يكون قوله: "مضطرب" أنه مُفتعل من الضرب، أي: أنه مستدق، والله أعلم. ديماس: الديماسُ في اللغة الظلمة، ويسمى الكن ديماساً، والسرب ديماساً، وقد جاء في بعض طرق الحديث مفسراً بالحمام، ولم أره في اللغة، وقال الجوهري في كتاب (الصحاح) في تفسير الحديث: إنه أراد به: الكن، وكذلك قال الهروي: أراد به الكِن أو الشرب. الفطرة: الخلقة، والفطرة. الإسلام. غوت: الغيُّ: الضلال، وهو ضد الرشاد. (1) مسلم (1/ 156) 1 - كتاب الإيمان - 76 - باب: ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال.

149 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيتُ على موسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يُصلي في قبره". 150 - * روى عبد الله بن أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طفُرج سقفُ بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جاء السماء الدنيا فافتتح، قال: من هذا؟ قال: جبيل، قال: هل معك أحد: قال: نعم، معي محمدٌ: قال أُرسل إليه، قال: نعم فافتح، فلما علونا السماء الدنيا إذا رجلٌ عن يمينه أسودة، وعن يسارة أسودة، وإذا نظر قبل يمينه تبسمن وإذا نظر قبل يساره بكى، قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلتُ لجبريل عليه السلام: م هذا؟ قال هذا آدم وهذه الأسودةُ عن يمينه وشماله نسمُ بنيه فأهل اليمين هم أهل الجنة والأسودةُ التي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، قال: ثم عرج بي جبريل حتى جاء السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنُها مثل ما قال خازن سماء الدنيا ففتح له". 151 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدثُ الناس بذل، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنهُ

_ 149 - مسلم (4/ 1845) 43 - كتاب الفضائل - 42 - باب من فضائل موسى عليه السلام. والنسائي (2/ 215)، كتاب قيام الليل، باب: ذكر صلاة نبي الله موسى عليه السلام. الكثيب: الرمل المرتفع المستطيل المحدودب. 150 - المسند (5/ 142). مجمع الزوائد (1/ 66) وقال: رواه عبد الله من زياداته على أبيه ورجاله رجال الصحيح. أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص لأنه يرى من بعيد أسود. 151 - المستدرك (3/ 62) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

أُسري به الليلة إلى بيت المقدس وقال: أو قال ذلك قالوا: نعم. قال لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أو تُصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت لمقدس وجاء قبل أن يُصبح؟ قال. نعم إني لأصدقه فيما هو أبعدُ من ذلك أصدقهُ بخبر السماء في غدوةٍ أو روحةٍ فلذلك سُمي أبو بكر الصديق. 152 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم: أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". 153 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعرجُ به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيُقبض منها - قال {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (1) قال: فراشٌ من ذهبٍ، قال: فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أُعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحماتُ. وفي رواية الترمذي (2) قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، قال: انتهى إليها ما يعرجُ من الأرض وما ينزلُ من فوقٍ، فأعطاه الله عندها ثلاثاً، لم يعطهن نبياً كان قبله: فُرضت عليه الصلاة خمساً، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات

_ 152 - الترمذي (5/ 510) 49 - كتاب الدعوات - باب: 59. وحسنه وهو كما قال (م). قيعان: جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع فيوطاءٍ من الأرض يعلوهُ ماء السماء فيمسكه ويستوي نباته، ويجمع القاعُ: قيعة، وقيعاناً. غراسها: الغراس: مصدر غرست الشجرة غرساً وغراساً: إذا نصبتها في الأرض. 153 - مسلم (1/ 157) 1 - كتاب الإيمان (76) - باب في ذكر سدرة المنتهى. والنسائي (1/ 222). فراش من ذهب: الفراش: هذا الحيوان الذي يرمي نفسه في النار وضوء السراج. المقحمات: هي الذنوب التي تقحم صاحبها في النار، أي: تلقيه فيها. (1) النجم: 16. (2) الترمذي (5/ 292) 48 - كتاب تفسير القرن - 54 - باب: ومن سورة النجم قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ما لم يشركوا بالله شيئاً. قال ابن مسعود: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: السدرة في السماء السادسة، قال سفيان: فراشُ من ذهبٍ، وأشار سفيان بيده فأرعدها. وفي رواية "إليها ينتهي علمُ الخلق، لا علم لهم بما فوق ذلك". جاء في هذه الرواية أن سدرة المنتهى في السماء السادسة، وهذا خلاف المشهور. قال الحافظ ابن حجر: وقال القرطبي في (المفهم): ظاهر حديث أنس أنها في السابعة لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد، وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال. 154 - * روى البزار والطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكر بين كتفي فقُمتُ إلى شجرة فيه كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر، فسمت وارتفعتْ حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمستُ، فالتفت إلى جبريل كأنه حلسُ لاطئ فعرفت فضل علمه بالله عليَّ وفُتح باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرفة الدُّر والياقوت فأوحي إلي ما شاء أن يُوحى". 155 - * روى البخار يعن قتادة بن دعامة: عن أنس عن مالك بن صعصعة: أن نبي

_ 154 - البزار: كشف الأستار (1/ 47). مجمع لزوائد (1/ 75) وقال: رواء البزار والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. لاطئ: لطأ بالشيء لطئاً: لزرق. الحلس: ما ولي ظهراً لدابة والقتب والسرج، وما يبسط في البيت من حصيرة ونحوه، ويقال هو حلس بيته: لا يبرحه. 155 - البخاري (7/ 201) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 42 - باب المعراج.

الله صلى الله عليه وسلم حدثه عن ليلة أُسري، قال: "بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحِجر - مُضطجعاً - إذ أتاني آتٍ فقد - فقال: وسمعته يقول: فشق - ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود، وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أُتيتُ بطستٍ من ذهب مملوءةٍ إيماناً، فغُسل قلبي، ثم حُشي، ثم أعيد، ثم أتيتُ بدابةٍ، دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ فقال أنس: نعم يضع خطوهُ عند أقصى طرفه، فحملتُ عليه، فانطلق بين جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: منْ هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيءُ جاء، ففتح، فلما خلصتُ، فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فرد السلام، وقال: مرحباً بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصتُ، فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت، فرداً، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَنْ

_ = إذ أتاني آت: هو جبريل عليه السلام. ثغرة النحر: الثغرة: النقرة التي بين الترقوتين. القص: رأس الصدر، وقيل: وسطه. قال الحافظ في الفتح: قوله "إيماناً" زاد في بدء الخلق "وحكمة" وهما بالنصب على التمييز، قال النووي: معناه أن الطست كان فيها شيء يحصل به زيادة كمال الإيمان وكمال الحكمة وهذا الملء يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب. وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيراً، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وعائدته كشف المعنوي بالمحسوس. وقال ابن أبي حمرة: فيه أن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا) وأصح ما قيل في الحكمة أنها وضع الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله، فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان وقد لا توجد، وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة. أهـ.

معكَ؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنِعْمَ المجيء جاء، فلما خلصتُ، إذا يوسفُ (1)، قال: هذا يوسفُ فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردٌ، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصتُ، فإذا إدريسُ، قال: هذا إدريسُ فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي، حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصتُ، فإذا هارونُ، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصتُ، فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فرد، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي، لأن غُلاماً بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً

_ (1) قال الحافظ في الفتح: قوله "فلما خلصت إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس: "فإذا هو قد أُعطى شطر الحسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني: "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذي من حديث أنس: ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً، فعلى هذا يحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وأما حديث الباب فقد حمله ابن المنير على أن المراد: أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

به، ونعم المجيء جاء، فلما خلصتُ، فإذا إبراهيمُ، قال: هذا أبوك، فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى فإذا نبقُها مثل قِلال هَجَرَ، وإذا ورقُها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهارٍ: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلتُ: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات (1)، ثم رُفع إلى البيت المعمورُ، ثم أتيتُ بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذتُ اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتكَ، قال: ثم فُرضت عليّ الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعتُ فمررت على موسى، فقال: بم أُمرت؟ قلت: أمرتُ بخمسين صلاة كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربتُ الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعتُ فوضع عني عشراً، فرجعتُ إلى موسى، فقال مثله، فرجعتُ، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فأمرتُ بعشر صلواتٍ كل يومٍ، فرجعتُ فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كل يومٍ، وإني قدْ جربت الناس قبلكن وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييتُ، ولكن أرضى وأُسلمُ، فلما جاوزتُ، نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي".

_ = نبقها مثل قلال هجر: النبق: معروف، راد: ثمرة سدرة المنتهى، و"القلال" جمع قُلة، وهي الحُبَّ يسع مرادة من الماء، ونُسبت إلى "هجر" لأنها تعرف بها. سدرة المنتهى: السدر: شجر النبق، وأما سدرة المنتهى، فهي شجرة في أقصى الجنة، إليها ينتهي علم الأولين والآخرين. (1) قال القرطبي "وقيل إنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيهاً لها بأنهار الجنة لما فها من شدة العزوبة والحسن والبركة.

وفي رواية (1): بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان"، وفيه: "ثُم غُسِلَ البطنُ بماء زمزم، ثم مُليء حكمة وإيماناً" وفيه: "فرفع لي البيتُ المعمورُ، فسألتُ جبريل؟ فقال: هذا البيت المعمور، يُصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم" وفي آخره "وخففتُ عن عبادي، وأجزي بالحسنة عشراً". وفي أخرى (2): "بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلاً يقول: أحد الثلاثة، بين الرجلين، فأتيتُ، فانطلق بي، فأتيت بطست من ذهب، فيها من ماء زمزم، فشُرح صدري إلى كذا وكذا - يعني إلى أسفل بطنه". وفي أخرى (3): " فأُتيت بطستٍ من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فشق من النحر إلى مراق البطن، فغُسل بماء زمزم". وأخرجه النسائي (4) ينحوه بمعناه وأخصر منه، وهذا أتم وأطول. وأخرجه الترمذي (5) إلى قوله: "فغسله بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حُشي إيماناً وحكمة"، قال الترمذي: وفي الحديث قصة طويلة، ولم يذكرها. قال الحافظ في الفتح: وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضاً عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ولكل منهما حكمة فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس "فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان

_ (1) للبخاري (6/ 302) 59 - كتاب بدء الخلق - 6 - باب: ذكر الملائكة. (2) لمسلم (1/ 150) 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) لمسلم (1/ 151) 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات. (4) النسائي (1/ 217) كتاب الصلاة، باب فرض الصلاة. (5) الترمذي (5/ 442) 48 - كتاب التفسير - 83 - باب: ومن سورة ألم نشرح، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

منك" وكان هذا في زمن الطفولة فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه؛ ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء؛ ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل؛ لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها، وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في (المفهم): لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير. ثم قال: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن للسماء أبواباً حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على (أنا) لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد، وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه، وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل، وقد سبق البحث فيه في أول الصلاة، وفيه فضل السير بالليل على السر بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل، وقال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى باللي" وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبداناً من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة قال: ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه

السلام، مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة والاتباع في الملة، وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها وأنهم خالفوه وعصوه، وفيه أن الجنة والنار قد خلقنا، لقوله في بعض طرقه التي بينتها "عرضت على الجنة والنار" وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف، وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. أهـ. 156 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يحدث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "فُرج سقفُ بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء، فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل عليه السلام لخازن السماء الدنيا: افتح، قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فأُرسل إليه؟ قال: نعم، ففتح، قال، فلما علوْنا السماء الدنيا فإذا رجلٌ عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودةٌ، قال: فإذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، قال: فقال: مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح، قال: قلتُ: يا جبريلُ من هذا، قال: هذا آدمُ عليه السلام وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شماله نسمُ بنيه، فأهلُ اليمين أهلُ الجنة، والأسودةُ التي عن شماله أهلُ النار، فإذا نظر قِبَلَ يمينه ضحكَ، وإذا نظر

_ 156 - مسلم (1/ 148) 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات. والبخاري (1/ 458). 8 - كتاب الصلاة - 1 - باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ الأسوِدة: جمع سواد، والسواد: الشخص، إنساناً كان أو غيره، أراد: وحوله أشخاص، نسم بنيه: النسم جمع نسمة، وهي كل شيء فيه روح، وقيل: (النسمة) النفس والروح. ظهرتُ لمستوى: أي: علوت وارتفعت، وصرتُ على ظهره، والمستوى: المكان المستوي، صريف الأقلام: الصريف: الصوت، ومنه: صريف البكرة، وصريف ناب البعير، الجنابذ: القصور.

قِبَلَ شماله بكى، قال: ثم عرج بي جبريلٌ، حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتحْ، قال: فقال له خازنُها مثلَ ما قال خازنُ السماء الدنيا، ففتح". فقال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين. ولم يثبتْ كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة - قال: "فلما مر جبريل ورسول الله بإدريس صلوات الله وسلامه عليه، قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: ثم مر، فقلتُ: من هذا؟ قال: هذا إدريسُ، قال: ثم مررتُ بموسى عليه السلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: قلتُ: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: قلتُ من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، قال: ثم مررت بإبراهيم عليه السلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح، قال: قلتُ: من هذا؟ قال إبراهيمُ". قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم، أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرتُ لمستوى أسمعُ فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك، حتى أمُرُّ بموسى، فقال موسى عليه السلام: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قال: قلت: فرض عليهم خمسين صلاة، قال لي موسى عليه السلام: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي، فوضع شطرها، قال: فرجعتُ إلى موسى فأخبرته، قال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعتُ ربي، فقال: هي خمس، وهي خمسون لا يبدل القول لدي، قال: فرجعتُ إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلتُ: قد استحييت من ربي، قال: ثم انطلق بي جبريل حتى

نأتي سدرة المنتهى، فغشيها ألوان، لا أدري ما هي؟ قال: ثم أدخلتُ الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا تُرابها المسك". 157 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1). قال: رأى جبريل عليه السلام. 158 - * روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2)، وفي قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (3)، وفي قله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (4). قال فيها كلها: رأى جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح - زاد في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي: جبريل في صورته. كذا عند مسلم. وعند البخاري في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا

_ 157 - مسلم (1/ 158) 1 - كتب الإيمان - 88 - باب: معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى). 158 - البخاري (6/ 313) 59 - كتاب بدء الخلق - 7 - باب: إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء. ومسلم (1/ 158) 1 - كتاب الإيمان - 76 - باب: في ذكر سدرة المنتهى. قاب قوسين: قاب الشيء: قدره، والمعنى: فكان قُرب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين عربيتين، وقيل: قاب القوس: صدرها، حيث يشد عليه السير. قال الحافظ في الفتح: و (القاب): ما بين القبضة والسية من القوس، قال الواحدي: هذا قول جمهور المفسرين: أن المراد: القوس التي يرمي بها، قال: وقيل: المرد بها: الذراع، لأنه يقاس بها الشيء، قلت: (القائل ابن حجر): وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (القاب: القدر، والقوسان: الذراعان) ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يرمي بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلاً: قاب رمح، ونحو ذلك. وقد قيل: إنه على القلب، والمراد: فكان قاب قوس، لأن القاب: ما بين المقبض إلى السية، ولكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته، وقوله: (أو أنثى): أي: أقرب. قال الزجاج: خاطب الله العرب بما ألفوا، والمعنى: فيما تقدرون أنتم عليه، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه، لا تردد عنده، وقيل: "أو" بمعنى "بل" والتقدير: بل هو أقرب من القدر المذكور. (1) النجم: 13. (2) النجم: 9. (3) النجم: 11. (4) النجم: 18.

أَوْحَى} (1) قال: رأى جبريل له ستمائة جناحٍ. وفي رواية الترمذي (2) قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حُلةٍ من رفرفٍ قد ملأ ما بين السماء والأرض. وللبخاري (3) في قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: رفرفاً أخضر سد أفق السماء. 159 - * روى أحمد والطبراني عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام أن يراه في صورته، قال: ادع ربك عز وجل، فطلع عليه سوادٌ من قبل المشرق. قال فجعل يرتفع وينتشر فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صُعِقَ فأتاهُ فنعشه ومسح البُزاق عن شدقيه. 160 - * روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (4) قال: رآه بفؤاده، مرتين، وفي روايةٍ قال: رآه بقلبه، ولقد رآه نزلة أخرى. وفي رواية الترمذي (5) قال: رأى محمد ربهُ، قلتُ: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (6). قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نورهُ، مرتين. وفي أخرى له (7): {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ

_ (1) النجم: 9، 10. (2) الترمذي: (5/ 396) 48 - كتاب تفسر القرآن 54 - باب: ومن سورة النجم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (3) البخاري: (6/ 312) 59 - كتاب بدء الخلق - 7 - باب: إذا قالت الملائكة آمين والملائكة في السماء. 159 - أحمد في مسنده (1/ 322)، والطبراني (11/ 52)، قال الهيثمي (8/ 257): رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات. 160 - مسلم (1/ 158) 1 - كتاب الإيمان - 77 - باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى) وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. (4) النجم: 11 - 14. (5) الترمذي: (5/ 295) 48 - كتاب تفسير القرآن - 54 - باب: ومن سورة النجم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. (6) الأنعام: 103. (7) الترمذي في الموضع السابق.

مَا أَوْحَى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال ابن عباس: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم. وله في أخرى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رآه بقلبه. 161 - روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَ علي الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً: عروةُ بن مسعودٍ، ورأيتُ إبراهيم عليه السلامُ، فإذا أقربُ من رأيتُ به شبهاً صاحبُكم - يعني نفسه - ورأيتُ جبريل عليه السلام، فإذا أقربُ من رأيتُ به شبهاً: دحيةُ بن خليفة". 162 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال مجاهد: أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما وذكروا له الدجال مكتوب بين عينيه كافر، أو ك ف ر - قال: لم أسمعه ولكنه قال: "أما إبراهيم، فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى: فجعد آدم، على جملٍ أحمر مخطومٍ بخُلبةٍ، كأني أنظر إليه انحدر في الوادي". وفي رواية (1) قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به فقال: موسى آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، وقال: عيسى جعدٌ مربوعٌ، وذكر مالكاً خازن النار، وذكر الدجال". زاد في رواية: "ورأيتُ عيسى بن مريم مربوع الخَلْقِ، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيتُ مالكاً خازن النار، والدجال في آياتٍ أراهُن الله إياه: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} (2).

_ 161 - مسلم (1/ 153) 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات. والترمذي (5/ 604) 50 - كتاب المناقب 212 - باب: في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. 162 - البخاري (6/ 388) (60) - كتاب الأنبياء (8) - باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً). خلبة: الخلب: الليف، واحدته خُلبة طوال: رجل طوال: مثل طويل. (1) لمسلم (1/ 153) 1 - كتاب الإيمان - 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) السجدة: 23.

163 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (1).قال: هي رؤيا عين، أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} هي شجرة الزقوم. قال الحافظ: واختلف السلف هل رأى ربه في تلك الليلة أم لا؟ على قولين مشهورين، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وطائفة، وأثبتها ابن عباس وطائفة. 164 - * روى مسلم عن ابن عباس قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (2) قال: رآه بفؤاده مرتين. 165 - * روى البخاري عن مسروق قال: قلتُ لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاهُ، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاثٍ من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقد كذب، ثم قرأت {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (4). ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (5). ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم

_ 163 - البخاري (7/ 203) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 42 - باب المعراج. الترمذي (5/ 302) 48 - كتاب تفسير القرآن - 18 - باب: ومن سورة بني إسرائيل إلا فتنة للناس: الفتنة: " الاختبار والابتلاء، وقيل: أراد به الافتتان في الدين. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلما أُسري به. وحدث الناس بما رأى من العجائب. صدقه بعض الناس وكذبه بعضهم، فافتتنوا بها. (1) الإسراء: 60. 164 - مسلم (1/ 158) 1 - كتاب الإيمان - 77 - باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى) وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء. قف له شعري: إذا سمع الإنسان أمراً عظيماً هائلاً قام شعر رأسه وبدنه، فيقول: قد قف شعري لذلك. (2) النجم: 11، 13. 165 - البخاري (8/ 606) 65 - كتاب التفسير، باب: 1. (3) الأنعام: 103. (4) الشورى: 51. (5) لقمان: 34.

قرأت: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) الآية. ولكن رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين. 166 - * روى الترمذي عن الشعبي رحمه الله قال: لقي ابن عباس كعباً بعرفة، فسأله عن شيء، فكبر، حتى جاوبته الجبالُ، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمدٍ وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة رضي الله عنها، فقلتُ: هل رأى محمد ربهُ؟ فقالت: لقدْ تكلمت بشيء قفَّ له شعري، قلت: رويداً، ثم قرأت: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (2) فقالت: أين يُذهبُ بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه، أو كتم شيئاً مما أُمر به، أو يعلمُ الخمس التي قال الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (3) فقد أعظم الفرية، ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جيادٍ له ستمائة جناح، قد سد الأفق. 167 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كذبتني قريش قمت في الحِجْرِ، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه". وزاد البخاري في رواية قال: "لما كذبني قريش حين أُسري بي إلى بيت المقدس ... " وذكر الحديث. قال ابن حجر: قال الشيخ ابن أبي جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من

_ (1) المائدة: 67. 166 - الترمذي (5/ 394) 48 - كتاب تفسير القرآن - 54 - باب: ومن سورة النجم. وسنده فيه ضعيف، لكن له طرق وألفاظ أخرى نحوه عند الشيخين. الفِرية: الكذب. جيادُ: موضع بمكة. (2) النجم: 18. 167 - مسلم (1/ 156) 1 - كتاب الإيمان - 75 - باب: ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال. والبخاري (7/ 196) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 41 - باب: حديث الإسراء. (3) لقمان: 34.

يريد إخماده؛ لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند. انتهى ملخصاً. أقول: ومن ههنا عدّ من المعجزات التي تقوم بها لحجة على الخلق، ولولا ذلك لكانت من الغيوب التي يجب الإيمان بها فقط، ولكن بإظهاره عليه الصلاة والسلام معاني ما كانت لتكون لولا وقوع الخارق قامت الحجة على الناس بأنها معجزة وأن عليهم أن يسلموا لصاحبها بالرسالة، وأن يسلموا له بما نقله من أمرها. * * *

فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورة وفي بيعتي العقبة

فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورة وفي بيعتي العقبة دخل الإسلام إلى المدينة المنورة على مدار ثلاث سنين قبل الهجرة، وكان بداية ذلك مجيء وفد من الأوس إلى مكة باحثين عن تحالفات ضد أبناء عمهم الخزرج الذين كانوا في صراع معهم، فهؤلاء أول ناس طرق سمعهم الإسلام وقد أسلم واحد منهم، ثم جاء وفد من أهل المدينة معتمرين في رجب، فاجتمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الدعوة فأسلموا ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم فاستجاب لهم عدد، فقدم من استطاع منهم إلى الحج وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى ثم عادوا، وأرسل معهم أو بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير ففشا الإسلام في المدينة حتى سيطر، ووافى ممن أسلم حوالي سبعين في موسم الحج وكانت بيعة العقبة الثانية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايعه أن يختاروا له اثني عشر نقيباً، يكونون على أقوامهم كفلاء وبين أقوامهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاء، وعلى إثر ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة. وبقبول أهل المدينة للإسلام من ناحية ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقق هدفان بآن واحد: هدف النصرة من أهلها وأن هؤلاء مسلمون، وهذا يقتضي تفصيلاً: لقد كان الهدف السياسي المرحلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة - فيما نعلم - أن يجد من يحميه وينصره ليبلغ دعوة ربه دون أن يقيد هذه النصرة بإسلام هؤلاء، وباصطلاح عصرنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن حرية الدعوة والعبادة في مجتمع قادر على أن يحمي هذه الحرية. قال ابن حجر في الفتح: وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان في تلك السنين - أي التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: "لا أكره أحداً منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي" فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به. أهـ. ولو أنه استجاب له من يستطيع المنعة والنصرة من العرب لسارت الدعوة غير المسار

الذي سارت فيه باستجابة أهل المدينة للإسلام وللنصرة بآن واحد، إذ قد تسير الدعوة في الحالة الأولى على مسار تجميع للمستجيبين يعيشون به في ظل الحماة ثم تكون انطلاقة بعد ذلك نحو أرض أخرى، أما وقد قبل الأنصار الإسلام والنصرة بآن واحد فقد طويت مرحلتان في مرحلة واحدة، ومع ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأنصار ابتداء على أن البيعة كانت على الدفاع، ولذلك نلحظ أنه لم يشرك في التحركات العسكرية قبل بدر إلا المهاجرين، ويوم بدر طلب شورى الأنصار خشية أن يكونوا فهموا من النصرة الدفاع فقط، مع أن الأنصار دخلوا في الإسلام وقبلا أحكامه فهم والمهاجرون سواء في التكليف، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي تلك الظروف. ومن ههنا نعرف أن أكبر نصر سياسي للإسلام كان في قبول أهل المدينة النصرة وما ترتب على ذلك من هجرة. ومن ههنا نقول: إنه عندما يكون المسلمون في حالة ضعف ولست لهم دار إسلام يستطيعون الهجرة إليها، فلهم أن يضعوا هدفاً سياسياً مرحلياً من مثل الوصول إلى حريتهم في الدعوة والعبادة، وإذا وجدوا في مجتمع يعطيهم ذلك فعليهم أن يعمقوا جذور الإسلام ويطوروا امتداده ويعملوا لانتصاره. وقد حلل الأستاذ الندوي الأسباب التي جعلت المدينة المنورة مؤهلة لقبول الإسلام فقال: وكان من صنع الله تعالى لرسوله وللإسلام، أن هيأ الله الأوس والخزرج - وهما قبيلتان عربيتان عظيمتان في مدينة يثرب - لتقدرا هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها، وتسبقا أهل عصرهما، وأبناء الجزيرة، إلى الترحيب بالإسلام والدخول فيه، حين تنكرت له قبائل العرب وفي مقدمتاه وعلى رأسها قريش {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وقد ساعدت على ذلك عدة عوامل، هي من خلق الله تعالى وتيسيره وصنعه، كانت فارقة بين قريش وأهل مكة، وقبائل يثرب العربية، منها ما طبعها الله عليه من الرقة واللين وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية

والسلالية التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد وفْدُ من اليمن، بقوله: "أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً" وهما ترجعان أصلهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم، يقول القرآن مادحاً لهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1). ومنها أنهما قد أنهكتهما الحروب الداخلية، وما يوم بعاث ببعيد، وقد اكتووا بنارها، وذاقوا مرارتها، وعافوها، ونشأت فيهم رغبة في اجتماع الكلمة، وانتظام الشمل، والتفادي من الحروب، وذلك ما عبروا عنه بقولهم: (إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فإن يجمعهم الله بك، فلا رجل أعز منك)، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله. ومنها أن قريشاً، وسائر العرب قد طال عهدهم بالنبوات والأنبياء، وأصبحوا يجهلون معانيها بطول العهد، وبحكم الأمية والإمعان في الوثنية، والبعد عن الأمم التي تنتسب إلى الأنبياء وتحمل الكتب السماوية - على ما دخل فيه من التحريف والعبث - وذلك ما يشير إليه القرآن بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (2). أما الأوس والخزرج فكانوا يسمعون اليهود يتحدثون عن النبوءة والأنبياء ويتلون صحف التوراة ويفرونها، بل كانوا يتوعدونهم به، ويقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3). وبذلك لم تكن بين أبناء الأوس والخزرج وسكان المدينة من العرب المشركين تلك

_ (1) الحشر: 9. (2) يس: 6. (3) البقرة: 89.

الفجوة العميقة الواسعة من الجهل والنفور من المفاهيم الدينية والسنن الإلهية التي كانت بينها وبين أهل مكة وجيرانهم من العرب، بل قد عرفوها وألفوها عن طريق اليهود، وأهل الكتاب الذي كانوا يختلطون بهم بحكم البلد والجوار والصلح والحرب والمحالفات، فلما تعرفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضروا الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، ارتفعت الغشاوة عن عيونهم، وكأنهم كانوا من هذه الدعوة على ميعاد. 168 - * روى أحمد والطبراني عن محمود بن لبيدٍ أخي بني عبد الأشهل قال لما قدم أبو الجليس أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياسُ بن معاذ يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: "هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له؟ " قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يُشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب" ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم هذا والله خير مما جئتم له. قال: فأخذ أبو جليس أنسُ بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها في وجه إياس بن معاذٍ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بُعاثٍ بين الأوس والخزرج قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. المفروض أن تكون هذه الحادثة قبل خمس سنين من الهجرة لأن موقعة بعاث كانت كذلك على رأي ابن هشام. 169 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم بعاثٍ يوماً قدمه

_ 168 - أحمد في مسنده (5/ 427). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 36) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات. بُعاث: بضم الباء وهو يوم كان بين الأوس والخزرج فيه قتال قبل الإسلام، وهو اسم حصن للأوس وبعضهم بقوله بالغين المعجمة وهو تصحيف. 169 - البخاري (7/ 110) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 1 - باب مناقب الأنصار. الملأ: الأشراف والجماعة من الناس الذين يكونون رؤوس القوم، السروات: جمع سراة وسَراة: جمع سري، وهو =

الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فَقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملاهم، وقُتلت سرواتهم، وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام. 170 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجلٍ يحملني إلى قومه، فإن قُريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل"، فأتاه رجلٌ من همدانٍ فقال: "ممن أنت؟ " فقال الرجل من همدان. قال: "فهل عند قومك من منعةٍ؟ "، قال: نعم، ثم إن الرجل خشي أن يحقره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل، قال: "نعم" فانطلق وجاء وفدُ الأنصار في رجبٍ. قال ابن حجر في الفتح: وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في (الدلائل) بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أب بكر وكان نسابة فقال: من القوم؟ فاقلوا: من ربيعة. فقال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل - فذكروا حديثاً طويلاً في مراجعتهم وتوقفهم أخيراً عن الإجابة - قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري، ورافع بن مالك بن العجلان العجلاني، وقطبة بن عامر بن حديدة، وجابر بن عبد الله ابن رئاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار. وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال: كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان. قال ابن اسحاق:

_ = الشريف الكبير من الناس، وسراة جمع عزيز، قال الجوهري: لا يعرف غيره، وهو أن يجمع فعيل على فعلة. 170 - أحمد في مسنده (3/ 390) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 35) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.

حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال: لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا: من الخزرج. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبياً سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه اليهود. فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلاً. 171 - * روى الطبراني عن ابن إسحق قال: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز وعده خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار وهم فيما يزعمون ستةٌ فيهم جابر بن عبد الله بن رئابٍ .. 172 - * روى الطبراني عن عروة قال: لما حضر الموسم حج نفرٌ من الأنصار من بني مازن بن النجار منهم معاذٌ بن عفراء وأسعد بن زرارة، ومن بني زريق رافعُ بن مالك وذكوان بن عبد القيس، ومن بني عبد الأشهل أبو الهيثم بن التيهان، ومن بني عمرو بن عوف عويمُ بن ساعدة، وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم خبرهم الذي اصطفاه الله به من نبوته وكرامته، وقرأ عليهم القرآن، فلما سمعوا قوله أنصتوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته وما يدعوهم إليه، فصدقوه، وآمنوا به، وكانوا من أسباب الخير، ثم قالوا له قد علمت الذي بين الأوس والخزرج من الدماء ونحن نحب ما أرشد الله به أمرك، ونحن لله ولك مجتهدون، وإنا نُشير عليك بما ترى فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنخبرهم بشأنك وندعوهم إلى الله ورسوله، فلقل الله يُصلح بيننا ويجمعُ أمرنا فإنا اليوم متباعدون متباغضون، فإنْ تقدم علينا اليوم ولم نصطلح لم يكن لنا جماعة عليك، ونحن نواعدك الموسم من العام

_ 171 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 42). رواه الطبراني ورجاله ثقات. 172 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 42): رواه الطبراني مرسلاً: وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسنُ الحديث، وبقية رجاله ثقات. أقول: وإنما يحسن حديث ابن لهيعة إذا وافق المشهور، وهو ههنا كذلك.

القَابِل فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قالوا، فرجعُوا إلى قومهم يدعونهم سراً وأخبروهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله به ودعا عليه بالقرآن حتى قل دارٌ من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناسٌ لا محالة، ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك يدعو الناس بكتاب الله، فإنه أدنى أن يُتبع فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنمٍ على أسعد بن زُرارة فجعل يدعُو الناس ويفشو الإسلامُ ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرقٍ أو قريباً منها، فجلسوا هنالك، وبعثوا إلى رهطٍ من أهلِ الأرض فأتوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أُخبرَ بهم سعد بن معاذ فأتاهم ومعه الرمح حتى وقف عليه، فقال علام يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم لا أراكما بعد هذا بشيءٍ من جوارنا فرجعُوا ثم إنهم عادُوا الثانية ببئر مرقٍ أو قريباً منها، فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فواعدهم بوعيدٍ دون الوعيد الأول فلما رأى أسعد منه لينا قال: يا ابن خالةٍ اسمع من قوله فإن سمعت منه منكراً فاردده يا هذا منه، وإن سمعت خيراً فأجب الله فقال: ماذا يقول فقرأ عليهم مصعب بن عمير {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) فقال سعد وما أسمعُ إل ما أعرفُ فرجع وقد هداهُ الله تعالى ولم يظهر أمرُ الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه وقال فيه: من شك من صغير أو كبير أو ذكرٍ أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به فوالله لقد جاء أمرٌ لتحزن فيه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد، ودعائه إلا من لا يُذكرُ فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد بن زرارة فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ فلم يزل يدعو ويهدي على يديه حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة وأسلم أشرافهم وأسلم عمرو بن الجموح، وكُسرت أصنامهم؛ فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المقرئ.

_ (1) الزخرف: 1 - 3.

قال ابن حجر في الفتح: وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الإثنى عشر رجلاً مصعب بن عمير العبدري، وقيل بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة. وللدارقطني من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن أجمع بهم. أهـ، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلماً وزيادة، فبايعوا كما تقدم. 173 - * روى الإمام أحمد عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكة عشر سنين يتبعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي الموسم بمنى يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " حتى إن الرجل ليخرج من اليمن - أو من مضر كذا قال - قال: فيأتيه قومه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناهُ، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلبُ إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطردُ في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك: قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العُسر واليُسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائمٍ وعلى أنْ تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكمُ

_ 173 - أحمد في مسنده (3/ 322، 339)، البزار: في كشف الأستار (2/ 307)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 46) وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح.

الجنة" قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغرهم فقال: رُويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحنُ نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجركم على الله وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو عُذررٌ لكم عند الله قالوا أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها أبدا، فبايعناه فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة. 174 - * روى أحمد والطبراني عن كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا في حُجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء ابن معرور كبيرنا وسيدنا، فلما توجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا يا هؤلاء إني قد رأيت والله رأياً وإني والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ قلنا له: وما ذاك قال: قد رأيتُ أن لا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة، وأن أصلي إليها قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام، وما نُريد أن نخالفه فقال: إني أصلي إليها: فقلنا له: لكنا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة قال: وقد عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة عليه، فلما قدمنا مكة قال: يا ابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عما صنعتُ في سفري هذا، فإنه والله قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيتُ من خلافكم إياي. قال: فخرجنا نسألُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلٌ من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه قلنا: لا فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه: قلنا: نعم، قال: كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً، قال فإذا دخلتما المسجد، فهو الرجل الجالس مع العباس قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جلس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه جالسٌ فسلمان ثم جلسنا إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس "هل تعرفُ هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ " قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشاعر". قال: نعم. قال: فقال

_ 174 - أحمد في مسنده (3/ 460، 461) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 45): رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع.

البراء بن معرورٍ يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وهداني الله للإسلام، فرأيتُ أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر؛ فصليتُ إليها وقد خالفني أصحابي في لك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: "لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معنا إلى الشام قال، وأهلهُ يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس ذلك كما قالوا نحن أعلمُ به منهم. قال: وخرجنا إلى الحج فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعن عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوته إلى الإسلام، وأخبرته بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبةُ بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها - إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه وهو في عز من قومه ومنعةٍ في بلده. قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام. قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"ن قال: فأخذ البراءُ بن معرورٍ بيده، ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان حليفُ بني عبد الأشهل فقال يا رسول

الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها يعني العهود فهل عسيت إنْ نحنُ فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أنْ ترجع إلى قومك وتدعنا، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل الدمُ الدمُ والهدمُ الهدمُ، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم" وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم" فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعةٌ من الخزرج وثلاثةٌ من الأوس. وأما معبد بن كعب فحدثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط يا أهل الجباجب - والجباجبُ المنازلُ - هل لكم في مُذَمَّمٍ والصبأة معه قد أجمعوا على حربكم قال علي - يعني ابن إسحاق -: ما يقول يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزبُّ العقبة هذا ابن أذيب، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا إلى رحالكم"، قال فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنملين على أهل مني غداً بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أؤمر بذلك"، قال: فرجعنا، فنمنا حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحدٌ أبغض إلينا أن تنشُبَ الحربُ بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا قال: فبعضنا ينظر إلى بعض قال: وقام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيدٌ من ساداتنا أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش، فسمعها الحرث فخلعهما، ثم رمى بهما إليَّ فقال: والله لتنتعلنهُما، قال يقول أبو جابر: أحفظت والله الفتى فارْدد عليه نعليه قال: فقلتُ والله لا أردهما فألٌ: والله صالح لئن صدق الفأل لأسلبنهُ. فهذا

_ أزب العقبة: الأرب. القصير الضخم البطن والآلية - واللئيم الداهية، والمراد به اسم شيطان العقبة. أحفظت: احفظه: أغضبه. الفأل: قول أو فعل يستبشر به.

حديث ابن مالك عن العقبة ما حضر منها. وقال الطبراني (1) في حديثه فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقينا رجلٌ بالأبطح فقلنا له تدلنا على محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: فهل تعرفانه إذا رأيتماه؟، وقال أيضاً وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام فأجبناه بالإيمان به والتصديق به، وقال أيضاً: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجُوا منكم اثني عشر نقيباً" فأخرجهم فكان نقيب بني النجار أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وكان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو، وكان نقيب بني زريقٍ رافع بن مالك بن العجلان، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وكان نقيب بني عوف ابن الخزرج عبادة بن الصامت ونقيب بني عبد الأشهل أسيدُ بن حُضير وأبو الهيثم بن التيهان وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة. 175 - * روى أحمد عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعه العباسُ عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال ليتكلم متكلمكُم ولا يطيل الخطبة فإن عليكم من المشركين عيناً وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم وهو أبو أمامة: سل يا محمدُ لربك ما شئت ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله عز وجل وعليكم إذا فعلنا ذلك فقال: "أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأسألكم لنفس ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟، قال: "لكم الجنة" قالوا: فلك ذلك. 176 - * روى أبو يعلي عن أنس بن ثابت بن قيس أنه خطب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما نمنعُك مما نمنعُ منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال: "لكم الجنةُ" قالوا رضينا.

_ (1) الطبراني (19/ 88). 175 - أحمد في مسنده (4/ 119، 120) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 48)، وقال: رواه أحمد مرسلاً ورجاله رجال الصحيح. 176 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 48) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح.

177 - * روى أبو يعلي والبزار عن جابر بن عبد الله، قال: لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم النقباء من الأنصار قال لهم: "تؤووني وتمنعوني"، قالوا فما لنا؟ قال: "لكم الجنة". ونلاحظ أن الخطاب الذي وجه للنقباء هو نفسه الذي خوطب به الجميع، مما يشير إلى ضرورة التأكيد على الخاصة بما تطالب به العامة. 178 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: شهد بي خالاي العقبة قال ابن عيينة: أحدهما: البراء بن معرورٍ. وفي رواية قال: أنا وأبي وخالاي من أصحاب العقبة. 179 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة قال جابر: وأخرجني خالاي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجرٍ. أقول: في هذا الحديث إشارة إلى جواز إشراك الصبيان في العمل الإسلامي بل حتى فيما يعتبر من الأسرار، ولكن هذا منوط بتربية الطفل، وضمانة أقاربه، وحياطتهم له. 180 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: حملني خالي جدُ بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ الأنصار ليلة العقبة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمهُ العباس بن عبد المطلب فقال: "يا عم خُذ على أخوالك" فقال له السبعون يا محمد سل لربك ولنفسك ما شئت فقال: "أما الذي أسألكم لربي فتعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأما الذي أسألكم لنفسي منه فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك قال: "الجنةُ"

_ 177 - أورده الهيثمي في مجمع الزائد (6/ 48)، وقال: رواه أبو يعلي والبزار بنحوه ورجال أبي يعلي رجال الصحيح. 178 - البخاري (7/ 219) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 42 - باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيعة العقبة. البراء بن معرور: من أقارب أم جابر، وأقارب الأم يسمون أخوالاً مجازاً. 179 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 49): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 180 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 49): رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات. 181 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 50): رواها كلها الطبراني، وإسنادها إلى ابن شهاب واحد، ورجاله ثقات.

181 - * روى الطبراني عن ابن شهاب ف يتسمية من حضر العقبة من الأنصار ثم من بني النجار: أوس بنُ ثابت وأوسُ بن يزيد بن أصرم وأبو أمامة أسعد بن زرارة، ومن الأنصار ثم من بني سلمة البراء بن معرور وهو أولُ من أوصى بثلث ماله واستقبل الكعبة وهو ببلاده وكان نقيباً، ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج بشير بن سعد بن النعمان، ومن الأنصار جابر بن عبد الله بن عمرو وجبارُ بن صخرٍ، ومن الأنصار ثم من بني زريقٍ الحارث بن قيس بن مالك وقد شهد بدراً وذكوان بن عبد القيس بن خلدة، ورافع بن مالك وقد شهد بدراً، ومن الأنصار ثم من بني الجبلي رفاعةُ بن عمرو، ومن الأنصار ثم من بني ساعدة بن كعب سعد بن عبادة وهو نقيب، ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة وهو نقيبٌ، ومن الأنصار ثم من بني عبد الأشهل سلمة بن سلامة بن وقشٍ، ومن الأنصار ثم من بني حارثة بن الحرث ظهير بن رافع، ومن الأنصار ثم من بني حارثة أبو برُدة بن نيارٍ .. 182 - * روى الحاكم عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذٍ حدث على بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال: فقال ذلك في أهل يثرب، والقوم أصحابُ أوثانٍ لا يرون بعثاً كائناً عند الموت، فقالوا له: ويحك أترى هذا كائناً يا فلان أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى جنةٍ ونارٍ ويُجزون فيها بأعمالهم قال: نعم والذي يحلف به، قالوا يا فلان ويحك وما آية ذلك؟ قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى كة. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا أصغرهم سناً فقال: إنْ يستنفد هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة، فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغياً وحسداً، فقلنا له ويحك يا فلان ألست الذ قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكنه ليس به. * * *

_ 182 - الحاكم (3/ 417) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

فصل: في الهجرة إلى المدينة المنورة

فصل: في الهجرة إلى المدينة المنورة مقدمة: 1 - كانت الهجرة هي الدرس الأخير في المرحلة المكية، وهي التصفية النهائية لأنفس الرعيل الأول، لقد طولب الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والعبادة ففعلوا، وسلط عليهم الإيذاء، وأمروا بالصبر وكف اليد، والاستسلام لأمر الله ففعلوا، وحب الوطن أصيل في النفس فطولبوا بالهجرة فهاجروا، ثم قاتلوا مع الأنصار أهليهم وقبيلتهم فوجد بذلك كله جيل لم يعرف العالم له مثيلاً بالتجرد من أهواء النفوس وعصيانها. 2 - والهجرة بالنسبة للدعوة الإسلامية هي أعظم الأحداث الدعوية والحركية، لأن بها قامت دولة الإسلام ووجدت قاعدته التي حملت هذه الدعوة ابتداء وقدمتها للعالم انتهاء، ولذلك أرخ المسلمون بالهجرة. 3 - وقد أقبل المسلمون على الكتابة في الهجرة واستخراج دروسها وعبرها وخاصة في عصرنا فمن سابق ومن مقتصد، واستخرج بعضهم تعميامت تحتاج إلى تخصيص، وأراد بعضهم أن يستخرج نظرية محددة يقيد بها الحركة الإسلامية باعتماده فكرة الهجرة إلى جهة ما وهذا كله يحتاج إلى شيء من الإيضح، وستأتي الإيضاحات شيئاً فشيئاً، وقد اخترنا أن ننقل لك في هذه المقدمة ثلاثة نقول تفتح لك آفاقاً في الهجرة بين يدي الروايات: قال الشيخ الغزالي: ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة. إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه، وإشعاره - وهو يصفي مركزه - بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض

الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام

عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضي الضمير، وضاء الوجه؟! إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السماوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير. هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيِّاب الخوَّار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك، إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ...} (1). أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، تواصوا بالحق والصبر. فإنهم نفروا - خفافاً - ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله. * * * الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام: وقال الأستاذ البوطي: يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان: 1 - وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، روى القرطبي عن ابن العربي: (أن هذه الهجرة كانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. والتي انقطعت بالفتح، إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإ بقي في دار الحرب عصى). ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.

_ (1) النساء: 66.

ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1). 2 - وجوب نصرة المسلمين لبعضهم، مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً. فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين، في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باءوا بإثم كبير. يقول أبو بكر بن العربي: إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كا عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك، أهـ. أقول: ليست الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام واجبة في كل حال، وإن اشتهر من مذهب الحنفية ذلك كما اشتهر في مذهبهم وجوب الهجرة من دار البدعة إلى دار السنة فالأمر فيه تفصيل. فإذا كنت في دار كفر لكنك حر آمن تستطيع أن تعبد الله وتدعو إليه ولا تخشى على نفسك وأهلك وذريتك الفتنة، ولم يطلب منك أمير المؤمنين الشرعي الهجرة إلى دار الإسلام، فمقامك حيث أنت أجود وأطيب وأكثر أجراً، بل اعتبر الشافعية أنه يندب لك البقاء لأنه ببقائك يصبح جزء من دار الكفر دار إسلام. أما حيث يخاف المسلم الفتنة على نفسه وأهله أو ذريته فعندئذ تجب عليه الهجرة إن كان قادراً عليها ووجدت الجهة التي تستقبله ولا يخشى فيها الفتنة على نفسه وأهله وذريته، وفي عصرنا تجد الأمر في غاية التعقيد، فليس الخروج من بلد إلى بلد سهلاً، واحتمال الفتنة قائم

_ (1) النساء: 97، 98.

في كثير من البلدان، ولذلك فإنني أرى أن حكم الهجرة الآن منوط بالفتوى البصيرة من أهلها، ولا ينبغي أن يكون هناك تسرع فيه. قال ابن حجر في الفتح بمناسبة تعليل عائشة رضي الله عنها للهجرة بقولها الذي ورد في صحيح البخاري: (كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه .. إلخ) أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (1) فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في (شرح السة): يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله (لا تنقطع) أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن قوله لا هجرة أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله: (لا تنقطع) أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الذي يظهر أن المراد بالشق الأول هو النفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) أي: ما دام في الدنيا دار كفر،

_ (1) الأنفال: 72.

فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه: أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها والله أعلم أهـ. لماذا اختيرت المدينة: ولنُرصِّعْ جيد هذه المقدمة بذكر الحِكَم التي اختيرت من أجلها المدينة داراً لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقلها عن الشيخ أبي الحسن الندوي في كتابه (السيرة النبوية): وكان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة، داراً للهجرة، ومركزاً للدعوة، هذا عدا ما أراده الله من إكراه أهلها، أسرار لا يعلمها إلا الله، أنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة، مطبقة على المدينة من الناحية الغريبة، وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة، هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب) وكانت الجهات الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل والزروع الكثيفة، لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف. وكانت خفارات عسكرية صغيرة، كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم، يقول ابن إسحاق: (كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها). ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: "إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان" فهاجر من هاجر قبل المدينة. وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، وقد جاء ذلك صريحاً في الكلمة التي قالها سعد بن معاذ - سيد الأوس - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كن نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا

يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً. يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا اليهود على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر. وجاء في (العقد الفريد): ومن الأزد الأنصار، وهم الأوس والخزرج وهما ابنا حارثة ابن عمرو بن عامر، وهم أعز الناس أنفساً وأشرفهم همماً، ولم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك. وكان بنو عدي بن النجار أخواله، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، فذهب إليه عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة. وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسد واحد، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم، لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية باسم الحمية القحطانية أو العدنانية. فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام، ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن. أهـ. 183 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النب صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث عشرة سنين نبياً، فنزلت عليه: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} (1) بفتح الميم، فهاجر.

_ 183 - المستدرك (2/ 243) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (1) الإسراء: 80.

184 - * روى الحاكم عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أوحى إليَّ أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دارُ هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين". 185 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين: "قد أريتُ دار هجرتكم أريتُ سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين" وهما الحرتان. 186 - * روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة، أو هجرُ، فإذا هي المدينة يثربُ، ورأيت في رؤياي هذه: أني هززتُ سيفاً، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحدٍ، ثم هززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح، واجتماع المؤمنين، ورأيتُ فيها بقراً والله خيرٌ، فإذا هم المؤمنون يوم أحدٍ، وإذا ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدرٍ". إلا أن عند البخاري عن أبي موسى: أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم - بالشك. وعند مسلم: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير شك

_ 184 - المستدرك (3/ 2) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. البحرين: هي المنطقة الشرقية من السعودية اليوم بالإضافة إلى الكويت وقطر. قنسيرينك بلد بالشام قريب من حلب. 185 - المستدرك: (3/ 2) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. سبخة: أرض ذات ملح، لا تكاد تنبت. اللابة: الحرة، والحرة: الأرض ذات الحجارة السود. 186 - البخاري (6/ 627) 61 - كتاب المناقب - 25 - باب: علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (4/ 1779) 43 - كتاب الرؤيا - 4 - باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم. أهاجر: الهجرة عند العرب: خروج البدوي من البادية إلى المدن، ليقيم بها، يقال: هاجرت إلى مدينة كذا، أي قصدتها للإقامة فيها، والهجرة في الباب الانتقال إلى المدينة. وهلي: يقال: وهل إلى الشيء بالفتح: يهلُ، يوهل: بالكسر، وهلا بالسكون: إذا ذهب وهمه إليه. والله خير: قال النووي 15/ 22: قال القاضي: قال أكثر شراح أ] صنع الله بالمقتولين خير لهم من بقائهم في الدنيا: ثم قال والأولى قول من قال: =

187 - * روى الحاكم عن قتادة: قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} فأخرجه الله من مكة إلى المدينة مُخرج صدقٍ، وأدخله المدينة مُدخل صدقٍ، قال ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدود الله ولفرائض الله ولإقامة كتاب الله وإن السلطان عزة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم. أقول: في كلام قتادة هذا إشارة إلى ضرورة وجود السلطان السياسي للإسلام، وأنه لابد من تلاحم السلطان مع القرآن ليقوم افسلام. قدوم الهاجرين إلى المدينة: 188 - * روى الطبراني عن البراء قال: كان أول من قدم علينا من المهاجرين مُصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قُصي فقلتُ له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري. أقول: جاء مصعب إلى المدينة عقب العقبة الولى ثم عاد ليقدم تقريره مع أصحاب العقبة الثانية، والنص ههنا يشير إلى عودته إلى المدينة بعد ذلك. 189 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله قد جاء، فما جاء حتى قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) في سور مثلها.

_ = والله خير من جملة الرؤيا وكلمة ألقيت إليه وسمعها في الرؤيا، أهـ. 187 - الحاكم (3/ 3) وسكت عنه الذهبي. 188 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 60) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 189 - البخاري (8/ 699) - 65 - كتاب التفسير - 87 - سورة سبح اسم ربك الأعلى. (1) الأعلى: 1.

190 - * روى البزار عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياشُ ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص الميضأة ميضأة بني غفار فوق شرفٍ وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس فليمضِ صاحباه فحُبس عنا هشام بن العاص فلما قدمنا المدينة نزلا في بني عمرو بن عوف وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة، فكلماهُ فقالا له: إن أمك نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك فرق لها، فقلت له: يا عياش والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت (1) ولو قد اشتد عليها حر مكة أحسبه قال لامتشطتْ، قال: إن لي هناك مالاً فآخذه قال قلت: والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما. فأبى إلا يخرج معهما، فقلت له لما أبى علي؛ أما إذ فعلت ما فعلتْ فخذْ ناقة هذه فإنها ناقةٌ ذلولٌ، فألزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطرق قال أبو جهل بن هشام والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه، وأوثقاه، ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتنَ، قال: فكنا نقول والله لا يقبل الله ممنْ افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا يقبلُ توبة قومٍ عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابه قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنزل فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (3) قال عمر فكتبتها في صحيفةٍ وبعثتُ بها إلى هشام بن العاص قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طوى أُصعدُ بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفس أنما نزلت فينا وفيما كُنا نقول في أنفسنا وُقال فينا فرجعت فجلستُ على بعيري فلحقتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

_ (1) في الأصل (لامتشطت) ولا يتم المعنى. 190 - البزار: في كشف الأستار (2/ 302) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 61) وقال رواه البزار ورجاله ثقات. (2) الزمر: 53. (3) الزمر: 55.

191 - * روى البخاري عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: سمعت ابن عمر رض يالله عنهما إذا قيل له هاجر قبل أبيه يغضب. قال: وقدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه قائلاً، فرجعنا إلى المنزل، فأرسلني عمر وقال: اذهب فانظر هل استيقظ؟ فأتيته فدخلت عليه فبايعته، ثم انطلقت إلى عمر فأخبرته أنه قد استيقظ، فانطلقنا إليه نهرول هرولة حتى دخل عليه فبايعه، ثم بايعته. 192 - * روى البخار يعن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: إن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حين أقرعت الأنصار سكن المهاجرين، قالت: فسكن عندنا عثمان بن مظعون، فاشتكى، فمرضناه، حتى إذا توفى وجعلناه في ثيابه - وذكرت لحديث - قالت: فنمت فأريت لعثمان عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ذلك عمله". هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم: 193 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام "منْ يهاجر معي؟ " قال: أبو بكرٍ الصديقُ. 194 - * روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) الآية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٍّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق

_ 191 - البخاري (7/ 355) - 62 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. القائل: الذي أقام وقت شدة الحر، إما في مكان أو بيت، لينكسر الحر ويخرج أو يسير. 192 - البخاري (5/ 293) 52 - كتاب الشهادات - 30 - باب: القرعة في المشكلات. طار لنا: كذا: أي حصل لنا، وجرى سهمنا أي كان من حصتنا بالقرعة. اشتكى: مرض. فمرضناه: تمريض العليل: معالجته تدبيره في مرضه. 193 - المستدرك (2/ 5) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد والمتن ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح غريب. 194 - أحمد في مسنده (1/ 348) قال الهيثمي (7/ 27): وفيه عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره. وبقية رجاله رجال الصحيح. أهـ وقد حسن بعضهم الحديث. (1) الأنفال: 30.

بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوا علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبُك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا لجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسجُ العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال". 195 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرى عليٍّ نفسهُ، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرومون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألبسه بُردةً، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعلوا يرقبون علياً ويرونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس بردة وجعل علي رضي الله عنه يتضور فإذا هو عليٌّ فقالوا إنك للئيم إنك لتتضور، وكان صاحبك لا يتضورُ ولقد استنكرناهُ منك. 196 - * روى أحمد والطبراني عن أسماء بنت أبي بكر قالت ملا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر معه مالهُ كله خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم وانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراهُ قد فجعكم بمله مع نفسه قالت: قلت كلا يا أبت قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبي يضع فيها مالهُ ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذتُ بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا لقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغٌ قالت ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكن قد أردتُ أن أسَكِّنَ الشيخ بذلك. 197 - * روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: صنعتُ سُفرةً

_ 195 - المستدرك (3/ 4) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. يتضور: أي يتلوى ويتقلب ظهراً لبطن. 196 - أحمد في مسنده (6/ 350) والطبراني (24/ 88) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 59) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. الكوة: ثقب في الحائط. 197 - البخاري (6/ 129) 56 - كتاب الجهاد - 133 - باب: حمل الزاد في الغزو.

للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر، حين أراد أن يُهاجر إلى المدينة، فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً أربط به، إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين، فاربطيه بواحدٍ السقاء، وبالآخر السفرة، ففعلت، فلذلك سُميتُ: ذات النطاقين. 198 - * روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أُخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، ليهلكن فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) فقال أبو بكر لقد علمت أنه سيكون قتالٌ. وفي رواية النسائي (2) قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكرٍ: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فنزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ....} الآية. فعرفت أنه سيكون قتالٌ. قال ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال. 199 - * روى أبو يعلي عن ابن عباس قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: "أما والله لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت يا بني عبد مناف إن كنتم ولاة هذا الأمر من بعدي فلا تمنعوا طائفاً ببيت الله ساعة ما شاء من ليل ولا نهار ولولا أن تطغى قريش لأخبرتها ما لها عند الله اللهم إنك أذقت أولهُم وبالاً فأذق آخرهم نوالاً". 200 - * روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: "يا أبا

_ نطاقي: النطاق: شيء تشد به المرأة وسطها، وترفع به ثوبها أن يسال الأرض عند قضاء الأشغال. سِقاء: السقاء: إناء للماء من الجلود كالقربة. 188 - الترمذي (5/ 325) (48) - كتاب تفسير القرآ، (22) باب "من سورة الحج". قال: هذا حديث حسن. (1) الحج: 29. (2) النسائي: (6/ 2) كتاب الجهاد - باب وجوب الجهاد. وإسناده صحيح. 199 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 283). وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. 200 - البخاري (8/ 325) 65 - كتاب التفسير - 9 - باب: ثاني اثنين إذ هما في الغار.

بكر ما ظنُّكَ باثنين الله ثالثهما". 201 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقِلْ أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بُكرةً وعشيةً، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغِماد، لقيه ابن الدُّغنة - وهو سيدُ القارة - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدُّغُنِّة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسبُ المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجعْ فاعبدْ ربك ببلدك، فرجع. وارتحل معه ابن الدُّغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا ُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذب قريش بجوار ابن الدُّغنة. وفي رواية: فانفذت قريش جوار ابن الدغنة - وآمنوا أبا بكر - وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليُصَلِّ فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يسْتَعْلِنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في دره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن

_ = ومسلم (4/ 1854) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 1 - باب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 201 - البخاري (7/ 230) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. يدينان الدين: مسلمين على دين الإسلام. برك الغماد: بفتح الباء وكسر الغين وفتحها: هو بلد يمان. القارة: بتخفيف الراء قبيلة من كنانة. تكسب المعدوم: تعطي الفقير المعدم مالا وفعل (كسب) متعدٍ. الكل: ما يثقل حمله، من صلات الأرحام، والقيام بالعيال، وقرى الأضياف، ونحو ذلك. نوائب الحق: النوائب: ما ينوب الإنسان من المغارم، وقضاء الحقوق لمن يقصده ويؤمله، فأنا لك جار: أي: حام وناصر ومدافع. تقصف: الناس عليه: أي: ازدحموا.

الدُّغنة، فقدِمَ عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه ف يداره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قدخشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانههُ، فإن أحب أن يقتصر على أنْ يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعلن بذلك، فسلهُ أن يرد ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليِّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرتُ في رجل عقدتُ له، فقال له أبو بكر: فإني أردُّ إلأيك جوارك وأرضي بجوار الله - والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "إني أريتُ دار هجرتكم، ذات نخلٍ، بين لابتين" وهما الحرتان - فهاجر منْ هاجر قِبَلَ المدينة، ورجع عامةُ من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهر أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمُرِ - وهو الخبط - أربعة أشهرٍ. قال ابن شهاب: قال عروةُ: قالت عائشة: فبينا نحنُ يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن لهُ، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك - بأبي أنت يا رسول الله - قال "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج" قال أبو بكر: الصحابة، بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: فخذْ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمنِ" قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سُفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه

_ الذمة: العهد والأمان، اخفرت الرجل: إذا نقضت عهده. سبخة: السبخ مالأرض: الموضع الذي لا يكاد ينبت الوحتة. وقلما يوافق إلا النخيل. على رسلك: بكسر الراء: على هينتك. الراحلة: البعير القوي على الأحمال والسير. الظهيرة: أشد الحر. و (نحرها): أوائلها. النطاق: أن تشد المرأة وسطها بحبل أو نحوه، وترفع ثوبها من تحته، =

ثلاث ليالٍ يبيتُ عندهما عبدُ الله بن أبي بكر، وهو غلام شابٌ ثقِفٌ لقِنٌ، فيدلج من عندهما بسَحَر، فيُصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمعُ أمراً يكتادان به إلا وعاهُ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر ابن فُهيرة - مولى أبي بكر - منحه من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبنُ منحتهما، ورضيفُهما -حتى ينعق بها عامر بن فُهيرة بغلسٍ، يفعلُ ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل - وهو من بني عبد بن عديِّ - هادياً خريتاً - والخريتُ: الماهر بالهداية - قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كُفار قريش، فأمناهُ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما، وانطلق معهما ابن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل" وفي رواية "طريق الساحل". قال ابن شهاب (1) وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي - وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم -أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحدٍ منهما من قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوسٌ، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفاً أسوِدة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفتُ أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلتُ، فأمرتُ جاريتي أنْ

_ = فتعطف طرفاً من أعلاه على أسفله، لئلا ينال الأرض. ثقف: ثقف الرجل ثقافة، أي: صار حاذقاً خفيفاً، فهو ثقف، مقال ضخم، فهو ضخم. لقن: اللقنُ: سريع الفهم. أدلج: يدلج: إذا سار من أول الليل، وادلج يدلج - بتشديد الدال - إذا سار من آخره. كدتُ: الرجل أكيده: إذا طلبت له الغوائل ومكرت به، منحة: الأصل في المنحة: أن يجعل الرجل لين ناقته أو شاته لآخر وقتا ما، ثم يقع ذلك في ل ما يرزقه المرء ويعطاه. فيريحها: الرُواح: ذهاب العشي، وهو من زوال الشمس إلى الليل، في رسل: الرسل، بكسر الراء وسكون السين: اللبن. الرضيف: اللبن المرصوف، وهو الذي جعل فيه الرصفة، وهي الحجارة المحياة، تعق الراعي بالغنم: أصل النعيق للغنم، يقال: نعق الراعي بالغنم: إذا دعاها لترجع إليه، بغلس: الغلس: ظلام آخر الليل. غمس: فلان حلفا في آل فلان، أي: أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم، والحلف: التحالف. (1) في البخاري (7/ 238) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. أسودة: جمع سواد، وهو الشخص، الأكمة: الرابية المرتفعة عن الأرض من جميع جوانبها.

تخرج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها عليَّ، وأخذت رُمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزّجَّه الأرض، وخفضت عاليهُ، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تُقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررتُ عنها، فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجتُ منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم، أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي - وعصيتُ الأزلام - تُقرِّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفتُ، وأبو بكر يُكثر الالتفات: ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عْثَان ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي - حين لقيتما لقيت من الحبس عنهم - أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية - وأخبرتهم أخبار ماي ريد الناس بهم - وعرضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني إلا أن قال: "أخفِ عنا"، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهابٍ: "فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين تُجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياضٍ، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطُمٍ من آطامهم لأمرٍ ينظر إليه، فبصُر برسول الله

_ = الرُبَ: الفرس يقرب تقريباً، إذا غدا عدواً دون الإسراع، وله تقريبان أدنى وأعلى. الكنانة: كيس من جلد تجعل فيها السهام، وهي الجعبة. الأزلام: القداح، واحدها: زُلم، وزَلم - بفتح الزاي وصمها، وفتح اللام فيهما - و (القِدْحُ): السهم الذي لا تصل له ولا ريش، وكان لهم في الجاهلية هذه الأزلام، مكتوب عليها الأمر والنهي، وكان الرجل منهم يضعها في كنانته أو في وعائه، ثمي خرج منها عند عزيمته على أمر ما اتفق له من غير قصد، فإن خرج الآمر مضى على عزمه، وإن خرج الناهي انصرف. الاستقسام: أصل الاستقسام: طلب ما قسم الله له من الأقسام. و (القسم): النصيب المغيب عنه عند طلبه، وذلك محمود إذا طلب من جهته سبحانه، وكان أهل الجاهلية يطلبون ما غيب عنهم من ذلك من جهة الأزلام، فما دلتهم عليه فعلوه. ساخت: قوائم الدابة في الأرض: غاصت فيها. عثان: العُثان: الغبار، وأصله الدخان، وجمعه عواثن، على غير قياس. الساطع: المرتفع في الجو منتشراً، ما رزأت فلاناً شيئاً: أي: ما أصبت منه شيئاً، والمراد: أنهما لم يأخذا منه شيئاً. قافلين: القافل: الراجع من سفره.

صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيضين، يزولُ بهم السرابُ، فلم يملك اليهوديُّ أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، قال: فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوفٍ، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوفٍ بضع عشرة ليلةً، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركب راحلتهُ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يُصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين، وكان مريداً للتمر، لسهل وسُهيل - غلامين يتيمين ف يحجر أسعد بن زُرارة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته "هذا إن شاء الله المنزلُ" ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلهُ منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِنَ في بُنيانه، ويوقل وهو ينقل اللبن: هذا الحِمَالُ لا حِمالُ خيبر ... هذا أبرُّ ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجرُ الآخره ... فارجمِ الأنصارَ والمهاجره فتمثل بشعرِ رجلٍ من المهاجرين، لم يُسم لي. قال ابن شهابٍ: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيتِ شعرٍ تام غير هذه الأبيات

_ مبيضين: بكسر الياء، أي: هم ذوو ثياب بيض، ومنه السود بكسر الواو للابس السواد، ولذلك قيل لأصحاب الدعوة العباسية: المسودة. يزول بهم: زال بهم السراب، أي: ظهرت حركتهم فيه للعين، جدكم: حظكم. المربد: المكان الذي يوضع فيه التمر. الحِمال: بكسر الحاء: من الحمل، والذي يحمل من خيبر هو التمر، ولعله عني: أن هذا في الآخرة أفضل من ذلك ثواباً وأحسن عاقبة.

فوائد من فتح الباري

فوائد من فتح الباري: 1 - عن ابن شهاب قال: كان بين ليلة العقبة - يعني الأخيرة - وبين مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر أو قريب منها. قلت: هي ذو الحجة والمحرم وصفر، لكن كان مضى من ذي الحجة عشرة أيام، ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول فمهما كان الواقع أنه اليوم الذي دخل فيه من الشهر يعرف منه القدر على التحرير، فقد يكون ثلاثة سواء وقد ينقص وقد يزيد، لأن أقل ما قيل إنه دخل في اليوم الأول منه، وأكثر ما قيل إنه دخل الثاني عشر منه. 2 - بمناسبة قول ابن الدُّغنة عن أبي بكر (لا يخرج مثله) قال ابن حجر: أي: من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده، (ولا يُخرج) أي: ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور، واستنبط بعض المالكية من هذا أن من كانت فيه منفعة متعدية لا يمكن من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة. 3 - بمناسبة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامر بن فهيرة أن يكتب عقد أمان لسراقة. قال ابن حجر: قوله: فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم وفي رواية بن إسحاق: (فكتب لي كتاباً في عظم - أو ورقة أو خرقة - ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت) وفي رواية موسى بن عقبة نحوه وعندهما (رجعت فسئلت فلم ذكر شيئاً مما كان، حتى إذا فرغ من حنين بعد فتح مكة خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فلقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك، فقال: يوم وفاء وبر، أدن، فأسلمت) وفي رواية صالح بن كيسان نحوه، وفي رواية الحسن عن سراقة قال: (فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، فأتيته فقلت: أحب أن توادع قومي، فإن أسلم قومنك (أي: قريش) أسلموا وإلا أمنت منهم، ففعل ذلك، قال: ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) الآية) أهـ.

_ (1) النساء: 90.

انظر إلى الوفاء كيف أن العقد لسراقة سرى على قومه بطلبه، مع العلم أن قومه لم يكونوا يقاتلون المسلمين ولولا ذاك ما سرى ذلك العقد إليهم. 4 - بمناسبة لحديث عن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء في قباء، قال ابن حجر: وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه جماعة ظاهراً، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة. 5 - وبمناسبة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة قال ابن حجر عند قوله: (ثم ركب راحلته) وقع عند ابن إسحاق وابن عائذ أنه ركب من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فقالوا: يا رسو لالله هلم إلى العَدّد والعُدّدْ والقوة، أنزل بين أظهرنا. وعند أبي الأسود عن عروة نحوه وزاد: وصاروا يتنازعون زمام ناقته. وسمى ممن سأله النزول عندهم: عتبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بني بياضة، وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وغيرهما في بني ساعدة، وأبا سليط وغيره في بني عدي، يقول لكل منهم: "دعوها فإنها مأمورة" وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس: (جاءت الأنصار فقالوا إلينا يا رسول الله، فقال: "دعوا الناقة فإنها مأمورة"، فبركت على باب أبي أيوب) قوله: (حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة) في حديث البراء عن أبي بكر (فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك) وعند ابن عائذ عن الوليد بن مسلم وعند سعيد بن منصور كلاهما عن عطاف بن خالد: "أنها استناخت به أولاً فجاءه ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال: "دعوها"، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت فنزل عنها، فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل فأذن لي أن أنقل رحلك، قال: "نعم"، فنقل وأناخ الناقة في منزله. وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله" وأنا أسعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال: وهذا أثبت، وذكر أيضاً أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر.

202 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى أبي في منزله، فاشترى منه رحْلاً، فقال لعازبٍ: ابعث ابنك يحمله معي، قال فحملته معي، وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكرٍ حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائمٌ الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس، فنزلنا عندها وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي ينامُ عليه وبسطتُ عليه فروةٌ، وقلت له: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنم، وخرجت أنفضُ ما حوله، فإذا أنا براعٍ مقبلٍ بغنمه إلى الصخرة، يريدُ منها الذي أردنا، فقلتُ: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة، فقلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلتُ: أفتحلبُ لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلتُ: انفض الضرع من التراب والشعر والقذي - قال: فرأيت البراء يضربُ إحدى يديه على الأخرى ينفضُ - فحلب في قعبٍ كثبة من لبنٍ، قال: ومعي إداوةً حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها ويشربُ ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهتُ أن أوقظه فوافقته حتى استيقظ - فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفلهُ، فقلت: يا رسول الله اشرب: فشربَ حتى رضيتُ، ثم قال: "ألم يأن للرحيل؟ " قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعدها مالت الشمسُ، وأتبعنا سُراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله، فقال: "لا تحزن، إن الله معنا" فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه إلى بطنها: فقال: إني أراكما قد دعوتما عليِّ، فادعوا لي، فالله لكما أنْ أرد عنكما الطلب، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجا، فجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحداً إلا رده قال: ووفى لنا

_ 202 - البخاري (6/ 672) 61 - كتاب المناقب (25) باب علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (4/ 2301) 53 - كتاب الزهد والرقائق - 19 - باب: في حديث الهجرة. الرحل: سرج البعير - وهو الكور - وقد يراد به القتب والحداجة. قائم الظهيرة: أشد الحر وسط النهار، وقائمها: وقت استواء الشمس في وسط السماء (أنفض لك ما حولك) أي أحرسك وأطوف هل أرى أحداً يطلبك. قصب: قدح ضخم غليظ. كثبة: الكثبة: القليل من اللبن. ألم يأن: ألم يقرب ويجيء وقت الرواح. الجلد. الأرض الغليظة الصلبة. أتينا: المراد: أنهم لحقونا وأدركونا. فارتطمت: ارتطمت في الوحل: إذا مشيت فيه ولم تكد تتخلص، وارتطم الرجل في أمره: إذا سدت عليه مذاهبه.

203 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مُردفٌ أبا بكر، وأبو بكر شيخ يُعرفُ، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شابٌ لا يعرفُ، فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل فيحسبُ الحاسبُ: أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني به سبل الخير، فالتفت أبو بكر، فإذا هو بفارسي قد لحقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم اصرعهُ"، فصرعته فرسه، ثم قامت تحمحِمُ، فقال: يا نبي الله، مُرني بما شئت، قال: "فقف مكانك، لا تتركن أحداً يلحق بنا"، فكان أول النهار جاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فأشرفوا ينظرون، ويقولون: جاء نبي الله فأقبل يسيرُ حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله، إذ سمع به عبد الله بن سلام - وهو في نخل لأهله يخترفُ لهم - فعُجِل أنْ يضع الذي يخترفُ لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّ بيوت أهلنا أقربُ؟ " فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، قال: "فانطلق فهيئ لنا مقيلاً"، قال: قوما على بركة الله، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بالحق، وقد علمت يهودُ أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم، فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمتُ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمتُ قالوا في ما ليس فيِّ، فأرسل

_ 203 - البخاري (7/ 349) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. (وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف): لعل الراوي أنسا يعني أن أبا بكر حسب مظهره يبد أنه أسن من النبي صلى الله عليه وسلم والمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسن من أبي بكر بنحو سنتين، وهذا ما ذكره ابن حجر في الفتح قال: يريد أن أبا بكر قد شاب. جاهداً: الجاهد: المبالغ الباذل غاية ما يقدر عليه. مسلحة: المسلحة: قوم ذ سلح، والمسلحة أيضاً: كالثغر والمرقب وهو الموضع الذي يقيم فيه قوم يحفظون من وراءهم من العدو، لئلا يهجموا عليهم، ويدخلوا إليهم، وهو بالأعجمية: اليرك. الاختراف: اجتناء الثمر من الشجر.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا فدخلوا عليه فقال: "يا معشر اليهود، ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمُون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، فأسلموا"، قالوا: ما نعلمه - قالها ثلاث مرارٍ - قال: "فأيُّ رجلٍ فيكم ابنُ سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشى لله، ما كان ليُسلم - قالها ثلاث مرارٍ، وردوا عليه - فاقل: "يا ابن سلام، اخرُج عليهم" فخرج عليهم، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 204 - * روى البزار عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال: والله ما لنا شاةً وإن شاءنا لحواملُ فما بقي لنا لبنٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحسبه - "فما تلك الشاة؟ " فأتى بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها ثم حلب عُساً، فسقاه ثم شربوا، فقال: أنت الذي تزعُم قريش أنك صابئ، قال: "إنهم ليقولون" قال أشهدُ أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك قال: "لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا" فاتبعهُ بعدُ. 205 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغار مُهاجراً ومعه أبو بكر وعامر بين فهيرة مردفه أبو بكر وخلفه عبد الله ابن أريقط الليثي، فسلك بهما أسفل من مكة ثم مضى بهما حتى هبط بهما على الساحل أسفل من عسفان، ثم استجار بهما على أسفل أمجٍ، ثم عارض الطريق بعد أن أجاز قديداً ثم سلك بهما الحجاز، ثم أجاز بهما ثنية المرار، ثم سلك بهما الحفياء، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة صحاح، ثم سلك بهما مذحج، ثم بطن مذحج من ذي الغصنِ

_ 204 - البزار: كشف الأستار (2/ 301) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 58) وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. عُسا: القدح الكبير. 205 - الحاكم (3/ 8) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. ذي الغصن: وادٍ من حرة بني سليم. السنيه: في الجبل كالعقبة فيه وقيل هو الطريق العالي فيه.

ثم يبطْنِ ذي كشدٍ، ثم أخذ الجباحِب ثم سلك ذي سلمٍ من بطن أعلى مدلجةٍ، ثم أخذ القاحة ثم هبط العرج، ثم سلك ثنية الغائر عن يمين ركوبةٍ ثم هبط بطن ريمٍ، فقدم قُباء على بني عمرو بن عوفٍ. فائدة: عبد الله هو دليل الرحلة وكان مشركاً من بني ليث من كنانة وقد استأجره أبو بكر وفي ذلك ما يدل على أنه إذا لم يوجد مسلم لمهمة لابد منها فبالإمكان الاستفادة من الكافر الثقة. يلاحظ أن الدليل سار بهم في طريق راعى فيه كل مقتضيات الأمن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في ذلك مما يدل على أن أخذ الاحتياط الأمني جزء من السنة النبوية. 206 - * روى الحاكم عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجالٌ على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما قال: فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: والله لليلة من أبي بكرٍ خيرٌ من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا بكرٍ مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي" فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: "يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أنْ يكون بك دوني" قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمةٍ إلا أن تكون بي دُونك، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحَرَة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبر الجِحَرَة، فدخل واستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. 207 - * روى الحاكم عن عروة بن الزبير أنه سمع الزبير يذكر أنه لقي الركب من المسلمين

_ 206 - المستدرك (3/ 6) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرساله فيه ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ملمة: نازلة شديدة من شدائد الدهر. استبرئ: استبرأ الشيء: تقصى بحثه، الجِحرة: بكسر الجيم جمع جِحر. 207 - المستدرك (3/ 11) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

كانوا تجاراً بالشام قافلين من مكة عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ بثيابٍ بيضٍ حين سمعوا بخروجهم فلما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يؤذيهم خرُّ الظهيرة فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطُما من آطامِهم لينظر إليه، فبصُر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا صاحبكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظهرِ الحرةِ. 208 - * روى الطبراني عن ابن إسحق قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن هِرمِ أخي بني عمرو بن عوفٍ يقال: بل نزل على سعد بن خيثمة فأقام في بني عمرو بن عغوفٍ يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم وخرج من بني عمرو بن عوف، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلى الجمعة في المسجد الذي يبطن الوادي قال ابن إسحاق: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجده في تلك السَنة. 209 - * روى الطبراني عن الشموس بنت النعمان قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجرُ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سُرته فيأتي الرجلُ من أصحابه ويقول بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفِك فيقول: "لا، خُذ مثله" حتى أسسه، ويقول: "إن جبري لعليه السلام هو يؤم الكعبة" قال فكان يقال إنه أقوم مسجد قِبلةً. 210 - * روى الطبراني عن عاصم بن عدي قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي

_ قافلين: راجعين - القافل الراع من سفره. أوفى. أشرف واطلع. مبيضين: بكسر الياء أي هم ذو ثياب بيض. آطامهم: الأطم: البناء المرتفع. 208 - المعجم الكبير (6/ 30) ومجمع الزائد (6/ 62)، قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 209 - المعجم الكبير (24/ 218) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 61) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. يهصره: أي يميله. 210 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 62)، رواه الطبراني ورجاله ثقات.

عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بالمدينة عشر سنين. 211 - * روى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: شهدتُ يوم دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فلم أر يوماً أحسن ولا أضوء منه. 212 - * روى الحاكم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان جاء رسول الله الله أكبر جاء محمدٌ جاء رسول الله، فلما أصبح انطلق فنزل حيث أُمِرَ. هذا لحديث أصل في جواز الهتاف الذي اعتاده أبناء الحركة الإسلامية في المناسبات. 213 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه، فرحاً بذلك، لعبُوا بحِرابهم". 214 - * روى الحاكم عن عكرمة قال لما خرج صهيبُ مهاجراً تبعه أهلُ مكة فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سهماً فقال: لا تصلون إلي حتى أصنع ف كل رجل منكم سهماً ثم أصيرُ بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل وقد خلفتُ بمكة قينتين فهما لكم. قال (وحدُثَنَا) حماد بن سلمة عن ثابت عن أُنسِ نحوه ونزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "أبا يحيى ربح البيع" قال: وتلا عليه الآية. 215 - * روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أُريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة فإما أن تكونُ هجرا أو تكون يثرب" قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وخرج معه

_ 211 - المستدرك (3/ 12) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 212 - الحاكم (3/ 12) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 213 - أبو داود (4/ 281) كتاب الأدب، باب في النهي عن الغناء، وإسناده صحيح. فنثل: نثل الشيء نثلا: استخرجه. 214 - المستدرك (3/ 298) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. 215 - المستدرك (3/ 400) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

أبو بكر رضي الله عنه وكنتُ قد هممتُ بالخروج معه فصدني فتيانُ من قريشٍ فجعلتُ ليلتي تلك أقوم ولا أقعد فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه ولم أكن شاكياً فقاموا فلحقني منهم ناس بعد ما سرت بريداً ليردوني فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتُخلون سبيلي وتفون لي فتبعتهم إلى مكة فقلتُ لهم: احفروا تحت أسكفةِ الباب فإن تحتها الأواق واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحول منها يعني قباء فلما رآني قال: "يا أبا يحيى ربح البيعُ" ثلاثاً فقلتُ: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام. 216 - * روى الحاكم عن صهيب، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة وهو يأكل تمراً فأقبلتُ آكل من التمر وبعيني رمدٌ فقال: "أتأكل التمر وبك رمدٌ" فقلتُ إنما آكل على شقي الصحيح ليس به رمدٌ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 217 - * روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها حملت بعبد الله ابن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة، فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، وبرك عليه، وكان أول مولودٍ ولد في الإسلام". وفي رواية: ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم: إن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم. 218 - * روى مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة

_ 216 - المستدرك (3/ 299) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 217 - والبخاري (7/ 248) 62 - كتاب امناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. متمُّ: أتممت الحامل: دنا وقت ولادتها، وأتمت أيام حملها فهي متم. مسلم (3/ 1691) 38 - كتاب الآداب - 5 - باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وحمله إلى صالح يحنكه. 218 - الموطأ (2/ 890) 45 - كتاب الجامع (المدينة) 4 - باب ما جاء في وباء المدينة. والبخاري (4/ 99) 29 - كتاب فضائل المدينة، باب 17. ومسلم (2/ 1003) 15 - كتاب الحج - 86 - باب: الترغيب في سكنى المدينة، والصبر على لأوائها. وعاك: وعك فلان أصابه ألم من شدة التعب، ووعك المرض فلاناً آذاه وأوجعه. أقلع: أٌلع الشيء: انجلى وانكشف. العقيرة: الصوت رفع عقيرته: رفع صوته من الألم.

وُعِكَ أبو بكرٍ وبلالً، قالت: فدخلتُ عليهما، فقلتُ: يا أبتِ، كيف تجدُكَ؟ ويا بلالُ، كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمي يقول: كل امرئ مصبحٌ في أهلهِ ... والموتُ أدنى من شراك نعلهِ وكان بلال إذا أقلع عنه، يرفع عقيرته فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بوادٍ، وحولي إذخر وجليلُ؟ وهل أردن يوماً مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامةً وطفيلُ؟ قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحُبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومُدها، وانقل حُماها فاجعلها بالجحفة". وفي رواية نحوه، وزاد بعد بيتي بلالٍ من قوله: اللهم الغنُ شيبة بن ربيعة، وعُتبة ابن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة ... ". وذكر باقي الدعاء. قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، قالت: وكان بُطحانُ يجري نجلاً، تعني ماء آجنا". وأخرج الموطأ عقيب هذا الحديث عن يحيى بن سعيد أن عائشة قالت: وكان عامرُ ابن فهيرة يقول: لقد رأيتُ الموت قبل ذوقهِ ... إن الجبان حتفه من فوقهِ 219 - * روى النسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا من المهاجرين، لأنهم هجروا المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون، لأن المدينة كانت دار شركٍ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبةِ

_ 219 - النسائي (7/ 144) كتاب البيعة - باب تفسير الهجرة. وإسناده صحيح.

220 - * روى البزارُ عن حذيفة قال: خبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترتُ الهجرة. وكان حذيفة بن اليمان من عبس وفد مع أبيه إلى المدينة قبل الهجرة النبوية. 221 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتعلم أول زُمرة تدخل الجنة من أمتي" قال: الله ورسوله أعلم فقال: "المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون فيقول لهم الخزنة أو قد حوسبتم فيقولون بأي شيء نُحاسب وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك قال: فيُفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عاما ًقبل أن يدخلها الناسُ". وبقيت الهجرة مستمرة إلى المدينة المنورة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة عندئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" لكن بقيت الهجرة مشروعة حيث وجدت أسبابها: من خوف فتنة في دار الكفر أو البدعة إلى وجوب تجمع في دار الإسلام لصالح جهاد أو قوة للإسلام والمسلمين، ومن تأمل هذه المعاني عرف كيف يحمل النصوص اللاحقة على محاملها الصحيحة. 222 - * روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس: كان قدومنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس من الهجرة خرجنا متواصلين مع قريش عام الأحزاب وأنا مع أخي الفضل ومعنا غلامُنا أبو رافع حتى انتهينا إلى العرْج ثم أخذنا في طريق حتى خرجنا على بني عمرو بن عوف فدخلنا المدينة فوجدناها صلى الله عليه وسلم في الخندق وأنا يومئذ ابن ثمان سنين وأخي في ثلاث عشرة

_ 220 - البزار "كشف الأستار" (3/ 265) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 65) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث. 221 - المستدرك (2/ 70) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 222 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 64): رواه الطبراني في الأوسط من طريق عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري عن سليمان بن داود بن الحصين وكلاهما لم يوثق ولم يضعف، وبقية رجاله ثقات.

223 - * روى النسائي - عن يعلي بن أمية: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أمية يوم الفتح فقلت: يا رسول الله بايع أبي على الهجرة فقال: "أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة". 224 - * روى النسائي عن عمر، قال: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 225 - * روى النسائي عن ابن عمرو بن العاص: قال رجلٌ يا رسول الله أيُّ الهجرة أفضل؟ قال: "أن تهجر ما كره ربك" وقال: "الهجرة هجرتان هجرة الحاضر وهجرة البادي فأما البادي فيُجيبُإذا دُعي ويطيع إذا أُمر وأما الحاضر فهو أعظمهما بلية وأعظمهما أجرا". أما الأحاديث التي تدل على عدم انقطاع الهجرة إذا وجدت أسبابها فمنها: 226 - * روى النسائي عن عبد الله بن السعدي: قلت يا رسول الله يزعمون أن الهجرة قد انقطعت قال: "لا تنقطعُ الهجرة ما قوتل الكفار". 227 - * روى أبو داود عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تنقطعُ الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". قال ابن حجر: وروى الإسماعيلي عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار). أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدينا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، والله أعلم

_ 223 - النسائي (7/ 141) كتاب البيعة، باب - البيعة على الجهاد وسنده حسن. 224 - النسائي (7/ 146) كتاب البيعة، باب - في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة وسنده حسن. 225 - النسائي (7/ 144) كتب البيعة، باب - في هجرة البادي وسنده حسن. 226 - النسائي (7/ 146) كتاب البيعة، باب - في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة وسنده حسن. 227 - أبو داود (3/ 3) كتاب الجهاد، باب - ما جاء في الهجرة وسكنى البدو، وسنده صالح.

تعليق

228 - * وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله السعدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تنقطعُ الهجرة ما دام العدو يُقاتل"، فقال معاوية، وعبد الرحمن ابن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله. ولا تنقطعُ الهجرة ما تُقُبِّلت التوبة، ولا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعتْ طُبع على كل قلبٍ بما فيه، وكُفي الناسُ العمل". تعليق: إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً وأن التخطيط جزء من السنة النبوية وهو جز ءمن التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين

_ 228 - أحمد في مسنده (1/ 193) وإسناده صحيح.

فوائد من كتاب الهجرة للدكتور محمد أبو فارس

فوائد من كتاب الهجرة للدكتور محمد أبو فارس: - إن الهجرة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ بالهجرة تكون الكيان السياسي للأمة الإسلامية لنشر الإسلام والدفاع عن حرماته. - ولأهميتها كان التأريخ بالهجرة ولم يكن بغيرها من الأحداث الهامة كالميلاد والبعثة أو وقعة بدر أو ما شابه. - ولم يؤرخ المسلمون بتأريخ غيرهم حفاظاً على استقلالية الأمة وتميزها. - تعلمنا الهجرة كف أن على الدعاة أن يبحثوا دائماً عن أماكن خصبة للدعوة تكون مركز انطلاق ونواة تأسيس. ومن دروس الهجرة أيضاً: - أن في الهجرة رد على من يقول أن الأحداث مبعثها حاجات الإنسان المادية والدوافع الجنسية والبطنية. فهذه الهجرة فر أصحابها بدينهم وتركوا أموالهم وديارهم دون ربح مادي. - بروز عنصر التخطيط في هذه الهجرة وأهمية ذلك في حياة المسلمين، فكان الهدف محدداً والوسائل محددة والعقبات مأخوذة بالحسبان واختيار الطرق والمكان والتموين ومن يحمل الأخبار والدليل؛ كل ذلك مؤمن، مع إحاطة ذلك بالسرية والحيطة اولحذر وكل ذلك ينبئ عن تخطيط وتنظيم وترتيب لا مثيل له. - ينبغي على المسلم ألا يغفل أبداً عن جانب الدعاء إلى الله والتوجه إليه وطلب العون والنصرة منه - مع الأخذ بالأسباب - إذ إن الأول هو الأهم في حياة المسلم وكان هذا واضحاً في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بل وفي كل حركاته وسكناته. - من معاملة أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى الحب الصادق والتضحية بالنفس، وتجلى هذا في الغار وعند الخروج منه، وفي الطريق حينما كان يمشي تارة خلفه وتارة أمامه وتارة عن يمينه ..

- نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو من يراه إلى الإسلام، وكان من ذلك أن أسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قوم، مما يدل على أن الداعية يجب أن لا يفتر عن الدعوة إلى الله بل يغتنم كل فرصة تلوح له ولا يزهد بشيء من ذلك (1). * * *

_ (1) انظر كتاب: في ظلال السيرة النبوية -الهجرة النبوية للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس.

تأملات في العهد المكي وتصويبات

تأملات في العهد المكي وتصويبات أخذنا فيما مضى تصوراً إجمالياً عن المرحلة المكية، والتفصيل الكامل يحتاج إلى جهود كثيرة لا يطيقها فرد، واستكمال صورة العهد المكي يقتضي عرضاً للقرآن المكي ونقصد به القرآن الذي نزل قبل استقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وهذا القسم من القرآن يكاد يكون نصف القرآن، والصحابة الذين عاصروا تنزل القرآن كان عندهم علم بأمكنة النزول وتسلسل النزول وأسباب النزول. ولو أن هذا العلم وصلنا كاملاً لأمكن من خلاله أن نعرف المسيرة العلمية والتربوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأمكننا أن نعرف كيف كان التدرج في بناء النفس والأمة بشكل تفصيلي، وزيادة على ذلك فإنه كان بالإمكان أن نعرف تفاصيل دقيقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا العلم لم ينقل لنا بشكل تفصيلي كامل، وإذا نقل ففي حدود ضيقة، وذلك لأن الجيل الأول والأجيال اللاحقة لم يقدروا أن لذلك أهمية كبيرة ما دام ترتيب القرآن توقيفياً والله عز وجل هو الذي تولى ترتيبه، وقد رأينا في كتابنا (الأساس في التفسير) الحكمة بل المعجزة في هذا الترتيب. ونتيجة لعدم وصول دقائق تاريخ النزول؛ فإن العلماء اجتهدوا في تحديد ترتيب نزول السور القرآنية، فكان عملهم اجتهادياً من ناحية وإجمالياً من ناحية أخرى، ولذلك فإذا ما تكلف متكلف أن يقدم عرضاً لأحداث السيرة من القرآن فالإجمال والاجتهاد هما عمله، نسجل هذا كأول ملاحظة على استحالة الفصل بين المرحلة المكية والمدنية من الناحية التشريعية البحتة، ومن ههنا ننطلق لنقول: إن الذين يعتبرون المرحلة المكية إمامهم في العمل الإسلامي بمعنى أنهم مطالبون به وحدها ومكلفون بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حدودها فقط، هؤلاء جاهلون بالإسلام. فالتشريع الإسلامي اكتمل والأمة الإسلامية مطالبة به كله، فهي مطالبة بالكتاب كله وبالسنة كلها، وبما استقر عليه التشريع في المرحلتين المكية والمدنية.

إن الحج والصوم والحدود والقصاص والجهاد وغير ذلك، كل ذلك لم يكن مفروضاً في المرحلة المكية فمن اعتبر نفسه مكلفاً بالمرحلة المكية وحدها في بعض الشئون عليه أن يفطن لما يترتب على تفكيره من إلزامات توصله للكفر فإذا وضح هذا وهذا نقول: إننا منطالبون أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما لم ينسخ ومالا يعتبر خاصاً به، وعلى هذا الساس فكل ما لم ينسخ من المرحلة المكية أو ما لا يعتبر خاصاً به عليه الصلاة والسلام فهو محل الطلب منا، وهو محل التكليف فإذا ما اتضح هذا نقول: لقد ركز القرآن المكي على معان بعينها وجاء القرآن المدني فأكمل وتمم، وقد يكون من المناسب أن نلحظ في التربية الأولى للإنسان هذه المعاني مع ملاحظة أن ذلك تحصيل حاصل لمن يأخذ الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً، لقد ركز القرآن المكي على اليقين ونفي الريب وجاءت في ذلك سور كثيرة، كما ركز على الإيمان بالغيب والصلاة والإنفاق وعتق الرقاب والإحسان إلى الناس عامة والضعفاء والأيتام خاصة وجاءت في ذلك سور، وركز على أخلاق بعينها وعلى أعمال صالحة من مثل ما يدخل في تزكية النفوس، ومن مثل التواصي بالحق والصبر والتواضع وعدم الاختيال وعدم رد السيئة بمثلها وقيام الليل وعدم الإسراف، وإنصات القلب لآيات الله والحرص على صلاح الذرية وترك الزنا والسرقة وافقبال على الله بصلة الوالدين والأرحام، وركز على عبادة الله وحده والإخلاص فيها وعدم مشاركة الكافرين في عبادتهم. وركز على إقامة الحجة على الكافرين وتبيان الكفر وأخلاقه وأسبابه وشبهه وأقوال أهله. وركز على التذكير بالنعم لاستخراج الشكر. وركز على أن القدوة الحسنة في الحياة البشرية هم الرسل. وركز على تبيان أن الخلقين الرئيسيين الواجبي الاجتناب هما: الحسد والكبر، وهما خلقا الشيطان. وركز على اتباع الوحي وترك اتباع الشيطان وأئمة الضلال.

هذه المعاني وغيرها تعرض لها القرآن المكي وركز عليها، ولكنها ليست خاصة به بل هي سمة القرآن كله. ومن ههنا لا نجد مسوغاً للتمييز بين التكليف المكي والتكليف المدني، فنحن الآن مكلفون بالإسلام كله ومن جملته المرحلة المكية. في العهد المكي وجدت مرحلة سرية، وللمسلمين إذا وجدت ظروف أن يلجأوا إلى الدعوة السرية، ولكن هل نحن مقيدون أن تكون هذه المرحلة السرية في حدود تلك المرحلة؟ ثم إذا خرجنا منها ألا نعود إليها، إن الذين يريدون أن يفهموا المرحلة المكية كذلك لا يدركون حقائق هذا الإسلام، فالفتوى تقدر زماناً ومكاناً وشخصاً، ونادراً ما تتكرر الظروف التي مرت في مرحلة بحيث تكن طبق الأصل، والشريعة الإسلامية جاءت لتلبي كل ظرف وكل وضع ولتعطيه الحكم المناسب المستخرج من الكتاب والسنة. * * * فإذا ما اتضح هذا الذي قدمناه وانتفى المحذور فإننا ننصح دارس القرآن الراغب في فهم المرحلة المكية أن يتأمل السور التي توصف بأنها مكية فإن ذلك يفتح عليه آفاقاً في الفهم والسلوك والدعوة، كما يعطيه كمالاً في فهم المرحلة من الناحية التاريخية والنفسية والعملية والتكليفية. فمن خلال ذلك يدرك كيف تدرج التكليف، ويدرك الأوليات والأساسيات في هذا التكليف، ويدرك كيف تكامل البناء على الزمن، ويدرك لماذا استطاع هؤلاء العدد القليل أن يصهروا بعد ذلك أضعاف أضعافهم ثم استطاعوا هم ومن صهروهم أن يصهروا الشعوب والأمم، كما يستطيع أن يدرك مَن مِن الناس مؤهلون ومرشحون لبناء الدول والمحافظة عليها والتوسع من خلالها، إن هذا كله يتأتى لنا من خلال دراسة متأنية للقرآن المكي، وهذا شيء وأن تعتبر المرحلة المكية وحدها هي مناط التكليف شيء آخر، فنحن نحذر من هذا وندعو إلى ذاك. * * *

الباب الثالث من الاستقرار في المدينة حتى الوفاة

الباب الثالث مِن الاستقرار في المدينة حتى الوفاة

هذه المرحلة في سطور

هذه المرحلة في سطور أرّخ المسلمون بالهجرة؛ لأهميتها كمعلم بارز في تاريخ الدعوة النبوية، لما للهجرة من آثار على انتصار الدعوة وظهورها، ولأنه بالهجرة ولدت دولة الإسلام. ولم يبدأوا التأريخ من يوم وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بل منذ بدأ الأصحاب يتوافدون على المدينة، ولذلك تبدأ السنة الهجرية بالمحرم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة بعد ذلك. ولأهمية الهجرة فقد اعتاد المسلمون أن يحيوا هذه الذكرى، وأن يجددوا لها فرحاً. وقد انتكس من أرخ بالوفاة لمخالفته للإجماع، وكأنه أراد أن يقطع على المسلمين طريق الفرح بالذكرى، فأرّخ بالوفاة ليقطع الدوافع التي تحييها ذكرى الهجرة ليستبدلها بالحزن. وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة عشر سنين كانت مليئة بالأحداث، ثرَّة بجلائل الأعمال وعظيمها، فتحت الطريق أمام المسلمين للسيطرة على مقاليد هذا العالم إن أحسنوا العمل والتأسي، ونحن سنعرض هذه المرحلة حسب السنين مبتدئين بأحداث السنة الأولى ثم الثانية هكذا إلى السنة الحادية عشرة. * * * من ملامح هذه المرحلة 1 - أنها مرحلة حركة مستمرة دعوياً وتربوياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً ودستورياً وسياسياً وعسكرياً، يتلاحم فيها العمل الدعوي والتربوي مع العمل السياسي والعسكري. 2 - أنها مرحلة عمل وجهاد متواصلين لتحقيق الأهداف، ومنها أخذ الأستاذ البنا فكرته عن التنفيذ. 3 - كما أنها مرحلة تجريد شامل للنفس فلا تبقى نزعة للنفس إلا وهذبت، ولا مظهر ارتخاء إلا وشد نحو المثل الأعلى، فوجد بذلك وغيره جيل ليس له مثيل "خير القرون قرني".

4 - وهي مرحلة إحكام للبناء الداخلي للمجتمع والأمة والدولة؛ يظهر ذلك في الإخاء والمؤاخاة بين المسلمين وفي التحالفات مع المواطنين من غير المسلمين، وفي الصيغ الدستورية والعملية لضبط العلاقات السياسية والاجتماعية. 5 - وهي مرحلة توسع فيها الصراع الفكري فشمل دوائر جديدة: أهل الكتاب، المنافقين، المجوس. 6 - وبهذه المرحلة قام البناء السياسي للإسلام وللمسلمين، ووجد اللواء الأول للسلطان السياسي للأمة الإسلامية في رحلتها الخاتمة. 7 - ومن ملامح الحركة السياسية في هذه المرحلة أنها كانت بحثاً عن الأحلاف وفصلاً بين الأطراف، ولذلك لم يستطيع الأعداء أن يلتقوا على حرب الإسلام في وقت واحد إلا مرة واحدة يوم الأحزاب، ومع ذلك فقد قصم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحالف. 8 - ومن ملامح الحركة العسكرية أنها كانت مطردة مستمرة، ويكفي أن نعرف أن بعضهم أوصل مجموع سراياه وبعوثه وغزواته العسكرية إلى المئة خلال عشر سنين لندرك مدى الحركية والفاعلية التي حفلت بها هذه المرحلة. * * *

السنة الأولى للهجرة

السنة الأولى للهجرة

أحادث السنة الأولى في سطور

أحادث السنة الأولى في سطور 1 - في يوم الإثنين 8 ربيع الأول - على القول الراجح - سنة 14 من النبوة الموافق لسنة 622 م، وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وأقام بها أربعة أيام (الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس) - على القول الراجح - وأٍس فيها مسجد قباء، وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس، وفي يوم الجمعة انطلق إلى المدينة، فأدركته الجمعة في منازل بني سالم بن عوف، فأقام أول صلاة جمعة في الإسلام وخطب فيها، ودخل المدينة بعد صلاة الجمعة تاركاً لناقته العنان، وكان مسجده ومنزله حيث بركت ناقته، ونزل ريثما أسس مسجده وبنى بيوته في دار أبي أيوب الأنصاري. 2 - قام الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بخطوات ثلاث: أ - بناء المسجد النبوي، فأوجد بذلك مركزاً للعبادة، ومقراً للتجمع، ومنطلقاً للحركة. ب - آخى بين المهاجرين والأنصار، فحل مشكلة الهجرة عن أقرب طريق، وصهر بين المقيمين والوافدين أقوى صهر وأجوده. ج - كتب وثيقة دستورية متفقاً عليها بين سكان المدينة جميعاً - مسلمين ومشركين ويهود -، وهكذا رتب أمور البيت الداخلية مباشرة. 3 - بدأت تهديدات قريش تتوالى، ونزل الإذن بالقتال، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل سراياه للاستطلاع، ولإيجاد التعبئة النفسية، ولعقد تحالفات مع القبائل القاطنة حول المدينة أو في الطرق التجارية لقريش. 4 - أرسل في السنة الأولى للهجرة ثلاث سرايا، لخص الحديث عنها صاحب الرحيق المختوم بما يلي: (1) سرية سيف البحر (أي: ساحل البحر) في رمضان سنة (1) هـ الموافق سنة 623 م:

أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص (1)، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني - وكان حليفاً للفريقين جميعاً - بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم فلم يقتتلوا. وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض وكان حامله أبا مرثد كناز ابن حُصين الغنوي. (2) سرية رابغ، في شوال سنة (1) من الهجرة - أبريل (نيسان) سنة 623 م: بعث رسول الله صلى الله عليه ولم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال. وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان المازني، وكانا مسلمين، خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف. (3) سرية الخرار (موضع بالقرب من الجُحْفَة) في ذي القعدة سنة (1) هـ الموافق مايو (آيار) سنة 623 م: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكباً يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس. كان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو.

_ (1) العيص: مكان بين ينبع والمروة من ناحية البحر الأحمر.

5 - عاقد في هذه السنة جهينة على ألا يعتدوا ولا يعينوا، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من المدينة المنورة. 6 - بنى في هذه السنة بالسيدة عائشة رضي الله عنها، وكان قد عقد عليها بمكة قبل الهجرة، وشرع في هذه السنة الأذان. وسنعقد عدداً من الفصول مماي حسن ذكره في مثل هذا الكتاب من أحداث السنة الأولى. * * *

فصل: المدينة عند الهجرة

فصل: المدينة عند الهجرة رسم الأستاذ الندوي في كتابه (السيرة النبوية) صورة للمدينة عند الهجرة فقال: ولكي نأخذ صورة إجمالية صحيحة عن مدينة يثرب - التي اختارها الله دار هجرة للرسول، ومنطلق الدعوة الإسلامية في العالم، ومهد أول مجتمع إسلامي يقوم بعد ظهور الإسلام - يجب أن نعرف وضعها المدني، والاجتماعي، والاقتصادي، وصلة القبائل المقيمة فيها، بعضها ببعض، ومركز اليهود فيها، الاجتماعي، والاقتصادي، والحربي، والواقع الذي كانت تعيشه هذه المدينة الخصبة الغنية، التي التقت فيها ديانات، وثقافات، ومجتمعات مختلفة، بخلاف مكة ذات الطبيعة الواحدة، والطابع الموحد، والدين المشترك، وإلى القارئ بعض أضواء: اليهود: المرجح في ضوء التاريخ أن غالبية اليهود حلوا بالجزيرة العربية بصفة عامة، ومدينة يثرب بصفة خاصة، في القرن الأول الميلادي، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون: بعد حرب اليهود والرمان سنة 70 م التي انتهت بخراب بلاد فلسطين، وتدمير هيكل بيت المقدس، وتشتت اليهود في أصقاع العالم، قصدت جموع كثيرة من اليهود بلاد العرب كما حدثنا عن ذلك المؤرخ اليهودي (يوسي فوس) الذي شهد تلك الحروب، وكان قائداً لبعض وحداتها ... وتؤيد المصادر العربية كل هذا. وكانت في المدينة ثلاث قبائل من اليهود، بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين، وهي: قينقاع، والنضير، وقُريظة، ويقدر أن رجال قينقاع المحاربين، بلغ عددهم سبعمائة، كما كان عدد رجال النضير مثل هذا العدد، وكان الرجال البالغون من قريظة ما بين سبعمائة وتسعمائة. وكانت العلاقة بين هذه القبائل الثلاث مضطربة متوترة، وقد يكون بعضهم حرباً على بعض، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون:

قد كانت هناك عدوة بين بني قينقاع وبقية اليهود، سببها أن بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم (بعاث) وقد أثخن بنو النضير وبنو قريظة في بني قينقاع، ومزقوهم كل مُمزق، مع أنهم - أي بني النضير وبني قريظة - دفعوا الفدية عن كل من وقع في أيديهم من اليهود - من بني قينقاع -، وقد استمرت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد يوم (بعاث)، حتى وقعت الحرب بين المسلمين وبين بني قينقاع فلم ينهض معهم أحد من اليهود في محاربة المسلمين. وقد أشار القرآن إلى عداوة اليهود فيما بينهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (1). وكانوا يعيشون في أحياء وقرى مختلفة خاصة بهم، فكانت بنو قينقاع يسكنون داخل المدينة في محلة خاصة بهم، بعد أن طردهم إخوانهم بنو النضير وقريظة من مساكنهم التي كانت خارج المدينة، وكانت مساكن بني النضير بالعالية -جنوب شرق المدينة - بوادي (بطحان) على بعد ميلين أو ثلاثة من المدينة، وكانت عامرة بالنخيل، والزروع، وكانت بنو قريظة يسكنون في منطقة مهْزُور التي تقع على بعد بضعة أميال من جنوب المدينة. وكانت لهم حصون، وآطام، وقرى، يعيشون فيه متكتلين مستقلين، لم يتمكنوا من إنشاء حكومات يحكمها اليهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل ورؤسائها، يؤدون لهم إتاوة في كل عام، مقابل حمايتهم لهم، ودفاعهم عنهم، ومنع الأعراب من التعدي عليهم، وقد لجأوا إلى عقد المحالفات معهم، وكان لكل زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب. وكانوا ينعتون أنفسهم بأنهم أهل العلم بالأديان والشرائع، وكانت لهم مدارس يتدارسون

_ (1) البقرة: 84، 85.

فيها أمور دينهم، وأحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبارهم الخاصة برسلهم وأنبيائهم، كما كانت أماكن خاصة يقيمون فيها عباداتهم وشعائر دينهم، وكانت تسمى (المدارس) وكان المكان الذي يتجمع فيه اليهود لتبادل المشورة في سائر أحوالهم الدينية والدنيوية. وكانت لهم تشريعاتهم ونظمهم الخاصة بهم، أخذوا بعضها عن كتبهم، وبعضها وضعه لهم كهانهم وأحبارهم من عند أنفسهم، وكانت لهم أعيادهم الخاصة بهم، وأيام خاصة، يصومون فيها، كيوم عاشوراء. وكانت معظم معاملاتهم مع غيرهم تقوم على الرهون وتعاطي الربا، وكانت لهم من طبيعة منطقة المدينة الزراعية فرصة إلى ذلك، لأن الزراع عادة يحتاجون إلى اقتراض الأموال لحين الحصاد. وكانت المراهنة لا تقتصر على الرهائن المالية، بل تخطتها إلى مراهنة النساء والولدان وقد جاء في قصة قتل كعب بن الأشرف النضري التي رواها الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه، أنه قال له محمد بن سلمة: قد أردنا أن تُسلفنا وسقا أو سقين، فقال: نعم، أرهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟! قال: أرهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، قال: فأرهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رُهِنَ بوسْق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللاّمَة (1). ومن طبيعة هذه المراهنات خصوصاً إذا كانت في الأبناء والنساء نشوه الحقد والكراهة بين الراهنين والمرتهنين، لا سيما لأن العرب اشتهروا بالغيرة الشديدة على نسائهم وشدة الأنفة. وقد ترتب على سيطرة اليهود على الجوانب الاقتصادية في المدينة وضواحيها أن قوي نفوذهم المالي، وصاروا يتحكمون في الأسواق تحكماً فاحشاً، ويحتكرونها لمصلحتهم

_ (1) اللامة: الدرع.

ومنفعتهم، فكرههم السواد الأعظم من الناس بسبب أنانيتهم واشتطاطهم في أخذ الربا، وحصولهم على غنى وثراء بطرق يأنف العربي عن سلوكها والتعامل بها، ولما طبعوا عليه من الجشع، ولسياستهم التوسعية. يقول De - Lacy, O'Leary) في كتابه (العرب قبل محمد): ساءت العلاقات بين أولئك البدو (المدنيين) واليهود المستعمرين في القرن السابع الميلادي، فإنهم كانوا قد وسعوا مناطقهم المزروعة إلى مراعي هؤلاء البدو. وكانت علاقة اليهود بالأوس والخزرج - سكان المدينة العرب - خاضعة للمنفعة الشخصية والمكاسب المدية، فهم يعملون على إثارة الحرب بين الفريقين، متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم، كما حصل ذلك في كثير من الحروب التي أنهكت الأوس والخزرج، وكان يهمهم فقط أن تكون لهم السيطرة المالية على المدينة، وحديثهم عن النبي المرتقب شجع الأوس والخزرج على الدخول في الإسلام. أما لغة اليهود في بلاد العرب، فقد كانت العربية بطبيعة الحال، ولكنها لم تكن خالصة، بل كانت تشوبها الرطانة العبرية، لأنهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركاً تاماً، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراساتهم. أهـ. أما الجانب الديني والدعوي فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون: لا شك أنه كان في المقدرة اليهودية أن تزيد في بسط نفوذها الديني بين العرب، حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة، ولكن الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأن الأمة الإسرائيلية لم تَمِل بوجه عام إلى دعوة الأمم على اعتناق دينها، وأن نشر الدعوة الدينية من بعض الوجوه محظور على اليهود. أهـ. ولكن مما لا شك فيه أن عدداً من العرب المنتمين إلى الأوس والخزرج وغيرهما من القبائل العربية الأصيلة، دانوا باليهودية عن رغبة منهم، أو بتأثير المصاهرة والزواج، أو

الأوس والخزرج

بحكم النشأة في البيئة اليهودية، وقد كان في يهود العرب جميع هذه الأنواع، وقد ثبت أن التاجر اليهودي الكبير والشاعر المشهور كعب بن الأشرف الذي يعرف بالنضري كان من قبيلة (طيءْ) تزوج أبوه في بني النضير، فنشأ كعب بن الأشرف يهودياً متحمساً. قال ابن هشام: كان رجلاً من طيئْ، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير، وكان بعض من لا يعيش له ولد من العرب ينذر، إذا ولد له ابن وعاش هودُوه، فكان في المدينة عدد من العرب الذين دخلوا في اليهودية عن هذا الطريق. روى الإمام أبو داود السجستاني (1) بسنده عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهودهُ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2). * * * الأوس والخزرج: تنتمي بطون الأوس والخزرج - سكان المدينة العرب - إلى القبائل الأزدية اليمنية، وكانت موجات هذه الهجرة من اليمن إلى يثرب متفرقة فيأوقات مختلفة، وكانت لعوامل متعددة؛ منها اضطراب أحوال اليمن وغزو الأحباش، وإهمال أمر الإرواء بخراب سد (مأرب)، وعلى هذا فالأوس والخزرج أحدث عهداً في المدينة من اليهود. وقد سكنت بطون الأوس في المنطقة الجنوبية والشرقية، وهي منطقة العوالي من يثرب، بينما سكنت بطون الخزرج المنطقة الوسطى الشمالية، وهي سافلة المدينة، وليس وراءهم شيء في الغرب إلى خلاء حرة الوبرة.

_ (1) أبو داود (3/ 59) كتاب الجهاد - باب في الأسير يكره على الإسلام. (مقلاتا) المقلاة، هي التي لا يعيش لها ولد. (2) البقرة: 256.

وكان من جملة بطون الخزرج أربعة أبطن، وهم: مالك، وعدي، ومازن، ودينار، كلها من بني النجار المعروف بـ (تيم اللات)، وقد سكنت بطون بني النجار في المنطقة الوسطى التي حول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سكن الأوس المناطق الزراعية الغنية في المدينة، وجاوروا أهم قبائل اليهود وجموعهم، واستوطن الخزرج مناطق أقل خصباً، وقد جاورهم قبيلة يهودية كبيرة واحدة، وهي القينقاع. ليس من السهل الحصول الآن على إحصاء دقيق عن عدد رجال الأوس والخزرج، ولكن الباحث المتتبع للحوادث يستطيع تحديد قوتهم الحربية م المعارك التي خاضوها بعد الهجرة، فقد بلغ عدد محاربيهم في يوم فتح مكة أربعة آلاف مقاتل. وكان العرب في وقت الهجرة النبوية أصحاب الكلمة العليا في يثرب، وبيدهم كان توجيه الأمور بها، ولم يستطع اليهود مقابل ذلك أن يجمعوا كلمتهم، ويقفوا صفاً واحداً في وجه خصومهم، فتفرقت بطونهم، ودخل بعضها في محالفات مع الأوس، ودخل بعضها في محالفات مع الخزرج، وكانوا في القتال أقسى على بني جنسهم من العرب، واستحكم عداء بين بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، جعل بني قينقاع يتركون أرضهم وزرعهم، ويقتصرون على الصياغة. ووقعت كذلك بين الأوس والخزرج حروب كثيرة، أولاها حرب (سمير) وآخرها حرب (بُعاث) قبل الهجرة بخمس سنوات، وقد عمل اليهود على الدس بين الأوس والخزرج، وتشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد، حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم بـ (الثعالب). * * *

الوضع الطبيعي

الوضع الطبيعي: كانت يثرب عند الهجرة النبوية متقسمة إلى عدة دوائر تسكنها بطون عربية ويهودية، وكل دائرة تابعة لبطن من البطون، وكانت الدائرة تنقسم إلى قسمين: يشتمل القسم الأول على الأراضي الزراعية بمنازلها وسكانها، ويشتمل القسم الثاني على الأطم أو الآطام. وقد بلغ عدد آطام اليهد في يثرب تسعة وخمسين أطماً، ويقول الدكتور ولفنسون في وصف هذه الآطام: كانت أهمية الآطام عظيمة في يثرب، فكان يفزع إليها أفراد البطن عند هجوم العدو، ويأوي إليها النساء والأطفال والعجزة حين يذهب الرجال لمقاتلة الأعداء، وقد كانت الآطام تستعمل كالمخازن تجمع فيا الغلال والثمار، ذلك أنها كانت معرضة في أماكنها المكشوفة للنهب والسلب، وكان الأطم مربعاً لكنز الأموال والسلاح، وكان للقوافل المثقلة بالبضائع أن تنزل بالقرب منه، كما كانت تقام على أبوابه الأسواق. وكانت الآطام تشتمل - كما يظن - على المعابد وبيوت المدارس، إذ كانت فاخرة الأثاث، كثيرة الأدوات، مملوءة بالأسفار، فكان يجتمع فيها الزعماء للبحث والمشاورة حيث يقسمون بالكتب المقدسة، حين يهمون بإبرام العقود والاتفاقات. ويقول الدكتور في تفسير كلمة (أطم): أنها مأخوذة من اللغة العبرية، فيقال: أطم عينيه: أغمضها، وأطم أذنيه: سدهما، والأطم في الجدران والحيطان: هي النوافذ المغلقة من الخارج، والمفتوحة من الداخل، ويستعمل في السور أي الحائط الضخم، يقول الدكتور: وعلى ذلك يمكننا أن نفترض أن اليهود أطلقوا على الحصن اسم أطم، لأنه كان في إمكانهم أن يغلقوا أبوابه، وإن كانت له نوافذ من الخارج وتفتح من الداخل. ومن هذه الأحياء والدوائر المحصنة كانت تتكون مدينة يثرب، فهي في الحقيقة مجموعة من القرى تقاربت وتجمعت، فتكونت منها المدينة، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله:

الحالة الدينية والمكانة الاجتماعية

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (1)، وبقوله: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} (2). وحرة واقم التي تحد المدينة من الشرق، كانت أكثر عمراناً من الوبرة، وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، كانت حرة واقم مسكونة بأهم قبائل اليهود من بني النضير وقريظة، وعدد من عشائر اليهود الأخرى، كما كانت تسكنها أهم البطون الأوسية: بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وبنو حرثة، وبنو معاوية، وفي منازل بني عبد الأشهل كان يقوم حصنهم واقم، الذي سميت الحرة باسمه. * * * الحالة الدينية والمكانة الاجتماعية: كان العرب تابعين لقريش وأهل مكة في العقيدة والديانة، ينظرون إلى قريش كسدنة للبيت، وقادة في الدين، وقدوة في الاعتقاد والعبادة، خاضعين للوثنية السائدة على جزيرة العرب، يعبدون من الأصنام ما تعبد قريش وأهل الحجاز، إلا أن علاقتهم ببعض الأصنام كانت أقوى من علاقتهم ببعضها، فكانت مناة لأهل المدينة، وكانت أقدم الأصنام، وكان الأوس والخزرج أشد إعظاماً لها من غيرهم، وكانوا يهلون لها شركاً بالله تعالى، وكانت حذو (قُدَيْد) الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل، كما كانت اللاتُ لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، وكان أهل هذه المدن أكثر تعصباً حمية لها من غيرها، وكان من اتخذ في داره صنماً من أهل المدينة من خشب أو غيره يسميه "مناة" أيضاً، كما فعل ذلك عمرو بن الجموح سيد من سادات بني سلمة قبل أن يسلم. وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عروة عن عائشة في تفسر قوله تعالى {إِنَّ

_ (1) الحشر: 7. (2) الحشر: 14.

الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1). قالت: إن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلْل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. ولم نطلع على صنم لهم خاص في المدينة اشتهر كاللات ومناة، والعزى، أو كهُبل، يعكفون على عبادته، ويشد إليه الرحال من خارج المدينة، ويبدو أن الأصنام لم تنتشر في المدينة انتشارها في مكة، فقد كان لكل بيت في مكة صنم خاص، وكانت الأصنام يطاف بها وتباع، فكانوا في الوثنية عيالاً على أهل مكة وأتباعاً لهم. وكان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: "قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما يوم الفطر والأضحى"، وقد ذكر بعض شراح الحديث أنهما النيروز والمهرجان، وكأنهم أخذوهما من الفُرس. وكانت قريش تعترف بشرف الأوس والخزرج، وهم بنو قحطان العرب العاربة، وكانوا يصاهرونهم، ويتزوجون فيهم، وقد تزوج هاشم بن عبد مناف وهو سيد قريش في بني النجار، تزوج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار وهم من الخزرج، إلا أنهم كانوا يرون لأنفسهم فضلاً عليهم، وقد قال عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة - الذين دعوا إلى المبارزة يوم بدر، فخرج إليهم فتية من الأنصار - فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم، يا محمد! أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي" فلما قاموا ودنوا منهم، وسموا أنفسهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، وكانوا ينظرون إلى الفلاحة التي كان يمارسها أهل المدينة بحكم طبيعة أرضهم لاعتمادهم عليها في معاشهم نظرة

_ (1) البقرة: 158.

الحالة الاقتصادية والحضارية

فيها شيء من الاحتقار، وقد تجلت هذه النظرة في الكلمة التي قالها أبو جهل وهو عقير، قد قتله ابنا عفراء وهما من الأنصار، وقد أدركه عبد الله بن مسعود وبه رمق (لو غير أكار قتلني). * * * الحالة الاقتصادية والحضارية: كانت مدينة يثرب بطبيعتها منطقة زراعية، وكان أكثر اعتماد أهلها على الزراعة والبساتين، وكان من أهم حاصلاتها التمر والعنب، فكانت فيها جنات النخيل والأعناب، وجنات معروشات وغير معروشات، وزروع ونخيل صنوان وغير صنوان، ومن الزروع الحبوب والبقول، وكان التمر وخاصة أيام الجدب، وتخلف الأمطار، يسد كثيراً من حاجة السكان الغذائية، وكان كعملة يتبادل بها أهلها عند الحاجة، وكانت النخيل مصدر خيرات كثيرة في حياتهم، فكانوا يستخدمونه في الغذاء والبناء، والصناعة، والوقود، وعلف الدواب، ولتمر المدينة أنواع كثيرة وتفاصيل دقيقة تصعب الإحاطة بها، لأهل المدينة تجارب وطرق في تنمية حاصل النخيل وتحسينه استفادوها من طول المراس، منها تأبير النخل. هذا لا ينفي وجود حركة تجارية في المدينة، ولكنها لم تكن في القوة والانتشار بمكانة الحركة التجارية في مكة، إذ كان اعتماد أبناء الوادي (مكة) وهو غير ذي زرع ومياه وفيرة - على التجارة ورحلة الشتاء والصيف. وكانت في المدينة بعض الصناعات يمارس أكثرها اليهود، ولعلهم جلبوها من اليمن، فلم يزالوا فيه إلى أن غادروه في الزمن الأخير، حاذقين في الصناعات، وكان عامة بني قينقاع صاغة، وكانوا أغنى طوائف اليهود في مدينة يثرب، وكانت بيوتهم تحتوي على الأموال الطائلة، والحلي الكثيرة من الفضة والذهب، مع أن عددهم كان غير كثير. وقد منحت طبيعة يثرب، وهي بركانية التربة، أراضيها خصباً زائداً، وهي ذات وديان كثيرة، تفيض بمياه السيول، فتروي أرضها وتسقي النخل والزروع، اشتهر منها

وادي العقيق الذي كان متنزه المدينة، وكان يتدفق بالماء، ويزهو بالبساتين، وكانت الأرض صالحة لحفر الآبار، وقد كثرت في البساتين، ومنها ما هو مسور ويسميه أهل المدينة (الحائط) واشتهرت آبار كثيرة بعذوبة الماء ووفرته، وكانت لهم شراج (1)، وكانوا يحولون الماء بالمساحي (2) إلى حدائقهم. وكان من الحبوب الرئيسية الشعير، ثم القمح، وتكثر الخضراوات والبقول، وكانت لهم طرق في المزارعة والمؤاجرة والمزابنة، والمحاقلة، والمعاومة، منها ما أقره الإسلام ومنها ما منعه أو أصلحه. وكانت العملة في مكة والمدينة واحدة، وكانت المدينة تعتمد على المكاييل وتحتاج إليها أكثر من مكة، لاعتماد أهلها على الحبوب والثمار، وكانت الأكيال المستعملة في المدينة هي المد والصاع والفرق والعرق والوسق، أما الأوزان المستعملة فهي الدرهم والمثقال والدانق والقيراط والنواة والرطل والقنطار والأوقية. ولم تكن المدينة - على خصبها - مكتفية غذائياً، فكان أهلها يستوردون بعض المواد الغذائية من الخارج، وكانوا يجلبون دقيق الحوار والسمن والعسل، من الشام. قد جاء في حديث رواه الترمذي عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه -: " كان الناس إنما طعامهم بالمدينة، التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (3) من الشام من الدرمك (4)، ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، والقصة تلقي ضوءاً على الحالة الغذائية في المدينة - التي لم تحدث بعد الهجرة فجأة - وعلى المستويات المختلفة في المعيشة. وكان اليهود - كما عرف من طبيعتهم وتاريخهم في كل بلد - أكثر غنى من العرب، وكان

_ (1) الشراج: جمع شَرْج، وهو سيل الماء من الهضاب ونحوها إلى السهل. (2) المساحي: هي المجارف، وهي على أشكال. (3) (شافطة): قافلة الحيرة. (4) (الدرمك): الدقيق الأبيض.

العرب بطبيعتهم العربية البدوية، لا يفكرون في المستقبل كثيراً، فيوفرون له المال، وكانوا أهل ضيافة وكرم، يضطرون إلى الاستدانة من اليهود، وكثيراً ما تكون هذه الاستدانة بالربا والرهن. وكان لأهل المدينة ثروة من الإبل والبقر والأغنام، ويستخدمون الإبل في إرواء الأراضي ويسمونها بـ (الإبل النواضح) وكانت لهم مراعي اشتهرت منها: (زُغابة) و (الغابة)، يحتطب منها الناس، ويرعون فيها ماشيتهم وكانت لهم خيل يستخدمونها في الحروب وإن كانت قليلة بانلسبة إلى مكة، وكان بنو سُليم مشهورين باقتناء الخيل، يجلبونها من الخارج. وكانت في المدينة عدة أسواق، أهمها (سوق بني قينقاع) مركز بيع الحلي والمصوغات الذهبية، وكانت سوق البزازين، وتوجد في المدينة المنسوجات القطنية والحريرية، والنمارق الملونة والستور المرسومة، وكان عطارون يبيعون أنواع العطور والمسك، وكان يوجد من يتجر في العنبر والزنبق، وكانت أنواع من البيع منها ما أقره الإسلام ومنها ما منعه، من النجش والاحتكار، وتلقي الرُّكبان خارج المدينة، وبيع المصراة، البيع بالنسيئة، وبيع الحاضر للبادي، وبيع المجازفة، وبيع المزابنة، والمخاطرة (1). وكان من الأوس والخزرج من يتعامل بالربا، وإن كان ذلك نادراً بالنسبة إلى اليهود - يعني فيما بينهم. وقد توسعت الحياة في المدينة بعض التوسع، ورقت بحكم طبيعة أهلها، فكانت البيوت ذات طبقات، وكانت لبعض البيوت حدائق، وكانوا يستعذبون الماء، وقد يأتون به من بعيد، وكانت توجد كراسي، وكانت تستعمل أقداح من زجاج وأقداح من الحجارة، وسُرج منوعة، وكانوا يستخدمون المكاتل والقفف في أعمال المنزل والزراعة، وكان للأغنياء شيء كثير من الأثاث لبيوتهم، خصوصاً اليهود، وكانت أنواع من الحلي كالأساور، والدمالج،

_ (1) سيأتي شرح هذه البيوع في القسم الرابع من الكتاب بإذن الله تعالى.

والخلاخيل، والأقرطة، والخواتم والعقود من الذهب أو من جزع ظفارٍ (1)، وكان الغزل والنسيج فاشيين في النساء، فكانت الخياطة الدباغة وعمل بناء البيوت، وضرب الطوب والنحت، من الصناعات التي عرفت في المدينة قبل الهجرة. الوضع المعقد الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينة يثرب: وهكذا لم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون من مدينة - منكة - إلى قرية - يثرب - بل انتقل من مدينة إلى مدينة، وإن كانت هي الأخرى تختلف عن الأولى في مظاهر كثيرة للحياة، وكانت أصغر منها نسبياً، ولكن الحياة فيها كانت أكثر تعقيداً، والقضايا التي سيواجهها الرسول أكثر تنوعاً، لوجود ديانات وبيئات وثقافات مختلفة، لا يتغلب عليها ولا يصهر المدينة كلها في بوتقة عقيدة واحدة، ودعوة واحدة إلا الرسول المؤيد من الله، الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وقوة الجمع بين الأنماط البشرية الكثيرة، والقوى المتصارعة، والأهواء المتعاكسة، وألقى عليه محبة منه، وصدق الله العظيم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2). * * *

_ (1) ظفار: إقليم في غربي عمان على شاطئ البحر العربي. (2) الأنفال: 62، 63.

فصل: التأريخ بالهجرة

فصل: التأريخ بالهجرة 229 - * روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: ما عدوا من مبعثِ النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة. 230 - * روى الحاكم، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: جمع عمر الناس فسألهم: مِنْ أي يوم يُكتبُ التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب: منْ يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر - رضي الله عنه. أقول: قال ابن كثير في البداية والنهاية: اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رُفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر وفيه؛ إنه يحل عليه في شعبان. فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك. فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد. وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم، وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك. وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل بمبعثه. وقال آخرون: بل بهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام. فمال عمر رضي الله عنه إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره. واتفقوا معه على ذلك. والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التأريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الأئمة، وذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم

_ 229 - البخاري (7/ 267) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 48 - باب: التأريخ من أين أرخوا التاريخ؟ 230 - المستدرك (3/ 14) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

للبداءة بالمحرم سببان

أقول: للبداءة بالمحرم سببان: أولاً: لأنه بداية السنة عند العرب. ثانياً: لأن الأصحاب بدأوا هجرتهم من المحرم، فالمحرم وجدت فيه مقدمات الهجرة. وقال في الفتح: وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة، فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم. * * *

فصل: في حسن الاستقبال وقوة الإقبال

فصل: في حسن الاستقبال وقوة الإقبال شهد الله عز وجل للأنصار بالإيثار وحب الأضياف المهاجرين. فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) وبهذه الروح وبحسن التربية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن التدبير حلت مشكلة الهجرة، وكأن ليس لها مشكلات مع أن مشكلات الهجرة من أعقد المشكلات في العالم. وهذه نصوص نذكرها توضح حسن الاستقبال من الأنصار للمهاجرين ومنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثرة إقبالهم عليه صلى الله عليه وسلم. 231 - * روى البخاري عن خارجة بن زيد رضي الله عنه: أن أم العلاء - امرأة من الأنصار - بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أنه اقتسم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعهُ الذي توفي فيه، فلما توفي وغُسل وكُفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمُ؟ " فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري - وأنا رسول الله - ما يُفعلُ بي؟ " قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً. زاد في رواية قالت: وأريت لعثمان في النوم عيناً تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك له، فقال: "ذاك عملهُ". وفي رواية قالت: فأحزنني ذلك، فنمتُ، فرأيت لعثمان عيناً تجري.

_ (1) الحشر: 9. 231 - البخاري (2/ 114) 23 - كتاب الجنائز - 2 - باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه. فطار لنا: أي وقع لنا في سهمنا، أي صار من حظنا. أبو السائب: تعني عثمان بن مظعون.

232 - روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، لما قدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آتاه الهاجرون فقالوا: يا رسول الله. ما رأينا قوماً أبذل من كثير، ولا أحسن مواساةً من قليل، من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم". واختصره أبو داود (1) وقال: إن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم". 233 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواتنا النخيل. قال: "لا"، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككُم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا. 234 - * روى البخاري عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع. قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فاقسم مالي نصفين. ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلققها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقطٍ وسمن ... وذكر الحديث. 235 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوفٍ

_ 232 - الترمذي (4/ 653) 38 - كتاب صفة القيامة - باب: 44. وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب من هذا الوجه. المهنأ: السرور - ما يأتيك فتسيفه وتقبله طبيعتك، جمعه مهانئ. (1) أبو داود (4/ 255) كتاب الأدب - باب: في شكر المعروف، وإسناده صحيح. 233 - البخاري (5/ 8) 81 - كتاب الحرث والمزارعة - 5 - باب: إذا قال اكفني مؤونة النخل وغيره وتشركني في الثمر. 234 - البخاري (7/ 162) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 3 - باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار. أقطا: الأقط: لبن جامد يابس. 235 - البخاري (4/ 288) 34 - كتاب البويع 1 - باب ما جاء في قول الله تعال: (فإذا قضيت الصلاة ..). وضر من صفرة: الوضر: الأثر، والصفرة من الزعفران والخلوق. مهيم: كلمة استفهام أي ما حالك وما شأنك وما وراءك أو أحدث لك شيء.؟

المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه سلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد الرحمن: أقاسمُك مالي نصفين وأزوجُك. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطاً وسمناً، فأتى به أهل منزله، فمكثنا يسيراً - أو ما شاء الله - فجاء وعليه وضر من صفرةٍ فقال له النبي صلى الله عليه سلم: "مهيم؟ " قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار. قال: "ما سُقت إليها؟ " قال: نواة من ذهبٍ - أو وزن نواة من ذهب ٍ - قال: "أوْلِم ولو بشاةٍ". قال صاحب الفتح الرابني: قال النووي: الصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد التزعفر، فقد ثبت في الصحيح النهي عن التزعفر للرجال، وكذا نهى الرجال عن الخلوق لأنه شعار النساء، وقد نهى الرجال عن التشبه بالنساء فهذا هو الصحيح في معنى الحديث، وهو الذي اختاره القاضي والمحققون، قال القاضي وقيل: إنه يرخص في ذلك للرجل العروس، وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه، قال: ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة، وحكاه مالك عن علماء المدينة، وهذا مذهب ابن عمر وغيره، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يجوز ذلك للرجل. أهـ. 236 - روى أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار أو نزلت بين أبويها". 237 - روى الحاكم عن أبي أيوب قال: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: بأبي أنت وأمي أكرهُ أن أكون فوقك وتكون أسفل مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني أرفقُ بي أن أكون في السفلى لما يغشانا من

_ 236 - أحمد في مسنده (6/ 257) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 40) وقال: رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح. امرأة نزلت: أي نزولها بين بيتين من الأنصار كنزولها بين أبويها. 237 - المستدرك (3/ 461) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. أهريق: أريق. القطيفة: كساء له خمل وأهداب. فرقا: خوفاً من أن يصل إليه الماء.

الناس" قال فلقد رأيتُ جرةً لنا انكسرتْ فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفةٍ لنا ما لنا لحافٌ غيرها نُنَشِّفُ بها الماء، فرقاً أن تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء يؤذيه. أقول: إن كثيراً من الناس يهملون قضية الذوق العام، ولا يعطون للتصرف الذوقي أهمية مع شدة أهميته في حياة المسلمين، وما أكثر ما نجد هذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتصرف أبي أيوب وأم أيوب المذكور في الحديث نموذج على هذا. 238 - * روى الحاكم عن جابر بن سمرة قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي أيوب وكان إذا أكل طعاماً بعث إليه بفضله فينظُر إلى موضع يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأكل من حيث موضع يده، فصنع ذات يوم مطعاماً فيه ثوم فأرسل به إليه فردهُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله لم أر أثر أًابعك، فقال: "إنه كان فيه ثومٌ" قال شعبةُ في حديثه: أحرم هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا" وقال حمادٌ في حديثه: يا رسول الله بعثت إلي بما لم تأكل، فقال: "إنك لست مثلي إنه يأتيني الملكُ". * * *

_ 238 - المستدرك (3/ 460) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

فصل: المسجد أولا

فصل: المسجد أولاً قال ابن كثير في البداية والنهاية: ولما حل الركاب النبوي بالمدينة، وكان أول نزوله بها في در بني عمرو بن عوف وهي قُباء كما تقدم فأقام بها - أكثر ما قيل - ثنتين وعشرين ليلة، وقيل: ثماني عشرة ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال. والأشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الإثنين إلى يوم الجمعة، وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها - على ما ذكرناه - مسجد قباء. ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب ناقبته القصواء وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلي بالمسلمين الجمعة هنالك، في واد يقال له وادي رانواناء، فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقاً لأنه والله أعلم لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بموعظة، وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه. أهـ. ولما قدم المدينة كان منأوائل أعماله عليه الصلاة والسلام بناء المسجد. 239 - * روى البخاري عن أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل في أعلى المدينة في حي يُقال لهم بنو عمرو بن عوفٍ، فأقام فيهم أربع عشر ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا مُتقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكرٍ ردفه، وملا بني النجار حولهُ حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يُصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال: "يا بني النجار ثامنُوني بحائطكم هذا" فقالوا: لا والله لا نطلبُ ثمنهُ إلا إلى الله، فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبشتْ، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عصادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول "اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة"

_ 239 - البخاري (1/ 524) 8 - كتاب الصلاة - 48 - باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد؟. ومسلم (1/ 373) - 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 1 - باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

240 - * وقد ورد في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مريداً - وهو يبدرُ التمرِ - ليتيمين كانا في حِجْرِ أسعد بن زرارة، وهما سهل وسُهيلٌ، فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعهُ منهما ثم بناه مسجداً وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْقُلُ معهم اللبن في بنيانه ويقول: هذا الحِمالُ لا حِمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجرُ الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره 241 - * روى البخار يعن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفُه الجريد، وعمُدُه خَشَبُ النخلِ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر وبناء على بنيانه في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عُمُدُه خشباً. ثم غيرهُ عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبني جدارهُ بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارةٍ منقوشةٍ وسقفه بالساج. قال ابن كثير في البداية والنهاية: زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولاً قوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة" ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد، فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه، وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر ابن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة، وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانه في

_ 240 - البخاري (7/ 240) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. 241 - البخاري (1/ 540) 8 - كتاب الصلاة - 63 - باب: بنيان المسجد. وأبو داود (1/ 123) كتاب الصلاة - باب: في بناء المسجد. القصة: الجصّ الساج: ضرب من الشجر.

وقته، ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم. وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حول مسجده الشريف حُجَر لتكون مساكن له ولأهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء. قال الحسن بن أبي الحسن البصري - وكان غلاماً مع أمه خيرة مولاة أم سلمة -: لقد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا (1) ضخماً طُوالاً رحمه الله. وقال السُّهيلي في الروض: كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين بعضها من حجارة مرضومة وسقوفها كلها من جريد، وقد حكى عن الحسن البصري ما تقدم، قال: وكانت حُجَره من شعر مربوطة بخشب من عرعر. قال وفي تاريخ البخاري أن بابه عليه السلام كان يقرع بالأظافير، فدل على أنه لم يكن لأبوابه حلق. أهـ. 242 - * روى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا ننقل اللبِن للمسجد لبِنة لبنةً وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فنفض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأسه وقال: "ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغيةُ". قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تتقله الفئة الباغية، قد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق ما سأتي بيانه وتفصيله في موضعه، وقد كان عليِّ أحق بالأمر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرُهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم؛ لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحدث بعد تقتلك الفئة الباغية - لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة - فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل، والله

_ (1) الشكِل: ما لونه أبيض خالطته حمرة. 242 - أورده الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 296) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

أعلم. وأما قوله يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، فإن عماراً وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا (1) على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه، والله أعلم. ونختم هذا الفصل بكلمة للشيخ الغزالي وأخرى للسباعي حول بدئه عليه الصلاة والسلام أول استقراره في المدينة ببناء المسجد. قال الشيخ الغزالي حفظه الله: بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد، لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوريت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا. وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خير من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامين تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم؛ وندوة للأدب وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام. والمسجد الذي وجه الرسول صلى الله عليه وسلم همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة، ليس أرضاً تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان. إنما هو رمز لما يكتثر له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث، وهو وصل

_ (1) أوزاع: جماعات متفرقة.

العباد بربهم وصلاً يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر!. والحضارة التي جاء بها الإسلام، تذكُّر أبداً بالله وبلقائه وتمسك بالمعروف وتبغض في المنكر، وتقف على حدود الله ... أهـ. وقال الدكتور السباعي حول بناء المسجد: من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم ما أقام بمكا إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون فقد أقام مسجد قباء حين أقام فيها أربعة أيام، وبنى مسجداً في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن الوادي "وادي رانوناء". فلما أن وصل إلى المدينة، كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها. وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام، وعبادات الإسلام كله تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين، ووحدة كلمتهم، وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى، لا جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم. ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أن منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، وسعد، وأبو عبيدة، وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبويز وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه، في نكار منكر أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير، أو إيقاظ من غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظالم، أو تحذير لطاغية، ولقد شاهدنا في عهد

الطفولة كيف كانت المساجد مراكز الانطلاق للحركات الوطنية ضد المستعمرين يلجأ إليها زعماء الجهاد ضد الاستعمار وضد الصهيونية. أهـ. * * *

فصل: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

فصل: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وجوده في المدينة نوعين من التعاقدات، تعاقد على الإخاء الخاص بين أًحابه، وتعاقد بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة. وهذه نصوص تشير أو تتحدث عن التعاقدات من النوع الأول: 243 - * روى مسلم عن جبير بن مطعم، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام، وأيما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدهُ الإسلام إلا شدة". قال ابن الأثير: (لا حِلْفَ في الإسلام) أصل الحِلْفِ: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفِتَنِ والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام" وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام، كحِلْفِ المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "وأيما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدهُ الإسلام إلا شدة" يريد: من المعاقدةِ على الخير، والنصر للحقن وبذلك يجتمع الحديثان، وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام بين قريش والأنصار، يعني: آخى بينهم، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه: ما خالف حكم الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف، والأحلاف ستُّ قبائل: عبد الدار، وجُمَح، ومخزوم، وعَديُّ، وكعب، وسهم، سُموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار؛ من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبتْ عبدُ الدار، قعد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فوضعتها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار

_ 243 - مسلم (4/ 1961) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم. وأبو داود (3/ 129) كتاب الفرائض - باب في الحلف. وقال أبو داود: يريد: حلف المطيبين.

وحُلفاؤها حلفاً آخر مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فسموها الأحلاف لذلك. 244 - * روى البخاري عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قُلتُ لأنس بن مالك رضي الله عنه: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام؟ " فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري. وعند أبي داود (1) قال: سمعتُ أنس بن مالك يقول: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام؟ فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، مرتين أو ثلاثاً. أقول: يرى بعض الناس أنه لا تجوز التعاقدات السياسية بين المسلمين وغيرهم، ومن ثم بين الجماعة الإسلامية وغير المسلمين أو غير الإسلاميين، وذلك خطأ ووهم، فحيثما وجدت مصلحة حقيقية للإسلام ولجماعة المسلمين جاز التحالف على أن يكون ذلك بشورى المسلمين وبالفتوى الصحيحة من أهلها، ونحن سنرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أن التحالفات كانت جزءاً من سيرته عليه الصلاة والسلام. 245 - * روى أبو يعلي عن زيد بن حارثة أنه قال: يا رسول الله آخيت بيني وبين حمزة بن عبد المطلب. 246 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه سلم بين

_ 244 - البخاري (4/ 472 * 39 - كتاب الكفالة - 2 - باب: قول الله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم). ومسلم (4/ 1960) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم. (1) أبو داود (2/ 129) كتاب الفرائض - باب: في الحلف. 245 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن صالح الأزدي وهو ثقة. 246 - مسلم (4/ 1960) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم.

أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة. 247 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وابن مسعود. 248 - * روى أبو يعلي عن أنس رضي الله عنه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، آخى بين سلمان وأبي الدرداء وبين عوف بن مالك وبين صعب بن جثامة. 149 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (1) ورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}: كان المهاجرن لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له. وبعقد الإخاء بين المهاجرين والأنصار حل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشكلات الهجرة عن أقرب طريق وأسهله، وقد تحدث الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة عن هذا الموضوع فقال: أما أمر صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر، فقد أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل. الإخاء الذي تمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها، ولا امتداداً إلا فيها. ومعنى هذا الإخاء، أن تذوب عصبيات الاجهلية، فلا حمية إلا للإسلام. وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن. فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.

_ 247 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، ورجال الأوسط ثقات. 248 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح. 249 - البخاري (8/ 247) 65 - كتاب التفسير - 7 - باب (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ..). (1) النساء: 33.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والنقص والجبن والبخل والجشع، لا يمكن انْ يصح إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جُبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله. فسُمُوُّ الغاية التي التقوا عليها وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نميا فيهم خِلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكاناً لنجوم خِلَّة رديئة. ذلك، ثم إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان إنساناً، تجمع فيه ماتفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسُوا منه، وداروا في فلكه، رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء. إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يُتكلف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوة لا تُفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر تخلص الناس من نوازع الأثرة والشُّح والضعة. وقد تُبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين، لأنهم ارتقوا - بالإسلام - في نواحي حياتهم كلها، فكانوا عباد الله إخوانا، ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض. وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة (بدر) حتى نزل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) فألغى التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم. * * *

_ (1) الأنفال: 75.

أهداف المؤاخاة

أهداف المؤاخاة: قال ابن حجر في الفتح: قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار، فهي المقصودة هنا. وقال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع اشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التوادد وشمول الدعوة. وأنكر ابن تيمية في "كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي" المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً ولتأليف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي، لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيداً مولاهم، فقد ثبت أختها وهما من المهاجرين، وسيأتي في عمرة القضاء قول زيد بن حارثة: إن بنت حمزة بنت أخي، وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود" وهما من المهاجرين. قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك، وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان - وذكر جماعة قال - فقال علي: يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخى؟ قال "أنا أخوك" وإذا انضم هذا إلى ما تقدم تقوى به.

وحول المؤاخاة قال الدكتور مصطفى السباعي: في مؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية النباءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاؤوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم. فليحمل الأخ أخاه، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها، ولينزله في بيته ما دام فيه متسع لهما، وليعطه نصف ماله ما دام غنياً عنه، موفراً له، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل ههذ الأخوة؟ إن الذين ينكرون أن يكون في الإسلام عدالة اجتماعية، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ. وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، وطبقها بإشرافه. * * *

فصل: في الترتيبات الدستورية

فصل: في الترتيبات الدستورية قال الأستاذ البوطي: روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة والسلام لم تمض له سوى مدة قليلة في المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، عدا أفراداً من قبيلة الأوس. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهو وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم. وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد. وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد ابن جناب أبو الوليد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق، وذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ... إلخ. وقال الشيخ الغزالي في معرض كلامه عن أهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة: أما عن صلة الأمة بالأجانب عنها، الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تُعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط، هو رجل مخطئ بل متحامل جرئ. أقول: هذه الوثيقة التي ذكرها الأستاذان الكريمان لم تكن تنظم الحياة بين المسلمين وغيرهم فحسب، بل كانت كذلك تنظم الحياة بين المسلمين أنفسهم، وهذه الحادثة بالذات تعتبر أهم معلم يجب أن تضعه الحركة الإسلامية نصب عينيها، بل هذه الوثيقة تعتبر من أعظم السوابق الدستورية في تاريخ البشرية، ففي مراحل متأخرة بدأت البشرية تفكر في كتابة الدساتير الناظمة لحياة الأمم في أطرها الكبرى، فأن نرى ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى لإقامة الدولة فتلك من معجزات الإسلام، ولقد هل ناس حاربوا

التقعيد الدستوري والقانوني لحياة شعوب الأمة الإسلامية، كما أفرط ناس في التصورات السياسية حتى دخلوا معارك ضد مصطلحات لا حرج في استعمالها، وكل ذلك أثر عن تشنجات سقيمة لم يعرف أصحابها الحدود بين ما يحرم أخذه وما يجوز وما يفترض، وبين مالا يسيغ إغفاله وما يجب إبطاله له. ومع أن هذه الوثيقة قد أوردها ابن إسحاق بلا إسناد فإن لها قوة كبرى من حيث إن ابن خيثمة قد أوردها بإسناد كما ذكر ذلك ابن سيد الناس في عيون الأثر، ومن حث إن هناك نصوصاً ثابتة تشير إلى أن عقوداً ما قد تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، وأن تعاقداً أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ولذلك فإن ابن كثير في البداية والنهاية قد لخص هذه الوثيقة وعنون لمضمونها وقدم لها بذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى بعض مضموناتها، وعلى كل الأحوال فعلى مذهبنا الذي ذكرناه في مقدمة هذا القسم والذي اعتمدنا فيه أن إماماً من الأئمة عندما يذكر شيئاً بلا نكير فذلك يدل على أن مذهبه اعتماد ما ذكره فإذا كان من أهل الاجتهاد في شأن فبإمكاننا اتباعه فيه، ولا أحد يشك أن ابن إسحاق إمام الأئمة في السيرة. وها نحن نذكر بعض ما ذكره ابن كثير عن هذه الوثيقة: فقد قال بعد ذكره عقد الرسول عليه السلام الألفة بين المهاجرين والأنصار والمؤاخاة بينهم، وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة: وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام بخت نصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبري، ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر، نزل الأوسُ والخزرج المدينة عند اليهود فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء، لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والإسلام وخذل أوئلك لحسدهم وبغيهم واستكابرهم عن اتباع الحق. 250 - * روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 250 - أحمد في مسنده (2/ 204).

كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهُم، ويفْدُوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين. 251 - * روى مسلم عن جابر. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل بطنٍ عقوله". وقال محمد بن إسحاق (1): كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوفٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين" ثم ذكر كل بطنٍ من بطونِ الأنصار، وأهل كل دارٍ: بني ساعدة، وبني جُشم، وبني النجار، وبني عمرو وبن عوفٍ، وبني النبيت، إلى أن قال: "وإن المؤمنين لا يتركون مُفرحاً بينهُم أنْ يُعطوهُ بالمعروف في فداءٍ أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونهُ، وإن المؤمنين المتقين على منْ بَفَى منهُم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عُدوانٍ أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتُلُ مؤمن مؤمناً في كافرٍ، ولا يُنْصَرُ كافرٌعلى مؤمنٍ، وإن ذمة الله واحدةٌ يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وإنه من تبعنا من يهُود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مُتناصرٍ عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يُسالم مؤمن دون

_ 251 - مسلم (2/ 1146) 30 - كتاب العتق - 4 - باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه. (1) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 119). يتعاقدون معاقلهم: يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات عند قتل أحد وإعطائها. والمعاقل جمع معقلةٍ وهي الدة والعقول جمع عقلٍ وهي الدية أيضاً. عانيهم: أسيرهم. ربعتهم: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها. المفرح: المثقل بالدين، الكثير العيال. دسيعة: عظيمة.

مؤمن في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعدلٍ بينهم، وإن كل غازيةٍ غزتْ معن يعقبُ بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبئ بعضهم بعضاً بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومِهِ، وإنه لا يُجيرُ مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونهُ على مؤمنٍ، وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينةٍ فإنه قودٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافةً ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أنْ ينصر مُحدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواهُ فإن عليه لعنةُ الله وغضبهُ يوم القيامة ولا يؤخذُ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتُم فيه من شيء فإن مردهُ إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوفٍ أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهُم وللمسلمين دينُهُم مواليهم وأنفسهُم إلا من ظلم وأثِم فإنه لا يُوتغُ إل نفسهُ وأهلَ بيته، وإن ليهودِ بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جُشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يُخرجُ منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على نارٍ جُرحٌ، وإنه من فتك فبنفسه إلا من ظُلِمْ، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهمُ النصر على من حارب أهل هذهِ الصحيفةِ، وإن بينهُم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفهِ. وإن النصر للمظلوم وإن يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثمٍ، وإنه لا تُجارُ حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما

_ يبيء: بيء من السواء أي المساواة، يقال: با وأباء بمعنى ساوى. اعتبط: قتل بلا جناية. الود: القصاص. محدثاً: جانياً. صرف ولا عدل: نافلة ولا فرض أو توبة ولا فدية. لا يوقع: أي لا يوبق ويهلك. ولا ينحجز على ثأرٍ جرحُ: لا يمنع صاحب حق من حقه في القصاص. وإن لله على أبر هذا: أي أن الله راض أو شاهد على أبر هذا العقد. أقول: قال أبو عبيد: إنما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية وإذ كان الإسلام ضعيفاً، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب. والبر دون الإثم: أي أن البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزاً عن الإثم. لم يأثم امرؤ بحليفه: لا يحاسب الحليف على جُرْم حليفه. =

دروس من الصحيفة

كان بيِّنَ أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخافُ فسادُهُ، فإن مردهُ إلى الله وإلى محمدٍ رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرهُ، وإنه لا تُجارُ قريش ولا من نصرها وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صُلح يُصالحونَهُ ويلبسونَهُ فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهُم إذا دعُوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين على كل أناسٍ حصتُهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وإنه لا يحُول هذا الكتاب دون ظالم أو آثمٍ، وإنهُ من خرج آمنٌ، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، إن الله جار لمن بر واتقى". كذا أورده ابن إسحاق بنحوه. دروس من الصحيفة: 1 - هذه الوثيقة ضبطت العلاقة بين أبناء المجتمع المدني جميعهم مؤمنهم ومشركهم ويهوديهم، ومن هنا نأخذ أن على الحركة الإسلامية حيثما وجدت أن تفكر في الصيغة الدستورية التي تحكم العلاقات بين المسلمين وبين غيرهم، والأمر في هذا الموضوع يختلف من وضع لوضع ومن قطر لقطر ومن ضعف لقوة، ومن كثرة لقلة، ومن استخلاف لسعي نحو الاستخلاف، والفتوى والشورى والمصلحة هي ضوابط هذا الأمر. 2 - من تعبيرات هذه الوثيقة (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) هذا التعبير يفيد في المصطلحات الحالية أن كل المواطنين شعب واحد، وف هذا أبلغ رد على بعض المتشنجين الذين تتسع دائرة المحرمات عندهم حتى تصل إلى كل شيء. 3 - إن على الحركة الإسلامية المعاصرة أن تأتي الناس من حيث يعرفون بما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ولا يناقض نصاً ولا فتوى ولا شورى، فتلك هي مصلحة الإسلام والمسلمين في عصرنا، وليس العكس كما يحلو لبعضهم أن يصور، فليس مطلوباً منا أن

_ لاتجار حرمة إلا بإذن أهلها: ليس لأحد أن يجير ذات حرمة لغيره إلا بإذن أهلها. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلهُمْ: على كل قوم أن يدافعوا عن المدينة من جهتهم إذا دوهمت.

نصارع كل شيء ولا أن نغيّر كل شيء والقدر الذي يجب ان نغيره لسنا مطالبين بتغيره طفرة واحدة، فهناك قضايا للإسلام فيها أكثر من حكم على حسب الضعف والقوة، وهناك رخصة وعزيمة، وأحكام أصلية استثنائية، وأنت مطالب بالممكن والمستطاع، على حسب المرحلة والقدرة، والفتوى والشورى من أهلهما هما اللذان يضبطان السير. 4 - إن فقه التحالفات وفقه الجهاد يشكلان الأساسين النظريين لاندفاعة الحركة الإسلامية فما لم تدرك الجماعة الإسلامية دقائق هذا الفقه فإن حركتها تكون تكون قاصرة أو عاجزة أو مبتورة. 5 - علق الدكتور السباعي حول الوثيقة فقال: وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترد على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم - من مواطني الدولة الإسلامية - هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أينما قامت، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ وأعدلها، وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول، وتعيش في ظلاه الشعوب، وإن العمل في عصرنا هذا لإقامة دول في مجتمعنا الإسلامي ترتكز قواعدها على مبادئ لإسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الإنساني في مفهوم الدولة، عدا أنه يحقق للمسلمين بناء منجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها. وأياً ما كان فإن من مصلحتنا أن تبني الدولة عندنا على أساس الإسلام، وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا، والإسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الإسلامي، ولا يضطهد عقائدهم، ولا ينتقص من حقوقهم، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الإسلامية بتنفيذ شرائع الإسلام وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن نخلص من الاستعمار، إلا بالمناداة

بالإسلام، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (5). 6 - ومن تعليقات الدكتور سعيد رمضان البوطي على هذه الوثيقة ننقل ما يلي: إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث، على هذه الوثيقة، وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعني بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارجك أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين. وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثمن جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت - منذ أول بزوغ فجرها - على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية. ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية، ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا ديناً قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء، وهي أحبولة عتيقة، كاني قصد منها محترفو الغزو الفكري وأرقاء الاستعمار، أن يقيدوا بها الإسلام كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات

_ (1) الأعراف: 96. (2) الأنعام: 153. (3) الطلاق: 2. (4) الطلاق: 4. (5) الطلاق: 5.

الإسلامية، ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى، إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام ديناً لا دولة، وعبادات مجردة، لا تشريعاً وقوانين. وحتى لو كان الإسلام ديناً ودولة في الواقع، فينبغي أن يتقلب فيصبح غير صالح لذلك، ولو بأكاذيب القول. إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عيه وسلم لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمنكر والغدر والخديعة، فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة. وقد دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة في الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلي: - يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذي يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، تفهم هذا جلياً واضحاً من قوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس". - إنها تدل على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين لا من حيث إنها شعار براق للدعاية والعرض، بل من حيث إنها ركن من الأركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامي، يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة. - كما تدل أيضاً على أن الحكم العدل الذي لا ينبغي للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره، في سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومهما بحثوا عن الحلول لمشاكلهم في غير هذا المصدر فهم آثمون، معرضون أنفسهم للشقاء في الدنيا وعذاب الله تعالى في الآخرة. * * *

فصل: في البيعة

فصل: في البيعة 252 - * روى أحمد عن أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، جمع نساء الأنصار في بيتٍ، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن، فرددن السلام فقال: "أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن" فقُلن مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تُبايعن على أنْ لا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكُن ولا تأتين ببهتان تفترينه ين أيديكن وأرجلكُن ولا تعصين في معروف" قلن: نعم فمد عُمرُ يده من خارج الباب، ومددن هُن أيديهن من داخل، ثم قال "اللهم اشهد" وأمر أن نخرج في العيدين العُتق والحُيِّضَ ونُهينا عن اتباع الجنائز، ولا جُمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوهِ ولا يعصينك في معروف، قال: "هي النياحةُ". قال في عون المعبود في باب ما جاء في البيعة: (فأعطته) أي المرأة الميثاق للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (1) قالت: ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا امرأة يملكها.

_ 252 - أحمد في مسنده (6/ 408). واورده الإما مالهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 38) وقال: رواه أبو داود باختصار شديد، ورواه أحمد وأبو يعلي والطبراني. أم عطية: اسمها نُسيبة بالتصغير، بنت الحارث الأنصارية صحابية مشهورة. أراد بقتل الأولاد: وأد البنات الذي كان يفعله (بعض العرب) في الجاهلية. (ولا يأتين ببهتان يفترينه ..) الآ] ة: المراد منه: من تلتقط مولوداً وتقول لزوجها: هذا ولدي منك. (ولا يعصينك في معروف ..) الآية: أي في كل أمر وافق طاعة الله وفي كل نهي عن معصية الله. الحيض: بوزن عتق جمع حائض وهي المرأة زمن الحيض. والمراد أنهن يشهدن الحبر ويكبرن مع المكبرين وإن كن لا يصلين. العتق: بضم العين المهملة وفتح المثناة فوق مشددة. جمع عاتق: هي الشامة أول ما تدرك وقيل: التي لم تبن من والديها ولم تتزوج ود أدركت وشبت. النوح: البكاء على الميت وتعديد محاسنه. وقيل: النوح بكاء مع الصوت ومنه ناح الحمام نوحاً. (1) الممتحنة: 12.

قال النووي: فيه دليل على أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف وأن صوتها ليس بعورة وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة، كتطبب وفصد وحجامة وقلع ضرس وكحل عين ونحوهما مما لا توجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة. 253 - * روى أحمدُ عن محمد بن الأسود بن خلفٍ، أن أباه حضر النبي يبايعُ الناس عند قرن مسقلة، فجاءه الرجالُ والنساءُ والصغارُ والكبارُ فبايعوه على الإسلام والشهادة. قيل: وما الشهادةُ؟ فقال محمدُ بن الأسودِ: شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. 254 - * روى أحمد عن سلمى بنت قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلَّتْ معه القبلتين وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار. قالت: جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته في نسوة من الأنصار، فلماش رط علينا أن لا نُشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروفٍ قال: "ولا تَغْشُشْنَ أزواجكُنَّ" قالت: فبايعناهُ ثم انصرفنا، فقلت لامرأةٍ منهُن ارجعي فاسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشُّ أزواجنا؟ قالت، فسألته، فقال: "تأخذ مالهُ فتُحابي به غيره". * * *

_ 253 - أحمد في مسنده (2/ 415)، والمعجم الكبير (1/ 280). مجمع الزوائد (6/ 37) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد باختصار ورجاله ثقات. 254 - أحمد في مسنده (6/ 379). بهتان: الكذب المفترى. ولا تغششن: من الغش: وهو ضد النصح، غشه: لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمره.

فصل: في الإذن بالقتال وبدء الحركة القتالية

فصل: في الإذن بالقتال وبدء الحركة القتالية الراجح عند علماء السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّك ثلاث سرايا في السنة الأولى للهجرة وهي سرية سيف البحر وكان على رأسها حمزة بن عبد المطلب، وسرية رابغ وكان على رأسها عبيدة بن الحارث بن المطلبن وسرية الخرار وكان على رأسها سعد بن أبي وقاص. وهذا يؤكد أن الإذن بالقتال كان في السنة الأولى للهجرة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (1). ومما يرجح أن الإذن بالقتال كان في السنة الأولى، أنه بالهجرة قامت دولة، ولا دولة إلا باستعداد لقتال، وفي أصول هذا الكتاب إشارات لهذه السرايا المذكورة وفيها ذكر لاستعداد قريش للحرب: 255 - * روى أحمدُ عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت جهينةُ فقالوا: إنك نزلت بين أظهُرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وتؤمنا، فأوثق لهم فأسلموا، فبعثنا صلى الله عله وسلم في رجب ولم نكن مائة وأمرنا أن نُغير على حيٍّ من كنانة إلى جنب جُهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيراً، فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لِمَ تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا: إنما نُقاتلُ من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعضٍ: ما تروْنَ؟ فقال بعضنا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فنخبره، وقال قوم: لا بل نُقيمُ ههنا، وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عِير قريشٍ فنقطعُها فانطلقنا إلى العير وكان الفيء إذ ذلك من أخذ شيئاً فهو له فانطلقنا إلى العر، وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمرِّ الوجه، فقال: "أذهبتم من عندي جميعاً وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلك الفُرقةُ، لأبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبرُكم على الجوع والعطش" فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أميرٍ أُمِّرَ في الإسلام.

_ (1) الحج: 39، 40. 255 - أحمد في مسنده (1/ 178) والحديث حسن على مذهب النسائي، وضعفه بعضهم.

أقول: هذا نموذج آخر على التحالفات والتعاقدات التي كان يجريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت لها ثمارها المباركة، وآثارها الطيبة على المسلمين. 256 - * روى الطبراني عن جبير بن مُطعم، قال أبو جهل حين قَدِمَ مكة مُنْصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يُصيب منكم شيئاً، فاحذروا أن تمروا طريقه وأن تُقاربوه فإنه كالأسد الضاري ... وزاد: بعث حمزة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا جهل في ثلاث مائة راكب في عير لقريش جاءت من الشام فحجز بينهم مجديُّ بن عوفٍ الجُهني ولم يكن قتال. وهذه رواية جبير كاملة: 257 - * روى الطبراني في الكبير عن جُبير بن مُطعم قال: قال أبو جهل بن هشامٍ حين قدِم مكة منصرفَهُ عن حمزة: يا معشر قريش إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه: وإنما يريدُ أن يُصيبُ منكم شيئاص فاحذروا أن متُروا طُرقه وأنْ تُقاربوه فإنه كالأسد الضاري إنه حنق عليكم، نقيتموه نقي القِردان على المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط، ولا حداً من أصحابه إلا رأيتَ معهُم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة فهو عدو استعان بعدوٍّ فقال له مطعِمُ بن عدي: يا أبا الحكم والله ما رأيت أحداً

_ 256 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 68) وقال: أخرجه الطبراني وجادة ورجاله ثقات. 257 - المعجم الكبير (2/ 123) قال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون صحيحاً. نقيتموه نقي القردان على المناسم: أي نقيتموه كما ينقي القردان على المناسم. والقردان: حشرة تلصق بجسم البعير، والمناسم: مفردها منسم: خف البعير. ابنا ليلة: يريد الأوس والخزرج قبيلتي الأنصار، وقيلة: اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كاهل. الحمتموهم خبر كنانة: افعلوا بهم كما فعلتم بكنانة في الحرب. دهلك: جزيرة بين بر اليمن وبر الحبشة وأهلها مستذلون. إن لي أسماء: أراد بهذه الأسماء التي عدها ما هو مذكور في كتب الله تعالى المنزلة على الأمم التي كذبت بنبوته حجة عليهم. يحذر الناس على يدي: أي الذي يحشر الناس خلفي وعلى ملتي دون ملة غيري. العاقب: الذي ليس بعده نبي.

أصدق لساناً ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طَردْتُم، فإذا فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكفِّ الناس عنه. فقال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه فإن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألحمتموهم خبر كنانة أو يخرجوا محمداً من بين أظهرهم فيكون وحيداً مطروداً. وأما ابنا قيلةٍ فوالله ما هما وأهل دهلكٍ في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم وقال: سأمنح جانباً مني غليظاً ... على ما كان من قُربٍ وبُعدِ رجالُ الخزرجية أهل ذلٍّ ... إذا ما كان هزلٌ بعد جدِّ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده لأقتلنهم ولأصلبنهم لأهدينهُم وهم كارهون إني رحمةٌ بعثني الله عز وجل ولا يتوفاني حتى يُظهر الله دينه. لي خمسةُ أسماء: أنا محمدُ وأحمدُ وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشرُ يحشر الناس على يدي وأنا العاقب". أقول: المطعم بن عدي وأبو سفيان كلاهما من أسرة النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد مناف، وكان المنطعم أوصل الرجلين لرحمه، وهو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف ودخوله مكة. والشاهد من ذكره أسماءه صلى الله عليه وسلم أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر، فهو واثق أنه لن يترك كافراً من قومه إلا أن يسلم أو يقتل. 258 - * روى الحاكم عن جابر بن سمرة قال: أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله سعدُ بن أبي وقاص. قال في الفتح: وورد عن البخاري جزء من حديث سعد: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله) قال: وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث، وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين، وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى

_ 258 - المستدرك (3/ 498) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

من الهجرة، بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم سابقة، فكان سهمه أول ما رمى. ذكر ذلك الزبير بن بكار بسند له وآخرون. أقول: هذا وهناك خلاف بين كتاب السير حول هذه السرايا الثلاث، هل كانت في السنة الأولى أو الثانية، وأيها كانت أولاً، وقد رجح ابن كثير أنها كانت في السنة الأولى، وقد نص كتاب السير على أن سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث لم يكن فيهما أنصاري واحد، وذلك من حكمته عليه الصلاة والسلام. فمن خلال تحرك الرعيل الأول للجهاد تبدأ دائرة الحركة الجهادية تتوسع وتبدأ الروح الجهادية تعم، ثم إن المهاجرين كانوا معبئين نفسياً للصراع مع قريش، كما أنهم بحاجة إلى أن يتحرروا من مظاهر الضعف وأسر الاضطهاد، وهذه قضايا يجب أن يفطن لها القادة، فنقل الأمة من طور السلم إلى طور الحرب، ونقل الجماعات من طور الاضطهاد إلى دور الجهاد ينبغي أن تصحبه تمهيدات تعين عليه، وبمثل هذا تظهر حكمة القيادات، وكل قيادة لا تراعي الجوانب النفسية تخفق. ويلاحظ أنه بمجرد إذن الله بالقتال بدأت الحركة العسكرية، فلم ينظر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يفرض القتال، وهذا شيء ينبغي أن تراعيه القيادات الإسلامية، فمتى أصبح الجهاد ممكناً فليكن سير فيه، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى موازنات كثيرة محلية وعالمية فما يصلح لمكان لا يصلح لمكان، وما يصلح في زمان لا يصلح في زمان آخر، وتقدير الموقف واتخاذ القرار المناسب هما علامتا جدية القيادات وكفاءتها. ومن موقف أبي جهل ورد المطعم بن عدي عليه نعرف حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية، فأن تجعل من خصومك من يدافع عنك، وأن تلقي الرعب في قلب عدوك، تلك قمة من قمم النجاح السياسي والعسكري، وهكذا كانت البدايات ناجحة. * * *

فصل: في أمور متفرقة حدثت في السنة الأولى

فصل: في أمور متفرقة حدثت في السنة الأولى هناك أحداث ذات دلالات حدثت في هذه السنة يحسن ذكرها: 1 - إسلام عبد الله بن سلام: 259 - * روى ابن ماجه عن عبد الله بن سلام قال: لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناسُ إليه، وقيل: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتُ في النسا لأنظر إليه، فلما استبنتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذابٍ، فكان أول شيء تكلم به، أن قال: "يا أيها الناسُ أفشُواالسلام، وأطعِمُوا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلامٍ". 260 - * روى البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بنُ سلام فقال؛ أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يُهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمُهم وابن أعْلمِهم فادعهُم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت فإنهم إنْ يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس فيِّ. فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وأني جئتكم فأسلمُوا" قالوا: ما نعلمه. قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مِرار. قال "فأيُّ رجُل فيكم عبد الله بنُ سلام" قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابنُ أعلمنا. قال: "أفرأيتم إن أسلم" قالوا: حاش لله ما كان ليُسْلَم. قال "يا ابن سلام أخرج عليهم" فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله الذي لا

_ 259 - ابن ماجه (1/ 423) 5 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - 174 - باب ما جاء في قيام الليل. والترمذي (4/ 652) 38 - كتاب صفة القيامة - باب: 42. وقال: حديث صحيح. الجفل الناس: أقبل النسا لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفشوا: انشروا. 260 - البخاري (7/ 349) - 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وهذا جزء من الحديث.

إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق فقالوا: كذبت فأخرجهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 261 - * روى الإمام أحمدُ عن عبد الله بن سلام قال: لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبِرَ عبدُ الله بقدومه وهو في نخل فأتاه، فقال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي فإن أخبرتني بها آمنتُ بك وإن لم تعلمهن عرفتُ أنك لست نبي، قال: فسأله عن الشبه وعن أول شيء يأكله أهلُ الجنة وعن أول شيء يحشُر الناس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبرني بهن جبريلُ آنفاً، قال: ذاك عدو اليهود، قال: أما الشبه إذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأةِ ذهب بالشبه وإذا سبق ماءُ المرأة ماء الرجل ذهبت بالشبه، وأما أول شيء يأكله أهل الجنة فزيادةُ كبدٍ الحوتِ، وأما أول شيء يحشُرُ الناس فنارٌ تخرجُ من قِبَلِ المشرق فتحشرهم إلى المغرب" فآمن، وقال: أشهد إنك رسول الله. قال ابن سلام: يا رسول الله إن اليهود قومٌ بهتٌ وإنهم إن سمعوا بإسلامي يبهتوني فأخبئني عندك وابعث إليهم فتسألهم عني فخبأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم فجاؤوا فقال: "أيُّ رجل عبدُ الله بنُ سلامٍ فيكم" قالوا: هو خيرُنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا. فقال: "أرأيتم إنْ أسلم تُسلمون" فقالوا: أعاذه الله من ذلك فقال: "يا عبد الله بن سلام اخرج إليهم فأخبرهم" فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا: أشرُنا وابن أشرِنا وجاهلنا وابن جاهلنا فقال ابن سلام: قد أخبرتُك يا رسول الله إن اليهود قومُ بهتٌ. أقول: إن إسلام عبد الله بن سلام على علمه ومعرفته بعلامات النبوة، وبعد امتحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حجة كاملة على يهود وعلى غيرهم، فهذا الموقف هو استجابة الفطرة السليمة والإنصاف الكامل، ومتى اجتمعنا عند فرد من أهل الكتاب فإنه لابد مسلم. ومن النصوص التي يخطئ في فهمها بعض الناس قوله عليه الصلاة والسلام: طوأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع ... " فالسبق ههنا - والله أعلم - سبق قوة فإذا

_ 261 - أحمد في مسنده (271). بهتوني: بهت فلاناً: قذفه بالباطل.

2 - خروج وباء المدينة منها

كانت بويضة الأنثى أقوى من الحيوان المنوي تغلبت خصائص المرأة على خصائص الرجل فشابهها الولد والعكس صحيح. * * * 2 - خروج وباء المدينة منها: 262 - * وروى البخاري عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة، حتى قامت بميهعة" وهي الجُحفة، فأولتُ: أن وباء المدينة نقل إليها. أقول: انتقال وباء المدينة إلى الجحفة كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثراً عن بركته عليه الصلاة والسلام، ولكنا نأخذ منه درساً كبيراً؛ لأنه كان من فعل الله لرسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن على الحركة الإسلامية أن تعمل جاهدة من أجل إيجاد نظام صحي رفيع المستوى، فإن كانت لها سلطة فعليها ان تبذل الجهود الكثيرة في ذلك، وفي كل الأحوال عليها أن تساعد. * * * 3 - دخوله عليه الصلاة والسلام بعائشة: 263 - * روى مسلم عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في

_ 263 - البخاري (12/ 425) 91 - كتاب التعبير - 41 - باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كوة وأسكنه موضعاً آخر، والترمذي (4/ 541) 30 - كتاب الرؤيا - 10 - باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو. قال: حديث حسن صحيح غريب. ثائرة الرأس: أي شعثة الشعر، بعيدة العهد بالتسريح والغسل. الجحفة: موضع بالحجاز على ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة، وهي ميقات أهل الشام واكنت تسمى قديماً مهيعة، وقد هجرت ولم يبق إلا آثارها، وقد بُني فيها مسجدُ حديثاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقص علينا في هذا الحديث رؤيا منامية رآها ورؤيا الأنبياء وحي، ويبدو أن وباء المدينة كان مرض الملاريا الذي أصاب الصحابة أول هجرتهم ومنهم أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة وعائشة. 263 - مسلم (2/ 1029) 16 - كتاب النكاح - 11 - باب: استحباب التزوج والتزويج في شوال، واستحباب الدخول فيه.

4 - تشريع الأذان وإكمال الصلاة

شوال، فأيُّ نساء رسول الله صلى الله علي هوسلم كان أحظى عنده مني. قال: وكانت عائشة تستحبُّ أنْ تدخل نساءها في شوال. قال ابن كثير في البداية والنهاية: فعلى هذا يكون دخوله به عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر - أو ثمانية أشهر - وقد حكى القولين ابن جرير، وقد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعدما قدموا المدينة وأن دخوله بها كان بالسُّنْح نهاراً، وهذا خلاف ما يعتاده النسا اليوم، وفي دخوله عليه السلام بها في شوال رد لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين اليعدين خشية المفارقة بين الزوجين، وهذا ليس بشيء لما قالته عائشة رادة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت: تزوجني في شوال. وبنى بي في شوال - أي دخل بي - في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟ فدل هذا على أنها فهمت منه عليه السلام أنها أحب نسائه إليه، وهذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إل الحديث الثابت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص: قلتُ: يا رسول الله أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: "عائشة" قلت مِنَ الرجال قال: "أبوها". أقول: والملاحظ أن الدعوة والجهاد والتربية وما يترتب على ذلك من تعب وأحزان لم يعطل الزواج في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل الزواج والإكثار منه كان عادياً جداً في الزواج في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يؤخرهم عن واجب. * * * 4 - تشريع الأذان وإكمال الصلاة: 264 - * روى أبو داود عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 264 - أبو داود (1/ 135) كتاب الصلاة - باب: كيف الأذان. وابن ماجه (1/ 232) 3 - كتاب الأذان والسنة فيها - 1 - باب بدء الأذان. ... =

بالاناقُوس يُعمل ليضرب به للناس لجمع للصلاة (وفي رواية وهو كاره لموافقته النصارى) طاف بي وأنا نائم رجلٌ يحملُ ناقوساً في يده فقلتُ: يا عبد الله أتبيعُ الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ فقلتُ: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدُلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: تقول، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبرُ، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهد ان لا إله إلا الله، أشهدُ أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبرُ، أشهدُ أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاةُ، قد قامت الصلاةُ، الله أكبرُ، الله أكبرُ، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك" فقمت مع بلال، فجعلتُ ألقيه عليه ويؤذنُ به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجرُّ رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمدُ". وعنه من طريق ثان بنحوه وزاد: ثم أمر بالتأذين فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قال، فجاءه فدعاهُ ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيب فأُدخلتْ هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر (أدخل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم). 265 - * روى البخاري عن عائشة قالت: فُرضت الصلاة أول ما فُرضت ركعتينِ،

_ = وأحمد في مسنده (4/ 431) والبيهقي (1/ 290). وابن خزيمة (1/ 189) كتاب الصلاة - 31 - باب في بدء الأذان والإقامة. أندى صوتاً: فيه دليل على اختيار المؤذن الحسن الصوت، وليس من الحكمة الأذان بالأصوات الرديئة المنفرة في بعض أقطار الإسلام وكان بلال قبل إسلامه مغنياً حسن الصوت بالغناء. 265 - البخاري (1/ 464) 8 - كتاب الصلاة - 1 - 1 باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ ... =

5 - حراسة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

فأقرت صلاة السفرِ، وزيد في صلاة الحضرِ. قال ابن جرير: (وفي هذه السنة - يعني السنة الأولى من الهجرة - زيد في صلاة الحضر - فيما قبل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، ذلك بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر في ربيع الآخر لمضي ثنتي عشرة ليلة مضت). أقول: إن دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً تقوم على العبادة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) والعبادة مظهرها الأول الصلاة، لذلك كان تشريع الصلاة وتنظيمها وإقامتها من أوائل ما وقع في الإسلام، ومما استمر به اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء يجب أن يفطن له الدعاة دائماً وأبداً، والصلاة لابد لها مع التأقيت من منظم، ولقد كان الأذان هو المنظم وقد رأينا قصته وستأتي معنا في باب الصلاة أحكامه. ومن استقرار أمر الصلاة في السنة الأولى ندرك أن أول ما ينبغي أن تهتم به الحركة الإسلامية قبل النصر وبعد النصر هو إقامة الصلاة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) * * * 5 - حراسة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: 266 - * روى مسلمعن عبد الله بن عامر رحمه الله قال: سمعتُ عائشة تقول: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمهُ المدينة ليلةً، فقال: "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني

_ = ومسلم (1/ 478) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 1 - باب: صلاة المسافرين وقصرها. (1) الأنبياء: 25. (2) الحج: 41. 266 - مسلم (4/ 1875) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. والبخاري (13/ 219) 94 - كتاب التمني - 4 - باب قوله صلى الله عليه وسلم "ليت كذا وكذا" خشخشة سلاح: صوت سلاح صدم بعضه بعضاً. غطيطه: هو بالغين المعجمة، وهو صوت النائم المرتفع.

الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك، سمعنا خشخشة سلاح، فقال: "مَنْ هذا؟ " قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟ " قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتُ أحرسُه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام. وفي رواية نحوه، وفي آخره: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غطيطه. هذا الحديث فيه جواز الاحتراس من العدو والأخذ بالحزم وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط. قال العلماء: وكان هذا الحيدث قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته، وقد صرح بروايته الثانية بأن هذا الحديث الأول كان في أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان. وقد نقل الشيخ الشعراوي أن مستشرقاً أسلم بسبب هذا الموضوع وقال: إن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بحراسته ثم صرفه للحرس بعد ذلك بعد نزول الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أكبر دليل على صدقه في رسالته عن الله فأي عاقل يصرف حراسه وله آلاف الأعداء الموتورين إلا أن يكون واثقاً من حراسة الله عز وجل له. أقول: هذا وإن مما أمر الله عز وجل به المسلم أن يأخذ حذره قال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) فالمسلم مطالب بالتوكل ومطالب بأخذ الأسباب، وليس الكمال أن يفرط الإنسان في الأخذ بأسباب الأمن، هذا رسول الله صلى الله عيه وسلم أكمل الخلق يرغب في الحراسة. إن أمن القيادات يشكل جزءاً هاماً من أمن الشعوب والهيئات والحكومات وأفراد الجماعات نفسها، فكثيراً ماي عني وجود جهة ما بقاء قيادتها، وعلى هذا فإن علينا أن نعطي لأمن القيادات دائماً الكبير الكثير ووسائل ذلك متعددة، وبعض هذه الوسائل يصلح لما قبل الحكم وبعضها يصلح لما بعد الحكم، ويزداد الطلب لأمن القيادات بعد الحكم، لأن الحكم الإسلامي نفسه يُستهدف من خلال استهداف العناصر القيادية.

_ (1) المائدة: 17. (2) النساء: 102.

تقويم الموقف في نهاية السنة الأولى

تقويم الموقف في نهاية السنة الأولى تنتهي السنة الأولى وقد نظم الرسول صلى الله عليه وسلم أمور العبادة والاجتماع والصلة التوجيهية المباشرة بالأمة، كما صهر بين المهاجرين والأنصار وجعل المسلمين صفاً واحداً وأوجد علاقات منضبطة بين المسلمين وغيرهم داخل المجتمع المدني، وبدأ تحركات واسعة خارج المدينة هدفها توسعة دائرة أمن المدينة، وفتح الطيق أمام انتشار الإسلام، والضغط على قريش، وأوجد لمناخ الكامل لتلقي الأحكام والخضوع لها، فأوجد بذلك كل مقومات الدولة النموذجية: أرض ودستور وقوانين وجيش ودعوة ورسالة وهدف. على رأس ذلك كله رئيس يسلم له الجميع، وبدأت بذلك علمية مدّ الرسالة من خلال أمة لم يعرف لها العالم مثيلاً. * * *

السنة الثانية للهجرة

السنة الثانية للهجرة

هذه السنة في سطور

هذه السنة في سطور حُوّلت في هذه السنة القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ونزلت فريضة صيام شهر رمضان، وفرضت زكوات الأموال وزكاة الفطر، وتم تشريع المعاقل لتصفية آثار القتل الخطأ وتوفيت رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان عقب غزوة بدر، وقدمت زينب بنت رسول الله مهاجرة من مكة إلى المدينة، وتزوج علي رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحركة السياسية متمثلة في التحالفات، والحركة العسكرية متمثلة في البعوث والسرايا والغزوات على أشدهما؛ فتحقق من خلال ذلك كله: أن توسعت دائرة الأمن والنفوذ للدولة الإسلامية وأصبحت سيطرة المسلمين على الطريق بين مكة والشام كاملة، ولذلك حاولت قريش أن ترسل تجارتها بعد بدر عبر العراق ومع ذلك سقطت بيد المسلمين، وترتب على ذلك تلقائياً أن تأخذ المعارك منحى أكثر شدة وأوعب تعبئة، وهذا عرض سريع للتحالفات، وللحركة العسكرية لهذا العام كما عرضهما كتاب السير، مع ملاحظة أن في تاريخ بعض السرايا والغزوات خلافاً بين كتاب السير، وهو خلاف لا يترتب عليه عمل؛ لذلك لم نشدد فيه. * * * 1 - في تحالفات هذا العام: قال ابن كثير في البداية والنهاية: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة. قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودَّان وهي غزوة الأبواء، قال ابن جريرك ويقال لها غزوة وُدان أيضاً، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانةن فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمان ذلك. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً فأقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول. قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها عليه السلام. وقال ابن كثير نقلاً عن ابن إسحاق: نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جُمادى

2 - في الحركة العسكرية

الأولى وليالي من جمادي الآخرة، ووداع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. 2 - في الحركة العسكرية: حدث في هذا العام: 1 - غزوة الأبواء أو ودان: في صفر سنة 2 هـ - وودان بالفتح والتشديد - موضع بين مكة والمدينة بينه وبين رابغ مما يلي المدينة تسعة وعشرون ميلاً، والأبواء موضع بالقرب من ودان. قال في الرحيق المختوم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن استخلف على المدينة سعد ابن عبادة في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً. أهـ. وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع مَخْشِيٍّ بن عمرو الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهاك نص المعاهدة: هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، مابَلِّ بحر صُوفة (1). وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه. (المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني). وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب. 2 - غزوة بُواط: في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ الموافق سبتمبر سنة 624 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواطاً من ناحية رضوى (2) ولم يلق كيداً.

_ (1) ما بل بحر صوفة: تعبير دارج عند العرب بمعنى على الدوام. (2) بواط ورضوى: جبلان بينهما وبين المدينة أربعة برد.

واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه. 3 - غزوة سَفْوان: في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ الموافق سبتمبر (أيلول) سنة 623 م، أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله على ابن أبي طالب. 4 - غزوة ذي العُشيرة: في جمادي الأولى، وجمادي الآخرة سنة 2 هـ الموافق نوفمبر وديسمبر (تشرين الثاني وكانوا الأول) سنة 623 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش، فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادي الأولى، ورجوعه في أوائل جمادي الآخرة على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة. (وبعضهم يرى أن هذه الغزوة هي نفسها غزوة وَدَّان). وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء في هذه الغزوة أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. 5 - سرية نخلة: في رجب سنة 2 هـ الموافق يناير سنة 624 م، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين يعتقبان

على بعير. 6 - في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة حدثت واقعة بدر، وكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في 8 أو في 12 من الشهر. 7 - قال في الرحيق: نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها للغزو على المدينة، فباغت النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب هذه القبائل المتحشدة في عقر دارها، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له الكَدْر (1). ففر بنو سليم وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاماً يقال له (يسار) فأعتقه. وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سباع بن عرفطة. وقيل: ابن أم مكتوم. 8 - وفي شوال سنة 2 هـ حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع بعد نقضهم للعهد، فنزلوا على حكمه فأجلاهم إلى الشام. 9 - وفي هذه السة حاول عمير بن وهب الجمحي اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف، وكاشفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسراره فأسلم. 10 - وفي ذي الحجة سنة 2 هـ حدثت غزوة السويق كرد على محاولة قريش أخذ ثأرها من بدر فارتدت على أعقابها هاربة ملاحقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال في الرحيق: وقصة ذلك أنه بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامرتهم وعملياتهم كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل للغارم ظاهر الأثر، يتعجل به، ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً. فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد (2) أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام

_ (1) الكدر: اسم ماء لبني سليم قبل نجد. (2) البريد: اثنا عشر ميلاً.

بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حُيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم - سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك - فاستأذن عليه فأذن. فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج ابو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها "العُرَيْض"، فقطعوا وأحرقوا هناك أسواراً من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً (1) كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر (2)، ثم انصرف راجعاً، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر. أهـ. * * * * وهكذا نجد في هذه السنة تلاحم عملية البناء للأمة مع الحركة السياسية والعسكرية على أشدها فالمسلمون في حركة عسكرية دائمة، ومع هذه الحركة حركة سياسية تظهر بالتحالفات وقطع الطريق على تألب الأعداء أو غدرهم مع تنزل التشريع شيئاً فشيئاً بما يعمق الوحدة وينير الطريق لتقوم صروح التشريع الإسلامي على أرضية الواقع والخلود. * وبسبب من الانتصارات في هذه السنة فقد دخل مشركو المدينة في الإسلام، فمنهم صادق ومنهم كاذب ومن ههنا بدأت ظاهرة النفاق في المدينة المنورة. * ومن خلال الحركة السياسية والعسكرية ندرك أن: الحكم والدولة والسياسة تحتاج إلى يقظة وسهر دائم وأخذ بالأسباب وقوة مبادرة وكل ذلك نجده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على

_ (1) السويق: أن تحمص الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك ثم تطحن ثم يسافر بها وقد تمزج باللبن والعسل والسمن وإلا فبالماء. (2) قرقرة: الكدر: موضع بناحية المعدن، بينها وبين المينة ثمانية فرد.

أكمله، وهناك تصرفات فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكون منسوخة، ولكن بقى المنحى العام الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّةً ينبغي أخذها بعين الاعتبار، فالحركة الدائمة والتحالفات المستمرة سمتان ينبغي أن تفطن لهما الحركة الإسلامية المعاصرة مع الأخذ بعين الاعتبار الشورى والفتوى والمصلحة الإسلامية العليا. * إن الذين يشتغلون بالعمل السياسي والعسكري يصبح في حكم البديهي عندهم أن النجاح في المعركة يقتضي أن تقطع طرق الإمداد عن عدوِّك، وأن تخذل عنه ما استطعت، وأن تبقي طرق إمندادك مفتوحة وتجمع حولك ما استطعت، ومن لم تستطع أن تحشده معك فلا أقل أن تُحيده ف يمعركتك مع خصمك الرئيسي، وبقدر نجاح القائد العسكري أو السياسي في مثل هذه الأمور تظهر عبقريته، وقليلون من الساسة والعسكريين هم الذين يستطيعون أن يحققوا هذه المعاني متكاملة دون أن يرتكبوا خطأ، وأقل من القليل الذين يستطيعون أن يفعلوا ذلك دون أن يتناقضوا مع دعواتهم ورسالتهم إن كان لهم دعوة أو رسالة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقق هذه المعاني مجتمعة على كمالها وتمامها، فأي شرف لهذا العالم أن يكون فيه مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأي قدوة للإنسان هذا الرسول؟. * وكل العسكريين والسياسيين يدركون أهمية الحركة الداخلية والخارجية في حياة الشعوب والجيوش كما يدركون أهمية التوعية والتربية والثقافة، ولكن القلة هي التي تقدر على أن توائم بين هذه المعاني فتحققها جميعاً، وأقل من القليل هم الذي تكون توعيتهم وتربيتهم وتثقيفهم حقاً وحركتهم ضمن الحدود التي لا تزيد ولا تنقص عن القدر المطلوب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقق هذه المعاني كلها على غاية من الكمال ما كانت لتكن لولا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما حدث في هذه السنة نموذج، ولا يعرف أحد أبعاد هذه المعاني إلا إذا استوعب نصوص الكتاب والسنة واستوعب دروس السيرة. * ولما كان كثير من مواضيع السيرة تأتي في أمكنة متفرقة من كتب السنة، فنحن ههنا لن نتحدث عن الصغيرة والكبيرة من الحوادث والأحكام فلذلك مقاماته في هذا الكتاب، ولذلك سنقتصر ههنا على أبرز الأحداث.

فصل: في سرية عبد الله بن جحش

فصل: في سرية عبد الله بن جحش 267 - * روى الطبراني عن جُندبِ بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة فلما ذهب لينطلق، بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فبعث عليهم عبد الله بن جحش مكانهُ، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى بيبلغ مكان كذا وكذا، وقال: "لا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك"، فلما قرأ الكتبا استرجع وقال: سمعٌ وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادي، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية. فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1). 268 - * روى الطبراني عن زيد قال: أول رايةٍ رُفعت في الإسلام رايةُ عبد الله بن جحش، وأول مالٍ خُمس في الإسلام مالُ عبد الله بن جحش. لقد رأينا أن هناك سرايا سبقت سرية عبد الله بن جحش هذه، كما أن هناك غزوة قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وهي غزوة العشيرة، وكانت قبل هذه السرية فالأولية بالنسبة لعلم الراوي، على كل الأحوال فلسرية عبد الله بن جحش هذه أهمية كبيرة في التاريخ؛ فهي التي مهدت لتجاوز فكرة تحريم القتال في الأشهر الحرم، فلقد انطلق الصحابة بعد ذلك وكل أيامهم جهاد، ولو بقيت فكرة تحريم القتال في الأشهر الحرم وهي تلك السنة لأصيب المسلمون بالحرج، ومع ذلك فقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاحظ قدسية الأشهر الحرم

_ 267 - المعجم الكبير (2/ 162). مجمع الزوائد (6/ 198) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. الرهط: الجماعة من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة. صبابة: الشوق أو رقته وحرارته. استرجع: عن مصيبة وفيها أرجع، وأرجع في المصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. (1) البقرة: 218. 268 - أورده الهيثمي (6/ 67) وقال رواه الطبراني بإسناد حسن.

دروس من هذه السرية

عند العرب وتجنبهم فيها القتال وذلك من مراعاة للرأي العام، وبعضهم يرى أن نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم جاء متأخراً ولا أرى ذلك. * * * دروس من هذه السرية: 1 - قال الشيخ الغزالي تعليقاً على هذه الحادثة: ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (1) إن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسملين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتُهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم؟ لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته، فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضُها هدم القوانين والدساتير جميعاً. فالقانون المرعي - عنده في الحقيقة - هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب. وقد أوضح الله عز وجل أن المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضي في خطتهم الأصلية، وهي سحق المسلمين، حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2). ثم حذر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط في الإيمان الذي شرفهم

_ (1) البقرة: 217. (2) البقر: 217.

الله به، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1). وزكى القرآن عمل "عبد الله" وصحبه، فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة؛ متعرضين للقتل في سبيل الله متطوعين لذلك من غير مكره أو محرج. فكيف يُجزن على هذا بالتقريع والتخويف؟ قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2). والقرآن في فعال هذه السرية، لم يدع مجالاً للهوادة مع المشركين المعتمدين مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم. فبعد أن كان أغلب المكتتبين في السرايا السابقة من المهاجرين، أخذت البعوث الخارجة تتألف من المهاجرين والأنصار معاً. وزاد الشعور بأن الكفاح المرتقب قد يطول مداه، وتكثر تبعاته، ولكنه كفاح مستحب، مقرون بالخير العاجل والآجل. وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جد أو يجد من سيئاتها، وأن تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين. وهكذا اتسعت الهوة، وزادت بين الفريقين الجفوة. وكأن هذه الأحاديث الشداد هي المقدمة لما أعده القدر بعد شهر واحد من وقوعها عندما جمع رجالات مكة. وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور في "بدر".

_ (1) البقرة: 217. (2) البقرة: 218.

الحكمة في السرايا

3 - لقد جاء قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} قبيل الآية التي تحدثت عن سرية عبد الله بن جحش {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} وقد ربطنا في تفسيرنا بين آية القتال ههنا وبين سورة الأنفال ربطاً غير متعسف ولا متكلف، فههنا يأتي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (1) وفي سورة الأنفال يأتي قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (2) فغزوة بدر كانت هي المصداقية لحكمة فرضية القتال، فهي التي صدقت أن القتال وإن كان مكروهاً للنفس البشرية لكن فيه خيراً لأهل الإيمان، وبدر هي الدليل، فكم ترتب من خير على غزوة بدر. * * * الحكمة في السرايا: كان مما قاله الدكتور محمد أبو فارس حول فوائد إرسال السرايا والماوشات الأولى: - إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم وعلى المستوى الخارجي: فهم مظلومون مطاردون قد صودرت أموالهم وضيق عليهم في حرية التفكير والقول والتعبد، وبالتالي كان لابد من إحيائها في نفوسهم ليسمعوها للآخرين، وأنه بدون السلاح لا يمكن أن يعطي الآخرون أذناً صاغية للمستضعفين. - إنهاك الاقتصاد القرشي ومحاصرته، فقد كانت قريش تعتمد على التجارة وكذلك استعادة بعض الحقوق المسلوبة. - إضعاف قريش عسكرياً وتوجيه ضربة قاصمة لسمعة قريش لإلقاء الرعب في صفوف مقاتليها وإرباكهم. - رفع معنويات المهاجرين وجعلهم يحطمون الخوف، وإلقاء الرعب في نفوس المشركين

_ (1) البقرة: 216. (2) الأنفال: 5.

وتحطيم معنوياتهم ورصد تحركات قريش. - التعرف على طبيعة الأرض التي سيقاتلون عليها. - وهذه المناوشات استمرار للتدريب العملي وتريبة الكفاءة القتالية عند الجنود في التخطيط والتنفيذ، وفيها تعويد على السرية في التحرك والقتال، وفيها اختبار للرجال والتعرف على معادنهم. - وفي المناوشات إرهاب العدو الداخلي في المدينة، وإضعاف جبهة الأعداء الخارجية، مع اختبار قدرة العدو، وفوائد أخرى. * * *

فصل: في تحويل القبلة

فصل: في تحويل القبلة قال صاحب الرحيق المختوم: في شعبان سنة 2 هـ الموافق فبراير (شباط) 624 هـ، أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين، لإثارة البلبلة انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. وفي تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا ينتهي إلا بعد احتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فلابد من تخليصها يوماً ما. 269 - * روى البخاري عن البارء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس سنة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً وكان يُعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قومٌ، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - قِبلَ مكة فداروا كما هم قِبَلَ البيت. قال: وفي رواية: وكان الذي مات على القبلة - قبل أن تُحول قِبَلَ البيت - رجالٌ قتلوا لم ندر ما نقول فيهم؟ فأنزل الله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1). وفي أخرى (2): وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس - وهم اليهودُ - {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3).

_ 269 - البخاري (8/ 171) 65 - كتاب التفسير - 12 - باب: (سيقول السفهاء من الناس ...). (1) البقرة: 143. (2) البخاري (1/ 502) - 8 كتاب الصلاة - 31 - باب التوجه نحو القبلة حيث كان. (3) البقرة: 142.

وأخرجه الترمذي (1) قال: لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صلى نحو بيت المقدس سِتة، أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تبارك وتعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) فوجه نحو الكعبة، وكان يُحب ذلك، فصلى رجُل معه العصر، ثم مر على قومٍ من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وُجه إلى الكعبةِ، فانحرفوا وهم رُكوعٌ. وأخرجه النسائي (3) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم إنه وُجه إلى الكعبة، فمر رجلٌ قد كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على قومٍ من الأنصار، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُجه إلى الكعبةِ، فانحرفُوا إلى الكعبة. 270 - * روى الطبراني عن تُويلة بنت أسلم وهي من المبايعات قالت: إنا لبمقامنا نُصلي في بني حاثة، فقال عبادُ بن بشر بن قبطي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام والكعبة، فتحول الرجال مكان النساء والسناء مكان الرجال، فصلوا الركعتين الباقيتين نحو الكعبة. 271 - * روى الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي قِبَلَ بيت المقدس، فلما حُوِّل انطلق رجل إلى أهل قُباء فوجدهم يصلون صلاة الغداة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يُصلى إلى الكعبة فاستدار إمامهم حتى استقبل بهم القبلة.

_ (1) الترمذي (3/ 169) أبواب الصلاة - باب ما جاء في ابتداء القبلة وقال: حديث حسن صحيح وكذا في (5/ 207) كتاب تفسير القرآن - 1 - باب: ومن سورة لابقرة. قِبَل البيت: أي حذاءه، وجهته التي تقابله. شطر الشيء: جهته ونحوه. (2) البقرة: 144. (3) النسائي (1/ 243) كتاب الصلاة - باب فرض القبلة. 270 - المعجم الكبير (24/ 207). أورده الهيثمي (2/ 14) وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. 271 - أورده الهيثمي (2/ 14) وقال: رواه الطبراني ورجاله موثقون. صلاة الغداة: هي صلاة الفجر.

دروس في تحويل القبلة

دروس في تحويل القبلة: 1 - قال الأستاذ الندوي: وكان المسلمون العرب - وقد رضعوا بلبان حب الكعبة وتعظيمها، وامتزج ذلك بلحومهم ودمائهم - لا يعدلون بالكعبة بيتاً، ولا بقبلة إبراهيم وإسماعيل قبلة، وكانوا يحبون أن يصرف إلى الكعبة، وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس محنة للمسلمين، ولكنهم قالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا، فلم يكونوا يعرفون إلا الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخضوع لأوامر الله، وافقت هواهم أم لم توافقها، واتفقت مع عاداتهم أم لم تتفق. فلما امتحن الله قلوبهم للتقوى واستسلامهم لأمر الله، صرف رسوله والمسلمين إلى الكعبة يقول القرآن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (1). 2 - إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها الترايخي ... فبعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنه مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان. * * *

_ (1) البقرة: 143.

عدد غزواته صلى الله عليه وسلم

عدد غزواته صلى الله عليه وسلم: 272 - * روى البخاري عن أبي إسحاق قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة قال: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيهم كانت أول؟ قال: ذات العَشَير أو العُسيرة. فذكرت لقتادة فقال: العُشَيرة. 273 - * روى الشيخان عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمانٍ منهُن. قال ابن حجر: قوله (تسع عشرة) كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلي من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح وأصله في مسلم، فعلى هذا فات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ولعلهما الإبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ (قلت ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة) أهـ، والعشيرة كما تقدم هي الثالثة. وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو، أي زيد ابن أرقم، والتقدير: فقلت ما أول غزوة غزاها أي وأنت معه؟ قال: العشير فهو محتمل أيضاً، ويكون قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك. أو عد الغزوتين واحدة، فقد قال موسى ابن عقبة: "قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في مثان: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف، وأهمل غزوة قريظة؛ لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد

_ 272 - البخاري (7/ 279) 64 - كتاب المغازي - 1 - باب غزوة العُشَيرة أو العُسيرة. ومسلم (2/ 1447) 32 - كتاب الجهاد والسير - 49 - باب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. والترمذي (4/ 194) 34 - كتاب الجهاد - 6 - باب ما جاء في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وكم غزا. 273 - البخاري (8/ 153) 64 - كتاب المغازي - 89 - باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (3/ 1448) 33 - كتاب الجهاد والسير - 49 - باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.

الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر. وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين، وأخرجه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق فزاد فيه أن سعيداً قال أولاً: ثماني عشرة، ثم قال: أربعاً وعشرين، قال الزهري: فلا أدري أوهم أو كان شيئاً سمعه بعد. قلت: وحمله على ما ذكرته دفع الوهم ويجمع الأقوال، والله أعلم. وأما البعوث والسرايا فعد ابن إسحق ستاً وثلاثين وعد الواقدي ثمانياً وأربعين. وحكى ابن الجوزي في (التلقيح) ستاً وخمسين، وعد المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في "الإكليل" أنها تزيد على مائة، فلعله أراد ضم المغازي إليها. أهـ. لقد كانت مرحلة عجيبة في تاريخ البشرية برجالها وأعمالها وبمجموع ما تم ويكفي أنها وضعت الأمة الإسلامية على طريق الانطلاق في حيوية متجددة، وأنها أسلمت الإسلام لهذا العالم هادياً قوياً دائم التوسع والانتشار، وجعلت العالم القديم كله أمام خيار وحيد إما أن يسلم للحق أو يستسلم لأهله. * * *

فصل: في غزوة بدر

فصل: في غزوة بدر تمهيد: لبدر أهمية كبيرة في السيرة النبوية وفي التاريخ الإسلامي، فلقد تركت بصماتها على كل معارك الإسلام، فلا تجد اندفاعاً نحو الجهاد إلا ودروس بدر وراءه، بل إن سورة الأنفال التي نزلت بسببها هي التي اعتاد المسلمون أن يقرؤها بين يدي القتال، وأن يدرسوها كلما أرادوا جهاداً، ولقد كانت بدر معلماً بارزاً بين مرحلتين مرحلة الضعف ومرحلة القوة {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (1). ولذلك فقد وجد بعدها النفاق ومن قبل كان كفر وإيمان فقط، ولقد حقق الله عز وجل بها وعوداً كثيرة وعدها رسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأنجز فيها وعيداً كثيراً كان تهدد به الكافرين، وعنها وبها وجدت كثير من أحكام القتال المستقرة وآدابه المستمرة، إن القتال يتفرع عنه الغنيمة والأسر، ولم تنج أمة من انحدار أخلاقي في شأن الغنائم والأسارى إلا هذه الأمة، ولقد كانت غزوة بدر هي الفاتحة لإقامة الصرح الأخلاقي الأعلى في هاتين القضيتين وغيرهما. كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً معهم فرسان وحوالي سبعين بعيراً، وكان المشركون ألفاً وثلاثمائة ابتداء، تقلصوا إلى حوالي 950 انتهاء، معهم حوالي مائة فرس وستمائة درع وأعداد كبيرة من الجمال، وهؤلاء عرب وهؤلاء عرب، ومع ذلك كانت النتيجة أن هُزِمَ المشركون وانتصر المسلمون، وكانت هزيمة عجيبة غير متوقعة على ضوء عالم الأسباب، قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وفر الباقون بينما قتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً، ستة من الأنصار وثمانية من المهاجرين، إنه في موازين المادة لأمر عجيب، ولكنه في الموازين الإمانية نتيجة عادية، إنها إرادة الله التي لا يقف أمامها شيء، وهذه هي عبرة بدر الكبرى.

_ (1) آل عمران: 133.

عندما تلتقي قوتان ماديتان، ففي ميزان الأسباب تتغلب الأوزان في قوانين الكون، فإذا تعادل السلاح والأرض والمقاتلون والقيادة والوسائل فلا انتصار لإحدى القوتين، وإذا حدث التفاضل فالميزان في النهاية لمن فضل، وإرادة الله غالبة، أما في الموازين الإيمانية فالنصر من عند الله ولو قلت الإمكانات أمام الإمكانات، ففي غزوة بدر كان المشركون متفوقين من بعض النواحي، وكان المسلمون متفوقين من بعض النواحي، ولك يبقى تفوق المشركين من الناحية المادية أوضح ولكن جند الله غلب بفضل الله عز وجل. اجتمع على المشركين البطر والغرور والرياء والشقاق وعدم وحدة القيادة، واجتمع للمسلمين أن خذل الله بعض المشركين فانسحبوا، وأنزل الله مطراً قبيل المعركة كان لصالح المسلمين، وأرى الله عز وجل المشركين المسلمين ضعفيهم أثناء القتال فوهنوا، وأنزل ملائكة وقذف رعباً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائد وهو أحب قائد في التاريخ لجنده مع طاعة لا مثيل لها، واجتمع مع الحب والطاعة للقائد الدعاء والشورى والإقبال على الشهادة والتنافس على الآخرة، وبذل الجهد في القتال وإحكام الرأي وتجنب الظلم والبغي وحسن الترتيب والتنظيم والسبق إلى الأمكنة الاستراتيجية، وكلها توفيقات سياسية وتأييدات، وللمسلمين مثلها، ومن ثم كان لبدر هذا الشأن العظيم في التاريخ الإسلامي وعند المسلمين فهي كما قال الأستاذ الندوي: فكل ما حدث من فتوح وانتصارات، وكل ما قام من دول وحكومات، مدين للفتح المبين في ميدان بدر، ولذلك سمى الله هذه المعركة بـ"يوم الفرقان" فقال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (1) ولأهمية بدر قد ذكرها الله في سورة آل عمران كما أنزل فيها سورة كاملة هي سورة الأنفال، وقد عرضنا ذلك في التفسير، وههنا نعرض بدراً من خلال النصوص الحديثية. * * *

_ (1) الأنفال: 41.

1 - مقدمات الغزوة

1 - مقدمات الغزوة 274 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنهما عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي، ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم أوْيتم صاحبنا - وإنا نُقسمُ بالله لتقاتلنه أو لتخرجن، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم - فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبي صلى الله لعيه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيدُ قريش منكم المبلغ، ما كانت تكيدُكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهلُ الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابُهم النبي صلى الله عليه وسلم: اجتمعتْ بنو النضير، بالغدرِ، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، ويخرجُ منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكا المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك، فقص خبرهم، فلما كان الغد عليهم رسول الله بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: "إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تُعاهدوني عليه"، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهُم إلى أن

_ 274 - أبو داود (3/ 156) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب في خبر النضير. استبيح: استباحتهمك نهبُهم وسبيهم والتصرف فيهم. وعيد: الوعيد: التخويف والتهديد. تكيدكم: كاده يكيده: إذا مكر به وخدعه. الحلقه: بسكون اللام: الدرع، وقيل: اسم جامع السلاح. حبر: الحبر: العالم الفاضل. منصف: المنصف بالفتح: نصف الطريق، أراد: أنهم يجتمعون في موضع لا يميل إلى جهته ولا جهتهم، ليكون أعدل وأقرب إلى الأمن. الكتائب: جمع كتيبة، وهي الجيش.

يُعاهِدوه، فعَاهَدُوه، فانصرف عنهم، وغدا على بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلتْ بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبلُ من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم وخشبتها، فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاهُ الله إياها، وخصهُ بها، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (1). يقول: بغير قتالٍ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، وقسمها بينهم وقسم منها لرجُلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجةٍ، ولم يقسم لأحدٍ من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي في أيدي بني فاطمة رضي الله عنهما. 275 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حخدث ع سعد بن معاذٍ أنه قال: كان صديقاً لأمية بن خلفٍ، وكان أميةُ إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكا سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: انطلق سعدُ معتمراً، فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوةٍ، لعليِّ أطوفُ بالبيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهلٍ، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا، وقد زعمتم آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله، لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعدُ - ورفع صوه عليه -: أما والله، لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشدُّ عليك منهُ: طريقك على المدينةِ، فقال له أميةُ: لا ترفعُ صوتَكَ يا سعدُ على أبي الحكم سيد

_ = الجلاء: النفي عن الأوطان. أقلت الإبل: الأحمال، أي: حملتها. ما أفاء الله: الفيء: ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال. أوجعتم: الإيجاف: الإسراع والحث في السير، وأراد به: الإسراع في القتال. ركاب: الركاب جماعة الإبل فوق العشرة. (1) الحشر: 6. 275 - البخاري (7/ 282) 64 - كتاب المغازي - 2 - باب: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر. الصباةِ: جمع صابئ: وهو الذي فارق دينه إلى غيره. استنفر: الاستنفار: طلب النصرة من الناس، لينفروا معه إلى مقصده. السريخُ: الصائح، وهو الذي يستنجد الناس.

أهل الوادي، فقال سعد: دعنا عنك يا أمية، فوالله، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنهم قاتِلُوكَ"، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً، فلما رجع أمية إلى أهله، قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعدٌ؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم: أنهم قاتلي، فقلتُ له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرجُ من مكة، فلما كان يوم بدرٍ استنفر أبو جهلٍ الناس، فقال: أدرِكوا عِيرَكُم، فكرة أمية أن يخرج، فأتاهُ أبو جهلٍ، فقال: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناسُ قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي: تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني، فوالله، لأشترين أجود بعير بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني، فقالت له: يا أب صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً، فلما خرج أميةُ أخذ لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيرهُ، فلم يزل بذلك حتى قتله الله عز وجل ببدر. وفي رواية نحوه، إلا أن فيه: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يُمسكُهُ، فغضب سعد، فقال: دعنا منك، فإني سمعتُ محمداً صلى الله عليه وسلم: يزعُم أنه قاتِلُكَ، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله، ما يكذبُ محمدٌ إذا حدث، فرجع إلى امرأته، فقال: أتعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمداً يزعُم أنه قاتلي، قالت: فوالله، ما يكذبُ محمدٌ، قال: فلما خرجوا إلى بدرٍ وجاء الصريخُ، قالتْ له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهلٍ: إنك من أشراف الوادي، فسر يوماً أو يومين، فسار معهم، فقتله الله. قال في الفتح: وفي الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وما كان عليه سعد بن معاذ من قوة النفس واليقين، وفيه أن شأن العمرة كان قديماً، وأن الصحابة كان مأذوناً لهم في الاعتمار من قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الحج، والله أعلم. 276 - * روى الطبراني عن عروة قال: كانت عاتِكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله

_ 276 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 70) وقال: رواه الطبراني مرسلاً وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن.

صلى الله عليه وسلم ساكنةُ مع أخيها عباس بن عبد المطلب، فرأت رؤيا قبيل بدرٍ ففزعت، فأرسلت إلى أخيها عباس من ليلتها حين فزعت واستيقظت من نومها، فقالت: قد رأيت رؤيا وقد خشيتُ منها على قومك الهلكة، قال: وما رأيتِ؟ قالت: لم أحدثك حتى تُعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن يسمعوها آذونا فأسمعونا ما لا نُحبُّ، فعاهدها عباسٌ، فقالت: رأيت راكباً أقبل على راحلته من أعلى مكة يصيحُ بأعلى صوته: يا آل غُدّرٍ ويا آل فجرٍ اخرجوا من ليلتين أو ثلاثٍ، ثم دخل المسجد على راحلته فصرخ في المسجد ثلاث صرخات، ومال عليه من الرجال والنساء والصبيان وفزع الناسُ له أشد الفزع، ثم أراه مثل على ظهر الكعبة على راحلته فصرخ ثلاث صرخات يا آل غُدر ويا آل فُجر اخرجوا من ليلتين أو ثلاثٍ حتى أسمع من بين الأخشبين من أهل مكة، ثم عمد لصخرةٍ عظيمةٍ فنزعها من أصلها ثم أرسلها على أهل مكة، فأقبلت الصخرة لها دوي، حتى إذا كانت على أصل الجبل رمضت، فلا أعلم بمكة بيتاً ولا داراً إلا قد دخلها فرقة من تلك الصخرة، فلقد خشيتُ على قومك أن ينزل بهم شر، ففزع عباس، وخرج من عندها، فلقي من ليلته الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان خليلاً للعباس فقص عليه رؤيا عاتكة وأمرهُ أن لا يذكرها لأحدٍ، فذكرها الوليد لأبيه، وذكرها عتبة لخيه شيبة، وارتفع حديثها حتى بلغ أبا جهل بن هشام واستفاضتْ، فلما أصبحوا غدا العباس يطوف بالبيت حتى أصبح، فوجد أبا جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلفٍ وزمعة بن الأسود وأبا البختري في نفرٍ يتحدثون، فلما نظروا إلى عباس يطوفُ بالبيت؛ ناداه أبو جهل بن هشام: يا أبا الفضل إذا قضيت طوافك فائتنا، فلما قضى طوافه أتى فجلس. فقال أبو

_ مثل به: قام به. غدر: جمع غدور. الأخشبان: الحيلان المطيقان بمكة وهما أبو قبيس والأحمر. رمضت: اشتدت. سجلاً: الكتاب يدون فيه ما يراد حفظه. يا مصفر استه: رماه بالأبنة وأنه كان يزعفر استه، وقيل هي كلمة تقال للمتنعم المترف الذي لم تحنكه التجارب والشدائد وقيل: أراد يا مضرط نفسه من الصفير وهو الصوت بالفم والشفتين، كأنه قال يا ضراط. نسبه إلى الجبن والخور، وقيل كان به برص فكان يردعه بالزعفران ... =

جهلٍ: يا أبا الفضل، ما رؤيا رأتها عاتِكة؟ قال: ما رأت من شيءٍ. قال: بلى، أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء، إنا كنا وأنتم كفرسي رهانٍ فاستبقنا المجد منذُ حينٍ، فلما حاذت الركب قلتم: منا نبي، فما بقي إلا أن تقولوا منا نبية، ولا أعلم أهل بيت أكذب رجلاً ولا أكذب امرأة منكم. فآذوه يومئذٍ أشد الأذى، وقال أبو جهلٍ: زعمتُ عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في ليلتين أو ثالث، فلو قد مضت هذه الثلاث تبين لقريش كذبكم، وكتبنا سجلاً، ثم علقناه بالكعبة إنكم أكذبُ بيتٍ في العربِ رجلاً وامرأة، أما رضيتم يا بني قُصي أنكم ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء حتى جئتمونا زعمتم بنبي منكم، فآذوه يومئذ أشد الأذى، وقال له العباسُ: مهلاً يا مُصَفر استهِ هل أنت منتهِ، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال له ممن حضره: يا أبا الفضل ما كنت بجاهلٍ ولا خرف ونال عباساً من عاتكة أذى شديداً فيما أفشى من حخديثها. فلما كا مساء ليلة الثالثة من الليالي التي رأت فيها عاتكةُ الرؤيا جاءهم الراكب الذي بعث أبو سفيان ضمضمُ بن عمرو الغفاري فقال: يا آل غُدرٍ انفروا فقد خرج محمدٌ وأصحابه ليعرضوا لأبي سفيان فأحرزوا عيركم، ففزعت قريش أشد الفزع وأشفقوا من قِبلَ رؤيا عاتكة ونفروا على كل صعبٍ وذلولٍ. 277 - * روى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تُقطع من أعناق الإبل يوم بدر. وهناك سببان لهذا الأمر: السبب الأول: كراهة الأجراس لشبهها بالنواقيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يبقي مظهراً دينياً غير إسلامي إلا وخالفه أو نقصه أو أدخله في غيره أو أوجد له صيغة استقلالية. السبب الثاني: عسكري، فالأجراس تدل وتشعر الخصم فتنبهه. * * *

_ 277 - أحمد في مسنده (6/ 150). قال في المجمع (5/ 174): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

2 - صور ومشاهد

2 - صور ومشاهد 278 - * روى الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أُخبرتُ عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قِبَلَ هذا العير لعل الله يُغنمناها" فقلنا: نعم فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا: ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم: فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكن لنا مال عظيم فأنزل الله عز وجل على رسوله {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (1) ثم أنزل الله عز وجل: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (2) وقال {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (3) والشوكة القومُ وغير ذات الشوكة العيرُ، فلما وعدنا إحدى الطائفتين إما القوم وإما العير طابت أنفسنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً لينظر ما قبل القوم، فقال: رأيتُ سواداً ولا أدري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُم همُ، هلموا أن نتعاد" ففعلنا فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدتنا فسره ذلك فحمد الله وقال "عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "معي معي" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني

_ 278 - المعجم الكبير (4/ 174) وإسناده حسن. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 73) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. حسد لنا: على أخذ الفدية. (1) الأنفال: 5، 6. (2) الأنفال: 12. (3) الأنفال: 7.

أنشُدك وعدك" فقال ابن رواحة: يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مِنْ يشير عليه وإن الله أعظم من أن تنشده وعده فقال: "يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده فإن الله لا يُخلف الميعاد" فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله وجوه القوم فانهزموا فأنزل الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (1) فقتلنا وأسرنا فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما أرى أن تكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون فقلنا معشر الأنصار: إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ ثم قال: "ادعوا لي عمر" فدُعي له فقال: "إن الله عز وجل قد أنزل علي": {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2). أقول: فيه ابن لهيعة، والملاحظ أن الهيثمي يحسن أحاديث ابن لهيعة ولو كانت عن غير العبادلة، وذلك فيما نعتقد لملحظ دقيق يلحظه الشيخ الهيثمي، ولذلك فإننا كثيراً ما نتابعه على تحسينه في هذا الكتاب لقوة مدركه في الحديث. 279 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الهل عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسيْسَة، عيناً ينظرُ ما صنعتْ عيرُ أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: لا أدري، ما استثنى بعض نسائه .. - قال: فحدثه الحديث، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم، فقال: "إن لنا طلبةً، فمن كان ظهره حاضراً فليركبْ معنا" فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في عُلو المدينة، فقال: "إلا من كان ظهره حاضراً" فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقدمن أحدٌ منكم إلى شيءٍ حتى أكون أنا دونه" فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرض" قال: يقول عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات

_ (1) الأنفال: 17. (2) الأنفال: 67. 279 - مسلم (3/ 1510) 33 - كتاب الإمارة - 41 - باب: ثبوت الجنة الشهيد.

والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها" قال: فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِلَ. قال النووي: قوله: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسَيْسَة عيناً) هكذا هو في جميع النسخ بُسَيْسَة بباء موحدة مضمومة وبسينين مهملتين مفتوحتين بينهما ياء مثناة تحت ساكنة، قال القاضي: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود وأصحاب الحديث. قال: والمعروف في كتب السيرة بَسْبَس بياءين موحدتين مفتوحتين بينهما سين ساكنة وهو بسبس ابن عمرو، ويقال: ابن بشر من الأنصار من الخزرج، ويقال: حليف لهم، قلت: يجوز أن يكون أحد اللفظين اسماً له والآخر لقباً. وقوله (عيناً) أي: متجسساً ورقيباً. قوله (ما صنعت عير أبي سفيان) هي الدواب التي تحمل الطعام وغيره من الأمتعة، قال في المشارق: العير هي الإبل والدواب تحمل الطعام وغيره من التجارات، قال: ولا تسمى عيراً إلا إذا كانت كذلك. وقال الجوهري في الصحاح: العير الإبل تحمل الميرة وجمعها عيرات بكسر العين وفتح الياء. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب) هي بفتح الطاء وكسر اللام أي شيئاً نطلبه والظهر الدواب التي تركب. قوله: (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم) هو بضم الظاء وإسكان الهاء أي مركوباتهم في هذا استحباب التورية في الحرب وأن لا يبين الإمام جهة إغارته وإغارة سراياه لئلا يشيع ذلك فيحذرهم العدو. قوله (في علو المدينة) بضم العين وكسرها. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه) أي قدامه متقدماً في ذلك الشيء لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها. قوله: (عمير بن الحمام) بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم. قوله: (بخ بخ) فيه لغتان إسكان الخاء وكسرها منوناً وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. قوله: (لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها) هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة رجاءة بالمد ونصب التاء، وفي بعضها رجاء بلا تنوين وفي بعضها بالتنوين ممدودان

بحذف التاء، وكله صحيح معروف في اللغة، ومعناه والله ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها. قوله (فأخرج تمرات من قرنه) هو بقاف وراء مفتوحتين ثم نون أي جعبة النُّشاب (1) ووقع في بعض نسخ المغاربة فيه تصحيف. قوله: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي ههذ إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل) فيه جواز الانغمار في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء. قوله: (وهو بحضرة العدو) هو بفتح الحاء وضمها وكسرها ثلاث لغات، ويقال أيضاً بحضر بفتح الحاء والضاد بحذف الهاء. أهـ. وقال الأستاذ البوطي: يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، يبثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم وليتبينوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد. ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، بشرط أن لا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من مصلحة الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتماً أو نوعاً من المخادعة أو التحايل، وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه وسيلة لابد منها لمصلحة المسلمين وحفظهم. 280 - * روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: كُنا يوم بدرٍ ثلاثة على بعير كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله علي هوسلم قال: وكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن نمشي عنك فقال: "ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما". أقول: إن مواساة القائد جنده بقدر ما يستطيع تستخرج من الجندي أقصى الطاقات وأعلى الطاعات وأشد الحب، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بهذه المواساة والمساواة إلا إذا كان هناك عذر. أو كان هناك تقعيد لمبدأ.

_ (1) النشاب: النيل. 280 - أحمد في مسنده (1/ 411) وكذا في (1/ 424). عقبة: نوبة، أي دور أو نوبة رسول الله صلى الله علي هوسلم في المشي. ولا أنا بأنى عن الآجر منكما: لست بغني عن الثواب. شأني شأنكم في الحاجة إلى الثواب والأجر من الله تعالى.

281 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنهم حُفاة فاحملهم، اللهم إنهم عُراة فاكسهُم، اللهم إنهم جياعٌ فأشبعهم" ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا - حين انقلبوا - وما منهم رجل إلا وقد رجع بجملٍ، أو جملين، واكتسوا وشبعوا. أقول: بعض الروايات تذكر أن عدد المسلمين يوم بدر كانوا (313) وبعضها تذكر أنهم كانوا (314)، وبعضها تذكر أنهم كانوا (315)، وبعضها تذكر انهم كانوا (317)، وبعضهما تذكر أنهم (319) وسبب الخلاف يعود إلى أن بعضهم أدخل ما لم يدخله الآخر، فمثلاً هناك روايات صحيحة تذكر حضور أنس وهو صغير، وهناك روايات تذكر أن بعض الناس ردهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة للقيام بأمرها، فبسبب من الإدخال والإخراج تعددت الروايات، عد منهم عثمان بن عفان ولم يحضر، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمرض امرأته رقية، وكذلك عد منهم قوماً كلفوا بمهمات ولم يحضروا المعركة، وقد وردت أسماء تسعة لم يحضروا وضرب لهم بسهم وأجر ذكروا في هذا الكتاب تحت عنوان من غاب عن بدر وكان كأهلها. وفي سنن أبي داود (1) عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرامٍ أنه قال: كنت أميحُ (2) لأصحابي الماء يوم بدرٍ. وهذا الحديث لم يذكره البخاري ولا الضياء. كذا في البداية والنهاية. 282 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا أصحاب محمدٍ تتحدثُ: أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معهُ النهر - ولم يجاوز معه إلا مؤمن - بضعة (3) وثلاثمائة، وفي رواية قال البراء: لا، والله ما جاوز معه

_ 281 - أبو داد (3/ 79) كتاب الجهاد - باب: في نفل السرية تخرج من العسكر. (1) أبو داود (3/ 75) كتاب الجهاد - باب: في المرأة والعبد يحذبان من الغنيمة. (2) أصبح: أستقي. 282 - البخاري (7/ 210) 64 - كتاب المغازي - 6 - باب عدة أصحاب بدر. (3) بضعة: البضع: ما بين الثلاثة إلى التسعة.

النهر إلا مؤمن. 283 - * روى البخار يعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: اسْتُصْفِرْتُ أنا وابن عُمر يوم بدرٍ، وكان المهاجرون يوم بدرٍ: نيفاً على ستين، والأنصار نيفاً وأ {بعين ومائتين. 284 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفع الراية إلى علي رضي الله عنه يوم بدرٍ وهو ابن عشرين سنة. 285 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر، فلما كان بحرةِ الوبرة أدركهُ رجُل قد كان يُذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركهُ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأتبعُك وأًيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله"؟ قال: لا، قال "فارجع، فلن أستعين بمشركٍ" قالت ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجلُ، فقال له كما قال أول مرةٍ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرةٍ قال: "فارجع فلن أستعين بمشركٍ" ثم رجع، قال، فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلقْ". وأخرجه الترمذي (1) إلى قوله: "فلن أستعين بمشركٍ" قال: وفي الحديث كلام أكثر من هذا.

_ 283 - البخاري (7/ 290) 64 - كتاب المغازي - 6 - باب: عدة أصحاب بدر. نيف: بوزن الهين: الزيادة يخفف ويشدد، وكل ما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني. 284 - المستدرك (3/ 111) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي وقال: هذا نص في أنه أسلم وله أقل من عشر سنين، بل نص في أنه أسلم وهو ابن سبع سنين أو ثامن وهو قول عروة. 285 - مسلم (3/ 1449) 32 - كتاب الجهاد والسير - 51 - باب: كراهة الاستعانة في الغزو بكافر. حرة الوبرة: موضع على بعد أربعة أميال من المدينة. نجدة: النجدة: القوة والشجاعة. (1) الترمذي (4/ 127) 22 - كتاب السير 10 - باب: ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم، وقال: هذا حديث حسن غريب.

وأخرجه أبو داود (1) مختصراً أن رجلاً من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليُقاتلَ معهُ، فقال: "ارجعْ"، ثم اتفقا فقال: "إنا لا نستعينُ بمشركٍ". قال النووي: قوله عليه الصلاة والسلام: (فارجع فلن أستعين بمشرك) وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له أي أعطاه قليلاً ولا يسهم له، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور، وقال الزهري والأوزاعي يسهم له والله أعلم. 286 - * روى مسلم عن أبي الطفيل رحمه الله قال: حدثنا حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي، حُسيلٌ، فأخذنا كفارُ قريشٍ، فقالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، وما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه: لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعينُ الله عليهم". قال النووي: في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب، وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أولى، ومع هذا يجوز الكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس وكذب الزوج لامرأته كما صرح به الحديث الصحيح وفيه الوفاء بالعهد، وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار أن لا يهرب منهم، فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك بل متى أمكنه الهرب هرب، وقال مالك: يلزمه، واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف لا يهرب لا يمين عليه لأنه مكره، وأما قضية حذيفة وأبيه فإن الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بدر فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء. وهذا ليس للإيجاب فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد وإن كان

_ (1) أبو داود مختصراً (3/ 75) كتاب الجهاد - باب: في المشرك يسهم له. 286 - مسلم (3/ 1414) 32 - كتاب الهجاد والسير - 35 - باب: الوفاء بالعهد.

لا يلزمهم ذلك لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلاً. 287 - * روى البخار يعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: شهدتُ من المقداد ابن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبهُ أحبُ إليَّ مما عُدِلَ به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا تقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} (1) ولكنا نقاتلُ عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجههُ وسره، يعني قوله. وفي رواية (2): قال المقداد يوم بدرٍ: يا رسول الله، إنا لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن امضونحن معك. فكأنه سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: قوله (مما عدل به) بضم المهملة وكسر الدال المهملة أي وزن أي مِنْ كل شيء يُقابل ذلك من الدنيويات، وقيل من الثواب، أو المرادُ الأعمُّ من ذلك، والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد، وأنه كان لو خُير بين أن يكون صاحبه وبين أني حصل له ما يقابل ذلك كائناً ما كان لكان حصوله له أحب إليه، وقوله: (لأن أكون صاحبه) هو بالنصب، وفي رواية الكشميهني (لأن أكون أنا صاحبه) ويجوز فيه الرفعُ والنصب، قال ابن مالك: النصب أجود. قوله: (وهو يدعو على المشركين) زاد النسائي في روايته (جاء المقداد على فرسٍ يوم بدر فقال) وذكر ابن إسحاق أن هذا الكلام قاله المقدادُ لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم الصفراء وبلغهُ أن قريشاً قصدت بدراً وأن أبا سفيان نجا بمن معه فاستشار الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر كذلك، ثم المقدادُ فذكر نحو ما في حديث الباب وزاد "فقال: والذي بعثك بالحق لو سلكت بنا برك الغماد لجاهدنا معك من دونه. قال: فقال: (أشيروا علي) قال: فعرفوا أنه يريد الأنصار، وكان يتخوفُ أن لا يوافقوه لأنهم لم

_ 287 - البخاري (7/ 287) 64 - كتاب المغازي - 4 - باب: قول الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم). (1) المائدة: 74. (2) البخاري (8/ 273) 65 - كتاب التفسير - 4 - باب: فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون. سُري: عن المحزون وغيره: إذا كشف عنه ما به.

يبايعوهُ إلا على نُصرته ممن يقصده لا أن يسير بهم إلى العدو، فقال له سعد بن معاذٍ: امض يا رسول الله لما أمرت به فنحنُ معك. قال فسره قوله ونشطه" وكذا ذكره موسى ابن عقبة مبسوطاً، وأخرجه ابن عائذ منْ طريق أبي الأسود عن عروة، وعند ابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص في نحو قصة المقداد (فقال سعد بن معاذ: لئن سرت حتى تأتي برك الغماد يمن من لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى - فذكره وفيه - لعلك خرجت لأمرٍ فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت" قال: وإنما خرج يريدُ غنيمة ما مع أبي سفيان فأحدث الله له القتال. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي أيوب قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها؟ " قلنا: نعم، فخرجنا. فلما سِرنا يوماً أو يومين قال: "قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال" فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعادهُ، فقال له المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون. قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد. فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (1) وأخرج ابن مردويه من طريق محمد ابن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبيه عن جده نحوه، لكن فيه أن سعد بن معاذٍ هو الذي قال ما قال المقداد، والمحفوظ أن الكلام المذكور للمقدا كما في حديث الباب، وان سعد بن معاذ إنما قال: (لو سِرت بنا حتى تبلغ برك الغماد لسرنا معك) كذلك ذكره موسى بن عقبة. وعند ابن عائذ في حديث عروة (فقال سعد بن معاذٍ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمنٍ) ووقع في مسلم أن سعد بن عبادة هو الذي قال ذلك، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، وفيه نظر لأن سعد بن عُبادة لم يشهد بدراًن وإن كان يعد فيهم لكونه ممن ضرب له بسهمه كما سأذكره في آخر الغزوة، ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين: الأولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي

_ (1) الأنفال: 5.

سفيان، وذلك بين في رواية مسلم ولفظه (أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان) والثانية: كانت بعد أن خرج كما في حديث الباب؛ ووقع عند الطبراني أن سعد ابن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، وقد تقدم في الهجرة شرح برك الغماد، ودلت رواية ابن عائذ هذه على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض الكتب أنها أرض الحبشة، وكأنه أخذه من قصة أبي بكر مع ابن الدغنة، فإن فيها أنه لقيه ذاهباً إلى الحبشة ببرك الغماد فأجاره ابن الدغنة كما تقدم في هذا الكتاب، ويجمع بأنها من جهة اليمن تقابل الحبشة وبينهما عرض البحر. أهـ. 288 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغهُ إقبالُ أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكرٍ، فأعض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد ابن عبادة، فقال: إيانا تُريدُ يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا، حتى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قُريش وفيهم غُلامٌ أسودُ لبني الحجاج، فأخذوهُ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول. مالي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل، وعتبةُ، وشيبةُ، وأميةُ بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوهُ قال: مالي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلفٍ في الناس، فإذا قال هذا أيضاً ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يُصلي، فلما رأى ذلك انصرف، وقال: "والذي نفسي بيده، لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوهُ إذا كذبكم" قال: فقال رسول

_ 288 - مسلم (3/ 1403) 32 - كتاب الجهاد والير - 30 - باب: غزوة بدر. تخيضها: الضمير يعود على الخيل. الكبد: أوسط الشيء ومعظمه. برك الغماد: برك بفتح الباء وإسكان الراء، وقال بعضهم: صوابه كسر الراء والغماد بغين معجمة مكسورة ومضمومة لغتان مشهورتان، لكن الكسر أفصح والمشهور عند المحدثين، والضم هو المشهور في كتب اللغة. = روايا: جمع راوية، وهي المزادة، والمراد به هاهنا: الجمال التي تحمل المزاد، والجمل: راوية، وتممي به المزادة.

الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلانس" ويضعُ يدهُ على الأرض هاهنا وهاهنا - قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو داود (1)، وأول حديثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه، فانطلق إلى بدرٍ، فإذا هم بروايا قريش، فيها عبد أسودُ لبني الحجاج ... وذكر الحديث إلى آخره بتغيير شيءٍ من ألفاظه، ثم قال في آخره: والذي نفسي بيده، ما جاوز أحدٌ منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا بأرجُلهم فسُحبوا، فألقوا في قليب بدر. 289 - * روى الطبراني عن عبد الله يعني ابن مسعود قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لصاحبي الذي إلى جانبي أتراهُم سبعين؟ قال: أراهم مائة، حتى أخذنا منهم رجلاً فسألناه قال: كنا ألفاً. وقد ذكرنا الحديث مع أن فيه عنعنة ابن إسحاق لما يشهد له من ظاهر النصوص القرآنية كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية فقال: قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} (2) فعندما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وليس هذا معارضاً لقوله تعالى في سورة آل عمران {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ

_ = مصرع: المصرع: موضع القتل. ماماط: أي: ما زال وما بعدُ، والميط: الميل والعدول. (1) أبو داود (3/ 58) كتاب الجهاد - باب: في الأسير يُنال منه ويضرب. ندب: ندبت الرجل لهذا الأمر، أي: هيأته له، وبعثته فيه، فانتدب، أي: أجاب. القليب: البئر لم تطو، وإنما هي حفيرة قلب ترابها، فسميت قليباً. 289 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 84) وقال: رواه الطبراني، ولم يتكلم عليه في المجمع، وفيه عنعنة ابن إسحاق. (2) الأنفال: 44.

يَشَاءُ} (1) فإن المعنى في ذلك على أصح القولين أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلي عدد الكافرة على الصحيح أيضاً، وذلك عند التحام الحرب والسابقة أوقع الله الوهن والرعب في قلوب الذين كفروا فاستدرجهم أولاً بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلاً، ثم أيد المؤمنين بنصره فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم حتى وهنوا وضعفوا وغلبوا. ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}. أقول: كان هذا من فعل الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، ولو أخلص المسلمون وأحسنوا لوجدوا التوفيقات والتأييدات تحفهم من كل جانب. وقد علل الله عز وجل لإراءته المسلمين المشركين قلة بقوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (2). إن هذا التعليل يوحي بأشياء كثيرة: منها: أولاً: أن المسلمين يحكمهم عالم الأسباب فعندما يرون أن القوى غير متكافئة لابد أن يختلفوا في أمر القتال هل يقاتلون أو لا يقاتلون؟ فالله عز وجل بحكمته جنبهم هذا الموقف يوم بدر، ولكن هذا الموقف يمكن أن يواجه المسلمين في كل لحظة فعلى قياداتهم أن تلاحظ ذلك أولاً في الموازنات التي تسبق القرار. ثانياً: في القرار نفسه، ثالثاً: في الخطة المناسبة على ضوء تفاضل القوى، رابعاً: في الإعداد النفسي والتدريبي، خامساً: في إدارة المعركة. 290 - * روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من استطعتم أن تأسروه من بني عبد المطلب فإنهم خرجوا كرهاً". معنى الحديث: من استطعتم عليه من بني عبد المطلب فأسروه ولا تقتلوه. تعليق: لم تكن قريش كلها مقتنعة بههذ الحرب ولذلك خرج بعضهم ثم نكص وبعضهم

_ (1) آل عمران: 13. (2) الأنفال: 43. 290 - أحمد في مسنده (1/ 89)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 85) وقال: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد ثقات.

لم يخرج أصلاً. وقد عرض ابن كثير صورة عن هذه الأمور في البداية والنهاية قال: وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفاً لبني زهرة - وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجي الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجا في غير ضيعة لا ما يقول هذا. قال: فرجعوا فلم يشهدها زُهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعاً ولم يكن بقي بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد. قال: ومضى القوم وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة. فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع. 291 - * روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل المسلمون بدراً وأقبل المشركون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر فقال: "إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر، إن يُطيعوه يرشدوا" وهو يقول: يا قوم أطيعُوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه فاجعلوا جبنها برأسي وارجعوا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، إنما محمدٌ وأصحابه كأكلة جزور لو قد التقينا، فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً، اما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي وكأن وجُوههم السيوفُ، ثم دعا أخاه وابنه فخرج يمشي بينهُما ودعا بالمبارزة. 292 - * روى الإمام أحمد عن علي قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها

_ 291 - أورده الهيثمي في مجمع الزائد (6/ 76) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. كشف الأستار (2 - 313). انتفخ سحره: السحر الرئة، والمعنى امتلأ خوفاً وجبناً. 292 - أحمد في مسنده (1/ 117). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 75) وقال: روى أبو داود منه طرفاً، ورواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مُضربِ وهو ثقة.

فاجتويناها وأصابنا بها وعك وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبرُ عن بدرٍ، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وبدر بئر، فسبقنا المشركون إليها فوجدنا فيها رجُلين منهم رجلاً من قريش ومولى لعقبة بن أبي مُعيط، فأما القرشي فانفلت وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثيرٌ عددهُم، شديدٌ بأسُهم فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "كم القومُ" قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم فجهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخبره كم هم فأبى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "كم ينحرُون من الجزور" قال: عشراً كل يوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألفٌ كل جزور لمائة وتبعها" ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظلُ تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: "اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبدُ" قال: فلما أن طلع الفجرُ، نادى الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر والحجفِ فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال ثم قال: إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل" فلما دنا القوم منا وصففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسيرُ في القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي ناد حمزة" وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر وماذا يقول لهم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يكن في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر" فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبُن عتبة بن ربيعة وقد علمتم أني لستُ بأجبنكم فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقولُ

_ = فاجتويناها: أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء إذا تطاول وذلك لم يوافقهم هواؤها. واستوخموها: يقال اجتويت البلد إذاكرهت المقام فيه وإن كنت ف ينعمة. الوعك: أذى الحمى ووجعها. طش: هو الضعيف القليل. الجحفة: الترس جمعها: حجف. الضلع: جبيل منفرد صغير يشبه بالضلع. ساقفناهم: أي واقفناهم وقمنا حذاءهم.

ذلك والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملئت رئتك رُعباً فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر إسته ستعلم اليوم أينا الجبان قال: فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنهُ الوليد حمية، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتيةُ من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء ولكن يبارزنا من بني عمنا من بني عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه سولم: "قم يا عليٌّ وقم يا حمزةُ وقم يا عبيدة بن الحرث بن المطلب" فقتل الله شيبة وعتبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وجرح عبيدة، فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني، أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله قال: "سكت فقد أيدك الله بملك كريم" قال علي عليه السلام فأسرنا من بني عبد المطلب العباس عقيلاً ونوفل بن الحارث. 293 - * روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: تقدم عتبةُ بن ربيعة، وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلتُ إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحدٍ منهما صاحبهُ ثم ملنا على الوليد، فقتلناه، واحتملنا عبيدة

_ لأعضضته: عض هن أبيك (وهي كلمة شتم عند العرب). ملئت رئتك رعباً: تعبير يقال لمن خاف خوفاً عظيماً. يا مصفر استه: الاست: المقعدة، والتصفير يكون بدهنها بالخلوق وهو طيب أصفر اللون، وهي شتيمة. أجلح: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه. حمية: الأتقة. أبلق: بلق الفرس: كان فيه سواد وبياض. 293 - أبو داود (3/ 52) كتاب الجهاد - باب: في المبارزة. يبارز: ينفرد عن جماعته ويظهر أمام عدوه. فانتدب: ندبه إلى الأمر: كنصره ودعاه وحثه. اختلفت ضربتان: ترددت الضربة خلف الضربة الأخرى. أثخن: بالغ في جراحة عدوه.

وفي رواية ذكرها رزين: لما كان يومُ بدر تقدم عتبةُ بن ربيعة، وشيبة أخوه، والوليد بن عتبة ... وذكره، وفيها: إنما أردنا أكفاءنا من بني عمنا. وفيه قال علي: فما أنا وحمزة: فأنجزنا صاحبينا، وأما عبيدة والوليد: فأثخن كل واحد منهما صاحبه ... وذكره. أقول: أخرج النبي صلى الله عليه وسلم للمبارزة ثلاثة هم أقرب الناس إليه نسباً فلم يكن له ولد ذكر أو أخ أو أب وكان أقرب الناس منه حمزة عمه وعلي ابن عمه وعبيدة ابن عمه الأعلى وهذا يعلمنا ألا نبخل بأقرب الناس منا لنقدمهم للجهاد ونعرضهم للشهادة، وكان في هذا درس للصحابة والمسلمين بليغ. 294 - * روى البزار عن عبد الله يعني ابن سمعود قال: كان سعد يقاتل مع رسول الله صلى الله لعي هوسلم يوم بدر قتال الفارس والراجل. 295 - * روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (1) قال: هم الذين بارزوا يوم بدرٍ: عليٌّ، وحمزةُ، وعبيدةُ، وشيبةُ ابن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وفي رواية أن علياً قال: فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. 296 - * روى البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال قيس بن عُبادٍ: سمعت أبا ذر يُقسم قسماً أن هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في الذين برزوا يوم بدرٍ: حمزة وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة.

_ 294 - كشف الأستار (2/ 315) مجمع الزوائد (6/ 83) وقال: رواه البزار بإسنادين أحدهما متصل والآخر مرسل ورجالهم ثقات. 295 - البخاري (8/ 443) 65 - كتاب التفسير - 2 - باب (هذان خصمان اختصموا في ربهم). يجثو: أي: يقعد على ركبتيه. (1) الحج: 19. 296 - البخاري (7/ 297) 64 - كتاب المغازي - 8 - باب: قتل أبي جهل. ومسلم (4/ 2323) 54 - كتاب التفسير - 7 - باب: في قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم).

297 - * روى أحمد عن عتبة بن عبد السُّلمى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "قوموا فقاتلوا" قالوا: نعم يا رسول الله ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام انطلق أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدن، ولكن انطلق أنت وربك يا محمد فقاتلا وإنا معكم نُقاتل. 298 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو في قبةٍ يوم بدر -: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، الهلم إن تشأ لا تُبعدُ بعد اليوم" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، وهو يثبُ في الدرع، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (1). قال في الفتح: وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته: "اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تترُني". وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "ما سمعنا مناشداً ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر: طاللهم إني أنشدك ما وعدتني" قال السهيلي: سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه ف الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون غمار الموت، والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء. قوله: (اللهم إن شئت لم تعبد) في حديث عمر "اللهم إن تهلك هذه العصابه من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". أما "تهلك" فبفتح أوله وكسر اللام، "والعصابة" بالرفع، وإنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستمر المشركون يعبدون غير الله، فالمعنى لا يعبد في الأرض

_ 297 - أحمد في مسنده (4/ 184)، ومجمع الزوائد (6/ 74) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات. 298 - البخاري (8/ 619) 65 - كتاب التفسير - 5 - باب: قوله تعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر). (1) القمر: 45.

بهذه الشريعة، ووقع عند مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام أيضاً يوم أحد، وروى النسائي والحاكم من حديث علي قال: "قاتلت يوم بدر شيئاً من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "يا حي يا قيوم" فرجعت فقاتلت، ثم جئت فوجدته كذلك". قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينةن فلهذا عقب بقوله "سيهزم الجمع" انتهى ملخصاً. قوله (فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر) وفي رواية أيوب عن عكرمة عن ابن عباس لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر: أي جمع يهزم؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: (سيهزم الجمع) أخرجه الطبري وابن مردويه. وله من حديث أبي هريرة عن عمر: (لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟) فذكر نحوه وهذا مما يؤيد ما قدمته أن ابن عباس حمل هذا الحديث عن عمر ...) أهـ. 299 - * روى البخاري عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "إذا أكثبوكم" يعني أكثروكم وفي أخرى يعني: أكثروكم - "فارموهم، واستبقوا نبلكُم". وفي أخرى لأبي داود (1) "إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم".

_ 299 - البخاري (7/ 306) 63 - كتاب المغازي - باب - 10. (1) أبو داود (3/ 52) كتاب الجهاد - باب: في سل السيوف عند اللقاء. أكثبوكم: قربوا منكم، والكثب: القُربُ. غشوكم: دنوا منكم أو ازدحموا عليكم وكثروا.

طرفاها، قال عُروةُ: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهُ، فلما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر، فأعطاه، فلما قُبِضَ أبو بكر سألها إياه عمرُ، فأعطاهُ إياها، فلما قُبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه، فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتِل. أقول: هذا الحديث يصلح أصلاً لفكرة المتاحف على أن يلحظ حدود الجائز في شأنها. 301 - * روى أبو يعلي عن علي بن أبي طالب قال: كنتُ على قليبٍ فكنتُ يوم بدرٍ أميحُ وأمتح منه فجاءت ريح شديدة، ثم جاءت ريح شديدة شديدة فلم أر ريحاً أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الأولى ميكائيل في ألف من الملائكة عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية إسرافيل في ألف من الملائكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، والثالثة جبريل في ألف من الملائكة وكان أبو بكر عن يمينه، وكنتُ عن يساره، فلما هزم الله الكفار حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فلما استويت عليه حمل بي فصرتُ على عنقه فدعوتُ الله فثبتني عليه فطعنت برُمحي حتى بلغ الدم إبطي. 302 - * روى الطبراني عن عروة قال: نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير، وهو معتجر بعمامة صفراء. 303 - * روى البزار عن علي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر يوم بدرٍ: "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيلُ ملك عظيم يشهدُ القتال، أو

_ 301 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 77) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. متح: متح الدلو يمتحها إذا جذبها مسقياً لها، وماحها يميحها إذا ملأها. حمل بي: ظهر واشتد. استويت عليه: صعدت عليه. 302 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 84) وقال: رواه الطبراني، وهو مرسل صحيح الإسناد. سيما: السيما: العلامة. معتجر: اعتجر فلان بالعمامة: لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه. 303 - كشف الأستار (2/ 314)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 82) وقال: رواه أحمد بنحوه والبزار واللفظ له، ورجالها رجال الصحيح، ورواه أبو يعلي.

عوامل النصر

قال في الفتح: والذي يظهر لي أن معنى قوله "واستقبوا نبلكم" لا يتعلق بقوله "ارموهم" وإنما هو كالبيان للمراد بالأمر بتأخير الرمي حتى يقربوا منهم، أي إنهم إذا كانوا بعيداً لا تصيبهم غالباً، فالمعنى استبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم بها لا تصيب غالباً وإذا صاروا إلى الحالة التي يمكن فيها الإصابة غالباً فارموا. أهـ. * * * عوامل النصر جرت عادة القادة في الحروب أنهم يتقدمون لجندهم بتوجيهات القتال بين يدي المعركة الملاحظ من خلال هذا الحديث وغيره مما مر معنا ويمر ما يلي: 1 - أن توجيهات القتال كانت واضحة وحكيمة. 2 - أن التعبئة النفسية كانت على أرقاها وأعلاها. 3 - أن القناعة بالمعركة كانت كاملة. وكل ذلك كانت عوامل مناسبة للوصول إلى النصر وهي جزء من عالم الأسباب الذي يجب أن يلاحظه المسلمون في معاركهم. 300 - * روى البخاري عن الزبير بن العوام القرشي قال: لقيتُ يوم بدرٍ عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج، لا يُرى منه إلا عيناهُ، وكان يُكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملتُ عليه بالعنزة، فطعنته في عينه، فمات، قال فأخبرتُ أن الزبير قال: لقد وضعتُ رجلي عليه، ثم تمطأت فكان الجُهد: أن نزعتُها، وقد انثنى

_ 300 - البخاري (7/ 214) 64 - كتاب المغازي - باب: 12. مدجج: المدجج: الغائص في سلاحه. العنزة: شبه العكازة في رأسها سنان كسنان الرمح. تمطيت: تمطى: امتد وطال ومنه التمطي. الجهد: بضم الجيم. الوسع والطاقة وبفتحها: المشقة. وقيل: هما لغتان في المشقة.

يكون في الصف". 304 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدرٍ: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب". 305 - * روى الحاكم عن أبي أمامة بن سهل قال: قال لي أبي: يا بُني لقد رأيتُنا يوم بدرٍ وإن أحدنا ُشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. 306 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدرٍ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسع عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه سولم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تُعبدُ في الأرض" فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كذاك مُناشدتك ربك، فإنه سينجزُ لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) فأمده الله بالملائكة، قال سِماك: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجلٍ من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزُوم فنظر إلى المشرك أمامهُ خر مستلقياً، فنظر إليه،

_ 204 - البخاري (7/ 212) 64 - كتاب المغازي - 11 - باب شهود الملائكة بدراً. 205 - المستدرك (3/ 409) كتاب معرفة الصحابة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 206 - (3/ 1383) 32 - كتاب الجهاد والسير - 18 - باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم. هتف به: إذا ناداه وصاح به، والمراد به: الدعاء والتضرع في السؤال. العصابة: الجماعة من الناس. يناشده: المناشدة: المسألة والطلب، والابتهال إلى الله تعالى. مردفين: أي: متتابعين، يتبع بعضهم بعضاً. (1) الأنفال: 9. يشتد: الشد: العدو. خيؤوم: اسم فرس من خيل الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين يوم بدر.

فإذا هو قد خُطِمَ أنفه وشُق وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمعُ، فجاء الأنصاريُّ، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت، ذلك منْ مددِ السماء الثالثة" فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين، قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلتُ: لا والله، يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمكنا، فنضرب أعناقهم، فتُمكن علياً من عقيلٍ فيضرب عنقه، وتمكني من فلان -نسيباً لعمر - فأضربه عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكير أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (1). فأحل الله الغنيمة لهم. وأخرج الترمذي (2) منه إلى قوله: فأمده الله بالملائكة.

_ = خطم أنفه: الخطم - بالحاء المهملة - الدق والكسر، وبالخاء المعجمة: الأثر على الأنف، كما يخطم البعير بالكي، يقال: خطمت البعير: إذا وسمته بكي في الأنف إلى أحد خديه، والخِطامُ: السمة في عرض الوجه إلى الخد. صناديدها: الصناديد جمع صنديد، وهو السيد الشجاع. فهوى: هويت الشيء أهواه: إذا ملت إليه، ورغبت فيه. يثخن: أي حتى يكثر فيها القتل، ويتمكن منها، وتقوى شوكته. (1) الأنفال: 67، 68. (2) الترمذي (5/ 269) كتاب تفسير القرآن - باب: ومن سورة الأنفال، قال: حديث حسن صحيح غريب.

وأخرج أبو داود (1) منه طرفاً قال: حدثني عمرُ بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر، فأخذ - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الفداء، فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم. 307 - * روى البخاري (2) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهلٍ؟ قلت: نعم، ما حاجتُك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرتُ أنه يسُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سوادهُ حتى يموت الأعجلُ منا، قال: فتعجبت لذلك، قال: فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه، فقال: "أيكما قتله؟ " قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: "كلاكما قتله سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح"، وكانا معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. وفي أخرى (2) قال: إني لفي الصفة يوم بدر، إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري

_ (1) أبو داود (3/ 61) كتاب الجهاد - باب: في فداء الأسير بالمال. 307 - البخاري (6/ 346) 57 - كتاب فرض الخمس - 18 - باب: من لم يخمس الأسلاب. ومسلم (3/ 1372) 32 - كتاب الجهاد والسير - 13 - باب: استحقاق القاتل سلب القتيلز بين أضلع منهما أي: أقوى منهما وأشد: والضليعُ: القوي الشديد. سوادي سواده: أي شخصي شخصه. حتى يموت الأعجل منا: أي لا أفارقه حتى يموت أحدنا، وهو الأقرب أجلاً. لم أنشب: أي لم ألبث. أي لم يمض زمن كثير على سؤالهما إلا وأنا رأيته. كلاكما قتله: تطييباً لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب، وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعاً، إنما وُجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضي له بالسلب. (2) البخاري (7/ 307) 63 - كتاب المغازي - باب: 10.

فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانها، إذ قال لي أحدهما سِراً من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي وماتصنعُ به؟ قال: عاهدت الله إن رأيتُه أن أقتله أو أمُوت دُونه، فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فماسرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إيه فشدا عليه مثل الصقرين، حتى ضرباه، وهُما ابنا عفراء. 308 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر "مَنْ ينظر ما صنع أبو جهل" فانطلق ابن مسعود فوجَدَهُ قد ضربه ابنا عفراء، حتى برد فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبو جهل؟ قال: وهل فوق رجُلٍ قتلتموه؟ أو قال: قتلهُ قومه؟ وفي رواية: قال أبو جهلٍ: فلو غير أكار قتلني. 309 - * روى الطبراني عن ابن مسعود قال: أدركتُ أبا جهلٍ يوم بدر صريعاً، فقلتُ: أي عدو الله قد أخزاك الله قال: وبما أخزاني من رجل قتلتموه. ومعي سيف لي فجعلت أضربه ولايَحْتَكُّ فيه شيء ومعه سيف له جيد فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفتُ المغفر عن رأسه فضربتُ عنقهُ، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "الله الذي لا إله إلا هو" قلت: الله الذي لا إله إلا هو قال: "انطلق فاستثبتْ" فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر ثم جئتُ وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرتُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق" فانطلقتُ معه، فأريتُه فلما وقف عليه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا فرعونُ هذه الأمةِ"

_ 208 - البخاري (7/ 293) 64 - كتاب المغازي - 8 - باب: قتل أبي جهل. وكذا في (7/ 321) 64 - كتاب المغازي - 11 - باب: شهود الملائكة بدراً. ومسلم (3/ 1424) 32 - كتاب الجهاد والسير - 41 - باب: قتل أبي جهل. أكار: الأكار: الفلاح، وأراد بقوله ذلك استصغاراً واستعظاماً، كيف مثله يقتل مثله. حتى برد: أي صار في حالة من مات ولم يبق منه إلا حركة المذبوح. 309 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 79) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن وهب بن أبي كريمة، وهو ثقة. المغفر: زَرَدٌ ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

310 - * روى الطبراني عن حَكِيمِ بن حِزامٍ قال: سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرضِ كأنه صوتُ حصاةٍ في طستٍ ورمَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة فانهزمنا. 311 - * روى البزارُ عن ابن عباسٍ، قال: أخذتْهم ريحٌ عقيمٌ يوم بدر. 312 - * روى الطبراني عن ابن عباس، أن النبي قال لعلي: "ناولني كفاً من حصى" فناوله، فرمى به وجوه القوم فما بقي أحدٌ من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ...} (1). أقول: وهكذا اجتمع في بدر الأخذ بالأسباب بالقدر الممكن مع التوفيق الرباني في تهيئة جميع أسباب النصر متعاونة متكافئة مع التأييدات الرباينة الخارقة والغيبية، ففي عالم الأسباب تشكل دراسة الأرض والطقس ووجود القيادة والثقة بها والروح المعنوية لبناتٍ أساسية في صحة القرار العسكري، ولقد كانت الأرض لصالح المسلمين وكان الطقس مناسباً للمعركة، والقيادة الراقية موجودة والثقة بها عالية والروح المعنوية سابقة، وبعض من هذه المعاني كان من الله بشكل مباشر وتوفيقه وبعضها كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذاً بالأسباب المطلوبة فتضافر الأخذ بالأسباب مع توفيق الله وزيد على ذلك التأييدات الغيبية والخارقة فكان ما كان، وذلك نموذج على ما يعطاه المسلمون بفضل الله إذا ما صلحت النيات عند الجند والقادة ووجدت الاستقامة على أمر الله، وأخذ المسلمون بالأسباب. * * *

_ 310 - أورده الهيثمي في المجمع (6/ 84) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده حسن. 311 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 77) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. الريح العقيم: هي التي لا تلقح. 312 - المعجم الكبير (11/ 285) وأورده الهيثمي في المجمع (6/ 84) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (1) الأنفال: 17.

313 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أمْ الرُّبيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سُراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله لا تحدثني عن حارثة - وكان قُتِلَ يوم بدر، أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غيرُ ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء؟ قال: "يا أم حارثة، إنها جنانٌ في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". وفي رواية (1): قال أنس: أصيب حارثةُ يوم بدر وهو غلامٌ، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبرُ وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال: "ويْحَكِ - أو هَبِلْتِ - أو جنة واحدة هي؟ إنها جنانٌ كثيرةٌ، وإنه في جنة الفردوس". وزاد رَزِين: "وإنه في الفردوس الأعلى. وسقفُه عرشُ الرحمن، ومنه تفجر أنهارُ الجنةِ، وإن غدوةً في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقابُ قوس أحدكم - أو موضع قِدِّه - من الأرض في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعتْ إلى الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولنصيفُها - يعني خمارها - خيرٌ من الدنيا وما فيها". 314 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عباس، ذكر حديث المبارزة وأن عُتْبة بن ربيعة قتل عُبيدة بن الحارث مبارزة ضربه عتبةُ على ساقه فقطعها فحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمات بالصفراء مُنصرفِهِ من بدرٍ فدفنه هنالك.

_ 313 - البخاري (6/ 26) 56 - كتاب الجهاد - 14 - باب: من أتاه سهم غرب فقتله. سهم غربٍ: يقال: أًابه سهم غرب، يضاف ولا يضاف، وتحرك الراء وتسكن إذا لم يدر من أين أتاه. ولقاب قوس أحدكم. أو موضع قِده: ألقاب: القدر، والقد: السوط، يعني لقدر قوسه من الجنة خير من الدنيا وما فيها. (1) البخاري (11/ 415) 81 - كتاب الرقاق - 51 - باب: صفة الجنة والنار. 314 - المستدرك (3/ 188) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. الصفراء: واد قرب المدينة كثير النخل والزرع والخير يجلب منه التمر إلى المدينة.

315 - * روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كاتبتُ أمية بن خلفٍ كتاباً: بأن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرتُ (الرحمن) قالك لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان لك في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو) فلما كان يوم بدر خرجتُ إلى جيلٍ لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلالٌ، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلفٍ، لا نجوتُ إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيتُ أن يلحقونا خلفت لهم ابنه، لأشغلهُم به، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعُونا، وكان رجلاً ثقيلاً. فلما أدركونا قلتُ له: ابْرُك، فبَرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتجللوُه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن يُرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه. وفي رواية: فلما كان يوم بدر، حصللي درعان، فلقيني أمية فقال: خُذني وابني، فأنا خيرٌ لك من الدرعين، أفتدي منك، فرآه بلالٌ، فقال: أمية رأسُ الكفر، لا نجوتُ إن نجا أمية، فقتلهُما، فكان ابن عوفٍ يقول: يرحمُ الله بلالاً، فلا درعي ولا أسيري. قال في الفتح: قوله: (بأن يحفظني في صاغيتي) الصاغية بصاد مهملة وغين معجمة خاصة الرجل، مأخوذ من صغى إليه إذا مال. قال الأصمعي: صاغية الرجل كل من يميل إليه، ويطلق على الأهل والمال. وقال ابن التين: رواه الداودي ظاعنتي بالظاء المشالة المعجمة والعين المهملة بعدها نون، ثم فسره بأنه الشيء الذي يسفر إليه قال ولم أر هذا لغيره. قوله: (لا أعرف الرحمن) أي لا أعترف بتوحيده، وزاد ابن إسحق في حديثه أن أمية بن خلف كان يسميه عبد الإله. قوله: (حين نام الناس) أي رقدوا، وأراد بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دمه. قوله (فقال: أمية بن خلف) بالنصب على الإغراء، أي عليكم أمية، وفي راية أبي ذر بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا أمية. قوله: (خلفت لهم

_ 315 - البخاري (4/ 480) 40 - كتاب الوكالة - 2 - باب: إذا وكل المسلم حربياً في دار الحرب أو في دار الإسلام. لأحرزه: أي: لأحوطه وأحفظه من القتل، ومنه الحرزُ، وهو الموضع الذي يحفظ فيه الشيء. فتحللوه: تحللوه بالسيوف. أي: قتلوه بها طعناً، جعل السيوف في هذه الحالة كالأخلة، حيث لم يقدروا أن يضربوه بها.

ابنه) هو علي بن أمية، ووجه أخذ الترجمة من هذا الحديث أن عبد الرحمن بن عوف وهو مسلم في دار الإسلام فوض إلى أمية بن خلف وهو كافر في دار الحرب ما يتعلق بأموره، والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولم ينكره، قال ابن المنذر: توكيل المسلم حربياً مستأمناً وتوكيل الحربي المستأمن مسلماً لا خلاف في جوازه. قوله (وكان رجلاً ثقيلاً) أي ضخم لجثة. 316 - * روى الطبراني عن شقيق أن ابن مسعود حدثهُ: أن الثمانية عشر الذين قُتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل الله أرواحم في الجنة في طيرٍ خُضْرٍ تسرحَ في الجنة، فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربُّك اطلاعة، فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟ فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا شيء قال: فيقول عبادي ماذا تشتهون؟ فيقولون في الرابعة ترُدُّ أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قُتِلْنا. أقول: المشهور أن الذين استشهدوا من المسلمين يوم بدر أربعة عشر فلعل ذكر الثمانية عشر ههنا وهم، وقد ذكر أسماء الشهداء ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وكان الذين استشهدوا من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً: من المهاجرين ستة وهم: عُبيدة بن الحارث بن المطلب قطعت رجله فمات بالصفراء رحمه الله، وعُمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص الزُّهري قتله العاص بن سعيد وهو ابن ست عشرة سنة ويقال إنه كان قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل رضي الله عنه، وحليفهم ذو الشمالين بن عبد عمرو الخُزاعي، وصفوان بن بيضاء، وعاقلُ بن البُكير الليثي حليف بني عدي، ومهجع مولى عمر بن الخطاب وكان أول قتيل قُتِلَ من المسلمين يومئذ، ومن الأنصار ثمانية وهم: حارثة بن سراقة رماه حِبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات، ومُعوذ وعوف ابنا عفراء، ويزيد بن الحارث - ويقال ابن قُسْحُم - وعُمير بن الحمام، ورافع بن المعلي وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر رضي الله عن جمعيهم. 317 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما فرغ رسول الله

_ 316 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 90) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 317 - الترمذي (5/ 299) كتاب التفسير - باب: ومن سورة الأنفال. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ... =

صلى الله عليه وسلم من بدرٍ قيل له: عليك العيرُ، ليس دُونها شيءٌ، قال: فناداه العباس وهو في وثاقِهِ: لا يصلحُ، وقال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. قال صاحب الفتح الرباني: العير بكسر العين الإبل بأحمالها يعني عير أبي سفيان التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين من المدينة يريدها فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها وسبقت العير المسلمين، فلما فاتهم العدو نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدراً فوقع القتال، وهذه العير يقال كانت ألف بعير وكان المال خمسين ألف دينار وكان فيها ثلاثون رجلاً من قريش وقيل أربعون وقيل ستون، (ليس دونها شيء) أي ليس دون العير شيء يزاحمك، (فناداه العباس) يعني ابن عبد المطلب وكان إذ ذاك أسيراً (في وثاقه) بكسر الواو وفتحها ما يشد به من قيد وحبل ونحوهما (لايصلح لك) أي لا ينبغي لك. المراد بالطائفتين العير والنفير فكان في العير أبو سفيان ومن معه كعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وما معه من الأموال، وكان في النفير أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهم من روساء قريش، زاد الترمذي قال: أي النبي صلى الله عليه وسلم (صدقت) أي فيما قلت. أهـ. 318 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أمر يوم بدرٍ بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قُريش، فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدرٍ خبيثٍ مُخبثٍ، وكان إذا ظهر على قومٍ أقام بالعرصة ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث: أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطقُ إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الرِّكيِّ فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلانُ بن فلانٍ، ويا فلان بن فلانٍ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ " فقال عمر: يا رسول الله ما تُكلم من أجسادٍ لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسُ محمدٍ

_ = وأحمد في مسنده (1/ 329). 318 - البخاري (7/ 300) 64 - كتاب المغازي - 8 - باب: قتل أبي جهل. ومسلم (4/ 3204) 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمه وأهلها - 17 - باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو انار عليه. عرصة الدار: ساحتها. الرحل: رحل البعير: ما يوضع على ظهره للركوب فكل شيء بعد الرحيل من وعاء للمتاع وغيره.

بيده، ما أنتم بأسمع لما أقولُ منهم" قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً، وتصغيراً، ونقمة، وحسرة، وندماً. قال صاحب فتح الباري: وسيأتي من حديث البراء أن قتلى بدر من الكفار كانوا سبعين، وكأن الذين طرحوا في القليب كانوا الرؤساء منهم ثم من قريش، وخصوا بالمخاطبة المذكورة لما كان تقدم منهم من المعاندة، وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى. وأفاد الواقدي أن القليب المذكور كان حفره رجل من بني النار فناسب أن يلقي فيه هؤلاء الكفار. قوله: (على شفة الركي) أي طرف البئر، وفي رواية الكشميهني (على شفير الركي) والركي بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد آخره: البئر قبل أن تطوى. والإطواء جمع طوى وهي البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار، ويجمع بين الروايتين بأنها كانت مطوية فاستهدمت فصارت كالركي. قوله: (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان) في رواية حميد عن أنس (فنادى يا عتبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام) أخرجه ابن إسحق وأحمد وغيرهما، وكذا وقع عند أحمد ومسلم من طريق ثابت عن أنس، فسمى الأربعة، لكن قدم وأخر، وسياقه أتم. قال في أوله: (تركهم ثلاثة أيام حتى جيفوا) فذكره، وفيه من الزيادة: فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ أهـ. 319 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: "يا أهل القليبِ هل وجدتم ما وعد ربكُم حقاً فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً" قالوا: يا رسول الله هل يسمعُونَ ما تقول؟ قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول مهم ولكنهم اليوم لا يجيبون". 320 - روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدرٍ ثلاثاً، ثم أتاهم، فقام عليهم، فناداهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام، يا أميةُ بنُ

_ 319 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 91) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 320 - مسلم (4/ 2303) 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - 17 - باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه.

خلفٍ، يا عتبةُ بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً" فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، كيف يسمعوا؟ وأني يُجيبوا وقد جيفُوا؟ قال: "والذي نفسي بيده، ما أنتمُ بأسمع لما أقولُ منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يُجيبوا"، ثم أُمِرَ بهم فسُحبوا، فأُلقُوا في قليب بدرٍ. قال النووي: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم): قال المازري: قال بعض الناس: الميت يسمع عملاً بظاهر الحديث ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء ورد عليه القاضي عياض وقال: يحمل سماعهم على ما يحمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لا مدفع لها وذلك بإحئايهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون في الوقت الذي يريد الله. أهـ. هذا كلام القاضي وهو الظاهر المختار الذي تقتضيه أحاديث السلام على القبور والله أعلم. ولأن عائشة رضي الله عنها كان لها تحفظ على بعض هذه الروايات فقد قال ابن حجر في الفتح: ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفظاً فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة، قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم مالا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن. 371 - * روى الحاكم عن أمامة بن سهل قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله

_ جيفوا: جاف القتيلُ وجيف: إذا أنتن. القليبُ: البئر يذكر ويؤنث. 321 - المستدرك (3/ 218) وقال: هذا حديث صحيح علىش رط مسلم ولم يخرجاه: وسكت عنه الذهبي. ... =

3 - الأنفال

وسلم من بدرٍ بعث بشيرينِ إلى أهل المدينة، بعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وبعث عبد الله بن رُواحة إلى أهل العالية يبشرونهم بفتح الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فوافق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوى التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: ذاك أبوك حين قدم قال أسامة: فجئت وهو واقف للناس يقول: قُتِل عُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهلٍ بن هشام ونبية ومنبه وأمية بن خلف فقلت: يا أبتِ أحق هذا قال: نعم، والله يا بُني. 3 - الأنفال 322 - * روى أحمدُ عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهد معهُ بدراً فالتقى الناسُ فهزم الله تبارك وتعالى العدو فانطلقت طائفةً في آثارهم يهزمُون ويقتُلون، فأكبت طائفة على العسكر يحوونَهُ ويجمعونه أحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُصيبُ العدو منه غُرةُ حتى إذا كان الليل وفاء الناسُ بعضهم إلى بعضٍ قال الذين جمعوا الغنائم نحن جويناها وجمعناها فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو، وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخِفنا أن يصيب العدوُ منه غرةً واشتغلنا به فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (1) فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عيه وسلم إذا أغار في أرض العدو ونفل الربع، وإذ أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث، وكان يكره الأنفال ويقول: "ليرد قويُّ المؤمنين على ضعيفهم".

_ العالية: اسم لما كان من جهة نجد منالمدينة من قراها وعمائرها. سوى: سوى الشيء: قومه وعدله وجعله سوياً. 322 - أحمد في مسنده (5/ 324). غرة: غفلة في اليقظة - جمع غِرر. فاء: رجع. النفل: الغنيمة. (1) الأنفال: 1.

روى الترمذي وابن ماجه منه: كان يُنفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث فقط. وفي رواية عندهُ سألت عبادة بن الصامت رحمه الله عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواءٍ يقول على السواء. أقول: (في البداءة الربع): أراد بالبدأة ابتداء الغزو، وبالرجعة القفول منه. قال في النهاية باختصار: (أي إذا نهضت سرية من جملة العسكر المقبل على العدو فأوقعت بهم نفلها الربع، وإذا فعلت ذلك عند عود العسكر نفلها الثلث لأن الكرة الثانية أشق ولأنهم في الأول أنشط وأشهى وهي عند القفول أضعف وأفتر. 323 - * روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ بدرٍ، جئتُ بسيفٍ، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفى صدري من المشركين - أو نحو هذا - هب لي هذا السيف، فقال: "هذا ليس لي ولا لك"، فقلتُ: عسى أن يُعطى هذا من لا يُبلى بلائي، فجاءني الرسولُ فقال: "إنك سألتني وليست لي وقد صارت لي، وهو لك" قال: فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ...} الآية. 324 - * روى الترمذي عن عُبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُنَفِّل في ابدأةِ الربع وفي القفول الثلث. 325 - * روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفلَ سيفهُ ذا الفقارِ

_ 323 - الترمذي (5/ 368) كتاب تفسير القرآن - باب: ومن سورة الأنفال. وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود (3/ 77) كتاب الجهاد - باب: في النفل. يبلى بلائي: أبليت بلاءاً حسنا، أي: صنعتُ، والأصل فيه: الابتلاء والاختبار، أي: فعلت فعلاً اختبرتُ فيه، ظهر به خيري وشري. 324 - الترمذي (4/ 130) كتاب السير - باب: في النفل. وقال: وفي الباب عن ابن عباس وحبيب بن مسلمة ومعن بن يزيد وابن عمر وسلمة بن الأكوع. وحديث عبادة حديث حسن. 325 - الترمذي (4/ 130) كتاب السير - باب: في النفل. وقال: هذا حديث حسن غريب. تنفل: تنفل الشيء: إذا أخذه زيادة عن السهم. ذا الفقار: اسم سيف النبي صلى الله عليه وسلم، سمى بذلك لأنه كان فيه حُفر صغار حسان، فيقال للحفرة: فُقْرة.

يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أُحُدٍ. قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم في النفل من الخُمُسِ، فقال مالك بن أنس: لمْ يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كُلها. وقد بلغني أنه نفل في بعضها وإنما ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام في أول المغنم وآخره، قال ابن منصور: قلتُ لأحمد: إن النبي صلى الله عليه وسلم نفل إذا فصل بالربُع بعد الخمُس وإذا قفل بالثلث بعد الخمس؟ فقال: يُخرج الخمس ثم ينفل مما بقي ولا يُجاوز هذا. قال أبو عيسى: وهذا الحديثُ على ما قال المسيب النفل من الخُمس، قال إسحق كما قال. 326 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت أميحُ أصحابي الماء يوم بدر. وفي نسخة: أمنحُ أصحابي الماء يوم بدر. قال أبو داود: معناه: أنه لم يُسهم له. 327 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم تحل الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكُم كانت تنزلُ نار من السماء فتأكُلها" قال سليمان الأعمش: فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الآن؟ فلما كان يوم بدرٍ، وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ

_ = الرؤيا: التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُد: هي أنه رأى كأن في سيفه فلولا، فأولها: هزيمة، وكانت يوم أُحد. 326 - أبو داود (3/ 75)، كتاب الجهاد، باب: في المرأة والعبد يُحذيان من الغنيمة، وإسناده قوي. أمنح: أميح: المانح: المعطي، والمائحُ: الذي ينزل إلى أسفل البئر فيملأ الدلو، ويدفعها إلى المانح، وهو الذي يستقي الدلو. 327 - الترمذي (5/ 371)، 48 - كتاب تفسير القرآن، 9 - باب: "ومن سورة الأنفال" وقال: حديث حسن صحيح غريب. لأحد بسود الرءوس: للناس، فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الآن: أي لا يروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة.

عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1). أقول: ورد في الحديث: وأحلت لي الغنائم. وكانت الغنائم لا تحل لبني إسرائيل وإحلالها للأمة الإسلامية من التيسير في دين الإسلام {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (2). 328 - * روى الطبراني عن الأرقم بن أبي الأرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ: "رُدُّوا ما كان معكم من الأنفال" فرفع أبو أسيد الساعدي سيف بني العابد المرزبان فعرفهُ الأرقم، فقال: هبةُ لي يا رسول الله فأعطاه إياه. 329 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا" قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الرايات، فلم يبرحوها، فلم فتح الله عليهم، قال المشيخة، كنا ردءاً لكم، لو أنهزمتُم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونُبقي، فأبى الفتيان، وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ

_ (1) الأنفال: 68. (2) الأعراف: 157. 328 - المعجم اكبير (1/ 307) مختصراً. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 92)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجاله ثقات. بنو عابد: من بني مخزوم، والأرقم: من بني مخزوم، والمرزبان: اسم السيف فقد طلب الأرقم رضي الله عنه سيف أسرته المشهور. 329 - أبو داود (3/ 77)، كتاب الجهاد، باب في النفل. النفل: بفتح الفاء: الغنيمة، وأصله الزيادة، وهو أيضاً: ما يُعطاه الإنسان زيادة على سهمه من الغنيمة، وتروي بسكون الفاء. ردءاً لكم: الردء: المساعد والمعين. فئتم: فاء، يفيء: إذا رجع، يعني: إن خفتم أمراً رجعتم إلينا.

رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (1) يقول: فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعُوني، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. وفي رواية يقول: فكما كان خروجه خيراً لكم، فكذلك فأطيعوا الله ربكم، فإنه أعلم بعاقبة أموركم ومصالحها، فاصطلحوا، ورضي كل بقسم الله فيهم. في رواية بإسناده (2) ومعناه، قال: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء. 330 - * روى البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ضُربتْ يوم بدرٍ للمهاجرين بمائة سهمٍ. قال البخاري: فجميع من شهد بدراً من قريش ممن ضُرِبَ له بسهمه: أحدٌ وثمانون رجلاً، وكان عروة بن الزبير يقول: قال الزبير: قُسمت سهمانُهم، فكانوا مائة. والله أعلم. قال الحافظ في الفتح: قوله (ضربت يوم بدر المهاجرين بمائة سهم) عند ابن عائذ من طريق أبي الأسود عن عروة (سألت الزبير على كم سهم جاء للمهاجرين يوم بدر؟ قال: على مائة سهم) قال الداودي هذا يغاير قوله (كانوا إحدى وثمانين) قال: فإن كان قوله بمائة سهم من كلام الزبير فلعله دخله شك في العدد، ويحتمل أن يكون من قول الراوي عنه، قال: وإنما كانوا على التحرير أربعة وثمانين، وكان معهم ثلاثة أفراس فأسهم لها سهمين سهمين، وضرب لرجال كان أرسلهم في بعض أمره بسهامهم فصح أنها كانت مائة بهذا الاعتبار. قلت: هذا الذي قاله أخيراً لا بأس به، لكن ظهر أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس، وذلك أنه عزل خمس الغنيمة ثم قسم ما عداه على الغانمين على ثمانين سهماً عدد من شهدها ومن ألحق بهم، فإذا أضيف إليه الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم، والله أعلم.

_ (1) الأنفال: 1 - 5. (2) أبو داود (3/ 77) كتاب الجهاد، باب: في النفل. 330 - البخاري (7/ 324)، 64 - كتاب المغازي. 13 - باب: حدثني خليفة.

فوائد

فوائد: 1 - قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقشٍ كما حدثني عاصم بن عمر ويزيد بن رومان ما الذي تهنؤننا به. والله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبُدن المعقلة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أي ابن أخي أولئك الملأ) قال ابن هشام: يعني الأشراف والرؤساء. 2 - المسلم يقاتل لله وفي الله، والغنيمة لا تشكل بالنسبة له هدفاً يؤثر على نية القتال في سبيل الله، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر حافزاً للبشرية، وقد أراح الله عز وجل هذه النفس فأعطاها من الغنائم حتى لا تفكر أصلاً. وقد نزلت سورة الأنفال تحدد استحقاق المقاتلين بأنه أربعة أخماس الغنيمة بعد أن يأخذ أهل البلاء ما وعدوه من الإمام وبعد أن يأخذ الإمام الخمس ليضعه في المصارف التي حددها الله عز وجل. 3 - وأعطى الإسلام للإمام أو الأمير أن يعد أهل البلاء بأن لهم كذا وكذا، وقد يعطي مجموعة حصة من الغنيمة قبل التخميس، وذلك كذلك يشكل حافزاً ولا ينبغي أن يؤثر على أصل النية. 4 - بالنسبة لغنائم بدر فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم ما وعد به أهل البلاء من نفل، ثم من خمس الغنيمة، ووزع أربعة أخماسها على المقاتلين أو من هم في حكمهم ورضخ لغير المقاتلين، وأعطى بعض المقاتلين من الخمس لأنه عليه الصلاة والسلام كان له خمس الخمس. 5 - من هذه المعاني تدرك أنه ينبغي للأمير أن ينفل المقاتلين فيقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أي ما يحمله أثناء القتل، أو يقول: له سلبه وله ربع ما يملك أو ثلث ما يملك فكل ذلك من السنة، وما زاد على ذلك يخمس فتأخذ المجموعة المقاتلة أربعة أخماسه،

4 - فضل أهل بدر

والخمس يصرفه الإمام في مصارفه. وفقه هذا الأمر من أهم أنواع الفقه لمن يمارس شؤون القتال. * * * 4 - فضل أهل بدر 331 - * روى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجُو أن لايدخُل النار من شهد بدراً إن شاء الله". 332 - * روى الطبراني عن أبي هريرة أن رجلاص من الأنصار عمي فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطط لي في داري مسجداً لأصلي فيه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع إليه قومه فتغيب رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل فلان؟ " فذكره بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد شهد بدراً" قالوا: نعم ولكنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى أهل بدرٍ فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". 333 - * روى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي - وكان من أهل بدر - رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة. وفي حديث حماد بن زيد: وكان رفاعة من أهل بدر، وكان رافع من أهل العقبة فكان يقول لابنه: ما يسرني أني شهدتُ بدراً بالعقبة، قال: سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم يعني فقال: ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ ... وذكر باقي الحديث نحوه

_ 331 - البزار (3/ 288)، كتاب علامات النبوة، باب: مناقب أهل بدر والحديبية. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 161)، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. 332 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 106)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده جيد. فذكره بعض القوم: أي يسوء. الرجل الأعمى: هو عتبان بن مالك الأنصاري. 333 - البخاري (7/ 312)، 64 - كتاب المغازي، 11 - باب: شهود الملائكة بدراً.

في رواية (1): أن ملكاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم. 334 - * روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلع الله على أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم". 335 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن عبداً لحاطبٍ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخُلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية". قال النووي في شرحه على مسلم: وفيه فضيلة أهل بدر والحديبية وفضيلة حاطب لكونه منهم وفيه أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه عمداً كان أو سهواً سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل وخصته المعتزلة بالعمد وهذا يرد عليهم. وقال بعض أهل اللغة لا يستعمل الكذب إلا في الإخبار عن الماضي بخلاف ما هو مستقبل وهذا الحديث برد عليهم. 336 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) عن بدر والخارجون إلى بدر. 337 - * روى الترمذي: لما نزلت غزوة بدرٍ، قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا رخصة؟ فنزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} و {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} فهؤلاء القاعدون

_ (1) البخاري (7 - 312) 64 - كتاب المغازي - 11 - باب: شهود الملائكة بدراً. 334 - أبو داود (4/ 213)، كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وإسناده صحيح. 335 - مسلم (4/ 1942)، 44 - كتاب فضائل الصحابة، 36 - باب: من فضائل أهل بدر، رضي الله عنهم، وقعة حاطب بن أبي بلتعة. 336 - البخاري (8/ 260)، 65 - كتاب التفسير، 18 - باب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبل الله. (2) النساء: 95. 337 - الترمذي مطولاً (5/ 341)، 48 - كتاب تفسير القرآن، 5 - باب: "ومن سورة النساء"، وقال: هذا حديث حسن غريب.

غير أولي الضرر، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. قال صاحب الفتح: وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نياتهم كما تقدم في المغازي من حديث أنس (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم حبسهم العذر). ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي من أولي الضرر وغيرهم. من غاب عن بدر وكان كأهلها: 338 - * روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما تغيب عثمان عن بدرٍ فإنه كان تحته بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه". قال ابن كثير في البداية والنهاية: وفي الذين عدهم ابن إسحاق في أهل بدر من ضرب له بسهم في مغنمها وأنه لم يحضرها تخلف عنها لعذر أذن له في التخلف بسببها وكانوا ثمانية أو تسعة وهم، عثمان بن عفان تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه وأجره، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كان بالشام فضرب له بسهمه وأجره، وطلحة بن عبيد الله كان بالشام أيضاً فضرب له بسهمه وأجره، وأبو لبابة بشير بن عبد المنذر رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء حين بلغه خروج النفير من مكة فاستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره، والحارث بن حاطب بن عبيد بن أمية رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً من الطريق وضرب له بسهمه وأجره، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء فرجع فضرب له بسهمه، زاد الواقدي: وأجره، وخوات بن جُبير لم يحضر الوقعة وضرب له بسهمه وأجره، وأبو الصياح بن ثابت خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب ساقه فَصِيل

_ 338 - البخاري (6/ 335)، 57 - كتاب فرض الخمس. 14 - باب: إذا بعث الإمام رسولاً في حاجة، أو أمره بالمقام، هل يسهم له؟.

5 - الأسارى

حجر (1) فرجع وضرب له بسهمه وأجره. * * * 5 - الأسارى 339 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أساري بدرٍ وكان فداءُ كل رجلٍ منهم أربعة آلافٍ، وقُتِلَ عقبة بنُ أبي معيطٍ قبل الفداء، قام إليه علي بن أبي طالب فقتله صبراً فقال من للصبية يا محمد؟ قال: "النارُ". 340 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهلِ الجاهلية يوم بدر أربع مائة. قال ابن كثير: وهذا كان أقل ما فُودي به أحدٌ من المال، وأكثر ما فُودي به الرجل منهم أربعة آلاف درهم. 341 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: كان ناسٌ من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يُعلموا أولاد الأنصار الكتابة، قال فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني مُعلمي قال: الخبيثُ يطلب بذحل بدرٍ والله لا تأتيه أبداً. 342 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبريل عليه السلام هبط عليه، فقال له: خيرهُم - يعني أصحابك -، في

_ (1) فصيل حجر: قطعة من حجر. 339 - المعجم الكبير (11/ 406). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 89)، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح. 340 - المستدرك (2/ 125)، كتاب الجهاد، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 341 - أحمد في مسنده (1/ 247)، وهو على شرط السنن. الذحل: الحقد والثأر، جمعها أذحال وذحول. 342 - الترمذي (4/ 135)، 33 - كتاب السير، 18 - باب: ما جاء في قتل الأسارى والفداء، وإسناده صحيح. ... =

أسارى بدرٍ: القتلُ، أوالفداء، على أن يُقتل منهم قابل مثلُهُم" قالوا: الفداء، ويُقتل منا. 343 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال: "لا تدعون منها درهماً". 344 - * روى الطبراني عن أبي عزير بن عمير أخي مُصعب بن عمير قال: كنت في الأسرى يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالأسارى خيراً" وكنتُ ف ينفر من الأنصار فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. 345 - * روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعمُ بنُ عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنَى، لتركتُهم له" وفي بعض الروايات: "لما له من يدٍ". قال في الفتح: المراد باليد المذكورة ما وقع منه حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، وقد ذكر ابن إسحق القصة في ذلك مبسوطة، وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل وفيه (أن المطعم أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك) وقيل المراد باليد المذكورة أنه كان من أشد من قام في نقض الصحفة التي

_ = من قابل: في العام التالي. 343 - البخاري (6/ 167)، 56 - كتاب الجهاد، 172 - باب: فداء المشركين. 344 - أوردهالهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 86)، وقال: رواه الطبراني في الصغير والكبير، وإسناده حسن. البر: القمح، أي: الخبز، وقد كان الخبز خيراً من التمر عند العرب. 345 - البخاري (6/ 343)، 57 - كتاب فرض الخمس - 16 - باب: ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس. النتنى: أراد بهم الأسرى، وجعلهم نتنى لأنهم كفار مشركون، والمشركون نجس، فاستعار لهم النتن مجازاً، وإطلاقهم له ليد كانت للمطعم.

كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل السيرة، وروى الطبراني من طريق محمد بن صالح التمار عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه قال: (قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم، فكونوا أكف الناس عنه) وذلك بعد الهجرة ثم مات المطعم بن عدي قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي قال: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خير أصحابك في الأسرى، إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاماً مقبلاً مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا). وأخرج مسلم هذه القصة مطولة من حديث عمر ذكر فيها السبب، هو أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ " فقال أبو بكر: أرى أن نأخذ منهم قوة تكون لنا، وعسى الله أن يهديهم. فقال عمر: أرى أن تمكنا منهم فتضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر) الحديث، وفيه نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}. وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولما استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم في الإسلام إما بنفسه إما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب كما ثبت ذلك عن الله في حق من كتب له الرحمة، وأما العتاب على الأخذ ففيه إشارة إلى ذم من آثر شيئاً من الدنيا على الآخرة ولو قل، والله أعلم. 346 - * روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر - وجيء بالأسارى - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ " فذكر في الحديث قصة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء، أو ضرب عنق" قال عبد الله بن مسعود فقلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فإني قد سمعته

_ 346 - الترمذي (5/ 371)، 48 - كتاب تفسير القرآن - 8 - باب: "ومن سورة الأنفال"، وقال: هذا حديث حسن، وقد حسنه مع انقطاعه لكثرة شواهده.

يذكر الإسلام، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما رأيتني في يومٍ أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، قال: حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء" قال: ونزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...} (1) إلى آخر الآيات. 347 - * روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدرٍ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثالثمائة وتسعة عشر رجلاً. فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة. ثم مد يديه فجعل يهتف بربه "اللهم! أنجز لي ما وعدتني. اللهم! آت ما وعدتني. اللهم! إن تُهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبدُ في الأرض" فما زال يهتف بربه، ماداً يديه، مُستقبل القِبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاهُ أبو بكر. فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه. وقال: يا نبي الله! كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) فأمده الله بالملائكة. قال أبو زُميلٍ: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامهُ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدِمْ حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه، وشُقَّ

_ = يذكر الإسلام: أسلم سهيل بمكة وكتم إسلامه فأخرجته قريش إلى بدر فأسر وشهد له ابن مسعود أنه رآه يصلي بمكة، كذا في الإصابة. يثخن: يبالغ في القتل. (1) الأنفال: 9. 347 - مسلم (3/ 1383) - 22 - كتاب الجهاد والسير - 18 - باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم. العصابة: الجماعة. مناشدتك: طلبك من ربك ممدكم: مرسل إليكم. مردفين: متتابعين بعضهم في إثر بعض. (2) الأنفال: 67 - 71.

وجههُ كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمعُ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت. ذلك من مددِ السماء الثالثة" فقتلوا يومئذٍ سبعين، وأسروا سبعين. قال أبو زُميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية. فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى؟ يا ابن الخطاب! " قلتُ: لا، والله! يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم. فتُمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه. وتمكني من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلتُ. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك. فإن وجدتُ بكاء بكيتُ. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" (شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (1) فأحل الله الغنيمة لهم. 348 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لما كان يومُ بدرٍ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال عبد الله بنُ رواحة: ايتٍ في وادٍ كثير الحطب فأضرم ناراً ثم ألقِهم فيها، فقال العباس رضي الله عنه:

_ = لولا كتاب من الله سبق لمسكم: لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ - لمسكم: لنالكم وأصابكم. فيما أخذتم: من الفدء. يثخن: الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار، يقال: أثخنه المرض: إذا أُقله وأوهنه، والمراد به هاهنا: المبالغة في قتل الكفار، والإكثار من ذلك. (1) الأنفال: 67 - 69. 348 - المستدرك (3/ 21)، كتاب المغازي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

قطع الله رحمك، فقال عمر رضي الله عنه: قادتهم ورؤساؤهم قاتلوُك وكذبوك فاضرب أعناقهم بعد، فقال أبو بكر رضي الله عنه: عشيرتُك وقومُك، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض حاجته فقالت طائفة: القولُ ما قال عمر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما تقولون في هؤلاء؟ إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1) وقال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (2) الآية قال إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) "وأنتم قوم فيكم غيلةً فلا ينقلبن واحدٌ منهم إلا بفداء أو بضرب عنقٍ" قال عبد الله: فقلت إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يُقتل وقد سمعته يتكلم بالإسلام. فسكت، فما كان يوم أخوف عندي أن يلقى علي حجارة من السماء من يومي ذلك حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إلا سهيل بن بيضاء". قال الرازي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} معنى الآية ظاهر وفيه سؤال وهو إنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول وإن تغفر لهم والله لا يغفر الشرك، والجواب عنه من وجوه (الأول) أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز فلهذا المعنى طلب المغفرة من الله تعالى (والثاني) أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار؛ لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله، وترك التعرض والاعتراض بالكلية ولذلك ختم الكلام بقوله فإنك أنت العزيز

_ (1) نوح: 26. (2) يونس: 88. (3) إبراهيم: 36. (4) المائدة: 118.

الحكيم يعني أنت قادر على ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية وقوله: إن الله لا يغفر الشرك فنقول: إن غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لان العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب وليس في إسقاطه على الله مضرة فوجب أن يكون حسناً بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لاي قع فلعل هذا لدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام (الوجه الثالث في الجواب) أن القوم لما قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوز أن يكون بعضهم قد تاب عنه فقال إن تعذبهم علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك وأنت قد حكمت على كل من كفر من عبادك بالعقوبة وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة (الوجه الرابع) إنا ذكرنا أن من الناس من قال إن قول الله تعالى لعيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة وعلى هذا القول فالجواب سهل لأن قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك يعني إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضاً ذاك وعلى هذا التقدير فلا إشكال. 349 - * روى الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: كانت قريش ناجت قتلاها ثم ندمتُ وقالوا: لا تنوحُوا عليهم فيبلغ ذلك محمد وأصحابه فيشتموا بكم. وكان في الأسرى أبو ودعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له بمكة ابناً تاجراً كيساً ذا مال كأنكم قد جاءكم في فداء أبيه" فلما قالت قريش في الفداء ما قالت قال المطلب: صدقتم والله لئن صدقتم ليثارين عليكم، ثم انسل من الليل فقدم المدينة ففدى أباه بأربعة آلاف درهم. قال ابن كثير في البداية والنهاية: وأولُ من أسروا عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث قتلاً صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الأسارى، وقد اختلف في أيهما قُتِل

_ 349 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 90)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. ما قالت: قالت قريش: لا تستعجلوا بفداء أسراكم، يثار بن: ثرب فلانا وعليه: لامه وعيره بذنبه.

6 - آيات بدرية

أولاً على قولين وأنه عليه السلام أطلق جماعة من الأسارى مجاناً بلا فداءٍ، منهمُ: أبو العاص بن الربيع الأموي، والمطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الشاعر، ووهب بن عمير بن وهب الجمحي، وفادي بقيتهم حتى عمه العباس أخذ منه أكثر مما أخذ من سائر الأسرى لئلا يحابيه لكونه عمه، مع أنه قد سأله الذين أسروه من الأنصار أن يتركوا له فداءه فأبي عليهم ذلك، قال لا تتركوا منه درهماً، وقد كان فداؤهم متفاوتاً فأقل ما أخذ أربعمائة، ومنهم من أخذ منه أربعون أوقية من ذهب. قال موسى ابن عقبة وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب، ومنهم من استؤجر على عمل بمقدار فدائه. * * * 6 - آيات بدرية 350 - روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يُحبون أن تظهر الرُّوم على فارسٍ لأنهم أهلُ الكتابِ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثانٍ، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر رضي الله عنه، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أما أنهم سيُهْزمُون" فذكر أبو بكر لهم ذلك، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهروا كان لك كذا وكذا وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فجعل بينهم أجل خمس سنين فلم يظهرا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ألا جعلته (أراه قال) دون، العشرة"، قال: فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} قال: فغُلبت الروم ثم غلبت بعد {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} (1) قال سفيان: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدرٍ. 351 - * وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل {وَيَقُولُونَ

_ 350 - المستدرك (2/ 410)، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. (1) الروم: 1. 351 - المستدرك (2/ 414)، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (1) قال: يوم بدر فُتح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت. 352 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} (2) يعني بالفرقان يوم بدرٍ يوم فرق الله بين الحق والباطل. 353 - * وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (3) قال: يوم بدر. 354 - * وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (4) قال: نزلت فينا يوم بدرٍ. 355 - روى البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قلتُ لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدرٍ. قال صاحب الرحيق المختوم: حول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي - إن صح هذا التعبير - على هذه المعركة، يختلف كثيراً عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح.

_ (1) السجدة: 28 - 29. 352 - المستدرك (3/ 22)، كتاب المغازي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. (2) الأفال: 41. 353 - المستدرك (2/ 414)، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (3) السجدة. 354 - المستدرك (2/ 227) كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (4) الأنفال: 16. 355 - البخاري (8/ 206) 65 - كتاب التفسير - 1 - باب: قوله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأسلحوا ذات بينكم"، من سورة الأنفال. ومسلم نحوه مطولاً (4/ 2322)، 54 - كتاب التفسير 5 - : باب: في سورة براءة والأنفال والحشر.

7 - من فقه غزوة بدر

إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين - أولاً - إلى التقصيرات والتفريطات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم، ليسعوا في تكميل نفوسهم وتزكيتها عن هذه التفريطات. ثم ثني بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين. ذكر لهم ذلك لئلا يفتروا بشجاعتهم ويسألتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء بل ليتوكلوا على الله ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام. ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلم لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تسببت في الفتوح في المعارك. ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والتقيد به. ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة. ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويقوم لهم التفوق في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظرية، بل إنه يثقف أهله علمياً على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها. ثم قرر بنوداً من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها. * * * 7 - من فقه غزوة بدر قال الدكتور البوطي: 1 - إن عامة ممتلكات الحربيين تعتبر بالنسبة للمسلمين أموالاً غير محترمة، فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منها، وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتبر

ملكاً لهم. وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء، على أن للمهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم في مكة عذراً آخر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض - أو شيء من التعويض - عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم. إنه بالرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصداً أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هنا كان النصر العظيم حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته، بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليف قرش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين، وإن هذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين لتتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (1) 2 - وعندما نتأمل كيف يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليشاورهم في الأمر الذي فوجئوا به بعد أن أفلت منهم العير وطلع عليهم النفير العظيم المدجج بالسلاح الكامل، نقف على دلالتين شرعيتين لكل منهما أهمية بالغة. الدلالة الأولى: التزامه صلى الله عليه وسلم مبدأ التشاور مع أصحابه، وإذا استعرضنا حياته صلى الله عليه وسلم، وجدنا أنه كان يلتزم هذا المبدأ في كل أمر لا نص فيه من كلام الله تعالى، مما له علاقة بالتدبير والسياسة الشرعية، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أن الشورى في كل ما لم يثبت نص مُلزم فيه من كتاب أو سنة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. أما ما ثبت فيه نص من الكتاب أو حديث من السنة أبرم به الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه، فلا شأن للشورى فيه ولا ينبغي أن يقضي عليه بأي سلطان. الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو أو المعاهدات أو الصلح بين المسلمين وغيرهم لما

_ (1) الأنفال: 7.

8 - في أعقاب بدر

يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم بـ (حكم الإمامة). وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية، غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان لحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة. فإذا رأى الحاكم أن من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصاً من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد، وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب. وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دورهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعم الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط توفر مقومات التكليف أهـ. * * * 8 - في أعقاب بدر 356 - * روى الحاكم عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكنت قد أسلمت وأسلمت أم الفضل وأسلم العباس وكا يكتم إسلامه مخافة قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام وكان له عليه دين فقال له: اكفني هذا الغزو وأتركُ لك ما عليك، ففعل فلما جاء الخبرُ

_ 356 - المستدرك (3/ 321)، كتاب معرفة اصحابة، وسكت عنه الذهبي، وفي أحد رواته خلاف فالرواية حسنة على رأي بعضهم. اكفني: كفاء الشيء كفاية: استغني به عن غيره فهو كاف، وكفيء.

وكبت الله أبا لهب وكنتُ رجلاً ضعيفاً أنحتُ هذه الأقداح في حُجرة فوالله إني لجالس في الحجرة أنحتُ أقداحي وعندي أم الفضل إذ أقبل الفاسق أبو لهبٍ يجر رجليه أراه قال عند طُنب الحجرة وكان ظهرهُ إلى ظهري فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث فقال أبو لهب: هلم إلى يا ابن أخي فجاء أبو سفيان حتى جلس عندهُ فجاء الناس فقاموا عليهما فقال: يا ابن أخي كيف كان أمر الناس فقال لا شيء فوالله إن لقيناهم فمنناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله ما لمت الناس قال: ولم؟ قال: رأيت رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال فرفعت طُنب الحجرة فقلت: والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي وثاورتُه فاحتملني فضرب بي الأرض حتى برك على صدري فقامت أم الفضل فاحتجزت ورفعت عموداً من عمدُ الحجرة فضربته به فلعت في رأسه شجة منكرة وقالت: يا عدو الله استضعفته إن رأيت سيدهُ غائباً عنه فقام ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى ضربه الله بالعدسة فقتلته فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى أنتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الطاعو فقال رجال: انطلقا فأنا معكما قال: فوالله ما غسلوهْ إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ثم احتملوه فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة. قال الشيخ الغزالي: شُدة العرب قاطبة للنصر الحاسم الذي ناله المسلمون في بدر، بل إن

_ = كبت: المكبوت: الممتلئ غماً. كبته: يكبته: صرعه وأخزاه وضربه وكسره ورد العدو بقيظه. الأقداح: القدح: السهم قبل أن يراش وينصل، ونحثها: يربها، وتأتي القدح بمعنى: السهم الذي كانوا يستقسمون به في الجاهلية. الطنب: حبل طويل يشد به سرادق البيت أو الوتد. بلق: جمع أبلق، بلق الفرس ونحوه بلقا وبلقة كان فيه سواد وبياض فهو أبلق وهي بلقاء. وثاورته: ثاوره مثاورة وثوارا: واثبه. فلعت: شفت. العدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل، ربما الجدري. أنتن: نتن نتناً: خبثت رائحته، فهو نتن.

أهل مكة استنكروا الحبر أول ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلما استبان صدقه صُعق نفر منهم فهلك لتوه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدري ما يفعل .. وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع عن نصرهم محض اختلاق، وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرنين في الأصفاد، فسقط في أيديهم. وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيباً في المدينة وما حولها، ومد نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم. فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم، يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم ويستعدون لنيل ثأرهم، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرهاً للإسلام، ونقمة على محمد وصحبه، واضطهاداً لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به أو يعيش ذليلاً مستضعفاً، ذلك في مكة، حيث كانت الدولة للكفر. أما في المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريق الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي. روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب - كما أمرهم الله تعالى - ويصبرون على الأذى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1). فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو الذي أمره الله به - حتى أذن فيهم فلما غزا بدراً، وقتل

_ (1) البقرة: 109.

الله فيها من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم. قال "عبد الله بن أبي" ومن معه من المشركين عبدة الأوثان هذا أمر قد توجه (أي استقر فلا مطمع في إزالته) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا .. على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق آخر من اليهود بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشاً في "بدر" بل إن كعب بن الأشرف - من رجالات اليهود - أرسل القصائد في رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم.! ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي. ثم حاول اليهود أن يحقروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم، أفراداً وجماعات. وعلق الدكتور السباعي على غزوة بدر فقال رحمه الله: إن النصر في المعارك لا يكون فقط بكثرة العدد، ووفرة السلاح، وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش. وقد كان الجيش الإسلامي في هذه المعارك يمثل العقيدة النقية والإيمان المتقد، والفرح بالاستشهاد، والرغبة في ثواب الله وجنته، كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال، والفرقة، والفساد، بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة، وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات، والعصبية العمياء للتقاليد البالية، والآباء الماضين، والآلهة المزيفة. انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال، فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر على أن يقيموا ثلاثة أيام، يشربون فيها الخمور، وتغني لهم القيان، وتضرب لهم الدفوف، وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم، وكانوا يظنون ذلك سبيلاً إلى النصر، بينما كان المسلمون قبل بدء المعركة يتجهون إلى الله بقلوبهم، يسألنه النصر، ويرجونه الشهادة، ويشمون روائح الجنة، ويخر الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً مبتهلاً يسأل الله أن ينصر عباده المؤمنين، وكانت النتيجة أن انتصر الأتقياء الخاشعون، وانزم اللاهون العابثون.

والذي يقارن بين أرقام المسلمين المحاربين، وبين أرقام المشركين المحاربين في كل معركة. يجد أن المشركين أكثر من المسلمين أضعافاً مضاعفة. ومع ذلك فقد كان النصر للمسلمين، حتى في معركتي أُحد وحنين حيث انتصر فيهما المسلمون، ولولا ما وقع من أخطاء المسلمين في هاتين المعركتين ومخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله لعيه وسلم، لما لقي المسلمون هزيمة قط. - إن شدة عزائم الجيش واندفاعه في خوض المعركة، وفرحه بلقاء عدوه يزيد القائد إقداماً في تفنيذ خطته، وثقته بالنجاح والنصر، كما حدث في معركة بدر. - إن على القائد ألا يكره جيشه على القتال، وخوض المعارك إذا كانوا غير راغبين ومتحمسين حتى يتأكد من رضاهم وتحمسهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم من استشارة أصحابه يوم بدر قبل خوض المعركة. - إن احتياط الجنود لياة قائدهم أمر تحتمه الرغبة في نجاح المعركة والدعوة، وعلى القائد أن يقبل ذلك، لأن في حياته حياة الدعوةن وفي فواتها خسارة المعركة. وقد رأينا في معركة بدر كيف رضي صلى الله عليه وسلم بناء العريش له، ورأينا في بقية المعارك: "أحد" و"حنينط، كيف كان المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات يلتفون جميعاً حول رسولهم، ويحمونه من سهام الأعداء، بتعريض أنفسهم لها، ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنكر ذلك مع شجاعته وتأييد الله له، بل أثنى على هؤلاء الملتفين حوله، كما رأينا في ثنائه على نسبية أم عمارة، ودعائه لها بأن تكون هي وزوجها وأولادها رفقاءه في الجنة. إن الله تبارك وتعالى يحيط عباده المؤمنين الصادقين في معاركهم بجيش من عنده، كما أنزل الملائكة يوم بدر، وأرسل الريح يوم الأحزاب. وما دام هؤلاء المؤمنون يحاربون في سبيله، فكيف يتخلى عنهم وهو الذي قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).

_ (1) الروم: 47.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1). إن من طبيعة الداعية الصادق أن يحرص على هداية أعدائه، وأن يفسح لهم المجال لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية، ومن هنا نفهم سر ميل الرسول إلى فداء الأسرى يوم بدر، فقد كان يرجو أن يهديهم اللهم، وأن تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو إليه، وإذا كان القرآن الكريم قد عاتب الرسول على ذلك، فلأن ناك مصلحة أخرى للإسلام يومئذ، وهو إرهاب أعداء الله والقضاء على رؤوس الفتنة والضلالة، ولو قتل الأسرى يوم بدر لضعفت مقاومة قريش للقضاء على زعمائها ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين. ويلوح لي سر آخر في قبول الرسول أمر الفداء، وهو أن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان من بين الأسرى، وللعباس مواقف في نصرة الرسول قبل إعلان إسلامه، فقد شهد معه بيعة العقبة الثانية سراً، وكان يخبر الرسول عن كل تحركات قريش، مما يؤكد عندي أنه كان مسلماً يكتم إسلامه، فكيف يقتله الرسول وهذا شأنه معه؟ ولو استثناه الرسول من بين الأسرى لخالف شرعه في تحريم قتل المسلم إن كان العباس مسلماً. وإن كان مشركاً، فشريعته لا تفرق بين قريب وبعيد في الوقوف موقف الحزم والعداء من كل من يحارب الله ورسوله، ولاغتنمها المشركون والمنافقون فرصة للتشهير به، ولإضعاف الثقة بعدالته وتجرده عن الهوى في كل ما يصدر عنه، وليس ذلك من مصلحة الدعوة في شيء. فوائد م كتاب غزوة بدر للدكتور محمد أبو فارس ومما قاله الدكتور أبو فارس حول دروس بدر الكبرى: - أهمية الشورى في الإسلام وفي مجال الحرب خصوصاً، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الموحي إليه من ربه يستشير أصحابه في القتال وغيره، أفلا تكون الشورى في حق غيره آكد وأوجب. - ضرورة تعرف القائد على مدى رغبة الجنود في القتال وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عيه وسلم في مشاورة أصحابه، إذ إن المكره على القتال لا يمكن أن يقدم نتيجة إيجابية.

_ (1) الحج: 38.

من نعم الله على المسلمين في غزوة بدر

- تتجلى في بدر صفات القائد الناجح ومن ذلك: التواضع وعدم التميز والسهر على راحة الجنود وبذل الحب لهم وتوثيق الصلة بالله والسرية في التحرك والإيثار .. ومن نعم الله على المسلمين في غزوة بدر: 1 - النعاس والنوم: وفي ذلك راحة للجسم واطمئنان للنفوس وسكينة وهدوء وهمة متوثبة على عكس عدوهم الذي كان متواتراً هائجاً قلقاً مضطرباً. 2 - إنزال المطر: يأخذون منه حاجتهم وناحية أخرى أن المطر في جانب المسلمين كان معتدلاً حتى تماسكت الأرض تحتهم، أما ف يجانب المشركين فكان غزيراً فأوحلت الأرض. 3 - إراءة الله المسلمين المشركين قلة. 4 - إنزال الله الملائكة تؤيد المؤمنين وتقاتل معهم. 5 - إلقاء الرعب في قلوب الكافرين. 6 - أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرمي الحصباء فاستقبل قريشاً ورماها قائلاً: شاهت الوجوه، فأوصل الله ذرات الرمل إلى أعين المقاتلين فانشغلوا بذلك ع القتال وكل ذلك بقدرة الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (1). أهـ بتصرف من كتاب غزوة بدر. فائدة أخيرة: في كتاب فن الحرب لـ "صن تزو" - وهو مؤلف صيني قديم - ذكر أن قرار الحرب لا ينبغي أن يتخذ إلا إذا توافرت شروط: 1 - ثقة الشعب بحكومته. 2 - ارتفاع معنويات الجنود. 3 - وجود القائد الكفء. 4 - معرفة الأرض.

_ (1) الأنفال: 17.

5 - مراعاة الطقس وأن يتخذ قرار الحرب ينبغي أن يتخذ في المعبد ليباركه الله. وهو كلام حكيم ولو أنك تأملت غزوة بدر لوجدت توجهاً نحو الله ولرأيت ثقة لا مثيل لها ومعنويات لا مثيل لها وقيادة لا مثيل لها واختيار لأرض المعركة. ولرأيت مع هذا كله طقساً مواتياً لأهل الحق وذلك كله من التوفيقات الإلهية التي تجعل أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعلى ما تصل إليه حكمة الحكماء مع احتمال خطئهم. * * *

فصل: في إجراء يهود بني قينقاع

فصل: في إجراء يهود بني قينُقاعٍ 357 - روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: "يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يُصيبكم مثل ما أصاب قريشاً" قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى في ذلك: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ببدرٍ {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} (1). وقد فصل كتاب السير ما آل إليه أمر بني قينقاع فذكرها ابن هشام وابن سعد في طبقاته ويذكر المفسرون قصتهم عند قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وعند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (2). وهناك خلاف بين كتاب السير حول السنة التي حدثت فيها واقعة بني قينقاع، والواقدي يرى أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثنتين من الهجرة. قال ابن حجر العسقلاني في الفتح: ونون قينقاع مثلثة والأشهر فيها الضم، وكانوا أول من أخرج من المدينة كما تقدم في أول الباب. وروى ابن إسحاق في المغازي عن أبيه عن

_ 357 - أبو داود (3/ 154)، كتاب الخراج والإمارة والفيء: باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، وهو حديث حسن بشواهده. (1) آل عمران: 12، 13. (2) المائدة: 51، 52.

عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع قام بأمرهم عبد الله بن أبي فمشى عبادة بن الصامت وكان له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فتبرأ عبادة منهم. قال: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وكان عبدالله بن أبي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليهم قال: يا محمد إنهم منعوني من الأسود والأحمر، وإني امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم له. وذكر الواقدي أن إجلاءهم كان في شوال نسة اثنتين، يعني بعد بدر بشهر، ويؤيده ما روى ابن إسحق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال يا يهود: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً يوم بدر، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت أنّا الرجال. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} - إلى قوله - {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك. أهسـ. وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد وحاربوا فيما بين بدر وأُحد. قال ابن هشام فذكر عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلبٍ لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسنْ في موالي فأعرض عنه، قال: فأدخل يده في حيب درع النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام: وكان يُقالُ لها

ذات الفضول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني" وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا (1) ثم قال: ويحك أرسلني" قال: لا والله لا أرسلك حتى تُحسن في موالي أربعمائة حاسرٍ وثلثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداةٍ واحدةٍ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُم لك". قال ابن هشام واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرته إياهم أبا لبابة بشير بن عبد المنذر وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة قال ابن إسحاق: وحدثني أبي عن عُبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من بني عوفٍ له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم قال وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآيات حتى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} يعني عبد الله بن أبي إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (2) يعني عبادة بن الصامت. أهـ. وقال ابن حجر: وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهراً ومع عدوه باطناً وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بني قينقاع فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم

_ (1) ظللاً: جمع ظُلة، يعني تغير وجهه عند اشتداد الغضب. (2) المائدة: 51 - 56.

تقويم الموقف في نهاية السنة الثانية للهجرة

فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات. اهـ. أقول: من أجل اعتداء على حجاب امرأة مسلمة واحدة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، وهذه القصة ذات دلالات كثيرة على طبيعة اليهود وطبيعة النفاق، وكيف أن الحزم من ناحية وحسن السياسة من ناحية أخرى هما طريقا المسلمين في معالجة أمور الدولة. * * * تقويم الموقف في نهاية السنة الثانية للهجرة في نهاية السنة الثانية للهجرة أخذت الهيبة لعسكرية للمسلمين مداها الكبير في دائرة واسعة من الجزيرة العربية، وأحس ضعفاء المشركين بالخطر وشعر أقوياؤهم بغلبة الإسلام، وبدأت النفوس تتطلع إلى الإيمان، فتوسعت دائرة الدخول في الإسلام، ورأى الكثيرون أن يدخلوا في الإسلام نفاقاً ضعفاً أو خديعة، وبهذا كله أصبحت الدولة الجديدة أمام أوضاع جديدة من المكر والتآلب والتحالفات، ولكن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الساهرة وحكمته الباهرة وتأييد الله له أولاً وآخراً دفع الأمور في غير الطرق التي يخطط لها الأعداء: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) * * *

_ (1) الأنفال: 30. (2) الصف: 8.

السنة الثالثة للهجرة

السنة الثالثة للهجرة

هذه السنة في سطور

هذه السنة في سطور أبرز أحداث هذه السنة غزوة ذي أمر، وقتل كعب بن الأشرف، وغزوة بَحْران، وسريّة زيد بن حارثة، ووقعة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، وفي هذه السنة: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر، وزوّج عثمان بن عفان بنته أم كلثوم رضي الله عنها، أما الحياة الدعويّة والتربويّة والتعليمية والتشريعية فهي مستمرة بشكل دائم، والملاحظ أن حجم القوة التي خرجت يوم أحد تعدل نحو مثلي القوة التي خرجت يوم بدر، وصحيح أن بعض الصحابة لم يخرج يوم بدر ولكن ما كان الغائبون ليبلغوا هذا المبلغ، ولما كنا سنعقد ثلاثة فصول عن مقتل كعب بن الأشرف ووقعة أحد وغزوة حمراء الأسد، بسبب أن قتل كعب بن الأشرف يعتبر ظاهرة مهمة في الحركة العسكرية، وبسبب من أن وقعة أحد وغزوة حمراء الأسد نزل فيهما قرآن لأهميتهما؛ لذلك وجرياً على عادتنا سنرسم صورة مختصرة لمجريات الأمور في هذه السنة تاركين التوسع إلى حينه: * * * قال صاحب الرحيق المختوم: غزوة ذي أمر (بِنَجْدٍ) وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب (من غطفان) تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو.

غزوة بحران

وتفرق الأعداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى "بذي أمر" فأقام هناك صفراً كله - من سنة 3 هـ - أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة. * * * غزوة بَحران وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها بحران - وهي معدن بالحجاز في ناحية الفُرُع - فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى - من السنة الثالثة من الهجرة - ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً. واختلف المصادر في تعيين سبب هذه الغزوة فقيل: إن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني سليم يحشدون قوات كبيرة لغزو المدينة أو أطرافها، وقيل: بل خرج يريد قريشاً، وهذا الثاني هو الذي ذكره ابن هشام واختاره ابن القيم - حتى لم يذكر الأول رأساً - وهو الموجه، وذلك لأن ديار بني سليم لم تكن بناحية الفرع، وإنما هي في نجد بعيدة عن ناحية الفرع. * * * سرية زيد بن حارثة (إلى القردة) وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادى الآخرة سنة 3 هـ. وتفصيلها أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف واقترب

موسم رحلتها إلى الشام فأخذها هم آخر. قال صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي انتخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام -: إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء. ودارت المناقشة حول هذا الموضوع. فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق - وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل - فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان - من بني بكر بن وائل - دليلاً له، يكون رائده في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة، وذلك أن سليط بن النعمان - وكان قد أسلم - اجتمع في مجلس شرب - وذلك قبل تحريم الخمر - مع نعيم بن مسعود الأشجعي - ولم يكن أسلم إذ ذاك - فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة. وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتةً - على حين غرة - وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة - بالفتح فالسكون - فاستولى عليها كلها ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة - فرات بن حيان، وقيل: ورجلين غيره - وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات بن

حيان على يديه صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وفي 7 شوال من السنة الثالثة للهجرة حدثت وقعة أحد، وكان فيها ما كان وفي الثامن من شوال سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فكانت حركته هذه غسلاً لآثار أحد وتحويلاً للموقف. هذه هي أهم أحداث السنة الثالثة العسكرية. والملاحظ أنه من بدر حتى أحد كان الخط البياني للانتصارات العسكرية في تصاعد ونتيجة لذلك فإن هيبة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية بلغت كل مبلغ. لقد سيطر على الطريق إلى الشام، ثم سيطر على طريق الشام عبر طريق العراق، وأحكم الحصار الاقتصادي على قريش، وكان ذروة هذا الإحكام عندما استطاع زيد بن حارثة أن يستولي على قافلة قريش التجارية السائرة إلى الشام عبر طريق العراق، ثم إن سراياه وغزواته عليه الصلاة والسلام صارت تذهب بعيداً عن المدينة المنورة ونحو كل الاتجاهات تقريباً، وبهذا قطع الطريق على أي تفكير داخلي بالتمرد أو خارجي بالغزو إلا إذا كان غزواً منظماً كبيراً وهذا الذي حدث يوم أحد، ولقد وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا كله بأقل الخسائر وبأسهل طريق، فلقد كان يفوت على خصومه أهدافهم ولما يبدأوا التحضير لها فما يكاد يسمع أن تعبئة تعد حتى يعبئ ويسارع ويضرب، وما يكاد يحس بخطر أحد إلا ويسارع بتصفيته كما فعل بكعب، وكثيراً ما كان يصيب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فلقد أحبط بمقتل كعب ما كان يمكن أن يفعله كعب لصالح قريش يوم أحد، وأجبر كل من في دائرة المدينة على الموادعة، ولو أنك جمعت خسائر المسلمين حتى وقعة أحد فإنك تجدها أفراداً، بينما تجد خسائر الآخرين أكبر من ذلك بكثير. إنك عندما تدرس مبادئ الحرب من مفاجأة إلى مبادأة إلى اقتصاد بالقوات فإنك لا تجدها على كمالها وتمامها كما تجدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيراً من القادة العظام ينجحون في وضع ويفشلون في وضع آخر، وقد يفقدون السيطرة على أمور إذا لم تجر على

ضوء توقعاتهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تجده يواجه كل الأوضاع على أكمل ما يكون، فلقد خطط يوم أحد أعظم تخطيط وأجوده، ولما أفسد عليه تخطيطه من خالفوه قاد المعركة كأرقى ما تكون القيادة ثم غسل الكثير من آثار أحد بعملية خاطفة. وإلى الفصول الثلاثة التي تحتاج إلى التفصيل: الفصل الأول: في قتل كعب بن الأشرف. الفصل الثاني: في غزوة أحد. الفصل الثالث: في غزوة حمراء الأسد. ثم نختم الحديث عن السنة الثالثة بذكر حواش على غزوتي أحد وحمراء الأسد، وبذكر تقييم عام للموقف في نهاية السنة الثالثة. * * *

فصل: في قتل كعب بن الأشرف في ربيع الأول من السنة الثالثة

فصل: في قتل كعب بن الأشرف في ربيع الأول من السنة الثالثة قال ابن حجر: قال ابن إسحاق وغيره: كان عربياً من بني نبهان وهم بطن من طيء، وكان أبوه أصاب دماً في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعباً، وكان طويلاً جسيماً ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن أبي وداعة السهمي والد المطلب. فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فطردته، فرجع كعب إلى المدينة وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه (إن كعب بن الأشرف كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر. فلما أبى كعب أن ينزع عن أذاه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطاً ليقتلوه. وذكر ابن سعد أن قتله كان في ربيع الأول من السنة الثالثة. أ. هـ. 358 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم" قال: ائذن لي فلأقل، قال: "قل"، قال: فأتاه، فقال له، وذكر ما بينهما، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة، وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه، حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره؟ قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم؟ قال: يسب ابن أحدنا، فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن

_ 358 - مسلم (3/ 1425) - 32 - كتاب الجهاد والسير - 42 - باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. وَسْقاً: الوسْق مفتوح الواو: ستون صاعاً.

نرهنك اللأمة - يعني: السلاح - قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر، قال: فجاؤوا، فدعوه ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو، قالت له امرأته: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل، نزل وهو متوشح، فقالوا: نجد منك ريح الطيب؟ قال: نعم، تحتي فلانة، هي أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال فاستمكن من رأسه، ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه. 359 - * وروى البخاري نحوه، وفيه: قد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين وحدثنا عمرو بن دينار غير مرة، فلم يذكر وسقاً أو وسقين، فقلت له: فيه وسقاً أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقاً أو وسقين. وفيه: فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، وفيه فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلاً، ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، وفيه: ولو وجداني نائماً ما أنبهاني، وقال، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بالليل لأجاب. وفيه: قال لهما: إذا ما جاء، فإني قائل بشعره، فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه، فدونكم فاضربوه - وقال مرة: أشم ثم أشمكم - فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً - أي أطيب - قال كعب: وكيف لا؟ وعندي أعطر نساء العرب، وأجمل العرب، وقال في آخره: ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه. وفيه: فجاء محمد بن مسلمة معه برجلين. قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعباد بن بشر.

_ = اللامة: مخففة: الدرع، وجمعها لأم، وقيل: هي آلة الحرب. متوشح: التوشح بالرداء: هو أن تجعله كالوشاح، وهو شيء مضفور من سيور مرصع، تجعله المرأة على خصرها، فإذا جعل الرداء في ذلك الموضع كان متوشحاً به. 359 - البخاري (7/ 336)، 64 - كتاب المغازي - 15 - باب: قتل كعب بن الأشرف. نفح: الطيب: إذا فاحت رائحته، وكذلك نضح طيباً، أي: فاح، وأصله من العرق، أي: عرق ففاحت ريحه.

قال صاحب الرحيق المختوم: كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتظاهراً بالدعوة إلى حربه. كان من قبيلة طيء - من بني نبهان - وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاً معروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها. وكان حصنه في شرق جنوب المدينة في خلفيات ديار بني النضير. ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، ولم يرضى بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (1). ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء. وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله، ورسوله"، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة - واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة - والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد ابن مسلمة. اهـ.

_ (1) النساء: 51.

قال صاحب الفتح: قوله (آذى الله ورسوله) في رواية محمد بن محمود بن محمد بن مسلمة عن جابر عند الحاكم في الإكليل "فقد آذاناه بشعره وقوى المشركين" وأخرج ابن عائذ من طريق الكلبي أن كعب بن الأشرف قدم على مشركي قريش فخالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، ومن طريق أبي الأسود عن عروة (أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويحرض قريشاً عليهم، وأنه لما قدم على قريش قالوا له: أديننا أهدى أم دين محمد؟ قال: دينكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لنا بابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا" اهـ. أقول: هذه هي الأسباب التي أدت للحكم عليه بالقتل، وعلى كل الأحوال فهو: إما محارب فدمه هدر وإما معاهد فقد نقض بهذا عهده. قال في الفتح: قوله: (فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله)؟ في مرسل عكرمة (فقال محمد بن مسلمة هو خالي). قوله: (قال نعم) في رواية محمد بن محمود (فقال أنت له) وفي رواية ابن إسحاق (قال فافعل إن قدرت على ذلك) وفي رواية عروة (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال محمد بن مسلمة: أقر صامتاً) ومثله عند سمويه في فوائده، فإن ثبت احتمل أن يكون سكت أولاً ثم أذن له، فإن في رواية عروة أيضاً أنه قال له: (إن كنت فاعلاً فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ، قال فشاوره فقال له: توجه إليه وإشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاماً) قوله (فائذن لي أن أقول شيئاً، قال: قل) كأنه استأذنه أن يفتعل شيئاً يحتال به، ومن ثم بوب عليه المصنف: (الكذب في الحرب) وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويعيبوا رأيه، ولفظه (فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة) وعند ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم). قوله: (إن هذا الرجل) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (قد سألنا صدقة) في رواية الواقدي (سألنا الصدقة، ونحن لا نجد ما نأكل) وفي مرسل عكرمة (فقالوا: يا أبا سعيد، إن نبينا أراد منا الصدقة، وليس لنا مال نصدقه). قوله: (قد عنانا) بالمهملة وتشديد النون الأولى من العناء وهو التعب. قوله: (قال وأيضاً) أي وزيادة على ذلك، وقد فسره بعد ذلك

قوله: (والله لتملنه) بفتح المثناة والميم وتشديد اللام والنون من الملال، وعند الواقدي (إن كعباً قال لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني). قوله: (وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين، وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقاً أو سقين) قائل ذلك على بن المديني، ولم يقع ذلك في رواية الحميدي، ووقع في رواية عروة (وأحب أن تسلفنا طعاماً. قال: أين طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه. قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل). (تنبيه): وقع في هذا الرواية الصحيحة أن الذي خاطب كعباً بذلك هو محمد ابن مسلمة، والذي عند ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أنه أبو نائلة، وأومأ الدمياطي إلى ترجيحه، ويحتمل أن يكون كل منهما كلمه في ذلك، لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخته. وفي مرسل عكرمة في الكل بصيغة الجمع (قالوا)، وفي مرسل عكرمة (وائذن لنا أن نصيب منك فيطمئن إلينا، قال: قولوا ما شئتم) وعنده (أما مالي فليس عندي اليوم، ولكن عندي التمر) وذكر ابن عائذ أن سعد بن معاذ بعث محمداً ابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ. قوله: (أرهنوني) أي ادفعوا لي شيئاً يكون رهناً على التمر الذي تريدونه. قوله: (وأنت أجمل العرب) لعلهم قالوا له ذلك تهكماً، وإن كان هو في نفسه كان جميلاً. زاد ابن سعد من مرسل عكرمة (ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك) وفي المرسل الآخر الذي أشرت إليه (وأنت رجل حسان تعجب النساء) وحسان بضم الحاء وتشديد السين المهملتين. قوله (دونكم فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه) في رواية عروة (وضربه محمد بن مسلمة فقتله وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس، وأقبلوا حتى إذا كانوا بجرف بعاث تخلف الحارث ونزف، فلما افتقده أصحابه رجعوا فاحتملوه، ثم أقبلوا سراعاً حتى دخلوا المدينة) وفي رواية الواقدي (إن النبي صلى الله عليه وسلم تفل على جرح الحارث بن أوس فلم يؤذه). وفي مرسل عكرمة (فبزق فيها ثم ألصقها فالتحمت) وفي رواية ابن الكلبي (فضربوه حتى برد، وصاح عند أول ضربة، واجتمعت اليهود فأخذوا على غير طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتوهم) وفي رواية ابن سعد (أن محمد بن مسلمة لما أخذ بقرون شعره قال لأصحابه:

اقتلوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم، فالتفت عليه فلم تغن شيئاً. قال محمد: فذكرت مغولاً (1) كان في سيفي فوضعته في سرته، ثم تحاملت عليه فغططته حتى انتهى إلى عانته، فصاح وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين). قوله: (فأخبروه) في رواية عروة (فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى) وفي رواية ابن سعد (فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا رأسه بين يديه، فحمد الله على قتله، وفي مرسل عكرمة (فأصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يحرض عليه ويؤذي المسلمين) زاد ابن سعد (فخافوا فلم ينطقوا). قال السهيلي: في قصة كعب بن الأشرف قتل المعاهد إذا سب الشارع، خلافاً لأبي حنيفة. قلت: وفيه نظر، وصنيع المصنف في الجهاد يعطي أن كعباً كان محارباً حيث ترجم لهذا الحديث "الفتك بأهل الحرب" وترجم له أيضاً "الكذب في الحرب" وفيه جواز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته، وفيه جواز الكلام الذي يحتاج إليه في الحرب ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته اهـ. 360 - *روى أبو داود عن كعب بن مالك رضي الله عنه وكان كعب بن الأشرف، يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرِّض عليه كفار قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً) (3) فأبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن

_ (1) مغولاً: شبه خنجر أو السكين التي تكون في السوط. 360 - أبو داود (3/ 154)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، ورجاله ثقات. طرق: طرقت الرجل: إذا أتيته ليلاً. (2) آل عمران، الآية (186).

دروس من قتل كعب بن الأشرف

يبعث رهطاً يقتلونه فبعث محمد بن مسلمة - وذكر قصة قتله - فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول، ودعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، ينتهون على ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة. قال صاحب الرحيق المختوم: وفي ليلة مقمرة - ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ، اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلاً: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه. ولقد نجحت المجموعة بقتل كعب بن الأشرف. ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذباب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حرة العريض، رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه حتى إذا بلغوا بقيع الغرقد كبروا وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك يا رسول الله. ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده. اهـ. دروس من قتل كعب بن الأشرف 1 - بهذه العملية حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدافاً: أ - قطع الطريق على أمثال كعب أن يفعلوا فعله. ب - أجبر اليهود على أن يجددوا عهداً أو يكتبوا عهداً جديداً وبذلك أكد وحدة المجتمع المدني. ج - قطع الطريق على أي تعاون بين الداخل والخارج. د - أكد سيادته على دائرة دولته عليه الصلاة والسلام.

2 - قوله في رواية أبي داود (فكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة) يقطع أن وثيقة دستورية بين المسلمين واليهود كانت موجودة، ولكن هذه الصحيفة المذكورة ههنا هل هي الصحيفة التي ذكرها ابن إسحاق في أحداث السنة الأولى؟ أم هذه الصحيفة تأكيد للصحيفة الأولى؟ أو هي مع اليهود الذين لم يدخلوا في الصحيفة الأولى. 3 - هناك جدل كبير في هذا العالم يدور حول فكرة الاغتيال السياسي؟ حول جدواها وحول مشروعيتها والذي أقوله ههنا هو ما كررته دائماً العبرة للفتوى الصحيحة من أهلها ثم الشورى والمصلحة، فحيثما جاز القتل وكانت مصلحة المسلمين فيه فليكن، ولكن معرفة المصلحة ليست سهلة في عصرنا حيث تتشابك لمصالح، وحيث للرأي العام العالمي دوره الكبير في قرارات الدول، وحيث احتمالات توسع الأضرار. 4 - أهم ما في حادثة قتل ابن الأشرف إجازة الرسول صلى الله عليه وسلم لقاتليه أن يقولوا، ولقد قالوا كلاماً هو في الأحوال العادية كفر، ومن ههنا تعرف أنه من أجل تحقيق المهام العسكرية فلا حدود للكلام الذي يقال، ولكن تأتي هنا مسألة أخرى وهي ما إذا كان النجاح في المهام العسكرية يقتضي أفعالاً لا تجوز أو يقتضي ترك فرائض فما العمل؟ المعروف أنه ليس أفظع من الكفر فإذا جاز التظاهر بالكفر لذلك فمن باب أولى جواز غيره، على أن يتأكد طريقاً للوصول إلى الهدف أو يغلب على الظن ذلك، وعلى أن يقتصر فيه على الحد الذي لابد منه، سواء كانت الوسيلة تأخير فريضة أو ارتكاب محظور، على أن هذا وهذا مقيدان بالفتوى فهناك محظورات لا يصح فعلها بحال. كالزنا واللواط. 5 - بعض جيوش البلدان الكافرة تحظر على المسلم أن يصلي، أو أنهم في الظاهر لا يحظرون ولكنهم لو وجدوه يفعل فإنهم يفصلونه أو يتربصون به ليقتلوه، وإذا وجدوه يتعفف عن معان جعلوه ضمن دائرة الرصد، فهل له رخصة في بعض الأمور؟ وما هي حدود هذه الرخصة؟ هذا شيء يقدره أهل الفتوى المؤهلون لأن يفتوا في مثل هذه الأمور.

6 - من حادثة كعب وأمثالها ومن نصوص الشريعة وروحها وقواعدها نستخرج القاعدة التالية: أنه متى وجدت ظروف استثنائية أو حالات اضطرارية ومتى انتقل الدعاة إلى العمل السياسي والعسكري، فإنهم سيدخلون بذلك باب الموازنات والفتاوى الاستثنائية التي لا يستطيعها كل إنسان. ومن ههنا جاءت الحاجة إلى المجتهدين والمفتين، وكما قال سفيان الثوري: (العلم رخصة من ثقة وأما التشدد فيعرفه كل الناس)، فالأحكام الأصلية ليست مجهولة، وإنما الأحكام الاستثنائية التي تقتضيها الظروف الاستثنائية هي التي تحتاجها الحركة اليومية. * * *

فصل: في غزوة أحد

فصل: في غزوة أحد وسنذكر في هذا الفصل عرضاً عاماً بين يدي النصوص ثم نذكر النصوص على فقرات: 1 - بين يدي الالتحام. 2 - الالتحام. 3 - في أعقاب المعركة. 4 - عبر أحد وبعض دروسها. 5 - فقهيات. * * *

عرض عام

عرض عام حدثت هذه الغزوة في 7 شوال في رأي ابن القيم، وفي 15 شوال عند ابن إسحاق. قال ابن كثير: سمي أحد أحداً لتوحده من بين تلك الجبال، وفي الصحيح "أحد جبل يحبنا ونحبه" (1) قيل معناه أهله، وقيل لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره كما يفعل المحب، وقيل على ظاهره كقوله: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (2). قال ابن حجر: قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) ظهر من الرواية التي بعدها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج. ووقع في رواية أبي حميد أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة قال: "هذه طابة" فلما رأى أحداً قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" فكأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه ذلك القول. وللعلماء في معنى ذلك أقوال: أحدها: أنه على حذف مضاف والتقدير أهل أحد، والمراد بهم الأنصار لأنهم جيرانه. ثانيها: أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قم من سفر لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب ثالثها: أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعاً "جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة" أخرجه أحمد. ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب "اسكن أحد" الحديث. وقال السهيلي: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية. قال: ومع كونه مشتقاً من الأحدية فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظاً ومعنى فخص من بين الجبال بذلك، والله أعلم. أ. هـ. أقول: من الحكم في ذكر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبل أحد نفي التشاؤم بأحد بعد ما

_ (1) البخاري (6/ 83) 56 - كتاب الجهاد - 71 - باب: فضل الخدمة في الغزو، عن أنس بن مالك. ومسلم (2/ 993) 15 - كتاب الحج - 85 - باب: فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، عن أنس بن مالك. (2) البقرة: 74.

حدث عنده ما حدث ومن أجل ذلك قدمنا هذين النقلين ههنا بين يدي العرض العام ولنبدأ العرض: قال المباركفوري: على إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة، وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر، ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة. ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأى قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة. وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، جنبوها (1) طول الطريق وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع، وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل، أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار، تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير. وكان العباب بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة

_ (1) جنبوها: قادوها إلى جنوبهم ولم يركبوها.

والمدينة - التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلو متراً - في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء. قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار. وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح، استعداداً للطوارئ. وقامت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة - بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح، وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها خوفاً من أن يؤخذوا على غرة، وقامت دوريات من المسلمين - لاكتشاف تحركات العدو - تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين. واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن السبخة من قناة على شفير الوادي - الذي يقع شمالي المدينة - فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة. عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، ثم قدم رأيه إلى صحابته أن لا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين. بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي كان قد أرى فرند سيفه في معركة بدر - فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، ورفض

رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه أمام رأي الأغلبية واستقر الرأي على الخروج من المدينة واللقاء في الميدان السافر. صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين (أي لبس درعاً فوق درع) وتقلد السيف، ثم خرج على الناس. فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته - وهي الدرع - أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه (1). وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب: (1) كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري. (2) كتيبة الأوس من الأنصار. وأعطى لواءها أسيد بن حضير. (3) كتيبة الخزرج من الأنصار. وأعطى لواءها الحباب بن المنذر. وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارس، وقيل لم يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين وعندما وصل إلى مقام يقال له (الشيخان) استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

_ (1) البخاري تعليقاً (13/ 339)، 6 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - 28 - باب: قول الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، (وشاورهم في الأمر).

وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر - ثلاثمائة مقاتل. وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش - وهم سبعمائة مقاتل - ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب (أي من قريب) من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب، ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلاً ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة. وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة - وعرف فيما بعد بجبل الرماة - جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي. وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق، أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف، وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ. أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان

صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش. وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان بن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة، أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار. وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة، خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه، ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء، عشرة من بني عبد الدار - من حملة اللواء - أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء، فتقدم غلام لهم حبشي - اسمه صواب - فحمل اللواء وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم أعزرت (1)؟ يعني هل أعزرت. وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً. قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير، يسجل مرة أخرى نصراً ساحقاً على مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة، قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين وكادت تكون سبباً في مقتل

_ (1) أعزرت: أصلها: أعذرت، بلسان الحبشة لا يعضون على الأحرف اللثوية: الثاء والذال والظاء.

موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق

النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر. لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة لكن على رغم هذه الأوامر المشددة؛ لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم، وهكذا خلت ظهور المسلمين ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا. وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي عمرة بنت علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى. موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه - في مؤخرة المسلمين، وكان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.

تبدد المسلمين في الموقف

وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: عباد الله، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق، وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون. تبدد المسلمين في الموقف: أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي - رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق في بدايته وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي الله عنهم، كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة - عليه الصلاة والسلام والتحية - صاروا في مقدمة المدافعين. احتدام القتال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقي رحى المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم

تضاعف ضغط المشركين

يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: هلم إلي، أنا رسول الله، سمع صوته المشركون وعرفوه فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة. وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال - لم يكادوا يرون تطور الموقف، أو يسمعون صوته صلى الله عليه وسلم، حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات - وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح - فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماتهم. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم: أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة. تضاعف ضغط المشركين: كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته وأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً. وشاع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم أشاعه ابن قمئة بعد مقتل مصعب بن عمير رضي الله عنه. وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة

الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف

هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين. الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف: ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون، وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب ابن مالك - وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اصمت - وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون - إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة. وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام، وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدن وظاهر بين الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي: الجنة. آخر هجوم قام به المشركون: ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل - يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكونوا يعرفون من

التثبت من موقف المشركين

مصيره شيئاً - بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم - وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون. بقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً - خلاخيل - وقلائد. قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: "قل: نعم هو بيننا وبينك موعد". التثبت من موقف المشركين: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال: "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم" قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج وأربع وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط، وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق - بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال - يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون. والله أعلم. بات المسلمون في المدينة - ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع عن معركة أحد - وهم في حالة الطوارئ، باتوا - وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال - يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، إذ كانت

تتلاحقهم الشبهات من كل جانب. اهـ المباركفوري. هذه هي قصة أحد في خطوطها الكبرى، وقد لخصها ابن حجر في الفتح وعلق عليها فقال: وكان السبب فيها ما ذكر ابن إسحاق عن شيوخه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالوا، وهذا ملخص ما ذكره موسى بن عقبة في سياق القصة كلها قال: لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: "رأيت البارحة في منامي بقرأ تذبح، والله خير وأبقى، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته أو قال به فلول فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشاً" قالوا: وما أولتها؟ قال: "أولت البقر بقراً يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت" فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا، فقال: "ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل" نزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله ابن أبي بن سلول في ثلثمائة فبقي في سبعمائة، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وصف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة وتعبؤوا للقتال، وعلى خيل المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرس وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلاً وعهد إليهم أن لا يتركوا منازلهم، وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير، فبارز طلحة بن عثمان فقتله، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوهم، فرأى ذلك الرماة فتركوا

مكانهم، ودخلوا العسكر، فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فحملوا على المسلمين في الخيل فمزقوهم، وصرخ صارخ: قتل محمد أخزاكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضاً وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل، وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعداً في الشعب ومعه طلحة والزبير، وقيل معه طائفة من الأنصار منهم الحارث بن الصمة، وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنها أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بآلهته: اعل هبل، فناداه عمر: الله أعلى وأجل. ورجع المشركون إلى أثقالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن ركبوا وجعلوا الأثقال - أي الإبل - تتبع آثار الخيل، فهم يريدون البيوت، وإن ركبوا الأنفال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع" فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع فقال: رأيت الخيل مجنوبة، فطابت أنفس المسلمين ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم، وبكى المسلمون على قتلاهم، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق، فقالت اليهود: لو كان نبياً ما ظهروا عليه، وقالت المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا. قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أن لا يبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم فاستعدوا لهم

1 - بين يدي الالتحام

وتحرزوا منهم، ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين. ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد، وقد قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) إلى قوله (أمنة نعاساً) (1) اهـ. 1 - بين يدي الالتحام 361 - *روى الطبراني عن عمر بن الخطاب قال: فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم وأنزل الله عز وجل: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) (2) بأخذكم الفداء. 362 - *روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة

_ (1) آل عمران: 121 - 154. 361 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 115)، وقال: رواه الطبراني في آخر حديث عمر الذي في الصحيح في مسنده الكبير. مصيبة: هي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين من المسلمين. قد أصبتم مثليها: يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين أسيراً. (2) آل عمران: 165. 362 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 124)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت في النصف من شوال. قال ابن كثير في البداية والنهاية: وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث قاله الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق ومالك، قال ابن إسحاق للنصف من شوال، وقال قتادة يوم السبت الحادي عشر منه قال مالك وكانت الوقعة في أول النهار وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ الممنين مقاعد للقتال والله سميع عليم* إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون* ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون* إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين* بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) الآيات وما بعدها إلى قوله: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) (1). 363 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء. قال ابن كثير: (تنبيه): ذكر البيهقي والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد والصواب إيرادها بعد ذلك، كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيداً، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالاً وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد. والله أعلم. (تنبيه آخر): خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم، وكذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس، وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي، وكذلك

_ (1) آل عمران: 121 - 179. 363 - البخاري (6/ 31)، 56 - كتاب الجهاد 19 - باب فضل قول الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).

مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب وقصة الخندق كما سيأتي. 364 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقراً منحرة، فأولت أن الدرع الحصينة المدينة، وأن البقر هو والله خير" قال فقال لأصحابه: "لو أنا أقمنا بالمدينة فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم" فقالوا: يا رسول الله، والله ما دخل علينا فيها في الجاهلية فكيف يدخل علينا فيها في الإسلام قال عفان في حديثه فقال: "شأنك إذاً" قال: فلبس لأمته قال فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، فجاؤوا فقالوا: يا نبي الله شأنك إذاً فقال: "إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". 365 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم بالمدينة يقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً: تخرج بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لبس أداته فندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك. فقال رسول الله وىله وسلم: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" قال: وكان لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ قبل أن يلبس الأداة: "إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشاً فأولته كبش الكتيبة ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم ورأيت بقراً تذبح فبقر والله خير فبقر والله خير".

_ 364 - أحمد في مسنده (3/ 351). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 107)، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. اللأمة: مهموزة: الدرع، وقيل: السلاح، وقد يترك الهمز تخفيفاً. 365 - المستدرك (2/ 128)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

366 - * روى أبو داود عن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن رجل قد سماه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين أو لبس درعين. 367 - * روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عرضت يوم أحد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولي ثلاث عشرة فجعل أبي يأخذ بيدي فيقول: يا رسول إنه عبل العظام. قال: وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في البصر ويصوبه ثم قال رده فردني. 368 - * روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم، فنزلت: (فما لكم في المنافقين فئتين) (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها تنفي الرجال، كما تنفي النار خبث الحديد". قال في الفتح: قوله: (رجع ناس ممن خرج معه) يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في المغازي وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج

_ = مردف: ردفه ردفاً: ركب خلفه. فل: السيف فلاً: ثلمه وكسره في حده. 366 - أبو داود (3/ 32)، كتاب الجهاد، وباب في لبس الدروع. وأحمد نحوه في مسنده (3/ 449). ظاهر بين درعين: أي لبس إحداهما فوق الأخرى. وكأنه من التظاهر بمعنى التعاون والتساعد كأن جعل إحداهما ظهارة والأخرى بطانة، ومنه يعلم أن مباشرة الأسباب لا تنافي التوكل. 367 - المستدرك (3/ 563)، وسكت عنه الذهبي، وهو صحيح. العبل: الضخم في كل شيء. 368 - البخاري (4/ 96) 29 - كتاب فضائل المدينة - 10 - باب المدينة تنفي الخبث. وأيضاً نحوه (7/ 356) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. - ومسلم بعضه (4/ 2142) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم. (1) النساء: 88.

قال عبد الله بن أبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس. قال ابن إسحق في روايته: فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجياً كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا فقال: أبعدكم الله. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ابن إسحاق حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وابوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) (1) يعني أنهم كاذبون في قولهم لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بيِّن واضح لا خفاء ولا شك فيه، وهم الذين أنزل الله فيهم: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) الآية وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم كما ثبت وبين في الصحيح. أ. هـ. 369 - * روى البزار عن الزبير بن العوام قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً يوم أحد، فقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه" فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: يا رسول الله: أنا آخذه بحقه فما حقه؟ قال: فأعطاه إياه وخرج واتبعته فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه

_ (1) آل عمران: 167. 369 - كشف الأستار (2/ 322)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة أحد. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 109)، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. وهكذا ورد في الرواية السؤال: "فما حقه" دون الإجابة وقد جاءت الإجابة في بعض الروايات: "حقه أن تضرب به العدو حتى ينحني". أفراه: فرى الشيء فرياً: شقه وفتته.

وهتكه حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند وهي تقول: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق والمسك في المفارق ... إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق فحملت عليها فنادت بالصحراء فلم يجبها أحد، فانصرف فقلت له: كل صنيعك قد رأيته فأعجبني، غير أنك لم تقتل المرأة. قال: إنها نادت فلم يجبها أحد، فكرهت أن أضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لا ناصر لها. 370 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: "من يأخذ مني هذا؟ " فبسطوا أيديهم - كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا - فقال: "فمن يأخذه بحقه؟ " فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة، أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. 371 - * روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي أبي: يا بني لا أدري لعلي أن أكون في أول من يصاب غداً وذلك يوم أحد، فأوصيك ببنيات عبد الله خيراً، فالتقوا فأصيب ذلك اليوم. 372 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض".

_ (1) هتكه: هتك الستر هتكاً: جذبه فأزاله من موضع أو شق جزءاً منه فبدا ما وراءه. طارق: نجم الصبح وقولها في البيت تعني أن أبانا في الشرف كالنجم المضيء قاله الجوهري. وقال الواقدي: عنت أنها من المخدرات اللاتي لا يبرزن إلا ليلاً كالنجم. النمارق: النمرق والنمرقة - مثلثة -: الوسادة الصغيرة. وامق: ومقه أحبه فهو وامق. 370 - مسلم (4/ 1917) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 25 - باب من فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه. ففلق به هام المشركين: أي: شق رؤوسهم. 371 - المستدرك (3/ 203)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 372 - مسلم (3/ 1363) 32 - كتاب الجهاد والسير. 7 - استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.

قال النووي: قوله: (إن تشأ لا تعبد في الأرض) قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدر. تعالى الله عن قولهم. وهذا الكلام متطلب أيضاً النصر. وجاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم أحد، وجاء بعده أنه قاله يوم بدر، وهو المشهور في كتب السيرة والمغازي، ولا معارضة بينهما. فقاله في اليومين. 373 - * روى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تدعو الله؟ فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه فأمن عبد الله ابن جحش ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده شديداً بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غداً: قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم فتقول: صدقت قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط. 374 - * روى البخاري عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه. وفي رواية الترمذي (3) قال: غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، حدث أنه كان فيمن غشيه النعاس يومئذ، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط من يدي وآخره، والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق.

_ 373 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 301)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. حرده: حرد عليه حرداً: غضب واغتاظ فتحرش بالذي غاظه وهم به فهو حرد وحردان. سلبه: السلب: ما يسلب من القتيل، وفي الحديث: من قتل قتيلاً فله سلبه. 374 - البخاري (7/ 365) 64 - كتاب المغازي - 21 - باب قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ...) الآية. (3) الترمذي (5/ 229) 48 - كتاب تفسير القرآن - 4 - باب "ومن سورة آل عمران". عن أبي طلحة. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

2 - الالتحام

وفي أخرى له (1) قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) (2). فائدة: الذي يبدو لي أن النعاس أصابهم مرتين يوم أحد: مرة قبل المعركة ومرة بعد المعركة، والروايات هذه تشير إلى الاثنتين فلا شك أن النعاس الذي أشارت إليه الآية كان بعد المعركة. (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) (3). والنعاس الذي أشار إليه النص (ونحن في مصافنا) كان قبل المعركة واختلط الأمر على بعض الرواة فدمجوا الروايتين. 2 - الالتحام 375 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: فأنكرنا ذلك فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) يقول ابن عباس: والحس القتل (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من

_ (1) الترمذي في نفس الموضع السابق، عن أبي طلحة أيضاً. وقال: حديث حسن صحيح. حجفته: الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب. تميد: ماد الشيء يميد: إذا تحرك، ومال من جانب إلى جانب. أمنة: الأمنة والأمن واحد. (2) آل عمران: 154. (3) آل عمران: 154. 375 - المستدرك (2/ 296)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي، وأحمد في مسنده (1/ 287).

يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) (1) وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأباحوا عسكر المشركين انكشف الرماة جميعاً (2) فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهم هكذا، وشبك بين أصابع يديه، والتبسوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخل الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغاب، إنما كان تحت المهراس، وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشكوا فيه أنه حق فما زلنا كذلك ما نشك أنه قد قتل، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين السعدين، فعرفناه بتكفؤه إذا مشى، قال: ففرحنا، حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقى نحونا وهو يقول "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم" قال ويقول مرة أخرى: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا" حتى انتهى إلينا قال: فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل، اعل هبل اعل هبل - يعني آلهته أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله! ألا أجيبه قال: "بلى" فلما قال اعل هبل قال عمر: الله أعلى وأجل فقال أبو

_ (1) آل عمران: 152. (2) قوله: انكشف الرماة جميعاً: فيه نظر حيث ذكر ابن هشام ستة لم ينكشفوا من الرماة، واستشهدوا، منهم أميرهم عبد الله بن جبير. أخل: أخل بالشيء: أجحف وقصر فيه - وأخل الوالي بالثغور - وقلل الجند بها. جولة: جال القوم في الحرب جولة: فروا ثم كروا. مهراس: المهراس بكسر أوله وسكون ثانيه وآخره سين مهملة - ماء بجبل أحد، وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم عطش يوم أحد فجاءه علي رضي الله عنه في درقته بماء من المهراس. تكفأ في مشيته: انصب فيها انصباباً. دموا: بمعنى أدموا، أي: أسالوا الدم.

سفيان: يا ابن الخطاب إنه يوم الصمت فعاد فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم لتزعمون ذلك لقد خبنا إذاً وخسرنا. ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذ كان ذلك لم نكرهه. قال الدكتور البوطي: ما الحكمة في أن يشيع خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفوف المسلمين؟! .. الجواب: أن ارتباط المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوده فيما بينهم كان من القوة بحيث لم يكونوا يتصورون فراقه ولم يكونوا يتخيلون قدرة لهم على التماسك من بعده، فكان أمر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يخطر لهم في بال، وكأنهم كانوا يسقطون حساب ذلك من أذهانهم، ولا ريب أنهم لو استيقظوا من غفلتهم هذه على خبر وفاته الحقيقية، لصدع الخبر أفئدتهم، ولزعزع كيانهم الإيماني بل ولقوضه في نفوس كثير منهم. فكان من الحكمة الباهرة أن تشيع هذه الشائعة، تجربة درسية بين تلك الدروس العسكرية العظيمة، كي يستفيق المسلمون من ورائها إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم لها منذ الساعة، وأن لا يرتدوا على أعقابهم إذا وجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختفى من بينهم. ومن أجل بيان هذا الدرس الجليل نزلت الآية تعليقاً على ما أصاب كثيراً من المسلمين من ضعف وتراجع لدى سماعهم نبأ مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك إذ يقول الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم

_ = دول: جمع دولة: والدولة في الحرب بين الفئتين: أن تهزم هذه مرة وهذه مرة .. الحرب سجال: أي تكون مرة لنا ومرة لكم، وأصله من المستقين بالدلو، وهو السجل، يكون لهذا دلو ولهذا دلو. المثلة: العقوبة والتنكيل، وجمعها مثلات. سراة: أشراف، فهو سرى وهم سراة.

ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) (1). ولقد اتضح الأثر الإيجابي لهذا الدرس، يوم أن لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً بالرفيق الأعلى، فقد كانت شائعة أحد هذه، مع ما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم إلى الحقيقة، فودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها بين أيديهم، أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، فنهضوا بها أقوياء بإيمانهم أشداء في عقيدتهم وتوكلهم على الله تعالى. 376 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: "في الجنة" فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل. قال في الفتح: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر، والقصة التي في الباب وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد، فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين، والله أعلم. وفيه ما كان الصحابة عليه من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة الله. 377 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل علي بن أبي طالب على فاطمة يوم أحد فقال: خذي هذا السيف غير ذميم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن كنت أحسنت القتال لقد أحسنه سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة". 378 - * وروى أبو يعلى عن عقبة مولى جبر بن عتيك رضي الله عنهما، قال: شهدت أحداً مع موالي فضربت رجلاً من المشركين، فلما قتلته قلت: خذها مني وأنا الرجل الفارسي،

_ (1) آل عمران: 144. 376 - البخاري (7/ 354) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. ومسلم نحوه (3 - 1509) 33 - كتاب الإمارة - 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد. 377 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 123)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 378 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 115)، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات.

فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري فإن مولى القوم من أنفسهم". 379 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة، وأمر عليهم عبد الله وقال: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يتشددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخيلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فقال عبد الله عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلاً، وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: "لا تجيبوه" قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: "لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخريك، قال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل" قال أبو سفيان: لنا العزى، ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه". قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم" قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة، لم آمر بها، ولم تسؤني. - وأخرج أبو داود (1) الرواية الثانية إلى قوله: صرفت وجوههم، ثم قال: وأقبلوا منهزمين وفي رواية: فأنا والله رأيت النساء يسندن في الجبل.

_ 379 - البخاري (7/ 349) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. يشتددن: الشد: العدو. سوقهن: السوق: جمع ساق الإنسان. اعل هبل هبل: اسم صنم، وقوله: (اعل) أمر بالعلو. العزى: اسم صنم، وهو تأنيث الأعز. (1) أبو داود (3/ 51)، كتاب الجهاد، باب في الكمناء. صرف وجوههم: كنى بصرف الوجوه عن الهزيمة، فإن المنهزم يلوي وجهه عن الجهة التي كان يطلبها إلى ورائه. يسندن: يصعدن.

وقال في الفتح: قوله (رفعن عن سوقهن) جمع ساق أي ليعينهن ذلك على سرعة الهرب. وفي حديث الزبير بن العوام عند ابن إسحاق قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم (1) هند بنت عتبة وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أحدهن قليل ولا كثير. إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه وخلوا ظهرنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم حتى ما يدنو منه أحد من القوم. وقال: وفي هذا الحديث من الفوائد منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما. وأنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها. وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (2) وأن من آثر دنياه، أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه. واستفيد من هذه الكائنة أخذ الصحابة الحذر من العود إلى مثلها، والمبالغة في الطاعة، والتحرز من العدو الذين كانوا يظهرون أنهم منهم وليسوا منهم، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضاً: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) إلى أن قال - (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (3) وقال: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) (4). وقد تحدث في الفتح عما آل إليه الأمر بعد الفشل: صاروا ثلاث فرق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة فما رجعوا حتى انفض القتال وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) (5)، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل فصار غاية الواحد منهم

_ (1) خدم: خلاخيل، ومفردها: خدمة. (2) الأنفال: 25. (3) آل عمران: 140 - 141. (4) آل عمران: 179. (5) آل عمران: 155.

أن يذب عن نفسه أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل، وهم أكثر الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع إليه القسم الثاني شيئاً فشيئاً لما عرفوا أنه حي، وبهذا يجمع بين مختلف الأخبار في عدة من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعند محمد بن عائذ من مرسل المطلب بن حنطب: لم يبق معه سوى اثني عشر رجلاً، وعند ابن سعد ثبت معه سبعة من الأنصار وسبعة من قريش، وفي مسلم من حديث أنس، أفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش طلحة وسعد، وقد سرد أسماءهم الواقدي، واقتصر أبو عثمان النهدي على ذكر طلحة وسعد وهو في الصحيح "وأخرج الطبري من طريق السدي أن ابن قمئة لما رمى النبي صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته وشجه في وجهه وتفرق الصحابة منهزمين وجعل يدعوهم فاجتمع إليه منهم ثلاثون رجلاً، فذكر بقية القصة اهـ. 380 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى - أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (1).

_ 380 - البخاري (6/ 21) 56 - كتاب الجهاد - 12 - باب قول الله عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ...) الآية. البضع: ما بين الثلاث إلى التسع. ببنانه: البنان: الأصابع، واحدها: بنانة. (1) الأحزاب: 23.

وعند مسلم (1)، قال أنس: عمي الذي سميت به: لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً قال: فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه وإن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو: أين؟ فقال: واهاً لريح الجنة، أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون، من بين ضربة ورمية وطعنة، ثم ذكر نحو ما تقدم. قال في الفتح: قوله: (إني أجد ريح الجنة دون أحد) يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوساً عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يئول بصاحبه إلى الجنة. قوله: (فمضى فقتل) في رواية عبد الأعلى (قال سعد بن معاذ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع). قلت: وهذا يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ لأنه لم يحضر قتل أنس بن النضر، ودل ذلك على شجاعة مفرطة في أنس بن النضر بحيث أن سعد بن معاذ مع ثباته يوم أحد وكمال شجاعته ما جسر على ما صنع أنس بن النضر. اهـ. - وفي الحديث جواز الأخذ بالشدة في الجهاد، وبذل المرء نفسه في طلب الشهادة، والوفاء بالعهد. 381 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله

_ (1) مسلم (3/ 1512) 33 - كتاب الإمارة - 41 - باب: ثبوت الجنة للشهيد. 381 - مسلم (3/ 1415). 32 - كتاب الجهاد والسير - 37 - باب غزوة أحد. رهقوه: رهقه يرهقه رهقاً، أي: غشيه، والإرهاق: الإعجال. وقيل: رهقوه، أي قربوا منه، ومنه المراهق، وهو الغلام الذي قارب الاحتلام.

الجنة؟ " أو "هو رفيقي في الجنة" - فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً، فقال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ " أو "هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا". وفي قوله: "ما أنصفنا أصحابنا". قال ابن القيم: وهذا يروى على وجهين: بسكون الفاء ونصب أصحابنا على المفعولية، وفتح الفاء ورفع أصحابنا على الفاعلية، ووجه النصب أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحد بعد واحد حتى قتلوا ولم يخرج القرشيان، قال ذلك أي ما أنصفت قريش الأنصار، ووجه الرفع أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفردوه في النفر القليل فقتلوا واحد بعد واحد فلم ينصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ثبت معه اهـ. قال ابن حجر في الفتح: عن جابر قال: (تفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار وطلحة) وإسناده جيد، وهو كحديث أنس، إلا أن فيه زيادة أربعة فلعلهم جاءوا بعد ذلك. اهـ. أقول: لقد كانت المواقف متلاحقة والمشاهد متعددة متجددة، وكل تحدث عن مشهد أو موقف فلا منافاة بين الأقوال. 382 - * روى مسلم عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة. قال: وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً. قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل. فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظر

_ 382 - مسلم (3/ 1443) 32 - كتاب الجهاد والسير - 47 - باب غزوة النساء مع الرجال. والبخاري نحوه (7/ 128) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 18 - باب مناقب أبي طلحة رضي الله عنه. مجوب عليه: أي ساتر له، قاطع بينه وبين الناس، وهو من الجوب: القطع، وبتجوب: يتفعل منه. شديد النزع: النزع: مد القوس، وشدته: كناية عن استيفاء السهم جميعه في جذبه. الجعبة: التي تكون فيها السهام، تتخذ من الجلود.

إلى القوم. فيقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي! لا تشرف لا يصبك سهم من سهام القوم. نحري دون نحرك. قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان. أرى خدم سوقهما. تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواههم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثاً، من النعاس. وللبخاري (1) قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى يشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى موضع نبله. 383 - * وروى الحاكم عن موسى بن طلحة أن طلحة رجع بسبع وثلاثين أو خمس وثلاثين بين ضربة وطعنة ورمية ترصع جبينه وقطعت سبابته وشلت الإصبع التي تليها. 384 - * روى البخاري عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت. وفي رواية (2): "رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. 385 - * وروى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد وولى الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية في اثني عشر رجلاً من الأنصار، وفيهم طلحة بن عبيد الله، فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "من للقوم؟ " فقال طلحة: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كما أنت" فقال رجل من الأنصار: أنا

_ = يشرف: الإشراف: الاطلاع على الشيء. خدم سوقهما: الخدمة: الخلخال. (1) البخاري (6/ 93) 56 - كتاب الجهاد - 80 - باب المجن ومن يترس بترس صاحبه. 383 - المستدرك (3/ 25)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. ترصع جبينه: أي ضرب ضرباً شديداً. 384 - البخاري (7/ 82) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 14 - باب ذكر طلحة بن عبيد الله. شلت: الشلل فساد اليد بمرض أو قطع، ورجل أشل، ويد شلاء، وشلت يده، فهي مشلولة. (2) البخاري (7/ 359) 64 - كتاب المغازي - 18 - باب "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما .. ". 385 - النسائي (6/ 29) كتاب الجهاد، باب ما يقول من يطعنه العدو. وجود إسناده الحافظ في الفتح.

يا رسول الله، فقال: "أنت" فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: "من للقوم؟ " فقال طلحة: أنا، قال: "كما أنت" فقال رجل من الأنصار: أنا، فقال: "أنت" فقاتل حتى قتل، ثم لم يزل يقول ذلك، ويخرج إليهم رجل من الأنصار، فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من للقوم؟ " فقال طلحة: أنا فقاتل طلحة قتال الأحد عشر، حتى ضربت يده، فقطعت أصابعه، فقال: حس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون" ثم رد الله المشركين. 386 - * روى البخاري ومسلم عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام - التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم - غير طلحة وسعد، عن حديثهما. قال في الفتح: ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق عبد الله بن معاذ عن معتمر في هذا الحديث "قال سليمان فقلت لأبي عثمان: وما علمك بذلك؟ قال: عن حديثهما" وهذا قد يعكر عليه أن المقداد كان ممن بقي معه، لكن يحتمل أن المقداد إنما حضر بعد تلك الجولة، ويحتمل أن يكون انفرادهما عنه في بعض المقامات، فقد روى مسلم من طريق ثابت عن أنس قال: "أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش" وكأنه المراد بالرجلين طلحة وسعد، وكأن المراد بالحصر المذكور في حديث الباب تخصيصه بالمهاجرين، فكأنه قال: لم يبق معه من المهاجرين غير هذين، وتعين حمله على ما أولته وأن ذلك باعتبار اختلاف الأحوال وأنهم تفرقوا في القتال، فلما وقعت الهزيمة فيمن انهزم وصاح الشيطان: قتل محمد، اشتغل كل واحد منهم بهمه والذب عن نفسه كما في حديث سعد، ثم عرفوا عن قرب ببقائه فتراجعوا إليه أولاً فأولاً، ثم بعد ذلك كان يندبهم إلى القتال فيشتغلون به. وروى ابن إسحاق بإسناد حسن عن الزبير بن

_ = حس: كلمة تقال عند التوجع. 386 - البخاري (7/ 82)، واللفظ له، 62 - كتاب فضائل الصحابة - 14 - باب ذكر طلحة بن عبيد الله. ومسلم (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 6 - باب من فضائل طلحة والزبير، رضي الله تعالى عنهما.

العوام قال: "مال الرماة يوم أحد يريدون النهب، فأتينا من ورائنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا راجعين، وانكفأ القوم علينا". أ. هـ. 387 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس لعنة الله عليه أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم، فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي، أبي، قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية خير، حتى لحق بالله. في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لحذيفة دية أبيه فرفضها وتصدق بديته على المسلمين فزاده ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم خيراً. 388 - * روى البزار عن أبي بكر، رضي الله عنه: لما انصرف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم كنت أول من فاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إلى رجل يقاتل بين يديه فقلت: كن طلحة، ثم نظرت فإذا أنا بإنسان خلفي كأنه طائر فلم أشعر أن أدركني، فإذا هو أبو عبيدة ابن الجراح، وإذا طلحة بين يديه صريعاً، قال: دونكم أخوكم فقد أوجب، فتركناه، وأقبلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه سهمان فأردت أن أنزعهما فما زال أبو عبيدة يسألني ويطلب إلي حتى تركته فنزع أحد السهمين وأزم عليه بأسنانه فقلعه، وابتدرت إحدى، ثنيتيه، ثم لم يزل يسألني ويطلب إلي أن أدعه ينزع الآخر، فوضع ثنيته على السهم وأزم عليه كراهية أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم إن تحول فنزعه وابتدرت ثنيته أو إحدى ثنيته فكان أبو عبيدة أهتم الثنايا.

_ 387 - البخاري (7/ 361) 64 - كتاب المغازي - 18 - باب: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ... ". اجتلدت: الاجتلاد: افتعال من الجلد، وهو الضرب. احتجزوا: الاحتجاز والانحجاز: الكف عن الشيء. 388 - البزار: كشف الأستار (2/ 324)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة أحد، وقال: لا نعلم أحداً رفعه إلا أبو بكر الصديق، ولا نعلم له إسناداً غير هذا، وإسحاق - يعني ابن يحيى بن طلحة - قد روى عنه عبد الله بن المبارك وجماعة، وإن كان فيه، ولا نعلم أحداً شاركه في هذا. اهـ - وللحديث طرق يرتقي بها إلى رتبة الحسن. الثنية: إحدى الأسنان الأربعة التي في مقدم الفم. ... أهتم: منزوع الثنايا.

389 - * روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أبي بن خلف يوم أخذ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريده فاعترض رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترقوة أبي من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته، فسقط أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فكسر ضلعاً من أضلاعه فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أعجزك إنما هو خدش، فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "بل أنا أقتل أبياً" ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات أبي إلى النار فسحقاً لأصحاب السعير قبل أن يقدم مكة فأنزل الله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (1) الآية. 390 - * روى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما جال الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الجولة يوم أحد تنحيت فقلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد وإما أن أنجو حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا أنا كذلك إذا برجل مخمر وجهه ما أدري من هو؟ فأقبل المشركون، حتى قلت: قد ركبوه ملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم، فنكبوا على أعقابهم القهقرى، حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مراراً ولا أدري من هو؟ وبيني وبينه المقداد بن الأسود فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه، إذ قال المقداد: يا سعد هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

_ 389 - المستدرك (2/ 327)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. ترقوة: أعلى الصدر - عظمة مشرفة بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان. سابغة: درع سابغة: تامة طويلة. (1) الأنفال: 17. 390 - المستدرك (3/ 26)، كتاب المغازي، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. جال: جال القوم جولة: انكشفوا ثم كروا. تنحيت: تنحى. الناحية: الجانب. أذود: الذود: السوق والطرد والدفع. مخمر: خمر: توارى. التخمير: التغطية. ركبوه: ركبه: علاه. ... نكبوا: نكب عنه عدل وتنحى. والشيء نحاه.

يدعوك فقلت: وأين هو؟ فأشار لي المقداد إليه فقمت، ولكأنه لم يصبني شيء من الأذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أين كنت اليوم يا سعد؟ " فقلت: حيث رأيت يا رسول الله، فأجلسني أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اللهم استجب لسعد اللهم سدد لسعد رميته إيهاً سعد فداك أبي وأمي" فما من سهم أرمي به إلا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم سدد رميته وأجب دعوته إيهاً سعد" حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما في كنانته فنبلني سهماً نضيا وكان أشد من غيره. قال الزهري إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم. 391 - * روى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: أنا أسد الله. 392 - * روى البخاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري رحمه الله قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص، قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره، كأنه حميت (3)، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلمنا، فرد السلام، قال: وعبيد الله معتجر (4) بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه

_ إيهاً: بالتنوين للاستزادة من حديث أو عمل ما. النضي: سهم فسد من كثرة ما رمى به، والنضي كغني: السهم بلا نصل ولا ريش. 391 - المستدرك (3/ 194)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وصححه الذهبي. 392 - البخاري (7/ 367) 64 - كتاب الغازي 23 - باب قتل حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه. (1) قال في الفتح: قوله (كأنه حميت) بمهملة وزن رغيف، أي زق كبير، وأكثر ما يقال ذلك إذا كان مملوءاً، وفي رواية لابن عائذ "فوجدناه رجلاً سميناً محمرة عيناه" وفي رواية الطيالسي "فإذا به قد القي له شيء على بابه وهو جالس صاح وفي رواية ابن إسحاق (على طنفسة له) وزاد (فإذا شيخ كبير مثل البغاث) يعني بفتح الموحدة والمعجمة الخفيفة وآخر مثلثه وهو طائر ضعيف الجثة كالرخمة ونحوها مما لا يصيد ولا يصاد. (2) قوله (متجر) أي لاف عمامته على رأسه من غير تحنك. قال الحميدي: وقد جاء في هذا الحديث (وما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه) فلعله كان قد غطى وجهه بعد الاعتجار.

ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشي، أتعرفني؟ قال: فنظر إليه، ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلاماً بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه، فناولتها إياه، فكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيد الله عن وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع، فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباغ، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب، قال؛ وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته، حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذلك العهد به، فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم، حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قال: "آنت وحشي" قلت: نعم، قال: "أنت قتلت حمزة؟ " قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ " قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله، فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن

_ = بحيال: حيال الشيء: مقابله. مقطعة البظور: بظور النساء: اللاتي تختن منهن، والمقطعة: التي تختن النساء. أتحاد؟: المحادة: المخالفة، ومنع الواجب عليه. لا يهيج: هاج الإنسان يهيجه: إذا أفزعه وآذاه. أورق: الورقة في ألوان الإبل: كالسمرة في الإنسان. على هامته: الهامة: وسط الرأس.

يسار: أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود. قال في الفتح: وفي حديث وحشي من الفوائد غير ما تقدم ما كان عليه من الذكاء المفرط، ومناقب كثيرة لحمزة، وفيه أن المرء يكره أن يرى من أوصل إلى قريبه أو صديقه أذى، ولا يلزم من ذلك وقوع الهجرة المنهية بينهما، وفيه أن الإسلام يهدم ما قبله، والحذر في الحرب، وأن لا يحتقر المرء فيها أحداً، فإن حمزة لابد أن يكون رأى وحشياً في ذلك اليوم لكنه لم يحترز منه احتقاراً منه إلى أن أتي من قبله. 393 - * روى الطبراني عن وحشي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: "وحشي؟ " قلت: نعم، قال: "قتلت حمزة؟ " قلت: نعم، والحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيديه قالت له قريش: أتحبه وهو قاتل حمزة؟ فقلت: يا رسول الله فاستغفر لي، فتفل في الأرض ثلاثة، ودفع في صدري ثلاثة، وقال: "يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله". 394 - * وروى الطبراني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى حمزة قال: "أما والله لأمثلن بسبعين كمثلك" فنزل القرآن: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) (1) الآية، فكفر صلى الله عليه وسلم وأمسك عن ذلك. قال في الفتح: وروى البزار والطبراني بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة قد مثل به قال: "رحمة الله عليك، لقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى" ثم حلف وهو بمكانه

_ 393 - المعجم الكبير (22/ 139) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 121)، وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن. 394 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 119)، وقال: رواه البزار والطبراني، وفيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف. والبزار نحوه مطولاً كشف الأستار (2/ 327)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة أحد. وللحديث طرق تقوى بها. (1) النحل: 126.

لأمثلن بسبعين منهم، فنزل القرآن (وإن عاقبتم) الآية وعند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني من حديث أبي بن كعب قال: مثل المشركون بقتلى المسلمين، فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً من الدهر لنزيدن عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل: لا قريش بعد اليوم، فأنزل الله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن القوم" وفي رواية: فقال: "بل نصبر يا رب" وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً. أ. هـ. 395 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد. قال: كان رجل من المشركين قد احرق المسلمين. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم. فداك أبي وأمي! " قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه، فسقط. فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نظرت إلى نواجذه. وتفصيل هذه الرواية في المغازي للواقدي: أن المشرك رمى أم أيمن التي كانت تسقي المسلمين بنبل فأصاب ذيلها فسقطت وانكشفت فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لسعد: "ارم الرجل" وأعطاه نبلاً لا نصل له فأصابه في نحره فسقط وانكشفت عورته فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ولم يذكر الواقدي أنه قتل. والواقدي أوسع كتاب أعلمه في المغازي وهو 4 مجلدات، وسمي الرجل حبان بن العرقة. 396 - * روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي النبي صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد فقال: "ارم فداك أبي وأمي".

_ 395 - مسلم (4/ 1876). 44 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب فضل سعد بن أبي وقاص .. أحرق المسلمين: أثخن فيهم، وعمل فيهم عمل النار. فنزعت له بسهم: فرميته بسهم. ليس له نصل: أي: ليس فيه زج. فأصبت جنبه: هكذا في معظم النسخ. نواجذه: أي: أنيابه، وقيل: أضراسه. 396 - البخاري (7/ 358) 64 - كتاب المغازي - 18 - باب: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون). نثل: نثل الكنانة: استخرج نبلها فنثرها. الكنانة: جعبة صغيرة من أدم للنبل.

397 - * روى الطبراني عن كعب بن مالك قال: لما كان يوم أحد وصرنا إلى الشعب، كنت أول من عرفته، فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأشار إلي بيده أن اسكت ثم ألبسني لأمته ولبس لأمتي فلقد ضربت حتى جرحت عشرين جراحة، أو قال بضعة وعشرين جرحاً، كل من يضربني يحسبني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعل ذلك لأن المشركين عرفوه رغم المغفر وعلموه بدرعه، فقصد أن يعمي عليهم وهذا من الأخذ بالأسباب ويعلمنا هذا أن حفظ القيادات في المعارك مراعى في الإسلام. 398 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله". 399 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله" فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء) (1).

_ 397 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 112)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال الأوسط ثقات. اللأمة: الدرع. البضعة: البضع: ما بين الثلاث إلى التسع. 398 - البخاري (7/ 372) واللفظ له، 64 - كتاب المغازي - 24 - باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد. ومسلم (3/ 1417) بنحوه، 32 - كتاب الجهاد والسير - 38 - باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرباعية: على وزن ثمانية السن بين الثنية والناب. وقد كسرت في أحد رباعية النبي صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى وهي التي تلي نابه الأيمن السفلي من الأمام. الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنتيه هو ابن قمئة. والذي رماه في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. فأما الأول فقتله تيس الجبل وأما الثاني فدعا عليه صلى الله عليه وسلم بأن لا يحول عليه الحول ويموت كافراً فكان ذلك. (الفتح الرباني بتصرف). 399 - مسلم (3/ 1417) 32 - كتاب الجهاد والسير - 37 - باب غزوة أحد. شج رأسه: إذا شق جلده وأجرى دمه. يسلت: سلت الدم عن الجرح: إذا مسحه. (1) آل عمران: 128.

قال في الفتح: "لما كان يوم أحد وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم" فلما رأت ذلك أخذت شيئاً من حصير فأحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم، وله من طريق زهير بن محمد عن أبي حازم "فأحرقت حصيراً حتى صارت رماداً، فأخذت من ذلك الرماد فوضعته فيه حتى رقأ الدم" وقال في آخر الحديث: ثم قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله. ثم مكث ساعة ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وقال ابن عائذ: أخبرنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد فجرحه في وجهه قال: خذها مني وأنا ابن قمئة فقال: "أقماك الله" قال: فانصرف إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها فشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع، وفي الحديث جواز التداوي، وأن الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين. أ. هـ. 400 - * روى الطبراني عن أبي سعيد أنه قال: أصيب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبله مالك بن سنان فمص جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى من خالط دمي دمه، فلينظر إلى مالك بن سنان". 401 - * روى أحمد عن أبي قتادة قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهما، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.

_ 400 - المعجم الكبير (6/ 34) ومالك بن سنان: هو والد الراوي أبي سعيد الخدري: سعد بن مالك بن سنان. 401 - أحمد في مسنده (5/ 299). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 31)، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن نصر الأنصاري، وهو ثقة.

قال في الفتح الرباني: قال جابر: حولت أبي بعد ستة أشهر فما أنكرت منه شيئاً إلا شعرات من لحيته كانت مستها الأرض، يروي معناه البخاري عن جابر ولفظه فأصبحنا فكان - أي والده - أول قتيل ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته كهيئته غير أذنه وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل عن قبرهما وكانا في قبر واحد مما يلي السيل فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما - أي لينقلا منه - فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة والمراد بقوله كانا في قبر واحد أي كانا متجاورين كأنهما في قبل واحد أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد ويتبين مما ذكر أن النقل كان مرتين الأولى لأفراد كل منهما بقبر وكان بعد ستة أشهر والثانية كانت لأن السيل كان قد حفر عن قبريهما وذلك بعد ست وأربعين سنة وقد ذكر ابن إسحاق قصة حفر السيل في المغازي فقال حدثني أبي عن اشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما يعني عمراً وعبد الله وعليهما بردتان قد غطى بهما وجوههما وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض فأخرجناهما يتثنيان تثنياً كأنهما دفنا بالأمس. اهـ. 402 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) (1) الآية.

_ 402 - المستدرك (2/ 88)، كتاب الجهاد، وأيضاً في (2/ 297)، كتاب التفسير، وقال في كلا الموضعين: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي فيهما. مقيلهم: قال قيلاً: نام وسط النهار. والمقيل: نومة النهار أو الاستراحة فيه وإن لم يكن نوم. نكل: نكولاً: نكص وجبن. (1) آل عمران: 169.

403 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد رأيت يوم أحد، عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض. يقاتلان عنه كأشد القتال. ما رأيتهما قبل ولا بعد. 404 - * روى البزار عن بريدة أن رجلاً قال يوم أحد: اللهم إن كان محمد على الحق فاخسف بي قال: فخسف به. قال ابن حجر في الفتح: (تنبيه): وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي قبل حديث عقبة بن عامر حديث ابن عباس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه" الحديث، وهو وهم من وجهين: أحدهما أن هذا الحديث تقدم بسنده ومتنه في "باب شهود الملائكة بدراً" ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم. ثانيهما: أن المعروف في هذا المتن يوم بدر كما تقدم لا يوم أحد، والله المستعان. أ. هـ. 405 - * روى البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام - وكان صائماً - فقال -: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا - وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

_ 403 - مسلم (4/ 1802) 43 - كتاب الفضائل 10 - باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وزاد في رواية في نفس الموضع: "يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام". والبخاري (7/ 358) بنحوه، 64 - كتاب المغازي - 18 - باب: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما .. " الآية. 404 - البزار: كشف الأستار (2/ 339)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة أحد. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 122)، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. وبريدة بن الحصيب - الراوي - صحابي أسلم قبل بدر، ومات سنة 63 هـ. 405 - البخاري (7/ 353) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد.

قال في الفتح: وفي الحديث فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله: (خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت) وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لقتل رغبته فيها. أ. هـ. 406 - * روى البخاري عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده، يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي - فقال عمر: أم سليط أحق به. وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد. 407 - * روى أحمد عن أبي هريرة أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش، فقلت لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له الإسلام فأسلم، فأخذ سيفه فغدا حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. قال: فبينا رجال بني عبد الأشهل، يلتمسون قتلاهم في المعركة، إذا هم به فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، وما جاء، لقد تركناه وإنه لمنكر هذا الحديث فسألوه ما جاء به؟ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحرباً على قومك أو رغبة في الإسلام؟ قال: بل

_ 406 - البخاري (7/ 366) 64 - كتاب المغازي - 22 - باب ذكر أم سليط. تزفر القرب: تحملها. قال في الفتح (باب ذكر أم سليط) بفتح المهملة وكسر اللام، ذكر فيه حديث عمر في قصة المروط، وأم سليط المذكورة هي والدة أبي سعيد الخدري كانت زوجاً لأبي سليط فمات عنها قبل الهجرة فتزوجها مالك بن سنان الخدري فولدت له أبا سعيد. 407 - أحمد في مسنده (5/ 428). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 362)، وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات. عرض الناس: معظمهم. أثبتته الجراحة: أي حبسته وسكنته.

رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني قال: ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لمن أهل الجنة". 408 - * روى أبو يعلى عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: ما رأينا مثل ما أتى فلان، أتاه رجل لقد فر الناس، وما فر، وما ترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه قال: "ومن هو؟ " فنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه، فلم يعرفه ثم وصف له بصفته فلم يعرفه، حتى طلع الرجل بعينه فقال، ذا يا رسول الله الذي أخبرناك عنه فقال: "هذا؟ " فقالوا: نعم فقال: "إنه من أهل النار" فاشتد ذلك على المسلمين، قالوا: أينا من أهل الجنة إذا كان فلان من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: يا قوم أنظروني، فو الذي نفسي بيده لا يموت إلا مثل الذي أصبح عليه ولأكونن صاحبه من بينكم، ثم راح على حدة في العدو، فجعل الرجل يشد معه إذا شد، ويرجع معه إذا رجع، فينظر ما يصير إليه أمره، حتى أصابه جرح أذلقه، فاستعجل الموت فوضع قائم سيفه بالأرض، ثم وضع ذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، حتى خرج من ظهره، وخرج الرجل يعدو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "وذاك ماذا؟ " فقال: يا رسول الله الرجل الذي ذكر لك، فقلت: إنه من أهل النار فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا من أهل الجنة إذا كان فلان من أهل النار، فقلت: يا قوم أنظروني، فوالذي نفسي بيده لا يموت إلا مثل الذي أصبح عليه، ولأكونن صاحبه من بينكم فجعلت أشد معه إذا شد وأرجع معه إذا رجع، أنظر إلى ما يصير أمره، حتى أصابه جرح أذلقه، فاستعجل الموت، فوضع قائم سيفه بالأرض، ووضع ذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه حتى خرج من بين ظهره، فهو ذاك يا رسول الله يضطرب بين أضغاثه فقال رسول الله

_ 408 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 116)، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. الحدة: النشاط. أذلقه: أضعفه. ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به، يريد هنا رأسه. الأضغاث: الأخلاط.

3 - بعد المعركة

صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة". قال الهيثمي: هو في الصحيح باختصار. * * * 3 - بعد المعركة قال ابن كثير: ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم على قبائلهم كما جرت عادته فذكر من المهاجرين أربعة: حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله ابن جحش وشماس بن عثمان رضي الله عنهم، ومن الأنصار إلى تمام خمسة وستين رجلاً واستدرك عليه هشام خمسة آخرين فصاروا سبعين على قول ابن هشام ثم سمى ابن إسحاق من قتل من المشركين وهم اثنان وعشرون رجلاً على قبائلهم أيضاً. قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي كما ذكره الشافعي وغيره وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً بين يديه. أمر الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح - فضرب عنقه. وقد حقق صاحب الرحيق المختوم (وهناك مبررات قوية له في ذلك) أن قتلى المشركين بلغوا سبعة وثلاثين. تعليق: وقتل رجل من اليهود اسلم وهو مخيريق. 409 - * روى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فسمع نساء بني عبد الأشهل يبكين على هلكاهن فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" فجئن نساء الأنصار، فبكين على حمزة عنده، ورقد فاستيقظ وهن يبكين فقال "يا ويلهن إنهن لها هنا حتى الآن، مروهن فليرجعن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم".

_ 409 - المستدرك (3/ 195)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

410 - * روى الطبراني عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى مقتل حمزة؟ " فقال رجل: أعزك الله أنا رأيت مقتله. فانطلق، فوقف على حمزة، فرآه قد شق بطنه، وقد مثل به، فقال: يا رسول الله قد مثل به، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه، ووقف بين ظهراني القتلى، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء، لفوهم بدمائهم، فإنه ليس مجروح يجرح في سبيل الله، إلا جاء جرحه يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآناً واجعلوه في اللحد". 411 - * روى الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد: أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة - فيهم حمزة - فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (1) فقال رجل لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن القوم إلا أربعة". قال محقق جامع الأصول: والأربعة الذين أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم هم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، أما عكرمة بن أبي جهل: فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه. فخرجت في طلبه إلى اليمن، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه.

_ 410 - المعجم الكبير 168/ 82). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 119)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. مقتله: المقتل: الموضع الذي أصيب فيه الإنسان. 411 - الترمذي (5/ 299) 48 - كتاب تفسير القرآن - 17 - باب: "ومن سورة النحل"، وقال: هذا حديث حسن غريب. مثلوا بهم: مثل به يمثل: إذا نكل به، ومثل بالقتيل: إذا جدعه، وشوه خلقته، والاسم: المثلة. لنربين أي: لنزيدن. (1) النحل: 126.

وأما عبد الله بن خطل: فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في دمه. وابن خطل: رجل من بني تيم بن غالب. وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، لأنه كان مسلماً - فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى من المسلمين يخدمه فنزلا منزلاً، وأمر ابن خطل المولى أن يذبح له تيساً فيصنع له طعاماً، فنام فاستيقظ ولم يصنع المولى له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركاً. وكانت له قينتان - فرتنى وسارة - وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه، فقتلت فرتنى، وهربت صاحبتها، وبقيت حتى أوطأها رجل فرسه فقتلها في زمن عمر. ويقال: إن فرتنى أسلمت، وإن سارة أمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما مقيس بن صبابة: فقتله نميلة بن عبد الله، رجل من قومه بني ليث، حي من بني كعب. 412 - * روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بحمزة يوم أحد، وقد جدع ومثل به، وقال: "لولا أن صفية تجد لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع" فكفنه في نمرة. 413 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: قتل حمزة يوم أحد وقتل معه رجل من الأنصار، فجاءته صفية بنت عبد المطلب بثوبين ليكفن فيهما حمزة، فلم يكن للأنصاري كفن، فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الثوبين ثم كفن كل واحد منهما في ثوب. 414 - * وروى الطبراني عن أبي أسيد الساعدي قال: أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر

_ 412 - المستدرك (3/ 196)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. جدع: الجدع: كالمنع: قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة. تجد: من الوجد، وهو الحزن. 413 - المعجم الكبير (11/ 406). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 120)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 414 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 119)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن.

حمزة بن عبد المطلب فجعلوا يجرون النمرة على وجهه فتكشف قدماه، ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر" قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فإذا أصحابه يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف فيصيبون منها مطعماً وملبساً ومركباً، أو قال: مراكب فيكتبون إلى أهليهم هلم إلينا فإنك بأرض مجاز جدوبة، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". 415 - * روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر، أو قال: ألقوا على رجله من الإذخر" ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها. أشار الحديث إلى عظم أجر من لم يحصل شيئاً من الدنيا مع عظيم جهاده وبمناسبة الحديث تحدث صاحب الفتح عن الصحابة فقال: منهم من مات قبل الفتوح كمصعب بن عمير ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج أولاً فأولاً بحيث بقي على تلك الحالة الأولى وهم قليل منهم أبو ذر، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسط في بعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري أو الخدم والملابس ونحو ذلك ولم يستكثر وهم كثير ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة وهم كثير أيضاً، منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار خباب، فالقسم الأول وما التحق به توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يحسب عليهم ما

_ = الأرض المجاز: هي التي ليست دار إقامة. الجدوبة: هي الجدبة. 415 - البخاري (7/ 354) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. ومسلم (2/ 649) بنحوه. 11 - كتاب الجنائز - 13 - باب في كفن الميت. أينعت: أينع الثمر: إذا نضج وأدرك. ... يهدبها: هدب الثمرة يهدبها: إذا اجتناها.

وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه "ما من غازية تغزو فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم" الحديث، ومن ثم آثر كثير من السلف قلة المال وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة وإما ليكون أقل لحسابهم عليه. 416 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه". وفي رواية (1): لما كان يوم أحد جيء مسجي، وقد مثل به. وفي أخرى (2): جيء بأبي يوم أحد مجدعا - فوضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ... بنحوه. 417 - * روى الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: "إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله كيف تجدك؟ " قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فقلت له: يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام وعليك السلام، قل له: أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شغر يطرف قال: وفاضت نفسه.

_ 416 - مسلم (4/ 1918) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 26 - باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله تعالى عنهما. والبخاري (3/ 114) بنحوه. 23 - كتاب الجنائز - 3 - باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه. (1) مسلم في نفس الموضع السابق (4/ 1917). (2) مسلم في نفس الموضع السابق (4/ 1918). المسجى: المغطي. ... مثل به: التمثيل بالقتيل: تشويه خلقته بجدع أو قطع عضو من أعضائه. مجدعاً: الجدع: قطع الأنف ونحوه من الأعضاء. 417 - المستدرك (3/ 201)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. الشغر: حرف كل شيء، وشغر الجفن: حرفه الذي ينبت عليه الهدب. وجمعه: أشغار.

418 - * روى الطبراني عن أنيسة بنت عدي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابني عبد الله بن سلمة وكان بدرياً قتل يوم أحد أحببت أن أنقله فآنس بقربه، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدلته بالمجذر بن زياد على ناضح له في عباءة، فمرت بهما فعجب لهما الناس فنظر إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سوى بينهما عملهما" وكان عبد الله رجلاً جسيماً ثقيلاً وكان المجذر قليل اللحم وهو الذي يقول: أنا الذي أصلي من بلى ... أطعن بالصعدة حتى تنثني ولا نرى مجذراً يفري فري 419 - * روى الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مر على مصعب مقتولاً على طريقه فقرأ: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (1) الآية. 420 - * روى أحمد عن عبيد الله بن رفاعة الزرقي قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي" فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: "اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لما أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ

_ 418 - المعجم الكبير (24/ 192) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 106)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. الناضح: جمل يتخذ للسقي غالباً. 419 - المستدرك (3/ 200)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه واقره الذهبي. (1) الأحزاب: 23. 420 - أحمد في مسنده (3/ 424) والبزار بنحوه: كشف الأستار (2/ 330)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 121). وقال: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. انكفأ: صرف وكب.

بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق". يبدو أن هذا قد تم بعد أن انتهت المعركة وانسحب المشركون وتفقد المسلمون القتلى والجرحى قبيل اتجاه المسلمين نحو المدينة. 421 - * روى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فجعل يصلي على عشرة عشرة وحمزة هو كما هو، يرفعون وهو كما هو موضوع. 422 - * روى البخاري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 423 - * روى أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له عن جابر بن عبد الله (رضي

_ 421 - ابن ماجه (1/ 485) 6 - كتاب الجنائز - 28 - باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم. قال المعلق على ابن ماجه: قال السندي: يظهر من الزوائد أن إسناده حسن. 422 - البخاري (7/ 348) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. ومسلم نحوه (4/ 1795) 43 - كتاب الفضائل - 9 - باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته. الفرط: في الأصل: السابق إلى الماء يرتاده لقومه. ويستعمل للسابق إلى الجنة، وهنا كذلك. 423 - أبو داود (3/ 202)، كتاب الجنائز، باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض وكراهة ذلك. والنسائي (4/ 79)، كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد. وابن ماجه (1/ 486) 6 - كتاب الجنائز. 28 - باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، وهو صحيح.

الله عنهما) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة. 424 - * روى ابن ماجه عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم. 425 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد: "أما والله لوددت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل" يعني سفح الجبل. 426 - * روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء) إلى قوله (فإنهم ظالمون) (1). وفي رواية الترمذي (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية" قال: فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) فتاب الله عليهم، فأسلموا، فحسن إسلامهم.

_ إلى مصارعهم: أي إلى المحل الذي قتلوا فيه، وهذه هي السنة وقد دفن بعضهم في المدينة قبل الأمر. 424 - ابن ماجه (1/ 485) 6 - كتاب الجنائز - 28 - باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم. ولا بأس بإسناده. الحديد: السلاح والدروع. 425 - أحمد في مسنده (3/ 375) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 123)، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. غودرت: أي تركت الدنيا معهم ويعني الحديث: أي يا ليتني استشهدت معهم. أصحاب نحص الجبل: قتلى أحد وغيرهم من الشهداء. 426 - البخاري (7/ 365) 64 - كتاب المغازي - 21 - باب (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون). (1) آل عمران: 128. (2) الترمذي (5/ 227) 48 - كتاب تفسير القرآن - 4 - باب "ومن سورة آل عمران" وقال: حديث حسن غريب.

4 - عبر أحد وبعض دروسها

وفي رواية النسائي (1): أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين رفع رأسه من صلاة الصبح من الركعة الآخرة - قال: "اللهم العن فلاناً وفلاناً، يدعو على أناس من المنافقين" فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون). وقد ذكر الترمذي (2) بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة وأن الله هداهم. 427 - * روى الحاكم عن عبد الله بن أبي فروة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبور الشهداء بأحد فقتال: "اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، وأنه من زارهم وسلم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه" (قال العطاف) وحدثتني خالتي أنها زارت قبور الشهداء، قالت: وليس معي إلا غلامان يحفظان علي الدابة، قالت: فسمعت رد السلام، قالوا: والله إنا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضاً، قالت: فاقشعررت، فقلت: يا غلام أدن بغلتي فركبت. * * * 4 - عبر أحد وبعض دروسها تكلم العلماء كثيراً في عبر أحد ودروسها، ونحن ههنا ننقل بعض كلام الغزالي المعاصر وابن القيم والسباعي رحمهما الله: 1 - قال الغزالي حفظه الله: موقعة "أحد" فياضة بالعظات الغوالي والدروس القيمة، وقد نزلت في أدوارها وحوادثها ونتائجها آيات طوال، وكان لها في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام أثر عميق

_ (1) النسائي (2/ 203)، كتاب الافتتاح (التطبيق)، باب لعن المنافقين في القنوت. (2) الترمذي (5/ 228) 48 - كتاب تفسير القرآن. 4 - باب "ومن سورة آل عمران". 427 - المستدرك (3/ 29)، كتاب المغازي، وقال: هذا إسناد مدني صحيح ولم يخرجاه قال الذهبي عنه: مرسل.

ظل يذكره إلى قبيل وفاته، كانت امتحاناً ثقيل الوطأة محض السرائر ومزق النقاب عن مخبوئها، فامتاز النفاق عن الإيمان، بل تميزت مراتب الإيمان نفسه فعرف الذين ركلوا الدنيا بنعالهم فلم يعرجوا على مطمع من مطامعها والذين مالوا إليها بعض الميل فنشأ عن أطماعهم التافهة ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروعة. بدأت المعركة بانسحاب ابن أبي، وهو عمل ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام وغدر به في أحرج الظروف، وتلك أبرز خسائس النفاق. والدعوات - إبان امتدادها وانتصارها - تغري الكثير بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل. وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها. ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجات عنيفة تعزل الخبث عنها، وقد اقتضت حكمة الله أن يقع هذا التمحيص في أحد. ولئن أفادت وقعة "بدر" في خذل الكافرين، إن وقعة "أحد" أفادت مثلها في فضح المنافقين، ورب ضارة نافعة، وربما صحت الأجسام بالعلل. ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة، درس عميق يتعلم منه المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد، أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة لا تنجح في صدام، بل لا تشرف نفسها في حرب أو سلام. والأمم كلها، مؤمنها وكافرها، تعرف هذه الحقيقة، ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة، وعندما تشتبك أمة في حرب، تجعل أحزابها جبهة واحدة وأهواءها رغبة واحدة، وتخمد كل تمرد أو شذوذ ينجم في صفوفها. ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور، بيَّن لهم أنهم هم مصدرها: فما أخلفهم موعداً، ولا ظلمهم حقاً: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن

الله على كل شيء قدير) (1). إن الإسلام يشترط لكمال العمل وقبوله الإيمان والاحتساب، والتجرد. اهـ. 2 - قال ابن القيم: (فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد) وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمهاتها وأصولها في سورة آل عمران حيث افتتح القصة بقوله (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) (2) إلى تمام ستين آية فمنها تعريفهم بسوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم) (3) فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان. ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة ومنها أن هذا من أعلام الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال ندال عليه ويدال علينا الأخرى، قال كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة. ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، ومنها استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا

_ (1) آل عمران: 165. (2) آل عمران: 121. (3) آل عمران: 152.

ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية. ومنها أنه سبحانه لو نصرهم دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكن والقهر لأعدائهم أبداً لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير. ومنها أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) (1) وقال: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) (2) فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره. ومنها أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها. ومنها أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغناء طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه ومنها أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ

_ (1) آل عمران: 123. (2) التوبة: 25.

من عباده شهداء يراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو. ومنها أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (1). ومنها أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت. 3 - علق الدكتور السباعي على غزوة أحد فقال: إن مخالفة أمر القائد الحازم البصير يؤدي إلى خسارة المعركة، كما حصل في وقعة أحد، فلو أن رماة النبل الذين أقامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف جيشه ثبتوا في مكانهم كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما استطاع المشركون أن يلتفوا من حولهم ويقلبوا هزيمتهم أول المعركة إلى النصر في آخرها، وكذلك يفعل العصيان في ضياع الفرص ونصر الأعداء، وقد أنذر الله المؤمنين بالعذاب إن خالفوا أمر رسولهم. فقال: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (2).

_ (1) آل عمران: 139 - 141. (2) النور: 63.

وفي ثبات نسيبة أم عمارة، ووقوفها وزوجها وأولادها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكشف المسلمون يوم أحد، دليل من الأدلة المتعددة على إسهام المرأة المسلمة بقسط كبير من الكفاح في سبيل دعوة الإسلام، وهو دليل على حاجتنا اليوم إلى أن تحمل المرأة المسلمة عبء الدعوة إلى الله من جديد، لتدعو إلى الله في أوساط الفتيات والزوجات والأمهات، ولتنشئ في أطفالها حب الله ورسوله، والاستمساك بالإسلام وتعاليمه، والعمل لخير المجتمع وصلاحه. وما دام ميدان الدعوة شاغراً من المرأة المسلمة الداعية، أو غير ممتلئ بالعدد الكافي منهن. فستظل الدعوة مقصرة في خطاها، وستظل حركة الإصلاح عرجاء حتى يسمع نصف الأمة وهن النساء - دعوة الخير، ويستيقظ في ضمائرهن وقلوبهن حب الخير والإقدام على الدين، والإسراع إلى الاستمساك بعروته الوثقى. وفي إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجراح يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم بالسجن والاعتقال، أو قضاء على حياتهم بالإعدام والاغتيال، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: (الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (1). وفيما فعله المشركون يوم أحد من التمثيل بقتلى المسلمين، وبخاصة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل واضح على خلو أعداء الإسلام من كل إنسانية وضمير، فالتمثيل بالقتيل لا يؤلم القتيل نفسه، إذ الشاة المذبوحة لا تتألم من السلخ، ولكنه دليل على الحقد الأسود الذي يملأ نفوسهم، فيتجلى في تلك الأعمال الوحشية التي يتألم منها كل ذي وجدان حي، وضمير إنساني. وفي تقدمه [عليه الصلاة والسلام] الصفوف في كل معركة وخوضه غمارها معهم إلا فيما يشير به أصحابه، دليل على أن مكان القيادة لا يحتله إلا الشجاع المتثبت، وأن الجبناء

_ (1) العنكبوت: 1 - 3.

5 - فقهيات

خائري القوى لا يصلحون لرئاسة الشعوب، ولا لقيادة الجيوش، ولا لزعامة حركات الإصلاح ودعوات الخير، فشجاعة القائد والداعية بفعله وعمله يفيد في جنوده وأنصاره في إثارة حماسهم واندفاعهم ما لا يفيده ألف خطاب حماسي يلقونه على الجماهير، ومن عادة الجنود والأنصار أن يستمدوا قوتهم من قوة قائدهم ورائدهم، فإذا جبن في مواقف اللقاء، وضعف في مواطن الشدة، أضر بالقضية التي يحمل لواءها ضرراً بالغاً. اهـ. * * * 5 - فقهيات ذكر ابن القيم عدداً من الأحكام والمسائل الفقهية التي تؤخذ من غزوة أحد، وها نحن ننقل بعضاً مما ذكره: منها أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. ومنها جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه وإن لم يرض المالك. ومنها أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر ومن معه. ومنها جواز الغزو بالنساء والاستعانة في الجهاد بهن ومنها جواز الانغماس في العدو كما انغمس أنس بن النضر وغيره. ومنها أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعداً وصلوا وراءه قعوداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته. ومنها جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه. ومنها أن المسلم إذا قتل نفسه فهو من أهل النار لقوله صلى الله عليه وسلم في قزمان الذي أبلى يوم

أحد بلاء شديداً فلما اشتد به الجراح نحر نفسه فقال صلى الله عليه وسلم هو من أهل النار. ومنها أن السنة في الشهيد أن لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن في غير ثيابه بل يدفن فيها بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها. ومنها أنه إذا كان جنباً عسل كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر ومنها أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مكان آخر. ومنها جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر ويقول: أيهم أكثر أخذاً في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال: "ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد" ثم حفر عنهما بعد زمن طويل ويد عبد الله بن عمرو بن حرام على جراحته كما وضعها حين جرح، فأميطت يده عن جراحته فانبعث الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم، وقال جابر: رأيت أبي في حفرته حين حفر عليه كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير قيل له: أفرأيت أكفانه فقال إنما دفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل (1) فوجدنا النمرة كما هي وعلى رجليه الحرمل على هيأته وبين ذلك ستة وأربعون سنة. وقد اختلف الفقهاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن شهداء أحد في ثيابهم هل هو على وجه الاستحباب والأولوية أو على وجه الوجوب على قولين الثاني أظهرهما، وهو المعروف عن أبي حنيفة رحمه الله والأول هو المعروف عن أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله، فإن قيل فقد روى يعقوب بن شيبة وغيره بإسناد جيد أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلاً آخر، قيل حمزة كان الكفار قد سلبوه ومثلوا به وبقروا عن بطنه واستخرجوا كبده فلذلك كفن في كفن آخر، وهذا القول في الضعف نظير قول من قال يغسل الشهيد وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع.

_ (1) (الحرمل): نبت له حب أسود كالخردل.

ومنها أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج يجوز له الخروج إليه وإن لم يجب عليه كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج. ومنها أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته من بيت المال لن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية وتصدق بها على المسلمين. اهـ كلام ابن القيم. * * *

فصل: في غزة حمراء الأسد

فصل: في غزة حمراء الأسد قال في الرحيق المختوم: وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلابد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة فعسكروا هناك. (وكان من آثار ذلك أن عدل المشركون عن قرارهم في مهاجمة المدينة، وانطلقوا نحو مكة أشبه بالهاربين). أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد - مقدمة يوم الأحد - الاثنين والثلاثاء والأربعاء. لا شك أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، إنما هي جزء من غزوة أحد وتتمة لها، وصفحة من صفحاتها. 428 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، شر ما صنعتم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد أو بئر بني عيينة فأنزل الله عز

_ 428 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 121)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز، وهو ثقة. الروحاء: تبعد عن المدينة جنوباً حوالي أربعين ميلاً. الكواعب: جمع كاعب وهي الفتاة التي نهد ثديها. أردفتم: أركبتم وراءكم على الإبل والمعنى أسرتم. ندب الناس فانتدبوا: دعاهم للخروج فخرجوا. حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة.

وجل (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) (1) وذلك أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: موعدك موسم بدر، حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة فأتوه فلم يجدوا به أحداً وتسوقوا فأنزل الله جل ذكره (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) (2). 429 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (3). والملاحظ أن الحرب النفسية كانت جزءاً من مخططات الرسول صلى الله عليه وسلم ومخططات المشركين، فليست إذن هي وليدة الفكر المعاصر بل نقول: إن كثيراً مما يظن أنه وليد الفكر المعاصر ليس هو كذلك فهناك منطق البداهة والغريزة ينطلق الناس عنه دائماً أبداً وإنما التعقيد والتنظيم يتضخمان على مدى العصور. والملاحظ أن الحرب النفسية لم تؤثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما أثرت بالمشركين فقط وذلك هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الحال، فإذا ما حدث غير ذلك - فالسبب - المرض عند المسلمين. بل نقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" (4) يدل على أن الغلبة في الحرب النفسية هي الأساس وهي النصر، ولكن ذلك لا يكون للمسلمين إلا إذا تأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طلب الموت وإحسان الحركة السياسية والعسكرية.

_ = القرح: عض السلاح وجروحه. وتسوقوا: اشتروا من السوق. (1) آل عمران: 172. (2) آل عمران: 174. 429 - البخاري (8/ 229) 65 - كتاب التفسير - 13 - باب (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) الآية. (3) آل عمران: 173. (4) البخاري (1/ 435).

430 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) (1). قالت لعروة: "يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير. وفي رواية (2) قال عروة: قالت لي عائشة: أبواك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح - زاد في رواية - تعني أبا بكر والزبير. قال ابن كثير: المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحداً وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقون، وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه فرجع إلى مكة. قال ابن إسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج موهباً للعدو وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم. أقول: يبدو أن السبعين الذين ذكرتهم عائشة رضي الله عنها كانوا طليعة القوم، وإلا فالنصوص واضحة بأنه حتى الجرحى لم يتخلفوا عن غزوة حمراء الأسد. * * *

_ 430 - البخاري (7/ 373) 64 - كتاب المغازي - 25 - باب (الذين استجابوا لله والرسول). البخاري مطولاً (1/ 435) 7 - كتاب التيمم - 1 - باب حدثنا عبد الله بن يوسف عن جابر بن عبد الله. (1) آل عمران: 172. (2) مسلم (4/ 1881) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 6 - باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما والزيادة في نفس الموضع.

هوامش على غزوة أحد

هوامش على غزوة أحد 1 - يبدو لي أن غزوة أحد جمعت هزيمتين للطرفين بآن واحد واستمرت الهزيمتان إلى آخر الغزوة، فلقد هرب المشركون ابتداء، ثم وجد خالد الفرصة فهاجم وهرب بعض المسلمين، واستمر الهروب عند الطرفين فنحن لا نعثر بعد هجمة خالد على تجمع كبير للمسلمين، كما أننا لا نعثر على تجمع كبير للمشركين وإنما بقيت مجموعات في أرض المعركة، حتى إن خالداً نفسه وهو الذي أوقع الهزيمة بالمسلمين لا نسمع له حساً بعد ذلك فكأنه تصرف هذا التصرف الخاطف وهو في موقع اليائس، والذين بقوا على أرض المعركة لم يكونوا متكافئين، ومع ذلك فالإدارة الحازمة الحكيمة الرائعة للمعركة من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقفت المشركين عند حدهم واكتفوا بما حققوا، ولولا أنهم شعروا بالعجز أو أن خسائرهم ستكون أكثر من أرباحهم ما انسحبوا وهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجموعة قليلة من أصحابه حوله أمامهم، ولذلك فالمعركة في مجموعها كانت متعادلة من ناحية النصر والهزيمة وإن كانت ضحايا المسلمين أكثر لأن عدد العدو أكبر. 2 - لا أعرف في تاريخ العالم ملحمة هي أعظم في البطولة والشجاعة والكفاءة العسكرية والقيادية كملحمة أحد، فأي قائد في تاريخ العالم يبقى في أفراد من جنده يتابع القتال ويدير المعركة حتى يكف العدو يده، ثم أي قائد يصاب بما أصيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم يومذاك ويبقى على غاية من اليقظة في إدارة الأمور فيرسل من يستكشف له وجهة قريش، ويعلن عن تصميمه على المعركة إلى النهاية، ثم يغسل آثار هزيمة المشركين بعملية خاطفة هي عملية حمراء الأسد التي أرجعت إلى الصف الإسلامي روحه المعنوية وأعادت هيبة المسلمين إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، وأعادت قريشاً إلى صوابها وقذفت في قلوب رجالها الرعب. 3 - لقد تلافت قريش الكثير من نواقصها يوم بدر، فلقد كان ينقصها يوم بدر وحدة القيادة وجودة التعبئة والتصميم الشامل على القتال والدوافع القوية نحو النصر، أما في أحد فلقد توحدوا تحت إمرة أبي سفيان وكانت تعبئتهم جيدة، وكان لهم ثأر يحركهم ومصالح

يفتقدونها، وكان تصميمهم على المعركة شاملاً وكفاءتهم القيادية والقتالية عالية جداً يظهر ذلك من تصرفات أبي سفيان وخالد وبني عبد الدار حملة اللواء، ومع ذلك هزموا ابتداء وتكافؤوا انتهاء، ولولا غلطة الرماة لم تكن إلا الهزيمة، هذا مع أن العدو أربعة أضعاف ونيف، والخيل كانت عندهم كلها على قول وكانت أربعة أضعاف على قول آخر وهكذا، ولقد عوض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النقص في العدد والعدة بحسن التخطيط والاستفادة من الأرض ولكنه في النهاية لا تعليل إلا الإيمان وإلا التأييد الرباني وفعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. 4 - بعد سنتين ونيف من قيام الدولة الإسلامية في المدينة تبين أن ثلث الجيش الإسلامي لا يزال خارجاً عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في الحقيقة أكبر سبر لوضع المجتمع المدني، إذ به عرف بالضبط المؤمن من غيره والمحصلة كانت ضخمة، فأن يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستخلص من زعامة عبد الله بن أبي الأكثرية المطلقة فذلك وحده كبير، والذي حدث بعد ذلك أكبر، فلقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافقين قلة، فأن يستخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرية المنافقين من النفاق، والبقية الباقية لا تجرؤ إلا أن تعلن طاعتها فذلك نجاح ما بعده نجاح، وبمثل ذلك يقتدي المقتدون. 5 - لقد كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد خمسة وخمسين عاماً ونيفاً، ولو أنك استعرضت الجهد الذي بذله عليه الصلاة والسلام الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء من شوال ذاك لرأيت عجباً فأي جسم هذا الجسم؟ وأي عقل هذا العقل؟ وأي روح هذه الروح؟ وأي نفس هذه النفس؟ إنه لا تعليل لاستمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على وتيرة واحدة دون عجز أو قصور أو تقصير أو وهن أو ضعف إلا أنها الرسالة عن الله رب العالمين وإلا صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على عينه. 6 - لقد نزلت في أحد حوالي ستين آية من سورة آل عمران من قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ...) إلى قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه .......) (1) ونزل فيها بعض آيات من سورة النساء منها

_ (1) آل عمران: 121 - 179.

تقدير الموقف في نهاية السنة الثالثة

قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) (1)، وإذ كان من البدهيات أن القرآن لا يتحدث إلا عن المعاني الخوالد التي تسع الزمان والمكان، ويحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان ندرك كم في غزوة أحد من دروس تحتاجها الأمة الإسلامية. 7 - من المعاني المهمة في الحياة ما ذكره بعضهم أن عليك أن تنظر إلى الأمور كلها بعين الشريعة وبعين الحقيقة وأن تتعرف على الحكمة الربانية في كل حركة وسكون في هذا الكون، ولقد رأينا حكماً كثيرة وراء ما حدث في أحد ولكن حكمة ينبغي أن نضعها في حسابنا وهي: أن لقريش فضلها وستحمل الإسلام فيما بعد، فأن تكون أخذت ثأرها أدعى لأن تتعقل. 8 - أهم دروس أحد أنها الدرس المقابل الذي لابد منه لبدر، فلو كانت بدر هي الدرس الوحيد للمسلمين لدفعهم ذلك إلى المغامرة دون حدود، وإلى اليأس إذا حدث فشل، ولكن أن تقع أحد بعد بدر فذلك هو الذي أوجد التوازن في التفكير الإسلامي العسكري على مدى العصور، فالله ينصر جنده ولكن لهذا النصر شروطاً منه المادي ومنها المعنوي، وربنا يفعل ما يشاء. بعبرة بدر وبعبرة أحد انطلق المسلمون ولا زالوا ينطلقون، وبروحانية بدر وبروحانية أحد يجب أن يتحرك المسلمون. * * * تقدير الموقف في نهاية السنة الثالثة في الأصل كانت عواطف العرب مع قريش ومع مكة، لأسباب متعددة: لأن ذلك يمثل الاستمرار، وللاستمرار قوته، ولأن دين قريش هو دين العرب، وأكثر العرب لم يستوعبوا الرسالة الجديدة، وكان من عوامل التلاحم مع قريش أسواق العرب وحجها، وقد تجمدت المواقف بالحركة النبوية العسكرية والسياسية حتى غزوة أحد،

_ (1) النساء: 88.

وغلب على أكثر العرب التربص حتى يروا إلى أي شيء تصير الأمور، هذا مع استقرار الوضع الداخلي في المجتمع الإسلامي فهيبة الدولة أخذت مداها، ولكن حادثة أحد مع كل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلافي آثارها قد أعادت بعض الأمور إلى أصولها، وأوجدت موازنات خطرة، فقد شعر العرب أن قريشاً لا زال بيدها زمام الأمور وأنها قادرة على التعبئة والحشد المتفوقين، وأنها قادرة على تحقيق النصر وكل ذلك ترك آثاره وبصماته على التفكير داخل المجتمع المكي وداخل المجتمع المدني وفي المحيط العربي كله، فما انتقاض بني النضير في السنة الرابعة ومأساة بئر معونة وكارثة الرجيع إلا أثراً عن أحد بل إن غزوة الأحزاب كانت أثراً عن أحد، ولذلك فلقد كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنتين الرابعة والخامسة أن يعفي على آثار أحد وأن يعيد الانطلاقة إلى ما كانت عليه وسنرى ما فعله عليه الصلاة والسلام من أجل هذا وغيره. * * *

السنة الرابعة للهجرة

السنة الرابعة للهجرة

السنة الرابعة في سطور

السنة الرابعة في سطور * في بداية المحرم من السنة الرابعة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة على رأس سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً إلى بني أسد على إثر ما بلغه أنهم يعدون العدة لحربه، فباغتهم أبو سلمة وهزمهم وعاد غانماً، لكنه نفر عليه جرح - أي انفجر - كان قد اصابه يوم أحد فتوفي عليه رضوان الله. * وفي اليوم الخامس من المحرم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس في مهمة هي أن يقتل له خالد بن سفيان الهذلي الذي كان يحشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله عبد الله وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استغرقت هذه المهمة ثمانية عشر يوماً، وبهذه العملية أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطراً محتملاً. * وفي شهر صفر من السنة الرابعة حدثت فاجعة الرجيع التي غدر فيها قوم من عضل وقارة وترتب عليها مقتل عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم خبيب وزيد بن الدثنة ومرثد بن أبي مرثد الغنوي. * وفي شهر صفر كذلك وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى وهي فاجعة بئر معونة التي قتل فيها حوالي سبعين من قراء الصحابة. * وفي ربيع الأول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير على إثر محاولتهم قتله عليه الصلاة والسلام فاستسلموا بعد حصار، وجلوا عن أرض الحجاز إلى الشام بعد أن تم الصلح على أن يخرجوا من أراضيهم بنفوسهم وذراريهم وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح. * وفي شهر ربيع الثاني أو جمادى الأولى سنة 4 هـ غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا في حملة تأديبية ضد الذين أساؤوا لأصحابه وغدروا بهم، ففرض في هذه الغزوة هيبة المسلمين ومكن لها، ومن قبل ذلك قام بحملة استهدف بها بني لحيان الذين قتلوا وأسروا أصحابه في حادثة الرجيع. * وفي شعبان من السنة الرابعة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قوامه ألف وخمسمائة لملاقاة قريش في الموعد المضروب يوم أحد، وإلى المكان المتفق عليه وهو بدر ولكن

المشركين جبنوا عن اللقاء ورجعوا بعد أن خرجوا فكان في ذلك نصر أي نصر، وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد وبدر الثانية وبدر الآخرة وبدر الصغرى. * ومن أحداث هذه السنة زواجه عليه الصلاة والسلام من زينب بنت خزيمة. وزواجه من أم سلمة بنت أبي أمية. قال ابن كثير في تاريخه: قال ابن جرير: وفي جمادى الأولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه - يعني من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال الواقدي: وفي هذه السنة - يعني سنة أربع - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود. قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال: تعلمته في خمسة عشر يوماً والله أعلم. * كانت مأساة الرجيع، وفاجعة بئر معونة، وتحرك بني النضير، ومن قبل تحرك بني أسد وبني هذيل، كل ذلك من آثار ما حدث يوم أحد، ولقد بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مبادرات كثيرة ليضع الأمور في نصابها، فقضى على تحرك بني أسد قبل أن يبدأ، وقضى على تجمع هذيل فقضى على التحرك من أساسه، وأجلى بني النضير، وهاجم الذين تسببوا بحادثة بئر معونة، وخرج لبدر الآخرة بكامل تعبئته وبكل ما استطاع حشده فأعاد الهيبة الداخلية والخارجية إلى نصابها، ولكن المشركين لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد وسيقولونها في السنة الخامسة كما سنرى. والجديد في هذه السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول أن ينشر الدعوة الإسلامية من خلال التبليغ دون قتال، فسبب ذلك كارثتي الرجيع وبئر معونة مما يدل على أن العرب ما كانوا ليعطوا حرية للدعوة الإسلامية إلا حيث يسيطر السلاح، ومع أن هاتين المبادرتين كلفتا كثيراً في هذه السنة، فلقد فتحتا للدعوة الإسلامية باباً عريضاً، وسجلتا سابقة تستفيد منها الدعوة الإسلامية على مدى العصور، كما سنرى ذلك أثناء استعراضنا لمجريات الأمور. ونحن سنعقد سبعة فصول لأهم أحداث هذا العام:

فصل: في سرية أبي سلمة لبني أسد. فصل: في سرية عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الهذلي. فصل: في فاجعة الرجيع. فصل: في فاجعة بئر معونة. فصل: في إجلاء بني النضير. فصل: في غزوتي الرد على حادثتي الرجيع وبئر معونة. فصل: في بدر الموعد. * * *

وقبل أن نبدأ فصول هذا العام نعرض عليك خريطة توزع القبائل العربية في جزيرة العرب ننقلها عن الرحيق المختوم لتكون على بصيرة وأنت تقرأ تحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم. [خريطة قبائل العرب في العهد النبوي]

فصل: في سرية أبي سلمة لبني أسد

فصل: في سرية أبي سلمة لبني أسد قال ابن القيم في زاد المعاد: وكانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال - على رأي ابن القيم - سنة ثلاث كما تقدم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فلما استهل هلال المحرم بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث أبا سلمة وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلاً من الأنصار والمهاجرين فأصابوا إبلاً وشاءً ولم يلقوا كيداً فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة. قال الشيخ الغزالي حفظه الله: "ولم يلق أبو سلمة عناء في تشتيت أعدائه واستياق نعمهم أمامه، حتى عاد إلى المدينة مظفراً، وأبو سلمة يعد من خيرة القادة الذين صحبوا رسول الله وسبقوا إلى الإيمان والجهاد معه، وقد عاد من هذه الغزاة مجهوداً، إذ نفر جرحه الذي أصابه في "أحد" فلم يلبث حتى مات. وقد ذكر هذه السرية ابن كثير في البداية والنهاية عن الواقدي الذي يعتبره ابن كثير من أهل التحقيق في باب المغازي والسير على كلام كثير للمحدثين فيه. * * *

فصل: في سرية عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الهذلي

فصل: في سرية عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الهذلي قال ابن القيم في زاد المعاد: ولما كان خامس المحرم بلغه أن خالد بن سفيان الهذلي قد جمع له الجموع فبعث إليه عبد الله بن أنيس فقتله: قال عبد المؤمن بن خلف وجاءه برأسه فوضعه بين يديه، فأعطاه عصاً فقال: "هذه آية بيني وبينك يوم القيامة" فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه، وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. - وهذه رواية بطل القصة: 431 - * روى الطبراني عن محمد بن كعب القرظي قال: قال عبد الله بن أنيس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لي من خالد بن نبيح رجل من هذيل" وهو يومئذ بعرنة، قال عبد الله: قلت: أنا يا رسول الله انعته لي؟ قال: "لو رأيته هبته" قلت: والذي أكرمك ما هبت شيئاً قط، فخرجت حتى لقيته بحيال عرنة قبل أن تغيب الشمس، فلقيته فرعبت منه، فعرفت حين رعبت منه الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من الرجل؟ قلت باغي حاجة فهل من مبيت؟ قال: نعم فالحق بي. قال: فخرجت في أثره فصليت العصر ركعتين حفيفتين، ثم خرجت فأشفقت أن يراني، ثم لحقته فضربته بالسيف، ثم غشيت الجبل، وكمنت حتى إذا ذهب الناس خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبرته الخبر. قال محمد بن كعب فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مخصرة، فقال: "تخصر بهذه حتى تلقاني بها يوم القيامة وأقل الناس يومئذ المتخصرون" قال محمد بن كعب: فلما توفي عبد الله بن أنيس أمر بها فوضعت على بطنه وكفن عليها ودفنت معه. فوائد: 1 - لقد ثأرت هذيل لمقتل صاحبها فأعانت على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة

_ 431 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 204)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. الخصرة: ما يتوكأ عليها كالعصا ونحوها. تخصر بالخصرة: أخذها بيده وأمسكها.

الرجيع، وكل عملية عسكرية لها عقابيلها والعبرة بالمحصلة النهائية لأي عملية على المستوى المرحلي أو المستقبلي، لقد كان إجهاض التحرك العسكري الذي كان يقوده خالد بن سفيان الهذلي أهم بكثير من أية عملية ثأرية. 2 - في كثير من الأحيان يكون قتل إنسان وأداً لفتنة أو إنهاء لحرب أو قضاء على فكرة، وكثيراً ما تحيا أمم وشعوب وقبائل برجال، وأنت في صراعك مع أعدائك قد تخفف الكثير عن أمتك ودعوتك إذا استطعت أن تقضي على رجل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن لا يجارى مع ملاحظة أن ضرباته كلها كانت عادلة ومع محاربين فهو عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن غدر بمعاهد، وأبعد الناس عن اعتداء على موطن غير مدين شرعاً، فها هو عليه الصلاة والسلام لم يمس المنافقين على معرفته بهم وعلى شدة ما فعلوه به، كما أنه لم ينكث عهداً مع أحد، ولكن المحاربين كان له معهم شأن آخر وخاصة أولئكم الذين بقتلهم يجهض تحرك عسكري، كما فعل بكعب بن الأشرف وكما فعل بخالد بن سفيان وكما سيفعل بآخرين ممن سيأتي الحديث عنهم. 3 - ولم يكن خصومه عليه الصلاة والسلام غافلين كذلك عن محاولتهم قتله ولكن الله سلم، ففي حوادث سنة أربع من الهجرة ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أكثر من محاولة اغتيال، فقد ذكر محاولة دفع إليها أبو سفيان، وكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر اكتشافها عمرو بن أمية الضمري وآخر باغتيال أبي سفيان ولم ينجحا، كما ذكر ابن كثير محاولة غورث ابن الحارث اغتياله أثناء قفوله من غزوة نجد التي حاول فيها تأديب من قتلوا أصحابه يوم الرجيع. 4 - وبهذه المناسبة أقول: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً أن يسلط عليه أحد فيقتله. وهذا مقتضى قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) (1) ولقد رأينا أنه قبل نزول هذه الآية كان يجب أن يحرس، ولذلك فلا عليه - عليه الصلاة والسلام - ألا يحتاط كثيراً في أمر نفسه، ولكن هذا لا يعني أن تتساهل قيادات المسلمين في أمنها فذلك من التفريط الخطير، كيف والله عز وجل يقول: (وخذوا حذركم) (2).

_ (1) المائدة: 67. (2) النساء: 102.

فصل: في بعث الرجيع

فصل: في بعث الرجيع قال المباركفوري: وفي شهر صفر من السنة نفسها - أي الرابعة من الهجرة - قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة - وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي - في قول ابن إسحاق وعند البخاري أنه عاصم ابن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب. وهذه بعض روايات الحادثة: 432 - * روى الطبراني عن عاصم بن عمر بن قتادة قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد نفر من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك، يفقهونا في الدين، ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه ستة مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، قال فذكر القصة، قال وأما مرثد بن أبي مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل عهداً من مشرك، ولا عقداً أبدا، فقاتلوهم، حتى قتلوهم. أقول: الذي يظهر من هذه الرواية والتي بعدها أن السرية كانت مكلفة بمهمتين: الأولى: تعليمية دعوية، والثانية: استطلاعية عسكرية.

_ 432 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 199)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. والرجيع: بفتح الراء وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل كانت الموقعة بقرب منه فسميت به. أما عضل: فبفتح المهملة ثم المعجمة بعدها لام: بطن من بني الهول بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش بن محكم، وأما القارة فبالقاف وتخفيف الراء بطن من الهول أيضاً ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي. وقال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها.

433 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت - وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب - فانطلقوا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه، لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم، فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق: إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم، حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم، حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما وهذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد، حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث ابن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث، ليستحد بها، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ثم قال: اللهم أحصهم عدداً.

_ 433 - البخاري (7/ 378) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان وبئر معونة. فدفد: الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. عالجوه: أي: مارسوه، وأراد به: أنهم خدعوه ليتبعهم، فأبى. ليستحد: الاستحداد: حلق العانة. قطف: القطف: العنقود، وهو اسم لكل ما يقطف.

ثم قال: ما إن أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله، وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث، فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم، ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه - وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر - فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وفي رواية (1) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري - جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة، بين عسفان ومكة ... وذكر الحديث. وفي رواية (2): بقريب من مائتي رجل، كلهم رام وفيه: لجؤوا إلى موضع، وفيه فقال عاصم: أيها القوم، أما أنا، وفيه: منهم خبيب وزيد بن الدثنة، وفيه حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن عبد مناف خبيباً، وفيه فلما أخرجوه من الحرم ليقتلوه في الحل، وفيه قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. وقال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله، وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه أبو سروعة، عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل

_ (1) البخاري (7/ 308) 64 - كتاب المغازي 10 - باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. بدداً: البدد: المتفرقون أشتاتاً. شلو: الشلو: العضو من أعضاء الإنسان. ممزع: الممزع: المفرق.

صبراً: الصلاة، وأخبر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت، حين حدثوا: أنه قتل - أن يؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلاً من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً. وأخرجه أبو داود (1) إلى قوله: يستحد بها، ثم قال: فلما خرجوا به ليقتلوه، قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، ثم قال: والله، لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت. وأخرجه في موضع آخر قال: ابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً - وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر - فلبث خبيب عندهم أسيراً، حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها، فأعارته ... وذكر الحديث ... إلى قوله: ما كنت لأفعل ذلك، قال أبو داود: وروى الزهري هذه القصة، قال: أخبرني عبيد الله بن عياض: أن بنت الحارث أخبرته: أنهم حين اجتمعوا - يعني لقتله - استعار منها موسى ليستحد بها، فأعارته. وفي رواية رزين زيادة: قال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فجعل يرميهم ويقول: ما علتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيها وتر عنابل قال في الفتح: وذكر ابن إسحاق بإسناد صحيح عن عقبة بن الحارث قال: ما أنا قتلت خبيباً لأني

_ = صبراً: قتل الصبر: هو أن يقتل بأي أنواع القتل كان، من غير أن يكون في حرب ولا قتال. الظلة: الشيء الذي يظلل من فوق. الدبر: جماعة النحل. (1) أبو داود (3/ 51)، كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأسر. نابل: النابل: الذي معه النبل. عنابل: العنابل: الغليظ.

كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله. قال في الفتح: قوله: (فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر) في رواية أبي معشر في مغازيه فنزلوا بالرجيع سحراً فأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل. أقول: رواية أبي معشر تدل على أنهم كانوا يحتاطون ألا يتركوا أثراً بما في ذلك نوى تمرهم الذي يأكلونه، وهذا يفيد أنهم كانوا في أعلى درجات الحس الأمني، وعلى كل الأحوال فإن أدب المسلم أن يرهف حسه الأمني دائماً حتى تكون تصرفاته على غاية من الحكمة فلا يكون إهماله سبباً في تدمير نفسه أو تدمير جماعة من المسلمين فضلاً عن أن يكون إهماله سبباً في تدمير جماعة المسلمين. وفي قوله في الرواية (وما كان إلا رزق رزقه الله) عن قطف العنب. قال في الفتح: والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقاً، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال، ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال وتكثير الطعام والماء والمكاشفة بما يغيب عن العين والأخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جداً حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيري، وتعين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقول، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك فإن كان متمسكاً بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا وبالله التوفيق.

فوائد

وقال في الفتح بمناسبة حماية الله عاصماً بالدبر. قوله (فلم يقدروا منه على شيء) في رواية شعبة فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئاً، وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم، فحالت بينهم وبين أن يقطعوا" وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة قال: كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً، فكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. فوائد: قال ابن حجر معلقاً على الحديث السابق: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أنه يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك. وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله، وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل، وفيه إنشاء الشعر وإنشاده عند القتل ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه، وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه. وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حياً وميتاً، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل. وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. وفيه ما كان عليه مشركو قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم. وقال الدكتور البوطي معلقاً على رفض عاصم الأسر واستئسار خبيب: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكن من نفسه ولو قتل، ترفعاً عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم. فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقباً الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد.

ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم، لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه. أقول: إن من حق المسلم ألا يستأسر للسلطة الكافرة سواء كانت كافرة كفراً أصلياً أو عارضاً إذا كان الطلب بظلم، بل إن من حق المسلم ألا يستأسر وأن يقاتل إذا كان الطلب من ظالم بظلم، وهذا الذي فعله الحسين رضي الله عنه وهذا يفتح أمام الحركات الإسلامية باباً واسعاً في التعامل مع الأحداث فمن حق أبناء هذه الحركة أن يستأسروا إذا طلبوا مظلومين ومن حقهم أن يقاتلوا حتى الموت ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية. 434 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل، فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما". وفي رواية (2) "ليخرج من كل رجلين رجل" ثم قال للقاعد: "أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير، كان له مثل نصف أجر الخارج". أقول: هذا مظهر من مظاهر الترتيب والتدبير في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة وبمثل هذا أدار الأمور عن أقرب طريق، وههنا نجد صورتين، صورة التخيير في الجهاد عندما يكون في الأمر سعة، وصورة كفالة الخارج في أهله من شخص بعينه، ومن هنا تعرف أن من خرج مجاهداً لا ينبغي أن يضيع ولا أن يضيع أهله. * * *

_ 434 - مسلم (3/ 1507) 33 - كتاب الإمارة - 38 - باب إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. وأبو داود (3/ 12)، كتاب الجهاد، باب ما يجزئ من الغزو.

فصل: في مأساة بئر معونة

فصل: في مأساة بئر معونة قال المباركفوري: وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرجيع صفر 4 هـ، وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة. وملخصها: أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك؛ لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلاً - في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح - وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، وكانوا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل ساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم - فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد من بني النجار، فإنه ارتث (1) من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.

_ (1) (ارتث) فلان: ضرب في الحرب فأثخن وحمل به رمق.

ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين. تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة. ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود وهذا الذي يصار سبباً لغزو بني النضير كما سيذكر. وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألماً شديداً وتغلب عليه الحزن والقلق حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه. قال في الفتح بمناسبة الكلام عن بئر معونة: (ورعل وذكوان) أي وغزوة رعل وذكوان، فأما رعل فبكسر الراء وسكون المهملة بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة بن سليم، وأما ذكوان فبطن من بني سليم أيضاً ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم فنسبت الغزوة غليهما. 435 - * روى البخاري عن أنس بن مالك: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً أنه كان بعث ناساً يقال لهم القراء - وهم سبعون رجلاً - إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر، هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً يدعو عليهم". قال في الفتح: قوله (إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم،

_ 435 - البخاري (2/ 490) 14 - كتاب الوتر - 7 - باب القنوت قبل الركوع وبعده.

فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد) وهكذا ساقه هنا، وقوله قبلهم بكسر القاف وفتح الموحدة واللام أي من جهتهم، وأورده في آخر كتاب الوتر عن مسدد عن عبد الواحد بلفظ "إلى قوم من المشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" وليس المراد من ذلك أيضاً بواضح، وقد ساقه الإسماعيلي مبيناً فأورده يوسف القاضي عن مسدد شيخ البخاري فيه ولفظه "إلى قوم من المشركين فقتلهم قوم مشركون دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فظهر أن الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد غير الذين قتلوا المسلمين، وقد بين ابن إسحاق في المغازي عن مشايخه وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أصحاب العهد بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة وأن الطائفة الأخرى من بني سليم، وأن عامر بن الطفيل وهو ابن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بني عامر إلى قتالهم، فامتنعوا وقالوا: لا نخفر ذمة أبي براء، فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم فأطاعوه وقتلوهم، وذكر لحسان شعراً يعيب فيه أبا براء ويحرضه على قتال عامر بن الطفيل فيما صنع فيه، فعمد ربيعة بن أبي براء إلى عامر بن الطفيل فطعنه فأرداه، فقال له عامر بن الطفيل: إن عشت نظرت في أمري، وإن مت فدمي لعمي، قالوا؛ ومات أبو براء عقب ذلك أسفاً على ما صنع به عامر بن الطفيل، وعاش عامر بن الطفيل بعد ذلك ومات بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. أقول: نلاحظ أن التعاقدات والتحالفات والمعاهدات كانت جزءاً لا يتجزأ من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته الدائبة، وقد حققت له مصالح وكانت أحياناً سبباً في مآس، والمسلم مكلف أن يجتهد في الموقع الذي هو فيه وليس عليه أن يعرف الغيب. والحذر والاحتياط مطلوبان. 436 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وغيره أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لا أقبل هدية مشرك" فقال عامر بن

_ 436 - المعجم الكبير (16/ 71) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 127)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

مالك: ابعث يا رسول الله من رسلك من شئت، فأنا لهم جار، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً فيهم المنذر بن عمرو الساعدي وهو الذي يقال له: أعتق ليموت عيناً في أهل نجد فسمع بهم عامر بن الطفيل فاستنفر لهم من بني سليم فنفروا معه فقتلهم ببئر معونة غير عمرو بن أمية الضمري أخذه عامر بن الطفيل فأرسله، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم، وكان فيهم عامر بن فهيرة، فزعم لي عروة أنه قتل يومئذ فلم يوجد جسده حين دفنوه يقول عروة: كانوا يرون الملائكة هي دفنته فقال حسان يحرض بعامر بن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطا كعمد فطعن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن مالك عامر بن الطفيل في فخذه طعنة فقده. 437 - * روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة، وولى تلك الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فكان من حديثهم، كما حدثني إسحاق عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم، ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا

_ = جار: أي: حام. رهطاً: الرهط: قوم الرجل وقبيلته. والرهط: ثلاثة أو سبعة أو عشرة أو ما دون العشرة. عينا: العين: الجاسوس. ذوائب: (الذؤابة) من كل شيء أعلاه. ليخفره: خفره: نقص عهده، وغدره. يرعكم: يعز عليكم. قد: أي شقه طولاً، قد اللحم: قطعه طولاً. 437 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 128)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، والحديث مرسل.

لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخشى عليهم أهل نجد" فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم، فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن الخزرج المعتق ليموت في أربعين رجلاً من المسلمين من خيارهم، منهم الحرث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة - مولى أبي بكر - ورجالا مسمين من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي من بني سليم أقرب، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه، لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار ابن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق، وكان في السرح عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار أخو بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب إخوانهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، فقاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة، زعم أنها كانت على أمه، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أتاه رجلان

_ = ارتث: الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح. لأرغب: رغب عن الشيء: تركه متعمداً، وزهد فيه. ما كنت لتخبرني عنه الرجال: لا أرضى العيش بعده. جز: جز الشعر: قطعه. ناصيته: الناصية: شعر مقدم الرأس إذا طال.

من بني عامر نزلا في ظل هو فيه، وكان للعامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا، ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى ناما فغدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأره من بني عامر، لما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً" فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصيب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره فقال حسان بن ثابت، يحرض ابن أبي براء على عامر بن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... بما أحدثت في الحدثان بعدي أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد فحمل ربيعة بن عامر على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه، فأشواه ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، فإن أمت فدمي لعمي، لا يتبع به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إلي. 438 - * روى البخاري عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريباً، فتقدم، فآمنوه، فبينما يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أومؤوا إلى رجل منهم، فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا

_ = لأدينهما: سأدفع ديتهما. الحدثان: حدثان الدهر: نوائبه وحوادثه. أشوى: يقال: رمى فأشوى، إذا لم يصب المقتل. 438 - البخاري (6/ 18) 56 - كتاب الجهاد - 9 - باب من ينكب في سبيل الله. آمنوني: أعطوني أمناً. أومؤوا: أشاروا. فزت: المراد بالفوز حصوله على الشهادة.

على بقية أصحابه، فقتلوهم، إلا رجلاً أعرج صعد الجبل. قال همام: وأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم؛ فكنا نقرأ: "أن بلغوا قمنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا" ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحاً على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله. وفي رواية (1) "أن رعلاً وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم: القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم، وغدروهم بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآناً، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا ... وذكره". وللبخاري ومسلم في رواية (2) قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة: ثلاثين صباحاً، يدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية، عصت الله ورسوله. قال أنس: أنزل الله عز وجل لنبيه في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه، حتى نسخ بعد: أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه. وللبخاري (3) عن أنس قال: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة. ولمسلم (4) قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في

_ (1) البخاري (7/ 385) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه. (2) البخاري (7/ 389) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان. ومسلم واللفظ له (1/ 468) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 54 - باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (3) البخاري في الموضع السابق (7/ 386). طعن: طعن الرجل: إذا رمي بالطاعون. (4) مسلم (3/ 1511) 33 - كتاب الإمارة - 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد.

المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم أبلغ عنا نبينا: أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً - خال أنس - من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا: أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا". وفي رواية للبخاري (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله - أخاً لأم سليم - في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غدة كغدة البكر، في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم - وهو رجل أعرج - ورجل من بني فلان، قال: كونا قريباً حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم قريباً، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث مثل الأولى". أقول: وما أشار إليه أنس من آيات تتلى ثم نسخت نموذج على منسوخ التلاوة من القرآن، وهو أحد أنواع النسخ الحاصل. ولابن حجر بعض تفصيلات وتصويبات في الفتح بمناسبة الحديث قال: قوله (في بيت امرأة من آل بني فلان) بينها الطبراني من حديث سهل بن سعد فقال "امرأة من آل سلول" وبين فيه قدوم عامر بن الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال فيه "لأغزونك بألف أشقر (2) وألف شقراء" (3) وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أصحاب بئر معونة بعد

_ (1) البخاري (7/ 386) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان. أهل السهل: أراد بأهل السهل: أهل البادية، فإنه جعل في مقابلها أهل المدر، وأهل المدر: هم أهل المدن والقرى. غدة: صار ذاغدة فهو مغدود جمع غداد، والغدد: طاعون الإبل. (2) أشقر: المراد الحصان. (3) شقراء: المراد بها الفرس.

أن رجع عامر، وأنه غدر بهم وأخفر ذمة عمه أبي براء وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه فقال: "اللهم اكفني عامراً" قال فجاء إلى بيت امرأة من بني سلول. قلت: سلول امرأة، وهي بنت ذهل بن شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة أخو عامر بن صعصعة فنسب بنوه إليها قوله (فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج) كذا هنا على أنها صفة حرام، وليس كذلك بل الأعرج غيره، وقد وقع في رواية عثمان بن سعيد فانطلق حرام ورجلان معه رجل أعرج ورجل من بني فلان، فالذي يظهر أن الواو في قوله "وهو" قدمت سهواً من الكاتب، والصواب تأخيرها، وصواب الكلام: فانطلق حرام هو ورجل أعرج، فأما الأعرج فاسمه كعب بن زيد، وهو من بني دينار بن النجار، وأما الآخر فاسمه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح الخزرجي سماها ابن هشام في زيادات السيرة. ووقع في بعض النسخ "وهو رجل أعرج" وهو الصواب اهـ ابن حجر. قال في الفتح بمناسبة ذكر بني لحيان في بعض الروايات: لحيان بكسر اللام وفتحها وهذا يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة وليس كذلك: وإنما أصاب هؤلاء القراء رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع، وإنما أتى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم كلهم في وقت واحد فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحداً والله أعلم، قاله القسطلاني في المواهب. اهـ. وقال في الفتح: قوله: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة) فسر قتادة الحاجة بقوله "إن رعلا وغيرهم استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار" وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سعيد عن قتادة بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على قومهم، وفي هذا رد على من قال رواية قتادة وهم، وأنهم لم يستمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الذي استمدهم عامر بن الطفيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ولا مانع أن يستمدوا رسول الله صلى الله عليهم وسلم في الظاهر ويكون قصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن يكون الذين استمدوا غير الذين استمدهم عامر بن الطفيل وإن كان الكل من بني سليم، وفي رواية عاصم آخر الباب عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أقواماً إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم

لقتال عدو، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام. وقد أوضح ذلك ابن إسحاق قال: حدثني أبي عن المغيرة بن عبد الرحمن وغيره قال: قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك وأنا جار لهم. اهـ. أقول: وقد ابتلى الله عز وجل عامر بن الطفيل بما يشبه السرطان أو الجدري ومات في بيت امرأة من بني سلول وهي قبيلة مزدراة فكان ذلك أبلغ في الإهانة، وقد كان تهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزوه بألف أشقر وألف شقراء ثم تسبب بقتل القراء فعاقبه الله عز وجل. ومن أهم ما نأخذه من حادثة بئر معونة أنه إذا فتح لنا باب الدعوة إلى الله سلماً فعلينا أن نلجه، وأن نرسل الوفود والبعوث لذلك، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في العمل الإسلامي على الأرض الإسلامية أو خارجها، فحيثما أعطينا حرية الدعوة إلى الله فعلينا أن ندعو مستفيدين من الأعراف والقوانين، ويسعنا في هذه الحالة أن ننصح وأن نعمل من خلال القانون للتغيير الإسلامي الشامل، ولكن الاكتفاء بهذا القدر من العمل منوط بالفتوى من أهلها. * * *

فصل: في إجلاء بني النضير

فصل: في إجلاء بني النضير هناك خلاف حول غزوة بني النضير متى كانت، وعامة كتاب السير أنها في السنة الرابعة وهذه الرواية تدل على أنها كانت في السنة الثالثة، ولا يترتب على الخلاف عمل، وقد جرينا على رأي الجمهور في هذه الغزوة. قال ابن القيم في زاد المعاد عن ما جرى في أخريات بئر معونة ثم عن غزوة النضير: وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه، ورجع عمرو بن أمية فلما كانت بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما، فكان هذا سبب غزوة بني النضير، فإنه خرج غليهم ليعينوه في ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف، فقالوا: نعم وجلس هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا وقالوا: من رجل يلقي على محمد هذه فيقتله؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جحاش لعنه الله، ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله يعلمه بما هموا به فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقته راجعاً إلى المدينة، ثم تجهز وخرج بنفسه لحربهم، فحاصرهم ست ليال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في ربيع الأول، قال ابن حزم: وحينئذ حرمت الخمر، فنزلوا على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح ويرحلون من ديارهم فترحل أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصة، لأنها كانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما. وفي هذه الغزوة نزلت سورة الحشر هذا الذي ذكرناه هو الصحيح عند أهل المغازي والسير، وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر

بستة أشهر، وهذا وهم منه أو غلط عليه بل الذي لا شك فيه أنها كانت بعد احد والتي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بني قينقاع وقريظة بعد الخندق وخيبر بعد الحديبية. فكان له مع اليهود أربع غزوات: أولها غزوة بني قينقاع بعد بدر، والثانية بني النضير بعد أحد، والثالثة قريظة بعد الخندق، والرابعة خيبر بعد الحديبية. قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ابن إسحاق فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها. فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم اهـ. قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. قال: وكان جالساً إلى جانب جدار لهم، فقالوا من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة لعيه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهراً أنه يقضي حاجته وقال لصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعاً إلى المدينة، واستبطأه أصحابه فأخبروا أنه توجه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق، وذكر ابن إسحاق أنه حاصرهم ست ليال، وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم، فسألوا أن يجلوا عن أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك، وروى البيهقي في "الدلائل" من حديث محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام، قال ابن إسحاق: فاحتملوا

إلى خيبر وإلى الشام، قال فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم حلوا الأموال من النخيل والمزارع فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. قال ابن إسحاق: ولم يسلم منهم إلا يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما. وروى ابن مردويه قصة بني النضير بإسناد صحيح إلى معمر عن الزهري "أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهم ابن أبي ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا. فلما كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، يتهددونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك. ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام، وكذا أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق، وفي ذلك رد على ابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد، قلت: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله أعلم. وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذكر من همهم بالغدر به صلى الله عليه وسلم، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية، تعين ما قال ابن إسحاق، لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق. اهـ. وقال الشيخ الغزالي: وفي هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود في صدرها.

(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) (1). ثم فضح القرآن مسلك منافقي المدينة الذين حاولوا إعانة يهود في غدرها وحربها، وحرضوها على مقاتلة المسلمين بما وعدوها من أمداد وعتاد فقال: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) (2). وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون دون تضحيات، توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران. اهـ. 439 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجن أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت

_ (1) الحشر: 2. (2) الحشر: 11، 12. 439 - أبو داود (3/ 156)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في خبر النضير، بسند صحيح. الأوثان: جمع وثن، وهو الصنم. نستبيح: استباحتهم: نهبهم وسبيهم والتصرف فيهم. وعيد: الوعيد: التخويف والتهديد.

تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهي الخلاخيل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك فقص خبرهم فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: "إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه" فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم على أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا على بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها وخصه بها، فقال: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) (1) يقول: بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجة، ولم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما.

_ = يكيدكم: كاده يكيده: إذا مكر به وخدعه. الحلقة: بسكون اللام: الدرع، وقيل: اسم جامع للسلاح. حبر: الحبر: العالم الفاضل. منصف: المنصف بالفتح: نصف الطريق، أراد: أنهم يجتمعون في موضع لا يميل إلى جهته ولا جهتهم، ليكون أعدل وأقرب إلى الأمن. الجلاء: النفي عن الأوطان. أقلت الإبل: الأحمال، أي: حملتها. ما أفاء الله: الفيء: ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال. أوجفتم: الإيجاف: الإسراف والحث في السير، وأراد به: الإسراع في القتال. ركاب: الركاب جماعة الإبل فوق العشرة. (1) الحشر: 6.

- (وفي رواية ابن هشام (1): أنهما سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة) - وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي في أيدي بني فاطمة. 440 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا أن بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى رسول الله يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة. 441 - * وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود. فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم: "يا معشر يهود، أسلموا تسلموا" فقالوا: بلغت يا أبا القاسم. فقال: "ذلك أريد" ثم قالها الثانية، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. ثم قال الثالثة فقال: "اعلموا أن الأرض لله ورسوله وأني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله". لكنهم رفضوا الجلاء الطوعي فكان ما رأينا. 442 - * وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها) قال: اللينة: النخلة، (وليخزي

_ (1) السيرة النبوية (3/ 194). 440 - البخاري (7/ 329) 64 - كتاب المغازي - 14 - باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسلم واللفظ له (3/ 1387)، 32 - كتاب الجهاد والسير - 20 - باب إجلاء اليهود من الحجاز. 441 - البخاري (12/ 317) 89 - كتاب الإكراه - 2 - باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره. ومسلم في نفس الموضع السابق. بيت المدراس: بكسر الميم، مفعال من الدرس، والمراد به كبير اليهود، ونسب البيت إليه؛ لأنه هو الذي كان صاحب دراسة كتبهم، أي قراءتها. 442 - الترمذي (5/ 408) 48 - كتاب تفسير القرآن - 60 باب "ومن سورة الحشر" وإسناده حسن. لينة: اللينة: ما دون العجوة من النخل، والعجوة: نوع من التمر معروف بالمدينة.

الفاسقين) وقال: استنزلوهم من حصونهم، قال: وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً، وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركناه من وزر؟ فأنزل الله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها ..) (1). 443 - * وروى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم (سبح لله ما في السموات وما في الأرض) إلى قوله (لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا) (2) فقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأما قوله (لأول الحشر) فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام. ونشهد في زماننا حشراً آخر لليهود إلى بلاد الشام وسيتبعه حشر آخر في عهد الدجال عند نهر الأردن، وقد بشرنا الكتاب والحديث أن النصر للإسلام. 444 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله عز وجل: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) (1).

_ فحك: يقال: حك الشيء في نفسه: إذا لم يكن منشرح الصدر به، وكان في قلبه شيء منه من الشك والريب، لتوهمه أنه ذنب أو خطيئة. وزر: الوزر: الحمل والثقل والإثم. (1) الحشر: 5. 443 - المستدرك (2/ 483)، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (2) الحشر: 1، 2. 444 - البخاري (5/ 9) 41 - كتاب الحرث والمزارعة - 6 - باب قطع الشجر والنخل.

تعليقات على حادثة النضير

وفي رواية صحيحة (1) قال ابن عمر: ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير زاد في رواية (2) قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث: أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير تعليقات على حادثة النضير: سجل الله حادثة النضير في كتابه فأنزل فيها سورة كاملة، هي سورة الحشر التي أسماها ابن عباس سورة النضير، ومن ثم فإن النضير من الحوادث الخالدات التي يحتاج المسلمون على مدى العصور إلى معرفة دروسها وأخذ عبرها، فهي حادثة تمرد وغدر داخليين تقوم بهما فئة معاهدة من غير المسلمين، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدبها تعاطف معها منافقون، ظاهرهم مسلمون، إن هذا الوضع يمكن أن يحدث في كل زمان وفي كل مكان، فكيف تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما هي السنة التي تحكم ذلك؟ وما حكم أموال المتمردين الغادرين ونسائهم؟ وماذا يجوز لنا في هذا الشأن؟ كل ذلك بعض ما في سورة النضير التي تحدثت عن غزوتها، وهذه بعض دروس الغزوة والسورة: 1 - إن تلاحم الكافرين والمنافقين على الأرض الإسلامية لا شك فيه، وأنت عليك أن تستهدف الكفر فإذا ما استطعت أن تنتصر عليه فقد انتهت قيمة المنافقين السياسية والعسكرية، ولذلك يجب أن تضع نصب عينيك أن السيطرة على الكفر هي الهدف، وفي الغالب فإن المنافقين لن ينتقلوا من القول إلى الفعل إلا في حالة واحدة هي أن تضمهم جميعاً

_ (1) البخاري (7/ 329) 64 - كتاب المغازي - 14 - باب حديث بني النضير. سراة: السراة جمع سري، وهو النفيس الشريف على غير قياس. مستطير: استطار الضوء وغيره: إذا تفرق واتسع. (2) البخاري في نفس الرواية السابقة. بنزه: أي: ببعد، وفلان يتنزه عن الفحش، أي: يبعد عنه. تضير: ضارة يضيره ضيراً، مثل: ضره يضره ضراً.

حصون يقاتلون من خلالها. وإذن فلا ينبغي أن تعطيهم فرصة التجمع والتحصن. 2 - ومما حدث في إجلاء بني النضير وبما نزل من آيات الله في ذلك نعرف صورة مما يمكن أن تفعله الدولة الإسلامية الراشدة في المواطنين غير المسلمين إذا تأكد لنا غدرهم. 3 - ومن تعليقات الدكتور البوطي على حادثة النضير ما يلي: قطع نخيل بني النضير وإحراقها، ثبت بالاتفاق. والذي أتلفه الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك غنما هو البعض ثم ترك الباقي. وقد نزل القرآن تصويباً لما أقدم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: قطعاً وإبقاء، وذلك في قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ..) (1). وقد استدل عامة العلماء بذلك، على أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإتلافها منوط بما يراه الإمام أو القائد من مصلحة النكاية بأعدائهم، فالمسألة إذاً من قبيل ما يدخل تحت اسم السياسة الشرعية. قال العلماء: وإنما كان قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بتصرفه هذا في النخيل - قطعاً أو كفاً - تحقيق المصلحة وتلمس السبيل إليها، إرشاداً وتعليماً للأئمة من بعده. وبهذا أيضاً علل الشافعي رحمه الله، أمر أبي بكر رضي الله عنه بالإحراق والقطع، حينما أرسل خالداً إلى طليحة وبني تميم، مع أنه نهى هو نفسه عن ذلك في حروب الشام. ويقول رحمه الله في هذا: "ولعل أمر أبي بكر بأن يكفوا عن أن يقطعوا شجراً مثمراً، إنما هو لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام تفتح على المسلمين. فلما كان مباحاً له أن يقطع ويترك، اختار الترك نظراً للمسلمين". وهذا الذي قلناه من إباحة قطع شجر الكفار وإحراقه إذا اقتضت المصلحة هو مذهب نافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء. وروي عن الليث بن سعد وأبي ثور والأوزاعي القول بعدم جوازه. واتفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قتال - وهو الفيء - يعود النظر

_ (1) الحشر: 5.

والتصرف فيه إلى ما يراه الإمام من المصلحة، وأنه لا يجب عليه تقسيمه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غنموها بعد قتال وحرب، مستدلين على ذلك بسياسته صلى الله عليه وسلم في تقسيم فيء بني النضير، فقد خص به - كما رأيت - المهاجرين وحدهم، وقد نزل القرآن تصويباً لذلك، في الآيتين اللتين ذكرناهما. ثم اختلفوا في الأراضي التي غنمها المسلمون بواسطة الحرب: فذهب مالك إلى أن الأرض لا تقسم مطلقاً، وإنما يكون خراجها وقفاً لمصالح المسلمين إلا أن يرى الإمام أن المصلحة تقضي القسمة فإن له ذلك، ويذهب الحنفية قريباً من هذا المذهب. أما الشافعي فذهب إلى أن الأرض المأخوذة عنوة تجب قسمتها كما تجب قسمة غيرها من الغنائم، وهو الظاهر من مذهب الإمام أحمد أيضاً. ودليل ما ذهب إليه الشافعي، أن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، على خلاف ما تقتضيه القسمة بين الغانمين في الحرب، إنما كان بسبب عدم وجود أي قتال تسبب عنه الحصول على تلك الغنائم. وقد نصت الآية على ذلك في معرض تعليل حكمه صلى الله عليه وسلم، في فيء بني النضير، وهي قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) (1) وإذا كان هذا هو مناط جواز عدم القسمة لأراضي الفيء فمن الواضح أنه إذا ارتفع مناط الحكم، ارتفع الحكم معه، وعاد الحكم المنصوص عليه في حق الغنائم، سواء في ذلك الأراضي وغيرها. ودليل ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة أمور كثيرة، من أهمها عمل عمر رضي الله عنه حينما امتنع عن تقسيم سواد العراق، وجعلها وقفاً يجري خراجها ريعاً للمسلمين وليس المجال هنا متسعاً لأكثر من هذا العرض المجمل في الموضوع. إنما الذي ينبغي أن ننتبه إليه من هذا البحث هنا، هو التعليل الذي ذكره الله تعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناساً دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: (لكي لا يكون دولة بين

_ (1) الحشر: 6.

الأغنياء منكم) (1) أي لكي لا يكون تداول المال محصوراً فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط. والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وأن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها. ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعاً مكتفون، وليس فيهم كل على آخر وإن كانوا جميعاً يتعاونون. والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل غاية شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسباباً معينة ألزمنا باتباعها وعدم الخروج عليها. أي أن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معاً. فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية. فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجاً على كل من الغاية والوسيلة معاً، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلاً إلى تلك الغاية. والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد. هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود، المنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك ... فهذه السورة من أهم ما يمكنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها. اهـ. * * *

_ (1) الحشر: 7.

فصل: في غزوتي الرد

فصل: في غزوتي الرد ذكر ابن كثير في أحداث السنة الرابعة غزوتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، غزوة بني لحيان وغزوة نحو نجد أسماها غزوة ذات الرقاع، ومن عرف سنته عليه الصلاة والسلام في رده على الاعتداء من قبل المحاربين رجح أن الغزوتين كانتا في هذه السنة، لكن اختلط الأمر على بعض المحققين بين غزوة ذات الرقاع، وغزوة أخرى حدثت في السنة السابعة شارك فيها أبو موسى الأشعري وربط بها هو وأصحابه رقاعاً على أرجلهم فظنوا أن هذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع المشهورة التي كانت رداً على حادثة بئر معونة، والذي أرجحه أن غزوة بني لحيان وغزوة ذات الرقاع كانتا في السنة الرابعة، واسم ذات الرقاع هنا لم يأت من الرقاع المربوطة على الأرجل بل كان لأسباب أخرى سنراها. 1 - غزوة بني لحيان: قال ابن كثير: وقال الحافظ البيهقي: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالباً بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة" فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا. اهـ. أقول: هذه الغزوة وإن لم تحقق هدفها الأساسي وهو الثأر لحادثة الرجيع، لكنها أوقعت الرعب في قلوب أهل المنطقة وأرتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا ينام على ثأر، وأنه وراء المسيئين لن يتركهم حتى يعاقبهم أو يسلموا أو يعاهدوا. 2 - غزوة ذات الرقاع: تختلط روايات هذه الغزوة بأكثر من روايات غزوات أخرى فهي تختلط بغزوة لف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخرق على أرجلهم فتوهم بعضهم أن هذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع، وتختلط بغزوتي عسفان وأنمار؛ بسبب أن في الجميع روايات لجابر، وبسبب

أن بعض الروايات فيها ذكر لصلاة الخوف، مع اتفاق الجميع أن صلاة الخوف نزلت بعد غزوة الأحزاب، فقد رأى بعضهم أن غزوة ذات الرقاع هذه، لم تكن في السنة الرابعة، ولكن المحققين من كتاب السير يرون أنها في السنة الرابعة وعلى هذا فلابد من التمييز بين رواياتها وروايات الغزوات الأخرى وإعطاء كل غزوة اسمها المناسب، ونحن سنتخير من الروايات والتحقيقات ما لا يكون فيه تناقض مع ما ذهب إليه المحققون في كل. وننقل بين يدي ذلك ما قاله ابن حجر في الفتح كدليل على أن هذه الغزوة تختلط بغيرها ولذلك وقع اللبس: قال ابن حجر: (باب غزوة ذات الرقاع) هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت، واختلف في سبب تسميتها بذلك. وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك في هذا الباب بأمور سيأتي الكلام عليها مفصلاً، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر فلا أدري هل تعمد ذلك تسليماً لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها كما سيأتي، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسماً لغزوتين مختلفتين كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني من سنته - وغزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع. اهـ. وبمناسبة رواية البخاري عن جابر (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل فذكر صلاة الخوف) قال ابن حجر: أورده مختصراً معلقاً لأن غرضه الإشارة إلى أن روايات جابر متفقة على أن الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع، لكن فيه نظر لأن سياق رواية هشام عن أبي الزبير هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى، وبيان ذلك أن في الحديث عند الطيالسي وغيره أن المشركين قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، قال فنزل جبريل فأخبره؛ فصلى بأصحابه العصر، وصفهم صفين، فذكر صفة صلاة الخوف،

وهذه القصة إنما هي في غزوة عسفان، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظ يدل على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع، ولفظه عن جابر قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما أن صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة واحدة لأفظعناهم، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فذكر الحديث. وروى أحمد والترمذي وصححه النسائي من طريق عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف، وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قال: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين. الحديث وسياقه نحو رواية زهير عن أبي الزبير عن جابر، وهو ظاهر في اتحاد القصة، وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نغير عليهم فلم يعزم لنا، فأطلع الله نبيه على ذلك فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف. الحديث، وهو ظاهر فيما قررته أن صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابراً روى القصتين معاً. اهـ. وقد ذكر ابن حجر أدلة القائلين بالتعدد فقال: وقد قيل إن الغزوة التي شهدها أبو موسى وسميت ذات الرقاع غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف، لأن أبا موسى قال في روايته إنهم كانوا ستة أنفس، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك. واستدل على التعدد أيضاً بقول أبي موسى إنها سميت ذات الرقاع لما لفوا في أرجلهم من الخرق، وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أموراً غير هذا، قال ابن هشام وغيره: سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل بشجر بذلك الموضع يقال له ذات الرقاع،

وقيل بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قاله ابن حبان، وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان ويكون قد تصحف جبل بخيل، ومما يدل على التعدد أنه لم يتعرض أبو موسى في حديثه إلى أنهم صلوا صلاة الخوف ولا أنهم لقوا عدواً، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع. اهـ. مما مر ندرك اختلاط الروايات ما بين غزوة نجد وغزوة ذات الرقاع وغزوة عسفان ونضيف غزوة أنمار. قال صاحب الفتح: فظهر لي من هذا وجه المتابعة. وهو أن حديث سهل بن أبي حثمة في غزوة ذات الرقاع متحد مع حديث جابر، لكن لا يلزم من اتحاد كيفية الصلاة في هذه وفي هذه أن تتحد الغزوة، وقد أفرد البخاري غزوة بني أنمار بالذكر كما سيأتي بعد باب. ا. هـ. لذلك أذهب أن غزوة ذات الرقاع حدثت في السنة الرابعة ولم يكن فيها صلاة الخوف، وأن الروايات التي تذكر صلاة الخوف ينبغي أن تحمل على غزوات أخرى وأن يفتش لها عن مخارج يخرج بها من التعارض. قال ابن كثير: قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر. قال ابن هشام: ويقال عثمان بن عفان. قال ابن إسحاق فسار حتى نزل نخلاً وهي غزوة ذات الرقاع. قال ابن هشام لأنهم رقعوا راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع، وقال الواقدي: بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض. 445 - * روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا مع

_ 445 - أبو داود (1/ 50)، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الدم. وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 85) عن ابن إسحاق واللفظ له. وأخرجه ابن إسحاق مصرحاً بالتحديث وفي سنده عقيل بن جابر بن عبد الله الأنصاري لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، وقد صحح الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فقال من رجل يكلؤنا ليلتنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار. فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائماً قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائماً، قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت قال: فوثب الرجل، فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به فهرب قال: ولما رأى المهاجري ملماً بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهبتني أول ما رماك قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك وايم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها. 446 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل ضعيف فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالك يا جابر؟ " قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: "أنخه" قال: فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع عصا من شجرة" ففعلت فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: "اركب" فركبت فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة. قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتبيعني جملك هذا

_ = الربيئة: الربيء جمع ربابا: الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال، يستطلع. 446 - أحمد في مسنده (3/ 376). والبخاري بعضه (4/ 320) 34 - كتاب البيوع - 34 - باب شراء الدواب والحمير. يواهق: يعارض ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشي، والمواهقة: المباراة.

يا جابر؟ " قال: قلت، بل أهبه لك قال: "لا، ولكن بعنيه"، قال: قلت: فسمنيه، قال: "أخذته بدرهم"، قال: قلت: لا، إذا تغبنني يا رسول الله، قال: "فبدرهمين"، قال: قلت: لا قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأوقية، قالت فقلت: أفقد رضيت؟ قال: "نعم"، قلت: فهو لك، قال: "قد أخذته" ثم قال: "يا جابر هل تزوجت بعد؟ " قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: "أثيبا أم بكراً؟ " قال: قلت بل ثيباً، قال: "أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك" قال: قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً فنكحت امرأة جامعة تجمع رووسهن فتقوم عليهن قال: "أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها" قال: فقلت: والله يا رسول الله ما لنا نمارق، قال: "إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيسا" قال: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا. قال: فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: "ما هذا؟ " قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: "فأين جابر" فدعيت له، قال فقال: "يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك" قال: ودعا بلالاً فقال: "اذهب بجابر فأعطه أوقية" قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً، قال: فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيننا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا. يعني يوم الحرة.

_ = الأوقية: أربعون درهماً. جامعة تجمع رؤوسهن: قادرة على العناية بأخوات جابر الصغيرات وحفظهن. صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة. نمارق: وسائد صغار. دونك: افعل ما تريد.

تعليقات

تعليقات: 1 - علق الشيخ البوطي على حادثة عباد بن بشر في استغراقه بصلاته والسهام تنصب عليه بقوله: إنما الجهاد - كما علمه الرسول أصحابه وكما فهمه الصحابة منه - عبادة كبرى يتعلق فيها كيان المسلم كله بخالقه جل جلاله خاشعاً متبتلاً. وما ساعة يكون فيها المؤمن أقرب إلى ربه جل جلاله من تلك الساعة التي يستدبر فيها الدنيا ويستقبل بوجهه شطر الموت والاستشهاد. ولذلك، كان من الطبيعي جداً بالنسبة لذلك الأنصاري، (عباد بن بشر) رضي الله عنه، أن يشغل شطر حراسته من الليل بركعات خاشعة يقف فيها بين يدي ربه جل جلاله. وقد انصرفت مشاعره كلها إلى مناجاته بآيات من كتابه الكريم. وكان من الطبيعي جداً أن لا يبالي بذلك السهم الذي أسرع فانحط في جسمه، ولا بالسهم الثاني الذي تبعه، لأن بشريته كلها إنما كانت في تلك الساعة مطوية ضمن مشاعره المنصرفة إلى ربه جل جلاله وقد غمرتها لذة المناجاة بين العبد وخالقه. ولما ارتد شعوره إليه وأخذ يهتم بما قد أصابه، لم يكن ذلك لمزيد من الألم بدأ يشعر به. وإنما للمسؤولية المنوطة به مخافة أن يضيعها بضياع حياته واستمرار سكوته. فكان ذلك هو الذي اضطره إلى أن يلتفت فيوقظ صاحبه ليستلم منه أمانة الثغر الذي أنيط بهما حفظه. وتأمل يا أخي المسلم في قوله رضي الله عنه: وايم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (أي الصلاة) اهـ. 2 - وعلق كذلك على محادثته عليه الصلاة والسلام لجابر في الطريق بقوله: إنما ذكرنا قصة جابر بن عبد الله وما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحادثة في طريق عودتهما إلى المدينة، مع أنها لا تتعلق بشيء من أمر الغزوة لما فيها من الصورة الكاملة الدقيقة لخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وما انطوى عليه خلقه الكريم هذا من لطف في المعاشرة ورقة في الحديث وفكاهة في المحاورة ومحبة شديدة لأصحابه.

فأنت إذا تأملت جيداً في هذه القصة التي سردناها. علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متأثراً بالمحنة التي طافت على بيت جابر بن عبد الله. فقد استشهد والده في أحد. فقام هو - وهو أكبر أولاد أبيه - على شأن الأسرة ورعاية الأطفال الكثيرين الذين خلفهم له والده من ورائه. وهو على ذلك رقيق الحال ليس له نصيب وافر من الدنيا. وكأنما استشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأخر جابر عن القوم بسبب جمله الضعيف الذي لا يمتلك غيره. مظهراً لحالته العامة هذه .. (وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا سار مع صحبه في طريق. أن يتفقد أصحابه كلهم ويطمئن عليهم بين كل فترة وأخرى). فانتهزها فرصة وتخلف حتى التقى معه وراح يواسيه بأسلوبه الرقيق الفكه الذي رأيت، في طريق ليس معهما فيه ثالث. عرض عليه صلى الله عليه وسلم شراء بعيره، وهو إنما يريد أن يجعل من ذلك ذريعة ومناسبة لإكرامه ومساعدته على وضعه الذي هو فيه. ثم سأله عن الزوجة والبيت. في أسلوب فكه رقيق، وراح يطمئن الزوج الجديد، أنهم إذا وصلوا قريباً من المدينة أقاموا ساعات هناك، حتى يتسامع أهل المدينة بمقدمهم، فتسمع زوجته، فتصلح له من شأنها، وتهيء له البيت بزينته ونمارقه. وينساق معه جابر في الأسلوب نفسه فيقول: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق! ... فيجيبه عليه الصلاة والسلام قائلاً: إنها ستكون. صورة رائعة، عن لطف معشره، وأنس حديثه، والفكاهة الحلوة في محاورته لأصحابه. ا. هـ. * * *

فصل: في غزوة بدر الآخرة

فصل: في غزوة بدر الآخرة قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهي بدر الموعد التي تواعدوا إليها من أحد كما تقدم. قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول. قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأقام عليه ثمانياً ينتظر أبا سفيان. وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران. وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن. فإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا. فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق (1) يقولون إنما خرجتم تشربون السويق. قال وأتى مخشي بن عمرو الضمري وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بني ضمرة فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: "نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك" قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً. وقد ذكر موسى بن عقبة عن الزهري وابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وأخذوا معهم بضائع، وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه وفي مقولة الضمري، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم المنابذة فأبى ذلك. قال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه واستخلف

_ (1) السويق: أن تمحص الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك، ثم تطحن ثم يسافر بها، وقد تمزج باللبن والعسل والسمن، وتلت، فإن لم يكن شيء من ذلك مزجت بالماء.

دروس بدر الآخرة

على المدينة عبد الله بن رواحة. وكان خروجه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة. قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين. وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عز وجل: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) (1) أهـ. أقول: قد مرت معنا رواية حسنة السند عند الكلام عن غزوة (2) حمراء الأسد تشير إلى بدر الموعد فلم نر أن نذكرها واكتفينا بما قاله كتاب السير عنها لكي لا يكون في السياق ثغر. دروس بدر الآخرة: إن أهم دروس بدر الآخرة قوة التصميم والسهر على القضية، فمن المعروف أنه في كل قضية من القضايا تجد الناس بين متردد ومقدم، وههنا تأتي مهمة القيادة في اتخاذ القرار لتحسم التردد، وبعد اتخاذ القرار تجد ناسا يثبطون الهمم وههنا تأتي مهمة القيادة في الحسم والتصميم ورد كل التردد والقضاء عليه، فلا تعطي فرصة لمؤجل أو مسوف أن يفسد الموقف. وإنك لترى هذا كله مجسداً برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موقف وأظهر ما يظهر ذلك في غزوة بدر الآخرة، قارن بين موقفه عليه الصلاة والسلام وموقف أبي سفيان لتدرك الفارق بين القيادة المصممة والقيادة المترددة. ومن بدر الآخرة تأخذ الدرس الآخر درس السهر على القضية لقد عقد الموعد للمواجهة أبو سفيان يوم أحد، ولقد عقده من موقع القوة في زعمه، وهو بذلك يتحدى، ولكن كيف تصرف عندما حان الموعد، وكيف تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

_ (1) آل عمران: 174. (2) انظر (600) من هذا الجزء.

ههنا سهر وهناك بطر، والعجيب أنك لا تجد في جيش أبي سفيان من عارض، ولا تجد أن أبا سفيان قد استشار، تلك علل الشرك في ذلك الدهر، قارن هذا كله ببعض ما نحن فيه: إن الكفر الآن ساهر على قضاياه، وله مؤسساته، وعنده تصميم على أمور كثيرة وهذا يقتضي منا سهراً وتصميماً، وعلى القيادات الإسلامية أن ترتقي في القدوة إلى أعلى قمة مستطاعة. * * *

فوائد عامة من أحداث السنة الرابعة

فوائد عامة من أحداث السنة الرابعة 1 - إن الحكم ليس لعبة ولا تسلية ولا متعة، وإن بناء الدول ليس ألهية ولا عبثاً، فكيف إذا كان الحكم إسلامياً، والبناء يراد به ساحتا الدنيا والآخرة والحاضر والمستقبل، إن من يرى هذه السلسلة من العمليات المتلاحقة والتضحيات الكثيرة يدرك ماهية الطريق لحفظ الحكم وإقامة البناء، إنك ترى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليقظة الدائمة والحذر الدائم والجدية في الصغيرة والكبيرة وعلى المسلمين جميعاً أن يدركوا هذا الدرس، إن العرض والدين والمال والحكم لا يصح أن تطرف عين الإنسان فيها إلا على وعي وحذر، فإذا ما نامت العيون على واحدة من هذه الشؤون فما أسرع أن تصاب ولات ساعة مندم. 2 - الناس قسمان فمنهم عاملون ومنهم قاعدون، فالقاعدون لا يرتكبون خطأ القعود فقط ولكنهم يعطون أنفسهم فرصة نقد لهذا العالم، فهؤلاء هم الأخس في التاريخ، والعاملون نوعان: فمنهم من يمتلك روح المبادأة والمبادرة ومنهم من يعمل ضمن حدود المكرر والمعاد، فالآخرون عاجزون عن التطوير والتنفيذ، وليس لهم مكان في عملية البناء، والذين يمتلكون روح المبادأة والمبادرة قسمان: فمنهم المتهورون المغامرون، ومنهم الحكماء المتأنون، فهؤلاء وحدهم هم البناة، ومع ذلك فالخسائر لابد منها، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم البناة في تاريخ البشرية أصيب في الرجيع وفي بئر معونة ترى ماذا يقول القاعدون في قيادة حالية تخسر مثل هذه الخسارة؟! ألا إن درسي الرجيع وبئر معونة عزاء للقادة ورد أي رد على القاعدين. 3 - وفي أمره عليه الصلاة والسلام لزيد بن ثابت أن يتعلم اللسان العبراني إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يشغله شيء عن شيء، فبناء الأمة لابد أن يكون على ضوء خريطة شاملة، وهذه الخريطة ينبغي أن يلاحظ فيها احتياجات الأمة فإذا كان المهندس مكلفاً أن يوجد خريطة تسع الزمان والمكان فما أصعب مهمته، وإنك لتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذلك المهندس، الذي لا يغفل عن احتياج من احتياجات البناء بما يسع الحاضر وبما يستوعب المستقبل.

4 - عرضت لنا أثناء أحداث هذه السنة وعرض لنا من قبل وسيعرض لنا من بعد أبيات من الشعر تقال بمناسبة ما، وهذا الموضوع لم نشأ أن نتوسع فيه لقلة ما يرد منه في الروايات الصحيحة، مع أنه من أخطر المواضيع على الإطلاق ولذلك نكتفي بالتنبيه إليه ليضعه العاملون على ذكر منهم: إن الجهاد باللسان هو شطر الجهاد، وإن كان شطره الأقل كلفة، ولكنه في بعض الأحيان يكون أكثر نجاعة ولذلك ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث: "ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن" (1)، "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (2). وهذا الجهاد باللسان له صور متعددة فقد يكون خطبة وقد يكون قصيدة وقد يكون كتاباً أو رسالة أو مقالة ... والشعر قديماً في حياة العرب هو الإعلام كله فهو الحرب النفسية، وهو الدعوة والدعاية، وهو التعبير عن الذات، وهو الدفاع عن الحق فمن غلب فيه غلب، وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاني كلها مداها، وبالنسبة للشعر فقد كان له أكثر من شاعر: حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة ... وكل أحداث السيرة كانت تغطى شعراً، وكل قصيدة للكافرين كانت تقابل بقصيدة أو قصائد، وكان لغلبة شعرائه في معاركهم الشعرية أثر قوي على أعدائه، لقد طرد كعب بن الأشرف بسبب هجاء من حسان لمن أنزله عنده، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان عن شعره: (لهو أشد عليهم من نضح النبل) (3) ولقد كانت العرب في الماضي إذا نبغ فيهم الشاعر تعاهدوه، وكان هذا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الحركة الإسلامية المعاصرة أن تفطن لهذا وما يحيط به فترعى شعراءها وتشجعهم، وترعى منشديها وكتابها وعلماءها ودعاتها وتشجعهم، وجماعة على أرض العرب

_ (1) مسلم مطولاً (1/ 70) عن ابن مسعود 1 - كتاب الإيمان - 20 - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. (2) أحمد في مسنده (3/ 24، 153، 251) عن أنس. وإسناده صحيح. وأبو دواد (3/ 10) عن أنس في كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو. والنسائي (6/ 7) عن أنس في كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد. والدارمي (2/ 213) عن أنس في كتاب الجهاد، باب في جهاد المشركين. باللسان واليد. (3) النسائي (5/ 211) عن أنس في كتاب مناسك الحج، باب استقبال الحج، بلفظ: "لكلامه أشد عليهم من وقع النبل".

تقويم الموقف في نهاية السنة الرابعة

لا ترعى شاعراً ولا تشجع منشداً لا تصلح أن تسوس العرب ولا أن تقودهم. * * * تقويم الموقف في نهاية السنة الرابعة لقد كانت خسائر أحد كبيرة وجاءت خسارة الرجيع وبئر معونة فزادت الطين بلة، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول تلافي آثار ذلك كله مباشرة، ولكن الآثار أكبر، فلا قريش أصيبت ولا الذين أساءوا في الرجيع وبئر معونة نالهم القصاص، وأصبح لليهود أكثر من ثأر، وعواطف المشركين متأججة، وما حدث في أحد وما بعدها شجعهم، وهذا كله جعل الأيام حبلى بالعواصف، وجاءت ذروة العواصف في السنة الخامسة حيث كانت غزوة الأحزاب، فغزوة الأحزاب كانت ذروة تصاعد الخط البياني للمشركين ثم بدأ الانحدار، وهي بالنسبة للمسلمين كانت ذروة الشدة ثم بدأ الانفراج. ونستطيع أن نقول إن الخط البياني بالنسبة للمسلمين كان يرتفع بصعوبة منذ أحد، ولكنه ما توقف أبداً عن الارتفاع فالمسلمون يتكاثرون بدليل أن مقاتليهم يوم أحد كانوا سبعمائة بينما عبأ الرسول صلى الله عليه وسلم لبدر الآخرة ألفا وخمسمائة، فلنر كيف ستسير الخطوط البيانية في السنة الخامسة. * * *

السنة الخامسة للهجرة

السنة الخامسة للهجرة

السنة الخامسة في سطور

السنة الخامسة في سطور * قبل خمسة أيام من نهاية شهر ربيع الأول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من المسلمين نحو دومة الجندل القريبة من بلاد الشام، بعد أن بلغه أن القبائل حولها تنهب ما يمر، وأنها قد حشدت جمعاً كثيراً تريد أن تهاجم به المدينة، ففاجأهم وأصاب من أصاب منهم وفر الباقون. وأقام هناك أياماً يبث السرايا ويرسل الجيوش ههنا وهناك ثم رجع إلى المدينة بعد أن وادع عيينة ابن حصن. * وفي شوال من السنة الخامسة غزا أكبر جيش أفرزته الجزيرة العربية حتى ذلك الحين المدينة بزعامة قريش وبتواطؤ مع يهود المدينة، واستطاعت قريش أن تحشد حوالي عشرة آلاف مقاتل حاصرت بها المدينة، وأحكم الطوق على المدينة بخيانة بني قريظة واستمر الحصار أكثر من شهر - إلى نهاية ذي القعدة إلى سبع بقين منه على رواية ابن سعد - وقد رد الله كيدهم في نحورهم. * وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الحصار عبأ لبني قريظة وحاصرهم بثلاثة آلاف مسلم حتى نزلوا على حكمه بعد حصار دام خمساً وعشرين ليلة. * وفي ذي الحجة من هذه السنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفرزة إلى خيبر فقتلت سلام بن أبي الحقيق الذي كان له دور في تأليب الأحزاب وإمدادهم، وكان كثير الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. * وفي هذه السنة تم زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان ومن زينب بنت جحش رضي الله عنهما ونزل الحجاب صبيحة عرس زينب، فكان ذلك خطوة اجتماعية كبيرة تؤكد نوعاً من الحجز بين الرجال والنساء. * * * وكانت غزوة دومة الجندل استمراراً للحركة العسكرية في السنة الرابعة فاستكملت بذلك الحركة العسكرية كل الجهات المحيطة بالمدينة فلم تبق جهة إلا وأحست بحركة المسلمين

العسكرية، وبموادعة عيينة بن حصن في هذه الغزوة اجتمع مع الحركة العسكرية العمل السياسي، ولكن ما حدث يوم أحد ويوم الرجيع ويوم بئر معونة من ناحية، وهذه التحركات من ناحية أخرى، والتفكير الذي أورثته الأوضاع الجديدة أوجد حركة مناوئة قوية، هذه الحركة استهدفت تجميع غير المسلمين على هدف واحد هو استئصال الإسلام والمسلمين، وكان الذي قاد هذا التحرك هم اليهود، وصادف ذلك استعداداً عند كل الأطراف، فقريش لم تخرج إلى موعدها في بدر السنة الرابعة، وغطفان وغيرها من قبائل العرب استهدفتها حملات الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، واليهود أصبحت لهم تارات، وهكذا وفجأة تتحد قوى الشرك والكفر ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسير نحوه في أعظم حشد صادفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وههنا يبلغ الخط البياني للكافرين ذروته، وتبلغ المحنة بالنسبة للمسلمين ذروتها. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً ألا يعطي لأعدائه فرصة للتجمع ضده، وها هم هؤلاء يجتمعون، فحاول تفريقهم من خلال إغراء بعضهم، ثم فرقهم خلال خدعة، وجاء الله بالفرج، وههنا نجد جديداً في السياسة العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال التصادمي لقلة جنده وكثرة العدو، وهذا الموقف يثير أمامنا مجموعة من المسائل، وبعد أن فشلت حملة الأحزاب توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة التي نقضت عهدها في أحرج لحظة وكان من أمرها ما سنراه، وكذلك فإن هذه الحادثة تضعنا أمام مجموعة من المسائل. * * * وقد سجل القرآن غزوتي الأحزاب وقريظة، والقرآن كعهدنا به يسجل الخالدات التي تسع الزمان والمكان، فأن يسجل غزوتي الأحزاب وقريظة فذلك شأنه، فالمسلمون معرضون دائماً لأن يغزوا في عقر دارهم وفي عواصم بلدانهم، ومعرضون لأن يتكالب عليهم الأعداء جميعاً، والأعداء دائماً يعتبرون غير المسلمين على الأرض الإسلامية مظنة طمع وغدر، فأن يسجل القرآن حادثتي الأحزاب وقريظة فذلك كما قلنا في هاتين الحادثتين من سمة القابلية للتكرار على مدى العصور. * * *

وبجانب هذا نجد حركة البناء التشريعي والاجتماعي للأمة الإسلامية تتكامل فنظام التبني يهدم، والحجاب يفرض. هذه هي أهم أحداث السنة الخامسة ونحن سنعقد لأهم أحداثها فصولاً: فصل: في غزوة دومة الجندل. فصل: في غزوتي الأحزاب وقريظة. فصل: في سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع. فصل: في زواجه عليه الصلاة والسلام من زينب بنت جحش رضي الله عنها. * * *

فصل: في غزوة دومة الجندل

فصل: في غزوة دومة الجندل قال ابن القيم في زاد المعاد: وهي بضم الدال، وأما دومة بالفتح، فمكان آخر. خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة خمس. وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة. وهي من دمشق على خمس ليال، فاستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين، ومعه دليل من بني عذرة، يقال له: مذكور، فلما دنا منهم، إذا هم مغربون. وإذا آثار النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب، وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا، وفرق الجيوش. فلم يصب منهم أحداً، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. أهـ. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا ثم رجعوا وأخذ محمد بن مسلمة رجلاً منهم فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أصحابه فقال هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس. قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة، وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، وقد قال أبو عيسى الترمذي في جامعه (1): حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب،

_ (1) الترمذي (3/ 347) 8 - كتاب الجنائز - 47 - باب ما جاء في الصلاة على القبر.

فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر وهذا مرسل جيد، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهراً فما فوقه على ما ذكره الواقدي رحمه الله. أهـ. * * *

فصل: في غزوتي الأحزاب وقريظة

فصل: في غزوتي الأحزاب وقريظة 1 - من تحقيقات كتاب السير: قال ابن القيم في زاد المعاد: وكان سبب غزوة الخندق أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للعام المقبل؛ خرج أشرافهم، كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤلبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم، فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب، يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد وفزارة، وأشجع، وبنو مرة، وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن. وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه، وبادروا هجوم الكفار عليهم، وكان في حفره من آيات نبوته، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حفر الخندق أمام سلع، وسلع: جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار. وقال الشيخ أبو الحسن الندوي: وقد تم حفر الخندق من شمالي المدينة الشرقي إلى غربيها، وكان حده الشرقي طرف حرة واقم، وحده الغربي غربي وادي بطحان، حيث طرف الحرة الغربية (حرة الوبرة) - انظر الخارطة بعد صفحات. وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق بين أصحابه، لكل عشرة منهم أربعين ذراعاً، وقد

بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، والعرض من تسعة إلى ما فوقها. أهـ. قال ابن القيم: "ونقضت قريظة العهد واشتد الأمر على المسلمين. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم. وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه، قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه، فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم، وكان شعار المسلمين يومئذ (حم لا ينصرون). أهـ. قال الغزالي في فقه السيرة: قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم. فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى: أثم هم أم لا؟ - هل احتلوا البلد أم لا؟ قال: ووجهوا نحو منزل (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فقاتلها المسلمون يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة - من المنزل - فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا. وانكفأت الكتيبة المشركة مع الليل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم ناراً (2). أهـ.

_ (1) منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: المراد به: مكان نزوله. (2) البخاري (8/ 195) - 65 - كتاب تفسير 42 - باب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) عن علي رضي الله عنه. ومسلم (1/ 437) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 36 - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. عن علي أيضاً.

قال ابن القيم: ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن، والحارث بن عوف رئيسي غطفان، على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعاً وطاعة، وإن كان شيئاً تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. أهـ. ثم إن الله عز وجل أنهى هذا الابتلاء العظيم بخدعة من نعيم بن مسعود وبإلقاء الرعب وتسليط الريح فانسحبت الأحزاب. قال ابن القيم: وأرسل الله على المشركين جنداً من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً، إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم. ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيؤوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد الله عدوه بغيظه، لم ينالوا خيراً، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فدخل المدينة ووضع السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أوضعتم السلاح؟! إن الملائكة لم تضع بعد أسلحتها، انهض إلى غزوة هؤلاء، يعني بني قريظة، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة"، فخرج المسلمون سراعاً، واستشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو عشرة من المسلمين. وأما قريظة، فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظهم كفراً ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم. وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح، جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم، فقال: قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلم حتى نناجز محمداً ونفرغ منه. فقال له رئيسهم: بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه. فهو

يرعد ويبرق، فلم يزل حيي يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه، يصيبه ما أصابهم، ففعل، ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فأرسل يستعلم الأمر، فوجدهم قد نقضوا العهد، فكبر وقال: "أبشروا يا معشر المسلمين" أهـ. تم جلا الأحزاب كما مر، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ مراعاة للأوس حلفائهم في الجاهلية فحكم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم. وبمناسبة الكلام عن غزوة قريظة ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي بالعهود التي كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بني قريظة، كما ذكر أن أحكام التوراة الحالية لا تخرج عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وإنما يذكر بذلك - حفظه الله - من باب الرد على احتمالات النقد التي يمكن أن يشنها اليهود أو من يتأثر بهم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، وجاء فيه: "أنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن قبائل يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم". وجاء فيه: "أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب". ولكن حيي بن أخطب اليهودي - سيد بني النضير - نجح في حمل بني قريظة على نقض العهد، وممالأة قريش، بعد ما قال سيدهم كعب بن أسد القرظي: لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء ونقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وكان ما عامل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة مما اقتضته سياسة الحرب وطبيعة

القبائل العربية واليهودية، وكان لابد من عقوبة صارمة تكون درساً للعابثين بالعهود والمحالفات ونكالاً لما بين يديها وما خلفها، يقول R. V. C, Bodley في كتابه "حياة محمد الرسول": "كان محمد وحيداً في بلاد العرب وكانت هذه البلاد نم حيث المساحة ثلث الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عدد النفوس فيها يبلغ خمسة ملايين نفس ... ولم يكن عنده من الجيوش التي تحمل الناس على امتثال أمره إلا الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف جندي، ولم يكن هذا الجيش مسلحاً تسليحاً كاملاً، فإذا وهن محمد في هذه القضية أو ترك جريمة غدر بني قريظة من غير أن يعاقبهم عليها، لم يكن للإسلام في جزيرة العرب بقاء، غنه لا شك أن عملية قتل اليهود كانت عنيفة، ولكن لم يكن ذلك حادثاً فريداً من نوعه في تاريخ الديانات، وقد كان لهذا العمل مبرر من وجهة نظر المسلمين، وقد تحتم الآن على القبائل العربية واليهود أن يتأملوا مرة بعد مرة قبل أن يقدموا إلى غدر أو نقض عهد، لأنهم قد عرفوا عواقبه الوخيمة وشاهدوا أن محمداً يستطيع أن ينفذ ما يريده. وقد كان من فوائد القضاء على آخر حصن من حصون اليهود في المدينة الضعف الذي طرأ على معسكر النفاق، ونشاط المنافقين، فقد اثر ذلك في معنويتهم، وأفقدهم الشيء الكثير من الثقة، والآمال الواسعة، فقد كانوا آخر معقل من معاقلهم الكبيرة، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلقاً على غزوة بني قريظة: "وأما المنافقون فقد خفت صوتهم بعد يوم قريظة، ولم نعد نسمع لهم أعمالاً أو أقوالاً تناقض إرادة النبي وأصحابه، كما كان يفهم ذلك من قبل". وقد وافق ذلك قانون الحرب في شريعة بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية (الإصحاح العشرون 10 - 11 - 12 - 13): "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفع الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع

2 - روايات في غزوة الأحزاب

ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك". وهذه كانت العادة المتبعة في بني إسرائيل في عهد أنبيائهم، فقد جاء في التوراة: "فتجندوا على مديان كما أمر الرب، وقتلوا كل ذكر وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم، أوى وراقم، وصور، وحور، ورابع خمسة ملوك مديان،، وبلعام بن باعور قتلوه بالسيف وسبى بنو إسرائيل نساء كل مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار". سفر العدد، الإصحاح الحادى والثلاثون 7 - 8 - 9 - 10. وذلك في عهد موسى - عليه السلام - وبموافقة منه، وقد جاء في التوراة: "فخرج موسى والعازار الكاهن وكل رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب، وقال لهم موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية" سفر العدد، الإصحاح الحادي والثلاثون 13 - 16. أهـ. * * * 2 - روايات في غزوة الأحزاب: 447 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هل دللتم على أحد يطعمنا أكلة" قال رجل: نعم قال: "أما لا فتقدم فدلنا عليه" فانطلقوا إلى الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا، فجاء الرجل يسعى فقال: بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها فوثب إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجدي من ورائنا" فذبح الجدي وعمدت امرأته على طحينة

_ 447 - المعجم الكبير (11/ 376) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 131): ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد ابن حنبل ونعيم العنبري، وهما ثقتان.

لها فعجنتها وخبزت فأدركت القدر فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه فيها فقال: "بسم الله اللهم بارك فيها، اطعموا" فأكلوا منها حتى صدروا ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه "أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم"، فذهبوا وجاء أولئك العشرة فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت وسمت عليها وعلى أهل بيتها ثم تمشوا إلى الخندق فقال: "اذهبوا بنا إلى سلمان" فإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "دعوني فأكون أول من ضربها، فقال: بسم الله" فضربها فوقعت فلقة ثلثهما فقال: "الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة" ثم ضرب بأخرى فوقعت فلقة فقال: "الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة" فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم. 448 - * وروى الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق فخندق على المدينة فقالوا: يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه فلما أتى أخذ المعول فضرب به ضربة وكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: "فتحت فارس" ثم ضرب أخرى وكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، قال: "فتحت الروم" ثم ضرب أخرى وكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: "وجاء الله بحمير أعواناً وأنصارا". 449 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أخبرني من هو خير

_ = فثردت: ثرد الخبز ثرداً: فته ثم بله بمرق. سمت عليها: التسميت والتشميت: الدعاء. الفلقة: القطعة. 448 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 131)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما حيي بن عبد الله، وثقه ابن معين وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. الصفاة: الصخرة. الهدة: الصوت والخسف. 449 - مسلم (4/ 2235) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة - 18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء.

مني - أبو قتادة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، وجعل يمسح رأسه، ويقول: "بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية" وفي رواية (1): من هو خير مني، ولم يسمه، وفي أخرى ويقول: "ويس، أو يا ويس ابن سمية". لقد وقع عدد من المعجزات في غزوة الخندق منها الذي ظهرت المعجزات فيه فيما بعد، ومنه ما كان معجزة مرئية شاهدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المعجزات كانت تثبيتاً للمؤمنين وقتذاك، وهي تثبيت للمؤمنين إلى قيام الساعة، ومن معجزات الخندق تكثير الطعام عند جابر وسنراه في باب المعجزات، ومنها فلقه عليه الصلاة والسلام الصخرة وما قاله أثناءها ومنها الإخبار عمن يقتل عماراً ومنها إخباره أن قريشاً لن تغزوهم مرة أخرى. 450 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون. نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم ويقول: "اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة". وروى البخاري (2) أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً

_ = بؤس: ترحم لعمار من الشدة التي يقع فيها. ويس: كلمة تقال لمن يترحم عليه، مثل: ويح، وكذلك في حال الشفقة والتعطف. (1) مسلم (4/ 2236). 450 - البخاري (7/ 392) 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق وهي الأحزاب. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. المتن: الظهر. الغداة: هنا الصباح. النصب: التعب.

451 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمداً ... على الإسلام ما بقينا أبداً قال يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: "اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة" قال: يؤتون بملء كفين من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن". 452 - * روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب، وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا صمنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة ابينا ويرفع بها صوته. - وفي رواية (1): ولقد وارى التراب بياض بطنه. - وللبخاري (2) قال: كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه - زاد في رواية (3): حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، ثم اتفقا - ويقول: "والله لولا الله ما اهتدينا" وذكر الحديث.

_ 451 - البخاري (7/ 392) 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. الإهالة: الشحم والزيت وكل ما ائتدم به. سنخ: زنخ. 452 - البخاري (11/ 515) 82 - كتاب القدر - 16 - باب (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). ومسلم نحوه (3/ 1431) 32 - كتاب الجهاد والسير - 44 - باب غزوة الأحزاب وهي الخندق. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. (2) البخاري (7/ 399) 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. (3) البخاري في نفس الموضع السابق.

فوائد

قال: ويرفع بها صوته: "أبَيْنا، أبينا". فوائد: 1 - إن مواساة القادة جندهم بمشاركتهم إياهم مهامهم، ومعاونتهم فيما هم مكلفون به لم يزل من أخلاق القادة العظام الواثقين بأنفسهم، على أن هؤلاء القادة لهم ملاحظ من هذه المشاركات أما محمد صلى الله عليه وسلم فلقد كان هذا هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مع أن تاريخ العالم لم يشهد حباً ولا ثقة كالحب والثقة اللذين أعطاهما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد مما كان يغنيه أن يفعل شيئاً تكلفاً، لكنها العبودية لله والإخلاص له والطبع الصافي، والفطرة المستقيمة التي تأبى التمييز وتكره التصنع. 2 - ومن حسن الإدارة توزيع العمل، وتنشيط العاملين، وترويحهم بحيث يقومون بأعلى الجهد وهم لا يشعرون بمشقة ذلك، وإنك لترى هذا كله في حفر الخندق، فالتوزيع حاصل، والإنشاد يخفف أعباء العمل، فكيف إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشارك في العمل والنشيد وهذا درس للقادة. 3 - ولكن قل لي: كم من الرؤساء لو شاركوا جندهم العمل والنشيد وأكثروا من مخالطتهم تزداد محبتهم ويبقى احترامهم، إن أكثر الخلق لو خالطتهم تنزل رتبتك عندهم، ويقل احترامهم لك، ولقد فطنت العرب لذلك فقالت (وجدت الناس: اخبره تقله (1)) لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ازداد خلطة زادت محبته وعظم احترامه، إنها النبوة وإنه الكمال فهو كما وصفه علي رضي الله عنه من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه (2)). 4 - ما الهدف الاستراتيجي من الخندق؟. عندما ندرس مخطط المدينة المنورة - والخريطة اللاحقة تعطيك صورة عنه - فإنك تجد أن جهة وحيدة هي التي يمكن أن يدخل فيها جيش المشركين معركة مواجهة كاملة هي

_ (1) قال في لسان العرب: القلى البغض، يقول: جرب الناس، فإنك إذا جربتهم قليتهم وتركتهم لما يظهر لك. من بوطن سرائرهم، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر (مادة ق ل ي). (2) الترمذي مطولاً (5/ 599) 50 - كتاب المناقب - 8 - باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

جهة الشمال من المدينة المنورة أما المناطق الأخرى فإن بعض هذا الجيش أو أفراداً منه يمكن أن يهاجموا ويدخلوا معركة مواجهة على شيء من المشقة وهذا وحده لا يشكل إشكالاً في المعركة، فبحفره عليه الصلاة والسلام الخندق أخرج جيش المشركين من المعركة في الحقيقة لأن أي محاولة جزئية للهجوم يمكن ردها من خلال السهام وسرعة الحركة. تصور الآن مجموعات سريعة الحركة مع جيش منتشر على أطراف المدينة، إن هذا وحده كاف لأن يجهض أي محاولة اقتحام مع وجود الخندق، وهذا الذي حدث يوم الأحزاب، هجوم الجيش كله مستحيل، هجوم أفراد منه يسهل صدهم، ولذلك فمع كثرة المحاولات لاقتحام الخندق أو لاقتحام جزء منه أو للهجوم على المدينة فإن ذلك كله باء بالفشل بسبب الخندق وسهر القيادة ومرونة الحركة، ولكن هذا كله أصبح معرضاً للخطر بسبب غدر قريظة فعندما تصبح أرض قريظة مرتكز انطلاق، أو عندما تهاجم قريظة من الخلف فكل الوضع الاستراتيجي سيتغير، لن هذا يعطي جيش المشركين كله فرصة عبور الخندق وفرصة القتال ويصبح المسلمون مطوقين من كل جانب بأعداد هائلة، ولذلك كانت غدرة قريظة بالمكان الأفظع، فلقد عرضت الإسلام والمسلمين لخطر الاستئصال، ولعلك من خلال هذه الصورة تدرك دقة الأمر وخطورة الموقف، وتعرف مع ذلك أنها النبوة والرسالة في كفاءتها العالية وتأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، فلقد ربح المسلمون المعركة. * * *

[خريطة غزوة الأحزاب]

روايات في يوم الخندق

روايات في يوم الخندق 453 - * روى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: كان يوم الخندق ورجل يترس جعل يقول بالترس هكذا فوضعه فوق أنفه، ثم يقول هكذا يسفله بعد قال: فأهويت إلى كنانتي فأخرجت منها سهماً مدمى فوضعته في كبد القوس، فلما قال هكذا يسفل الترس رميت، فما نسيت وقع القدح على كذا وكذا من الترس، قال: وسقط فقال برجله فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم، أحسبه قال: حتى بدت نواجذه قال: قلت: لم؟ قال: لفعل الرجل. - وفي رواية البزار (1) قال: كان رجل معه ترسان وكان سعد رامياً فكان يقول كذا وكذا بالترسين يغطي جبهته فنزع له سعد بسهم فلما رفع رأسه رماه فلم يخط هذه منه يعني جبهته. والباقي بنحو رواية أحمد. 454 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت، فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً، فلما رجعت قلت: يا أبت، رأيتك تختلف؟ قال: أو هل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ " فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه

_ 453 - أحمد في مسنده (1/ 186). يترس: يعني يتوقى بالترس بضم التاء المثناة فوق وهو من آلات الحرب التي يتقى بها. مدمى: بضم الميم الأولى وفتح المهملة وتشديد الميم الثانية مفتوحة قال في النهاية: المدمى من السهام الذي أصابه الدم فحصل في لونه سواد وحمرة مما رمي بها العدو ويطلق على ما تكرر الرمي به والرماة يتبركون به. القدح: القاف وسكون المهملة، عود السهم. فقال برجله: أي صار يحرك برجله. (1) البزار: كشف الأستار (3/ 334، 335). وقال الهيثمي عنه وعن سابق في مجمع الزوائد (6/ 135، 136) ورجالهما رجال الصحيح غير محمد بن الأسود، وهو ثقة. 454 - البخاري (7/ 80) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 13 - باب مناقب الزبير بن العوام. - ومسلم نحوه (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 6 - باب من فضائل طلحة والزبير، رضي الله عنهما. يختلف: يتردد.

وسلم أبويه. فقال: "فداك أبي وأمي". - ولمسلم (1) في رواية: أطم حسان، فكان يطأطئ لي مرة فأنظر، وأطأطئ له مرة فينظر .. وذكره. وأخرج منه الترمذي (2): قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم قريظة، فقال: "بأبي وأمي". 455 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم" فقال الزبير: أنا ثم قال: "إن لكل نبي حوارياً، وإن حواري الزبير". وللبخاري ومسلم (4) في رواية قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير ... " وذكره. 456 - * روى الحاكم عن صفية بنت عبد المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى الخندق جعل نساءه في أطم يقال له: فارع وجعل معهن حسان بن ثابت،

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. أطم: بناء مرتفع وجمعه آطام. يطأطئ لي: المقصود أن أحدنا يحمل رفيقه على ظهره أو كتفيه ليعلو وينظر - حيث كانا صغيرين -. (2) الترمذي (5/ 646) 50 - كتاب المناقب 23 - باب مناقب الزبير بن العوام رضي الله عنه. 455 - البخاري (7/ 406) 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. ومسلم نحوه (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 6 - باب من فضائل طلحة والزبير، رضي الله عنهما. من يأتينا بخبر بالقوم؟: المراد بالقوم هنا قريظة، كما وضحت ذلك الرواية السابقة. ندب: بعث ووجه. (3) البخاري (6/ 53) 56 - كتاب الجهاد - 41 - باب هل يبعث الطليعة وحده ومسلم (4/ 1879). 456 - المستدرك (4/ 50)، كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث كبير غريب بهذا الإسناد، وقد روي بإسناد صحيح. وأقره الذهبي. المعجم الكبير (24/ 322)، دون ذكر قول عائشة. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 144)، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق أم عروة بنت جعفر بن الزبير عن أبيها، ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. الأطم: البناء المرتفع.

فجاء اليهود إلى الأطم يلتمسون غرة نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فترقى إنسان من الأطم علينا، فقلت له: يا حسان قم إليه فاقتله، فقال: والله ما كان ذلك في ولو كان ذلك في لكنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: اربط هذا السيف على ذراعي فربطه فقمت إليه، فضربت رأسه حتى قطعته، فقلت له: خذ بأذنيه فارم به عليهم فقال: والله ما ذلك في فأخذت برأسه فرميت به عليهم فتضعضعوا وهم يقولون: قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهن أحد. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد على المشركين شد حسان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنا في الحصن. فإذا رجع رجع وراءه كما يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثم فمر بنا سعد بن معاذ وقد أخذ صفرة وهو معرس قبل ذلك بأيام وهو يرتجز: مهلاً قليلاً يلحق الهيجا جمل ... لا بأس بالموت إذا حل الأجل قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رجلاً أجمل منه في ذلك اليوم. أقول: ومع تصحيح الحاكم للحديث، وإقرار الذهبي، وحفاظاً على حرمة الصحابة أنقل ما قال السهيلي في الروض الأنف: وذكر حديث حسان حين جعل في الآطام مع النساء والصبيان، وما قالت له صفية في أمر اليهودي حين قتلته، وما قال لها؛ ومحمل هذا الحديث عند الناس على أن حساناً كان جباناً شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء، وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يهاجي الشعراء كضرار وابن الزبعري، وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن، ولا وسمه به، فدل هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حسان أن يكون معتلاً في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تأول وممن أنكر أن يكون هذا صحيحاً أبو عمر رحمه الله في كتاب الدرر له أهـ. 457 - * روى الطبراني عن رافع بن خديج: لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارث

_ 457 - المعجم الكبير (4/ 268) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 133): ورجاله ثقات.

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان والذراري فيه فقال: إن ألم بكن أحد فألمعن بالسيف، فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له بجدان أحد بني جحاش على فرس حتى كان في أصل الحصن، ثم جعل يقول للنساء: انزلن إلى خير لكن فحركن السيف فأبصره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر الحصن قوم فيهم رجل من بني حارثة يقال له: ظهير بن رافع، فقال: يا بجدان ابرز فبرز إليه، فحمل عليه فرسه فقتله، وأخذ رأسه فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 458 - * روى الطبراني عن نافع قال: قيل لابن عمر: أين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الأحزاب؟ قال: كان يصلي في بطن الشعب عند خربة هناك، ولقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف للناس ثم أمرني أن أدعوهم فدعوتهم. 459 - * روى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها" فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. 460 - * روى الدارمي وابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) (1) قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في

_ = ألم: ألم بالقوم: أتاهم فنزل بهم. ألمعن: أشرن وحركن. 458 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 135)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 459 - البخاري (7/ 405)، 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. ومسلم (1/ 438) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 36 - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. 460 - الدارمي في مسنده (1/ 358)، كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة وابن خزيمة في صحيحة (3/ 100)، كتاب الصلاة، باب الصلاة جماعة بعد ذهاب وقتها. وأحمد نحوه في مسنده (3/ 25). - والنسائي نحوه (2/ 18) عن ابن مسعود، كتاب الأذان، باب الاكتفاء بالإقامة لكل صلاة. الهوي: الساعة من الليل. (1) الأحزاب: 25.

فقه هذه الروايات

وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك وذلك قبل أن ينزل (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً) (1). والجمع بين الروايات القائلة بتأخير العصر وحدها والروايات القائلة بتأخير الظهر والعصر والمغرب، أن هذا كان في يوم، وهذا كان في يوم، على رأي النووي رحمه الله. فقه هذه الروايات: وفي فقه هذه الروايات يقول ابن كثير في البداية والنهاية: وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث وقد حررنا ذلك نقلاً واستدلالاً عند قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) (2)، وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والأوزاعي وقد بوب البخاري ذلك واستدل بهذا الحديث وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة - كما سيأتي - "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" (3) وكان من الناس من صلى العصر في الطريق ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف واحداً من الفريقين، واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر سنة عشرين في زمن عمر حين صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال واقتراب فتح الحصن. وقال الدكتور البوطي: لقد فاتت النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر كما قد رأيت في هذه الموقعة،

_ (1) البقرة: 239. (2) البقرة: 238. (3) أخرجه البخاري (7/ 407)، 64 - كتاب المغازي - 30 - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. ومسلم (3/ 1391) 22 - كتاب الجهاد والسير - 23 باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين. ولكن بلفظ: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة ... ".

لشدة انشغاله، حتى صلاها قضاء بعد ما غربت الشمس، وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته، أكثر من صلاة واحدة، صلاها تباعاً بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها. وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة. ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزاً إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركباناً عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ - على فرض صحته - ليس وارداً على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال. أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخاً لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضاً، بل هي مسكوت عنها، فتبقى على مشروعيتها السابقة. ومن أدلة هذه المشروعية أيضاً ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند منصرفه إلى المدينة من غزوة الأحزاب "لا يصلين أحد العصر - أو الظهر - إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم وقت الصلاة في الطريق فقال البعض: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فصلاها الفريق الأول بعد وصولهم إلى بني قريظة قضاء. إذا ثبت وجوب قضاء المكتوبة بعد فواتها، فسيان أن يكون سبب الفوات نوماً أو إهمالاً وتركاً متعمداً، إذ لم يرد - بعد ثبوت الدليل العام على وجوب قضاء الفائتة عموماً - أي دليل يخصص مشروعية القضاء ببعض أسباب التفويت دون بعضها الآخر، والذين تركوها في طريقهم إلى بني قريظة، لم يكونوا نائمين ولا ناسين. فمن الخطأ إذاً أن تخصص مشروعية قضاء الفائتة المكتوبة - مع ذلك - بما عدا التفويت المتعمد. وهو أشبه ما يكون بمن يخصصها ببعض المكتوبات دون بعض، بدون أي مخصص شرعي. وربما توهم البعض أنه قد ثبت دليل يخصص عموم أدلة مشروعية القضاء، وهو المفهوم المخالف لحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، ولكن هذا وهم لا ينبغي أن يدخل على طالب علم متبصر. فالمقصود بالحديث ليس هو أمر الناسي والنائم بقضاء الصلاة، دون غيرهما، ولكن المقصود التركيز على القيد، وهو "إذا ذكرها" وذلك

للتنبيه إلى أنه لا يشترط لمن فاتته صلاة وأراد تداركها أن ينتظر حلول وقتها من اليوم الثاني ثم يؤديها إذ ذاك. بل عليه أن يبادر إلى قضائها بمجرد التذكر، في أي وقت كان. فإذا عرفت أن هذا هو مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك صيغة الحديث نفسها وكما ذكر ذلك علماء الحديث وشراحه عرفت أنه لا دلالة تشريعية تتعلق بالمفهوم المخالف للنوم أو النسيان في الحديث. أهـ. أقول: ثم إن المذاهب الأربعة اتفقت على وجوب القضاء على الناسي والنائم والمتعمد. 461 - * روى البزار عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأناها عليك خيلاً ورجالاً فقال: "حتى أستأمر السعود" - سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يعني يشاورهما -، فقالا: لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام؟ فرجع إليه الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد قال: فقال حسان: يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لا يغدر إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبر وأمانة النهدي حيث لقيتها ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر قال: فقال الحارث: كف عنا يا محمد لسان حسان فلو مزج به ماء البحر لمزجه. ورواه الطبراني (2) ولفظه عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد شاطرنا تمر المدينة فقال: "حتى أستأمر السعود" فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن خيثمة وسعد بن مسعود، فقال: "إني قد

_ 461 - البزار: كشف الأستار (3/ 331)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الخندق. الدنية: الخصلة المذمومة. السخبر: شجر تألفه الحيات فتسكن في أصوله. (2) مجمع الزوائد (6/ 132)، وقال عنه وعن رواية البزار السابقة: رواه البزار والطبراني ... ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. أقول: ذكر سعد بن خيثمة وسعد بن الربيع وهم من الراوي لأن خيثمة استشهد في بدر وابن الربيع استشهد يوم أحد قبل الخندق.

علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وإن الحارث سألكم تشاطروه تمر المدينة فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا ثم تنظروا في أمركم بعد". فقالوا: يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله أو عن رأيك وهواك فرأينا تبع لهواك ورأيك وإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا شراء أو قرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو ذا تسمعون ما يقولون" قالوا: غدرت يا محمد. فقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لا يغدر وأمانة المري حين لقيتها ... كسر الزجاجة صدعها لا يجبر إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبر هذا الحديث يطرح ثلاثاً من أخطر القضايا التي تواجه الأمة الإسلامية دائماً: القضية الأولى: قضية المصالحة على مال. والقضية الثانية: قضية الشورى. والقضية الثالثة: تفتيت الصف المعادي. (1) فلو أن كيان المسلمين في قطر أو في العالم تعرض لخطر الاستئصال، أو أن أمنهم أصبح في خطر فهل لهم في هذه الحالة أن يعطوا تنازلات مادية ولو بأن يدفعوا مالاً؟ الظاهر من الحديث أن ذلك جائز ولكنه ليس مفروضاً، وقد نص فقهاء الحنفية على هذه المسألة فأجازوا دفع المال للعدو إذا أصبح يهدد الوجود الإسلامي. والمسألة في عصرنا قد تأخذ طابعاً أكثر تعقيداً فقد تصبح في خطر خفي أو تتعرض لخطر خفي وجهة ما هي القادرة على الإنقاذ، وهي لا تفعل إلا بشروط، فإذا كانت الشروط مادية بحتة فللمسلمين ذلك، ولهم ألا يفعلوا والفتوى من أهلها، والشورى والمصلحة هي التي تحكم هذه الأمور، وقد تشتبك المصالح وتتعارض مصالح الأمة

والأفراد. والحاكم والمحكوم، وكل ذلك ينبغي أن يخضع إلى موازنات عند أهل التقوى لتقرير ما هو المصلحة في النهاية. (2) والقضية الثانية هي إلزامية الشورى، فههنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل على رأي السعدين وهما ممثلا الأنصار، وبعض الروايات تذكر أن هذا النزول كان بعد أن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم العقد ولكنه لم يمضه، وكذلك نزل عليه الصلاة والسلام على رأي الأكثرية يوم أحد، هذا النزول على رأي ممثلين لجهة أو على رأي الأكثرية يجعلنا نقول بإلزامية الشورى للأمير ولكنها إلزامية تخضع لقواعد فصلناها في أكثر من مكان في كتبنا، فالشورى ينبغي أن تعطى لأهلها وإذا أعطيت لأهلها فرأي أكثريتهم ملزم في نفي الضرر أو في استجلاب المصلحة، ومع ذلك يعطي الأمير فرصة تعميم الشورى على دائرة أدنى أو أعلى، ولكن يبقى رأي الأكثرية هو الملزم، وكل ذلك على ضوء القواعد الدستورية أو النظامية المتفق عليها بين المسلمين، وإنما نشترط هذا لأن بعض العلماء لا يرى إلزامية الشورى للأمير، فإذا ما وجد شرط الإلزامية لم يعد لأحد متكأ في رفض شورى الأكثرية من أهلها (فالمسلمون عند شروطهم) (1)، وعندئذ فللمرشح للإمرة الحق في أن يقبل الإلزامية فيكون أميراً أو يرفض فلا يكون، وللذين يرفضون إلزامية الشورى نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل على رأي الأكثرية يوم أحد وهو يعلم أن رأيهم خطأ، وها هو هنا نزل على رأي ممثلي الأنصار وهم أصحاب العلاقة مع أنه كان مقتنعاً بوجهة النظر الأخرى، أليس هذا يدل في حده الأدنى على سنية النزول على رأي الأكثرية صاحبة العلاقة، فإذا كانت المسألة في حدها الأدنى سنة، ألا يحق للمسلمين أن يعتمدوها؟ ألم يشترط الخضر على موسى وهو - أي الخضر - دونه؟ والتزم موسى، ألا يكفي هذا للقول: بأن المسلمين إذا اشترطوا على أميرهم أن ينزل على شوراهم فلهم ذلك! أليس مصلحة المسلمين في عصرنا تستدعي ذلك؟ وهل يسع عصرنا

_ (1) ذكره البخاري معلقاً (4/ 451) 37 - كتاب الإجارة - 14 - باب أجر السمسرة. - وأبو داود مطولاً (3/ 304)، كتاب الأقضية، باب في الصلح. عن أبي هريرة بلفظ (على شروطهم).

هزيمة الله عز وجل للأحزاب

إلا هذا؟ على أنه لا مانع أن يفوض المسلمون من شاؤوا في أمر أو حكم فضلاً عن أن يفوضوا أميرهم، وفي حادثة حكم سعد في بني قريظة مأنس لمن يرى ذلك. (3) قوله عليه الصلاة والسلام في تعليل مفاوضته لغطفان على ثلث ثمار المدينة (إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) دليل لما ذكر من قبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف في عمله السياسي ألا يجتمع الأعداء عليه صفاً واحداً وموقفه ههنا دليل على أن هذا كان هدفاً له، وهذا يصل بنا إلى عدد من الأمور: 1 - أن تحاول الحركة الإسلامية التفتيش عن ثغرات القوى المعادية. 2 - أن محاولة التحالفات مع بعض الأطراف لا حرج منها، فالهدف الاستراتيجي حيد من تستطيع تحييده، اجعل في جانبك من تستطيع كسبه، فتش عن المتعاطفين معك مهما كانت الأسباب، واجعل ثقتك في هذا بالله أولاً واحكم التوكل عليه، ولا تنس الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام والمسلمين. * * * هزيمة الله عز وجل للأحزاب: 462 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: "نعم: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح. 463 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم

_ 462 - أحمد في مسنده (3/ 3). 463 - البخاري (6/ 106) 56 - كتاب الجهاد - 98 - باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. ومسلم (3/ 1363) 32 - كتاب الجهاد والسير - 7 - باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.

وزلزلهم" وفي (1) رواية: "اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم". 464 - * روى البزار عن حذيفة أن الناس تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جاثم من النوم، فقال: "يا ابن اليمان! قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب. فانظر إلى حالهم" قلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلا حياء من البرد. قال: "انطلق يا ابن اليمان، فلا بأس عليك من برد ولا حر، حتى ترجع إلي" فانطلقت حتى آتي عسكرهم. فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، وقد تفرق الأحزاب عنه، فجئت حتى أجلس فيهم، فأحس أبو سفيان أنه قد دخل فيهم من غيرهم، فقال: ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، قال: فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده. فلبثت فيهم هنيهة، ثم قمت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فأومأ إلي أن أدنو. فدنوت حتى أرسل علي من الثوب الذي كان عليه ليدفئني، فلما فرغ من صلاته قال: "يا ابن اليمان! اقعد، ما خبر الناس؟ " قلت: يا رسول الله! تفرق الناس عن أبي سفيان فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا، ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون. 465 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: بعثني خالي عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي، وقال: "من لقيت، فقل لهم إن

_ (1) البخاري (6/ 120) 56 - كتاب الجهاد - 112 - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس. 464 - البزار: كشف الأستار (2/ 335)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الخندق. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 136)، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. جاثم: من النوم: جثم: لزم مكانه. إلا حياء من البرد: أي: إلا حياء منك بسبب شدة البرد. 465 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 135)، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح. فاستأذنته: أي في الرجوع إلى بيتي من شدة البرد.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا" وكان ذلك في برد شديد فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا، قال، فلا والله ما عطف علي منهم اثنان أو واحد. الظاهر أن الناس لم يلتفتوا لكلمة ابن عمر لصغره؛ ولأن الإذن كان قد حصل مباشرة قبل ذلك، والبرد شديد. 466 - * روى مسلم عن يزيد بن شريك رحمه الله قال: كنا عند حذيفة، فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ " فسكتنا، فلم يجبه منا أحد، ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ " فسكتنا، فلم يجبه منا أحد ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ " فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟ " فسكتنا، فلم يجبه منا أحد، فقال: "قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم" فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: "اذهب، فائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي"، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت،

_ = عطف: رجع وانصرف. 466 - مسلم (3/ 1414) 32 - كتاب الجهاد والسير - 36 - باب غزوة الأحزاب. لا تذعرهم: أي: لا تفزعهم ولا تحركهم علي. يصلي ظهره: صليت اللحم أصليه صليا: إذا شويته، وصليت الرجل ناراً: إذا أدخلته فيه، فجعلته يصلاها، والمراد به هاهنا: إدفاء ظهره بالنار. كبد القوس: وسطها. قررت: أقر: أي أصابني القر، وهو البرد.

فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت علي يصلي فيها. فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: "قم يا نومان". 467 - * روى البخاري عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - حين أجلى الأحزاب عنه - "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم". قال الحافظ في "الفتح": وفيه علم من أعلام النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في السنة المقبلة، فصدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم. وروي (1) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعاً كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يغزوكم بعدها أبداً، ولكن تغزوهم". 468 - * روى الطبراني عن ابن شهاب قال: استشهد يوم الخندق من الأنصار أنس بن معاذ بن أوس بن عبد عمرو. ومن الأنصار ثم من بني سلمة: ثعلبة بن غنمة. قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم: سعد بن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل. والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشيمان السلميان وكعب بن زيد النجاري أصابه سهم غرب فقتله قال: وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير وعمرو بن عبد ود العامري قتله علي بن أبي طالب

_ = يا نومان: النومان: كثير النوم، قال الجوهري: وهو مختص بالنداء. 467 - البخاري (7/ 405) 64 - كتاب المغازي - 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. (1) البزار: كشف الأستار (3/ 336) كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الخندق. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 139) رواه البزار، ورجاله ثقات. 468 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 143)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود وابنه حسل بن عمرو. قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود ويقال: عمرو بن عبد أهـ. 469 - * روى أحمد عن عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت: فسمعت وئيد الأرض ورائي - يعني حس الأرض - قالت: فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة قالت: فجلست إلى الأرض فمر سعد وعليه درع من حديد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، قالت: فمر وهو يرتجز ويقول: لبث قليلاً يدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل قالت: فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه سبغة له يعني مغفراً، فقال عمر: ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز؟ قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها، قالت: فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله، فقال: يا عمر ويحك، إنك قد أكثرت منذ اليوم: وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل، قالت ويرمي سعداً رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له فقال له خذها وأنا ابن العرقة فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله عز وجل

_ 469 - أحمد في مسنده (6/ 141). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 136): رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات. - وأورده الحافظ ابن الكثير في تاريخه (4/ 214) ثم قال: وهذا الحديث إسناده جيد وله شواهد من وجوه كثيرة. وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة ومرة بعد ذلك كما قلنا أولاً ولله الحمد والمنة. المجنة: بكسر الميم وفتح الجيم، هو الترس؛ لأنه يواري حامله أي يستره والميم زائدة. المغفر: بوزن المنبر، هو ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد ونحوه. السبغة: شيء من حلق الدروع، والزرد يعلق بالمغفر دائراً معه يستر الرقبة وجيب الدرع. التحوز: المراد بالتحوز: الإشارة إلى قوله تعالى: (أو متحيزاً إلى فئة). الأكحل: عرق في وسط الذراع في كل عضو منه شعبة.

سعد فقال اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت فرقأ كلمه وبعث الله عز وجل الريح على المشركين فكفى الله عز وجل المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فوضع السلاح، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أقد وضعت السلاح؟ والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم. قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله، فقال: "من مر بكم؟ " فقالوا: مر بنا دحية الكلبي. وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام، فقالت: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم واشتد البلاد قيل لهم. انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انزلوا على حكم سعد بن معاذ" فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه وحف به قومه، فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: وإنه لا يرجع إليهم شيئاً ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد أنى لي أن لا أبالي في الله لومة لائم، قال: قال أبو سعيد: فلما طلع على (1)

_ = رقأ: الدمع والدم: جف وسكن وانقطع. كلمة: بفتح الكاف وسكون اللام، أصل الكلم: الجرح، والكليم: الجريح. صياصيهم: أي حصونهم، جمع صيصية، وكل شيء امتنع به وتحصن به فهو صيصية. أدم: الأدم: الجلود. ثناياه: الثنايا: الأسنان المتقدمة. النقع: هو الغبار كما فسره الراوي، والمعنى أن أثر غبار الحرب باق عليه. الإكاف: هو ما يشد على ظهره الحمار، كالرجل للبعير والسرج للفرس. أنى: معناه: آن لي أن لا أبالي، بمعنى آن، قال في النهاية: هل أنى الرحيل؟ أي: حان وقته، تقول: أنى يأنى، وفي رواية هل آن؟.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال: أنزلوه فأنزلوه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم" قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. وقال يزيد ببغداد: ويقسم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله" قالت: ثم دعا سعد قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك صلى الله عليه وسلم من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، قالت: فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل (رحماء بينهم) قال علقمة قلت: أي أمة فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته. قال في فتح الباري: واختلف في عدة مقاتلي بني قريظة: فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستمائة وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة، كانوا سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة. وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال إن الباقين كانوا أتباعاً، وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل إنهم كانوا تسعمائة. وفي قصة بني قريظة من الفوائد وخبر سعد بن معاذ جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت. وفيها تحكيم الأفضل من هو مفضول. وفيها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خلافية في أصول الفقه. والمختار الجواز سواء كان بحضور النبي (1)

_ = قال يزيد ببغداد: معناه أن شيخ الإمام أحمد حدثه مرة أخرى ببغداد بلفظ (ويقسم) بالياء والتحتية بدل التاء الفوقية. الخرص: بضم الخاء المعجمة وسكون الراء: الحلقة الصغيرة من الحلي، وهو حلي الأذن، أنه لم يبق من جرح سعد إلا مثل حلقة الخرص من قلة ما بقي منه.

صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك، لأنه بالتقرير يصير قطعياً، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم كما في هذه القصة وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتيل أبي قتادة كما سيأتي في غزوة حنين وغير ذلك. ومن فوائد هذه القصة ما ذكره البوطي: القيام إكراماً للقادم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكباً دابته أن يقوموا إليه تكريماً له، ودل على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وقد استدل عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم في المناسبات الداعية إلى ذلك عرفاً. يقول الإمام النووي تعليقاً على هذا الحديث: فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام. قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياماً طول جلوسه. قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. ومن الأحاديث الثابتة الدالة أيضاً على ذلك، ما جاء في حديث كعب بن مالك المتفق عليه، وهو يقص خبر تخلفه عن غزوة تبوك، قال: فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام غلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره - فكان كعب لا ينساها لطلحة -. ومن ذلك أيضاً ما رواه الترمذي وأبو داود (1) والبخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها، ثم

_ (1) الترمذي (5/ 700)، 50 - كتاب المناقب - 61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. - وأبو داود (4/ 355)، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام.

أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت غليه فقبلته. واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار" لأن مشروعية إكرام الفضلاء وتوقيرهم لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته، بل إن من أبرز صفات الصالحين والفضلاء أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهاداً في طلب هذا الشيء. أرأيت إلى الفقير المحتاج؟ إن الأدب الإسلامي يوصيه ويعلمه الترفع عن المسألة وإظهار الفاقة والحاجة للناس، ولكن هذا الأدب الإسلامي نفسه يوصي الأغنياء بالبحث عن هؤلاء الفقراء المتعففين ويأمرهم بإكرامهم وإعطائهم من فضول أموالهم. أهـ. 470 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ، فقطعوا أكحله - أو أبجله - فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فتركه، فنزفه الدم، فحسمه أخرى، فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه فحكم: أن يقتل رجالهم، ويستحيا نساؤهم، يستعين بهن المسلمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت حكم الله فيهم". وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه، فمات. 471 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حاربت

_ 470 - الترمذي (4/ 144)، 22 - كتاب السير - 29 - باب ما جاء في النزول على الحكم، وقال: هذا حديث حسن صحيح. أبجله: الأبجل: عرق، وهو من الفرس والبعير بمنزلة الأكحل من الإنسان. فحسمه: الحسم: الكي لينقطع الدم. تستحيا: الاستحياء: الإبقاء، وهو استفعال من الحياة. 471 - البخاري (7/ 329) - 64 - كتاب المغازي - 14 - حديث بني النضير. ومسلم نحوه (3/ 1387)، 32 - كتاب الجهاد والسير - 20 - باب إجلاء اليهود من الحجاز.

قريظة والنضير، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم، لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع - وهم رهط عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة. 472 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم، موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة. 473 - * روى الطبراني عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب نزع لمته واغتسل واستجمر، زاد دحيم في حديثه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتبدا لي جبريل عليه السلام، فقال: عذيرك من محارب، ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد" فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، فعزم على الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فلبس السلاح وخرجوا، فلم يأتوا بني قريظة حتى غابت الشمس، فاختصم الناس في غزوتها في صلاة العصر، فقال بعضهم: قد عزم علينا أن لا نصلي العصر حتى نأتي بني قريظة، وإنما نحن في عزمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم، فصلت طائفة منهم العصر إيماناً واحتساباً، وطائفة أخرى لم تصل حتى أتوا بني قريظة بعد ما غابت الشمس فصلوها إيماناً واحتساباً، فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين. وروي (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأ؛ زاب: "لا

_ 472 - البخاري (7/ 407)، 64 - كتاب المغازي - 30 - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم. ساطعا: أي: مرتفعاً. 473 - المعجم الكبير (16/ 80) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 140): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل وهو ثقة. استجمر: تبخر بعود الطيب. عذيرك: المراد: من يعذرك كمحارب إذا وضعت السلاح. عزمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: في طاعته التي عزم علينا بها. (1) البخاري (7/ 407) 64 - كتاب المغازي - 30 - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب.

يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم. قال في الفتح: قوله (لا يصلين أحد العصر) كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري، ووقع في جميع النسخ عند مسلم "الظهر" مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون. وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر، وقيل للطائفة التي بعدها العصر، وكلاهما جمع لا بأس به. قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه: أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه. وفيه: أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب. قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، قال: والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان قال: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهاً من التأويل فهو مصيب انتهى. والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري. وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضاً: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب وأن حكم الله تابع لظن المجتهد. وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده، وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ وله أجر واحد. ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.

وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلوا العصر بعد ما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا أن يكون ذلك عاماً في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولاسيما والزمان زمان التشريع، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك من إثم لعنف من أثم، أهـ. 474 - * روى أبو داود والترمذي عن عطية القرظي رضي الله عنه قال: عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت، فخلي سبيلي. وللنسائي (1) قال: كنت يوم حكم سعد في بني قريظة غلاماً، فشكوا في، فلم يجدوني أنبت، فاستبقيت، فها أنا ذا بين أظهركم. (أنبت) أراد بالإنبات: نبات شعر العانة، فجعله علامة على البلوغ، وليس ذلك حداً إلا في أهل الشرك عند الأكثرين، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: الإنبات حد يقام به الحد على من أنبت، ويحكى مثل ذلك عن مالك رحمه الله، فأما من جعله مخصوصاً بأهل الشرك فيشبه أن يكون أن أهل الشرك لا يوقف على بلوغهم من جهة السن، ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عنهم، وأداء الجزية، وغير ذلك من الأحكام، بخلاف المسلمين، فإنهم يمكن أن تعرف أوقات بلوغهم وولادتهم.

_ 474 - أبو داود (4/ 141)، كتاب الحدود، باب الغلام يصيب الحد. والترمذي واللفظ له (4/ 145)، 22 - كتاب السير - 29 - باب ما جاء في النزول على الحكم. وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (1) النسائي: (6/ 155) كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي.

فوائد من غزوتي الأحزاب وقريظة

475 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يقتل من نسائهم - تعني بني قريظة إلا امرأة، إنها لعندي تحدث، تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته، قالت فانطلق بها فضربت عنقها، فما أنسى عجباً منها: أنها تضحك ظهراً وبطناً، وقد علمت أنها تقتل. 476 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) (1) قالت: كان ذلك يوم الخندق. * * * فوائد من غزوتي الأحزاب وقريظة 1 - في هاتين الغزوتين تظهر لك الكفاءة النبوية العالية، وتظهر المعجزات الخارقات، والمعجزات والكمالات هما النبوة والرسالة، وكثيرون من الناس وهم يتحدثون عن محمد عليه الصلاة والسلام لا يحسنون العرض المتكامل فهم إما يبرزون الكفاءة على حساب المعجزة، وإما يظهرون المعجزة على حساب الكفاءة، مع أن الكفاءة والمعجزة توأمان في حق الأنبياء جميعاً، وذلك كله مظهر الحكمة الربانية في اختيار الرسل، ومظهر التأييد الرباني للرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم بين توفيق وتأييد معجز أو سببي، ولكن يبقى لعالم الأسباب في حياة الرسل عليهم الصلاة والسلام محله العريض لأن الأصل في

_ 475 - أبو داود (3/ 54)، كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، وإسناده حسن. حدث: قال الخطابي: يقال إن الحدث الذي أحدثته: أنها شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن هشام في الحديث الذي أحدثته: أنها قتلت صحابياً هو خلاد بن سويد طرحت عليه الرحا. 476 - البخاري (7/ 399)، 64 - كتاب المغازي 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. ومسلم (4/ 2316)، 54 - كتاب التفسير، حديث (3030). زاغت الأبصار: مالت عن مكانها، وذلك كما يعرض للإنسان عند الخوف. الحناجر: جمع الحنجرة، وهي الحلقوم. (1) الأحزاب: 10.

التكليف ليس الخارق وإنما هو عالم الأسباب، والرسل هم القدوة، والناس عامة محكومون بعالم الأسباب، ولذلك فأنت عندما تدرس المعجزات التي حدثت في هذه المرحلة لا تجدها تؤثر على قضايا الاقتداء المرتبطة بعالم الأسباب، بمعنى أن ما حدث في هاتين الغزوتين يمكن إدخاله في دائرة التفكير والتدبير والاستعانة بالله أولاً وأخيراً، وبعضه لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة خاصة، وبعضه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تطلبه من الله، وفضل الله واسع، مثال ذلك: تكثير الطعام القليل هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة ونحن علينا أن ندبر الطعام لجندنا وهذا جزء من القدوة، والريح كانت معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ندعو الله أن يؤيدنا بما لا نحتسب، وفضل الله واسع. 2 - وحول الخندق قال السباعي رحمه الله: وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الإسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع، فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة، دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم. واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة، فلما أراد إنفاذ كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له: إن من عادة الملوك ألا يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه: محمد رسول الله، وصار يختم به كتبه، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب فتح مكة تعلن إسلامها، قيل له: يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى له حلة يستقبل بها الوفود، وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر، فإن مما تحتمه مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى، مما يفيدهم، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الإسلام الذي يقول في دستوره الخالد: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (1) ولا طبيعة

_ (1) الزمر: 17، 18.

رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من الأمم الأخرى، ولهذا قيل: (الحكمة ضالة المؤمن يلتمسها أنى وجدها) (1) ويوم غفل المسلمون في العصور الأخيرة، وخاصة بعد عصر النهضة الأوربية عن هذا المبدأ العظيم في الإسلام، وقاوموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة إليه، أصيبوا بالانهيار، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم (ولله عاقبة الأمور) (2). أهـ. 3 - قال الشيخ الغزالي حفظه الله: إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع. ومع تلك الحقيقة فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام إذ إن مصير هذه الرسالة العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة وفقد السيطرة على موقفه، لهوى من مرتفعه إلى واد سحيق، ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلاً أو نهاراً. وبين الحين والحين يتطلع المدافعون: هل اقتحمت خطوطهم في ناحية ما من منطقة الدفاع؟ وكان المشركون يدورون حول المدينة غضاباً يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها فينفسوا عن حنقهم المكتوم، ويقطعوا أوصال هذا الدين الثائر. وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب، ويتحملون لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والجبل، وتتسع ثغورها يوماً بعد يوم وهم كما وصف الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي

_ (1) الترمذي نحوه (5/ 51) 42 - كتاب العلم - 19 - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، بلفظ: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي، يضعف في الحديث من قبل حفظه. وابن ماجه مثل رواية الترمذي (2/ 1395) 37 - كتاب الزهد - 15 - باب الحكمة. (2) الحج: 41.

المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) (1) أهـ. 4 - وقال الدكتور البوطي: لقد كان من جملة الوسائل الحربية التي استعملها المسلمون في هذه الغزوة حفر الخندق، ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة في التاريخ العربي والإسلامي يحفر فيها الخنادق، إذ هو مما كان متعارفاً بين الأعاجم فقط، وقد رأيت أن الذي اقترح ذلك في غزوة الأحزاب إنما هو سلمان الفارسي، وقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان ما دعا أصحابه إلى القيام بتحقيقها. وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الحكمة هي ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها بل هو أولى بها من غيره، وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد. فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد، هي أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماماً يسلم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضاً لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلم به العقل النير والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه. وقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة هذه أحكاماً هامة نجملها فيما يلي: أولاً - (جواز قتال من نقض العهد)، وقد جعل الإمام مسلم رحمه الله هذا الحكم عنواناً لغزوة بني قريظة، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه والتزامه على المسلمين، ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان

_ (1) الأحزاب: 10، 11.

وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك. ثانياً - (جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم)، قال النووي رحمه الله: فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح للحكم، وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم، وأقام الحجة عليهم. وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم. ثالثاً - (مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها)، وفي اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (1) " على النحو الذي روينا، مع عدم تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم أحداً نهم أو معاتبته - دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذوراً ومثاباً، سواء قلنا إن المصيب واحد أو متعدد كما أن فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية. وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية، أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم، فالله سبحانه وتعالى تعبد عباده بنوعين من التكاليف: أحدهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك. ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، فليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أن يبذل كل ما لديه من وسع لمعرفة جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهة ما، استقبلها فصلى إليها.

_ (1) سبق تخريجه في صفحة (90) من هذا الجزء.

ثم إن هنالك حكماً باهرة لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية ظنية الدلالة غير قطعية. من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألة ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعاً، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيها شاءوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصر وزمن. وإذا تأملت هذا، علمت أن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل. إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما ما دام دليلها ظنياً محتملاً؟ لو أمكن ذلك أن يتم في عصر ما، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟! أهـ. * * *

فصل: في قتل أبي رافع

فصل: في قتل أبي رافع هو زعيم يهودي اسمه سلام بن أبي الحقيق رحل من المدينة مع بني النضير وأقام بخيبر. قال ابن القيم: قدمنا أن أبا رافع كان ممن ألب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقتل مع بني قريظة كما قتل صاحبه حيي بن أخطب، ورغبت الخزرج في قتله مساواة للأوس في قتل كعب بن الأشرف، وكان الله - سبحانه وتعالى - قد جعل هذين الحيين يتصاولان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيرات، فأستأذنوه في قتله، فأذن لهم، فانتدب له رجال كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وهو أمير القوم، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن أسود، فساروا حتى أتوه في خيبر فقتلوه. 477 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم، فقتله. وفي رواية (1) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه - وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم - فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه، كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود، قال: فقمت

_ 477 - البخاري (7/ 340) 64 - كتاب المغازي - 16 - باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق. رهطا: الرهط: الجماعة من الناس دون العشرة. (1) البخاري في نفس الموضع السابق. بسرحهم: السرح: المواشي، لأنها تسرح نهاراً في المرعى. الأقاليد: والأغاليق: المفاتيح.

إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب - وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له - فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت علي من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي، لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، عن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته، ولم أقتله، ثم وضعت صبيب السيف في بطنه، حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له،. فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم: أقتلته؟ فلما صاح الديك: قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فقال: لي: "ابسط رجلك" فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط. وفي رواية (1) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا

_ = ود: الود: الوتد في لغة تميم. يسمر: السمر: الحديث في الليل. نذروا: نذر القوم بفلان: إذا علموا به. فأهويت إلى الشيء: إذا مددت يدك إليه. ظبة السيف: طرفه، وجمعها ظبى، وصبيب السيف قد اختلفوا فيه، فقيل: هو بالصاد المهملة، وهو طرفه، قال الحربي: هو آخر ما بلغ سيلانه حين ضرب وعمل، وقيل: هو بالظاء المعجمة، ولا أرى له معنى، وأما ظبة السيف: فطرفه، وقد ذكرت، وأما بالضاد المعجمة: فلا مدخل له ها هنا، والصحيح: أنه بالصاد المهملة كما قلنا، والله أعلم. النجاء: أي اطلبوا النجاة، وهي الخلاص من طلب العدو. (1) البخاري (7/ 341) 64 - كتاب المغازي - 16 - باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق.

أنتم، حتى أنطلق أنا فأنظر، قال: فتلطفت أن أدخل الحصن، ففقدوا حماراً لهم، قال: فخرجوا بقبس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي كأني أقضى حاجة، ثم نادى صاحب الباب: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت، ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات، ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته، ففتحت به باب الحصن، قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم، فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل؟ فقلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئاً. قال: ثم جئت كأني أغيثه، فقلت: مالك يا أبا رافع، وغيرت صوتي، فقال: ألا أعجبك؟ لأمك الويل، دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت له أيضاً فأضربه أخرى فلم تغن شيئاً، فصاح، وقام أهله قال: ثم جئت، وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ عليه، حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشاً، حتى أتيت السلم، أريد أن أنزل، فأسقط منه، فانخلعت رجلي، فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا، فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية، فقال: أنعى أبا رافع، قال: فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته. وفي رواية (1): بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه .......

_ = بقبس: القبس: الشعلة من النار. هدأت: الأصوات، أي: سكنت. كوة: الكوة: الثقبة النافذة في الحائط يدخل منها الهواء والضوء. انكفأ: ينكفئ انكفاء: إذا رجع من حيث جاء. أحجل: الحجل مشي قريب الخطو كمشي المقيد. (1) البخاري (6/ 155) 56 - كتاب الجهاد - 155 - باب قتل النائم المشرك.

فخرجت فيمن خرج، أريهم أنني أطلبه معهم، فوجدوا الحمار، فدخلوا ودخلت، فأغلقوا باب الحصن ليلاً، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها، فلما ناموا أخذت المفاتيح، ففتحت باب الحصن، ثم دخلت عليه ... ثم ذكر نحوه في قتل أبي رافع ووقوعه من السلم، قال: فوثئت رجلي، فخرجت إلى أصحابي، فقلت: ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فقمت وما بي قلبة، حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه. قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر، وقتل من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس (1) على أهل الحرب وتطلب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين؛ والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته، والله أعلم. 478 - * روى مالك عن عبد الرحمن بن كعب رضي الله عنهما أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قتلوا ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان؟ قال: فكان رجل منهم يقول: برحت بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح، فأرفع السيف عليها، ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكف ولولا ذلك استرحنا منها. * * *

_ =وثئت: قدمه فهي موثوءة - تهمز ولا تهمز -: إذا توجعت وتألمت، والمراد به ها هنا: أنها انخلعت وكادت. الناعية: النادبة والنائحة، والجمع: النعايا، ويكون للرجل، والهاء فيه زائدة للمبالغة، لا للتأنيث. برحت: برح به الأمر، أي أضر به ولقي منه شدة. قلبة: يقال ما به قلبة: أي ما به من ألم يحتاج أن ينقلب ليبصر، وقيل هو من القلبة، وهو داء يأخذ البعير في قلبه فيقتله. (1) التجسيس: تجسس الخبر: جسه، ومنه الجاسوس، من يتجسس الأخبار. 478 - مالك في الموطأ (2/ 447) 21 - كتاب الجهاد - 3 - باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو. قال ابن عبد البر: اتفق رواة الموطأ على إرساله. برحت: برح به الأمر: أضر به ولقي منه شدة.

فصل: في زواجه عليه الصلاة والسلام بزينب بنت جحش

فصل: في زواجه عليه الصلاة والسلام بزينب بنت جحش زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها أميمة بنت عبد المطلب وهي التي زوجها الله سبحانه وتعالى بنبيه لمصلحة تشريع، بينه في سورة الأحزاب. 479 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: "اذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال: فقال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه، يسلم عليهن، ويقلن: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري، أنا أخبرته: أن القوم قد

_ 479 - مسلم (2/ 1048) 16 - كتاب النكاح - 15 - باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس. لزيد: هو زيد بن حارثة الذي سماه الله سبحانه في تلك السورة من كتابه. فاذكرها علي: أي فاخطبها لي من نفسها. تخمر عجينها: أي تجعل في عجينها الخمير. قال المجد: وتخمير العجين تركه ليجود. فلما رأيتها عظمت في صدري .. : معناه أنها هابها واستجلها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها. فعاملها معاملة من تزوجها صلى الله عليه وسلم، في الإعظام والإجلال والمهابة. وقوله: أن رسول الله .. هو بفتح الهمزة من أن أي من أجل ذلك. وقوله: نكصت، أي رجعت. وكان جاء إليها ليخطبها وهو ينظر إليها، على ما كان من عادتهم. وهذا قبل نزول الحجاب. فلما غلب عليه الإجلال تأخر. وخطبها وظهره إليها، لئلا يسبقه النظر إليها. إلى مسجدها: أي موضع صلاتها من بيتها. ونزل القرآن: يعني نزل قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرأ زوجناكها) فدخل عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا: أي رأيت أنفسنا. حين امتد النهار: أي ارتفع. هكذا هو في النسخ: حين، بالنون.

جوانب من كمال شخصيته عليه السلام

خرجوا، أو أخبرني، قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه فنزل الحجاب، قال: ووعظ القوم بما وعظوا به. زاد في رواية: ذكر الآية (لا تدخلوا بيوت النبي) إلى قوله - (لا يستحيي من الحق) (1). ولمسلم في رواية (2) أبي كامل، قال: سمعت أنسا يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة. 480 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب بعثت أم سليم حيساً في تور من حجارة، قال أنس: فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب فادع من لقيت من المسلمين" فذهبت فما رأيت أحداً إلا دعوته قال: ووضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الطعام ودعا فيه، وقال: "ما شاء الله" قال فجعلوا يأكلون ويخرجون، وبقيت طائفة في البيت فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحيي منهم وأطالوا الحديث فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم في البيت، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) يعني غير متحينين، حتى بلغ (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) (3). جوانب من كمال شخصيته عليه السلام: ذكرنا قصة زواجه عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله عنها ههنا لإدراك جانب

_ (1) الأحزاب: 53. (2) مسلم في نفس الموضع السابق (2/ 1049). غير ناظرين إناه: أي غير منتظرين لإدراكه. والإنى كإلى، مصدر أنى يأني، إذا أدرك ونضج. ويقال: بلغ هذا إناه، أي غايته، ومنه حميم آن، وعين آنية، وبابه رمى. 480 - المستدرك (2/ 417)، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. الحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن وتسوى كالثريد. تور: إناء يشرب فيه، وجمعه أتوار. (3) الأحزاب: 53.

من شخصيته عليه الصلاة والسلام وكمالاتها، فهذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي رأيته في الغزوات والعمل السياسي أعظم ما يمكن أن يكون إنسان تجده في قضاياه الشخصية على مثل هذا الحياء والتحمل لأصحابه، حتى إنه لا يواجههم بطلب شخصي يذكرهم بواجب ذوقي ما دام هذا الأمر مرتبطاً به. بل إنك لتجد أن حسن الأدب معه عليه الصلاة والسلام وأدب التعامل يتنزل به القرآن. فيخرج بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإحراجات في شؤون كانت تضايقه ويحرج بالتنبيه عليها. كما أنه في قصة زينب نجد مظهراً من مظاهر الكمال ودليلاً من أدلة الرسالة فكثيراً ما يحدث أن تغيير تشريع أو سن قانون أو إنهاء عادة يحتاج إلى مقدمات وتمهيدات، وقد يوافق الغرض وقد لا يوافق، وقد ينجح وقد لا ينجح، وههنا تجد أن نظام التبني وهو نظام عميق الجذور في حياة العرب وفي حياة البشر يهدم بضربة واحدة بنزول آيات فيه، وبزواج محمد صلى الله عليه وسلم ممن كانت زوجة لمتبناه، فينتهي بذلك نظام التبني من المجتمع الإسلامي الحق، إلى الأبد. * * *

فوائد عامة من أحداث السنة الخامسة

فوائد عامة من أحداث السنة الخامسة 1 - لقد برز لنا في أحداث هذه السنة ومن قبل كان بارزاً وسنرى ذلك دائماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه أخبار تحشدات الأعداء في أوائلها فلم يكن يفاجأ بحادثة ولا تدبير يدبره الأعداء، وهذا يجعلنا أمام أهم قضية في الحرب والسلم، وهي قضية أجهزة المخابرات، إن العالم كله قد أدرك اليوم أنه بقدر ما يكون جهاز المخابرات قوياً فإن ذلك يعوض عليك أشياء كثيرة ويجنبك أشياء خطيرة، صحيح أن ذلك قد يكلف ولكن مهما كانت التكلفة فالربح أكبر، إنه بالنسبة لأي نظام يشكل جهاز المخابرات عينه التي تكشف الخطأ والخطر فتتلافى الأخطاء وتستأصل الأخطار قبل وقوعها، ومهما يقال بالنسبة لأجهزة المخابرات فالمسألة أخطر وأكبر، وكل ما يمكن أن تحققه أجهزة المخابرات في العالم كان يتحقق لرسول الله أحياناً عن طريق عالم الأسباب وأحياناً عن طريق الغيب، فكم من مؤامرة كشفها جبريل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا لم يكن ليغفل فذلك تكليفه ولقد كانت تتجمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلومات من مصادر متعددة، سراياه الاستطلاعية، المسلمون المتخفون، المتعاطفون مع المسلمين، المعاهدون، الفراسة واستكشاف ما وراء السطور، المهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يفاجأ بتآمر داخلي أو تهديد خارجي وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضية يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضوابط الشرعية. 2 - لقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدافع عن عاصمته، فهي معقله الأول والأخير على قلة العدد وكثرة العدو، وهذا يجعلنا أمام قاعدة مهمة أنه لا خيار في القتال عندما يصل العدو إلى العاصمة أو المعقل الأخير، أما إذا كان الانسحاب إلى معقل أو قيادة فهذا يدخل في التحيز إلى فئة. ولكن مع هذا فقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يدخل في قتال تصادمي مع جيوش تفوق جيشه، وهذا يوصلنا إلى فكرة البحث عن أجدى الوسائل لتجنب الاستئصال، فليست مهمات القيادة أن تقاتل أو تجهز للقتال فقط بل من مهماتها أن تفكر في أن تكون خسائرها أقل إن فاتها أن تجعل خسائرها معدومة. فإذا عرفنا أنه لم يقتل من المسلمين في غزوة الأحزاب إلا ستة أدركنا كيف أن مبدأ الاقتصاد في القوى كان مطبقاً على أرقاه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك درس للقيادات التي لا تبالي بعدد الضحايا

في المعارك الرئيسية أو الجانبية. 3 - أسوأ القادة هم الذين لا يستطيعون أن يسيطروا على العصبيات، فضلاً عن أن ينزلوا في حمأتها، وأفضل القادة هم الذين يعرفون خصائص الناس ويعرفون لكل حقه ويستطيعون أن يضعوا الإنسان المناسب في المكان المناسب ويحسنون توجيه الطاقات، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء هو الأرقى، ومن ذلك هذا الجانب، فالجزيرة العربية مهد العصبيات، العصبية للأسرة وللشعب وللقبيلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محل قيادته المباشرة هم العرب، فكان لابد أن يسيطر على العصبيات، وأن يصهرها بعصبية واحدة هي العصبية للإسلام وأهله، وأن يستفيد بعد ذلك من خصائص الناس ومن تنافسهم، وإنك لتجد كيف أن هذا كله قد تهيأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفلت الزمام من يده مرة واحدة على كثرة المحاولات من يهود ومن المنافقين لإركاس الناس في هذه الحمأة، تجد ذلك في مواقف كثيرة وسنرى في أحداث السنة السادسة نموذجاً على ذلك، وفي تنافس الأوس والخزرج على الفضائل بما يخدم الإسلام نموذج على الجانب الآخر، ومقتل أبي رافع الذي فعلته الخزرج لتكافئ الأوس في قتلها لكعب بن الأشرف بيان لهذا الجانب من حياته عليه الصلاة والسلام في الاستفادة من العصبية بما يخدم الإسلام. 4 - المبادرة في العمل السياسي تشكل جانباً مهماً منه أو ركناً من أركانه، والسياسي الناجح هو الذي يبادر في الوقت المناسب إذا وجد استعداداً، ويفسد مبادرة خصمه إذا بادر الخصم إلى ما يضره، والسياسي المسلم مقيد دائماً بالحق والعدل والحكم الشرعي والمصلحة، ولكن لابد أن يمتلك في حدود ذلك قوة المبادرة وقوة تجنب مبادرة الخصوم الضارة وما أصعب ذلك، والملاحظ أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالمبادرات، فمبادرته بكتابة العهود بينه وبين سكان المدينة، ومبادراته بالعقود، ومبادرته ضد استعدادات الآخرين نماذج، وفي قصة الأحزاب تجد الذين أقدموا على مبادرة التجميع ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم اليهود، واليهود في كل زمان ومكان يمتلكون الجرأة على المبادرات، ولكن مبادرتهم تلك ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كارثة عليهم، وهذا من توفيق الله له عليه الصلاة والسلام ثم من كمالاته، على كل الأحوال فإن على الحركة الإسلامية أن تبادر. وأن تمتلك القدرة على التصرف أمام

تقويم الموقف في نهاية السنة الخامسة

مبادرات الخصوم. 5 - في كثير من الأحيان تضطر القيادات السياسية والعسكرية لمواقف لابد منها، وفي مثل هذه المواقف لا يفرق بين الخائن والأمين إلا الثقة، فمن وثق قال عن قائده أمين ومن لم يثق قال عنه خائن، ولذلك لا يصح بالنسبة للقيادات الإسلامية أن تخدش الثقة، والقيادات الإسلامية في هذه الحالة بين أمرين: إما أن تستقيل، أو تتنزه عن مواطن الشبهات، وما عدا ذلك فإنه خيار صعب وقد يكون فاسداً، وعلى كل الأحوال فهذا يجعلنا نؤكد على أنه يجب أن تبذل كافة الجهود لتبنى الثقة في القيادات على أرقاها، فذلك هو الطريق الوحيد للوصول إلى القرار الحكيم، نقول هذا بمناسبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على غطفان ثلث ثمار المدينة في مقابل أن يتميزوا عن قريش. صحيح أن ذلك لم يبرم، ولكن هل أثر عرض رسول الله على الثقة فيه؟ ترى من يستطيع الآن من القيادات الإسلامية أن يعرض عروضاً ما على الكافرين بسبب ظروف صعبة ثم لا يكون محل تهمة لدى إخوانه؟ هذا الوضع يجب أن تتحرر الحركة الإسلامية منه، يجب أن يكون تقديرها للموقف سليماً وعلى ضوء ذلك تتخذ قرارها المناسب، كائناً ما كان ما دام شرعياً وفيه مصلحة، وعليها أن تربي الصف على الثقة، وعلى القيادات أن تكون جديرة بهذه الثقة. * * * تقويم الموقف في نهاية السنة الخامسة لقد انتهت غزوة الأحزاب في الظاهر بسلامة الفريقين وتكافئهما، ولكن الأمر في حقيقته كان غير ذلك، فلقد سجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة انتصاراً من أعظم انتصاراته، لقد كان هو المنتصر الأكبر على الساحة جميعها سياسياً وعسكرياً وإعلامياً ونفسياً، فعندما يرجع جيش مقداره عشرة آلاف وهو أضخم جيش عرفته الجزيرة العربية حتى يومها، دون أن يحقق شيئاً ضد جيش قوامه ثلاثة آلاف فذلك وحده خسارة لهذا الجيش، فإذا ما أضيف إلى ذلك أن هذه أول تجربة لتجميع العرب المشركين ضد محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تجربة فاشلة فهذا يعني أنها لن تتكرر وذلك ربح آخر، ولئن ترتب على هذه الغزوة استئصال قريظة بسبب غدرها فذلك يعني أن المسلمين لن يؤتوا مرة أخرى من

داخلهم وذلك ربح، فإذا ما اجتمع مع ذلك أن قريشاً رجعت يائسة لأنها مع غيرها لن تستطيع أن تفعل شيئاً فكيف بها وحدها؟ وإذن فقريش لن تعيد الكرة وذلك كذلك ربح وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدلف إلى السنة السادسة في أفضل وضع سياسياً وعسكرياً وسنرى كيف أنه استفاد من هذه الظروف كلها أيما استفادة فحقق في السنة السادسة أعظم انتصار في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة. * * *

السنة السادسة للهجرة

السنة السادسة للهجرة

أحدث السنة السادسة في سطور

أحدث السنة السادسة في سطور كان الموقف الذي تمخضت عنه أحداث السنة الخامسة يحتاج إلى استثمار، ولا أعرف في تاريخ العالم أحداً يستطيع أن يستثمر وضعاً كما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى في السنة السادسة نموذج على ذلك، فلقد صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم زخم (1) السرايا والبعوث كما لم يفعل من قبل وبذلك ثبت القبائل كلها، كل في مكانه، وفي هذا الجو أعلن أنه يريد العمرة وبهذا بلغ صلى الله عليه وسلم قمة الموقف، فالقبائل مثبتة، وشعار العمرة لا يرفضه أحد، وبهذا دخلت قريش في أكبر إحراج سياسي وعسكري، فلو شاءت أن تستنفر العرب لقتال لا تجد من يستجيب، فمن يقاتل من يريد العمرة؟! ولو أرادت أن تتحد لقتال فإنها لا تستطيع لأنه لا يمكن أن يجتمع أهل مكة على قتال العمار فلم يكن أمامها إلا أن تصالح، وبهذا الصلح حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر انتصار سياسي، فبهذا الصلح ترك الشرك بلا رأس ولا قيادة، وبهذا أصبح وحده سيد الموقف، وأصبح بإمكانه أن يضرب حيث شاء دون أن يخشى تجمع الأطراف ضده، فقد أصبح أبناء الجزيرة أمامه أفراداً أو فئات قليلة، وهذا أعطاه فرصاً كبيرة منها: فتح خيبر وغيرها كما سنرى في أحداث السنة السابعة، وفي خضم هذه الإنجازات الهائلة نجد مشكلات في غاية الضخامة، ومتاعب كثيرة، وكل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل معه على أقوى ما يكون التعامل ولا نستبق الأحداث. فلنبدأ بما اعتدنا أن نبدأ به من ذكر أحداث السنة في سطور، ولعلك من هذه السطور تتعرف على بعض ما ذكرناه. * * *

_ (1) زخم: زخمه زخماً: دفعه دفعاً شديداً.

أهم أحداث هذه السنة في سطور

أهم أحداث هذه السنة في سطور * في عشر من المحرم سنة ست للهجرة أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية على رأسها محمد بن مسلمة في ثلاثين راكباً قبل نجد فسارت بناحية القرطاء بناحية ضرية (1) بالبكرات من أرض نجد، وداهمت بطناً من بني بكر بن كلاب، فلما أغارت عليهم هربوا واستاق المسلمون نعمهم وشاءهم وأسروا ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة الذي كان قادماً لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان عاقبة أمره أن أسلم. * وفي ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هـ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمر ماء لبني أسد! ففر القوم وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة، ثم كانت السرايا التالية: قال المباركفوري: * سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هجرية خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم - وهم مائة فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً. * سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم. وغنموا نعماً وشاء. * سرية زيد بن حارثة إلى الجموم في ربيع الآخر سنة 6 هـ. والجموم ماء لبني سليم في مر الظهران، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعماً وشاء وأسرى، فلما قفل بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها.

_ (1) ضرية: قرية بين البصرة ومكة.

* سرية زيد أيضاً إلى العيض في جمادى الأولى سنة 6 هـ في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص ختن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه، ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاح الأول لأن آية تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك (2). * سرية زيد أيضاً إلى الطرف أو الطرق في جمادى الآخرة سنة 6 هـ خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال. * سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى في رجب سنة 6 هـ خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القرى لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القرى. فقتلوا تسعة وأفلت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة. * سرية الخبط (3) - تذكر هذه السرية في رجب سنة 8 هـ. ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية، قال جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمى جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى إلينا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر. وادهنا (4) منه حتى

_ (1) الختن: المراد زوج ابنته زينب رضي الله عنها. (2) وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معنى، كما أنه ليس بصحيح سنداً. (3) الخبط: ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض. (4) ادهنا منه: انتفعنا من دهنه.

ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمه وشائق (1)، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء، تطعمونا" فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) منه. وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية. * وفي 2 شعبان سنة 6 للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بني المصطلق، بعد أن بلغه أن الحارث بن أبي ضرار يحشد له يريد غزو المدينة، وكانت معركة قصيرة هرب فيها المشركون وانتصر المسلمون، وفي هذه الغزوة حدثت حادثة الإفك، كما حاول المنافقون أن يحدثوا فتنة بين المسلمين ولكن الله سلم، وتمخضت هذه الغزوة عن زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجويرية بنت الحارث رضي الله عنها. ثم والى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسال السرايا: قال المباركفوري: * سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدومة الجندل، في شعبان سنة 6 هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: "إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم" فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبع، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم. * سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك في شعبان سنة 6 هـ وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود. فبعث إليهم علياً في مائتي رجل،

_ (1) وشائق: وشق اللحم: شرحه وقدده وجففه. (2) أخرجه البخاري بنحوه (9/ 615). 72 - كتاب الذبائح والصيد. 12 - باب قول الله تعالى: (أحل لكم صيد البحر). - ومسلم واللفظ له (3/ 1536). 34 - كتاب الصيد والذبائح 4 - باب إباحة ميتات البحر.

وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، وكان رئيسهم وبر بن عليم. * سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رمضان سنة 6 هـ. كان بطن فزارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق فأغار عليهم وقتل وأسر وسبى وكان من شياطينهم أم قرفة التي جهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوا وسبيت ابنتها ففدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أسارى المسلمين في مكة. * سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين في شوال سنة 6 هـ وذلك أن رهطاً من عكل وعرينة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المرعى، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل وكفروا بعد غسلامهم، فبعث في طلبهم كرزاً الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين: "اللهم اعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك" فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، جزاء وقصاصاً بما فعلوا فقد جمعوا بين قتل الراعي وسمل عينيه، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا. وحديثهم في الصحيح عن أنس (1). وبعد هذا الزخم من العمليات المتواصلة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعظم ضربة سياسية إذ أعلن أنه يريد العمرة إلى بيت الله الحرام غرة ذي القعدة، وقد تمخض ذلك عن صلح الحديبية الذي يعتبر نصراً ساحقاً من وجهة النظر السياسية كما سنرى.

_ = مسك: الموضع الذي يمسك الماء من الجريان. (1) أخرجه البخاري (7/ 458) 64 - كتاب المغازي - 36 - باب قصة عكل وعرينة. - ومسلم نحوه (3/ 1296) 28 - كتاب القسامة - 2 - باب حكم المحاربين والمرتدين.

وبعد أن آب إلى مدينته المباركة وجه مباشرة رسائل إلى الملوك المعروفين في عصره يدعوهم فيها إلى الله، ثم توجه في بداية السنة السابعة نحو تصفية السلطان السياسي لليهود في جزيرة العرب فكانت غزوة خيبر في أوائل السنة السابعة، وذكر ابن كثير أنه في سنة ست هذه فرض الحج على رأي الشافعي رحمه الله. ولقد درجنا في هذا القسم على أن نعقد فصولاً لأهم الأحداث أو لأحداث نريد أن نعلق عليها تاركين بعض الموضوعات إلى محالها من هذه السلسلة، كما درجنا أن نقف وقفات خاصة عند أحداث السيرة التي نزل بسببها أو فيها قرآن، ولقد نزل قرآن في حادثتين وقعتا في غزوة بني المصطلق ونزل قرآن في حادثة الحديبية ومراعاة لهذا كله فسنعقد خمسة فصول لهذه السنة: فصل: في غزوة نجد وإسلام ثمامة بن أثال. فصل: في غزوة المريسيع وبني المصطلق. فصل: في العرنيين. فصل: في صلح الحديبية. فصل: في مراسلات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء والأمراء. * * *

فصل: في غزوة نجد وإسلام ثمامة بن أثال

فصل: في غزوة نجد وإسلام ثمامة بن أثال 481 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع رسول الله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم. * * *

_ 481 - البخاري (8/ 87) 64 - كتاب المغازي - 7 - باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال. ومسلم (3/ 1386) 32 - كتاب الجهاد والسير - 19 - باب ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه. تقتل ذا دم: تقتل صاحب دم له به موقع يشتفي بقتله قاتله ويدرك قاتله به ثأره لرياسته وفضيلته وقيل تقتل من عليه دم مطلوب به وهو مستحق لذلك فلا عتب عليك في قتله (عن القاضي عياض في شرح صحيح مسلم). صبوت: أي: خرجت من دينك؟.

فصل: في غزوة المريسيع

فصل: في غزوة المريسيع 482 - * روى الطبراني عن سنان بن وبرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق، فكان شعارهم يا منصور أمت أمت. 483 - * روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حيان كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلح قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق، يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية، وقتل من قتل منهم، ونفل الله رسوله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب منهم سبياً كثيراً، قسمه في المسلمين وكان فيما أصاب يومئذ من النساء جويرية بنت أبي ضرار سيدة نساء قومها. 484 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عون رحمه الله قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى

_ 482 - المعجم الكبير (7/ 101)،. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 142): رواه الطبراني في الأوسط الكبير، وإسناد الكبير حسن. المريسيع: اسم ماء من ناحية قديد إلى الساحل. 483 - المعجم الكبير (24/ 60). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 142): رواه الطبراني في الأوسط والكبير، إسناد الكبير حسن. نفل القالد الجند: أعطاهم ما غنموا. 484 - البخاري (5/ 170) 49 - كتاب العتق - 13 - باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية. ومسلم (3/ 1356) 32 - كتاب الجهاد والسير - باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة. الدعاء قبل القتال: أراد بالدعاء: الإنذار، وأن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم.

1 - وفي هذه الغزوة حدثت حادثة الإفك

سبيهم وأصاب يومئذ جويرية. وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش. قال النووي في شرح مسلم: وفي هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي، أحدها: يجب الإنذار مطلقاً، قاله مالك وغيره، وهذا ضعيف. والثاني: لا يجب مطلقاً، وهذا أضعف منه أو باطل. والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم، لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه. 1 - وفي هذه الغزوة حدثت حادثة الإفك: 485 - * روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: كانت غزوة بني المصطلق في شعبان سنة ست وفي تلك الغزوة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه، أقرع بين نسائه فخرج سهمها. وفي تلك الغزوة قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل الله عز وجل براءتها. قال البخاري (1): وهي غزوة المريسيع، قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست، وقال النعمان بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. 486 - * روى البخاري ومسلم عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير

_ = غارون: الغرة: الغفلة، ورجل غار، وقوم غارون. سبيهم: سبيت العدو سبياً: إذا أسرته، واستوليت عليه. جويرية: تصغير جارية، هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي جويرية بنت الحارث. 485 - المعجم الكبير (23/ 162). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 142): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (1) البخاري (7/ 428) 64 - كتاب المغازي 32 - باب غزوة بني المصطلق. 486 - البخاري (7/ 431) 64 - كتاب المغازي - 34 - باب حديث الإفك.

وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ين قال لها أهل الإفك ما قالوا. فبرأها الله مما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها. وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض. وأثبت اقتصاصاً. وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث. الذي حدثني. وبعض حديثهم يصدق بعضاً. ذكروا؛ أن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً، أقرع بين نسائه. فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها. فخرج فيها سهمي. فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك بعدما أنزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه، مسيرنا. حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه، وقفل، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل. فقمت حين آذنوا بالرحيل. فمشيت حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل. فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع. فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب. وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافاً. لم يهبلن ولم يغشهن اللحم. إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه. وكنت جارية حديثة (1)

_ = وأيضاً البخاري (8/ 452) 65 - كتاب التفسير - 6 - باب لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم". ومسلم (4/ 2129) 49 - كتاب التوبة - 10 - باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف. الإفك: الكذب، وأراد به: قذف عائشة رضي الله عنها. أوعى: أحفظ. آذن: أي أعلم، يعني: نادى بالرحيل. جزع أظفار: الجزع هنا: الحجر اليماني المعروف، وإضافته إلى أظفار: تخصيص له، وفي اليمن موضع يقال له: ظفار، والرواية في الحديث "أظفار - وظفار". لم يهبلن: أي لم يكثر لحمهن من السمن فيثقلن، والمهبل: الكثير اللحم، الثقيل الحركة من السمن، وقد روي "لم يهبلن. العلقة: بضم العين: البلغة من الطعام قدر ما يمسك الرمق، تريد: القليل.

السن فبعثوا الجمل وساروا. ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش. فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. فتيممت منزلي الذي كنت فيه. وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني، قد عرس من وراء الجيش فادلج. فأصبح عند منزلي. فرأى سواد إنسان نائم. فأتاني فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أني ضرب الحجاب علي. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فخمرت وجهي بجلبابي. ووالله! ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها. فانطلق يقود بي الراحلة. حتى أتينا الجيش. بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني. وكان الذي تولى كبره. عبد الله بن أبي ابن سلول. فقدمنا المدينة. فاشتكيت، حين قدمنا المدينة، شهراً. والناس يفيضون في قول أهل الإفك. ولا أشعر بشيء من ذلك. وهو يربني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول (1)

_ = داع ولا مجيب: أي ليس بها أحد، لا من يدعو، ولا من يرد جوابا. عرس فادلج: التعريس: نزول آخر الليل نزلة الاستراحة، والإدلاج - بالتشديد -: سير آخر الليل. عرس من وراء الجيش: قال الحافظ في الفتح: قال أبو زيد: التعريس. النزول في السفر في أي وقت كان. وقال غيره: أصله: النزول من آخر الليل في السفر للراحة. ووقع في حديث ابن عمر: بيان سبب تأخر صفوان، وكان صفوان سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أن يجعله على الساقة، فكان إذا رحل الناس قام يصلي، ثم اتبعهم، فمن سقط له شيء أتاه به. وفي حديث أبي هريرة وكان صفوان يتخلف عن الناس، فيصيب القدح والجراب والإداوة وفي مرسل مقاتل بن حيان فيحمله فيقدم به فيعرفه أصحابه" وكذا في مرسل سعيد بن جبير نحوه. الاسترجاع: هو قول القائل: (إنا لله وإنا إليه راجعون). بجلبابي: الجلباب: ما يتغطى به الإنسان من ثوب أو إزار. موغرين: الوغرة: شدة الحر، ومنه يقال: وغر صدره يوغر: إذا اغتاظ وحمي، وأوغره غيره، فيكون قوله: موغرين، أي: داخلين في شدة الحر. نحر الظهيرة: الظهيرة: شدة الحر، ونحرها: أولها، ونحر كل شيء: أوله. كبر الإفك: الكبر - بكسر الكاف وضمها ها هنا - معظم الإفك. يفيضون: الإفاضة في الحديث: التحدث به والخوض فيه بين الناس. يريبني: رابني الشيء يريبني: شككت فيه، ولا يكون ريبا إلا في شك مع تهمة.

"كيف تيكم؟ " فذاك يريبني. ولا أشعر بالشر. حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع. وهو متبرزنا. ولا نخرج إلا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه. وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق. وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب. فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي. حين فرغنا من شأننا. فعثرت أم مسطح في مرطها. فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت. أتسبين رجلاً قد شهد بدراً. قالت: أي هنتاه! أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت، فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضاً إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسلم ثم قال "كيف تيكم؟ " قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت، وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه! ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية! هوني عليك. فوالله! لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا كثرن عليها. قالت قلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس (1)

_ = تيكم: بالمثناه المكسورة، وهي إشارة للمؤنث مثل ذاكم للذكر. واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء، ولكنها لما لم تكن تدري السبب ولم تبالغ في التنقيب عن ذلك حتى عرفته. المناصع: المواضع الخالية تقضى فيها الحاجة من الغائط والبول، وأصله: مكان فسيح خارج البيوت، واحدها: منصع. الكنف: جمع كنيف. وهو الساتر، والمراد به هنا: المكان المتخذ لقضاء الحاجة. مرطها: المرط: كساء من صوف أو خز يؤتزر به، وجمعه مروط. تعس: الإنسان: إذا عثر، ويقال في الدعاء على الإنسان: تعس فلان، أي: سقط لوجهه. هنتاه: يقال: امرأة هنتاه، أي: بلهاء، كأنها منسوبة إلى البله وقلة المعرفة بمكائد الناس وفسادهم. وضيئة: الوضاءة: الحسن، ووضيئة: فعيلة بمعنى: فاعلة. قلت سبحان الله: قال الحافظ في الفتح قوله: فقلت: سبحان الله استغاثت بالله متعجبة من وقوع مثل ذلك في حقها مع براءتها المحققة عندها.

بهذا؟ قالت، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي. يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال: يا رسول الله! هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك. والنساء سواها كثير. وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال "أي بريرة! هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. فاستعذر من عبد الله بن أبي، ابن سلول. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (1)

_ = فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة .. : قال الحافظ: ظاهره: أن السؤال وقع بعد ما علمت بالقصة، لأنها عقبت بكاءها تلك الليلة بهذا، ثم عقبت هذا بالخطبة. ورواية هشام بن عروة تشعر بأن السؤال والخطبة وقعا قبل أن تعلم عائشة بالأمر، فإن في رواية هشام عن أبيه عن عائشة لما ذكر من شأني الذي ذكر، وما علمت به، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر قصة الخطبة الآتية، ويمكن الجمع بأن الفاء في قولها (فدعا) عاطفة على شيء محذوف، تقديره: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد سمع ما قيل، فدعا عليا. استلبث الوحي: قال الحافظ في الفتح: قوله استلبث الوحي بالرفع: أي طال لبث نزوله، وبالنصب: أي استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم نزول الوحي. هم أهلك: قال الحافظ في الفتح: "هم أهلك" أي العفيفة اللائقة بك، ويحتمل أن يكون قال ذلك متبرئاً من المشورة، ووكل الأمر إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف بذلك، حتى أخبر بما عنده، فقال (ولا نعلم إلا خيراً) وإطلاق (الأهل) على الزوجة شائع، قال ابن التين أطلق عليها أهلاً، وذكرها بصيغة الجمع، حيث قال: (هم أهلك) إشارة إلى تعميم الأزواج بالوصف المذكور. ا. هـ، ويحتمل أن يكون جمع لإرادة تعظيمها. قال الكرماني حول قول علي: (لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير): وإنما قال علي رضي الله عنه ذلك: تسهيلاً للأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإزالة لما هو متلبس به، تخفيفاً لما شاهده فيه، لا عداوة لها، حاشاهم عن ذلك. إن رأيت: ما رأيت فيها مما تسالون عنه شيئاً أصلاً، وأما من غيره: ففيها ما ذكرت من غلبة النوم لصغر سنها، ورطوبة بدنها، قاله الحافظ في (الفتح). أغمصه: الغمص: العيب. الداجن: الشاة التي تالف البيت وتقيم به، يقال: دجن بالمكان إذا أقام به. فاستعذر: يقال: من يعذرني من فلان، أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه، فلا يلومني، واستعذر:

"يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي. فوالله! ما علمت على أهلي إلا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً. وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه. يا رسول الله! إن كان من الأوس ضربنا عنقه. وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً. ولكن اجتهلته الحمية. فقال لسعد بن معاذ: كذبت. لعمر الله! لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت. لعمر الله! لنقتلنه. فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخنزرج. حتى هموا أن يقتتلوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها. فجلست تبكي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسلم ثم جلس: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. وقد لبث شهراً لا (1)

_ = استفعل من ذلك، أي قال: من يعذرني؟ فقال له سعد بن معاذ: أنا أعذرك، أي أقوم بعذرك. وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً: أي كامل الإصلاح. قال الحافظ في الفتح حول قول أسيد لسعد بن عبادة فإنك منافق تجادل عن المنافقين: أطلق أسيد ذلك مبالغة في زجره عن القول الذي قاله. وأراد بقوله: (فإنك منافق) أي: تصنع صنيع المنافقين. وفسره بقوله (تجادل عن المنافقين) وقابل قول سعد بن معاذ (كذبت لا تقتله) بقوله هو (كذبت لنقتلنه) وقال المازري: إطلاق أسيد لم يرد به نفاق الكفر. وإنما أراد: أنه كان يظهر المودة لقومه الأوس. ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك. فأشبه حال المنافق، لأن حقيقة النفاق: إظهار شيء وإخفاء غيره. ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم. اجتهلته الحمية: الاجتهال: افتعال من الجهل، أي: حملته الحمية، وهي الأنفة والغضب على الجهل، واحتملته: افتعلته من الحمل. يخفضهم: يهون عليهم ويسكنهم. فأصبح عندي أبواي: قال الحافظ في "الفتح": أي، أنهما جاءا إلى المكان الذي كنت به من بيتهما، لا أنها رجعت من عندهم إلى بيتها، ووقع في رواية محمد بن ثور عن معمر "وأنا في بيت أبوي". فالق: فاعل، من فلق الشيء: إذا شقه.

يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: "أما بعد. يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله. وإن كنت ألممت بذنب. فاستغفري الله وتوبي إليه. فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه" قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال: والله! ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله! ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت، وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني، والله! لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به. فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقونني. وإني، والله! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. قالت: ثم تحولت فاضجعت على فراشي. قالت وأنا، والله! حينئذ أعلم أني بريئة. وأن الله مبرئي ببراءتي. ولكن، والله! ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي (1)

_ = ألممت: الإلمام: المقاربة، وهو من اللمم: صغار الذنوب وقيل: اللمم: مقاربة: المعصية من غير إيقاع فعل. قال في اللسان: الإلمام في اللغة، يوجب أنك تأتي في الوقت. ولا تقيم على الشيء. فهذا معنى اللمم قال أبو منصور: ويدل على صواب قوله قول العرب: ألممت بفلان إلماماً، وما تزورنا إلا لماماً. قال أبو عبيد: معناه: في الأحيان، على غير مواظبة. (وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه): قال الداودي: أمرها بالاعتراف، ولم يندبها إلى الكتمان، للفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن، ولا يكتمنه إياه، لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك. بخلاف نساء الناس، فإنهن يندبن إلى الستر. وتعقبه عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف، وإنما أمرها أن تستغفر الله، وتتوب إليه، أي فيما بينها وبين ربها. فليس صريحاً في الأمر لها بأن تعترف عند الناس بذلك، قال الحافظ: وسياق جواب عائشة يشعر بما قال الداودي، ولكن المعترف عنده ليس على إطلاقه، فليتأمل. ويؤيد ما قال عياض: أن في رواية ابن حاطب، قالت "فقال لي أبي: إن كنت صنعت شيئاً، فاستغفري الله، وإلا فأخبري رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذرك". قلص: قلص الدمع: انقطع جريانه. لا أقرأ كثيراً من القرآن: قالت هذا، توطئة لعذرها، لكونها لم تستحضر اسم يعقوب عليه السلام.

يتلى. ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى. ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رويا يبرئني الله بها. قالت: فوالله: ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم. فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي. حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، في اليوم الشات، من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة! أما الله فقد برأك" فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله! لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله. هو الذي أنزل براءتي. قالت: فأنزل الله عز وجل (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم) (1) عشر آيات. فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله! لا أنفق عليه شيئاً أبداً. بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) (2) على قوله (ألا تحبون أن يغفر الله لكم).

_ = ما رام: أي ما برح من مكانه، يقال: رام يريم: إذا برح وزال، وقلما يستعمل إلا في النفي. البرحاء: الشدة. (1) النور: 11. (2) النور: 22. الجمان: جمع جمانة: وهي الدرة، وقيل: هي خرزة تعمل من الفضة مثل الدرة. سري عنه: أي كشف عنه. (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) العشر الآيات: قال الحافظ في "الفتح": آخر العشر قوله (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) لكن وقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري فأنزل الله (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم - إلى قوله - أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) وعدد الآي إلى هذا الموضع: ثلاث عشرة آية فلعل في قولها: العشر الآيات، مجازاً بطريق إلغاء الكسر. وفي رواية الحكم بن عيينة مرسلاً عند الطبري "لما خاض الناس في أمر عائشة" فذكر الحديث مختصراً، وفي آخره: فأنزل الله خمس عشرة آية من سورة النور - حتى بلغ - (الخبيثات للخبيثين) [النور: 26] وهذا منه تجوز. فعدد الآي إلى هذا الموضع ست عشرة وفي مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم والحاكم في الإكيليل: فنزل ثماني عشر آية متوالية كذبت من قذف عائشة * إن الذين جاءوا - إلى قوله - رزق كريم* وفيه ما فيه أيضاً. وتحرير العدة: سبع عشرة آية. ولا يأتل يأتل: يفتعل، من الألية: وهي القسم، يقال: ألى وائتلى وتألى.

قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله. فقال أبو بكر: والله! إني لأحب أني غفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري: "ما علمت؟ أو ما رأيت؟ " فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري. والله! ما علمت إلا خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها. فهلكت فيمن هلك. قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط. ومن رواياته (1): قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله. ومنها (2): قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيباً فتشهد ثم قال: "أما بعد فأشيروا علي في أناس أبنوا أهلي، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء قط، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه

_ = أحمي سمعي: حميت سمعي وبصري: إذا منعتهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه. تساميني: المساماة: مفاعلة من السمو والعلو: أي أنها تطلب من السمو والعلو مثل الذي أطلب. فعصمها الله بالورع: أي منعها بالمعدلة، ومجانبة ما لا يحل. طفقت: بكسر الفاء، وحكي فتحها أي: جعلت أو شرعت. تحارب لها: أي: تجادل لها وتتعصب، وتحكي ما قال أهل الإفك أي: لتنخفض منزلة عائشة، وتعلو منزلة أختها زينب. (1) البخاري مطولاً (7/ 435)، 64 - كتاب المغازي - 34 - باب حديث الإفك. ومسلم في نفس الموضع السابق (4/ 2138). كنف: الكنف: الجانب، والمراد: ما كشفت على امرأة ما سترته من نفسها، إشارة إلى التعفف. (2) البخاري (8/ 487)، 65 - كتاب التفسير - 11 - باب (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - إلى قوله - والله غفور رحيم). أبنوا أهلي: التأبين على وجهين: فتأبين الحي: ذكره بالقبيح، ومنه قوله: أبنوا أهلي: أي ذكروهم بسوء. والثاني

من سوء قط ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقام سعد بن معاذ بنحوه* وفيه: فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح، فعثرت، وقالت: تعس مسطح، فقلت لها: أي أم أتسبين ابنك؟ فسكتت، ثم عثرت الثانية فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: أي أم أتسبين ابنك؟ فسكتت، ثم عثرت الثالثة فقالت: تعس مسطح، فانتهرتها، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك، فقلت: في أي شأني؟ فبقرت لي الحديث فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم والله فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلاً ولا كثيراً ووعكت* وفيه: وبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، وقال: أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، فسأل عني خادمي، فقالت: لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خبزها أو عجينها، وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر* وفيه فأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه* وفيه: والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف * وفيه: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك، قالت: وكنت أشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إليه فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا

_ = تأبين الميت: وهو مدحه بعد موته. فبقرت: البقر: الفتح والتوسعة والشق، والمعنى: ففتحت لي الحديث وكشفته وأوضحته. وايم الله: من ألفاظ القسم، وفيها لغات كثيرة. وأسقطوا لها به: أسقطوا به: أي: قالوا لها السقط من القول، وهو الرديء، يريد: أنهم سبوها، وقوله "به" أي بسبب هذا المعنى: وهو الذي سئلت عنه من أمر عائشة رضي الله عنها. فيكون المعنى: سبوها بهذا السبب. وقد روي هذا اللفظ على غير ما قلناه، والصحيح المحفوظ: إنما هو ما ذكرناه. والله أعلم. والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على قبر الذهب الأحمر. قال الحافظ: أي كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب، فكذلك أنا: لا أعلم منها إلا الخلوص من العيب. وفي رواية ابن أبي حاطب عن علقمة "فقالت الجارية الحبشية: والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن كانت صنعت ما قال الناس، ليخبرنك الله. قالت: فعجب الناس من فقهها.

أحمدكما ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه. ومنها (1): قال الزهري: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن علياً كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة قالت لهما: كان علي مسلماً في شأنها. ومنها (2): أنه لم يسم من أهل الإفك إلا ابن أبي، وحسان ومسطح وحمنة وأن عائشة كانت تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ومنها (3): قال مسروق: دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له، فقال: حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثي من لحوم الغوفل فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك، قال مسروق: فقلت: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) (4) فقالت: فأي عذاب أشد من العمى؟ إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) البخاري (7/ 435) 64 - كتاب المغازي - 34 - باب حديث الإفك. كان علي مسلماً في شأنها: بكسر اللام، كذا رواه القابسي، من التسليم وترك الكلام في إنكاره، وفتحها الحموي من الخوض فيه. رواه بن أبي شيبة، وعليه يدل فصول الحديث في غير من السلامة موضع، وهو رضي الله عنه منزه أن يقول ما قال أهل الإفك. كما نص عليه في الحديث، ولكن أشار بفراقها، وشدد على بريرة في أمرها، قاله الزركشي. (2) مسلم (4/ 1237) 49 - كتاب التوبة - 10 - باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف. (3) البخاري (7/ 436) 64 - كتاب المغازي - 34 - باب حديث الإفك. ومسلم (4/ 1934) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 34 - باب فضائل حسان بن ثابت، رضي الله عنه. حصان رزان: امرأة حصان: بينة الحصانة، أي عفيفة حيية، وامرأة رزان: ثقيلة ثابتة. تزن: ترمى وتقذف. بريبة: أي بأمر يريب الناس، كالرنا ونحوه. غرثى: أي: جائعة، والمذكر: غرثان. الغوافل: جمع غافلة، والمراد بها: الغفلة المحمودة، وهي ما لا يقدح في دين أو مروءة. ينافح: المنافحة: المناضلة والمخاصمة. (4) النور: 11.

فوائد من حديث الإفك

وللبخاري (1) عن أم رومان: بينا أنا قاعدة وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل بفلان، فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلا عليها حمى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما شأن هذه" قلت: يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض، قال: "فلعل في حديث تحدث به؟ " قالت: نعم، فقعدت عائشة فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون، بنحوه. فوائد من حديث الإفك قال محقق الجامع: قال العلماء: في هذا الحديث من الفوائد: جواز الحديث عن جماعة ملفقاً مجملاً. وفيه مشروعية القرعة حتى بين النساء، وفي المسافرة بهن، والسفر بالنساء حتى في الغزو. وجواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزالة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئاً عند قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق، وأن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم، وتحصيل الأجر للموقوع فيه، وفيه استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام، وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة وجواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير، ولو كان ذلك مما يشق عليه حيث يكون مطيقاً لذلك. وفيه خدمة الأجانب للمرأة من وراء الحجاب، وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن، وتوجه المرأة لقضاء حاجتها وحدها وبغير إذن خاص من زوجها، بل اعتماداً على الإذن العام المستند إلى العرف العام، وجواز تحلي المرأة في السفر بالقلادة ونحوها، وصيانة المال ولو قل للنهي عن إضاعة المال، فإن عقد عائشة لم يكن من ذهب ولا

_ (1) البخاري (7/ 436) 64 - كتاب المغازي - 34 - باب حديث الإفك. حمى بنافض: أي برعدة شديدة كأنها نفضتها أي: حركتها.

جوهر، وفيه شؤم الحرص على المال لأنها لو لم تظل في التفتيش لرجعت بسرعة. فلما زاد على قدر الحاجة أثر ما جرى. وتوقف رحيل الجند على إذن الأمير، والاسترجاع عند المصيبة، وتغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي، وإغاثة الملهوف، وعون المنقطع، وإنقاذ الضائع، وإكرام ذوي القدر وإيثارهم بالركوب، وتجشم المشقة لأجل ذلك، وحسن الأدب مع الأجانب خصوصاً النساء، ولا سيما في الخلوة، والمشي أمام المرأة ليستقر خاطرها وتأمن مما يتوهم من نظره لما عساه ينكشف منها في حركة المشي، وفيه ملاطفة الزوجة وحسن معاشرتها، والتقصير من ذلك عند إشاعة ما يقتضي النقص وإن لم يتحقق، وفائدة ذلك أن تتفطن لتغير الحال فتعتذر أو تعترف، وأنه لا ينبغي لهل المريض أن يعلموه بما يؤذي باطنه لئلا يزيد ذلك في مرضه، وفيه السؤال عن المريض والإشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة، وفيه أن المرأة إذا خرجت لحاجة تستصحب من يؤنسها أو يخدمها ممن يؤمن عليها، وفيه ذب المسلم عن المسلم خصوصاً من كان من أهل الفضل، وردع من يؤذيهم ولو كان منهم بسبيل، وبيان مزيد فضيلة أهل بدر. وفيه البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع، وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل منه، واستصحاب حال من اتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفاً بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك، وفيه فضيلة قوية لأم مسطح لأنها لم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة، بل تعمدت سبه على ذلك، وفيه مشروعية التسبيح عند سماع ما يعتقد السامع أنه كذب، وفيه توقف خروج المرأة من بيتها على إذن زوجها ولو كانت إلى أبويها، وفيه البحث عن الأمر المقول ممن يدل عليه المقول فيه، والتوقف في خبر الواحد ولو كان صادقاً، وطلب الارتقاء من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين، وأن خبر الواحد إذا جاء شيئاً بعد شيء أفاد القطع، لقول عائشة: لأستيقن الخبر من قبلهما، وأن ذلك لا يتوقف على عدد معين، وفيه استشارة المرء أهل بطانته ممن يلوذ به بقرابة وغيرها، وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب، والبحث عن حال من اتهم بشيء، وحكاية ذلك للكشف عن أمره، ولا يعد ذلك غيبة، وفيه استعمال "لا نعلم إلا خيراً" في التزكية، وأن ذلك كاف في حق من سبقت عدالته ممن يطلع على خفي أمره، وفيه التثبت في الشهادة، وفطنة الإمام عند الحادث المهم، والاستنصار بالأخصاء على الأجانب، وتوطئة العذر لمن يراد إيقاع العقاب

به أو العتاب له، واستشارة الأعلى لمن هو دونه، وأن من استفسر عن حال شخص فأراد بيان ما فيه من عيب فليقدم ذكر عذره في ذلك إن كان يعلم، كما قالت بريرة في عائشة حيث عابتها بالنوم عن العجين فقدمت قبل ذلك أنها جارية حديثة السن، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي، وأن الحمية لله ورسوله لا تذم، وفيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان ولعلي ابن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح، وجواز سب من يتعرض للباطل، ونسبته إلى ما يسوؤه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه، وإطلاق الكذب على الخطأ، والقسم بلفظ (لعمر الله) وفيه الندب إلى قطع الخصومة وتسكين ثائرة الفتنة، وسد ذريعة ذلك. واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما، وفضل احتمال الأذى، وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريباً حميماً، وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يقتل، لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع والبكاء والحزن، وفيه تثبت أبي بكر الصديق في الأمور لأنه لم ينقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهراً كلمة فما فوقها، وفيه ابتداء الكلام في الأمر المهم بالتشهد والحمد والثناء وقول: (أما بعد)، وتوقيف من نقل عنه ذنب على ما قيل فيه بعد البحث عنه، وأن قول: (كذا وكذا) يكنى بها عن الأحوال كما يكنى بها عن الأعداد ولا تختص بالأعداد، وفيه مشروعية التوبة، وأنها تقبل من المعترف المقلع المخلص، وأن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها، وأن الاعتراف بما لم يقع لا يجوز ولو عرف أنه يصدق في ذلك، ولا يؤاخذ على ما يترتب على اعترافه، بل عليه أن يقول الحق أو يسكت، وأن الصبر تحمد عاقبته ويغبط صاحبه، وفيه تقديم الكبير في الكلام، وتوقف من اشتبه عليه الأمر في الكلام، وفيه تبشير من تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة، وفيه الضحك والفرح والاستبشار عند ذلك، ومعذرة من انزعج عند وقوع الشدة لصغر سن ونحوه وإدلال المرأة على زوجها وأبويها، وتدريج من وقع في مصيبة فزالت عنه لئلا يهجم على قلبه الفرح من أول وهلة فيهلكه، وفيه أن الشدة إذا اشتدت أعقبها الفرج، وفضل من يفوض الأمر لربه، وأن من قوي على ذلك خف عنه الهم والغم، وفيه الحث على الإنفاق في سبيل الخير خصوصاً في صلة الرحم، ووقوع المغفرة

تحقيق حول وجود سعد بن معاذ في قصة الإفك

لمن أحسن إلى من أساء إليه أو صفح عنه، وأن من حلف أن لا يفعل شيئاً من الخير استحب له الحنث، وجواز الاستشهاد بآي القرآن في النوازل، والتأسي بما وقع للأكابر من الأنبياء وغيرهم، وفيه التسبيح عند التعجب واستعظام الأمر، وذم الغيبة وذم سماعها، وزجر من يتعاطاها لاسيما إن تضمنت تهمة المؤمن بما لم يقع منه، وذم إشاعة الفاحشة وتحريم الشك في براءة عائشة رضي الله عنها. وقال الزمخشري: لم يقع في القرآن من التغليظ في معصية ما وقع في قصة الإفك بأوجز عبارة وأشبعها، لاشتماله على الوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام القول في ذلك، واستشناعه بطرق مختلفة، وأساليب متقنة، كل واحد منها كاف في بابه، بل ما وقع من وعيد عبدة الأوثان، إلا بما هو دون ذلك، وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو منه بسبيل. أهـ. تحقيق حول وجود سعد بن معاذ في قصة الإفك: وحول ورود ذكر سعد بن معاذ في حادثة الإفك قال ابن حجر في الفتح: قوله (فقال سعد بن معاذ الأنصاري) كذا هنا وفي رواية معمر وأكثر أصحاب الزهري، ووقع في رواية صالح بن كيسان "فقام سعد أخو بني عبد الأشهل" وفي رواية فليح "فقام سعد" ولم ينسبه، وقد تعين أنه سعد بن معاذ لما وقع في رواية الباب وغيره. وأما قول شيخ شيوخنا القطب الحلبي: وقع في نسخة سماعنا "فقام سعد بن معاذ" وفي موضع آخر "فقام سعد أخو بني عبد الأشهل" فيحتمل أن يكون آخر غير سعد بن معاذ، فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة يسمى كل منهم سعداً، منهم سعد بن زيد الأشهلي شهد بدراً وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد، وله ذكر في عدة أخبار منها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته، قال فيحتمل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك. قلت: وحمله على ذلك ما حكاه عياض وغيره من الإشكال في ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة، والذي جوزه مردود بالتصريح بسعد بن معاذ في هذه الرواية الثالثة، فأذكر كلام عياض وما تيسر من الجواب عنه، قال عياض: في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث

إشكال لم يتكلم الناس عليه ونبهنا عليه بعض شيوخنا، وذلك أن الإفك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق؛ وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق فدعا الله فأبقاه حتى حكم في بني قريظة ثم انفجر جرحه فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة، والأشبه أنه غيره، ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في روايته، وجعل المراجعة أولاً وثانياً بين أسيد بن حضير وبين سعد بن عبادة، قال: وقال لي بعض شيوخنا: يصح أن يكون سعد موجوداً في المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع، وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق كانت سنة أربع، فيصح أن تكون المريسيع قبلها لأن ابن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان وأن الخندق كانت في شوال، فإن كانا من سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ انتهى. وقد قدمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم، نعم والراجح أن الخندق أيضاً كانت في سنة خمس خلافاً لابن إسحاق فيصح الجواب المذكور. وممن جزم بأن المريسيع سنة خمس الطبري، لكن يعكر على هذا شيء لم يتعرضوا له أصلاً، وذلك أن ابن عمر ذكر أنه كان معهم في غزوة بني المصطلق وهو المريسيع كما تقدم من حديثه في المغازي، وثبت في الصحيحين أيضاً أنه عرض في يوم أحد فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم وعرض في الخندق فأجازه، فإذا كان أول مشاهده الخندق وقد ثبت أنه شهد المريسيع لزم أن تكون المريسيع بعد الخندق فيعود الإشكال، ويمكن الجواب بأنه لا يلزم من كون ابن عمر كان معهم في غزوة بني المصطلق أن يكون أجيز في القتال، فقد يكون صحب أباه ولم يباشر القتال كما ثبت عن جابر أنه كان يمنح الماء لأصحابه يوم بدر وهو لم يشهد بدراً باتفاق. وقد سلك البيهقي في أصل الإشكال جواباً آخر بناءً على أن الخندق قبل المريسيع فقال: يجوز أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر عقب الفراغ من بني قريظة بل تأخر زماناً ثم انفجر بعد ذلك وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك، ولعله لم يشهد غزوة المريسيع

لمرضه، وليس ذلك مانعاً له أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بما أجابه، وأما دعوى عياض أن الذين تقدموا لم يتكلموا على الإشكال المذكور فما أدري من الذين عناهم، فقد تعرض له من القدماء إسماعيل القاضي فقال: الأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق للحديث الصحيح عن عائشة، واستشكله ابن حزم لاعتقاده أن الخندق قبل المريسيع، وتعرض له ابن عبد البر فقال: رواية من روى أن سعد بن معاذ راجع في قصة الإفك سعد ابن عبادة وهم وخطأ، وإنما راجع سعد بن عبادة أسيد بن حضير كما ذكره ابن إسحاق، وهو الصحيح فإن سعد بن معاذ مات في منصرفهم من غزوة بني قريظة لا يختلفون في ذلك، فلم يدرك المريسيع ولا حضرها. وبالغ ابن العربي على عادته فقال: اتفق الرواة على أن ذكر ابن معاذ في قصة الإفك وهم، وتبعه على هذا الإطلاق القرطبي. أهـ. 487 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسان بن ثابت بالسيف فضربه ضربة، فقال صفوان لحسان في الشعر حين ضربه: تلق ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر ولكنني أحمي حماي وأنتقم ... من الباهت الرامي البراة الطواهر ثم صاح حسان، فاستغاث الناس على صفوان، فلما جاء الناس فر صفوان، فجاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستعداه على صفوان في ضربته إياه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له ضربة صفوان إياه فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاضه صلى الله عليه وسلم حائطاً من نخل عظيم وجارية رومية، ويقال قبطية تدعى سيرين فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر. 488 - * روى البزار عن عائشة أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها فقالت: ألا عذرتني؟ فقال: أي سماء تظلني أو أي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم.

_ 487 - المعجم الكبير مطولاً (23/ 113). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 234): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 488 - البزار: كشف الأستار (3/ 242)، كتاب علامات النبوة، باب مناقب عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 240): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. ألا عذرتني: تعني: قبل نزول القرآن.

2 - وفي هذه الغزوة قامت فتنة بين المهاجرين والأنصار

489 - * روى البزار والطبراني في الأوسط عن عائشة قالت: لما رميت به بما رميت به، أردت أن ألقي نفسي في قليب. 2 - وفي هذه الغزوة قامت فتنة بين المهاجرين والأنصار: 490 - * روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا. وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصارياً، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى أهل الجاهلية؟ " ثم قال: "ما شأنهم؟ " فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها خبيثة" وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدين ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث؟ لعبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه". وفي رواية (3): فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. ففعل. 491 - * روى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في

_ 489 - البزار كشف الأستار (3/ 241)، كتاب علامات النبوة، باب مناقب عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 240): رواه الطبراني في الأوسط والبزار، ورجالهما ثقات. قليب: بئر، يذكر ويؤنث جمعه قلب وأقلبة. أقول: قد تكون فكرت بالانتحار قبل أن يبلغها تحريمه لشدة ما رميت به على نفسها. 490 - البخاري (6/ 546) 61 - كتاب المناقب - 8 - باب ما ينهى من دعوى الجاهلية. ومسلم نحوه (4/ 1998) 45 - كتاب البر والصلة والآداب - 16 - باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً. (3) الترمذي (5/ 418) 48 - كتاب تفسير القرآن - 64 - باب "ومن سورة المنافقين"، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 491 - البخاري (8/ 647) 65 - كتاب تفسير القرآن - 3 - باب (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم - إلى قوله - قاتلهم الله أنى يؤفكون). ومسلم (4/ 2140) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - حديث (1).

سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه. لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، قالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل الله عز وجل تصديقى في: (إذا جاءك المنافقون) (1) فدعاهم صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم، وقوله: (خشب مسندة) (2) قال: كانوا رجالاً أجمل شيء. وفي رواية (3): غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه، فسبق أعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه، حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره، فغضب، عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، يعني الأعراب، وكانوا يحضرون النبي صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن معه، ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسمعت عبد الله بن أبي، فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) المنافقون: 1. (2) المنافقون: 4. (3) الترمذي (5/ 415) 48 - كتاب تفسير القرآن - 64 - باب "ومن سورة المنافقين"، وقال: هذا حديث حسن صحيح. نبتدر: نتسابق ونسرع إليه. النطع: بساط من الجلد. قباض الماء: ما يقبض به الماء ويمسك من الحجارة وغيرها. والمعنى أن الرجل الأنصاري الذي أرخى زمام ناقته لتشرب الماء من الحوض نزع الحجارة التي جعلها الأعرابي حول الحوض ليمسك به الماء. شجه: شجاً: شق لد رأسه أو وجهه.

فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف وجحد، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبني، فجاء عمي إلي، فقال: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبك المسلمون، قال: فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني، فقال: ما قال لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: ما قال شيئاً إلا أنه عرك أذني، وضحك في وجهي، فقال: أبشر ثم لحقني عمر، فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. وفي رواية (1): أن ذلك في غزوة بني المصطلق. * * *

_ = عرك: الجلد عركاً: دلكه. (1) الترمذي في نفس الموضع السابق (5/ 418). وقال: هذا حديث حسن صحيح.

فصل: في غزوة فزارة

فصل: في غزوة فزارة 492 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا، ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبا، وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم (قال: القشع النطع)، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: "يا سلمة هب لي المرأة" فقلت: يا رسول الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني من الغد في السوق، فقال لي: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك" فقلت: هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفت لها ثوباً، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسروا بمكة. قال النووي: فيه جواز المفاداة وجواز فداء الرجال بالنساء الكافرات، وفيه جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ، ولا خلاف في جوازه عندنا، وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي به مسلماً أو يصرفه في مصالح المسلمين أو يتألف به من في تألفه مصلحة كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا وفي غنائم حنين وفيه جواز قول الإنسان للآخر لله أبوك ولله درك. وسبب هذه الغزوة أنه كان بطن فزارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فأغار عليهم وقتل واسر وسبى، وكان من شياطينهم أم قرفة التي جهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا وسبيت ابنتها، (راجع الرحيق المختوم)

_ 492 - مسلم (3/ 1375) 32 - كتاب الجهاد والسير - 14 - باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى. شن الغارة: الغارة: النهب، وشنها: تفريقها في كل ناحية. عنق: من الناس: أي جماعة (المرأة: هي أم قرفة واسمها فاطمة بنت ربيعة بن بدر). قشع: القشع: الجلد اليابس، وجمعه قشع، على غير قياس، لأن واحد قشع قشعة، مثل بدرة وبدر. النطع: نفس القشع.

فصل: في سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين

فصل: في سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارساً فردوهم. 493 - * روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه حدثهم أن ناساً من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة. فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فانطلقوا، حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. وفي رواية للبخاري (1): فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير، فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا. وفي رواية (2) عن أنس قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا.

_ 493 - البخاري (7/ 458) 64 - كتاب المغازي - 36 - باب قصة عكل وعرينة. ومسلم (3/ 1297) 28 - كتاب القسامة - 2 - باب حكم المحاربين والمرتدين. استوخموا: أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم وفي سيرة ابن هشام: أنهم طحلوا، أي: أصابهم وجع الطحال. فسمروا أعينهم: سمر: أي: كحلها بمسامير محمية. الحرة: هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة. (1) البخاري (12/ 111) 86 - كتاب الحدود - 17 - باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا. ترجل: ارتفع. وما حسمهم: حسم العرق: قطعه وكواه لئلا يسيل دمه. (2) البخاري (10/ 141) 86 - كتاب الطب - 5 - باب الدواء بألبان الإبل. وأبو داود واللفظ له (4/ 131)، كتاب الحدود، باب ما جاء في المحاربة.

قال أبو قلابة (1): فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم (2) إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء. * * *

_ = يكدم: كدماً: أحدث فيه أثراً بعض ونحوه. (1) أخرجه البخاري (1/ 335)، 4 - كتاب الوضوء - 66 - باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها. ومرابضها. (2) مسلم (3/ 1298) 28 - كتاب القسامة - 2 - باب حكم المحاربين والمرتدين.

فصل: في صلح الحديبية

فصل: في صلح الحديبية 1 - النصوص: 494 - * روى البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان - يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه - قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالنميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين" فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت. فقالوا خلات القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته،

_ 494 - البخاري (5/ 339) 54 - كتاب الشروط - 15 - باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط. قترة الجيش: هو الغبار الساطع منه، ولا تكون القترة إلا مع سواد في اللون. نذير: النذير: الذي يعلم القوم بالأمر الحادث. بالثنية: الثنية: الطريق المرتفع في الجبل. حل حل: زجر للناقة، و"حوب" زجر للجمل. فألحت: ألح البعير: إذا حرن، وقيل: إنما يقال ذلك للجمل، فأما الناقة فإنما يقال لها: خلأت. القصواء: القصواء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن قصواء، أي مشقوقة الأذن، وإنما كان هذا لقباً لها. حابس الفيل: الفيل: هو فيل أبرهة الذي جاء يقصد البيت ليخربه، فحبس الله الفيل، فلم يتقدم إلى مكة، ورد رأسه راجعاً من حيث جاء، فأرسل الله عليهم كما قال: (طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل) والقصة مشهورة. خطة: الخطة: الحال والقضية والطريقة. حرمات الله: جمع حرمة، يريد بها: حرمة الحرم، وحرمة الإحرام، وحرمة الشهر الحرام. يتبرض: التبرض: أخذ الشيء قليلاً قليلاً، وهو أيضاً التبلغ بالشيء القليل. ثمد: الثمد: الماء القليل الذي لا مادة له.

ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا. وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره" فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي

_ = يجيش: جاشت البئر بالماء: إذا ارتفعت وفاضت، وجاشت القدر: إذا غلت. بالري: الري: ضد العطش. صدروا: الصدر: الرجوع بعد الورود. عيبة نصح: يقال: فلان عيبة نصح فلان: إذا كان موضع سره وثقته في ذلك. أعداد مياه: الماء العد: الكثير الذي لا انقطاع لمادته، كماء العيون، وجمعه: أعداد. العوذ: جمع عائذ: وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها. المطافيل: جمع مطفل، وهي الناقة معها فصيلها، فاستعار ذلك للناس، أراد به النساء والصبيان. نهكتهم الحرب: يقول: نهكته الحرب تنهكه، أي: أضرت به وأثرت فيه، من نهك الحمى، وهو ألمها وضررها. ماددتهم: ماددت القوم، أي: جعلت بينك وبينهم مدة. جموا: استراحوا، والجمام: الراحة بعد التعب. سالفتي: السالفة: صفحة العنق، وانفرادها كناية عن الموت، لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت. استنفرت القوم: دعوتهم إلى قتال العدو. بلحوا: أصلح التبليح: الإعياء والفتور، والمراد: امتناعهم من إجابته وتقاعدهم به، وفيه لغة أخرى (بلحوا) بالتخفيف.=

جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا ائته. فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء" ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه. قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا (1)

_ = قد قلدت: تقليد البدن: هو أن يجعل في رقابها شيء كالقلائد من لحاء الشجر، أو غيره، ليعلم أنها هدي. اجتاح: الاجتياح: إيقاع المكروه بالإنسان، ومنه الجائحة، والاجتياح والاستئصال متقاربان في مبالغة الأذى. أشواباً: الأشواب والأوباش والأوشاب: سواء، وهم الأخلاط من الناس والرعاع. خطة: يقال: خطة رشد، وخطة غي، والرشد: خلاف الغي والضلال، والمراد: أنه قد طلب منكم طريقاً واضحاً في الهدى والاستقامة. خليقاً: يقال: فلان خليق بكذا، أي: جدير، لا يبعد ذلك من خلقه. امصص بظر اللات: صنم كانوا يعبدونه والعبارة شتم يدور على ألسنتهم. فاجر: أصل الفجور: الميل عن الحق والتكذيب به، وكل انبعاث في شر فهو فجور. لولا يد: اليد: النعمة، وما يمتن الإنسان به على غيره. المغفر: ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد. غدر: معدول عن غادر، وهو بناء للمبالغة. نخامة: النخامة البصقة من أقصى الحلق.

خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له" فبعثت له، واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آتهز فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز، وهو رجل فاجر" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم" قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: أما "الرحمن" فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: "باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب "محمد بن عبد الله"،

_ = يحدون: أحددت إليه النظر: إذا ملأت عينك منه ولم تهبه، ولا استحييت منه. فقال رجل من بني كنانة: سمي: الحليس بن علقمة أو ابن زبان. البدن: الإبل التي تهدى إلى البيت في حج أو عمرة. هذا مكرز، وهو رجل فاجر: كان قبل ذلك قتل رجلاً من بني بكر غيلة. قاضي: فاعل، من القضاء، وهو إحكام الأمر وإمضاؤه، قال الأزهري: "قضى" في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه.=

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد" قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد على المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله. قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: "بلى" قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري" قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق. قلت: أليس كان

_ = ضغطة: الضغطة: القهر والضيق. يرسف: رسف المقيد في قيده: إذا مشى فيه. فأجزه لي: يجوز أن يكون بالزاي والراء، فأما بالزاي: فمعناه من الإجازة، أي: اجعله جائزاً غير ممنوع، ولا محرم أو غيره، وأطلقه، وإن كان بالراء المهملة: فمعناه من الإجارة: الحماية والحفظ، وكلاهما صالح في هذا الموضع. الدنية: القضية التي لا يرضى بها ولا تراد. بغرزه: الغرز: الكور للناقة، كالركاب لسرج الفرس، إلا أنه من جلد، فإذا كان من حديد أو خشب: فهو ركاب.

يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) - حتى بلغ - (بعصم الكوافر) (1) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً" فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم؛ فخرج حتى أتى سيف البحر. قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا

_ = فعملت لذلك أعمالاً: تقربت على الله قربات حتى يغفر لي فعلي. (1) الممتحنة: 10. ويل أمه مسعر حرب: مسعر الحرب: موقدها، يقال: سعرت النار وأسعرتها: إذا أوقدتها، والمسعر: الخشب الذي توقد به النار، وقوله: "ويل أمه" كلمة يتعجب بها. سيف البحر: جانبه وساحله. ... قال البخاري: معرة: العر: الجرب.

يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها. فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) حتى بلغ (الحمية حمية الجاهلية) (1) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. وقال عقيل عن الزهري: (2) "قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن. وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر طلق امرأتين - قريبة بنت أبي أمية. وابنة جرول الخزاعي فتزوج قريبة معاوية وتزوج الأخرى أبو جهم. فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم أنزل الله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) (3) والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطى من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللائي هاجرن، وما نعلم أحداً من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها. وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً مهاجراً في المدة، فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أبا بصير" فذكر الحديث. وأخرج أبو داود (4) أيضاً عن المسور ومروان: "أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال".

_ = تزيلوا: انمازوا. وحميت القوم: منعتهم حماية. وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل: إذا أغضبته إحماء. (1) الفتح: 24 - 25 - 26. (2) البخاري في نفس الموضع السابق (5/ 333). بعصم الكوافر: العصم: جمع عصمة، وهو ما يتمسك به، والكوافر: جمع كافرة، وأراد بعصمها: عقد نكاحها. (3) الممتحنة: 11. (4) أبو داود (3/ 86)، كتاب الجهاد، باب في صلح العدو. عيبة مكفوفة: أصل العيبة: ما يجعل فيه الثياب، و (مكفوفة): أي مشدودة ممنوعة، والمراد أن بينهم أمراً.

وذكر رزين في رواية زيادة في حديث البخاري بعد قوله: اكتب: باسمك اللهم" قال: وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب الشرط بيننا وبينهم: بسم الله الرحمن الرحيم .. " وذكر مثل ما تقدم. وزاد بعد قوله: "كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ " قال: وفي رواية زيادة "فكيف نكتب هذا؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، من ذهب منا إليهم أبعده الله، ومن جاءنا منهم ورددناه: سيجعل الله له فرجاً" وزاد بعد قوله: "وقد كان عذب عذاباً شديداً في الله" قال: "فقال عمر بن الخطاب: فأمكنت يده من السيف ليضرب به أباه، فضن به، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا عمر، لعله أن يقوم في الله مقاماً يحمده عليه". قال في الفتح: قال المحب الطبري: الحديبية: قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم، ووقع في رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري "خرج عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً" ووقع عند ابن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة"، زاد سفيان عن الزهري في الرواية الآتية في المغازي وكذا في رواية أحمد عن عبد الرزاق "في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة" وروى عبد العزيز الإمامي عن الزهري في هذا الحديث عند ابن أبي شيبة "خرج صلى الله عليه وسلم في ألف وثمانمائة، وبعث عينا له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر قريش" كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدى كما صرح به ابن إسحق وغيره، وأما الذي بعثه عينا لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان كذا سماه ابن إسحق، وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح، وسأذكر الخلاف في عدد أهل الحديبية في المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: (حتى إذا كانوا ببعض الطريق) اختصر المصنف صدر هذا الحديث

_ = مطوياً في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب. لا إسلال ولا إغلال: الإسلال: من السلة، وهي السرقة، والإغلال: الخيانة، يقال: أغل الرجل إغلالاً: إذا خان، وغل من الغنيمة غلولاً، وقال بعضهم: إن الإسلال من سل السيوف في الحرب، والإغلال: لبس الدروع، وليس بمرض. مقاماً يحمده عليه: هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في حق سهيل بن عمرو: إشارة إلى ما كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتداد الناس بمكة، فقام خطيباً ووعظهم، وثبتهم على الإسلام، فكان هذا هو المقام الذي يحمده عليه.

الطويل مع أنه لم يسقه بطوله إلا في هذا الموضع، وبقيته عنده في المغازي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري قال: "ونبأنيه معمر عن الزهري: وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: "أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين" قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: "امضوا على اسم الله" إلى ههنا ساق البخاري في المغازي من هذا الوجه، وزاد أحمد عن عبد الرزاق وساقه ابن حبان من طريقه قال: "قال معمر قال الزهري: وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ" وهذا القدر حذفه البخاري لإرساله لأن الزهري لم يسمع من أبي هريرة، وفي رواية أحمد المذكورة "حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط قريباً من عسفان اهـ" وغدير بفتح الغين المعجمة والأشطاط بشين معجمة وطاءين مهملتين جمع شط وهو جانب الوادي كذا جزم به صاحب "المشارق"، ووقع في بعض نسخ أبي ذر بالظاء المعجمة فيهما، وفي رواية أحمد أيضاً: "أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله" ونحوه لابن إسحاق في روايته في المغازي عن الزهري، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم فيسبي أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم وانفرد هو وأصحابه بقريش، وذلك المراد بقوله "تكن عنقاً قطعها الله" فأشار عليه أبو بكر الصديق بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم فرجع إلى رأيه. وزاد أحمد في روايته "فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم. يا نبي الله، إنما جئنا معتمرين إلخ" والأحابيش بالحاء المهملة والموحدة وآخره معجمة واحدها أحبوش بضمتين. وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش قيل تحت جبل يقال له الحبشي أسفل مكة، وقيل سموا بذلك لتحبشهم أي تجمعهم والتحبش التجمع والحباشة الجماعة.

وقوله (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية) وفي رواية ابن إسحاق "فقال صلى الله عليه وسلم: من يخرجنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ " قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رجلاً من أسلم قال: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقاً وعراً فأخرجوا منها بعد أن شق عليهم، وأفضوا إلى أرض سهلة، فقال لهم: استغفروا الله، ففعلوا. فقال: والذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فامتنعوا، قال ابن إسحاق عن الزهري في حديثه "فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمص في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية أهـ. قوله (وما ذاك لها بخلق) أي بعادة، قال ابن بطال وغيره: في هذا الفصل جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلباً لغرتهم، وجواز السفر وحده للحاجة وجواز التنكيب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة. وجواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم، قال: وفيه جواز التصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك، لأنهم قالوا حل حل فزجروها بغير إذن، ولم يعاتبهم عليه. وفي المغازي من حديث البراء بن عازب في قصة الحديبية "أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبه فيها ثم قال: "دعوها ساعة ثم إنهم ارتووا بعد ذلك" ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معاً وقعا. وقد روى الواقدي من طريق أوس بن خولي "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو ثم أفرغه فيها وانتزع السهم فوضعه فيها" وهكذا ذكر أبو الأسود في روايته عن عروة: أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت" وهذه القصة غير القصة الآتية في المغازي أيضاً من حديث جابر قال "عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة فتوضأ منها فوضع يده فيها. فجعل الماء يفور من بين أصابعه" الحديث، وكأن ذلك كان قبل قصة البئر والله أعلم. وفي

هذا الفصل معجزات ظاهرة، وفيه بركة سلاحه وما ينسب إليه. وقد وقع نبع الماء من بين أصابعه في عدة مواطن غير هذه، سيأتي في أول غزوة الحديبية حديث زيد بن خالد "أنهم أصابهم مطر بالحديبية" الحديث، وكأن ذلك وقع بعد القصتين المذكورتين والله أعلم. زاد ابن إسحاق في روايته "وكانت خزاعة عيبة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة" ووقع عند الواقدي (أن بديلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: "لم نجئ لقتال" فتكلم أبو بكر، فقال له بديل: أنا لا أتهم ولا قومى أهـ" وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام. وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء الله بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق. قوله (قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف) فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف بقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين: فقيل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث وهو قول الشافعي والجمهور. وقيل تجوز الزيادة، وقيل لا تجاوز أربع سنين، وقيل ثلاثاً، وقيل سنتين، والأول هو الراجح والله أعلم. قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاماً لأبي جندل إلى الهلاك مع وجوده السبيل إلى

_ (1) عيبة: عيبة الرجل: خاصته، والمقصود هنا أن خزاعة كان هواها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي خاصته بسبب ذلك.

الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني: إنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضاً، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين. واختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم على بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية. وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم ... قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس، كلم بعضهم بعضاً والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني من صناديد قريش، ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك. ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً كما سيأتي في المغازي، فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين وفي الصورة الباطنة عزاً لهم. فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وأفهروا (1) من حيث أرادوا الغلبة. قوله (حتى اجتمعت منهم عصابة) أي جماعة ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وهذا الحديث يدل على أنها تطلق على أكثر من ذلك، ففي رواية ابن

_ (1) أفهروا: أي: ألقموا حجراً، والفهر: الحجر يملأ الكف.

إسحاق أنهم بلغوا نحواً من سبعين نفساً، وفي رواية أبي المليح: بلغوا أربعين أو سبعين. وجزم عروة في المغازي بأنهم بلغوا سبعين، وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل، وزاد عروة "فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين" وسمى الواقدي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري "فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير يستقدمه وأصحابه إلى المدينة بطلب قريش، فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجداً. قال: وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن خرج إلى الشام مجاهداً فاستشهد في خلافة عمر، قال: فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا، وفي قصة أبي بصير من الفوائد جواز قتل المشرك المعتدي غيلة، ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدراً لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش. لأنه إذ ذاك كان محبوساً بمكة، لكنه لما خشي أن المشرك يعيده على المشركين درأ عن نفسه بقتله، ودافع عن دينه بذلك، ولم ينكر النبي قوله ذلك. وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية، وقد وقع عند ابن إسحاق "أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك لأنه وفى بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره. ولا على آل أبي بصير أيضاً شيء لأنه ليس على دينهم". وفيه أنه كان لا يرد على المشركين من جاء منهم إلا بطلب منهم، لأنهم لما طلبوا أبا بصير أول مرة أسلمه لهم، ولما حضر إليه ثانياً لم يرسله لهم، بل لو أرسلوا إليه وهو عنده لأرسله، فلما خشي أبو بصير من ذلك نجا بنفسه. وفيه أن شرط الرد أن يكون الذي حضر من دار الشرك باقياً في بلد الإمام. ولا يتناول من لم يكن تحت يد الإمام ولا متحيزاً إليه. واستنبط منه بعض المتأخرين أن بعض ملوك المسلمين مثلاً لو هادن بعض ملوك الشرك فغزاهم ملك آخر من المسلمين فقتلهم وغنم أموالهم جاز له ذلك، لأن عهد الذي هادنهم لم يتناول من لم يهادنهم، ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يكن هناك قرينة تعميم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أشياء تتعلق بالمناسك: منها أن تقليد الهدي

وسوقه سنة للحاج والمعتمر فرضاً كان أو سنة، وأن الإشعار سنة لا مثلة، وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصوراً كان أو غير محصور، وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر ولو لم يصل إلى الحرم، ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقاً، وغير ذلك مما تقدم بسط أكثره في كتاب الحج وفيه أشياء تتعلق بالجهاد: منها جواز سبي ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال. وفيه الاستتار عن طلائع المشركين، ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من خصائصه أنه منهي عن خائنة الأعين - وفي الحديث أيضاً فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحاً في أصله إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال بل عليه التسليم لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي. وفيه جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قاله الخطابي مستدلاً بأن الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافراً، قال: وغنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم والاختلاط بهم والاطلاع على أسرارهم، قال: ويستفاد من ذلك جواز قبول قول الطبيب الكافر. قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم ولم يشهر إسلامه حينئذ، فليس ما قاله دليلاً على ما ادعاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب أ. هـ الفتح. 495 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين - يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلماً، فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: (وهو الذي كف أيديهم عنكم

_ 495 - مسلم (3/ 1442) 32 - كتاب الجهاد والسير - 46 - باب في قوله تعالى (وهو الذي كف أيديهم عنكم). الآية. استحياهم: استبقاهم ولم يقتلهم.

وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) (1). وفي رواية الترمذي (2)، أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم، عند صلاة الصبح، يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذاً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ...) الآية. 496 - * وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها. قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية. فإما دعا وإما بسق فيها. قال: فجاشت. فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس. ثم بايع وبايع. حتى إذا كان في وسط من الناس قال: "بايع. يا سلمة! " قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله! في أول الناس. قال: "وأيضاً" قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً (يعني ليس معه سلاح). قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة. ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس، قال: "ألا تبايعني؟ يا سلمة! " قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: "وأيضاً" قال: فبايعته الثالثة. ثم قال لي: "يا سلمة أين جحفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ " قال قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً. فأعطيته إياها قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنك كالذي

_ (1) الفتح: 24. (2) الترمذي (5/ 386) 48 - كتاب تفسير سير القرآن - 49 - باب "ومن سورة الفتح". وقال: هذا حديث حسن صحيح. 496 - مسلم (3/ 1433) 32 - كتاب الجهاد والسير - 45 - باب غزوة ذي قرد وغيرها. عليها خمسون شاة لا ترويها: يعني وبئرها ضعيفة لا تروي خمسين شاة. جبا الركية: الجبا ما حول البئر. والركي البئر. والمشهور في اللغة ركي، بغير هاء، ووقع هنا الركية بالهاء وهي لغة حكاها الأصمعي وغيره. وإما بسق: هكذا هو في النسخ: بسق. وهي صحيحة. يقال: بزق وبصق وبسق. ثلاث لغات بمعنى. والسين قليلة الاستعمال. فجاشت: أي ارتفعت وفاضت. يقال: جاش الشيء يجيش جيشانا، إذا ارتفع. عزلا: ضبطوه بوجهين: أحدهما فتح العين مع كسر الزاي. والثاني ضمهما. وقد فسره في الكتاب بالذي لا سلاح معه. ويقال أيضاً: أعزل، وهو الأشهر استعمالاً. حجفة أو درقة: هما شبيهتان بالترس.=

قال الأول: اللهم أبغنى حبيباً هو أحب إلي من نفسي" ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا. قال: وكنت تبيعاً لطلحة بن عبيد الله. أسقي فرسه، وأحسه. وأخدمه. وآكل من طعامه. وتركت أهلي ومالي، مهاجراً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها. فاضطجعت في أصلها. قال فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة. فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبغضتهم. فتحولت إلى شجرة أخرى. وعلقوا سلاحهم. واضطجعوا. فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم قال: فاخترطت سيفي. ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود. فأخذت سلاحهم. فجعلته ضغثاً في يدي. قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد! لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات - يقال له مكرز - يقوده على رسول الله صلى الله عليه وسلم. على فرس مجفف. في سبعين من المشركين. فنظر غليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (1)

_ = إنك كالذي قال الأول: الذي صفة المحذوف. أي أنك كالقول الذي قاله الأول. فالأول، بالرفع، فاعل. والمراد به، هنا، المتقدم بالزمان. يعني أن شأنك هذا مع عمك يشبه فحوى القول الذي قاله الرجل المتقدم زمانه. أبغني: أي أعطني. راسلونا: هكذا هو في أكثر النسخ: راسلونا، من المراسلة. أي أرسلنا إليهم وأرسلوا إلينا في أمر الصلح. مشى بعضنا في بعض: في هنا بمعنى إلى. أي مشي بعضنا إلى بعض. وربما كانت بمعنى مع. فيكون مشى بعضنا مع بعضنا. كنت تبيعاً لطلحة: أي خادماً أتبعه. وأحسه: أي أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار ونحوه. فكسحت شوكها: أي كنست ما تحتها من الشوك. فاخترطت سيفي: أي سللته. شددت: حملت وكررت. ضغثاً: الضغث الحزمة. يريد أنه أخذ سلاحهم وجمع بعضه إلى بعض حتى جعله في يده حزمة. قال في المصباح الأصل في الضغث أن يكون له قضبان يجمعها أصل واحد، ثم كثر حتى استعمل فيما يجمع. الذي فيه عيناه: يريد رأسه. العبلات: قال الجوهري في الصحاح: العبلات من قريش، وهم أمية الصغرى والنسبة إليهم عبلي. ترده إلى الواحد. مجفف: أي عليه تجفاف وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه السلاح. وجمعه تجافيف.=

"دعوهم. يكن لهم بدء الفجور وثناه" فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) (1) الآية كلها. قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة. فنزلنا منزلاً. بيننا وبين بني لحيان جبل. وهم المشركون فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة. كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً. ثم قدمنا المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا معه. وخرجت معه بفرس طلحة. أنديه مع الظهر. فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستاقه أجمع. وقتل راعيه. وهذه القصة الطويلة، سنذكر قسماً منها في الفصل اللاحق وقسماً في غزوة خيبر من السنة السابعة. 497 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله فسألنا نافعاً: على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: لا. بل بايعهم على الصبر. قال في الفتح: وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله "كانت رحمة من الله" أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى. ويحتمل أن يكون معنى

_ = يكن لهم بدء الفجور وثناه: البدء هو الابتداء. وأما ثناه فمعناه عودة ثانية. قال في النهاية: أي أوله وآخره والثني الأمر يعاد مرتين. وهم المشركون: هذه اللفظة ضبطوها بوجهين ذكرهما القاضي وغيره. أحدهما وهم المشركون على الابتداء والخبر. والثاني وهم المشركون، أي هموا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخافوا غائلتهم. يقال: همني الأمر وأهمني. وقيل: همني: أذابني. واهمني: أغمني. وقيل: معناه هم أمر المشركين النبي خوف أن يبيتوهم لقربهم منهم. بظهره: الظهر الإبل تعد للركوب وحمل الأثقال. (1) الفتح: 24. 497 - البخاري (6/ 117) 56 - كتاب الجهاد - 10 - باب البيعة في الحرب أن لا يفرو، وقال بعضهم: على الموت.

قوله رحمة من الله أي كانت الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين عندها. 498 - * روى البخاري ومسلم عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وفي رواية (2) قال: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال لي: "يا سلمة: ألا تبايع؟ " قلت: يا رسول الله، قد بايعت في الأول، قال: "وفي الثاني". وفي أخرى (3) قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عدلت إلى ظل شجرة، فلما خف الناس قال: "يا ابن الأكوع: ألا تبايع" قال: قلت: قد بايعت يا رسول الله قال: "وأيضاً" فبايعته الثانية، فقلت له: يا أبا مسلم، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت. 499 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس، محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوجدهم يبايعون، فبايع، ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع. 500 - * روى البخاري عن نافع - مولى ابن عمر - رحمه الله قال: إن الناس يتحدثون

_ 498 - البخاري (7/ 449) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى [18 الفتح]: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). ومسلم (3/ 1486) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة. (2) البخاري (3/ 199) 93 - كتاب الأحكام - 44 - باب من بايع مرتين. (3) البخاري (6/ 117) 56 - كتاب الجهاد - 110 - باب البيعة في الحرب أن لا يفروا. 499 - البخاري (7/ 456) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). أحدق: أحاط. الشأن: الحال والأمر. 500 - البخاري (7/ 455) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية.=

أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر عام الحديبية أرسل عمر عام الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس، فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر. 501 - * روى مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابراً يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. زاد في رواية (1): وقال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت. (قال العلماء): هذه الرواية تجمع المعاني كلها وتبين مقصود كل الروايات فالبيعة على أن لا نفر معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت، أي نصبر وإن آل منا ذلك إلى الموت لا أن الموت مقصود في نفسه وكذا البيعة على الجهاد أي والصبر فيه، والله أعلم. 502 - * وروى مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابراً يسأل: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ فقال: لا، ولكن صلى بها، ولم يبايع عند شجرة، إلا الشجرة التي بالحديبية. قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على بئر الحديبية. 503 - * روى البخاري ومسلم عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجاً، فمررت

_ = استلام المحارب: إذا لبس لأمته، وهي الدرع وآلة الحرب. 501 - مسلم (3/ 1483) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة. (1) مسلم (3/ 1483) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. 502 - مسلم (3/ 1483) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. 503 - البخاري (7/ 447) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية.

بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم تقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم!. وفي رواية (1) قال: ذكرت عند سعيد بن المسيب الشجرة فضحك فقال: أخبرني أبي، وكان شهدها. وفي رواية (2) عن ابن المسيب عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها. 504 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان، كان عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، قال: فبايع الناس، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله" فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم. ذكر ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان إلى مكة ليبلغ أبا سفيان وأشراف قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته. ففعل ذلك عثمان رضي الله عنه، فقال له أهل مكة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله

_ = ومسلم نحوه مختصراً (3/ 1485) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة. بيعة الرضوان: الرضوان: الرضى، وسميت بيعة الحديبية [بيعة] الرضوان، لقوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). فأنتم أعلم!: استفهام تعجبي، يتعجب سعيد بن المسيب من زعم بعض التابعين معرفة الشجرة. (1) البخاري (7/ 447) 64 - كتاب المغازي 35 - باب غزوة الحديبية. (2) مسلم (3/ 1486) 33 - كتاب الإمارة 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. 504 - الترمذي (5/ 626) 50 - كتاب المناقب - 19 - باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو كما قال فشاهده في الصحيح.

صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نبرح حتى نناجز القوم فدعا إلى البيعة". 505 - * روى البخاري عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟ قيل له: على الموت، قال: لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شهد معه الحديبية. 506 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" قال سهيل: أما بسم الله، فما ندري ما "بسم الله الرحمن الرحيم؟ " ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: اكتب: "من محمد رسول الله" قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: "من محمد بن عبد الله" فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم، لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم، سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً". قال العلماء في شرح هذا الحديث: وافقهم النبي صلى الله عليه وسلم في ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وأنه كتب باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلينا دون من ذهب منا إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصالح المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور.

_ 505 - البخاري (7/ 448) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. ومسلم نحوه (3/ 1486) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة. ولكن عن عبد الله بن زيد. قال ابن الأثير: يوم الحرة: الحرة: أرض ذات حجارة سود، وأراد بها: حرة من حرار المدينة، ويومها: هو اليوم المشهور الذي جرى من أهل الشام فيه ما جرى من قتل أهل المدينة ونهبها، وسبي النساء والولدان في زمن يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان. أقول: والمقصود بقوله: حرة من حرار المدينة: هي هنا الحرة الشرقية حرة واقم. 506 - مسلم (3/ 1411) 32 - كتاب الجهاد والسير - 34 - باب صلح الحديبية في الحديبية.

507 - * روى الطبراني عن عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين أخبره عثمان أن سهيلاً أرسله إليه قومه فصالحوه على أن يرجع عنهم هذا العام ويخلوها قابلاً ثلاثاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سهيل سهل عليكم الأمر". 508 - * روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله. فقال: "أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله" ثم قال لعلي: "امح رسول الله" قال علي: لا والله لا أمحوك أبداً. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى محمد ابن عبد الله، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وان لا يمنع من أصحابه أحداً إذا أراد أن يقيم بها. فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك حمليها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر: قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال: لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" وقال علي: ألا تتزوج بنت حمزة؟ قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة". قال في الفتح حول "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ... فكتب": قوله (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب. هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) تقدم هذا الحديث في الصلح عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد وليست

_ 507 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 146)، وقال: رواه الطبراني، وفيه مؤمل بن وهب المخزومي، تفرد عنه ابنه عبد الله، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح. 508 - البخاري (7/ 499) 64 - كتاب المغازي - 43 - باب عمرة القضاء. قاضاهم: مشتقة من القضاء، والمراد هنا: إحكام الأمر وإمضاؤه.

فيه هذه اللفظة "ليس يحسن يكتب" ولهذا أنكر بعض المتأخرين على أبي مسعود نسبتها إلى تخريج البخاري وقال: ليس في البخاري هذه اللفظ ولا في مسلم، وهو كما قال عن مسلم فإنه أخرجه من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ "فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله" انتهى وقد عرفت ثبوتها في البخاري في مظنة الحديث، وكذلك أخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن عبيد الله بن موسى مثل ما هنا سواء، وكذا أخرجها أحمد عن حجين بن المثنى عن إسرائيل ولفظه (فأخذ الكتاب - وليس يحسن أن يكتب - فكتب مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب. فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله مخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى. وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية وغيرها، واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ" قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك. ومن طريق يونس بن ميسرة عن أبي كبشة السلولي عن سهل ابن الحنظلية "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: "قد كتب لك بما أمر لك" قال يونس فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعد ما أنزل عليه. قال عياض: وردت آثار تدل على معرفة حروف الخط وحسن تصويرها كقوله لكاتبه "ضع القلم على

أذنك فإنه أذكر لك" وقوله لمعاوية "ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم" وقوله "لا يمد بسم الله" قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله (فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب) لبيان أن قوله (أرني إياها) أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك (فكتب) فيه حذف تقديره فمحاها فأعادها لعلي فكتب. وبهذا جزم ابن التين وأطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى، وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه أمياً، فإن كثيراً ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً. وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزي وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأن هذا وإن كان ممكناً ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أمياً لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك، قال السهيلي: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، والحق أن معنى قوله (فكتب) أي أمر عليا أن يكتب انتهى. وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة وتثبت كونه غير أمي نظر كبير، والله أعلم. أهـ من الفتح. 509 - * روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح

_ 509 - البخاري (5/ 303) 53 - كتاب الصلح - 6 - باب كيف يكتب "هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان" وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه. ومسلم (3/ 1410) 32 - كتاب الجهاد والسير - 34 - باب صلح الحديبية في الحديبية.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتاباً، فكتب "محمد رسول الله" فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولاً لم نقاتلك. فقال لعلي: "امحه" فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، فسألوه: ما جلبان السلاح؟ فقال: "القراب بما فيه". 510 - * روى البخاري عن عروة أنه سمع مروان والمسور يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) (1). - قال عروة: فأخبرتني عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم

_ = جلبان: السلاح القراب بما فيه، وقيل القراب: الغمد، والجلبان شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغموداً، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه من آخرة الرحل وواسطته، وقد روي بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وهو أوعية السلاح. 510 - البخاري (5/ 313) 54 - كتاب الشروط - 1 - باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، والأحكام، والمبايعة. امتعضوا: كرهوا. (1) الممتحنة: 10.

الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم * وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون * يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) (1). قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط منهن، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله. 511 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال تعالى في القرآن وكان غصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو جالسان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: "اكتب" فذكر من الحديث أسطراً مخرجة في الكتابين من ذكر سهيل بن عمرو: قال عبد الله بن مغفل: فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم، فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا" فقالوا: اللهم لا. فخلى سبيلهم فأنزل الله عز وجل (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا) (3).

_ (1) الممتحنة: 10 - 12. 511 - المستدرك (2/ 461)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ إذ لا يبعد سماع ثابت من عبد الله بن مغفل، وقد اتفقا على إخراج حديث معاوية بن قرة، وعلى حديث حميد بن هلال عنه، وثابت أسن منهما جميعاً وقد أقره الذهبي. ثار: هاج وانتشر. (3) الفتح: 24.

512 - * روى البخاري ومسلم عن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين، فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا. وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين فجاء عمر بن الخطاب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: "بلى" قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: "يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً" قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظاً، فأتى أبا بكر، فقال: "يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال فعلام نعطي الدنية، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ " فقال: "يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً وقال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر، فأقرأه، إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: "نعم" فطابت نفسه ورجع. وفي رواية (1): فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر. وفي أخرى (2) أنه سمع سهل بن حنيف يقول: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، غير هذا الأمر. قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين وبئست صفين.

_ 512 - البخاري (6/ 281) 58 - كتاب الجزية والموادعة - 18 - باب حدثنا عبدان. ومسلم واللفظ له (3/ 1411) 32 - كتاب الجهاد والسير - 34 - باب صلح الحديبية في الحديبية. الدنية: القضية التي لا يرضى بها ولا تراد. (1) البخاري في نفس الموضع السابق. (2) البخاري في نفس الموضع السابق، وأيضاً في: (13/ 382) 96 - كتاب الاعتصام بالسنة والكتاب - 7 - باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس. ومسلم في الموضع السابق. إلى أمر يفظعنا: الأمر الفظيع: الشنيع الشديد، وقوله "يفظعنا" أي: يوقعنا في أمر فظيع شديد علينا.

زاد في رواية (1): ما نسد منه خصماً إلا تفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له؟ وفي أخرى (2): لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي ... وذكر نحوه. وفي أخرى (3): أتيت أبا وائل أسأله؟ فقال: كنا بصفين، فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله؟ فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم ... وذكر الحديث. 513 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية، قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك، قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم". 514 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية،

_ (1) البخاري (7/ 457) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. خصماً: الخصم: الطرف، وخصم كل شيء: طرفه، وأراد بقوله: (ما نسد خصماً إلا تفجر علينا خصم): الإخبار عن انتشار الأمر وشدته، وأنه لا يتهيأ إصلاحه وتلافيه، لأنه بخلاف ما كانوا عليه من الاتفاق، ولذلك قال: (إلا أسهلن) أي رأينا في عاقبة السلوك فيه سهولة، كأنه ركب السهل في طريقه، ولم ير فيه مكروهاً. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. (3) البخاري (8/ 587) 65 - كتاب التفسير - 5 - باب "إذ يبايعونك تحت الشجرة". اتهموا أنفسكم: يعني: لا تنكروا على أمير المؤمنين علي قبوله التحكيم واتهموا رأيكم. 513 - أحمد في مسنده (3/ 26). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 145): رواه أحمد، ورجاله ثقات. لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم: أي لا يدرك أحد أجر صاعكم ولا مدكم. والصاع والمد: من المكاييل. تعليق: الظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من إيقاد النار في اليوم الأول من أجل مصلحة عسكرية أمنية، وسماحه لهم في اليوم الثاني لعله كان رخصة بسبب برد أو لأنه أحكم الجانب الأمني أو عرف أنه لا خطر عليهم من إيقاد النار. 514 - البخاري (5/ 305) 53 - كتاب الصلح - 7 - باب الصلح مع المشركين. وأيضاً البخاري (7/ 499) 64 - كتاب المغازي - 43 - باب عمرة القضاء.

وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمروه أن يخرج، فخرج. قال في الفتح تعليقاً على قول البخاري: (باب النحر قبل الحلق في الحصر): ذكر فيه حديث المسور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك" وهذا طرف من الحديث الطويل الذي أخرجه المصنف في الشروط من الوجه المذكور هنا، ولفظه في أواخر الحديث (فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا) فذكر بقية الحديث وفيه قول أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم (اخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه) وعرف بهذا أن المصنف أورد القدر المذكور هنا بالمعنى، وأشار بقوله في الترجمة "في الحصر" إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر، وقد تقدم أنه لا يجب في حال الاختيار في (باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح" ولم يتعرض المصنف لما يجب على من حلق قبل أن ينحر، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: عليه دم. قال إبراهيم: وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر الماضي قبل بباب مختصراً وفيه (فنحر بدنه وحلق رأسه)، وقد أورده البيهقي من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد - وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه بإسناده المذكور - ولفظه (أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله ابن عمر ليالي نزل الحجاج بابن الزبير وقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت. فقال: خرجنا فذكر مثل سياق البخاري وزاد في آخره (ثم رجع)، وكذا ساقه الإسماعيلي من طريق أبي بدر إلا أنه لم يذكر القصة التي في أوله، وساقه من طريق أخرى عن أبي بدر أيضاً فقال فيها عن ابن عمر أنه قال (إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فأهل بالعمرة) الحديث. قال ابن التيمي: ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر، والحجة عليه هذا الحديث لأنه نقل فيه حكم وسبب، فالسبب الحصر والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب. والله أعلم.

515 - * روى أبو داود والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية - قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش، حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا" وأبى أن يردهم، وقال: "هم عتقاء الله عز وجل". قال في الفتح الرباني: إنما تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهما لم يوافقا الطواب، ويستفاد من ذلك أن من ادعى الإسلام يقبل منه مطلقاً كما يدل على ذلك القرآن والسنة، وأنه لا يجوز البحث عن الدوافع التي دفعته إلى الإسلام سواء أسلم مخلصاً أو متعوذاً أو طامعاً، وقد جاء عند أبي داود بدل قوله فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا، وأبى أن يردهم وقال هم عتقاء الله عز وجل) قال الخطابي. هذا أصل في أن من خرج من دار الكفر مسلماً وليس لأحد عليه يد قدرة فإنه حر، وإنما يعتبر أمره بوقت الخروج منها إلى دار الإسلام. 516 - * روى البخاري ومسلم عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم، لأريتكم مكان الشجرة.

_ 515 - أبو داود (3/ 65) كتاب الجهد، باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون. والترمذي نحوه (5/ 634) 50 - كتاب المناقب - 20 - باب مناقب علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ربعي عن علي. والحاكم نحوه في المستدرك (2/ 125)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. على هذا: أي ما ذكر من التعصب أو الحكم بالرد. 516 - البخاري (7/ 443) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. ومسلم نحوه (3/ 1484) 33 - كتاب الإمارة - 18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة. لو كنت أبصر: يدل قوله على أن كلامه هذا كان حين عمي، والمعروف أن جابراً عمي آخر حياته.

517 - * روى مسلم عن أم مبشر الأنصارية رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد. الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: (وإن منكم إلا واردها) (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله تعالى: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) (2). قال النووي: قوله: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد". الخ قال العلماء: معناه: لا يدخلها أحد منهم قطعاً: كما صرح به في غير هذا الحديث، وإنما قال: "إن شاء الله" للتبرك، لا للشك، وأما قول حفصة "بلى" وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقالت: (وإن منكم إلا واردها) فقال عليه الصلاة والسلام: وقد قال: " (ثم ننجي الذين اتقوا) " ففيه دليل للمناظرة والاعتراض، والجواب على وجه الاسترشاد، وهو مقصود حفصة، لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم. والصحيح: أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها، وينجو الآخرون. أ. هـ 518 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة، إلا صاحب الجمل الأحمر". 519 - * روى مالك والبخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً فسأله عمر عن شيء فلم يجبه،

_ 517 - مسلم (4/ 1942) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 37 - باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان، رضي الله عنهم. أصحاب الشجرة: هم الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان في الحديبية، وكانت الشجرة سمرة. جثياً: جمع جاث: وهو الذي يقعد على ركبتيه. (1) مريم: 71. (2) مريم: 72. 518 - الترمذي (5/ 696) 50 - كتاب المناقب - 59 - باب حدثنا محمود بن غيلان، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال. 519 - الموطأ (1/ 203) 15 - كتاب القرآن - 4 - باب ما جاء في القرآن. والبخاري (7/ 452) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية.

ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك عمر، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري، حتى إذا كنت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فقال: "لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) " (1). وأخرجه الترمذي (2) عن أسلم، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ... الحديث. 520 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئاً مريئاً، فما لنا؟ فأنزل الله: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) (4) قال شعبة: فقدمت الكوفة، فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت فذكرت له، فقال: أما (إنا فتحنا لك) فعن أنس، وأما "هنيئاً مريئاً" فعن عكرمة. وأخرجه مسلم (5) عن قتادة عن أنس قال: لما نزلت (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله) إلى قوله (فوزاً عظيماً) (6) مرجعه من الحديبية - وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من

_ = نزرت: فلاناً: إذا ألححت عليه في السؤال. فما نشبت: أي: ما لبثت. (1) الفتح: 1. (2) الترمذي (5/ 385) 48 - كتاب تفسير القرآن - 49 - باب "ومن سورة الفتح" وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه بعضهم عن مالك مرسلاً. 520 - البخاري (7/ 450) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. (4) الفتح: 5. (5) مسلم (3/ 1413) 32 - كتاب الجهاد والسير - 34 - باب صلح الحديبية في الحديبية. الهدي: ما يهديه الحاج أو المعتمر إلى البيت من النعم لينحره بالحرم. (6) الفتح: 1 - 5.

الدنيا جميعاً". وأخرجه الترمذي (1) عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) حتى بلغ: (فوزاً عظيماً). 521 - * روى الحاكم عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: أنزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. 522 - * روى الحاكم عن مجمع بن جارية الأنصاري وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما انصرفنا نها إذ الناس يهزون بالأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: "نعم والذي نفس محمد بيده إنه لفتح" فقسمت خيبر على اهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة عشر سهماً وكان الجيش ألفاً وخمس مائة فيهم ثلاث مائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً.

_ (1) الترمذي (5/ 386) 48 - كتاب تفسير القرآن - 49 - باب "ومن سورة الفتح"، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 521 - المستدرك (2/ 459)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 522 - المستدرك (2/ 131)، وقال: هذا حديث كبير صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح. نوجف: نسرع. كراع الغميم: مكان بين مكة والمدينة.

2 - في الصلح: بنوده وحكمه

2 - في الصلح: بنوده وحكمه: قال في الرحيق المختوم ذاكراً بنود الصلح: 1 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا نتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض. 2 - وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. 3 - من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق. 4 - من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه - أي هارباً منهم - رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد - أي هارباً منه - لم يرد عليه. وقد علق صاحب الرحيق المختوم على هذه البنود وهذا بعض كلامه: هذه هي هدنة الحديبية، ومن سبر أغوار بنودها مع خلفياتها لا يشك أنها فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية، وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلا يهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش؟ وفتحاً مبيناً بالنسبة إلى المسلمين؟، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد

3 - فقهيات

على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف. أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى (وهم بدءوكم أول مرة) (1). أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليه فيه ما يشفي سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه. أهـ. قال ابن القيم بمناسبة ذكره لبعض حكم صلح الحديبية: فمنها: أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهدنة باباً له. ومفتاحاً. ومؤذناً بين يديه، وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدراً وشرعاً، أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات، تؤذن بها، وتدل عليها. ومنها: أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن وناظروهم على الإسلام مهرة آمنين وظهر من كان مختفياً بالإسلام ودخل في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ولهذا سماه الله فتحاً مبيناً. أهـ. 3 - فقهيات قال ابن القيم بمناسبة ذكره لبعض الفوائد الفقهية المستخرجة من حادثة الحديبية:

_ (1) التوبة: 13.

ومنها: استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة هديه جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين. وقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) (1)، وقال عز وجل: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) (2). ومنها: أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو. ومنها: أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة، لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذا ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم. ومنها: استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه، استخراجاً لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمناً لعتبهم، وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) (3)، وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله: (وأمرهم شورى بينهم) (4). ومنها: جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال. ومنها: أن تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سنة. ومنها: جواز الحلف، بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع: في (سورة يونس)، و (سبأ)، و (التغابن). ومنها: أن المشركين، وأهل البدع والفجور، والبغاة، والظلمة، إذا طلبوا أمراً

_ (1) الفتح: 29. (2) التوبة: 120. (3) آل عمران: 159. (4) الشورى: 38.

يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى. أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له، أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها. وأشقها على النفوس. ومنها: جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه. ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم. ومنها: استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطيرة المكروهة. لقوله لما جاء سهيل: "سهل أمركم". ومنها: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما. ومنها: جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين غليهم. هذا في غير النساء. وأما النساء. فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار. وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب. ومنها: أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلماً إلى غير بلد الإمام. وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام. لا يجب عليه رده بدون الطلب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أبا بصير حين جاءه. ولا أكرهه على الرجوع. ولكن لما جاؤوا في طلبه. مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع. ومنها: أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بدية ولا قود. ولم يضمنه الإمام. بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم. فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة. وهي من حكم المدينة. ولكن كان قد تسلموه.

ومنها: أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام. فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم، وغنمت أموالهم. ولم يتحيزوا إلى الإمام. لم يجب على الإمام دفعهم عنهم. ومنعهم منهم. وسواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه. أو لم يدخلوا. والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد، جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد. كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم، مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين. اهـ. ومن الأحكام الفقهية كذلك المستنبطة من حادثة الحديبية ما ذكره الدكتور البوطي بقوله: (الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال)، قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بسر بن سفيان عيناً إلى قريش ليأتيه بأخبارهم، وبسر بن سفيان كان مشركاً من قبيلة خزاعة. وفي هذا تأكيد لما كنا قد ذكرناه سابقاً من أن أمر الاستعانة بغير المسلم يتبع الظرف وحالة الشخص الذي يستعان به. فإن كان ممن يطمأن إليه ولا تخشى منه بادرة غدر أو خديعة، جازت وإلا فلا. وعلى كل فإن النبي صلى الله عليه وسلم، في كل الحالات، إنما استعان بغير المسلمين بما دون القتال، كإرساله عيناً على الأعداء أو استعارة أسلحة منهم وما شابه ذلك. والذي يبدو أن الاستعانة بغير المسلمين في القضايا السلمية أشبه بالجواز منها في أعمال القتال والحرب. (التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم)، قلنا، إن عروة بن مسعود، جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ما يحدون النظر إليه تعظيماً له. إنها لصورة بارزة حية، وأوضحها عروة بن مسعود لمدى محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له. وإن فيها لدلالات هامة يجب أن يقف عليها كل مسلم. إنها تدل أولاً على أنه لا إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم بدون محبة له، وليست المحبة له معنى

تعليقات على قصة الحديبية

عقلانياً مجرداً، وإنما هي الأثر الذي يستحوذ على القلب فيطبع صاحبه بمثل الطابع الذي وصف به عروة بن مسعود أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي تدل ثانياً، على أن التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع. ولقد وردت أحاديث صحيحة ثابتة عن تبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، وعرقه ووضوئه، وبصاقه، والقدح الذي كان يشرب فيه. أهـ. تعليقات على قصة الحديبية: 1 - من أول ما يطالعك في قصة الحديبية إحكام التدبير، أولاً: في الشعار الذي رفع. وثانياً: في الطريق الذي سلك. وثالثاً: في الحوار الذي تم والمفاوضات التي جرت والحجج التي قيلت. ورابعاً: في أخذ البيعة على عدم الفرار أو الموت. وخامساً: في ضبط النفس عن القتال مع وجود أسبابه. وسادساً: في الاحتياطات الأمنية التي اتخذت. وسابعاً: في الجو الذي أحيطت به المفاوضات. وثامناً: في بنود الصلح. 2 - هناك صورتان متكاملتان في هذه القصة: فمن أجل الثأر لعثمان عندما أشيع نبأ قتله أخذت البيعة على الموت، ومن أجل مجموعة من المؤمنين والمؤمنات المستضعفين في مكة صرف الله المسلمين عن القتال (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم .......) (1). ومن هاتين الصورتين ندرك كم للمسلم من قيمة عند الله وعند إخوانه، فلا تفريط فيه بل حرص عليه، بل قد يتخذ قرار حرب من أجله، وهذا يعطينا عبراً كثيرة، أبسطها: أن نعرف للمسلم حرمته، وأن نعرف له قيمته فلا نضيعه بل نحاول القيام بحقوقه كاملة. 3 - في هذه القصة موقف لم يستطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إدراك أبعاده، وهذا يعطينا درساً في العمل الإسلامي: أن نستشرف دائماً أبعاد معركتنا، وأن نتفهم الآراء المطروحة أمامنا، وأن نتأنى في الحكم على تصرفات القادة الذين يكرمهم الله عز وجل بتحمل المسؤولية، فكثيراً ما نصدر أحكاماً مستعجلة، ظاهرها الصواب وباطنها الخطأ.

_ (1) الفتح: 25.

4 - ومن أعظم دروس الحديبية أن على القائد أن يمتلك القدرة على الحرب والسلام، وكثيراً ما يحدث أن القائد يستطيع السيطرة في الحرب فإذا ما أراد السلام ظهرت أمامه عقبات، فالمتحمسون، والمتشددون، وبالنسبة لغير الصحابة المزايدون، وههنا تحدث أزمات ومآس إن علينا أن ندرك أنه ليس الهدف هو الحرب أو السلم، إنما الهدف أن يتقدم هذا الدين، فحيثما رأت القيادات الرشيدة والشورى المبصرة أن المصلحة في شيء فههنا محط الرحال، ولا يصلح أحد للقيادة إذا لم يكن قادراً على قراري السلم والحرب بآن واحد، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأرقى في هذا وفي غيره. 5 - وفي قصة الحديبية تجد المستوى الرفيع من الأدب والانضباط اللذين وصل إليهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل تربيته: فعثمان لا يطوف بالبيت على حبه لذلك ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف، والصحابة كانا كالسكارى عند توقيع الصلح وتأخير العمرة، ولكن لم يقولوا هجراً ولم يخرجوا عن انضباط. ومن مظاهر ما ذكرناه ههنا ما أشار إليه الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة: (ومن السكينة التي تنزلت على المسلمين أن رسل قريش كانت تغدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتروح، فلا يعترضهما أحد، أما رسل المسلمين إلى قريش فقد تعرضت للهلاك، كاد خراش بن أمية الخزاعي يقتل، لولا أن أنقذه الأحابيش، فرجع وقد عقر جمله وكان النبي عليه الصلاة والسلام أرسله ليبلغ أهل مكة حقيقة مجيئه، وانه يريد العبادة لا الحرب ... والرسل لا تقتل، بيد أن غليان قريش أفقدها الوعي. * * *

وصل هجوم عبد الرحمن الفزاري على المدينة المنورة

وصل هجوم عبد الرحمن الفزاري على المدينة المنورة سمى ابن هشام هذا الهجوم بغزوة ذي قرد. وكان ذلك مقفله عليه الصلاة والسلام من الحديبية كما ذكر سلمة بن الأكوع في رواية مسلم - وقد ذكرنا قسماً من رواية سلمة من قبل وأخرنا بعضها إلى هنا، والسطور الأوائل مذكورة هنا وهناك لربط ما له علاقة بهذه الغزوة بسياقها الذي مر معنا من قبل. 523 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه قال فقلت: يا رباح! خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة. فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل. وأرتجز. أقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع فألحق رجلاً منهم. فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه. قال قلت: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع قال! فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم. فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به. حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل،

_ 523 - مسلم مطولاً (3/ 1433) 32 - كتاب الجهاد والسير - 45 - باب غزوة ذي قرد وغيرها. عبد الرحمن الفزاري: هو عبد الرحمن بن عيينة الفزاري وقيل عيينة بن حصن أبوه. فأصك سهماً في رحله: أي أضرب. أرميهم وأعقر بهم: أي أرميهم بالنبل وأعقر خيلهم. وأصل العقل ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف. ثم اتسع حتى استعمل في القتل كما وقع هنا. وحتى صار يقال: عقرت البعير أي نحرته. حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه: التضايق ضد الاتساع. أي تدانى. فدخلوا في تضايقه أي المحل المتضايق

فجعلت أرديهم بالحجارة. قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري. وخلوا بيني وبينه. ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا متضايقاً من ثنية. فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون (يعني يتغدون). وجلست على رأس قرن. قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا، من هذا، البرح. والله! ما فارقنا منذ غلس يرمينا، حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم، أربعة. قال: فصعد إلي منهم أربعة في الجبل. قال: فلما أمكنوني من الكلام قال قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا. ومن أنت؟ قال قلت: أنا سلمة بن الأكوع. والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم! لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته. ولا يطلبني رجل منكم

_ = منه بحيث استتروا به عنه، فصار لا يبلغهم ما يرميهم به من السهام. فجعلت أرديهم بالحجارة: يعني لما امتنع علي رميهم بالسهام عدلت عن ذلك إلى رميهم من أعلى الجبل بالحجارة التي تسقطهم وتهورهم. يقال: ردى الفرس راكبه إذا أسقطه وهوره. حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من، هنا زائدة. أتى بها لتأكيد العموم. وإنما سميت زائدة لأن الكلام يستقيم بدونها فيصح أن يقال: ما خلق الله بعيراً. ومن، في قوله: من ظهر، بيانية، والمعنى أنه ما زال بهم إلى أن استخلص منهم كل بعير أخذوه من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا خلفته وراء ظهري: خلفته أي تركته. يريد أنه جعل في حوزته وحال بينهم وبينه. ثم اتبعتهم: هكذا هو في أكثر النسخ: اتبعتهم. وفي نسخة: أتبعتهم، بهمزة القطع. وهي أشبه بالكلام وأجود موقعاً فيه. وذلك أن تبع المجرد واتبع بمعنى مشى خلفه على الإطلاق وأما أتبع الرباعي فمعناه لحق به بعد أن سبقه ومنه قوله تعالى (فأتبعهم فرعون بجنوده) أي لحقهم مع جنوده بعد أن سبقوه. وتعبيره هنا بثم المفيدة للتراخي يشعر أنه بعد أن استخلص منهم جميع الإبل توقف عن اتباعهم ولعل ذلك ريثما جمع الإبل وأقامها على طريق يأمن عليها فيه. والمعنى على هذا الوجه: وبعد أن توقفت عن اتباعهم حتى سبقوني، تبعتهم حتى لحقت بهم. يستخفون: أي يطلبون بإلقائها الخفة ليكونوا أقدر على الفرار. آراما من الحجارة: الآرام هي الأعلام. وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة ليهتدى بها. واحدها إرم كعنب وأعناب. حتى أتوا متضايقاً من ثنية: الثنية العقبة والطريق في الجبل. أي حتى أتوا طريقاً في الجبل ضيقة. على رأس قرن: هو كل جبل صغير منقطع عن الجبل الكبير. البرح: أي الشدة. غلس: الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.

فيدركني قال أحدهم: أنا أظن. قال: فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر. قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي. على إثره أبو قتادة الأنصاري. وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي. قال: فأخذت بعنان الأخرم. قال: فولوا مدبرين. قلت: يا أخرم! احذرهم. لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن. قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه. وطعنه عبد الرحمن فقتله. وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن. فطعنه فقتله. فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم! لتبعتهم أعدو على رجلي. حتى ما أرى ورائي، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم، شيئاً. حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء. يقال له ذا قرد. ليشربوا منه وهم عطاش. قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم. فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة. قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية. قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم. فأصكه بسهم في نغض كتفه. قال قلت: خذها وأنا ابن الأكوع. واليوم يوم الرضع. قال: يا ثكلته أمه! أكوعه بكرة. قال قلت: نعم. يا عدو نفسه! أكوعك بكرة. قال: وأردوا فرسين على ثنية. قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله

_ = قال أحدهم: أنا أظن: يعني: صدقت. يتخللون الشجر: أي يدخلون من خلالها، أي بينها. ذا قرد: هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة: ذا قرد، وفي بعضها: ذو قرد، وهو الوجه. فحليتهم عنه: أي طردتهم عنه. وقد فسرها في الحديث بقوله: يعني أجليتهم عنه. قال القاضي: كذا روايتنا فيه هنا غير مهموز. قال وأصله الهمز، فسهله. وقد جاء مهموزاً بعد هذا في الحديث. نغض: هو العظم الرقيق على طرف الكتف. سمي بذلك لكثرة تحركه. وهو الناغض أيضاً. قال: يا ثكلته أمه! أكوعه بكرة: معنى ثكلته أمه، فقدته أمه، وقوله: أكوعه، هو برفع العين، أي أنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار؟ ولهذا قال: نعم. وبكرة منصوب غير منون. قال أهل العربية: يقال أتيته بكرة بالتنوين، إذا أردت لقيته باكراً في يوم غير معين، قالوا: وإن أردت بكرة يوم بعينه، قلت أتيته بكرة، غير مصروف لأنها من الظروف المتمكنة. وأردوا: قال القاضي: رواية الجمهور بالدال المهملة ورواه بعضهم بالمعجمة. قال: وكلاهما متقارب المعنى. فبالمعجمة معناه خلفوهما. والرذي الضعيف من كل شيء. وبالمهملة معناه أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما وتركوهما ومنه التردية. وأردت الفرس الفارس أسقطته. لحقني عامر: أي عمه وقد استشهد في خيبر.=

صلى الله عليه وسلم. قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء. فتوضأت وشربت. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم. عنه. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استقذته من المشركين وكل رمح وبردة وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم إذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها. قال قلت: يا رسول الله! خلني فأنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار. فقال: "يا سلمة! أتراك كنت فاعلاً؟ " قلت: نعم. والذي أكرمك! فقال: "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" قال: فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزوراً، فلما كشفوا جلدها رأوا غباراً. فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة. وخير رجالتنا سلمة" قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل. فجمعهما لي جميعاً. ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. قال: فبينما نحن نسير. قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شداً، قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك. قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي! ذرني فلأسابق الرجل. قال: "إن

_ = بسطيحة فيها مذقة من لبن: السطيحة إناء من جلود سطح بعضها على بعض. والمذقة قليل من لين ممزوج بماء. حلأتهم: كذا هو في أكثر النسخ: حلأتهم. وفي بعضها حليتهم. وقد سبق بيانه قريباً. من الإبل الذي: كذا في أكثر النسخ: الذي. وفي بعضها: التي. وهو أوجه. لأن الإبل مؤنثة، وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين. والأول صحيح أيضاً. وأعاد الضمير إلى الغنيمة، لا إلى لفظ الإبل. نواجذه: أي أثيابه. ليقرؤن: أي يضافون، والقرى الضيافة. جزورا: الجزور: البعير ذكراً كان أو أنثى. العضباء: هو لقب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. والعضباء مشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته صلى الله عليه وسلم كذلك وإنما هو لقب لزمها. شداً: أي عدواً على الرجلين.

شئت" قال. قلت: اذهب إليك. وثنيت رجلي فظفرت فعدوت. قال: فربطت عليه شرفاً أو شرفين أستبقي نفسي. ثم عدوت في إثره. فربطت عليه شرفاً أو شرفين. ثم رفعت حتى ألحقه. قال: فأصكه بين كتفيه. قال قلت: قد سبقت والله! قال: أنا أظن. قال: فسبقته إلى المدينة. وللحديث تتمة متعلقة بخيبر سنذكرها في أحداث السنة السابعة. * * *

_ = فطفرت: أي وثبت وقفزت. فربطت عليه شرفاً أو شرفين أستبقي نفسي: معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد، والشرف ما ارتفع من الأرض. وقوله: أستبقي نفسي، أي لئلا يقطعني البهر. رفعت حتى ألحقه: أي أسرعت. قوله: حتى ألحقه. حتى، هنا، للتعليل بمعنى كي. وألحق منصوب بأن مضمرة بعدها. أظن: أي أظن ذلك، حذف مفعوله للعلم به.

فصل في: مكاتبته عليه الصلاة والسلام الملوك والأمراء

فصل في: مكاتبته عليه الصلاة والسلام الملوك والأمراء قال المباركفوري: في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقبلون إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، والله سطر، هكذا: الله ... رسول ... محمد. واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصور فوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. أقول: الذي يبدو لي أن المكاتبة بدأت في أواخر السنة السادسة واستمرت بعد ذلك فمنها ما وقع في السنة السادسة ومنها ما وقع بعدها، ويصعب تحديد الزمن لكل مراسلة، وأصل المراسلة ثابت في الصحيحين وغيرهما، أما نصوص هذه الرسائل فبعضها موجود في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة وبعضها موجود في كتب السير وهناك مراسلات لا شك فيها كرسالته عليه الصلاة والسلام إلى المقوقس لكن تفصيلاتها موجودة في كتب السيرة، ومن أجود ما استوعب هذا الموضوع من المحققين قديماً ابن القيم رحمه الله، وممن استوعبه حديثاً المباركفوري في الرحيق المختوم مستفيداً من تحقيقات المحدثين ونحن سننقل من التحقيقين لتكمل صورة الحركة في السنة السادسة. ذكر ابن القيم رسائله عليه الصلاة والسلام إلى هرقل، والكتاب معروف محفوظ حتى الآن، وإلى كسرى وقد أشار إليه البخاري ومسلم، وإلى النجاشي وهو غير الأول الذي توفي في حياته عليه الصلاة والسلام وصلى عليه صلاة الغائب، وقد أشار إلى هذه الرسالة مسلم، وإلى المقوقس عظيم مصر والإسكندرية، وإلى المنذر بن ساوى عظيم البحرين، وإلى ابني الجلندي عظيمي عمان، وإلى هوذة بن علي عظيم اليمامة، وإلى الحارث بن أبي شمر

الغساني عظيم دمشق. قال المباركفوري: وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض. فمنهم من آمن به ومنهم من كفر. ولكن شغل فكر هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه. وقد عثر على أكثر من رسالة من رسائله عليه الصلاة والسلام وألفت في ذلك كتب، وهذا جهد مشكور مأجور إن شاء الله تعالى، ونحن هنا نذكر ما ورد في أصول كتابنا على شرطنا: 524 - * روى مسلم عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. 525 - * روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه، مزقه، فحسبت (القائل: هو الزهري) أن ابن المسيب قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق. 526 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في، قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبينا أنا بالشام، إذ جيء بكتاب من النبي إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، قال فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقالوا: نعم، قال فدعيت في نفر

_ 524 - مسلم (2/ 1397) 32 - كتاب الجهاد والسير - 27 - باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل. 525 - البخاري (8/ 126) 64 - كتاب المغازي - 82 - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. 526 - البخاري (8/ 214) 65 - كتاب التفسير - 4 - باب "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله. ومسلم (3/ 1393) / 32 - كتاب الجهاد والسير - 27 - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ولكن دون قول الزهري.

من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: وايم الله، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه، سله: كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: لا بل ضعفاؤهم، قال: يزيدون أو ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون، قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال قلت نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في هذه المدة، لا ندري ما هو صانع فيها؟ - قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه - قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا، ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم، أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال: فزعمت: أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت: أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل قاتلتموه؟

_ = يؤثروا علي الكذب: أي: يرووا عني وينسبون إلي. الحرب سجال: متماثلة: تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، وهو من المساجلة: المفاخرة، وهي أن تصنع مثل صنيع قرنك، وأصله من السجل، وهو الدلو لأن لكل واحد من الواردين دلواً مثل ما للآخر، أو لكل واحد منهم يوم في الاستقاء. البشاشة: انشراح القلب بالشيء، والفرح بقبوله، وأصله في اللقاء، وهو الملاطفة في الملقى.

فزعمت: أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً، ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت: أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: هل قال أحد هذا القول قبله؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قال: قلت: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف، قال: إن يك ما تقول حقاً، فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أك أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) (1). فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه

_ = الغدر: ضد الوفاء، وهو نقض العهد. صلة الأرحام: كل ما أمر الله به أن يوصل إلى الأقارب، من أنواع البر والإحسان. العفة والعفاف: الكف عما لا يحل لك. الأريسيين: اختلفوا في المراد بهم على أقوال: أصحها وأشهرها أنهم الأكارون، أي الفلاحون والزارعون، ومعناه: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك. اللغط: اختلاف الأصوات، واختلاطها، والهذر من القول. لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة: أي: كبر شأنه وعظم واتسع، وكان المشركون ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي كبشة، لأن أبا كبشة الخزاعي، واسمه وجز، كان خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وعبد الشعرى العبور، وهو النجم المعروف في نجوم السماء فلما خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الأصنام شبهوه به، وقيل: كان جد جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، أرادوا: أنه نزع إليه في الشبه. (1) آل عمران: 64.

ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام. قال الزهري: فدعا هرقل عظماء الروم، فجمعهم في دار له، فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وأن يثبت لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فقال: علي بهم، فدعا بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له ورضوا عنه. وللبخاري في رواية (1) أخرى نحو حديث معمر، وفيه: قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. وقال في الجواب أيضاً إعادة هذا الحديث. وفي أخرى (2): والله فما زلت ذليلاً مستيقناً بأن أمره سيظهر، حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره. وقال في رواية (3): وكان ابن الناطور - صاحب إيلياء وهرقل - سقفاً على نصارى الشام يحدث: أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء، ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل، قال: اذهبوا،

_ = بني الأصفر: بنو الأصفر: هم الروم، سموا بذلك لما يعرض لألوانهم في الغالب من الصفرة. حاصوا حيصة: أي: نفروا نفرة، وجالوا جولة، وهو من المحيص: المهرب، والملجأ، والميل من جهة إلى أخرى. الحزاء والحازي: الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، ويقال لخارص النخل: الحازي، تقول منه: حزوت الشيء أحزوه وأحزيه، لغتان، ويقال للذي ينظر في النجوم: حزاء، من قبل هذا، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره، فربما أصاب. (1) البخاري (1/ 32) 1 - كتاب بدء الوحي - 6 - باب حدثنا أبو اليمان ... (2) البخاري (6/ 111) 56 - كتاب الجهاد - 102 - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة. (3) البخاري (1/ 32) 1 - كتاب بدء الوحي - 6 - باب حدثنا أبو اليمان ....

فانظروا: أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب؟ فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى - حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت ... ثم ذكر نحو ما في حديث معمر إلى آخر هذا الفصل - ثم قال: فكان ذلك آخر شأن هرقل. تعليقاً على ما ذكره ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً لمراسلة الملوك عندما أبلغ أن الملوك لا يقبلون رسالة غير مختومة. قال البوطي: دل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على مشروعية اتخاذ الخاتم، وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم من فضة، كما دل على مشروعية نقش اسم صاحبه عليه. وقد استدل كثير من العلماء بذلك على استحباب وضع خاتم من فضة في الأصبع التي كان صلى الله عليه وسلم يضع خاتمه فيها، وهي أصبع الخنصر. أقول: وهذا أصل في مراعاة البروتوكول العالمي. * * *

_ = فلم يرم: رام يريم: إذا زال من مكانه، ولم يرم من مكانه، أي: لم يبرح. الدسكرة: واحدة الدساكر، وهي القصور.

فوائد عامة من أحداث السنة السادسة

فوائد عامة من أحداث السنة السادسة 1 - حسن التعامل مع النفس البشرية شرط النجاح في العمل السياسي أو العسكري أو التربوي أو التعليمي أو الإداري أو الإعلامي، بل عمم ذلك على كل شيء في الحياة البشرية فمن لا يحسن التعامل مع النفس البشرية ساقط حكماً في القيادة. والذين يحسنون التعامل مع النفس البشرية نوعان: فنوع يتعامل معها من خلال أهوائها وغرائزها وشهواتها وهؤلاء هم الأخس من القادة، ونوع يحسن التعامل معها من خلال معرفتها وإدراك جوانب الخير فيها والارتقاء بهذه الجوانب، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء هو المثل الأعلى، فهو أكثر خلق الله إدراكاً للنفوس ومعرفة بها، وهو أكثر خلق الله معرفة بالتعامل مع النفوس في أي موطن، وبذلك نجح في إيصال دعوته إلى القلوب ونجح في الانتقال بالأنفس من طور إلى طور على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمة، وهذا شيء تلحظه في الصغيرة والكبيرة من تصرفاته، ولقد مرت معنا في أحداث هذه السنة أكثر من حادثة تعتبر نموذجاً على ما ذكرناه، فحادثة ثمامة بن أثال واستخراج الإيمان منه، وحادثة إثارة الإبل في وجه سيد الأحابيش تعتبران نموذجين كاملين على ما ذكرناه، ففي حادثة ثمامة تجد طريقة من التعامل مع عدو شديد العداوة وتتمخض عن إيمان وحب، ومع أنه عليه الصلاة والسلام في الظاهر لم يدعه ولم يناقشه، وحادثة إثارة البدن في وجه سيد الأحابيش نقلت الأحابيش كلهم من الضدية إلى المعية دون أن يجري أي حوار، إنك عندما تتأمل حياته عليه الصلاة والسلام تجد من أبرز معانيها القدرة العليا على التعامل مع النفس البشرية ومن ثم نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاح الذي لم يعرفه غيره إلا لماما، ولا غرابة فمن جملة مهماته عليه الصلاة والسلام كما حددها القرآن: {ويزكيكم} وكيف يستطيع التزكية من لا يعرف النفس البشرية ويحسن التعامل معها، انظر كيف تعامل مع فتنة المنافقين يوم قال قائل يا للأنصار وقال الآخر يا للمهاجرين، وكيف أنه أنهى هذه الفتنة الكبيرة من خلال الحركة السريعة المباشرة المتقنة فصرف الأذهان عما حدث. إن حسن التعامل مع النفس البشرية يقتضي من صاحبه أن يتصرف مع كل نفس بما

يناسب وضعها وبما يحقق مردوداً على الجماعة وبما ترتقي به هذه النفس وأن يتصرف القائد مع كل الناس التصرف المناسب للمقام بما يلائم الحال وبما تتقبله النفوس وبما يحقق مردوداً للأمة وبما يقرب من الهدف القريب والبعيد دنيا وأخرى فهذا شيء فوق الطلاقة، ولا أعرف أحداً في تاريخ هذا العالم وصل في هذا كله إلى بعض ما وصل فيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من توفيق الله. 2 - القادة قسمان: فقسم لا يستشير وهذا مآله إلى الدمار أو التدمير، وقسم يستشير وهؤلاء نوعان: نوع يستفيد من الشورى، ونوع تضيعه الشورى، فالذي يستفيد من الشورى هو الذي يستطيع أن يدرك بسرعة الرأي الصحيح فيأخذ به ويرجحه من أين أتى هذا الرأي، أما النوع الآخر فهؤلاء تتجاذبهم الآراء ذات اليمين وذات الشمال، وكثيراً ما يفرطون وكثيراً ما تذهب أوقاتهم سدى وكثيراً ما يتبنون الرأي الأضعف. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان أكثر الناس استشارة - هذا مع أنه يوحى إليه - وفي الوقت نفسه كان أكثر خلق الله إدراكاً لسلامة الرأي، وأكثر خلق الله مسارعة للأخذ بالرأي الراجح ولعل موقفه من رأى أم سلمة يوم الحديبية يمثل هذا الجانب الذي ذكرناه، ولكنه ليس موقفاً يتيماً، فموقفه من رأي الحباب بن المنذر يوم بدر، وموقفه من اقتراح سلمان يوم الخندق كل ذلك نماذج على ما ذكرناه. 3 - يكثر الكلام في عصرنا على الاستراتيجية والتكتيك، والمراد بالاستراتيجية الموقف الأحكم في قضية ما على ضوء النظرة الشاملة والبعيدة المدى، والمراد بالتكتيك الحركة الآنية التي تناسب المقام، والقائد الناجح هو الذي يدرك الموقف الاستراتيجي الأجود ويتحرك حركة آنية مناسبة على ضوء ذلك ومن فاته إدراك الموقف الاستراتيجي الأحكم أو التكتيك المناسب الأسلم في موقف ما خسر أو فشل، وكثيراً ما يسقط قادة في التكتيك، أو في الاستراتيجية، وبعض القادة تطريهم النجاحات الجزئية فيسقطون في النهاية لتفضيلهم ما هو تكتيكي على ما هو استراتيجي، ومحمد صلى الله عليه وسلم - من بين القادة - كان أعظم الخلق على الإطلاق في الرؤية الشاملة البعيدة المدى وكان أعظم خلق الله في الإدارة الناجحة والحركة الصحيحة في كل موقف، وصلح الحديبية والتحرك قبله وبعده يعطيك نموذجاً على ذلك، فلقد مهد

لهذا الصلح وتجنب الصدام المباشر مع خالد وغيره قبله وتنازل لقريش حتى أرضاها فيما ظاهره ضعف وباطنه قوة، وبما أنهى قريشاً من الناحية الاستراتيجية وأعطاه مركز القيادة إلى الأبد، ذلك بعض مظاهر الكمال في شخصيته عليه الصلاة والسلام وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم. 4 - نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمضى صلح الحديبية على كره من أصحابه فهل هذا دليل لمن يقول بعدم إلزامية الشورى؟ والذي نقوله في هذا المقام ما يلي: لقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الطريق في تثبيت الأحابيش فلما أشار أبو بكر عليه بألا يفعل ترك ذلك، فهناك طرح الأمر على الشورى ونزل على رأي مستشاره الأول، لكن نلاحظ أنه في صلح الحديبية فاوض وأمضى الأمر ولم يطرح المسألة على الشورى أصلاً فما السبب في ذلك؟ الأمر يدور عندنا على ثلاثة محامل: المحمل الأول: أن ذلك كان بوحي وعندئذ فلا محل للشورى. وفي النصوص ما يشير إلى هذا من مثل (إني عبد الله لن أعصيه ...). وقد تكون المسألة من باب الفهم عن الله دون وحي، ويشير إلى مثل هذا فهمه عليه الصلاة والسلام لبروك ناقته وأنه حبسها حابس الفيل، وتعليقه على ذلك أنه لن تدعوه قريش إلى أمر تعظم فيه حرمات الله إلا فعل. المحمل الثاني: أنه أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفهم الأمة أن هناك حالات ينبغي أن يعطى الإمام فيها فرصة البت في الأمور، وعلى هذا فعلى الأمة أن تستخرج من مجموع أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام صلاحيات الإمام، ومتى تلزمه الشورى ومتى لا تلزمه، إن التفاوض مع العدو له أحكامه، فإن يظهر القائد التردد، أو أن يظهر في كل لحظة أنه بحاجة إلى استشارة خاصة والقائد هو رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بنبوته، كل ذلك له وزنه في فهم هذه الحادثة. المحمل الثالث: أن الأمة الإسلامية وقتذاك في طور التأسيس والصحابة كلهم في حجر التربية ونحن نرى أنه ما دامت الجماعات الإسلامية في طور التأسيس، والأفراد في حجر

التربية؛ فالشورى وقتذاك معلمة لا ملزمة كما ذكرنا ذلك في كتابنا: (دروس في العمل الإسلامي) وبعد هذا نقول: لا أرى أخطر على حاضر الإسلام ومستقبله من الفكرة التي تقول بعدم إلزامية الشورى دون تفصيل، بل إني أقول: إن المسلمين لم يؤتوا خلال تاريخهم إلا من هذه الفكرة، فبسبب هذه الفكرة انتقلت الأمة الإسلامية من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، ومن توزيع عادل للأموال إلى تبديد للثروات في غير ما حق، ومن أنظمة ترضي الله ورسوله والمؤمنين إلى أنظمة يلعنها الله ورسوله والمؤمنون. إنه لابد من تقعيد لتنفيذ أمر الله {وشاورهم في الأمر} (1) {وأمرهم شورى بينهم} (2) سواء لمرحلة ما قبل الحكم أو للحكم، وعلى ضوء ما يتفق عليه أهل الإسلام يكون السير. إن هذا وحده هو الذي يسع عصرنا، ويسع العاملين للإسلام، نجد عشرة من الناس يلتقون على أمير، وشوراهم لأميرهم غير ملزمة، وآراء هؤلاء الأمراء متناقضة، فكيف يتحد المسلمون؟ وإذا اتحد المسلمون فهل يتحدون على مبادئ وقواعد؟ أو يتحدون على شخص؟ وإذا اتحدوا على شخص وليس بيده سلطة تنفيذية فهل آراؤه وحدها تسعهم إذا كانت الشورى غير ملزمة؟ وإذا وصل الإسلاميون إلى الحكم فهل الأمر يناط بشخص بلا قيد ولا شرط؟ أو أن الأمر يحتاج إلى ضوابط وقواعد؟ إن الذين يقولون بعدم إلزامية الشورى يضعون الأمة الإسلامية - وهي الآن في أخطر مرحلة - في إطار قدرات الأفراد وأمزجتهم؟ فأي سير للإسلام والمسلمين في عصرنا المعقد إذا ما سير على مثل هذا الاجتهاد؟!. ترى هل يصل واحد من الناس الآن إلى مثل فضل معاوية بن أبي سفيان وهو صحابي؟ ومع ذلك جعل ابنه يزيد خليفة للمسلمين، من الذي يضمن ما دامت الشورى غير ملزمة أن يتصرف أمير مثل هذه التصرفات؟ ويا مسلمون اسمعوا وأطيعوا. 5 - عندما يتهادن فريقان فهناك ثلاث صور:

_ (1) آل عمران: 159. (2) الشورى: 38.

الصورة الأولى: أن يكون لكل من الفريقين دعوة ورسالة. الصورة الثانية: أن يكون لأحد الفريقين دعوة ورسالة وفكرة. الصورة الثالثة: ألا يكون لكل من الفريقين دعوة ورسالة. في الصورة الأولى: الفكر الأقوى هو الذي سينتصر إذا أتيح له دعاة متحمسون أقوياء، وفي الصورة الثانية: أصحاب الدعوة هم الرابحون إذا عملوا، وفي الصورة الثالثة: يتساوى الربح والخسارة عند الطرفين إذا تعادلوا باليقظة والسهر. من هنا نقول: إن يوم الحديبية كان ربحاً كله؛ لأنه كان هدنة بين أصحاب دعوة ورسالة وبين ناس ورثوا معاني وألفوها، ولذلك فإن الصف الإسلامي كان يتنامى على حساب الصف الآخر ومن هنا نرى أن أعداد المسلمين تضاعفت مرات بعد صلح الحديبية، وكل ذلك كان على حساب الصف الآخر، وهذه قضية ندر من يفطن لها، بل الغفلة عنها كانت عاملاً من عوامل انحسار الإسلام في عصرنا، فلقد وجدت على الأرض الإسلامية دعوات باطلة، في وقت خبت فيه روح الدعوة عند المسلمين وسكت المسلمون على هذه الدعوات وهادنتها حكومات فكان أن سجلت كثير من هذه الدعوات انتصارات على الأرض الإسلامية وقد ورثنا نحن ذلك والله المستعان. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك شأن آخر بأبي هو وأمي. 6 - من وجهة النظر السياسية كان صلح الحديبية اعترافاً من مكة بدولة المدينة، واعترافاً من قريش بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مباشرة إرساله الرسائل للملوك والأمراء فحقق بهذا أكثر من هدف: دعا هؤلاء إلى الله وهذا هو الهدف الأكبر، أشعر من لم يشعر من هؤلاء بوجوده، ليفكروا بتحديد موقف من الدين الجديد والدولة الناشئة، وضع أساساً للحركة السياسية والعسكرية المقبلتين في حياته أو بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، أخرج الدعوة من إطارها العربي إلى إطارها العالمي. 7 - ليس هناك من واجب على الحاكم يعدل واجب توفير الأمن للمواطن على عرضه وماله وحياته، ومن عرف جزيرة العرب في الجاهلية وطبيعة بداوتها وقسوة الحياة فيها

تقويم الموقف في نهاية السنة السادسة

أدرك أن فكرة الأمن المعروفة تكاد تكون معدومة، ولكن انظر إلى الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنها استطاعت أن تحقق أكبر قدر ممكن من الأمن بأقصر فترة متصورة فأصبحت حوادث القتل داخل المجتمع الإسلامي قليلة، والمعاهدون محميين ما داموا لا يخلون بعهدهم ثم إن أي خطر خارجي كان يرد عليه بسرعة وأي إخلال داخلي بالأمن كان يعامل بحزم وكان لا يسكت على غدر، وفي أحداث هذه السنة نجد حادثتين بارزتين تعتبران نموذجاً على بعض ما ذكرناه، معاملته عليه الصلاة والسلام للعرنيين الذين قتلوا راعيه وسملوا عينيه وسلبوا الأموال، واسترجاع ما أخذته بنو فزارة في هجومها على سرح المدينة. لقد كان المجتمع المدني يتوسع كثيراً؛ لأن الهجرة كانت مفروضة على كل من أسلم، ومع ذلك فكم هي حوادث الإخلال بالأمن التي حدثت داخل هذا المجتمع؟ إنها لقليلة جداً وذلك كله أثر من آثار السياسة النبوية التي قللت دوافع الجريمة ووسعت حوافز الفضيلة واجتمع فيها حزم القانون وعدالة القضاء، وحزم الحاكم وهدي النبوة. * * * تقويم الموقف في نهاية السنة السادسة بالصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش لم يعد هناك رأس يتجمع حوله المشركون جميعاً وبذلك ماتت إلى الأبد فكرة أن تتجمع الجزيرة العربية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام وضع يعطيه فرصاً في الحرب وفي السلم، في الدعوة داخل الجزيرة العربية وخارجها، ولم يكن الأمر يحتاج إلى تفكير كثير لاستثمار هذا الوضع فالوحي يتنزل ويسدد ويرشد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائد ولقد تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم سلماً وحرباً، وكان من آثار ذلك العجب الكبير: خلال فترة وجيزة كسبت الدعوة أضعافاً مضاعفة، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بألف وخمسمائة بينما انطلق إلى مكة عام الفتح بعشرة آلاف، وفي السنة السابعة أنهى الكيان السياسي لليهود إنهاءً تاماً في جزيرة العرب. ليست هناك لحظة تمر إلا بعمل هادف. فإلى أحداث السنة السابعة. * * *

السنة السابعة للهجرة

السنة السابعة للهجرة

أهم أحداث هذه السنة في سطور

أهم أحداث هذه السنة في سطور * في المحرم وصفر من السنة السابعة تمت غزوتا خيبر ووادي القرى، فسقطت بذلك آخر معاقل يهود في الجزيرة العربية بعد أن استسلم يهود تيماء ودخلوا في صلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. * وفي هذه السنة قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من مهاجري الحبشة وبعض الأشعريين الذين كانوا معه وكان ذلك على إثر فتح خيبر كما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية بنت حيي رضي الله عنها، وعلى إثر خيبر حاولت اليهودية زينب بنت الحارث أن تسمه صلى الله عليه وسلم ولكن الله عصمه. * وفي صفر سنة سبع للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان بن سعيد بن العاص في سرية إلى نجد لإرهاب أعرابها فلا يفكرون في غزو المدينة وهو يصارع اليهود في خيبر ووادي القرى. * وفي شهر ربيع الأول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا ولقي جمعاً من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، وهي الغزوة التي لف بها بعض الصحابة على أرجلهم الخرق عندما نقبت فاختلطت بغزوة ذات الرقاع التي كانت سنة أربع، فلنسم هذه غزوة الرقاع وتلك غزوة ذات الرقاع. * وفي صفر أو ربيع الأول أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بقديد. * وفي جمادى الأولى لسنة سبع أسلم باذان عامل كسرى على اليمن بعد أن قتل شيرويه ابن كسرى أباه وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولي باذان في اليوم التالي فكانت معجزة أسلم بسببها باذان ومن معه من أهل فارس في اليمن. * وفي هذه السنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمى وراء وادي القرى في خمسمائة رجل فشن زيد الغارة على جذام التي سلبت دحية بن خليفة الكلبي رسول رسول

الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقتل فيهم زيد قتلاً ذريعاً ..... * ومن سرايا هذا العام: - سرية عمر بن الخطاب إلى تربة في شعبان سنة 7 هـ. ومعه ثلاثون رجلاً كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة. - سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك في شعبان سنة 7 هـ في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعاً إلا بشير فإنه ارتث إلى فدك، فأقام عند يهود، حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة. - سرية غالب بن عبد الله الليثي في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عوال، وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، وقيل إلى الحرقات من جهينة في مائة وثلاثين رجلاً، فهجموا عليهم جميعاً، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعماً وشاء، وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرادس بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟ ". - سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكباً. وذلك أن أسير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيراً في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقرقرة ثبار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين. - سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار (بالفتح، أرض لغطفان وقيل لفزارة وعذرة) في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعماً كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما إلى المدينة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. - سرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة

القضاء، وملخصها أن رجلاً من جشم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيساً على محاربة المسلمين. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين فاختار أبو حدرد خطة حربية حكيمة، وهزم العدو هزيمة منكرة، واستاق الكثير من الإبل والغنم. * ولما أهل هلال ذي القعدة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء في ألفين من أصحابه سوى النساء والصبيان، وقد خرج معه كل من شهد الحديبية إلا من استشهد، وفي هذه العمرة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية رضي الله عنها. * وفي ذي الحجة من سنة سبع أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي العوجاء في سرية قوامها خمسون رجلاً إلى بني سليم ليدعوهم إلى الإسلام فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا ثم قاتلوا قتالاً شديداً جرح فيه ابن أبي العوجاء وأسر رجلان من العدو. * ومن أحداث هذه السنة رده عليه الصلاة والسلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص ابن الربيع بعدما أسلم. وكعادتنا في هذا القسم نذكر فيه ما هو ألصق بما اصطلح على تسميته بالسيرة النبوية ونركز على ما ورد فيه قرآن أو ما ورد له ذكر في أصول هذا الكتاب أو ما اشتهر من أحداث السيرة بحيث لا يليق بالكتاب ألا يعرج عليه، ولقد أشير في القرآن إلى غزوة خيبر وعمرة القضاء وإلى حادثة أسامة فنحن عاقدون لهذه ثلاثة فصول، وقد ذكرت في أصولنا غزوة الرقاع وقدوم جعفر وسرية أبان بن سعيد ونحن عاقدون لكل منها فصلاً على تسلسل وقوعها: فصل: في سرية أبان بن سعيد إلى خيبر. فصل: في غزوة خيبر. فصل: في غزوة الرقاع. فصل: في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح. فصل: في عمرة القضاء.

لنلق قبل البدء نظرة كلية على أحداث هذه السنة

ولنلق قبل البدء نظرة كلية على أحداث هذه السنة: بعد صلح الحديبية أمن الرسول صلى الله عليه وسلم أمناً مباشراً من قريش ومن دخل معها في هذا الصلح، وأمن بالتالي من أن تجتمع عليه الجزيرة العربية كلها مرة ثانية، ولم يعد هناك ما يمكن أن يشكل تهديداً مباشراً للدولة إلا جهة واحدة وهي جهة الشمال، ففي هذه الجهة أربع تجمعات لليهود في خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء، وهذه التجمعات متصلة اتصالاً مباشراً بعدد من القبائل العربية أهمها غطفان، فلو أنها اتحدت لشكلت خطراً أما من عدا هؤلاء وإلى دائرة واسعة حول المدينة المنورة فلا خطر فهناك قبائل متفرقة لا تفكر إلا في السلب والنهب وكانت سياسة الرسول مع هذه القبائل تقوم على إشعارها بالحركة المستمرة من خلال البعوث والسرايا، وهذه البعوث والسرايا كانت تحقق هدفين: إشعار هؤلاء بالإسلام ليفكروا، وتثبيتهم حتى لا يهاجموا، وتحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلت في هذا العام إلى الطائف (تربة) وإلى نجد (غزوة الرقاع)، أما خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء فقد قرر السيطرة عليها وكانت خطته ألا يعطيها فرصة التجمع مع غطفان وقد نجح في إنهاء خيبر ولم تستطع غطفان أن تفعل شيئاً ثم ذابت بعد ذلك في الإسلام. وهكذا أصبحت دائرة أمن المدينة ممتدة غرباً حتى الساحل وجنوباً حتى الطائف وشمالاً حتى حدود الشام وشرقاً حتى حدود نجد، وأما الدائرة التي تلي هذا فقد اخترقتها الدعوة الإسلامية السلمية بواسطة الرسائل والدعاة فأصبح قسم كبير من الخليج مسلماً وقسم كبير من اليمن مسلماً، وبقيت جهات كثيرة تفكر وتنتظر، وكل يوم يأتي كان يدنيها من الإسلام والطاعة والانقياد، وجاءت ضربة خيبر فأزالت الكثير من التردد، ثم جاء فتح مكة في السنة الثامنة منه فكانت الضربة النهائية. * * *

فصل: في سرية أبان بن سعيد إلى خيبر

فصل: في سرية أبان بن سعيد إلى خيبر 527 - * روى البخاري وأبو داود عن عنبسة بن سعيد أن أبا هريرة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، قال له بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه، فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل، فقال: واعجباً لوبر تدلى من قدوم الضأن. وفي رواية (1): "أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، هذا قاتل ابن قوقل. وقال أبان لأبي هريرة: واعجباً لك وبر تدأدأ من قدوم ضأن، ينعى علي امرءاً أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده. قال البخاري (2) ويذكر عن الزبيدي عن الزهري قال: أخبرني عنبسة بن سعيد أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان على سرية من المدينة قبل نجد، قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها وإن حزم خيلهم لليف. قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله، لا تقسم لهم. قال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضأن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبان أجلس" فلم يقسم لهم. قال في الفتح: وأما أبان فهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وهو عم سعيد بن العاص الذي حدثه أبو هريرة، وكان إسلام أبان بعد غزوة الحديبية، وقد ذكرنا أولاً في قصة

_ 527 - البخاري (7/ 491) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. وأبو داود (3/ 73) كتاب الجهاد - باب فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له. هذه رواية البخاري وأبي داود، إلا أن أبا داود قال في الروايتين: "قدوم ضال". لوبر تدلي من قدوم ضال: تدلى: تعلق من فوق إلى أسفل، والقدوم: ما تقدم من الشاة، وهو رأسها، وقادمة الرجل: خلاف آخرته، وإنما أراد احتقاره، وصغر قدره عنده، وأنه مثل الوبر الذي يتدلى من رأس الضأن، يعني: الشاء، في قلة المنفعة والمبالاة. (1) البخاري (7/ 491). في الرواية الأخرى "تدأدأ" إن كانت صحيحة، فنرى: أنها من الديداء: وهو أشد عدو البعير، يقال: دأدأ وتدأدأ دأدأة وديداء. وقال الخطابي: (الوبر): جمع وبرة، وهي دويبة في مقدار السنور أو نحوه. (2) البخاري (7/ 491). قوله: "وأنت بهذا" كلام فيه اختصار وإضمار، معناه: وأنت المتكلم بهذه الكلمة. و"ضال" باللام: جبل أو موضع فيما يقال، يريد بهذا الكلام: تصغير شأنه، وتوهين أمره.

الحديبية في الشروط وغيرها أن أبان هذا أجاز عثمان بن عفان في الحديبية حتى دخل مكة وبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم في هذه الغزوة أن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية، فيشعر ذلك بأن أبان أسلم عقب الحديبية حتى أمكن أن يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وقد ذكر الهيثم بن علي في الأخبار سبب إسلام أبان، فروى من طريق سعيد بن العاص قال: قتل أبي يوم بدر، فرباني عمي أبان، وكان شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم يسبه إذا ذكر، فخرج إلى الشام فرجع فلم يسبه، فسئل عن ذلك، فذكر أنه لقي راهباً فأخبره بصفته ونعته، فوقع في قلبه تصديقه، فلم يلبث أن خرج إلى المدينة فأسلم، فإن كان هذا ثابتاً احتمل أن يكون خروج أبان إلى الشام كان قبل الحديبية. قيل وقع في إحدى الطريقين ما يدخل في قسم المقلوب، فإن في رواية ابن عيينة أن أبا هريرة السائل أن يقسم له، وأن أبان هو الذي أشار بمنعه. وفي رواية الزبيدي أن أبان هو الذي سأل، وأن أبا هريرة هو الذي أشار بمنعه، وقد رجح الذهلي رواية الزبيدي. ويؤيد ذلك وقوع التصريح في روايته بقول النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا اجلس. ولم يقسم لهم، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون كل من أبان وأبي هريرة أشار أن لا يقسم للآخر، ويدل عليه أن أبا هريرة احتج على أبان بأنه قاتل ابن قوقل، وأبان احتج على أبي هريرة بأنه ليس ممن له في الحرب يد يستحق بها النفل، فلا يكون فيه قلب، وقد سلمت رواية السعيدي من هذا الاختلاف، فإنه لم يتعرض في حديثه لسؤال القسمة أصلاً. والله أعلم. ا. هـ فتح. فائدة: الذي يبدو لي أن هذه السرية كانت للفت الأنظار عن غزوة خيبر، وتثبيت بعض القبائل التي يحتمل أن تمد خيبر، فقد ورد في ابن هشام عن ابن إسحاق: فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة - مرحلة - سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، وظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر. * * *

فصل: في غزوة خيبر ووادي القرى

فصل: في غزوة خيبر ووادي القرى تقديم: - في شمال المدينة المنورة وفي الطريق إلى الشام تقع خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء وهي مناطق خصبة وتتشابك هذه المناطق الأربعة بصلات واسعة مع بدو المنطقة غطفان. - ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيطر على هذه المنطقة لترتب على ذلك أن تتوسع دائرة نفوذ الدولة ويصبح الطريق إلى الشام مفتوحاً ويقوى اقتصاد الدولة الناشئة ويسقط السلطان السياسي لمركز من مراكز التجمع، وينتهي احتمال من احتمالات خطر التألب. - ولكن الخصوم أقوياء والحصون كثيرة فهناك ثمانية حصون رئيسية في منطقة خيبر وحدها ومع ذلك فقد سيطر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء وأنهى أي تطلع عند القبائل للإمداد فدخلت في سلطانه بعد ذلك. وكانت خسائره في هذا كله على أعلى تقدير ثلاثة وعشرين شهيداً، وكانت وسائله في ذلك إحكام الخطة والسرية والمفاجأة، فلقد ثبت القبائل فلا تمد خيبر من خلال عمليات بسيطة أشعر بها هذه القبائل أنها مستهدفة وأن غزوة متجهة إليها فقطع بذلك الإمداد وفاجأ خيبر دون أن يعطيها فرصة فلما انتهت انتهى كل شيء تقريباً، وخيبر هذه سمها منطقة أو مقاطعة أو بلداً، لكنها في كل الأحوال تتألف من مجموعة حصون وقلاع. قال المباركفوري: وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1 - حصن ناعم. 2 - حصن الصعب بن معاذ. 3 - حصن قلعة الزبير. 4 - حصن أبي. 5 - حصن النزار.

والحصون الثلاثة الأولى تقع في منطقة يقال لها النطاة، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشق. أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة. ففيه ثلاثة حصون فقط: 1 - حصن القموص (كان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير). 2 - حصن الوطيح. 3 - حصن السلالم. وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. أهـ. وقد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المنطقة كلها مع وادي القرى بأبسط جهد وأقل خسارة. قال المباركفوري: وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة منق ريش وواحد من أشجع، وواحد من أسلم، وواحد من أهل خيبر، والباقون من الأنصار. ويقال: إن شهداء المسلمين في المعارك 18 رجلاً وذكر العلامة المباركفوري 19 رجلاً ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 23 اسماً، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر. أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً. أهـ. وفي ذلك درس للذين يقودون العمل الإسلامي أن يعرفوا كيف يحققون أعظم الأهداف من أقرب طريق وهاك خريطة تعينك على الرؤية البصيرة للحركة العسكرية بما فيها التحرك نحو خيبر ووادي القرى نقلاً عن السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.

[خريطة مساكن القبائل الهامة ومواقع الغزوات الإسلامية]

528 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع بعد أن تحدث عن مطاردته لعبد الرحمن الفزاري قال: فوالله! ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: تالله! لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا؟ " قال: أنا عامر. قال: "غفر لك ربك" قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد. قال: فنادى عمر بن الخطاب، وهو على جمل له: يا نبي الله! لولا ما متعتنا بعامر. قال: فلما قدمنا خيبر قال: خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذ الحروب أقبلت تلهب قال: وبرز له عمي عامر، فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين. فوقع سيف مرحب في ترس عامر. وذهب عامر يسفل له. فرجع سيفه على نفسه. فقطع أكحله. فكانت فيها نفسه.

_ 528 - مسلم (3/ 1440) 32 - كتاب الجهاد والسير - 45 - باب غزوة ذي قرد وغيرها. فجعل عمي: هكذا قال: هنا: عمي. وقد سبق في حديث أبي الطاهر عن ابن وهب أنه قال: أخي. فلعله كان أخاه من الرضاعة، وكان عمه من النسب. يخطر بسيفه: أي يرفعه مرة ويضعه أخرى. ومثله: خطر البعير بذنبه يخطر، إذا رفعه مرة ووضعه أخرى. شاكي السلاح: أي تام السلاح: يقال: شاكي السلاح، وشاك السلاح، وشاك في السلاح، من الشوكة وهي القوة. والشوكة أيضاً السلاح. ومنه قوله تعالى (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم). بطل مجرب: أي مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان، والبطل الشجاع، يقال بطل الرجل يبطل وبطولة إذا صار شجاعاً. يسفل له: أي يضربه من أسفله.

قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر. قتل نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال ذلك؟ " قال قلت: ناس من أصحابك. قال: "كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين". ثم أرسلني إلى علي، وهو أرمد. فقال: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله" قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده، وهو أرمد. حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية. وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: اختلفوا في قاتل مرحب فقيل علي بن أبي طالب، وقال ابن عبد البر في كتابه مختصر السيرة قال محمد بن إسحاق: إن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا اليهودي بخيبر، قال وخالفه غيره فقال بل قتله علي بن أبي طالب (قال ابن عبد البر) هذا هو الصحيح عندنا. ثم روى ذلك بإسناده عن بريدة وسلمة بن الأكوع، (قال الشافعي) في المختصر: نفل النبي

_ = كذب من قال: كذب، هنا بمعنى أخطأ. وهو أرمد: قال أهل اللغة: يقال رمد الإنسان يرمد رمداً فهو رمد وأرمد. إذا هاجت عينه. أنا الذي سمتني أمي حيدرة: حيدرة اسم للأسد. وكان علي رضي الله عنه قد سمي أسداً في أول ولادته. وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسداً يقتله. فذكره علي رضي الله عنه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه. وسمي الأسد حيدرة لغلظه. والحادر الغليظ القوي. ومراده: أنا الأسد في جراءته وإقدامه وقوته. أوفيهم بالصاع كيل السندرة: معناه أقتل الأعداء قتلاً واسعاً ذريعاً. والسندة مكيال واسع. وقيل: هي العجلة. أي أقتلهم عاجلاً. وقيل: مأخوذ من السندرة: وهي شجرة الصنوبر يعمل منها النبل والقسي.

صلى الله عليه وسلم يوم خيبر محمد بن مسلمة سلب مرحبا ذكره في أول باب جامع السير، وهذا تصريح منه بأن قاتله محمد بن مسلمة، (وقال ابن الأثير) الصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن علياً هو قاتله، قال المصنف رحمه الله: قلت: وفي صحيح مسلم بإسناده عن مسلمة بن الأكوع التصريح بأن علياً هو الذي قتله انتهى ما ذكره النووي في التهذيب. أهـ. 529 - * روى البخاري عن سويد بن النعمان رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء - وهي أدنى خيبر - صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به، فثري فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ. 530 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". 531 - * روى الإمام أحمد عن أبي طلحة قال: صبح نبي الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم فلما رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم معه الجيش نكصوا مدبرين. فقال نبي الله

_ 529 - البخاري (7/ 463) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب: غزوة خيبر. والنسائي (1/ 108) كتاب الطهارة - المضمضة من السويق، والموطأ (1/ 26). فثرى: من ثرى: التربة تثرية بلها. وصب عليه ماء ثم لته أي دقه وسحقه. 530 - البخاري (7/ 467) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (3/ 1427) 32 - كتاب الجهاد والسير - 43 - باب غزوة خيبر. الخميس: الجيش الكبير. 531 - أحمد (4/ 28). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 149) وقال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجال أحمد رجال الصحيح. المسحاة: المجرفة من الحديد، والمكتل كالزنبيل يسع خمسة عشر صاعاً. نكص: أحجم ورجع. والحديث يدل على أن المفاجأة كانت كاملة.

صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". 532 - * روى البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: كنا محاصري خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييت. ولمسلم (1) قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته، فقلت، لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسماً. وفي رواية أبي داود والنسائي (2) قال: دلي جراب من شحم عمرو يوم خيبر، فأتيته فالتزمته، قال: ثم قلت ... وذكر رواية مسلم - وقال: يتبسم إلي. 533 - * روى الإمام أحمد عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال: والله إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رجل يطعمنا من هذه الغنم" قلت: أنا يا رسول الله، قال: "فافعل": فخرجت اشتد مثل الظليم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً، قال: "اللهم أمتعنا به" قال فأدركت الغنم وقد دخلت أوائلها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت بهما أشتد، كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما وأكلوهما، فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلاكاً، فكان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم يقول: أمتعوا بي لعمري كنت آخرهم.

_ 532 - البخاري (7/ 481) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب: غزوة خيبر. فنزوت: النزو: الوثوب على الشيء. (1) مسلم (3/ 1393) 32 - كتاب الجهاد والسير - 25 - باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب. (2) أبو داود (3/ 65) كتاب الجهاد - باب في إباحة الطعام في أرض العدو. والنسائي (7/ 236) كتاب الضحايا باب ذبائح اليهود. 533 - أحمد (3/ 427)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 149). الظليم: ذكر النعام.

توفي أبو اليسر بالمدينة سنة خمس وخمسين وقد زاد على المائة. 534 - * روى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم، يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟ " قالوا: عامر بن الأكوع، قال: "يرحمه الله" قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله؛ لولا أمتعتنا به! قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم، حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم، قال: "على أي لحم؟ " قالوا: لحم حمر الإنسية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها واكسروها" فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك" فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصراً، فتناول به ساق يهودي ليضربه، ويرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، فلما قفلوا، قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال:

_ 534 - البخاري (7/ 463) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (3/ 1427) 32 - كتاب الجهاد والسير - 43 - باب غزوة خيبر. هنيهاتك: هنيهاتك وهنياتك، يعني: الأشياء التي تظهر منه مما يستغرب ويستظرف ويستحسن ويشتهى ونحو ذلك. وجبت: قوله: وجبت، أي وجبت الرحمة والمغفرة التي ترحم بها عليه، يعني: أنه باستغفاره له وجبت له المغفرة، وأنه يقتل شهيداً. مخمصة: المخمصة: المجاعة. ذباب: السيف: طرفه الذي يضرب به. قفلوا: قفل المسافر: إذا رجع من سفره.=

"مالك؟ " قلت له: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبط عمله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذب من قاله، إن له لأجرين" وجمع بين إصبعيه "إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله" وفي رواية: "نشأ بها". ولم يقل مسلم: "نشأ بها". ولمسلم (1) قال سلمة: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك - وشكوا فيه - رجل مات في سلاحه وشكوا في بعض أمره قال سلمة: فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي أن أرجز بك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: أعلم ما تقول، فقلت: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت. فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا فلما قضيت رجزي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال هذا؟ " قلت: قاله أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمه الله" قال: فقلت: يا رسول الله إن ناساً ليهابون الصلاة عليه، يقولون: رجل مات بسلاحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبوا، مات جاهداً مجاهداً". قال ابن شهاب: ثم سألت ابناً لسلمة بن الأكوع؟ فحدثني عن أبيه مثل ذلك، غير أنه قال - حين قلت: إن ناساً يهابون الصلاة عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبوا، مات

_ = حبط: عمله، أي: بطل، وضاع أجره. (1) مسلم (3/ 1429) 32 - كتاب الجهاد والسير - 43 - باب غزوة خيبر. وقاله أخي: لعله أخوه من الرضاعة وعمه من النسب. جاهداً: الجاهد: المبالغ في الأمر الذي ينتهي إلى آخر ما يجد، والمجاهد: الغازي في سبيل الله تعالى. يهابون الصلاة عليه: يعني الترحم.

جاهداً مجاهداً، فله أجره مرتين، وأشار بإصبعيه". وأخرجه أبو داود (1) مختصراً قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك - وشكوا فيه: رجل مات بسلاحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مات جاهداً مجاهداً". قال ابن شهاب: ثم سألت ابناً لسلمة بن الأكوع. وذكر باقي الحديث إلى آخره. وأخرجه النسائي (2) مثل رواية مسلم المفردة بطولها، وزاد: واشار بإصبعيه. 535 - * روى البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة فقال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفثت فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيت حتى الساعة. 536 - * روى الحاكم عن الأسود بن سريع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية يوم خيبر فقاتلوا المشركين فأمضى بهم القتل إلى الذرية فلما جاءوا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما حملكم على قتل الذرية" فقالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين قال: "وهل خياركم إلا أولاد المشركين، والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يعرب عنها لسانها". 357 - * روى الإمام أحمد عن بريدة قال: حاصرنا خيبر، فأخذ اللواء أبو بكر، فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه من الغد عمر، فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني دافع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله

_ (1) أبو داود (3/ 20) كتاب الجهاد، باب في الرجل يموت بسلاحه. (2) النسائي (6/ 30) كتاب الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله فارتد عليه سيفه فقتله. 535 - البخاري (7/ 475) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. وأبو داود (3/ 12) كتاب الجهاد، باب كيف الرقي؟ 536 - الحاكم (2/ 123) وسكت عنه، وأقره الذهبي وقال: تابعه يونس عن الحسن حدثنا الأسود بهذا. 537 - أحمد (5/ 353).وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 150) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له" فبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غداً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الغداة، ثم قام قائماً، فدعا باللواء والناس على مصافهم، فدعا علياً وهو أرمد، فتفل في عينيه، ودفع إليه اللواء، وفتح له قال بريدة. وأنا فيمن تطاول لها. 538 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: خرج علينا علي بن أبي طالب في الحر الشديد وعليه ثياب الشتاء وخرج علينا في الشتاء وعليه ثياب الصيف ثم دعا بما نشد به ثم مسح العرق عن جبهته، ثم رجع إلى بيته، فقلت لأبي: يا أبتاه، أما رأيت ما صنع أمير المؤمنين خرج علينا في الشتاء عليه ثياب الصيف، وخرج علينا في الصيف وعليه ثياب الشتاء فقال أبو ليلى: ما فطنت، فأخذ بيد ابنه، فأتى علياً فقال له الذي صنع، فقال له علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثني وأنا أرمد، فبزق في عيني، ثم قال: افتح عينيك، ففتحتها فما اشتكيتها حتى الساعة، ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد" فما وجدت حراً ولا برداً حتى يومي هذا. وفي رواية أخرى عنده عن سويد بن غفلة قال: لقينا علياً وعليه ثوبان في الشتاء فقلنا لا تغتر بأرضنا هذه فإن أرضنا هذه مقرة ليست مثل أرضك. قال: فإني كنت مقروراً، فلما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قلت إني أرمد فتفل في عيني فما وجدت حراً ولا برداً ولا رمدت عيناي. 539 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: "من: يأخذها بحقها؟ " فجاء فلان فقال: أنا قال: "أمط"، ثم جاء رجل فقال: "أمط" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر، هاك يا علي" فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتهما وقديدهما.

_ 538 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 122) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. عليه ثوبان: أي عليه ثياب خفيفة. مقرة: أي باردة. 539 - أحمد (3/ 16)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 151) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات. أمط: كلمة زجر بمعنى: تنح.

540 - * روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال: "فأرسلوا إليه" فأتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم". 541 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه" قال عمر ابن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: "امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك"، قال: فسار علي شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".

_ 540 - البخاري (7/ 476) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب: غزوة خيبر. وكذا في (6/ 144) 56 - كتاب الجهاد - 143 - باب: فضل من أسلم على يديه رجل. ومسلم (4/ 1872) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 4 - باب: من فضائل علي بن أبي طالب. يدوكون: بات القوم يدوكون دوكاً: إذا وقعوا في أخلاط ودوران وخاضوا في أمر. نفذ: في الأمر: إذا مضى فيه. وعلى رسلك: أي: على حالتك وهيئتك. 541 - مسلم (4/ 1871) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 4 - باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تساورت لها: أي: ثرت وانزعجت وتطلعت، والسورة: الثورة والحركة بحدة، يقال: سار الرجل يسور، وهو سوار، إذا ثار وزال عنه السكون الذي كان عليه، هذا أصله، ثم قد يكون عن غضب أو عن شيء يتبعه نفسه، فيريد أن يقف عليه.

542 - * روى الطبراني عن أم سلمة وكانت في غزوة خيبر قالت: سمعت وقع السيف في أسنان مرحب. 543 - * روى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلينا عندها الغداة بغلس، فركب النبي صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما دخل القرية قال: "الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" قالها ثلاث مرات. وخرج القوم إلى أعمالهم. قال عبد العزيز: فقالوا: محمد والخميس وأصبناها عنوة، فجمع السبي، فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها" فجاء بها، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها. 544 - * روى الطبراني عن ابن شهاب في تسمية من استشهد يوم خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار ثم بني حارثة: محمود بن مسلمة فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمحمد بن مسلمة: "أخوك له أجر شهيدين" ومن بني زريق: مسعود بن سعد بن قيس. 545 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فأصبناها عنوة، فجمع السبي.

_ 542 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 152) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 543 - النسائي (6/ 131) مطولاً - كتاب النكاح، باب البناء في السفر. وكذا في (1/ 271) كتاب المواقيت - باب التغليس في السفر. ومسلم (3/ 1426) 32 - كتاب الجهاد والسير - 43 - باب: غزوة خيبر. عنوة: فتحت البلدة عنوة أي قهراً بغير صلح. السبي: سبى عدوه سبياً وسباء: أسره. السبي: المأسور. 544 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 155) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 545 - أبو داود (3/ 159) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء من حكم أرض خيبر. العنوة: القسر. السبي: الأسارى. ويطلق على النساء والصبيان خاصة.

546 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها - أو عباءة" - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون" - قال: فخرجت، فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. 547 - * روى أبو داود عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه؛ أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متعه، فوجدنا خرزاً من خرز يهود، لا يساوي درهمين. فائدة: اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وسمح لهم أن يصلوا عليه زجراً للناس عن فعله. 548 - * روى الترمذي عن عمير، مولى آبي اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلموه أني مملوك قال: فأمرني فقلدت سيفاً، فإذا أنا أجره، فأمر لي بشيء من خرتي المتاع، وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجانين، فأمرني بطرح بعضها، وحبس بعضها. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لا يسهم للمملوك ولكن يرضخ له بشيء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

_ 546 - مسلم (1/ 107) 1 - كتاب الإيمان - 48 - باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. غلها: سرقها وأخفاها. 547 - أبو داود (3/ 68) كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول. غل: خان في المغنم أو في مال الدولة. 548 - الترمذي (4/ 127) كتاب السير - باب هل يسهم للعبد وأبو داود (3/ 150) إلا أن رواية أبي داود انتهت قوله: المتاع. والحاكم (1/ 327) وسكت عنه وأقره الذهبي. خرتي: المتاع: أثاث البيت.

549 - * روى أبو داود عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر، كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فيها حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: "أين مسك حيي بن أخطب؟ " قال: أذهبته الحروب والنفقات، فوجدوا المسك، فقتل ابن الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم، واراد أن يجليهم، فقالوا: يا محمد، دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك، ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقاً من تمر وعشرين وسقا من شعير. وفي أخرى لأبي داود (1) قال: إن عمر قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود، فأخرجهم. 550 - * روى البخاري عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر، قام عمر خطيباً، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال: "نقركم ما أقركم الله" وإن عبد الله بن عمر: خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس له هناك عدو غيرهم، هم عدونا

_ 549 - أبو داود (3/ 157) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر. الصفراء والبيضاء: الصفراء: الذهب، والبيضاء: الفضة. الحلقة: قيل المراد بها السلاح، وقيل المراد بها الدروع؛ لأنها في حلق مسلسلة. مسكاً: المسك الجلد، والمراد به هنا: ذخيرة من صامت وحلي كانت لحيي بن أخطب وكانت يدعى مسك الجمل، ذكروا: أنها قومت عشرة آلاف دينار، وكانت لا تزف امرأة إلا استعير لها ذلك الحلي، قيل: إنها كانت في مسك جمل ثم في مسك ثور في مسك حمل. (1) أبو داود (3/ 158) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر. 550 - البخاري (5/ 327) 54 - كتاب الشروط - 14 - باب إذا اشترط في المزارعة "إذا شئت أخرجك". فدع: رجل أفدع: بين الفدع، وهو المعوج الرسغ من اليد أو الرجل، فيكون منقلب الكف أو القدم إلى ما يلي الإبهام، وذلك الموضع هو الفدعة. فعدي عليه: عدي عليه، أي: ظلم، والعدوان: الظلم المجاوز للحد.

وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك، أتاه أحد بني أبي الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين، أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا أخرجت من خيبر، تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟ " فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم، فقال: كذبت يا عدو الله فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر: مالاً وإبلاً، وعروضاً من أقتاب، وحبال، وغير ذلك. 551 - * روى أبو داود عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قيل له: هل كنتم تخمسون - يعني الطعام - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء، فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. 552 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط، فلما فتحها أصاب فيها غنماً وبقراً، فقسم فينا طائفة منها، وجعل بقيتها في المغنم، فلقيت معاذ بن جبل، فحدثته فقال معاذ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأصبنا فيها غنماً، فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة، وجعل بقيتها في المغنم. 553 - * روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في

_ = هزيلة: تصغير: هزلة، وهو المرة الواحدة من الهزل ضد الجد. أجلاهم: الإجلاء: الإخراج من الوطن كرهاً. قلوصك: القلوص: الناقة الشابة، وقيل: القوية على السير، ولا يسمى الذكر قلوصاً. أقتاب: جمع قتب وهو الرحل الصغير على قدر سنام البعير. 551 - أبو داود (3/ 66) كتاب الجهاد - باب في النهي عن النهي إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو. وأخرجه الحاكم (2/ 126) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بمحمد وعبد الله ابني أبي المجالد جميعاً ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على تصحيحه. التخميس: أي يرفع الخمس لأصحاب الخمس المعينين ويقسم الباقي على المقاتلين. 552 - أبو داود (3/ 67) كتاب الجهاد - باب في بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو. طائفة: أراد بالطائفة: قدر الحاجة للطعام، وترك الباقي. قسم فينا: فقسمه بينهم على قدر السهام، لكن ضرورة حاجتهم إلى الطعام والعلف أباحت لهم ذلك. 553 - الترمذي (4/ 128) كتاب السير - باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

نفر من الأشعريين خيبر، فأسهم لنا مع الذين افتتحوها. وفي رواية أبي داود (1) قال: قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين افتتحوا خيبر، فأسهم لنا - أو قال: فأعطانا منها - وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا: جعفر وأصحابه، فأسهم لهم معهم. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. قال الأوزاعي، من لحق بالمسلمين قبل أن يسهم للجيش أسهم له. 554 - * روى أبو داود عن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول الله خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً. قال ابن الأثير. (لنوائبه) النوائب: جمع نائبة، وهو ما ينوب الإنسان، أي ينزل به من المهمات والحوائج، والظاهر من أمر خيبر: أنها فتحت عنوة، إذا كانت عنوة فهي مغنومة، وحصة النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة خمس الخمس فكيف جعل نصيبه منها النصف حتى يصرفه في حوائجه ومهامه؟ ووجه ذلك عند من تتبع الأخبار المروية في فتح خيبر واضح. 555 - * روى مسلم عن ابن عمر. قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ماي خرج من ثمر أو زرع. فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق: ثمانين وسقاً من تمر، وعشرين وسقاً من شعير. فلما ولي عمر قسم خيبر. خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقطع لهن الأرض والماء، أو يضمن لهن الأوساق كل عام فاختلفن. فمنهن من اختار الأرض والماء. ومنهن من اختار الأوساق كل عام. فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. وفي رواية (2) أبي داود قال: لما: افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقرهم

_ (1) أبو داود (3/ 73) كتاب الجهاد - باب فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له. 554 - أبو داود (3/ 159) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر - وإسناده قوي. 555 - مسلم (3/ 1186) 22 - كتاب المساقاة - 1 - باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. الأوساق: جمع وسق، وهي ستون صاعاً. (2) أبو داود (3/ 158) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

على النصف مما خرج منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقركم فيها على ذلك ما شئنا" فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق تمراً وعشرين وسقاً شعيراً، فلما أراد عمر إخراج اليهود، أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لهن نخلاً بخرصها مائة وسق، فيكون لها أصلها وأرضها وماؤها، ومن الزرع مزرعة خرص عشرين وسقاً فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو، فعلنا. وذلك: أن خيبر كانت لها قرى. وضياع خارجة عنها، مثل: الوطيحة، والكتيبة، والشق. والنطاة، والسلاليم، فكان بعضها مغنوماً، وهو ما غلب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس. وسبيل ذلك القسمة، وكان بعضها فيئاً لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. وذلك خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعه حيث شاء، فنظروا إلى مبلغ ذلك كله، فكان نصفه بقدر ما يخص النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء، وسهمه من الغنيمة، فجعل النصف له، والنصف للغانمين، وقد بين ذلك ابن شهاب، قال: "إن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً". 556 - * روى أبو داود عن بشير بن يسار رحمه الله قال: لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به: من الوطيحة والكتيبة، وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر، فقسمه بين المسلمين: الشق والنطاة، وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما.

_ = استدل بهذا الحديث، على جواز المساقاة والمزارعة مجتمعين، وجواز كل واحدة منها منفردة، وهو قول أحمد وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وفقهاء الحديث. قال النووي: وهذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر، ولا يقبل دعوى كون المزارعة في خيبر، إنما جازت تبعاً للمساقاة، بل جازت مستقلة ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة قياساً على القراض، فإنه جائز بالإجماع، وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار، مستمرون على العمل بالمزارعة. 556 - أبو داود (3/ 159) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر. والوطيح: بفتح الواو وكسر الطاء - حصن من حصون خيبر هو أمنعها وأحصنها وآخرها فتحاً. والكتيبة: بضم الكاف، على صورة مصغرة، وقيل: بفتحها، وهي إحدى قرى خيبر. والشق: بفتح الشين أو كسرها. والكسر أعرف وأشهر - حصن من حصون خيبر. والنطاة: بفتح النون والطاء وآخره تاء تأنيث - حصن بخيبر، أو عين تسقي بعض نخيل قراها.

وفي رواية (1): أنه سمع نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فذكر هذا الحديث - قال: فكان النصف سهام المسلمين، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب. وفي أخرى (2) عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما ظهر على خيبر، قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس. وفي رواية (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر، قسمها ستة وثلاثين سهماً جمع، فعزل للمسلمين الشطر: ثمانية عشر سهماً، يجمع كل سهم مائة النبي صلى الله عليه وسلم معهم، له سهم كسهم أحدهم، وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وهو الشطر لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوطيح، والكتيبة، والسلالم وتوابعها فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود، فعاملهم. قال ابن حجر: قوله (بشطر ما يخرج منها) هذا الحديث هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر كما سيأتي بعد أبواب. واستدل به على جواز المساقاة في النخل والكرم وجميع الشجر الذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة، وبه قال الجمهور. وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم، وألحق المقل (4) بالنخل لشبهه به. وخصه داود بالنخل، وقال أبو حنيفة وزفر: لا يجوز بحال لأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة، وأجاب من جوزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة، لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه وهو معدوم ومجهول، وقد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة فكذلك هنا. وأيضاً فالقياس في

_ (1) أبو داود (3/ 159) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر. (2) أبو داود (3/ 159) الموضع السابق. (3) أبو داود (3/ 160) كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب ما جاء في حكم أرض خيبر بإسناد صحيح، وفي الرواية الأولى والأخيرة إرسال. (4) المقل: نوع من الشجر يشبه النخل وله ثمر أو هو صمغ شجرة.

إبطال نص أو إجماع مردود. وأجاب بعضهم عن قصة خيبر بأنها فتحت صلحاً، وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية فلا يدل على جواز المساقاة. وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة كما سيأتي في المغازي، وبأن كثيراً منها قسم بين الغانمين ما سيأتي. وبأن عمر أجلاهم منها. فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها. واستدل من أجازه في جميع الثمر بأن في بعض طرق حديث الباب "بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر" وفي رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب "على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر" وهو عند البيهقي من هذا الوجه، واستدل بقوله على شطر ما يخرج منها لجواز المساقاة بجزء معلوم لا مجهول، واستدل به على جواز إخراج البذر من العامل أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيء من ذلك، واحتج من منع بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة وهو لا يجوز، وأجاب من أجازه بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة جمعاً بين الحديثين وهو أولى من إلغاء أحدهما. قوله (فكان يعطي أزواجه مائة وسق: ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير) كذا للأكثر بالرفع على القطع، والتقدير: منها ثمانون ومنها عشرون. وللكشمهيني "ثمانين وعشرين" على البدل، وإنما كان عمر يعطيهن ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعد نفقة نسائي فهو صدقة" وسيأتي في بابه. 557 - * روى النسائي عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم: سهماً للزبير وسهماً لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير وسهمين للفرس. 558 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم لمائتي فرس يوم خيبر سهمين سهمين. 559 - * روى الطبراني عن زينب امرأة عبد الله الثقفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها بخيبر خمسين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً بالمدينة.

_ 557 - النسائي (6/ 228) كتاب الخيل، باب سهمان الخيل. بإسناد حسن. 558 - الحاكم (2/ 138) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وقد احتج البخاري بيحيى بن أيوب وكثير المخزومي. 559 - الطبراني (24/ 287) في مسند زينب امرأة عبد الله بن مسعود الثقفية.

560 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم. 561 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن النساء الحبالى أن يوطئن حتى يضعن ما في بطونهن، وعن كل ذي ناب من السباع، وعن بيع الخمس حتى يقسم. 562 - * روى البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه أنه سمع عمر يقول: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بباناً، ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها. وفي رواية أخرى (1): قال عمر: لولا آخر المسلمين، ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. 563 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر. 564 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما فتحت خيبر، قلنا: الآن نشبع من التمر.

_ 560 - المستدرك (2/ 137) وقال: وقد روي بعض هذا المتن بإسناد صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. 561 - المستدرك (2/ 137) وصححه الذهبي. النساء الحبالى: المقصود اللواتي وقعن في السبي، فبعد القسمة لا يوطئن حتى يضعن حملهن. 562 - البخاري (7/ 490) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. وأحمد في مسنده (1/ 40). بباناً: بباناً: واحداً: أي شيئاً واحداً، مثل قوله: باجاً واحداً، ومعنى الحديث: أنه قال: لولا أن أترك آخر الناس - وهم يجيئون بعده - شيئاً واحداً متساويين في الفقر. وليس لهم شيء، لكنت كلما فتحت على المسلمين قرية قسمتها، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وذلك: أنه قسمها على الغانمين، فصار لكل واحد منهم حصة مفردة من أرض خيبر، يتصرف فيها. فقال عمر: لو قسمتها كقسمة خيبر، جاء آخر الناس وليس لهم حصة في البلاد المفتتحة، فيكون بياناً واحداً، ليس لهم شيء، فلذلك جعل عرم البلاد في أيدي المسلمين يتولونها لبيت المال، ولم يقسم على الغانمين إلا الغنائم وحدها دون البلاد. (1) البخاري (7/ 490) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. 563 - البخاري (7/ 495) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. 564 - البخاري (7/ 495) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر.

565 - * روى مالك عن سعيد بن المسبب رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر - يوم افتتح خيبر - أقركم فيها ما أقركم الله عز وجل على أن الثمر بيننا وبينكم قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه. 566 - * روى مالك عن سليمان بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر قال: فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لك، وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. 567 - * روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها. فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحم الحمر شيئاً فقال ناس: إنما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهالم تخمس، وقال آخرون: نهى عنها ألبتة. وفي رواية النسائي (1) قال: أصبنا يوم خيبر حمراً خارجاً من القرية، فطبخناها،

_ 565 - مالك (2/ 703) 33 - كتاب القسامة - 1 - باب ما جاء في المساقاة بإسناد صحيح، وهو مرسل. فيخرص: خرص الرطب: حزر ما فيه تخميناً وتقديراً. 566 - مالك (2/ 703) 33 - كتاب القسامة - 1 - باب ما جاء في المساقاة. وهو حديث حسن. يخرص: خرص النخل: حزر ما عليه من الرطب والتمر، ومن العنب زبيباً. حيف: الحيف: الظلم. الرشوة: البرطيل. سحت: السحت: الحرام. 567 - مسلم (3/ 1539) 34 - كتاب الصيد والذبائح - 5 - باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية. والبخاري (7/ 481) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. اكفئوا القدور: كفأت القدر: إذا قلبتها وكببتها، وكذلك أكفأتها. تخمس: الخمس: ما يجب إخراجه من الغنيمة، وتخميس الغنيمة أخذ خمسها. ألبتة: تجوز بهمز الألف وبدونه. (1) النسائي (7/ 203) كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية.

فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم لحوم الحمر، فأكفئوا القدور بما فيها، فأكفأناها. 568 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه رضي الله عنه قال: شهدت فتح خيبر مع رسول الله عليه وآله وسلم فلما انهزم القوم وقعنا في رحالهم فأخذ الناس ما وجدوا من جزر قال زيد: وهي المواشي فلم يكن بأسرع من أن فارت القدور فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالقدور فأكفئت ثم قسم بيننا فجعل لكل عشرة شاة. 569 - * روى الطبراني عن الشعبي قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر قيل له: قد قدم جعفر من عند النجاشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أو فتح خيبر" فأتاه فقبل ما بين عينيه فقط. 570 - عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "للناس هجرة، ولكم هجرتان". 571 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله علينا فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي - يعني: وادي القرى - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد، من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله، فرمي بسهم، فكان فيه حتنه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً، أخذها

_ 568 - المستدرك (2/ 134) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. الجزر: ما يصلح أن يذبح من الشياه. 569 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 272) وقال: رواه الطبراني مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح. 570 - الحاكم في المستدرك: وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. 571 - مسلم (1/ 108) 1 - كتاب الإيمان - 48 - باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون والبخاري (7/ 487) كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. الشملة: إزار يتشح به. بشراك: الشراك: سير من سيور النعل التي على وجهها.

من الغنائم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم" قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك، أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك من نار، أو شراكان من نار". وفي رواية (1) نحوه، وفيه: ومعه عبد يقال له: مدعم، أهداه له أحد بني الضباب، إذ جاءه سهم عائر. 572 - * روى الإمام أحمد عن عقبة بن سويد الأنصاري أنه سمع أباه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر فلما بدا له أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر جبل يحبنا ونحبه". 573 - * روى أبو داود عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - ومعه من معه من أصحابه - وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، ألكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا ابن عوف، اركب فرسك، ثم ناد ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة" قال: فاجتمعوا، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام فقال: "أيحسب أحدكم - متكئاً على أريكته - قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله، قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم". * * *

_ (1) البخاري (7/ 487) 64 - كتاب المغازي - 38 - باب غزوة خيبر. سهم عائر: إذا لم يدر من أين جاء. 572 - أحمد في مسنده (3/ 443) وعقبة ذكره ابن أبي حاتم، وقال: روى عنه عبد العزيز ولم يجرحه وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 155) وقال: وروى عنه الزهري عند أحمد، وبقية رجاله رجال الصحيح. قال ابن حجر عن عقبة: مجهول، وصحح ابن عبد البر حديثه. 573 - أبو داود (3/ 170) كتاب الخراج - باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، وفي سنده لين، لكن لبعضه شاهد بسند صحيح. مارداً: المارد من الرجال: العاتي الشديد. ... أريكته: السرير في الحجلة. والحجلة ساتر كالقبة.

فقهيات

فقهيات من تعليقات الدكتور البوطي على غزوة خيبر هذه المسائل: (جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية وحقيقتها، بدون إنذار مسبق أو دعوة مجددة)، وهو مذهب الشافعية وجمهور الفقهاء، فذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغارته على خيبر. وأما بلوغ الدعوة وتفهم الإسلام فهماً صحيحاً على وجهه فهو شرط بالاتفاق. (جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر مكان القتال)، وذلك بعد استئذان أصحاب الحق فيها. فقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ومن معه في الغنائم، بإذن من الصحابة. حينما عادوا من الحبشة واليمن. واعلم أن رواية البخاري في هذا خالية عن التقييد باستئذان المسلمين، ولكن زاد البيهقي في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم، وزيادة العدل مقبولة والذي زاد من قيمة القيد الذي رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لأبان بن سعيد، وقد كان أرسله على سرية قبل نجد فعاد منها إلى خيبر بعد انتهاء القتال، وقال له صلى الله عليه وسلم: اقسم لنا يا رسول الله. فلم يقسم له، وإنما يجمع بين الخبرين بحمل الأول منهما على إذن الجماعة في القسمة. والثاني على عدمه. ولعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم هذا، مع ما تطورت إليه اليوم حالة الحروب والجند وسياسة عطاءاتهم ومرتباتهم؟ والجواب: أنك قد علمت مما سبق أن الأموال غير المنقولة من الغنائم لا توزع بين المحاربين عند مالك وأبي حنيفة على ما نحو ما مر بيانه إلا إذا دعت المصلحة أو الضرورة. أما الأموال المنقولة منها فيجب أن توزع على الغانمين بنفس الطريقة التي كان يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال وطرائقه في تفاوت درجات المقاتلين. ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات أو مرتبات متلاحقة إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستملك شيئاً من هذه الأموال لنفسها. أقول: لابد من التفريق بين ما إذا كان الجيش نظامياً يأخذ الفرد فيه مرتباً من

الدولة فهذا حكمه حكم الأجير فليس ههنا إلزام على الدولة أن تدفع له سهمه من أربعة أخماس الغنيمة. وقال: (مشروعية تقبيل القادم والتزامه). وهو مما لا نعلم فيه خلافاً معتداً به إذا كان قادماً من سفر أو طال العهد به، واستدل العلماء في ذلك بتقبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين عينيه والتزامه إياه عند قدومه من الحبشة. والحديث رواه أبو داود بسند صحيح. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب. فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه. فاعتنقه وقبله. ويشكل عليه في الظاهر ما رواه الترمذي أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله. الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم. وجواب الإشكال أن سؤال الرجل في هذا الحديث عن اللقاءات العادية المتكررة بين الرجل وصاحبه. والتقبيل أو الالتزام أمر غير مرغوب فيه في مثل هذه الحال. أما ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك بالنسبة لجعفر وزيد فإنما كان ذلك - كما قد علمت على أثر قدوم من سفر فالحالتان مختلفتان. * * *

وصل: قصة الحجاج بن علاط

وصل: قصة الحجاج بن علاط أسلم سراً ولم يعلم بإسلامه أهل مكة: 574 - * روى الإمام أحمد عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج ابن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً وإن لي بها أهلاً وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئاً؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء فأتى امرأته حين قدم فقال اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم، قال: وفشا ذلك بمكة وانقمع المسلمون وأظهر المشركون فرحاً وسروراً قال: وبلغ الخبر العباس بن عبد المطلب فعقر، وجعل لا يستطيع أن يقوم قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري عن مقسم قال: فأخذ ابناً له يقال له قثم فاستلقى فوضعه على صدره وهو يقول: حبي قثم شبيه ذي الأنف الأشم نبي ذي النعم، برغم من رغم قال ثابت عن الحجاج عن أنس ثم أرسل غلاماً إلى الحجاج بن علاط فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول فما وعد الله عز وجل خير مما جئت به، قال الحجاج بن علاط لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له فليخل لي في بعض بيوته لآتيه فإن الخبر على ما يسره فجاء غلامه فلما بلغ باب الدار قال: أبشر أبا الفضل فوثب العباس فرحاً حتى قبل بين عينيه فأخبره ما قال الحجاج فأعتقه قال: ثم جاء الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر وغنم أموالهم وجرت سهام الله عز وجل في أموالهم واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي، فاتخذها لنفسه وخيرها أن يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته، ولكني جئت لمال كان لي ههنا أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف عني ثلاثاً ثم

_ 574 - أحمد في مسنده (3/ 138) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 154) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح. عقر الرجل عقراً بقي مكانه لم يتقدم ولم يتأخر لفزع أصابه كأنه مقطوع الرجل.

اذكر ما بدا لك. قال فجمعت امرأته ماكان عندها من حلي أو متاع فدفعته إليه ثم استمر به فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك فأخبرته أنه قد ذهب يوم كذا وكذا وقالتك لا يخزيك الله يا أبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلغك، قال أجل لا يخزيني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسوله صلى الله عليه وسلم وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي لنفسه، فإن كان لك حاجة في زوجك فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقاً. قال: فإني صادق، والأمر على ما أخبرتك فذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل. قال: لم يصبني إلا خير بحمد الله قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على رسوله وجرت فيها سهام الله، واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثاً وإنما جاء ليأخذ ماله وما كان له من شيء ها هنا ثم يذهب قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون ومن كان دخل بيته مكتئباً حتى أتوا العباس، فأخبرهم الخبر، فسر المسلمون ورد الله يعني ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين. * * *

فصل: في غزوة الرقاع

فصل: في غزوة الرقاع 575 - * روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت: غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال: وحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، قال: ما كنت أصنع بأن أذكره؟ كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه. قال أبو أسامة: وزادني غير بريد: والله يجزي به. قال البخاري (1): وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة، من غطفان، فنزل نخلاً، وهي بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر. 576 - * روى البخاري عن أبي هريرة: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف، وإنما جاء أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيام خيبر. مرت معنا غزوة ذات الرقاع وهي غير غزوة الرقاع هذه وأشرنا إلى اختلاف الرواة في هذا الشأن فليلاحظ القارئ ذلك. * * *

_ 575 - مسلم (3/ 1449) 32 - كتاب الجهاد والسير - 50 - باب: غزوة ذات الرقاع. والبخاري (7/ 417) 64 - كتاب المغازي - 31 - باب: غزوة ذات الرقاع. نعتقبه: اعتقاب المركوب: هو أن يركبه واحد بعد واحد. نقب: البعير، بالكسر: إذا رقت أخفافه، والمراد به: تقرحت. (1) البخاري (7/ 416) في الموضع السابق. 576 - البخاري (7/ 426) 64 - كتاب المغازي - 31 - باب غزوة ذات الرقاع.

فصل: في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح

فصل: في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح 577 - * روى الطبراني عن جندب بن عبد الله الجهني قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي، كلب عوف بن ليث في سرية كنت فيهم، فأمره أن يشن الغارة على بني الملوح بالكديد قال: فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن برصاء الليثي فأخذناه قال: إنما جئت لأسلم، إنما خرجت أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلنا إن تكن مسلماً فلن يضرك رباط ليلة، وإن تكن غير ذلك فسنوثق منك، فأوثقناه رباطاًن ثم خلفنا عليه رويجلاً لنا أسود كان معنا فقلنا له: إن نازعك فاحتز رأسه، ثم أتينا الكديد مع مغرب الشمس وكنا في ناحية من الوادي وبعثني أصحابي ربيئة لهم إلى تلك مشرف على الحاضر قال: فأسندت فيه حتى إذا كنت على ظهره ونظرت إلى القوم انبطحت، فوالله إني لعليه أنظر إذ خرج رجل من خبائه فقال لامرأته: والله إني لأرى سواداً ما رأيته في أول النهار، فانظري في أوعيتك لا يكون الكلاب اجترت بعضها. فنظرت قالت: فوالله ما أفقد من أوعيتي شيئاً. قال: أعطيني قوسي. فأعطته قوساً وسهمين معها قال: فرمى بسهم فوالله ما أخطأ جنبي قال: فانتزعته وثبت، قال: ثم رمى بالآخر فوضعه في منكبي فانتزعته وثبت، فقال لامرأته: لو كانت زائلة لقد تحرك بعد لقد خالطه سهماي فإذا أنت أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تضيعهما الكلاب. قال: ثم دخل حتى إذا راحت رائحة الناس من إبلهم غنمهم قد احتلبوا وغبطوا واطمأنوا شننا عليهم الغارة فقتلنا واستقنا الغنم، ثم وجهناها وخرج صريخ القوم في قومهم، فجاءهم الدهم فجاءوا في طلبنا حتى مررنا بابن البرصاء

_ 577 - المعجم الكبير (2/ 178) بلفظه. وأحمد في مسنده (3/ 467). الربيئة: الطليعة. الحاضر: الجماعة النازلون على الماء. أسندت: ارتقيت. زاللة: أي لو كان ممن يزول. شننا عليهم الغارة: مزقنا عليهم الخيل المغيرة. صريخ القوم: مستغيثهم. الدهم: الجماعة الكثيرة.

سرية غالب الليثي إلى الحرقات من جهينة وهي معروفة ببعث أسامة بن زيد

فانطلقنا به معنا بوصاحبنا الذي خلفناه قال: فأدركنا القوم حتى نظرنا إليهم ما بيننا وبينهم إلا الوادي على ناحيته موجهين ومن ناحية الأخرى في طلبنا إذ جاء الله به من حيث شاء ما رأينا قبل ذلك مطراً ما يقدر أحد على أن يجيزه، لقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا ونحن نحدوها ما يقدر رجل منهم أن يصل إلينا حتى إذا عرجناها ما أنسى قول راجز من المسلمين وهو يحدوها في أعقابها: أبى أبو القاسم أن تعر بي ... في خطل نباته مغلولب صفر أعاليه كلون المذهب * * * سرية غالب الليثي إلى الحرقات من جهينة وهي معروفة ببعث أسامة بن زيد: 578 - * روى البخاري عن أبي ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي، حتى قتلته، فلما قدمنا، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. وفي رواية (1) قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة،

_ 578 - البخاري (7/ 517) 64 - كتاب المغازي - 45 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة. الحرقة: بطن من جهينة. ... صبحنا القوم: هجمنا عليهم صباحاً. غشيناه: أدركناه ولحقناه، كأنهم أتوه من فوقه. متعوذاً: المتعوذ الملتجئ خوفاً من القتل. وفي مسلم معتصماً. حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم: أي تمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام، لأن الإسلام يجب ما قبله. (1) مسلم (1/ 96) 1 - كتاب الإيمان - 41 - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله.

فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله. فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلا الله. وقتلته؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها، أم لا؟ " فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين - يعني: أسامة - قال: قال رجل: ألم يقل الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله) (1). فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. قال ابن الأثير: قلت: هذا سعد المذكور في الحديث هو سعد بن أبي وقاص، وسبب هذا القول من سعد، أن أسامة لما سمع هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل مسلماً، ولا شهد شيئاً من الفتن الحادثة بين الصحابة، وكذلك سعد اعتزل عن الفتن، فلم يشهد منها شيئاً، وقال: إنني لا أقتل إلا من يقتله أسامة، وليس لقوله هذا في الحديث مدخل، ولا له به تعلق. * * * قال في الفتح: وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبد الله الليثي، وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي (حثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بني الحرقة فقتله أسامة) فهذا يبين السبب في قول أسامة (بعثنا إلى الحرقات من جهينة) والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة، لأن أسامة عاش بعد ذلك دهراً طويلاً، وترجم البخاري في المغازي (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة) فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه (تأمير من لم يبلغ) وتعقب من وجهين: أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل

_ (1) الأنفال: 39.

الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير، والثاني أنها إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغاً لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عاماً. قوله (أقتلته بعد ما قال) في رواية الكشميهني (بعد أن قال) قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد، وقال القرطبي: في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك. وقال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) (1) ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها. قلت: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعاً مقيداً بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصاً من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة، وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذوناً له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة فلم تلزم العاقلة الدية وفيه نظر. قال ابن بطال: كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلماً بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين قلت: وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة أن سعد بن أبي وقاص كان يقول: لا أقاتل مسلماً حتى يقاتله أسامة. واستدل به النووي على رد الفرع الذي ذكره الرافعي فيمن رأى كافراً أسلم فأكرم إكراماً كثيراً، فقال: ليتني كنت كافراً فأسلمت لأكرم، فقال الرافعي: يكفر بذلك، ورده

_ (1) غافر: 85.

النووي بأنه لا يكفر لأنه جازم الإسلام في الحال والاستقبال وإنما تمنى ذلك في الحال الماضي مقيداً له بالإيمان ليتم له الإكرام واستدل بقصة أسامة ثم قال: ويمكن الفرق. اهـ. * * *

فصل: في عمرة القضاء

فصل: في عمرة القضاء 579 - * روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام. فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله. قال: "أنا رسول الله، وأنا محمد ابن عبد الله" ثم قال لعلي: "امح رسول الله" قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها. فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعتهم ابنة حمزة - يا عم، يا عم - فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك احمليها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خَلْقي وخُلقي" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وفي رواية (1) قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية: كتب علي بينهم كتاباً، فكتب: محمد رسول الله. فقال المشركون: لا تكتب: محمد رسول الله، لو كنت رسولاً لم نقاتلك. فقال لعلي: "امحه" فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه. فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، وأن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، فسالوه: ما جلبان السلاح؟ فقال: "القراب بما فيه".

_ 579 - البخاري (5/ 303) 53 - كتاب الصلح - 6 - باب كيف يكتب: "هذا ما صالح فلان بن فلان فلان ابن فلان"، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه. (1) البخاري (5/ 303) 53 - كتاب الصلح - 6 - باب كيف يكتب: "هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان". ومسلم نحوه (3/ 1409) 32 - كتاب الجهاد والسير - 43 - باب صلح الحديبية في الحديبية. جلبان السلاح: الجلبان أيضاً، يقال للقراب وما فيه: جلبان. القراب: قراب السيف: ما يوضع فيه بغمده، شبيه بالجراب، وأرادوا في صلحهم أني ستروا السلاح ولا يظهروه.

وفي رواية (1) قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح - السيف ولاقوس ونحوه - فجاء أبو جندل يحجل في قيوده، فرده غليهم. - وفي أخرى (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه: أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، ولا يدعو منهم أحداً، قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله، لم نمنعك، ولتابعناك. ولكن اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: "أنا والله محمد بن عبد الله، وأنا والله رسول الله" قال: وكان لا يكتب قال، فقال لعلي: "امح رسول الله" فقال علي: والله لا أمحاه أبداً، قال: "فأرنيه". قال: فأراه إياه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فلما دخل ومضت الأيام أتوا علياً، فقالوا: مر صاحبك فليرتحل، فذكر ذلك علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "نعم". فارتحل. وفي أخرى (3): ثم قال لعلي: "امح رسول الله" قال: لا، والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ... الحديث. وفيه ذكر بنت حمزة، والأخذ لها، والخصومة فيها. قال في الفتح: قوله (ثم قال لعلي: امح رسول الله) أي امح هذه الكلمة المكتوبة من

_ = وقال الأزهري: القراب: غمد السيف، والجلبان: شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغموداً، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه في آخرة الرحل، أو واسطته، وكأن اشتقاقه من الجلبة، وهي الجلدة التي تجعل على القتب، وهي كالغشاء للقراب، وكذلك الجلة التي تغشى بها التميمة تسمى جلباناً، وقال ابن قتيبة "جلبان"، بضم الجيم واللام وتشديد الباء، قال: ولا أراه سمي بذلك إلا لجفائه، ولذلك قيل للمرأة الغليظة الجافية: جلبانة وفي بعض الروايات "ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف، والقوس ونحوهما" يريد: ما كان مغمداً يحتاج في إظهاره إلى معاناة، لا بالرماح والقنا، لأنها أسلحة مظهرة يمكن تعجيل الأذى بها، قال الهروي: والقول ما قال الأزهري. (1) البخاري (5/ 304) 53 - كتاب الصلح - 7 - باب الصلح مع المشركين. (2) البخاري (6/ 282) 58 - كتاب الجزية والموادعة - 19 - باب المصالحة على ثلاثة أيام أو وقت معلوم. (3) البخاري (5/ 303) 53 - كتاب الصلح - 6 - باب كيف يكتب "هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان".

الكتاب، فقال: لا والله لا أمحوك أبداً، وللنسائي من طريق علقمة بن قيس عن علي قال: (كنت كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكتبت: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنه رسول الله ما قاتلناه، امحها فقلت: هو والله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رغم أنفك، لا والله لا أمحوها) وكأن علياً فهم أن أمره له بذلك ليس متحتماً، فلذلك امتنع من امتثاله. ووقع في رواية يوسف بعد (فقال لعلي: امح رسول الله، فقال: لا والله لا أمحاه أبداً. قال. فأرنيه، فأراه إياه فمحا النبي صلى الله عليه وسلم بيده) ونحوه في رواية زكريا عند مسلم وفي حديث علي عند النسائي وزاد (وقال: أما إن لك مثلها، وستأتيها وأنت مضطر) يشير صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فكان كذلك. قوله (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية يوسف (فذكر ذلك علي فقال: نعم فارتحل) وفي مغازي أبي الأسود عن عروة (فلما كان اليوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو وحويطب بنعبد العزى فقالا: ننشدك الله والعهد إلا ما خرجت من أرضنا، فرد عليه سعد بن عبادة، فأسكته النبي صلى الله عليه وسلم وآذن بالرحيل). وأخرج الحاكم في (المستدرك) من حديث ميمونة في هذه القصة (فأتاه حويطب بن عبد العزى) وكأنه كان دخل في أوائل النهار فلم يكمل الثلاث إلا في مثل ذلك الوقت من النهار الرابع الذي دخل فيه بالتلفيق، وكان مجيئهم في أول النهار قرب مجيء ذلك الوقت. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب الأم على أقارب الأب. وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب. فإن قيل: والخالة لم تطلب، قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن للقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضاً أن يمنعها من أخذه، فإذا وقع الرضا سقط الحرج. وفيه من الفوائد أيضاً تعظيم صلة الرحم بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل إليها وأن الحاكم بين دليل الحكم للخصم، وأنالخصم يدلي بحجته، وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها إذا كانت المحضونة أنثى أخذاً بظاهر هذا الحديث قاله أحمد، وعنه لا فرق بين الأنثى والذكر، ولا يشترط كونه محرماً لكن يشترط أن

يكون فيه مأموناً، وأن الصغيرة لا تشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي، والمعروف عن الشافعية والمالكية اشتراط كون الزوج جداً للمحضون، وأجابوا عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب وأن الزوج رضي بإقامتها عنده، وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوجة فرجح جانب جعفر بكونه تزوج الخالة. 580 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في عمرة القضاء ثلاثاً. 581 - * روى الطبراني عن ابن شهاب قال: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء أمر أصحابه، فقال "اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف" ليري المشركين جلدهم وقوتهم، وكان يكيدهم بكل ما استطاع فانكفأ أهل مكة: والرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً بالسيف يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله وبعث رجالاً من أشراف المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظاً وحنقاً ونفاسة وحسداً خرجوا إلى نواحي مكة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه وأقام ثلاثاً. 582 - * روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه سمع ابن عباس

_ 580 - أبو داود (2/ 206)، كتاب المناسك، باب المقام في العمرة. ومعناه في الصحيحين. 581 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 146)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. وهو مرسل. الهام: جمع هامة، وهي الرأس. مقيله: مقره. حنقاً: غيظاً. 582 - البخاري (7/ 508) 64 - كتاب المغازي - 43 - باب عمرة القضاء.

تعليقات على عمرة القضاء

يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يوذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم". 583 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته. وفي رواية أبي داود زيادة في لفظه (1) قال: والثانية: حين تواطؤوا على عمرة قابل، وقال في الرابعة: التي قرن مع حجته. * * * تعليقات على عمرة القضاء: قال الدكتور البوطي: هذه العمرة تعتبر تصديقاً إلهياً لما وعد به النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من دخولهم مكة وطوافهم بالبيت. وقد رأيت كيف سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء صلح الحديبية: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ فأجابه: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ " قال: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". فهذا هو مصداق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نبه الله عز وجل عباده إلى هذا التصديق في قوله (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) (2).

_ 583 - البخاري (7/ 439) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. ومسلم (2/ 916) 15 - كتاب الحج - 35 - باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم. (1) أبو داود (2/ 206)، كتاب المناسك، باب العمرة. عمرة قابل: قال قتيبة: يعني: عمرة القضاء في ذي القعدة. (2) الفتح: 27.

وقال: ذهب بعض الفقهاء إلى جواز عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة، اعتماداً على الرواية التي نقلت أنه صلى الله عليه وسلم، عقد على ميمونة أثناء إحرامه. والذي عليه جماهير الفقهاء أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحاً لا لنفسه ولا وكالة عن غيره مطلقاً. وذهبت الحنفية إلى أنه يحرم للمحرم أن يتولى عقد النكاح لغيره ممن لم يكن محرماً. هذا وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمرات وحج حجة واحدة. أ. هـ أقول: كانت عمرة القضاء مقدمة لفتح مكة فهي نفسها كانت من قريش استسلاماً وهي أشعرت قريشاً ومن معها بقوة المسلمين، والأهم من هذا أنها أسقطت أكبر حجج قريش لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوها وهي حماية بيت الله الحرام، لقد كان بالإمكان أن تدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم عدو للبيت الحرام ولأهله وأنه لا يحترمه ولا يقدسه بل يريد إنهاءه وإبطال مناسكه، ومن خلال ذلك كان بإمكانها أن تحشد، ولكن بهذه العمرة انتهت هذه الحجج كلها؛ ولذلك فإن فتح مكة فيما بعد لم يرافقه أي تحشد خارجي بجانب قريش. * * *

نظرة على أحداث السنة السابعة

نظرة على أحداث السنة السابعة أي أفق ذلك الأفق الذي نطل عليه ونحن نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث الكفاءة من جهة والتأييد الإلهي أولاً وأخيراً من جهة ثانية، لم يكن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر عهد ولا عقد، وكان المتوقع أن يثأروا لإخوانهم بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، كما كان من المتوقع أن يلعبوا دورهم في التأليب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأينا في أحداث السنة السادسة أن بني سعد راسلوا يهود خيبر للعمل المشترك على أن يعطيهم اليهود تمر خيبر، ولكن سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتذاك أجهضت الفكرة، وإذن لابد من عمل ضد خيبر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل ذلك عاماً كاملاً حتى وادع قريشاً وبذلك أسقط في أيدي أهل خيبر أن يجتمعوا حول قريش أو أن تأتيهم نصرة من قبلها وقبل أن يصل إلى ديارهم أرسل سرية إلى غطفان فحال بينها وبين إمداد خيبر، وأسقط في أيدي اليهود أن يأتيهم مدد من هذا الجانب، ومن قبل غزا بني سعد وأفقدهم قوتهم التي يمكن أن يتحركوا بها نحو خيبر وبهذا كله لم يعد أمام خيبر إلا التسليم، والتسليم وليس الاستئصال هو هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستراتيجي إلا إذا كانت هناك أسباب تتطلب غير ذلك كما حدث في أول قيام الدولة، ومن خلال هذه النظرة البعيدة المدى وصل في النهاية فعلاً إلى أن سلمت له العرب جميعاً، وجاءته وفودها من كل حدب وصوب، وهكذا وبأقل الخسائر وحد الجزيرة العربية تحت سلطانه بالهيبة والرعب وبالتربية والحب وبالدعوة والعلم ولن نستبق الأحداث، فأحداث السنة الثامنة كانت هي القنطرة لهذا كله، وذلك بعد أن أزال سلطان قريش السياسي وسلطان اليهود السياسي فلم يبق أمامه شيء. تظهر لك في أحداث هذه السنة وغيرها حوادث تدلك على التأديب المستمر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي به بأصحابه، كحادثة قتل أسامة لمن أسلم تحت السيف. هذه الحوادث تدلك على ملاحقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطاء النفس البشرية حتى خلصت لله زاكية مزكاة. * * *

السنة الثامنة للهجرة

السنة الثامنة للهجرة

أحداث السنة الثامنة في سطور

أحداث السنة الثامنة في سطور ذكر ابن كثير في أحداث هذه السنة إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، فنقل عن الواقدي أنهم قدموا لهلال صفر سنة ثمان، وسرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن، وسرية كعب بن عمير إلى قضاعة، ثم ذكر غزوة مؤتة، وفصل في رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا مع أنه ذكر أن هذه الرسائل كانت في أواخر سنة ست، والراجح ذلك أو أنها في بداية سنة سبع، ثم ذكر سرية ذات السلاسل، وذكر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، مع أن الراجح أنها كانت قبل صلح الحديبية، لذلك أوردناها في سنة ست، ثم ذكر غزوة الفتح، ثم ذكر بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ثم بعثه لهدم العزى، ثم ذكر غزوة هوازن ويوم حنين، ثم سرية أوطاس، وحصار الطائف، ثم مرجعه منها وقسمة الغنائم، ثم عمرته عليه الصلاة والسلام من الجعرانة، ثم ذكر عودته إلى المدينة المنورة، ومقدم كعب بن زهير وإسلامه، وذكر فيها هدم الكعبة اليمانية وهي سرية ذي الخلصة. ومن كلام ابن كثير وهو يختم الكلام عن هذه السنة: قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من الأعراب، قال: وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها. وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا ففارقها. قال: وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته، فذهب فبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه مملوكاً ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول، قال الواقدي: وفيها كان هدم سواع الذي كانت تعبده هذيل، هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه، وفيه هدم مناة بالمشلل، وكانت الأنصار أوسها وخزرجها يعظمونه، هدمه سعد بن

زيد الأشهلي رضي الله عنه ا. هـ. وقد تتبع المباركفوري أحداث هذه السنة من زاد المعاد، ورحمة للعالمين، وتلقيح فهوم أهل الأثر وكتب الحديث الشريف وبعض شروحها وابن هشام ومختصر سيرة الرسول فأعطانا خلاصة ذكرها متفرقة في سياقات مختلفة وها نحن نقدمها تارة بلفظه وتارة باختصار. * في صفر أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعماً، وقتلوا منهم قتلى. * وفي ربيع الأول كانت سرية ذات أطلاح إلى بني قضاعة فقد حشدت بنو قضاعة جموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل حتى استشهدوا كلهم إلا رجلاً واحداً، فقد ارتث (1) من بين القتلى. * وفي ربيع الأول كانت سرية ذات عرق إلى بني هوازن (وهي أشبه أن تكون سرية استطلاع) فقد كانت بنو هوازن أمدت الأعداء مرة بعد أخرى فأرسل إليهم شجاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلاً، فاستاقوا نعماً من العدو ولم يلقوا كيداً. * وفي جمادى الأولى سنة - 8 - للهجرة حدثت معركة مؤتة وكان سببها قتل شرحبيل ابن عمرو الغساني لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمرو الأزدي، فأرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وكانت هذه المعركة هي المقدمة والتمهيد لفتح بلاد الشام. * وفي جمادى الآخرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية على رأسها عمرو بن العاص وكان قوامها ثلاثمائة مقاتل، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجند في طريقه من يستطيع تجنيده من القبائل التي يمر بها، وكان هدفها فصل التلاحم بين بعض القبائل العربية والرومان، وقطع الطريق على غزو القبائل المتاخمة للشام للمدينة المنورة، وهذه السرية تسمى سرية

_ (1) ارتث فلان: ضرب في الحرب فأثخن وحمل وبه رمق ثم مات.

ذات السلاسل وقد أمد الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بمائتين على رأسهم أبو عبيدة بن الجراح، وقد سيطرت هذه السرايا على المناطق الشمالية للجزيرة العربية وأخضعتها. * وفي شعبان سنة - 8 - أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً في عملية خاطفة إلى بني غطفان في نجد الذين كانوا يتحشدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خضرة فقتل وسبا وغنم فأجهض بهذه العملية فكرة التحشد. * وفي رمضان سنة - 8 - تم فتح مكة بعد أن غدرت قريش بحلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني خزاعة. * ومن مكة بعد فتحها أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدداً من السرايا: 1 - سرية خالد بن الوليد إلى العزى لخمس بقين من شهر رمضان سنة - 8 - للهجرة ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وهي أعظم أصنامهم. وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجع سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل رأيت شيئاً؟ " قال: لا، قال: "فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها" فرجع خالد متغيظاً قد جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس، (1) فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً". 2 - ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل، على ثلاثة أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئاً. ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.

_ (1) امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس: الظاهر أنها شيطانة.

3 - وفي نفس الشهر بعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئاً. 4 - ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة - 8 هـ - إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام لا مقاتلاً. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: "صبأنا صبأنا" فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم (1)، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيراً، فأمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين. وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مهلاً يا خالد، دع عنك اصحابي، فوالله لو كان أحد ذهباً، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته". * وفي السادس من شوال سنة - 8 هـ - توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف مقاتل نحو هوازن وثقيف ومن التف حولهم وكانت معركة حنين في 10 شوال وكانت عاقبتها للمسلمين ثم تابع فلولهم فكانت معركة أوطاس. * وبعد حنين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف في شوال كذلك مقدماً خالد بن الوليد في ألف مقاتل، وقد حاصرها صلى الله عليه وسلم ثم فك الحصار عنها، وكلف مالك بن عوف بعد أن أسلم أن يضغط عليها، وكان من ثمار ذلك أن أسلمت ثقيف بعد فترة.

_ (1) فجعل خالدي قتلهم ويأسرهم: وذلك؛ لأنه لم يفهم من كلمتهم أنهم يعلنون إسلامهم، بل فهم أنهم يصرون على كفرهم.

* وبعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفد عليه كعب بن زهير، وقد كانت عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة لست بقين من ذي القعدة وبعودته دخلت الدعوة الإسلامية في طور جديد، طور الدخول في دين الله أفواجاً، فبدأت الوفود تترى إلى المدينة المنورة داخلة في الإسلام، مقدمة الطاعة والولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وإذ لم يكن السرد التاريخي هدفاً لنا في هذا الكتاب إلا بالقدر الذي يلقي أضواء على الفهم العام للسيرة النبوية، فسنكتفي بأن نعقد فصولاً للأحداث التي يعتبر التفصيل فيها هدفاً من أهداف هذا القسم. كانت سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يسكت على اعتداء، فهناك فارق كبير بين الاعتداء الشخصي وبين الاعتداء على الدولة، لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاعتداء على شخصه ما تنوء به الجبال وكل ذلك في الله وبالله، وما من عاقل إلا ويعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تصرفاته أثراً عن هوى، ولكنها الحكمة التي تضع الأمور مواضعها، والسكوت على الاعتداء على الدولة يفقدها هيبتها ويزيد طمع الطامعين بها ويؤلب عليها أعداءها، كما أن من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينتظر الاعتداء حتى يقع؛ لأن درهم وقاية خير من قنطار علاج، بل هو عليه الصلاة والسلام كان يفجأ المعتدي قبل استكمال أدوات اعتدائه، ولقد كانت هذه المعاني وراء أهم أحداث السنة الثامنة. * * *

فصل: في إسلام خالد وعمرو وعثمان بن طلحة

فصل: في إسلام خالد وعمرو وعثمان بن طلحة أسلم هؤلاء الثلاثة قبل الفتح بإجماع، وهناك روايات تذكر أنهم أسلموا مع بعضهم، وعامة أهل السير يقولون: إنهم أسلموا في السنة الثامنة، وكل منهم له دور ما في الأحداث من قبل ومن بعد على تفاوت في ذلك، وليس لنا ما نقوله ههنا أو ننقله فستأتي تراجمهم فيما بعد ولكن نحب أن نذكر تعليقاً بسيطاً على إسلامهم لأن له دلالات هامة! فههنا ثلاث شخصيات كل منها له طابع مميز: أما عمرو فبعيد النظر يزن الأمور بميزان الأرباح والخسائر وهو ذو عقل استراتيجي دراك لماح وأما خالد فشجاع مقدام مقاتل حر النفس. وأما عثمان فمن آل بيت يتألهون، أليست لهم حجابة الكعبة، فعندما يأتي هؤلاء جميعاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين فإنك تدرك تغير الميزان وتدرك أن تغيرات كبيرة قد طرأت على النفسيات كلها، وأن من لم يزل بعيداً عن الإسلام إنما تحكمه عقد نفسية أو تمنعه قوة الاستمرار عن الانتقال إلى الوضع الجديد. * * *

فصل: في سرية شجاع بن وهب

فصل: في سرية شجاع بن وهب ذكر ابن كثير في البداية والنهاية رواية الواقدي عن سرية شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن وأمره أن يغير عليهم فأمر أصحابه ألا يمعنوا في الطلب وأغار عليهم ... ثم قال ابن كثير: وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي (1) عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فكان فيهم عبد الله بن عمر، قال: فأصبنا إبلاً كثيراً فبلغت سهامنا اثني عشر بعيراً ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً. 584 - * وروى أبو داود عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعماً كثيرة فنفلنا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيراً بعد الخمس وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله. * * *

_ (1) البخاري (8/ 56) 64 - كتاب المغازي - 57 - باب السرية التي قبل نجد. ومسلم واللفظ له (3/ 1368) 32 - كتاب الجهاد والسير - 12 - باب الأنفال. 584 - أبو داود (3/ 78)، كتاب الجهاد، باب في نفل السرية تخرج من العسكر.

فصل: في غزوة مؤتة من أرض الشام

فصل: في غزوة مؤتة من أرض الشام قال ابن حجر في الفتح: قال ابن إسحق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره هي على مرحلتين من بيت المقدس. ويقال: إن السبب فيها أن شرحبيل بن عمرو الغساني - وهو من أمراء قيصر على الشام - قتل رسولاً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بصري، واسم الرسول الحارث بن عمير، فجهز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عسكراً في ثلاثة آلاف. وفي (مغازي أبي الأسود) عن عروة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل المغازي لا يختلفون في ذلك، إلا ما ذكر خليفة في تاريخه أنها كانت سنة سبع. أ. هـ 585 - * روى الطبراني عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة، فقال لهم: "إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس" فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى، فقيل له: ما يبكيك يا ابن رواحة فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا) (1) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين فقال عبد الله بن رواحة: لكني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا

_ 585 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 157)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى عروة. اهـ وهو مرسل. (1) مريم: 71. ذات فرع: ذات سعة. الزبد: رغوة الدم.

ثم إن القوم تيهئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعه فقال: يثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافله ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعم حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال عبد الله ابن رواحة: خلف السلام على امرئ ودعته ... في النخل خير مشيع وخليل ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل في ماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وقد اجتمعت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف، عليهم رجل يلي أخذ رايتهم يقال له مالك بن زافلة فلما بلغ ذلك المسلمين قاموا بمعان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع عبد الله بن رواحة الناس. وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج في سفرته تلك مردفي على حقيبة راحلته ووالله إنا لنسير ليلة إذ سمعته يتمثل ببيته هذا: إذا أديتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء (1) فلما سمعته منه بكيت فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة

_ = أزرى: أدخل عليه عيباً. حقيبة الرحل: هي الزيادة التي تجعل في مؤخرة القتب، والوعاء الذي يجمع فيه الرجل زاده. والقتب: هو الرحل الصغير على قدر سنام البعير. (1) أقول في سيرة ابن هشام: أربعة أبيات بعد هذا البيت يتوقع فيها الشهادة.

وترجع بين شعبتي الرحل ومضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: ماب، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها وتعبأ المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عبادة بن مالك، ثم التقى الناس واقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألجمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام. 586 - * روى الطبراني عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزاة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه وتردد بعض التردد ثم قال: أقسمت يا نفسي لتنزلنه ... طائعة أو لتكرهنه ما لي أراك تكرهين الجنه ... إن أجلب الناس وشدوا الرنه لطالما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه

_ = شعبتي الرحل: طرفاه المقدم والمؤخر. تعبأ المسلمون: يقال: عبأت الجيش عبأ، وعبأتهم تعبئة وتعبيئاً، وقد يترك الهمز فيقال: عبيتهم تعبية: أي رتبتهم في مواضيعهم وهيأتهم للحرب. شاط الرجل: إذا سال دمه وهلك. ألجمه القتال: أحاط به. عقر فرسه: ضرب قوائمها بالسيف. ويحتمل أنه قتلها والهدف من كلا التفسيرية ألا يستفيد منها العدو، وحتى لا تراوده نفسه على الهرب عليها. 586 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 159)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. أجلب: صاح. الرنة: صوت فيه ترجيع شبيه بالبكاء. نطفة: الماء القليل. شنة: السقاء البالي. أي فيوشك أن تهراق النطفة أو ينخرق السقاء. ضرب ذلك مثلاً لنفسه في جسده.

وقال عبد الله بن رواحة: يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم من لحم فقال: اشدد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما قد لقيت، فأخذه من يده، فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل فأخذ الراية ثابت بن أقرم أحد بني العجلان وقال: يا أيها الناس اصطلحوا على رجل منكم قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم، ثم انحاز حتى انصرف فلما أصيبوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً" ثم صمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه كان في عبد الله ابن رواحة بعض ما يكرهونه قال: "ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيداً، ثم قال: "لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: بم هذا فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ومضى". 587 - * روى أحمد عن أبي قتادة الأنصاري فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، فقال: "عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب، أن تستعمل علي زيداً، قال: "امض فإنك لا تدري أي ذلك خير". فاننطلقوا فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ = نهس: أخذ منه بفمه يسيراً. الحطمة: زحام الناس وحطم بعضهم بعضاً. 587 - أحمد في مسنده (5/ 300). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 156): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير خالد بن شمير، وهو ثقة. أرهب: بمعنى أخاف، والمراد: ما كنت أتوقع.

صعد المنبر وأمر أن ينادى الصلاة جامعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناب خيراً - أو بات خيراً أو ثاب خيراً" شك عبد الرحمن - أي الراوي - "ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له - فاستغفر له - الناس. ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً، أشهد له بالشهادة فاستغفروا له ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له. ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه" ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه فقال: "اللهم هو سيف من سيوفك فانصرفه" فمن يومئذ سمي خالد سيف الله ثم قال: "انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد". قال: فنفر الناس في حر شديد مشاة وركباناً. وفي رواية للطبراني (1) عن ابنشهاب قال: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم فانطلقوا حتى لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة، وبها جموع من نصارى العرب والروم، وبها تنوخ وبهراء فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم خرجوا فالتقوا على زرع أخضر فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقتل، ثم أخذه جعفر، فقتل، ثم أخذه ابن رواحة فقتل ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى. 588 - * روى أحمد والطبراني عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً، استعمل عليهم زيد بن حارثة فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية

_ (1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 160)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. وهو مرسل. 588 - أحمد في مسنده (1/ 204). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 156): رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح.

خالد بن الوليد ففتح الله عليه وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلي الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيداً أخذ الراية فقاتل، حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب، فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، ففتح الله عليه" ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي" قال فجيء بنا كأننا أفرخ قال: "ادعوا لي الحلاق" فجيء بالحلاق، فحلق رؤوسنا ثم قال: "أما محمد فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خَلْقي وخُلُقي" ثم أخذ بيدي فأشالهما فقال: "اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرات، قال: فجاءت أمنا فذكرت يتمنا فقال: "العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة". قال ابن حجر بمناسبة إشارته إلى هذه الرواية: وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن وهو عند أبي داود من طريقه عن رجل من بني مرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق وحدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الالتواء ثم تقدم على فرسه ثم نزل فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري فقال: اصطلحوا على رجل، فقالوا: أنت لها، قال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد وروى الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري قال: "أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة، فدفعها إلى خالد ابن الوليد وقال له: أنت أعلم بالقتال مني". 589 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخذ الراية زيد، فأصيب، ثم أخذها جعفر، فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن

_ = فأشالهما: فرفعهما. 589 - البخاري (6/ 16) 56 - كتاب الجهاد - 7 - باب تمني الشهادة.

رواحة، فأصيب" - وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان - "ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة، ففتح له". وفي رواية (1) قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أخذ الراية زيد، فأصيب" ... وذكر نحوه، وقال في آخره: "وما يسرنا أنهم عندنا" قال أيوب: أو قال: "ما يسرهم أنهم عندنا" وعيناه تذرفان. وفي أخرى: (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس، قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد ... فذكرهم، وقال في آخره: "حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم". 590 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" قال عبد الله فكنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية. وفي أخرى (4): أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين، بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره - يعني في ظهره -. 591 - * روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.

_ = لتذرفان: ذرفت العين: سال دمعها. (1) البخاري (6/ 16) 56 - كتاب الجهاد - 7 - باب تمني الشهادة. (2) البخاري (7/ 512) 64 - كتاب المغازي - 44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام. 590 - البخاري (7/ 510) 64 - كتاب المغازي - 44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام. (4) البخاري (7/ 510) 64 - كتاب المغازي - 44 باب غزوة مؤتة من الشام. 591 - البخاري (7/ 515) 64 - كتاب المغازي - 44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام. الصفيحة: السيف العريض.

592 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: بارز عقيل بن أبي طالب رجلاً يوم مؤتة فقتله فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه وسلبه. 593 - * روى الحاكم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وىله وسلم قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحزن. 594 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه رد السلام ثم قال: "يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلى الله عليهما مروا فسلمواعلينا، فرددت عليهم السلام وأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا، فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين بين طعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى، فقطعت، ثم أخذته باليسار فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة أنزل بهما حيث شئت وآكل من ثمارها ما شئت" فقالت أسماء: هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكني أخاف أن لا يصدقني الناس، فاصعد المنبر فأخبر الناس يا رسول الله فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إن جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه يطير بهما في الجنة حيث شاء، فسلم علي فأخبر كيف كان أمرهم حين لقي المشركين، فاستبان للناس بعد ذلك، أن جعفراً لقيهم، فسمي جعفر الطيار في الجنة ذا جناحين، يطير بهما، حيث شاء مخضوبة قوادمه بالدماء". 595 - * روى أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع زيد بن

_ 592 - مجمع الزوائد (5/ 331) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو حسن الحديث وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. وقد أسلم عقيل قبل الحديبية، وهاجر سنة ثمان، وشهد مؤتة: (تهذيب التهذيب). 593 - المستدرك (3/ 209)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 594 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 272)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين، وأحدهما حسن. 595 - أبو داود (3/ 71)، كتاب الجهاد، باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرس والسلاح من السلب.

حارثة في غزوة مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يغري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه، فخر، وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته، قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه سولم "يا خالد، ما حملك على ما صنعت"؟ قال: يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد رد عليه ما أخذت منه" قال عوف: فقلت له دونك يا خالد ألم أف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذلك"؟ فأخبرته، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا خالد لا ترد عليه، ها أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره". وفي رواية مسلم (1) قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن .. وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه هكذا قال مسلم، ولم يذكر لفظه، ويعني بنحوه: الرواية التي تجيء له بعد هذه، فإنه ذكرها في كتابه قبل هذه، قال: غير أنه قال في الحديث: قال عوف: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته.

_ = مددي: أي رجل من المدد الذين جاءوا يمدون جيش مؤتة. لأعرفنكها: أي: لأجازينك بها، حتى تعرف صنيعك هذا. دونك، أي: خذ، كأنه وافقه على ما وعده. صفوة الشيء - بكسر الصاد -: خالصه وما صفا منه، إذا أثبت الهاء كسرت الصاد، وإذا حذفتها فتحتها، فقلت: صفو الشيء. (1) مسلم (3/ 1372) 32 - كتاب الجهاد والسير - 13 - باب استحقاق القاتل سلب القتيل.

وله في رواية (1) قال عوف بن مالك: قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره، فقال لخالد: "ما منعك أن تعطيه سلبه؟ " قال: استكثرته يا رسول الله، قال: "ادفعه إليه" فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب، فقال: "لأا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم: كمثل رجل استرعي إبلاً أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها، فأوردها حوضاً، فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره فصفوه لكم، وكدره عليهم". * * *

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق (3/ 1373). تحين: تحينت وقت الشيء: إذا انتظرته وترقبته، وهو طلب الحين. فصفوه لكم، وكدره عليهم أي: لا تثقلوا على أمرائكم فكما عليهم واجبات لهم حقوق يجب مراعاتها ومنها احترامهم وطاعتهم.

فصل: في غزوة ذات السلاسل

فصل: في غزوة ذات السلاسل قال البخاري: وهي غزوة لخم وجذام، قاله إسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن إسحاق: عن يزيد عن عروة: هي بلاد بلي وعذرة وبني القين وفي نسخة: بني العنبر. 596 - * روى البخاري ومسلم عن أبي عثمان النهدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو ابن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" فعد رجالاً، فسكت، مخافة أن يجعلني في آخرهم. قال ابن حجر: وذكر ابن سعد أنها وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام، قال: وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة. وأما القبائل التي ذكرها فالثلاثة بطون من قضاعة، أما بلي فبفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب: قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، أما عذرة فبضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة: قبيلة كبيرة ينسبون على عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم بضم اللام ابن الحاف بن قضاعة، وأما بنو القين فقبيلة كبيرة أيضاً ينسبون إلى القين ابن جسر، ويقال كان له عبد يسمى القين حضنه فنسب إليه، وكان اسمه النعمان ابن جسر ابن شيع الله بكسر المعجمة وسكون التحتانية بعدها عين مهملة ابن أسد بن وبرة ابن ثعلب ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ووهم ابن التين فقال: بنو القين قبيلة من بني تميم، وذكر ابن سعد أن جمعاً من قضاعة تجمعوا وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمده بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين، وأمره أن يلحق بعمرو وأن لا يختلفا

_ 596 - البخاري (8/ 74) 64 - كتاب المغازي - 74 - باب غزوة ذات السلاسل. ومسلم (4/ 1856) 44 - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. ذات السلاسل: هو ماء لبني جذام بناحية الشام. قيل: سميت ذات السلاسل؛ لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل: لأن بها ماء يقال له السلسل.

فأراد أبو عبيدة أن يؤم بهم فمنعه عمرو وقال: إنما قدمت علي مدداً وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة فصلى بهم عمرو، وتقدم في التيمم أنه (احتلم في ليلة باردة فلم يغتسل وتيمم وصلى بهم) الحديث. وسار عمرو حتى وطئ بلاد بلي وعذرة، وكذا ذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة، وذكر ابن إسحاق أن أم عمرو بن العاص كانت من بلي فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمراً يستنفر الناس إلى الإسلام ويستألفهم بذلك، وروى إسحاق بن راهويه والحاكم من حديث بريدة أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا ناراً، فأنكر ذلك عمر، فقال أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه. فهذا السبب أصح إسناداً من الذي ذكره ابن إسحاق، لكن لا يمنع الجمع. وروى ابن حبان من طريق قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ذات السلاسل، فسأله أصحابه أن يوقدوا ناراً فمنعهم، فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك فقال: لا يوقد أحد منهم ناراً إلا قذفته فيها قال فلقوا العدو فهزمهم، فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم، فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فساله فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد. فحمد أمره. فقال: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ الحديث. فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، ويجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله فلم يجبه فسلم له أمره، وألحوا على أبي بكر حتى يسأله فسأله فلم يجبه. قوله (فأتيته) في رواية معلى بن منصور المذكورة (قدمت من جيش ذات السلاسل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم) وعند البيهقي من طريق علي بن عاصم عن خالد الحذاء في هذه القصة قال عمرو: فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك) الحديث. قوله (فعد رجالاً) في رواية علي بن عاصم قال قلت في نفسي لا أعود لمثلها أسأل عن هذا وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية ومزية أبي بكر على الرجال وبنته عائشة على النساء، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المناقب، ومنقبة لعمرو بن العاص لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر وإن كان ذلك لا يقتضي

أفضليته عليهم لكن يقتضي أن له فضلاً في الجملة. وقد روينا في (فوائد أبي بكر بن أبي الهيثم) من حديث رافع الطائي قال (بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً واستعمل عليهم عمرو بن العاص وفيهم أبو بكر) قال: وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام (1). وروى أحمد والبخاري في الأدب وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق علي بن رباح عن عمرو بن العاص قال (بعث إلي النبي يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال: "يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك" قلت: إني لم أسلم رغبة في المال. قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح" وهذا فيه إشعار بأن بعثه عقب إسلامه. * * *

_ (1) قوله: (وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام): أي: زمن معاوية حين وقعت الفتنة.

فصل: في فتح مكة

فصل: في فتح مكة تقديم: تقوم - فيما يبدو لي - استراتيجية العمل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة على نقطتين رئيسيتين: أولاً: تجميع كل المسلمين في المدينة المنورة، وبهذا كان المجتمع الإسلامي في تنام مستمر. ثانياً: الحركة السياسية والدعوية والعسكرية المستمرة نحو الخارج، وبهذا جعل المجتمع الإسلامي دائم التعبئة كامل الحشد قادراً على الهجوم، متمركزة قواته وهي دائماً على أعلى مستوى قتالي. وكانت القوى المعادية تحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم من كل جانب، وكان هناك طابور خامس داخل المدينة، هذه القوى الخارجية تتمثل بأربع، كل منها تشكل خطراً مباشراً، القبائل النجدية وقبائل الشمال وعلى رأسهم غطفان وقريش ومن يتلاحم معها واليهود وكانت الجزيرة العربية تشكل البعد الاستراتيجي لهذه القوى، ولقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع ألا يجعل هذه القوى تتضافر ضده من خلال المعاهدات أو الحركة الخاطفة والدقيقة. وكانت سياسته مع القبائل ألا يعطيها فرصة التحشد والتجمع وأن يفاجئها قبل أن تفاجئه وقد استطاع تثبيتها بشكل مستمر سواء كانت شمالية أو نجدية شرقية. وأما سياسته مع قريش فكانت الاستهداف الدائم والتعرض الدائم، وكان أن انجلت هذه السياسة عن صلح الحديبية. وكانت سياسته مع اليهود المعاهدات والوفاء بها حتى يغدروا، فمن غدر أنهاه، وسكت عن يهود خيبر وأبقاهم محاربين حتى تفرغ لهم بعد صلح الحديبية فأنهى كيانهم السياسي، حتى إذا نقضت قريش عهدها بتواطئها مع بكر ضد بني خزاعة أحلافه عليه الصلاة والسلام، استطاع أن ينهي سلطان قريش السياسي والديني، وإذا به عليه الصلاة والسلام فجأة أمام قطف ثمرات سياسته الحكيمة فلقد كانت كل القوى المباشرة قد استسلمت فلم يبق لبعدها الاستراتيجي إلا أن يستسلم، وهكذا جاءت الجزيرة العربية أفواجاً مؤيدة ومبايعة.

(إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توباا) (1). لقد سيطر الرسول صلى الله عليه وسلم استراتيجياً على الجزيرة العربية منذ أنهى خيبر وفتح مكة. إن أحداً في تاريخ هذا العالم لا يعدل محمداً صلى الله عليه وسلم في أنه حقق ما حقق ووضع الأساس راسخاً إلى الأبد دون أن يرتكب خطأ سياسياً أو استراتيجياً أو تكتيكياً واحداً، إنه التوفيق الإلهي، وإنها الرسالة والنبوة. إن القبائل في الجزيرة العربية كانت تشكل خطراً عندما كان لها رأس يمكن أن تتجمع حوله، أو عندما يوجد مركز تنطلق منه، وقد فاتها ذلك بانتهاء خيبر وفتح مكة، واجتمعت الدعوة مع القوة فجعلتها تفكر في السير على الطريق المستقيم. وقد استثمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح أيما استثمار، فأرسل البعوث والسرايا الكثيرة، وبلغه أن القبائل المحيطة بالطائف وأهل الطائف يحشدون له فسارع إليهم، وكانت معركة حنين، ولما انهزم أهلها تابعهم، فكان من آثار ذلك معركة أوطاس ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عاصمة الحجاز الثالثة بعد مكة والمدينة، ولو أنها فتحت له لأصبح الحجاز كله صافياً له داخلاً دخولاً مباشراً في دولته، ولكن ذلك تأخر إلى السنة التاسعة كما سنرى. كانت رحلة الفتح مليئة بالأحداث، فقد استمرت أكثر من سبعين يوماً، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في 10 رمضان سنة 8 هـ، ورجع إليها لست ليال بقين من ذي القعدة على قول. ومن أهم أحداثها: فتح مكة، وغزوة حنين، ومعركة أوطاس، وحصار الطائف، وإرساله عليه الصلاة والسلام السرايا والبعوث، فمن مكة أرسل سرايا على حسب تتبعات المباركفوري. * * *

_ (1) النصر: 1 - 3.

597 - * روى أحمد والطبراني عن ذي الجوشن الضبابي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لي يقال لها: القرحاء: فقلت: يا محمد إني قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه قال: "لا حاجة لي فيه، وإن أردت أقيض كبها المختارة من دروع بدر فعلت؟ " قال: ما كنت لأقيضه اليوم بغرة، قال: "لا حاجة لي فيه" ثم قال: "يا ذا الجوشن ألا تسلم فتكون من أول أهل هذا الأمر؟ " فقلت: لا قال: "لم" قلت: إني رأيت قومك ولعوا بك قال: "فكيف بلغك عن مصارعهم ببدر؟ " قلت: قد بلغني، قال: "فأنى يهدي لك؟ " قلت: إن تغلب على الكعبة وتقطنها. قال: "لعلك إن عشت ترى ذلك" ثم قال "يا بلال خذ حقيبة الرجل فزوده من العجوة". فلما أدبرت قال: "أما إنه من خير فرسان بني عامر" قال: فوالله إني بأهلي بالغور، إذ أقبل راكب، فقلت: ما فعل الناس؟ قال: والله قد غلب محمد على الكعبة وقطنها. فقلت: هبلتني أمي ولو اسلمت يومئذ ثم أسأله الحيرة لأقطعنيها. وفي رواية (1) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعك من ذلك؟ " قال: رأيت قومك قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك فأنظر ما تصنع فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك - وذكر الحديث بنحوه. ذكرنا هذا الحديث هنا للإشعار بأن العرب كانوا ينتظرون نهاية الصراع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة ليتخذوا قرارهم النهائي.

_ 597 - أحمد في مسنده (4/ 67). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 162): رواه عبد الله بن أحمد وأبوه ولم يسق المتن، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح. الغرة: تأتي الغرة بمعنى الأمة او العبد والمراد هنا الفرس كما ذكر ابن الأثير في النهاية. قال: يريد أنه ما كان ليقيض به فرساً فكيف يقيض به ما هو دونه وهو الدرع. أنى: بمعنى آن والتقدير أما آن أن تهتدي بهذا. العجوة: ضرب من أجود التمر بالمدينة. هبلتني أمي: أي فقدتني. (1) أحمد في مسنده (4/ 68).

598 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (لرادك إلى معاد) (1) قال: إلى مكة. 599 - * روى البزار عن أبي هريرة أن قائد خزاعة قال: اللهم إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا فانصر هداك الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا 600 - * روى أبو يعلى عن عائشة قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان، وقال: "لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب" قالت: وقال لي: "قولي لأبي بكر وعمر يتجهزا لهذا الغزو" قال: فجاءا إلى عائشة، فقالا: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقالت: لقد رأيته غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان من الدهر. 601 - * روى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة

_ 598 - البخاري (7/ 509) 65 - كتاب التفسير - 2 - باب (إن الذي فرض عليك القرآن) الآية. (لرادك إلى معاد): أي: لراجعك إلى مكة، كذا جاء في التفسير في البخاري. (1) القصص: 85. 599 - البزار: كشف الأستار (2/ 342)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الفتح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 162): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عمرو، وحديثه حسن. 600 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 161)، وقال: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال صاحب الجرح والتعديل: حزام بن هشام بن حبيش: شيخ محله الصدق. وسكت عن أبيه. بنو كعب: خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أن بني كعب هم أكبر بطون خزاعة فأطلق اسمهم على بني خزاعة جميعاً. 601 - البخاري (7/ 519) 64 - كتاب المغازي - 46 - باب غزوة الفتح، وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1941) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 36 - باب من فضائل أهل بدر، رضي الله عنهم، وقصة حاطب بن أبي بلتعة.

خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها" قال فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة - إلى ناس بمكة من المشركين - يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش - يقول: كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم بها قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقكم" فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فأنزل الله السورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) إلى قوله (فقد ضل سواء السبيل) (1). كان حاطب كتب كتاباً إلى قريش يخبرهم بسير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إليهم وأرسله مع جارية إلى مكة، وكان حاطب من المهاجرين وممن شهد بدراً. وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي (2) عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد - والزبير - وكلنا فارس ... ثم ساقه بمعناه ولم يذكر نزول الآية.

_ = خاخ: مكان بين مكة والمدينة، بقرب المدينة. الظعينة: في الأصل. المرأة ما دامت في الهودج، ثم جعلت المرأة إذا سافرت ظعينة، ثم نقل إلى المرأة نفسها، سافرت أو أقامت، وظعن يظعن: إذا سافر. عقاصها: العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لويت وجعلت مثل الرمانة، أو لم تلو، والمعنى: أخرجت الكتاب من ضفائرها المعقوصة. ملصقاً: الملصق: هو الرجل المقيم في الحي، وليس منهم بنسب. (1) الممتحنة: 1. (2) البخاري (7/ 304) 64 - كتاب المغازي - 9 - باب فضل من شهد بدراً.

وفي رواية نحوه (1)، وفيه: قال فأدركناها تسير على جمل لها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب فأنخنا بها فابتغينا في رحلها، فما وجدنا شيئاً. قال صاحباي: ما نرى كتاباً. قال قلت: لقد علمت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يحلف به لنخرجن الكتاب أو لأجردنك. قال: فلما رأت الجد مني أهوت بيدها إلى حجزتها - وهي محتجزة بكساء - فأخرجت الكتاب. قال فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .... وذكر الحديث. قال في الفتح: قوله (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد) كذا في رواية عبيد الله بن أبي رافع، وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كما تقدم في فضل من شهد بدراً "بعثني وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام، فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكره الآخر ولم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا، وساق الخبر بالتثنية. قال "فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها إلخ" فالذي يظهر أنه كان مع كل منهما آخر تبعاً له. قوله (إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش) أي حليفاً، وقد فسره بقوله "كنت حليفاً ولم أكن من أنفسها" وعند ابن إسحاق "وليس في القوم من أصل ولا عشيرة" وعند أحمد "وكنت غريباً" قال السهيلي: كان حاطب حليفاً لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى، واسم أبي بلتعة عمرو، وقيل كان حليفاً لقريش. قوله (يحمون بها قرابتي) في رواية ابن إسحاق "وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه" وسيأتي تكملة شرح هذا الحديث في سورة الممتحنة، وذكر بعض أهل المغازي وهو في "تفسير يحيى بن سلام" أن لفظ الكتاب "أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير

_ = ومسلم (4/ 1942) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 36 - باب من فضل أهل بدر، رضي الله عنهم، وقصة حاطب بن أبي بلتعة. (1) البخاري (11/ 46) 79 - كتاب الاستئذان - 23 - باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره. ابتغينا: الابتغاء: الطلب. حجزة: احتجز الرجل: شد إزاره على وسطه، والحجزة: موضع الشد.

كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده. فانظروا لأنفسكم والسلام" كذا حكاه السهيلي. وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطباً كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان ابن أمية وعكرمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد". 602 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان. قال الزهري: وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك. 603 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد - وهو ماء بين عسفان وقديد - أفطر وأفطروا. إلا أن لفظ البخاري أتم وأطول، وهو هذا. 604 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة ابا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد - ماء بين عسفان وأمج - أفطر ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، والف من مزينة وسليم وفي كل القبائل عدد وسلاح واوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار لم يتخلف منهم أحد

_ 602 - البخاري (8/ 3) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب غزوة الفتح في رمضان. 603 - البخاري في نفس الموضع السابق. ومسلم نحوها (2/ 784) 13 - كتاب الصيام - 15 - باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر. 604 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 164)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. والزيادة التي بين الأقواس من سيرة ابن هشام (4/ 17). في عشرة آلاف من المسلمين وألف من مزينة وسليم: الألف ضمن العشرة آلاف، وليس المراد أنها زائدة عليها.

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران وقد عميت الأخبار على قريش، فلم يأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ولم يدروا ما هو فاعل، وخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم ابن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون، وينظرون، هل يجدون خبراً، أو يسمعون به وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق عند الجحفة وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين المدينة ومكة بنيق العقاب، والتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك. قال: "لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي بمكة، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال" فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بني له، فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن بالأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا فأسلما، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران قال العباس: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش آخر الدهر. قال: فجلست على بلغة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك. فقلت: لعلي ألقى بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة، يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً قال: يقول بديل: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، قال يقول أبو سفيان: خزاعة والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، فقال: مالك فداك أبي وأمي؟ فقلت! ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه وحركت به، فكلما

_ = حمشتها: أحرقتها.

مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي فلما رأى أبو سفيان على عجز البغلة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة الرجل البطيء فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني، فلأضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله إني أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله لا يناجيه الليلة رجل دوني. قال: فلما أكثر عمر في شأنه، قلت: مهلاً يا عمر، أما والله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال: مهلاً يا عباس، والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب أبي لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبحت فائتني به" فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحلمك وأوصلك، لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، هذه والله كان في النفس منها شيء حتى الآن، قال العباس: ويحك يا أبا سفيان. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق وأسلم، قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن" فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عباس احبسه بالوادي عند حطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها" قال: فخرجت به

_ = الحطم من الجبل: مضيقه حيث يزدحم الناس بعضهم بعضاً.

حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرت به القبائل على راياتها، فكلما مرت قبيلة قال: من هؤلاء يا عباس فأقول: بنو سليم. فيقول: مالي ولسليم، قال: ثم تمر القبيلة، فيقول: من هؤلاء فأقول: مزينة، فيقول: مالي ولمزينة حتى نفدت القبائل يعني جاوزت، لا تمر قبيلة إلا قال: من هؤلاء؟ فأقول: بنو فلان. فيقول: مالي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء (أي في كتيبة خضراء) والأنصار لا يرى منهم سوى الحدق قال: سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذاً، قلت: التجئ إلى قومك، قال: فخرج حتى جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشار به فقالت: اقتلوا الحميت (الدسم) الأحمس فبئس طليعة قوم. قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء بما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن قالوا: ويحك وما تغني عنا دارك قال: ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. 605 - * روى البزار عن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، كان قيس (أي: ابن سعد) في مقدمته، فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي هو فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك. 606 - * روى البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما سار رسول الله

_ = الحميت: زق السمن. في النهاية: "الحميت الأحمس" قالتها في معرض الذم. الدسم: الكثير الودك، والودك: دسم اللحم. الأحمس: الشديد اللحم. ... لا قبل: أي: لا طاقة. 605 - البزار في كشف الأستار (2/ 342)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الفتح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 175): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. 606 - البخاري (8/ 5) 64 - كتاب المغازي 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟

صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فبلغ ذلك قريشاً، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران، كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل، حتى ينظر إلى المسلمين"، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة، فقال: يا عباس، من هذه؟ فقال: هذه غفار، قال: مالي ولغفار، ثم مرت جهينة، وقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك ومرت سليم، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة، وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال" قال: قال كذا وكذا، فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة" قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ "قال: نعم"، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن

_ = خطم الجبل: أنفه، وهو شيء يخرج منه يضيق به الطريق. كتيبة: الكتيبة: واحدة الكتائب، وهي العساكر المرتبة. الملحمة: الحرب والقتال الذي لا مخلص منه. الذمار: ما لزمك حفظه، يقال: فلان حامي الذمار: يحمي ما يجب عليه حفظه. والمراد به هنا الدفاع عن الأرواح والأعراض والأموال. كذب سعد: أي أخطأ. بالحجون: الحجون: أحد جبلي مكة من جهة الغرب والشمال.

يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى، فقتل من خيل خالد بن الوليد رضي الله عنه يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري. قال الحافظ في الفتح: قوله: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، أي: بالمد، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى، أي: بالقصر، قال الحافظ: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالداً دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق أن خالداً دخل من أسفل مكة، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقاً واضحاً، فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيره وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم. أهـ. وقال في الفتح: قوله (فبلغ ذلك قريشاً) ظاهره أنهم بلغوا مسيره قبل خروج أبي سفيان وحكيم بن حزام، والذي عند ابن إسحاق وعند ابن عائذ من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ولم تعلم بهم قريش. وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست، ثم خرج، فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم بن حزام: هل لك أن تركب إلى أمر لعلنا أن نلقى خبراً؟ فقال له بديل بن ورقاء: وأنا معكم، قالا: وأنت إن شئت فركبوا. وفي رواية ابن عائذ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً حتى بعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يودوا قتيل خزاعة (1)، وبين أن يبرأوا من حلف بكر، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة فخيرهم، فقال قرظة بن عمرو: لا نودي ولا نبرأ، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فانصرف ضمرة بذلك. فأرسلت قريش أبا سفيان يسأل رسول الله

_ = من كداء: كداء بالفتح والمد: ثنية من أعلى مكة، مما يلي المقبرة، وكدى - بالضم والقصر - ثنية من أسفل مكة. (1) قوله: أن يودوا قتيل خزاعة: أي: يدفعوا ديته، وخزاعة: حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قتلته بكر حليفة قريش.

صلى الله عليه وسلم في تجديد العهد وكذلك أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، فأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادراً قبل أن يبلغ المسلمين الخبر، والله أعلم. وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة ونحوه في مغازي عروة عند ابن إسحاق وابن عائذ "فخافت قريش، فانطلق أبو سفيان إلى المدينة فقال لأبي بكر: جدد لنا الحلف، قال: ليس الأمر إلي. ثم أتى عمر فأغلظ له عمر. ثم أتى فاطمة فقالت له: ليس الأمر إلي. فأتي عليا فقال: ليس الأمر إلي. فقال: ما رأيت كاليوم رجلاً أضل - أي من أبي سفيان - أنت كبير الناس، فجدد الحلف. قال: فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال: قد أجرت بين الناس. ورجع إلى مكة فقالوا له: ما جئتنا بحرب فنحذر، ولا بصلح فنأمن" لفظ عكرمة وفي رواية عروة "فقالوا له: لعب بك علي وإن إخفار جوارك لهين عليهم" فيحتمل أن يكون قوله "بلغ قريش" أي غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغاً بلغهم ذلك حقيقة. وقوله (نيران عرفة) إشارة إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، وعند ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في تلك الليلة فأوقدوا عشرة آلاف نار. قوله (فقال بديل بن ورقاء: هذه نيران بني عمرو) يعني خزاعة، وعمرو يعني ابن لحي (فقال أبوس فيان: عمرو أقل من ذلك) ومثل هذا في مرسل أبي سلمة، وفي مغازي عروة عند ابن عائذ عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك فقالوا: هؤلاء بنو كعب - يعني خزاعة، وكعب أكبر بطون خزاعة - جاشت بهم الحرب. فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب ما بلغ تأليبها هذا. قالوا: فانتجعت هوازن أرضنا، والله ما نعرف هذا، أنه هذا المثل صاح الناس. قوله (فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم) في رواية ابن عائذ "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلاً تقبض العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحداً يمضي، فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل" وفي مرسل أبي سلمة (وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه فقالوا: جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة، فقال عمر: والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، قالوا قد أتيناك بأبي سفيان) وعند ابن إسحاق (أن العباس خرج ليلاً فلقي أبا سفيان وبديلاً، فحمل أبا

سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه) ويمكن الجمع بأن الحرس لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان. وفي رواية ابن إسحاق (فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قال العباس: والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئت الأراك (1) فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما الحيلة؟ قلت: فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه) وهذا مخالف للرواية السابقة أنهم أخذوهم، ولكن عند ابن عائذ (فدخل بديل وحكيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما) فيحمل قوله (ورجع صاحباه) أي بعد أن أسلما. واستمر أبو سفيان عند العباس لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يحبسه حتى يرى العساكر. ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضاً. وفي مغازي موسى ابن عقبة ما يؤيد ذلك، وفيه (فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح) ويجمع بين ما عند ابن إسحاق ومرسل أبي سلمة بأن الحرس أخذوهم، فلما رأوا أبا سفيان مع العباس تركوه معه. وفي رواية عكرمة (فذهب به العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له فقال: "يا أبا سفيان أسلم تسلم" قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ قال فسمعه عمر فقال: لو كنت خارجاً من القبة ما قلتها أبداً، فأسلم أبو سفيان، فذهب به العباس إلى منزله، فلما اصبح ورأى مبادرة الناس إلى الصلاة أسلم". قوله (احبس أبا سفيان) في رواية موسى بن عقبة أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر، فاحبسه حتى تريه جنود الله، ففعل، فقال أبو سفيان: أغدرا يا بني هاشم؟ قال العباس. لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله للمشركين وما أعد الله للمشركين، فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا. قوله (عند خطم الجبل) في رواية النسفي والقابسي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة أي أنف الجبل، وهي رواية ابن إسحاق

_ (1) حتى جئت الأراك: هي منطقة قرب مكة يكثر فيها شجر الأراك الذي يتخذ منه السواك.

وغيره من أهل المغازي، وفي رواية الأكثر بفتح المهملة من اللفظة الأولى وبالخاء المعجمة وسكون التحتانية (أي عند حطم الخيل) أي ازدحامها، وإنما حبسه هناك لكونه مضيقاً ليرى الجميع ولا يفوته رؤية أحد منهم. هناك ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد. والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل بنزعها، وأن يدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها لابنه قيس، ثم إن سعداً خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير. وهذه القصة الأخيرة قد ذكرها البزار من حديث أنس بإسناد على شرط البخاري ولفظه "كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي فيه مخافة أن يقدم على شيء، فصرفه عن ذلك". وعند البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن عمر قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشده قوله: عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع (1) موعدها كداء (2) ينازعن الأسنة مسرجات ... يلطمهن (3) بالخمر (4) النساء فقال (ادخلوها من حيث قال حسان). وذكر ابن إسحاق أن أصحاب خالد لقوا ناساً من قريش، منهم سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية كانوا تجمعوا بالخندمة بالخاء المعجمة والنون مكان أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئاً من القتال، فقتل من خيل خالد سلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلاً أو ثلاثة عشر وانهزموا، وفي ذلك يقول حماس بن قيس بن خالد البكري - قال ابن هشام: ويقال هي للمرعاش الهذلي - يخاطب امرأته حين لامته على الفرار من المسلمين:

_ (1) النقع: الغبار. (2) كداء: بوزن سحاب، ثنية بأعلى مكة. (3) يلطمهن: تضرب النساء وجوه الخيل لتردهن. (4) الخمر: جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ووجهها. أي إن النساء كن يضربن وجوه الخيل بخمرهن يوم الفتح.

إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وعند موسى بن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالداً، فقاتلهم، فانهزموا وقتل من بني بكر نحو عشرين رجلاً ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا في الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن، قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال: "ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ " فقالوا: نظن أن خالداً قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتل. ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ " فقال: هم بدءونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال: "قضاء الله خير" وذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلاً، ومن هذيل خاصة أربعة، وقيل مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلاً. وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله حرم مكة" الحديث، فقيل له: هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: "قم يا فلان فقل له فليرفع القتل" فأتاه الرجل فقال: إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين ثم اعتذر الرجل إليه، فسكت" قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمراءه أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم. وقد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار وهم: عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد بنون وقاف مصغراً، ومقيس بن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة، وهبار بن الأسود. وقينتان كانتا لابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبي، وسارة مولاة بني المطلب وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح فكان أسلم ثم ارتد ثم شفع فيه عثمان يوم الفتح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وقبل إسلامه. وأما عكرمة ففر إلى اليمن

فتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فرجع معها بأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الحويرث فكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقتله علي يوم الفتح. وأما مقيس بن صبابة فكان أسلم ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاماً خطأ، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم قتل الأنصاري ثم ارتد، فقتله نميلة بن عبد الله يوم الفتح. وأما هبار فكان شديد الأذى للمسلمين وعرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرت فنخس (1) بعيرها فأسقطت، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت، فلما كان يوم الفتح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه أعلن بالإسلام فقبل منه فعفا عنه. وأما القينتان فاسمهما فرتني وقرينة، فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى. وأما سارة فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر. وقال الحميدي: بل قتلت. وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي. وذكر غير ابن إسحاق أن فرتني هي التي أسلمت وأن قرينة قتلت وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح. ووحشي بن حرب وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد أسلمت. وارنب مولاة ابن خطل أيضاً قتلت فيما ذكر ابن إسحاق فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة ويحتمل أن تكون أرنب. وأم سعد هما القينتان اختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب. وعند موسى بن عقبة في المغازي - وهي أصح ما صنف في ذلك عند الجماعة - ما نصه "أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله كنت حقيقاً أن تجعل عدتك وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحماً وأشد عداوة، فقال: "إني لأرجو أن يجمعهما الله لي: فتح مكة وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم". فقال أبو سفيان وحكيم: فادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم؟ قال: "من كف يده وأغلق داره فهو آمن" قالوا: فابعثنا نؤذن بذلك فيهم: قال: "انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن" ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفلها. فلما توجها قال العباس: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد، فرده حتى تريه جنود الله. قال: "أفعل" فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان

_ (1) نخس الدابة: طعن مؤخرها أو جنبها بالمنخاس لتنشط.

هذا أماناً منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح. وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة. ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأني كون التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة، لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو ما يؤيد قول من قال لم يكن فتحها عنوة. وعند أبي داود بإسناد حسن "عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا" وجنحت طائفة - منهم الماوردي - إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل". والحق أن صورة فتحها كان عنوة معاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحاً، أما أولاً لفلأن الإمام محير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفاً على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها. وأما ثانياً فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال، لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض عموماً لهم كما قال الله تعالى (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) (1) الآية. وقال (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) (2) الآية. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا. اهـ. 607 - * روى مسلم عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى

_ (1) المائدة 21. (2) الأعراف 137. 607 - مسلم (3/ 1405) 32 - كتاب الجهاد والسير - 31 - باب فتح مكة.

معاوية - وذلك في رمضان - فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله، فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي؟ فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة، فقال: سبقتني؟ قلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ ... ثم ذكر فتح مكة، فقال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين بعث خالداً على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة، قال: فنظر فرآني، فقال: "أبو هريرة؟ " قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: "لا يأتيني إلا أنصاري" زاد غير شيبان - (أي الراوي) - فقال: "اهتف لي بالأنصار" قال: فأطافوا به، ووبشت قريش أوباشاً لها وأتباعاً - فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ " ثم قال بيديه - إحداهما على الأخرى - ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقنا، فما شاء أحد منا أن يقتل أحداً إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي - وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي - فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: "قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ " قالوا: قد كان ذلك، قال: (1)

_ = المجنبتين: المجنبة: جانب العسكر، وله مجنبتان: ميمنة وميسرة. على الحسر: جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه ولا مغفر. أطافوا به: أحاطوا، وإنما خصهم لثقته بهم ورفعاً لمراتبهم وإظهاراً لجلالتهم وخصوصيتهم. وبشت أوباشاً لها: الأوباش: الجموع من قبائل شتى، والتوبيش: الجمع، أي: جمعت لها جموعاً من أقوام متفرقين في الأنساب والأماكن. أبيحت خضراء قريش: أي: استؤصلت وأهلكت، وخضراؤها: سوادها ومعظمها، والعرب تعبر بالخضرة عن السواد، وبالسواد عن الكثرة.=

"كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم" فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم" قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناس أبوابهم، قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت. قال: فأتى على صنم إلى جانب البيت كانوا يعبدونه: قال: وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس، وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه، ويقول: "جاء الحق، وزهق الباطل" فلما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو .. وفي رواية (1) بهذا الحديث، وزاد في الحديث: ثم قال بيديه، إحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصداً" وقال في الحديث: قالوا: قلنا: ذاك يا رسول الله، قال: "فما اسمي إذاً؟ كلا، إني عبد الله ورسوله". وفي أخرى (2) قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان، وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرة، اليوم نوبتي، فجاؤوا إلى المنزل، ولم يدرك طعامنا، فقلت: يا أبا هريرة، لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدرك طعامنا؟ فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى. وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة

_ = هاجرت إلى الله وإليكم: أي هاجرت إلى الله تعالى وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى. الضن: البخل والشح، ضننت أضن، وضننت أضن. فاستلمه: استلام الحجر الأسود: لمسه باليد. سية القوس: مخففاً: طرفها إلى موضع الوتر. زهق الباطل: أي اضمحل وذهب ضائعاً. (1) مسلم (3/ 1407) 32 - كتاب الجهاد والسير - 31 - باب فتح مكة. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. البياذقة: الرجالة، سموا بذلك لخفة حركتهم وأنهم ليس معهم ما يثقلهم.

وبطن الوادي، فقال: "يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار" فدعوتهم، فجاؤوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟ " قالوا: نعم قال: "انظروا إذا لقيتموهم غداً: أن تحصدوهم حصداً" وأخفى بيده، ووضع يمينه على شماله - وقال: "موعدكم الصفا"، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" فقالت الأنصار: أما الرجل، فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قلتم: أما الرجل: فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته؟ ألا فما اسمي إذاً؟! - ثلاث مرات - أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم" قالوا: والله، ما قلنا إلا ضناً بالله ورسوله، قال: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم". وفي رواية أبي داود (1) عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام، وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد على الخيل، وقال: "يا أبا هريرة، اهتف بالأنصار" قال: "اسلكوا هذا الطريق، فلا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه" فنادى مناد: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل داراً فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن" وعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة، فغص بهم، وطاف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف المقام، ثم أخذ بجنبتي الباب، فخرجوا، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام.

_ = احصدوهم: الحصد: كناية عن الاستئصال والمبالغة في القتل. أحفى: قال الحميدي: أحفى بيده: أشار بحافتها، وصفاً للحصد والقتل. أناموه: أي قتلوه، ومنه سمي السيف منيماً، أي: مهلكاً. (1) أبو داود (3/ 163)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر مكة.

608 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة على ناقته - يقرأ سورة الفتح قال: فقرأ ابن مغفل ورجع فقال معاوية: لولا الناس لأخذت لكم بذلك الذي ذكره ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أبي داود (1) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة - وهو على ناقة - يقرأ بسورة الفتح، وهو يرجع. 609 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من داء التي بأعلى مكة. وفي رواية (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها.

_ 608 - البخاري بنحوه (8/ 13) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ ومسلم بلفظه (1/ 547) 6 - كتاب صلاة السمافرين وقصرها - 35 - باب ذكر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح يوم فتح مكة. الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله: الترديد، وترجيع الصوت: ترديده في الحلق، وقد جاء تفسيره في حديث عبد الله بن مغفل في كتاب التوحيد من صحيح البخاري "أاأ" بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى، كذا ضبطه الحافظ وغيره، وقال العلامة علي القاري: الأظهر أنها ثلاث ألفات ممدودات. ثم قالوا: يحتمل أمرين. أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة. والآخر: أنه أشبع المد في موضعه، فحدث ذلك، قال الحافظ: وهذا الثاني أشبه بالسياق، فإن في بعض طرقه "لولا أن يجتمع الناس، لقرأت لكم بذلك "اللحن" أي: النغم، وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، فأخرج الترمذي في "الشمائل" والنسائي وابن ماجه وأبو داود واللفظ له من حديث أم هانئ "كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ. وأنا نائمة على فراشي - يرجع القرآن"، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، معنى الترجيع: تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء، تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. (1) أبو داود (2/ 74)، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة. 609 - البخاري (8/ 18) 64 - كتاب المغازي - 49 - باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة. ومسلم نحوه (2/ 918) 15 - كتاب الحج - 37 - باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى. (2) البخاري بنحوه (3/ 437) 25 - كتاب الحج - 41 - باب من أين يخرج من مكة؟ ومسلم بلفظه (2/ 918) 15 - كتاب الحج - 37 - باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى.

زاد في رواية (1): قال هشام (أي ابن عروة بن الزبير): فكان أبي يدخل منهما كليهما، وكان أكثر ما يدخل من كداء. وفي رواية أبي داود (2): دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى، قال: وكان عروة يدخل منهما جميعاً، وكان أكثر ما كان يدخل من كدى، وكان أقربهما إلى منزله. 610 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. وفي رواية قتيبة. قال: حدثنا أبو الزبير عن جابر. وزاد النسائي في أخرى (3): أرخى طرفها بين كتفيه. قوله: (وعليه عمامة سوداء) فيه جواز لبس الثياب السود وفي الرواية (الأخرى خطب الناس وعليه عمامة سوداء) فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح "خير ثيابكم البياض" (4). وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرناه وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بياناً للجواز والله أعلم. اهـ (شرح صحيح مسلم). وفي رواية للبخاري ومسلم (5) عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر.

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق (2/ 919). (2) أبو داود (2/ 174)، كتاب المناسك، باب دخول مكة. 610 - مسلم (2/ 990) 15 - كتاب الحج - 84 - باب جواز دخول مكة بغير إحرام. (3) النسائي (8/ 211)، كتاب الزينة، باب إرخاء طرف العمامة بين الكتفين. (4) أخرجه ابن ماجه (1/ 473) 6 - كتاب الجنائز - 12 - باب ما جاء فيما يستحب من الكفن. وأخرج الترمذي نحوه (5/ 117) 44 - كتاب الأدب - 46 - باب ما جاء في لبس البياض. وقال: هذا حديث حسن صحيح. (5) البخاري (10/ 275) 77 - كتاب اللباس - 17 - باب المغفر. ومسلم (2/ 990) 15 - كتاب الحج - 84 - باب جواز دخول مكة بغير إحرام.

611 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر" فأذن لهم حتى صلى العصر ثم قال: "كفوا السلاح" فلقي رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً فقال، ورأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: "إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية" فقام رجل فقال: إن فلاناً ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الأثلب" قالوا: وما الأثلب؟ قال "الحجر" وقال: "لا صلاة بعد الغداة حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" قال: "ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". 612 - * روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثاً، ثم قال: "لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده: ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم، أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاج، وسدانة البيت" ثم قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا -: مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها".

_ = قوله (وعلى رأسه المغفر): بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، وهو المنسوج من الدرع على قدر رأسه. ولا تعارض بينه وبين حديث: (وعليه عمامة سوداء) إذ يحتمل أن تكون العمامة فوق المغفر أو العكس أو كان أول دخوله على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك أ. هـ وقاله السندي. 611 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 177)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. ذحول: جمع ذحل، والذحل الحقد والعداوة، يقال: طلب بذحله: أي طلب بثأره. دعوة: في النسب بالكسر وهو أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشيرته وقد كانوا يفعلونه. فنهى عنه وجعل الولد للفراش. الأثلب: الحجارة. 612 - أبو داود (4/ 185)، كتاب الديات، باب في الخطأ شبه العمد. والنسائي بعضه (8/ 40)، كتاب القسامة، باب كم دية شبه العمد؟ مأثرة المأثرة: واحدة المآثر المروية عن العرب، وهي مكارم أخلاقها، التي يحدث بها عنها. سقاية الحاج: ما كانوا يسقونه الحجيج من الزبيب المنبوذ في الماء. سدانة البيت: خدمته، والبيت: بيت الله الحرام.

- وفي أخرى لأبي داود (1)، قال: "عقل شبه العمد مغلظة مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه". زاد في رواية (2) "وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في عميا في غير ضغينة، ولا حمل سلاح". 613 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد من بعدي فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدى، وإما أن يقيد" فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" فقام أبو شاه - رجل من أهل

_ (1) أبو داود (4/ 190)، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. العقل: الدية، وأصلها: أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول ليقبلوها منه، فسميت، الدية عقلاً، وأصل الدية: الإبل، ثم قومت بعد ذلك بالذهب والورق وغيرهما. والعاقلة: هم العصبة والأرقاب من قبل الأب، الذين يعطون دية قتيل الخطأ. (2) أبو داود (4/ 190)، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. ينزو: النزو: الوثوب. عمياً: أي: جهالة. والمراد به: الخطأ. والمعنى: أن يترامى القوم فيوجد بينهم قتيل لا يدرى من قتله، ويعمى أمره فلا يتبين، ففيه الدية. ضغينة: الضغينة: الحقد. 613 - البخاري (5/ 87) 45 - كتاب اللقطة - 7 - باب كيف تعرف لقطة أهل مكة؟ ومسلم (2/ 988) 15 - كتاب الحج - 82 - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد، على الدوام. ولا يختلى: الخلا: العشب، واختلاؤه: قطعه. ساقطتها إلا لمنشد: الساقطة: هي اللقطة، وهو الشيء الذي يلقى على الأرض لا صاحب له يعرف، وقوله: "لا تحل إلا لمنشد" يعني: لمعرف، وهو من نشدت الضالة: إذا طلبتها، فأنت ناشد، وأنشدتها: إذا عرفتها، فأنت منشد، واللقطة في جميع البلاد لا تحل إلا لمن أنشدها سنة، ثم يتملكها بعد السنة، بشرط الضمان لصاحبه إذا وجده، فأما مكة، فإن في لقطتها وجهين، أحدهما: أنها كسائر البلاد، والثاني: لا تحل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لقطتها إلا لمنشد" ولامراد به: منشد على الدوام، وإلا فأي فائدة لتخصيص مكة بالإنشاد؟.

اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه". قلت للأوزاعي: ما قوله اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال في الفتح: واستدل بحديثي ابن عباس وأبي هريرة المذكورين في هذا الباب على أن لقطة مكة لا تلتقط للتمليك بل للتعريف خاصة، وهو قول الجمهور، وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها، لأنها إن كانت للمكي فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالباً من وارد إليها، فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال. وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف. واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء، لأنه نفى الحل واستثنى المنشد فدل على أن الحل ثابت للمنشد لأن الاستثناء من النفي إثبات، قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها. والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها وصاحبها من وجدانها لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة، فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها فنهى الشارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق، بخلاف لقطة مكة فيشرع تعريفها لإمكان عود اهل أفق صاحب اللقطة إلى مكة فيحصل متوصل إلى معرفة صاحبها وقال إسحاق بن راهويه: قوله "إلا لمنشد" أي لمن سمع ناشداً يقول: من رأى لي كذا؟ فحينئذ يجوز لواجد اللقطة أن يعرفها ليردها على صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور لأنه قيده بحالة للمعرف دون حالة، وقيل: المراد بالمنشد الطالب حكاه أبو عبيد، وتعقبه بأنه لا يجوز في اللغة تسمية الطالب منشداً. قلت: ويكفي في رد ذلك قوله في حديث ابن عباس: "لا يلتقط لقطتها إلا معرف" والحديث يفسر بعضه بعضاً، وكأن هذا (1)

_ = بخير النظرين: خير النظرين: أوفق الأمرين له، فإما أن يدوا، أي: يعطوا الدية، وهي العقل، وإما أن يقاد، أي: يقتل قصاصاً، فأي الأمرين اختار ولي الدم كان له، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: من وجب له القصاص لم يجز له تركه وأخذ الدية.

هو النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث ابن عباس، وأما اللغة فقد أثبت الحربي جواز تسمية الطالب منشداً وحكاه عياض أيضاً واستدل به على أن لقطة عرفة والمدينة النبوية كسائر البلاد لاختصاص مكة بذلك، وحكى الماوردي في "الحاوي" وجهاً في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة لأنها تجمع الحاج كمكة ولم يرجح شيئاً، وليس الوجه المذكور في "الروضة" ولا أصلها، واستدل به على جواز تعريف الضالة في المسجد الحرام بخلاف غيره من المساجد، وهو أصح الوجهين عند الشافعية. والله أعلم. ا. هـ. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم (اكتبوا لأبي شاه) هذا تصريح بجواز كتابة العلم غير القرآن ومثله حديث علي رضي الله عنه ما عنده إلا ما في هذه الصحيفة ومثله حديث أبي هريرة: كان عبد الله بن عمرو يكتب ولا أكتب وجاءت أحاديث بالنهي عن كتابة غير القرآن فمن السلف من منع كتابة العلم وقال جمهور السلف بجوازه ثم أجمعت الأمة بعدهم على استحبابه، وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين: أحدهما: أنها منسوخة وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد، فنهى عن كتابة غيره خوفاً من اختلاطه واشتباهه، فلما اشتهر وأنمت تلك المفسدة أذن فيه. والثاني: أن النهي تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة والإذن لمن لم يوثق بحفظه، والله أعلم. أ. هـ 614 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله عز وجل، وفاجر شقي هين على الله عز وجل والناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) إلى (إن الله عليم خبير) " (2). 615 - وعن عبد الله بن زرير قال: قال علي للعباس: قل للنبي يعطيك الخزانة

_ 614 - الترمذي (5/ 389) 48 - كتاب تفسير القرآن - 50 - باب "من سورة الحجرات". وإسناده حسن. عبية: العبية: بضم العين وكسرها، وتشديد الباء والياء، مأخوذ من العبء: الثقل. (2) الحجرات 13. 615 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أبو يعلى وهو مرسل، عبد الله بن زرير لم يدرك القصة.=

فسأله العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما هو خير لكم من ذلك ما يرزؤكم ولا ترزؤنها فأعطاهم السقاية". وفي رواية (1) عن عبد الله بن أبي زرير عن علي عن أبيه قال: قلت للعباس: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجابة، فسأله فقال: "أعطيكم السقاية ترزؤكم ولا ترزؤنها" وقلت للعباس: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملك على الصدقات فقال: "ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس". 616 - * روى النسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح ولواؤه أبيض. 617 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته، مردفاً أسامة بن زيد، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث فيه نهاراً طويلاً ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل، فوجد بلالاً وراء الباب قائماً، فسأله: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله: فنسيت أن أسأله: كم صلى سجدة؟ ". قال في الفتح: وعند ابن إسحاق بإسناد حسن عن صفية بنت شيبة قالت: "لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، فلما قضى طوافه دعا عثمان ابن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتح له فدخلها، ثم وقف على باب الكعبة فخطب"

_ = الخزانة: السدانة والحجابة. الرزء: المصيبة. (1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. 616 - النسائي (5/ 200)، كتاب المناسك، باب دخول مكة باللواء. ولكن دون قوله: "يوم الفتح". وابن ماجه (2/ 941) 24 - كتاب الجهاد. 20 - باب الرايات والألوية. 617 - البخاري (8/ 18) 64 - كتاب المغازي - 49 - باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة. الحجبة: جمع حاجب، وهو سادن البيت.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فذكر الحديث، وفيه: ثم قال "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم جلس فقام علي فقال: اجمع لنا الحجابة والسقاية، فذكره. وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان فقال: "خذها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم" ومن طريق ابن جريج أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية، فنزلت: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (1) فدعا عثمان فقال: "خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم" ومن طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني شيبة، كلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف" وروى الفاكهي من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه" قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. ومن حديث ابن عمر أن بني أبي طلحة كانوا يقولون: لا يفتح الكعبة إلا هم، فتناول النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده. ا. هـ 618 - روي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء، من الثنية العليا التي عند البطحاء، وخرج من الثنية السفلى. وفي رواية له ولمسلم (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس. زاد البخاري (3): وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، فإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.

_ (1) النساء: 58. 618 - البخاري (3/ 436) 25 - كتاب الحج - 40 - باب من أين يدخل مكة؟. الثنية: موضع مرتفع من الأرض. كداء: بفتح الكاف ممدوداً: من أعلى مكة، وبضمها مقصوراً: من أسفلها. (2) البخاري (3/ 391) 25 - كتاب الحج - 15 - باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة. ومسلم (2/ 918) 15 - كتاب الحج - 37 - باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى. (3) البخاري في نفس الموضع السابق.

وعند مسلم (1): وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى. قال النووي: قيل إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلاً وخارجاً تفاؤلاً بتغير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان وليتبرك به أهلهما ومذهبنا أنه يستحب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من السفلى لهذا الحديث ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية على طريقه كالمدني والشامي أو لا تكون كاليمني فيستحب لليمني وغيره أن يستدير ويدخل مكة من الثنية العليا وقال بعض أصحابنا: إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لنها كانت على طريقه ولا يستحب لمن ليست على طريقه كاليمني وهذا ضعيف والصواب الأول وهكذا يستحب له أن يخرج من بلده من طريق ويرجع من أخرى لهذا الحديث. 619 - * روى الطبراني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: "ائتني بمفتاح الكعبة" فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم ينتظره حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، ويقول: "ما يحبسه؟ " فسعى إليه رجل، وجعلت المرأة التي عندها المفتاح - حسبت أنه قال أم عثمان - تقول: إن أخذه منكم لم يعطيكموه أبداً فلم يزل بها عثمان، حتى أعطته المفتاح فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب، ثم دخل البيت، ثم خرج والناس معه فجلس عند السقاية فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله لئن كنا أوتينا النبوة، وأعطينا السقاية، وأعطينا الحجابة ما قوم بأعظم نصيباً منا فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: "غيبوه" قال عبد الرزاق: فحدثت به ابن عيينة فقال: أخبرني ابن جريج أحسبه قال عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي يومئذ حين كلمه في المفتاح: "إنما أعطيكم ما ترزؤون ولم أعطكم ما ترزؤون" يقول أعطيكم السقاية لأنكم تغرمون فيها ولم أعطكم البيت أي إنهم يأخذون من هديته، هذا قول عبد الرزاق.

_ (1) مسلم في الموضع السابق. 619 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 176)، وقال: رواه الطبراني مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح. ترزؤون: تصابون. أعطيكم ما ترزؤون لا ما ترزؤون: أعطيكم ما هو نقص لكم ولا ينقصني.

620 - * وروى الطبراني عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً وقد شد لهم إبليس أقدامهم بالرصاص، فجاء ومعه قضيبه فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" حتى مر عليها كلها. وفي رواية البخاري ومسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". قال ابن حجر: قوله (بعود في يده ويقول: جاء الحق) في حديث أبي هريرة عند مسلم (يطعن في عينيه بسية القوس) وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان (فيسقط الصنم ولا يمسه)، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس (فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص) وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع عن نفسها شيئاً. ا. هـ. 621 - * روى أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي حتى محيت كل صورة فيها. قال في بذل المجهود: والظاهر أن ما أمره صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب كان مختصاً بما نقش من

_ 620 - المعجم الكبير (10/ 339). والبزار مختصراً: كشف الأستار (2/ 345). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 176): رواه الطبراني، ورجاله ثقات، ورواه البزار باختصار. (1) البخاري (8/ 15) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟. ومسلم (3/ 1408) 32 - كتاب الجهاد والسير - 32 - باب إزالة الأصنام من حول الكعبة. نصب: النصب: بضم الصاد وسكونها: الصنم، وجمعها أنصاب. 621 - أحمد في مسنده (3/ 335). وأبو داود (4/ 74)، كتاب اللباس، باب في الصور. وإسناده حسن.

الصور على الجدران، فأمره بمحوها، وأما الأصنام وذي الأجرام منها فبقيت فيها حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فأزالها بنفسه كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها وفيها ثلاثمائة وستون نصباً، فيطعن فيها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل". 622 - * روى أبو داود عن وهب بن منبه قال: سألت جابراً: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا. 623 - * روى الطبراني عن سعيد بن يربوع وكان يسمى الصرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم: الحويرث بن نفيل، ومقيس ابن صبابة، وهلال بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح" فأما حويرث فقتله علي رضي الله عنه، وأما مقيس بن صبابة فقتله ابن عم له بلحاء، وأما هلال بن خطل فقتله الزبير، وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاستأمن له عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان أخاه من الرضاعة. وقينتين كانتا لمقيس تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلت إحداهما وأفلتت الأخرى فأسلمت. وفي رواية للحاكم (1) عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح". * وفي رواية لأبي داود (2) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، وسماهم، وابن أبي سرح. فذكر الحديث، قال: وأما ابن أبي سرح، فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، بايع

_ 622 - أبو داود (3/ 163)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر مكة. وإسناده حسن. 623 - المعجم الكبير (6/ 66). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 173): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (1) المستدرك (2/ 54)، وسكت عنه. وأقره الذهبي. (2) أبو داود (3/ 59)، كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام.

عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ " قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". قال أبو داود: وكان عبد الله أخا عثمان من الرضاعة. وفي رواية للنسائي (1) قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة، وامرأتين، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح" فأما عبد الله بن خطل، فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً - وكان أشب الرجلين - فقتله. وأما مقيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا، فقال عكرمة: والله، لئن لم ينجني من البحر إلا الإلخاص، لا ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء فأسلم. وأما عبد الله بن أبي السرح، فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال يا رسول الله ... وذكر الحديث إلى آخره مثل أبي داود. 624 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار

_ = رشيد: رجل رشيد، أي: لبيب عاقل، له فطنة. خائنة الأعين: كناية عن الرمز والإشارة، كأنها مما تخونه العين، أي: تسرقه، لأنها كالسرقة من الحاضرين. (1) النسائي (7/ 105)، كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد. وهو حديث حسن. عاصف: ريح عاصف، أي: شديد الهبوب. 624 - البخاري (8/ 15) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟. ومسلم (2/ 989) 15 - كتاب الحج - 84 - باب جواز دخول مكة بغير إحرام.

الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه". وفي الموطأ (1): ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ - والله أعلم - محرماً. وقال أبو داود (2): اسم ابن خطل: عبد الله، وكان أبو برزة الأسلمي قتله. 625 - * روى البخاري ومسلم عن أم هانئ رضي الله عنها أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه، فقال: "من هذه؟ " فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: "مرحباً بأم هانئ" فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي علي: أنه قاتل رجلاً قد أجرته - فلان ابن هبيرة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: وذلك ضحى. وفي رواية الترمذي (3): أن أم هانئ قالت: أجرت رجلين من أحمائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد آمنا من آمنت". وفي رواية أبي داود (4): أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "قد أجرنا من أجرت، وآمنا من آمنت". قال الحافظ في الفتح: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئاً ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة.

_ = مالك في الموطأ (1/ 423) 20 - كتاب الحج - 81 - باب جامع الحج. (1) أبو داود (3/ 59)، كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام. 625 - البخاري (1/ 469) 8 - كتاب الصلاة - 4 - باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به. ومسلم (1/ 496) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 13 - باب استحباب صلاة الضحى. أجرنا: أجرت الرجل: منعت من يريده بسوء، وآمنته شره وأذاه. (2) الترمذي (4/ 142) 22 - كتاب السير - 26 - باب ما جاء في أمان العبد والمرأة. (3) أبو داود (3/ 84)، كتاب الجهاد، باب في أمان المرأة.

626 - * روى أحمد عن مطيع بن الأسود، وكان اسمه العاصي فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بقتل هؤلاء الرهط بمكة يقول: "لا تغزى مكة بعد هذا العام أبداً". وفي رواية (1) (يوم فتح مكة)، "ولا يقتل رجل من قريش بعد العام صبراً أبداً" هذا الحديث محمول على ألا تغزى مكة على الكفر، وهو من معجزاته عليه الصلاة والسلام، فقد ارتدت العرب بعد وفاته إلا قليلاً، وكان ممن لم يرتد مكة. 627 - * روى النسائي عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أمية يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة". 628 - * روى الحاكم عن أنس، قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه يوم فتح مكة بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه". 629 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا".

_ 626 - أحمد في مسنده (3/ 412). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد، ورجاله ثقات. (1) أحمد في مسنده (3/ 412). 627 - النسائي (7/ 141)، كتاب البيعة، باب البيعة على الجهاد. وأبو داود بمعناه (3/ 3) كتاب الجهاد، باب في الهجرة، هل انقطعت؟ وللحديث شواهد تحسنه. 628 - المستدرك (3/ 244)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط البخاري. 629 - البخاري (6/ 3) 56 - كتاب الجهاد - 31 - باب فضل الجهاد والسير. ومسلم (2/ 986) 15 - كتاب الحج - 82 - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطاها، إلا لمنشد على الدوام.

630 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أو حنين ألف من بني سليم. 631 - * وروى الطبراني عن العداء بن خالد بن هوذة قال: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينصرنا الله ولم يظهرنا. * * *

_ = الهجرة: مفارقة الوطن إلى جهة أخرى بنية المقام فيها، وكان المهاجر في الشريعة: من فارق أهله ووطنه متوجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم رغبة في الإسلام. جهاد: الجهاد: محاربة الكفار. نية: النية: إخلاص الجهاد لله تعالى، يعني أنه لم يبق بعد الفتح هجرة، إنما الإخلاص في الجهاد وقتال الكفار استنفرتم فانفروا: الاستنفار: الاستنجاد والاستنصار، أي: إذا طلب منكم النصرة فأجيبوه. أو انفروا خارجين إلى نصرته. 630 - المعجم الكبير (11/ 371). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 177): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير زائد النحوي وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وكلاهما ثقة. 631 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 186)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

دروس من فتح مكة

دروس من فتح مكة قال الدكتور السباعي: * أما فتح مكة، ففيها من الدروس والعظات ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القلائل، ففيها نجد طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلاً، فقد من عليهم بعد كفاح استمر بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة لم يتركوا فيها طريقاً للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوها، فلما تم له النصر عليهم، وفتح عاصمة وثنيتهم، لم يزد على أن استغفر لهم، وأطلق لهم حريتهم، وما يفعل مثل هذا في التاريخ ولكن ما يفعله رسول كريم لم يرد بدعوته ملكاً ولا سيطرة، وإنما أراد له الله أن يكون هادياً وفاتحاً للقلوب والعقول، ولهذا دخل مكة خاشعاً شاكراً لله، لا بزهو كما يفعل عظماء الفاتحين. * وفيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة حكمة أخرى، فقد علم الله أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى العالم، فأبقى على حياة أهل مكة وهم زعماء العرب ليدخلوا في دين الله، ولينطلقوا بعد ذلك إلى حمل رسالة الهدى والنور إلى الشعوب، يبذلون من أرواحهم وراحتهم ونفوسهم ما أنقذ تلك الشعوب من عمايتها، وأخرجها من الظلمات إلى النور. - ومما نذكره من دروسها ودروس معاركه الحربية صلى الله عليه وسلم، هي العبرة البالغة بما انتهت إليه دعوة الله من نصر في أمد لا يتصوره العقل، وهذا من أكبر الأدلة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الإسلام دعوة الله التي تكفل بنصرها ونصر دعاتها والمؤمنين بها والحاملين للوائها والله لا يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور، والله هو الحق وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، والله نور السماوات والأرض، فمن يستطيع أن يطفئ نور الله!. وكيف يرضى للباطل أن ينتصر النصر الأخير على الحق، وللهمجية والقسوة والفساد أن تكون لها الغلبة النهائية على الرحمة والصلاح. ولقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين جراح في معركتي أحد وحنين، ولابد في الدعوة من ابتلاء وجراح وضحايا (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) اهـ بتصرف.

فصل: في سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة

فصل: في سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة 632 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. ودفع إلى كل رجل منا أسيره. حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيرهن فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين. قال ابن حجر: قوله: (باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة) بفتح الجيم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة، أي ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة. ووهم الكرماني فظن أنه من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف قبيلة من عبد قيس، وهذا البعث كان عقب فتح مكة في شوال قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي، وكانوا بأسفل مكة من ناحية يلملم، قال ابن سعد: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار داعياً إلى الإسلام لا مقاتلاً. قوله (فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا) هذا من ابن عمر راوي الحديث يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة. ويؤيده فهمه أن قريشاً كانوا يقولون لكل من أسلم صبأ حتى اشتهرت هذه اللفظة وصاروا يطلقونها في مقام الذم، ومن ثم لما أسلم ثمامة بن أثال وقدم مكة معتمراً قالوا له: صبأت؟ قال: لا بل أسلمت. فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت استعملها هؤلاء، وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها لأن قولهم صبأنا أي خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ

_ 632 - البخاري (8/ 57) 64 - كتاب المغازي - 58 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة. صبأنا: صبأ: إذا خرج من دين إلى دين غيره.

الإسلام لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولاً قولهم. قوله (فجعل خالد يقتل منهم ويأسر) في كلام ابن سعد أنه أمرهم أن يستأسروا فاستأسروا فكتف بعضهم بعضاً، وفرقهم في أصحابه، فيجمع بأنهم أعطوا بأيديهم بعد المحاربة. قوله (فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره)، وعند ابن سعد "فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم" وفيه جواز الحلف على نفي فعل الغير إذا وثق بطواعيته. قوله (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا. قوله (مرتين) زاد ابن عساكر عن عبد الرزاق "أو ثلاثة" أخرجه الإسماعيلي، وفي رواية الباقين "ثلاث مرات" وزاد الباقر في روايته "ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فقال: "اخرج إلى هؤلاء القوم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك" فخرج حتى جاءهم ومعه مال فلم يبق لهم أحد إلا وداه" وذكر ابن هشام في زياداته أنه انفلت منهم رجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، فقال: "هل أنكر عليه أحد؟ " فوصف له صفة ابن عمر وسالم مولى أبي حذيفة. وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال: "كنت في خيل خالد فقال لي فتى من بني جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برمة: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة؟ فقلت: نعم، فقدته بها فقال: اسلمي حبيش، قبل نفاد العيش. أريتك إن طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو أدركتكم بالخوانق الأبيات، قال فقالت له امرأة منهن: وأنت نجيت عشراً، وتسعاً ووتراً، وثمانياً تترى. قال: ثم ضربت عنق الفتى، فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت" وقد روى النسائي والبيهقي في "الدلائل" بإسناد صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة وقال فيها "فقال إني لست منهم، إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة - قال فيه - فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فذكروا

تعليق

ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم"؟ وأخرجه البيهقي من طريق ابن عاصم عن أبيه نحو هذه القصة وقال في آخرها "فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت". تعليق: رغم أن خالداً رضي الله عنه قد أخطأ في قتل ناس لم يحسنوا أني قولوا: أسلمنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشتد عليه وأصلح خطأه بالتعويض عن القتلى والأموال. وفي هذا درس لنا أن الذي يعمل معرض للخطأ فعلينا أن نترفق به وعلى الأقل ألا نحمله إثم ما جرى بسبب خطئه ما دام محلاً للاجتهاد وقد أنيط به أن يجتهد. * * *

فصل: في غزوة حنين

فصل: في غزوة حنين قال ابن حجر في الفتح: قال أهل المغازي: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال: وقيل لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال؛ وكان وصوله إليها في عاشره، وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النصري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم. قال عمر بن شبة في "كتاب مكة": حدثنا الحزامي يعني إبراهيم بن المنذر حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد: أما بعد: فإنك تكتب إلي تسألني عن قصة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكة نصف شهر، ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم مالك بن عوف. 633 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، استعار من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً في غزوة حنين فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة؟ قال: "عارية مؤداة". 634 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين - أراد حنيناً -: "منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر". في رواية (1) "منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف، حيث تقاسموا على الكفر".

_ 633 - المستدرك (2/ 47)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 634 - البخاري (8/ 14) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح. ومسلم (2/ 952) 15 - كتاب الحج - 59 - باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر. (1) البخاري (8/ 14) 64 - كتاب المغازي - 48 - باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد حنيناً: أي في غزوة الفتح؛ لأن غزوة حنين عقب غزوة الفتح. بخيف: الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء. حيث تقاسموا: يعني قريشاً. على الكفر: أي لما تحالفت قريش ألا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤوهم وحصروهم في الشعب.

635 - * روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: إنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير، حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت على جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى" ثم قال: "من يحرسنا الليلة؟ " قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: "فاركب"، فركب فرساً له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة"، فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: "هل أحسستم فارسكم؟ " قال: قالوا: يا رسول الله، ما أحسسناه، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: "أبشروا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فقال: إني انطلقت، حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حَيْثُ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت، فلم أر أَحَدًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة؟ " قال: لا، إلا مصلياً، أو قَاضِيَ حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بَعْدَهَا". 636 - * روى مسلم عن أنس بن مالك قال: افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنيناً،

_ 635 - أبو داود (3/ 9)، كتاب الجهاد، باب في فضل الحرس في سبيل الله تعالى. بإسناد حسنه الحافظ في الفتح. عن بكرة أبيهم: يقال: جاء القوم على بكرة أبيهم: إذا جاؤوا بأسرهم ولم يتخلف منهم أحد. ونعمهم: والنعم في الأصل: الإبل، وقد تقع على البقر والغنم. هل نزلت الليلة؟: أي: من ظهر حصانك. قد أوجبت: يقال: أوجب فلان: إذا فعل فعلاً وجبت له به الجنة أو النار، والمراد به ها هنا الجنة. 636 - مسلم (2/ 736) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إسلامه. قد بلغنا ستة آلاف: قال القاضي: هذا وهم من الراوي عن أنس. والصحيح ما جاء في رواية أخرى أنهم عشرة آلاف

قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، قال فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، قال: فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس، قال: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للمهاجرين، يا للمهاجرين" ثم قال: "يا للأنصار، يا للأنصار" - قال: قال أنس: هذا حديث عمية - قال: قلنا: لبيك يا رسول الله، قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وايم الله، ما أتيناهم حتى هزمهم الله. قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف، فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة، فنزلنا، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة من الإبل. 637 - * روى أحمد وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين قال:

_ = ومعه الطلقاء؛ لأن المشهور في كتب المغازي أن المسلمين كانوا يومئذ اثني عشر ألفاً: عشرة آلاف شهدوا الفتح وألفان من أهل مكة، ومن انضاف إليهم. تلوي: تعطف وترجع. عمية: قال النووي في شرح مسلم: هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه. أحدهما: عمية، بكسر العين والميم وتشديد الميم والياء، قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا، قال: وفسره بالشدة. والثاني: عمية، كذلك إلا أنه بضم العين. والثالث: عميه، بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء، وبعدها هاء السكت، أي: حدثني به عمي، قال القاضي على هذا الوجه معناه عندي: جماعتي، أي: هذا حديثهم، قال صاحب العين: العم هنا: الجماعة، وأنشد عليه ابن دريد في (الجمهرة): أفنيت عماً وجبرت عماً. قال القاضي: وهذا أشبه بالحديث، والوجه الرابع: كذلك إلا أنه بتشديد الياء، وهو الذي ذكره الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، وفسره بعمومتي، أي: هذا حديث فضل أعمامي، أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي، كأنه حدث بأول الحديث عن مشاهدة، ثم لعله لم يضبط هذا الموضع لتفرق الناس، فحدثه به من شهده من أعمامه أو جماعته الذين شاهدوه. وايم الله: هذا من جملة ألفاظ القسم ومعناه فيما يقوله النحويون: أنه جمع يمين، وأصله: أيمن، ثم حذفت النون في القسم تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وفيه لغات كثيرة تذكر في كتب النحو. 637 - أحمد في مسنده (3/ 376). والبزار مختصراً في كشف الأستار (2/ 351)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الفتح. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 179)، وقال: رواه أحمد وابو يعلى، ورواه البزار مختصراً، وفيه ابن إسحق

انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً قال: وفي عماية الصبح وقد كان القوم كمنوا لنا في شعابه وفي أجنابه ومضائقه قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا قال: فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد وانهزم الناس راجعين فانشمروا لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: "إلي أيها الناس هلم إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله" قال: فلا شيء احتملت الإبل، بعضها بعضاً، فانطلق الناس، إلا أن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من المهاجرين والأنصار وأهل بيته غير كثير، وفيمن ثبت معه أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وابنه الفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن وأسامة بن زيد. قال ورجل من هوازن على جمل له أحمر في يده راية له سوداء، في رأس رمح طويل له أمام الناس وهوازن خلفه، فإذا أدرك طعن برمحه، فإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه، فاتبعوه. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال: بينما ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله ذلك يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي من خلفه فيضرب عرقوبي الجمل فيوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزاد أبو يعلى: وصرخ حين كانت الهزيمة كلدة وكان أخا صفوان ابن أمية يومئذ مشركاً في المدة

_ = وقد صرح بالسماع في رواية أبي يعلى، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. أجوف: متسع. حطوط: منحدر. غماية الصبح: ظلامه قبل أن يتبين. كمنوا: استخفوا متربصين. انشمروا: انفضوا وانهزموا. فلا شيء حملت الإبل، بعضها على بعض: أي أن الإبل لم تركب وأنها كانت متزاحمة. أطن قدمه: قطعها. انجعف: سقط صريعاً.

التي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. 638 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه، فقيد به الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة، ورقة من الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه، وقعد عليه، فأثاره، فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء، قال سلمة: وخرجت أشتد، فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى اخذت بخطام الجمل، فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي، فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال: "من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع، قال: "له سلبه أجمع". وفي رواية (1) قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه واقتلوه" فقتلته، فنفلني سلبه.

_ = فض الله فاك: أسقط أسنانك. يربني: يسودني. 638 - مسلم (3/ 1374) 32 - كتاب الجهاد والسير - 13 - باب استحقاق القاتل سلب القتيل. نتضحى: أي: نتغدى وقت الضحى. طلقاً: الطلق: قيد يتخذ من الجلود. من حقبه: الحقب: حبل يشد على بطن البعير مما يلي مؤخره. ورقة من الظهر: الظهر: المركوب، والرقة في حال الضعف. ورقاء: ناقة ورقاء: ذات لون أسمر، والورقة: السمرة. أشتد: أعدو بشدة. فندر: ندر رأسه، أي: طار عن بدنه. (1) البخاري (6/ 168) 56 - كتاب الجهاد - 73 - باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان.

639 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً فلما واجهنا العدو تقدمت، فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من العدو، فأرميه بسهم، فتوارى عني، فما دريت ما صنع ونظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزماً وعلي بردتان، متزر بإحداهما، مرتد بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعاً، ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً، وهو على بغلته الشهباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأى ابن الأكوع فزعاً" فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. 640 - روي البزار عن بريدة قال: تفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يبق معه إلا رجل يقال له زيد وهو آخذ بعنان بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك ادع الناس" فنادى زيد يا أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم، فلم يجئ أحد فقال: "ادع الأنصار" فقال: يا معشر الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم، فلم يجئ أحد فقال: "ويحك خص الأوس والخزرج". فنادى: يا معشر

_ 639 - مسلم (3/ 1402) 32 - كتاب الجهاد والسير - 28 - باب في غزوة حنين. منهزماً: قال العلماء: قوله منهزماً، حال من ابن الأكوع، كما صرح أولاً بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم. وقد قالت الصحابة كلهم رضي الله عنهم: أنه صلى الله عليه وسلم ما انهزم. ولم ينقل أحد قط أنه انهزم صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه. فاستطلق إزاري: أي انحل لاستعجالي. فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أتوه من كل جانب. شاهت الوجوه: أي قبحت. 640 - البزار: كشف الأستار (2/ 347)، كتاب الهجرة والمغازي، باب غزوة الفتح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 181): رواه البزار، ورجاله ثقات. أقول: يروي ابن إسحاق عن العباس ابن عبد المطلب أنه هو الداعي للمنهزمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صرخ يا للأنصار، يا أصحاب السمرة. وروى مسلم مثله عن العباس. كما ذكر أنه رجع من الأنصار مائة هم الذين خاضوا المعركة مع الذين ثبتوا معه وانتصروا. والظاهر أن في رواية البزار فجوة يملؤها ما ذكره ابن إسحاق ومسلم عن العباس.

الأوس والخزرج هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم، فلم يجئ أحد فقال: "ويحك خص المهاجرين، فإن لي في أعناقهم بيعة" قال فحدثني بريدة أنه أقبل منهم ألف قد طرحوا الجفون حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشوا قدماً حتى فتح الله عليهم. 641 - * روى الطبراني عن الحارث بن بدل قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فانهزم أصحابه أجمعون إلا العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن الحارث، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوهنا بقبضة من الأرض، فانهزمنا فما يخيل إلي أن شجرة ولا حجراً إلا وهو في آثارنا. 642 - * روى البخاري عن أبي إسحاق أنه سمع البراء - وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ - فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: "أنا النبي لا كذب" قال إسرائيل وزهير: نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته. 643 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: التقى يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة واشتد القتال فولوا مدبرين فندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار، فقال: "يا معشر المسلمين أنا رسول الله" فقالوا: إليك والله جئنا فنكسوا رؤوسهم ثم قاتلوا حتى فتح الله عليهم. 644 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيتنا يوم

_ 641 - المعجم الكبير (3/ 267). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 181): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 642 - البخاري (8/ 28) 64 - كتاب المغازي - 54 - باب قول الله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) - إلى قوله - (غفور رحيم). 643 - المستدرك (3/ 48)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 644 - الترمذي (4/ 200) 24 - كتاب الجهاد - 15 - باب ما جاء في الثبات عند القتال. وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث عبيد الله، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحسن إسناده الحافظ في (الفتح) وقال: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم أحد، قال: وروى أحمد والحاكم من حديث

حنين، وإن الفئتين لموليتان - يعني: المهاجرين والأنصار - وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. 645 - * روى أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم حنين، فانكشفوا، نزل عن بغلته فترجل. 646 - * روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة" فقال عباس - وكان رجلاً صيتاً - فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله، لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار، يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث ابن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج! فنظر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حين حمي الوطيس" قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب محمد"

_ = عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، قال: وهذا لا يخالف حديث ابن عمر، فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين. 645 - أبو داود (3/ 50) كتاب الجهاد، باب في الرجل يترجل عند اللقاء. وإسناده حسن. 646 - مسلم (3/ 1398) 32 - كتاب الجهاد والسير - 28 - باب في غزوة حنين. أصحاب السمرة: السمرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان يوم الحديبية. صيتاً: رجل صيت رفيع الصوت عاليه. حمي الوطيس: اشتد الحرب والأمر، قال الخطابي: هذه الكلمة لم تسمع قبل أن يقولها النبي صلى الله عليه وسلم من العرب، وهي مما اقتضبه وأنشأه، والوطيس في اللغة: التنور. حدهم كليلاً: حد كليل: لا يقطع، وطرف كليل: لا يحقق النظر.

قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله، ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً، وأمرهم مدبراً. فوالله، ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً، وأمرهم مدبراً. وفي رواية نحوه (1)، غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي. وقال: "انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة" وزاد في الحديث: حتى هزمهم الله، قال: وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته. قال النووي: حنين واد بين مكة والطائف وراء عرفات بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً وهو مصروف كما جاء به القرآن العزيز. وقال: قال العلماء: وركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات. ولأنه أيضاً يكون معتمداً، يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه. وإنما فعل هذا عمداً، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه يركض بغلته إلى جمع المشركين وقد فر الناس عنه. وفي الرواية الأخرى أنه نزل إلى الأرض حين غشوه وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر. وقيل فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين وقد أخبرت الصحابة رضي الله تعالى عنهم بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن. وفي صحيح مسلم قال: إن الشجاع منا الذي يحاذي به وإنهم كانوا يتقون به أ. هـ. 647 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومن الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما: التفت عن يمينه

_ (1) أخرجها مسلم (3/ 1398) 32 - كتاب الجهاد والسير - 28 - باب في غزوة حنين. 647 - البخاري (8/ 53) 64 - كتاب المغازي - 56 - باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان. ومسلم (2/ 733) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. الطلقاء: جمع طليق. وهو الذي خلي، وأطلق سبيله، وهم أهل مكة الذين أسلموا بعد الفتح.

فقال: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار" قالوا لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك. وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: "أنا عبد الله ورسوله" فانهزم المشركون، فأصاب يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئاً، فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا. فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة فقال: "يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني عنكم؟ " فسكتوا. فقال: "يا معشر الأنصار، ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم؟ " قالوا: بلى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سلك الناس وادياً: وسلكت الأنصار شعباً، لأخذت شعب الأنصار" وقال هشام: قلت يا أبا حمزة، وأنت شاهد ذلك؟ قال: وأين أغيب عنه؟. 648 - * روى الحاكم عن عياض بن الحارث الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى هوازن في اثني عشر ألفاً، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفاً من حصى، فرمى بها وجوهنا، فانهزمنا. 649 - * وروى الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان والإبل والغنم فصفوهم صفوفاً ليكثروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالتقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا عبد الله ورسوله". وقال: "يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله" فهزم الله المشركين ولم يطعن برمح ولم يضرب بسيف فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: "من قتل كافراً فله سلبه" فقتل أبو قتادة يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم، فقال أبو قتادة: يا رسول الله ضربت رجلاً على حبل العاتق

_ 648 - المستدرك (2/ 121)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. أقول: عياض بن الحارث الأنصاري راوي هذه الرواية يقال له: الثقفي، وقد تأخر إسلامه، وظاهر كلامه أنه كان في صف المشركين يوم حنين. 649 - المستدرك (2/ 130)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

وعليه درع له فأعجلت عنه أن آخذ سلبه، فانظر من هو يا رسول الله، فقال رجل: يا رسول الله أنا أخذتها فأرضه منها فأعطنيها. فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لا يسأل شيئاً إلا أعطاه أو سكت فقال عمر: لا والله لا يفيء الله على أسد من أسده ويعطيكها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 650 - * روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه، فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي، فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر ابن الخطاب، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا قتادة؟ " فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه من حقه، وقال أبو بكر الصديق: لاها الله إذاً، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق، فأعطه إياه" فأعطاني، فبعت الدرع، فابتعت به مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.

_ 650 - البخاري (8/ 35) 64 - كتاب المغازي - 54 - باب قول الله تعالى: [25: التوبة] (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) - إلى قوله - (غفور رحيم). ومسلم (3/ 1370) 32 - كتاب الجهاد والسير - 13 - باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حبل عاتقه: حبل العاتق: عصبه، والعاتق: موضع الرداء من المنكب. لاها الله إذاً: قال الخطابي رحمه الله: هكذا جاء الحديث: "لاها الله إذاً" والصواب (لاها الله ذا) بغير ألف قبل الذال، ومعناه في كلامهم: (لا والله لا يكون ذا) يجعلون الهاء مكان الواو. مخرفاً: المخرف بفتح الميم البستان الذي تخترف ثماره، أي: تجتنى وتقطف، وأراد به ها هنا: حائط نخل، والمخرف بكسر الميم: الظرف الذي تجنى فيه الثمار، والخراف، يشبه أن يكون جمع خرفة - بالضم - وهو ما يجتني من الفواكه، وأراد به أيضاً البستان، فسمى الشجر باسم ثمره. تأثلته: تأثلت المال، أي: اكتسبته وجمعته وادخرته.

وفي رواية (1) قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني، وأضرب يده، فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت ثم ترك فتحلل، ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ فقال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه" فقمت لألتمس بينة على قتيلي، فلم أر أحداً يشهد لي، فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلا، لا يعطه أصيبغ من قريش، ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأداه إلي، فاشتريت منه خرافاً، فكان أول مال تأثلته في الإسلام. 651 - * روى البزار عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "جزوهم جزاً" وأومأ بيده إلى الحلق. 652 - * روى الطبراني عن يزيد بن عامر السوائي أنه قال: عند انكشافة انكشفها

_ (1) البخاري في الموضع السابق. نختله: الختل: المكر والخداع. أصيبغ: قال القاضي: اختلف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف على وجهين: أحدهما رواية السمرقندي: أصيبغ، بالصاد المهملة والغين المعجمة. والثاني رواية سائر الرواة: أضيبع. بالضاد المعجمة والعين المهملة. فعلى الثاني هو تصغير ضبع على غير قياس. كأنه لما وصف أبا قتادة بأنه أسد، صغر هذا بالإضافة إليه. وشبه بالضبيع، لضعف افتراسها وما توصف به من العجز والحمق. وأما على الوجه الأول، فوصفه به لتغير لونه. وقيل: حقره وذمه بسواد لونه. وقيل: معناه أنه صاحب لون غير محمود، وقيل: وصفه بالمهانة والضعف. قال الخطابي: الأصيبغ نوع من الطير. قال: ويجوز أنه شبهه بنبات ضعيف يقال له الصيبغا، أول ما يطلع في الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر. 651 - البزار: كشف الأستار (2/ 349). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 181): رواه البزار، ورجاله ثقات. جزوهم: اذبحوهم وقطعوهم. 652 - المعجم الكبير (22/ 237).

المسلمون يوم حنين فتبعتهم الكفار، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من الأرض، فرمى بها وجوههم، وقال "ارجعوا شاهت الوجوه" فما منا من أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو القذى ويمسح عينيه. 653 - * وروى الطبراني عن يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنيناً مع المشركين ثم أسلم قال: سألناه عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم يوم حنين، كيف كان؟ فأخذ حصاة، فرمى بها طستاً فطن قال: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا. 654 - * روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال: لا أعلمه إلا عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم حنين: "الآن حمي الوطيس" ثم قال: "هزموا ورب الكعبة". 655 - * روى الحاكم عن العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فلقد رأيته وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكبها وأبو سفيان لا يألو أن يسرع نحو المشركين. 656 - * روى الطبراني عن زيد بن أرقم قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فقال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب 657 - * روى البخاري ومسلم عن أبي إسحاق السبيعي قال: جاء رجل إلى البراء، فقال

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 182): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 653 - المعجم الكبير (22/ 237). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 183): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 654 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 182)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح. 655 - المستدرك (3/ 255)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. لا يألو: لا يقصر. 656 - المعجم الكبير (5/ 190). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 182): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 657 - البخاري (8/ 27) 64 - كتاب المغازي - 54 - باب قول الله تعالى [25: التوبة]: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) - إلى قوله - (غفور رحيم).

أكنتم وليتم يوم حنين، يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذه الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل، كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب "اللهم نزل نصرك" - زاد أبو خيثمة: ثم صفهم - قال البراء: كنا والله إذا حمر البأس نتقي به، وإن الشجاع الذي يحاذي به - يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ولمسلم قال: (1) قال رجل للبراء: يا أبا عمارة، فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً، ليس عليهم سلاح - أو كثير سلاح - فلقوا قوماً رماة، لا يكاد يسقط لهم سهم - جمع هوازن وبني نصر - فرشقوهم رشقاً، ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم. وفي رواية نحوه (2)، وفيه: وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم،

_ = ومسلم واللفظ له (3/ 1401) 32 - كتاب الجهاد والسير - 28 - باب في غزوة حنين. أخفاء: الأخفاء: جمع خفيف: وهم المسرعون من الناس الذين ليس لهم ما يعوقهم. حسر: الحسر، جمع حاسر، وهو من لا درع عليه، وقد ذكرناه. يرشق: رشق يرشق رشقاً: بفتح الراء - إذا رمى، وبكسر الراء، وهو الاسم من الرمي، وهو المراد في الحديث، يقال: إذا رمى القوم بأسرهم في جهة واحدة: رمينا رشقاً. رجل: الرجل من الجراد: القطعة الكبيرة منه. انكشفوا: أي: انهزموا، ومنه رجل أكشف: وهو الذي لا ترس معه. احمر البأس: البأس: الشدة والخوف، ومعنى (أحمر البأس) اشتد الحرب، لأنهم يقولون: موت أحمر، للقتل. سرعان: سرعان القوم: أولهم. نتقي به: أي: نتخذه جنة ندفع به الأذى. (1) مسلم (3/ 1400) 32 - كتاب الجهاد والسير - 28 - باب في غزوة حنين. (2) مسلم في نفس الموضع السابق.

فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو - أي النبي صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب وفي رواية لهما وللترمذي (1) قال: قال له رجل: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عمارة؟ قال: لا والله، ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ولى سرعان الناس؟ تلقتهم هوازن بالنبل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب قال في الفتح: قوله (أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول) تضمن جواب البراء إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أن إطلاق السائل يشمل الجميع حتى النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر الرواية الثانية، ويمكن الجمع بين الثانية والثالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه ثم أوضح ذلك، وختم حديثه بأنه لم يكن أحدي ومئذ أشد منه صلى الله عليه وسلم. قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام فررتم كلكم، فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام. وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شاباً، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمان بن ثعلبة لما قدم: أيكم ابن عبد المطلب؟ وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان

_ (1) البخاري (6/ 75) 56 - كتاب الجهاد - 61 - باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء. ومسلم نحوها في نفس الموضع السابق. والترمذي (4/ 199) 24 - كتاب الجهاد - 15 - باب ما جاء في الثبات عند القتال. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديماً لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لابد من ظهوره وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم، وأما قوله "لا كذب" ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار. وقيل: معنى قوله "لا كذب" أي أنا النبي حقاً لا كذب في ذلك. وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب. وذم الإعجاب. وفيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب. ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها. وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله. ولا يقال كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقناً للنصر لوعد الله تعالى له بذلك وهو حق، لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذاً بلجام بغلته وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استشهد في تلك الحالة أيمن بن أم أيمن. وفيه ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات، لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات. وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو أ. هـ. قال النووي: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب أي أنا النبي حقاً فلا أفر ولا أزول وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب أنا فلان وأنا ابن فلان ومثله قول سلمة أنا ابن الأكوع وقول علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدرة، وأشباه ذلك. وقد صرح بجوازه علماء السلف، وفيه حديث صحيح قالوا: وإنما يكره قول ذلك على وجه الافتخار؛ كفعل الجاهلية. والله أعلم أ. هـ 658 - * روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يوم حنين الأنصار فقال: "يا معشر الأنصار" فأجابوه لبيك أبينا أنت وأمنا

_ 658 - المستدرك (3/ 48)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

يا رسول الله قال: "أقبلوا بوجوهكم إلى الله وإلى رسوله، يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار" فأقبلوا ولهم حنين، حتى أحدقوا به كبكبة تحاك مناكبهم يقاتلون حتى هزم الله المشركين. 659 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر؟ " قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم، إن الله قد كفى وأحسن". وفي رواية أبي داود (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - يعني يوم حنين -: "من قتل كافراً فله سلبه" فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم، ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر، فقال: يا أم سليم، ما هذا معك؟ قالت: أردت والله إن دنا مني بعضهم أبع جبه بطنه، فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 660 - * روى أحمد والبزار عن عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أقدامنا نحواً من ثمانين قدماً، ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عز وجل عليهم السكينة، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدماً، فحادت به بغلته فمال عن السرج، فقلت: ارتفع رفعك الله. فقال: "ناولني كفاً من تراب" فضرب به

_ = كبكبة: الجماعة الملتفة. 659 - مسلم (3/ 1442) 32 - كتاب الجهاد والسير - 47 - باب غزوة النساء مع الرجال. بقرت بطنه: إذا شققتها، والبقر: الشق. (1) أبو داود (3/ 71)، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل. أبعج: بعج بطنه بالسكين يبعجها بعجاً: إذا شقها، فهو مبعوج. 660 - أحمد في مسنده (1/ 453). والبزار نحوه في كشف الأستار (2/ 348). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 180): رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث ابن حصيرة، وهو ثقة.

وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً، قال: "أين المهاجرون والأنصار؟ " قلت: هم أولاء، قال: "اهتف بهم" فهتفت بهم فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم. 661 - * روى النسائي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من جنب بعير. فقال: "يا أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه، إلا الخمس والخمس مردود عليكم". 662 - * روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس، مقفله من حنين، فعلقت الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً". 663 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي". كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمن، قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". قال: كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: "لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي

_ 661 - النسائي (7/ 131)، كتاب قسم الفيء. وإسناده حسن. 662 - البخاري (6/ 35) 56 - كتاب الجهاد - 24 - باب الشجاعة في الحرب والجبن. مقفله: أي: مرجعه من الغزو، والقفول: الرجوع من السفر. خطفت: الخطف: الأخذ بسرعة. العضاه: كل شجر ذي شوك كالطلح والسمر. 663 - البخاري (8/ 47) 64 - كتاب المغازي - 56 - باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان. ومسلم نحوه (2/ 738) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. وجدوا: تأثروا في أنفسهم. عالة: العالة: الفقراء.

إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". وذكر في رواية (1): فقال: "أما إنكم لو شئتم أن تقولوا: جئتنا طريداً فآويناك، وشريداً فنصرناك، وكذا وكذا". 664 - * روى مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع؟ فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. 665 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل. وأعطى عيينة مثل ذلك. وأعطى أناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة. قال رجل:

_ = الشعار: الثوب الذي يلي الجسد. الدثار: الثوب الذي يكون فوقه، يعني: أن الأنصار خاصته الذين يلونه، والناس بعدهم. (1) أحمد في مسنده (3/ 57، 76، 89) عن أبي سعيد الخدري. 664 - مسلم (2/ 738) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. العبيد: بضم العين وفتح الباء الموحدة: اسم فرس العباس بن مرداس السلمي. 665 - البخاري (6/ 251) 57 - كتاب فرض الخمس - 19 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. ومسلم نحوه (2/ 739) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه.

والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته. فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". 666 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد" قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا. قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة" قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله واثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: "يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟ " قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل. قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ " قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولرسوله المن والفضل؟ قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم أتيتنا مكذباً فصدقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فأغنيناك أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر

_ 666 - أحمد في مسنده (3/ 76). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 29): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق، وقد صرح بالسماع. لعاعة: نبت ناعم في أول ما ينبت يعني أن الدنيا كالنبات الأخضر قليل البقاء.

الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امراً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار" قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا. وفي رواية (1) عن أبي سعيد أيضاً قال: قال رجل من الأنصار لأصحابه: أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو قد استقامت الأمور قد آثر عليكم، قال: فردوا عليه رداً عنيفاً، قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها، قالوا: بلى يا رسول الله قال: "فكنتم لا تركبون الخيل". قال: فكلما قال لهم شيئاً قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فلما رآهم لا يردون عليه شيئاً. قلت: فذكر نحوه وقال في آخره: "الأنصار كرشي وأهل بيتي وعيبتي التي أويت إليها فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم". قال أبو سعيد: قلت لمعاوية: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أننا سنرى بعده أثرة، قال معاوية: فما أمركم؟ قلت: أمرنا أن نصبر. قال: فاصبروا إذاً. أقول: تعليقاً على قول سعبد بن عبادة: (ما أنا إلا امرؤ من قومي): إن على القادة الذين يسوسون الشعوب والأقوام أن يعرفوا نفسيات هذه الشعوب وهذه الأقوام وأن يسوسوها على ضوء هذه المعرفة فأحياناً يكون لكل قوم أو شعب أو قرية أو بلد خصيصة تجعلهم في بعض الحالات يقفون موقفاً موحداً أمام قضية ما، فلابد من ملاحظة ذلك قبل وقوعه وحسن معالجته بعد وقوعه فإذا كان مثل سعد بن عبادة يقول: (ما أنا إلا امرؤ من قومي) فما بال من دونه، وفي كلمة سعد - إذ يعلن اتحاد موقفه مع موقف قومه في قضية يرى قومه فيها يقولون ما يعتقد

_ (1) أحمد في مسنده (3/ 89). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 59): رواه أحمد وأبو يعلى. فكنتم لا تركبون الخيل: ذلك بأنه لم يكن عند الأنصار كثرة خيل في الجاهلية، ثم رزقهم الله الكثير على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كرشي وعيبت: أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته والذين يعتمد عليهم في أموره، واستعار الكرش؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، واستعار العيبة؛ لأن الرجل يضع ثيابه في عيبته.

أنه اجتهاد في محله وعدم إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى نصرة الإنسان قومه بالطريق المشروع فيما يراه الإنسان حقاً لا حرج فيه. 667 - * روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: أن أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ قال أنس بن مالك: فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، قالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال: "فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض" قالوا: سنصبر. وفي رواية (1): قال أنس: فلم نصبر. وفي رواية: (2) قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال: "أفيكم أحد من غيركم؟ " فقالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن أخت القوم

_ 667 - البخاري (6/ 251) 57 - كتاب فرض الخمس - 19 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. ومسلم واللفظ له (2/ 732) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. (1) البخاري (6/ 251) 57 - كتاب فرض الخمس - 19 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. ومسلم (2/ 733) 12 - كتاب الزكاة - 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه.

منهم" فقال: "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار". وفي رواية للنسائي (1) بإسناد حسن: فإنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته وفد هوازن، فقالوا: يا محمد، إنا أصل وعشيرة، وقد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، من الله عليك، فقال: "اختاروا من أموالكم أو من نسائكم وأبنائكم"، فقالوا: قد خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل نختار نساءنا وأبناءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر، فقوموا فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين - أو المسلمين - في نسائنا وأموالنا" فلما صلوا الظهر، قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقامت بنو سليم: فقالوا: كذبت، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسك من هذا الفيء بشيء فله ست فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا" وركب راحلته، وركب الناس: اقسم علينا فيئنا، فألجؤوه إلى شجرة، فخطفت رداءه، فقال: "يا أيها الناس، ردوا علي ردائي، فوالله لو أن لكم شجر تهامة نعماً قسمته عليكم ثم لم تلقوني بخيلاً، ولا جباناً، ولا كذوباً" ثم أتى بعيراً، فأخذ من سنامه وبرة بين أصبعيه، ثم قال: "ها، إنه ليس من الفيء شيء ولا هذه، إلا خمس، والخمس مردود عليكم" فقام إليه رجل بكبة من شعر، فقال يا رسول الله، أخذت هذه لأصلح بها برذعة بعير لي، فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو

_ (1) النسائي (6/ 262)، كتاب الهبة، باب هبة المشاع.

لك" فقال: أو بلغت هذه؟ فلا أرب لي فيها، فنبذها، وقال: "يا أيها الناس، أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عاراً وشناراً يوم القيامة". 668 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو أن وفد هوازن لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقد أسلموا قالوا: إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك، وقال رجل من هوازن من بني سعد بن بكر يقال له زهير ويكنى بأبي صرد فقال: يا رسول الله نساؤنا عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كفلنك، ولو أنا لحقنا الحارث بن أبي شمر والنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا منه مثل الذي أنزلت بنا لرجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، ثم أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً، قاله وذكر فيه قرابته وما كفلوا منه فقال: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مفرق شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهمو نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلماً حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من مخضها درر إذ كنت طفلاً صغيراً كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر

_ 668 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 187)، وقال: رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولكنه ثقة، وبقية رجاله ثقات. أقول: وقد صرح ابن إسحاق بالسماع عند ابن هشام في سيرته، وللحديث شواهد. إنا أصل وعشيرة: يشيرون بذلك إلى أنه كان مسترضعاً فيهم، ولذلك فإنه تربطه بهم رابطة قرابة. لحقنا به: يعني أننا أرضعناه فصرنا له لاحقين بسبب ذلك ويشهد له لذلك رواية ابن هشام (ملحنا). الحارث بن أبي شمر: ملك الشام من العرب. النعمان بن المنذر: ملك العراق من العرب. البيضة: الأصل والعشير. ويقال يستبيح بيضتهم: أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم. غير: تغير الحال وانتقالها عن الصلاح إلى الفساد. شالت نعامته: إذا ماتوا وتفرقوا كأنهم لم يبق منهم إلا بقية، والنعامة: الجماعة.

قال فذكر الحديث. وفي رواية لأحمد (1) عن عبد الله بن عمرو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءته وفود هوازن فقالوا: يا محمد إنا أصل وعشيرة فمن علينا من الله عليك، فإنه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك فقالك "اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأبنائكم" قالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ نختار أبناءنا فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين وبالمؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائنا وأبنائنا" قال: ففعلوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت الأنصار مثل ذلك وقال عيينة بن بدر أما ما كان لي ولبني فزارة فلا. وقال الأقرع ابن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا فقالت الحيان: كذبت بل هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسك بشيء من الفيء فله علينا ست فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا" ثم ركب راحلته، وتعلق به الناس يقولون: اقسم علينا فيئنا بيننا، حتى ألجؤوه إلى سمرة فخطفت رداءه، فقال: "يا أيها الناس ردوا علي ردائي، فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعم لقسمته بينكم، ثم لا تلقوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً" ثم دنا من بعيره فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه السبابة والوسطى، ثم رفعها فقال: "يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء ولا هذه إلا الخمس والخمس

_ (1) أحمد في مسنده (2/ 184). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 187): رواه أحمد، ورجال أحد إسناديه ثقات. فقال الحيان: الظاهر أنهما بنو فزارة وبنو تميم. وستأتي في رواية أخرى أن بني سليم قالوا مثل قولهم فقد أنكرت الأحياء الثلاثة على زعمائهم. من تمسك بشيء: في الكلام إضمار، وتقديره: من أصاب شيئاً من هذا الفيء فأمسكه ثم رده. ست فرائض: الفرائض، جمع فريضة، يريد به: البعير المأخوذ في الزكاة، وسمي بسبب ذلك فريضة، لأنه الواجب على رب المال، ثم سمي البعير فريضة في غير الزكاة. يفيئه الله علينا: أراد: بما يفيئه الله علينا: الخمس الذي جعله الله له من الفيء خاصة دون الناس، فإنه يعطي كل من أخذ منه شيئاً عوضه من ذلك.

مردود عليكم، فردوا الخياط والمخيط" (أي ردوا الخيط والإبرة، وما خيط بها) "فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة عاراً وناراً وشناراً" فقام رجل معه كبة من شعر، فقال: إني أخذت هذه أصلح بها برذعة بعير لي دبر قال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" فقال الرجل: يا رسول الله أما إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي بها، ونبذها. 669 - * روى البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم" - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف - فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، من أحب أن يطيب فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل" فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" فرجع الناس. فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا فأذنوا. فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن. قال في الفتح: قوله (قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين) ساق الزهري هذه القصة من هذا الوجه مختصرة، وقد ساقها موسى بن عقبة في المغازي مطولة ولفظه: (ثم انصرف

_ = الخياط: الخيط، والمخيط: الإبرة. الغلول: الخيانة في الغنيمة قبل إخراج الخمس والقسمة. الشنار: العيب والعار. 669 - البخاري (6/ 236) 57 - كتاب فرض الخمس - 15 - باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم، فتحلل من المسلمين.

رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوال إلى الجعرانة وبها السبي يعني سبي هوازن، وقدم عليه وفد هوازن مسلمين فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازي الأقوام، فقال: "سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم فأي الأمرين أحب إليكم: آلسبي أم المال؟ " قالوا: خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير. فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين، فكلموهم وأظهروا إسلامكم" فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهاجرة قاموا فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين في رد سبيهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغوا فشفع لهم وحض المسلمين عليه وقال: "قد رددت الذي لبني هاشم عليهم" فاستفيد من هذه القصة عدد الوفد وغير ذلك مما لا يخفى. وقد أغفل محمد بن سعد لما ذكر الوفود وفد هوازن هؤلاء مع أنه لم يجمع أحد في الوفود أكثر مما جمع، وممن سمي من وفد هوازن زهير بن صرد كما سيأتي، وأبو مروان - ويقال أبو ثروان أوله مثلثة بدل الميم ويقال بموحدة وقاف - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ذكره ابن سعد. ومعنى استأنيت: استنظرت، أي أخرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم، وكان ترك السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها كما سيأتي، ثم رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك، فجاءه وفد هوازن بعد ذلك، فبين لهم أنه أخر القسم ليحضروا فأبطؤا، وقوله (بضع عشرة ليلة) فيه بيان مدة التأخير. أ. هـ. 670 - * روى أبو داود عن أبي غالب نافع رحمه الله قال: قلت لأنس: يا أبا حمزة، غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غزوت معه حنيناً، فخرج المشركون، فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل يحمل علينا، فيدقنا ويحطمنا فهزمهم الله، وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن علي نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه،

_ = استأنيت: أي: تأنيت وتوقفت وانتظرت. 670 - أبو داود مطولاً (3/ 208)، كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه. وهو حديث صحيح، أومضت: الإيماض: الإشارة، من أومض البرق: إذا لمع، وهو كما سبق في خائنة الأعين.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيء بالرجل، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله تبت إلى الله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبايعه ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئاً بايعه، فقال الرجل: يا رسول الله، نذري، فقال: "إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك"، فقال: يا رسول الله، ألا أومضت إلي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبي أن يومض". * * *

فصل: في غزوة أوطاس

فصل: في غزوة أوطاس 671 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، فقال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم، فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا ثثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف، فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزا منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء، فتوضأ، ثم رفع يديه، وقال: "اللهم اغفر لعبيد، أبي عامر" ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس" فقلت: ولي فاستغفر فقال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً" قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى.

_ 671 - البخاري (8/ 41) 64 - كتاب المغازي - 55 - باب غزاة أوطاس. ومسلم بنحوه (4/ 1943) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 38 - باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين، رضي الله عنهما. فأثبته: أي: حبسه بالطعنة التي طعنها، أو الرمية. فنزا: نزا منه الماء، أي: وثب، يعني: خرج الماء من جرحه. على سرير مرمل: قد نسج وجهه بالسعف، يقال: أرملت النسيج أرمله: إذا باعدت بين الأشياء المنسوج بها، فهو مرمل، ورماله: ما نسج في وجهه من ذلك، ويقال: رملته لغة في أرملته. ، ورملته: شدد للكثرة، والرمال - بكسر الراء - بمعنى مرمول، وهو جمع رمل، كقوله تعالى: (هذا خلق الله) أي، مخلوقه.

وفي لفظ مسلم (1) ورماه رجل من بني جشم وفيه: فلما رآني ولى عني ذاهباً، فلحقته، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ وفيه: انطلق إلى رسول الله، فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك: استغفر لي. قال ابن حجر: (غزوة أوطاس) قال عياض: هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين انتهى. وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف وطائفة إلى بجيلة وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكراً مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس كما يدل عليه حديث الباب، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف. وروى البزار في مسند أنس بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد بن الصمة هو الزبير ابن العوام ولفظه (لما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة فرأوا كتيبة، فقال حلوهم لي، فحلوهم فقال: هذه قضاعة ولا بأس عليكم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك، فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارساً وحده فقال: حلوه لي، فقالوا معتجر بعمامة سوداء، فقال: هذا الزبير بن العوام وهو قاتلكم ومخرجكم من مكانكم هذا، قال فالتفت الزبير فرآهم فقال: علام هؤلاء ههنا؟ فمضى إليهم، وتبعه جماعة فقتلوا منهم ثلاثمائة، فحز رأس دريد بن الصمة فجعله بين يديه) ويحتمل أن يكون ابن الدغنة كان في جماعة الزبير فباشر قتله فنسب إلى الزبير مجازاً، وكان دريد من الشعراء الفرسان المشهورين في الجاهلية، ويقال إنه كان لما قتل ابن عشرين - ويقال ابن ستين - ومائة سنة. وعند ابن عائذ والطبراني في (الأوسط) من وجه آخر عن أبي موسى الأشعري بإسناد حسن (لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر الأشعري وأنا معه فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء) الحديث. * * *

_ (1) مسلم (4/ 1943) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 38 - باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما.

فصل: في غزوة الطائف

فصل: في غزوة الطائف قال البخاري: في شوال سنة ثمان، قاله موسى بن عقبة. 672 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئاً، قال: "إنا قافلون إن شاء الله" فثقل عليهم، وقالوا: نذهب ولا نفتحه، وقال مرة: "نقفل"، فقال: "اغدوا على القتال" فغدوا، فأصابهم جراح، فقال: "إنا قافلون غداً إن شاء الله" فأعجبهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال سفيان مرة: فتبسم. وفي رواية نحوه (2)، وفيه فقالوا: لا نبرح أو نفتحها. وفيه فقاتلوهم قتالاً شديداً، وكثر فيهم الجراحات ... الحديث. قال ابن حجر في الفتح: في مرسل ابن الزبير عند ابن أبي شيبة قال (لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف قال أصحابه: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد ثقيفا") وذكر أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استعصى عليه الحصن وكانوا قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ورموا على المسلمين سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا قوماً، فاستشار نوفل بن معاوية الديلي فقال: هم ثعلب في جحر إن اقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، فرحل عنهم وذكر أنس في حديثه عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير اختلاف قيل عشرين يوماً وقيل بضع عشرة وقيل ثمانية عشر وقيل خمسة عشر. قوله (إنا قافلون) أي راجعون إلى المدينة. قوله (فثقل عليهم) بين سبب ذلك بقولهم (نذهب ولا نفتحه) وحاصل الخبر أنهم لما أخبرهم بالرجوع بغير فتح لم يعجبهم، فلما رأى ذلك أمرهم بالقتال فلم يفتح لهم فأصيبوا بالجراح لأنهم رموا عليهم من أعلى السور فكانوا ينالون منهم بسهامهم ولا تصل السهام إلى من على السور، فلما

_ 672 - البخاري (8/ 44) 64 - كتاب المغازي - 56 - باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان. ومسلم نحوه (3/ 1402) 32 - كتاب الجهاد والسير - 29 - باب غزوة الطائف. (2) البخاري (10/ 503) 78 - كتاب الأدب - 68 - باب التبسم والضحك.

رأوا ذلك تبين لهم تصويب الرجوع، فلما أعاد عليهم القول بالرجوع أعجبهم حينئذ، ولهذا قال: فضحك" وقوله (وقال سفيان مرة: فتبسم) هو ترديد من الراوي. وقد ذكر ابن هشام أن عدد من استشهد في حصار الطائف اثنا عشر رجلاً. * * *

فصل: في إسلام كعب بن زهير

فصل: في إسلام كعب بن زهير 673 - * روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة منصرفه من الطائف، كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير بن أبي سلمى، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجوه ويؤذيه، وأنه بقي من شعراء قريش ابن الزعبرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة ففر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً وإن أنت لم تفعل فانج ولا نجاة لك. وقد كان كعب قال أبياتاً نال فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ كعباً الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان حاضره من عدوه، فلما لم يجد من شيء بداً، قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر خوفه وإرجاف الوشاة به، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة - كما ذكر لي فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فصلى مع الناس ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقم إليه، فاستأمنه فذكر لي أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وضع يَدَه في يَدِهِ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال: يا رسول الله، أنا كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعه عنك فإنه قد جاء تائباً نازعاً" فغضب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته التي قالها حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وذكر أبياتاً: سترد برواية الحاكم). قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فلما قال: (السود التنابيل) وإنما أراد معشر الأنصار لما كان صاحبهم

_ 673 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 392)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله إلى ابن إسحاق ثقات. أقول: فالحديث منقطع لكن له شواهد، ومن شواهده ما أخرجه الحاكم بأسانيد صحح بعضها وسكت عنها الذهبي. سنذكرها فيما بعد إن شاء الله.

صنع، وخص المهاجرين من قريش من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدحته، غضبت عليه الأنصار فبعد أن أسلم أخذ يمدح الأنصار ويذكر بلاءهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعهم من النبي صلى الله عليه وسلم: من سرة كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابراً عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار المكرهين السمهري بأذرع ... كسوالف الهندي غير قصار والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الإبصار يتطهرون يرونه نسكاً لهم ... بدماء من علقوا من الكفار دربوا كما دربت ببطن خفية ... غلب الرقاب من الأسود ضواري روايات الحاكم: 674 - * روى الحاكم عن موسى بن عقبة قال: أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعب بن زهير (بانت سعاد) في مسجده بالمدينة فلما بلغ قوله: إن الرسول لسيف يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكمه إلى الخلق ليسمعوا منه قال: وقد كان

_ = المقنب: الجماعة من الخيل. يريد به القوم على ظهور جيادهم. السمهري: الرمح. وسوالف الهندي: يريد حواشي السيوف؛ وقد يراد به الرماح أيضاً لأنها قد تنسب إلى الهند. دربوا: تعودوا. وخفية: اسم مأسدة. وغلب الرقاب: غلاظ الأعناق. وضواري: متعودات الصيد والافتراس. 674 - المستدرك (3/ 582)، وقال: هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي، فأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة، وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة، فإنهما صحيحان.

بجير بن زهير كتب إلى أخيه كعب بن زهير بن أبي سلمى يخوفه ويدعوه إلى الإسلام وقال فيها أبياتاً: من مبلغ كعباً فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلاً وهي أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من النار إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شيء باطل ... ودين أبي سلمى علي محرم 675 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير، حتى أتيا أبرق العزاف فقال بجير لكعب: اثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسمع ما يقول، فثبت كعب، وخرج بجير فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعباً فقال: ألا أبلغا عني بجيراً رسالة ... على أي شيئ ويب غيرك دلكا على خلق لم تلف أماً ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمون منها وعلكا فلما بلغت الأبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أهدر دمه فقال: "من لقي كعباً فليقتله" فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت. ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا قبل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم وأقبل. فأسلم كعب، وقال القصيدة التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم، متحلقون معه حلقة دون حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة

_ 675 - المستدرك (3/ 579) بأسانيد متعددة، صحح بعضها، وسكت الذهبي عنها.

فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصفة، فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله الأمان يا رسول الله. قال: "ومن أنت؟ " قلت: أنا كعب بن زهير، قال: "أنت الذي تقول" ثم التفت إلى أبي بكر فقال: "كيف قال يا أبا بكر؟ " فأنشده أبو بكر رض يالله عنه: سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمور منها وعلكا قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: "وكيف قلت؟ " قال: إنما قلت: سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمون منها وعلكا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مأمون والله" ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها وأملأها على الحجاج بن ذي الرقيبة حتى أتى على آخرها، وهي هذه القصيدة: 1 - بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول 2 - وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول 3 - تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول 4 - شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

_ (1) بانت: فارقت فراقاً بعيداً. وسعاد: اسم امرأة. وقيل (كما في الزرقاني): هي امرأته وبنت عمه، خصها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم. ومتبول: أسقمه الحب وأضناه. ومتيم: ذليل مستعبد. ولم يفد: لم يخلص من الأسر. (2) الأغن: (هنا): الظبي الصغير الذي في صوته غنة، وهي صوت يخرج من الخياشيم، وغضيض الطرف: فاتره. ومكحول: من الكحل وهو سواد يعلو جفون العين من غير اكتحال. (3) تجلو: تصقل وتكشف. والعوارض: جمع عارض أو عارضة، وهي الأسنان كلها، أو الضواحك خاصة، أو هي من الأنياب. والظلم: ماء الأسنان وبريقها، أو رقتها وبياضها. والمنهل: المسقى، من أنهله، إذا سقاه النهل وهو الشرب الأول. والراح: الخمر: ومعلول: من العلل وهو الشرب الثاني. (4) شجت: مزجت حتى انكسرت سورتها وذو شبم: ماء شديد البرد. والمحنية: منعطف الوادي وخصه لأن ماءه أصفى وأبرد. والأبطح: المسيل الواسع الذي فيه دقاق الحصى، وماء الأباطح عندهم معروف بصفائه. وأضحى:

5 - تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل 6 - فيالها خلة لو أنها صدقت ... بوعدها أولو أن النصح مقبول 7 - لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل 8 - فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول 9 - وما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما يمسسك الماء الغرابيل 10 - فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل 11 - كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدها إلا الأباطيل 12 - أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل 13 - أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل 14 - ولن يبلغها إلا عذافرة ... لها على الأين إرقاق وتبغيل 15 - من كل نضاخة الذفري إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول

_ = أخذ في وقت الضحى قبل أن يشتد حر الشمس. والمشمول: الذي ضربته ريح الشمال حتى برد، وهي أشد تبريداً للماء من غيرها. (5) القذي: ما يقع في الماء من تبن أو عود أو غيره مما يشوبه ويكدره. وأفرطه: سبق إليه وملأه. والصوب: المطر. والغادية: السحابة تمطر غدوة، ويروى "سارية" وهي السحابة تأتي ليلاً. واليعاليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء. وقيل المراد بالبيض اليعاليل: الجبال الشديدة البياض ينحدر عليها ماء المطر، ثم يسيل إلى الأباطح. (7) سيط: أي خلط بلحمها ودمها هذه الصفات المذكورة في البيت. والفجع: الإصابة بالمكروه كالهجر ونحوه. والولع والولعان: الكذب. والإخلاف: خلف الوعد. (8) الغول: ساحرة الجن، في زعمهم. يزعمون أن الغول ترى في الفلاة بألوان شتى، فتأخذ جانباً عن الطريق، فيتبعها من يراها، فيضل عن الطريق فيهلك. (9) ولا تمسك: يشبه تمسكها بالعهد بإمساك الغرابيل للماء، مبالغة في النقض والنكث وعدم الوفاء بالعهد، لأن الماء بمجرد وضعه في الغربال يسقط منه. (11) عرقوب: رجل اشتهر عند العرب بإخلاف الوعد، فضرب به المثل في الخلف. (12) التنويل: العطاء، والمراد به (هنا): الوصل. (13) العتاق: الكرام؛ الواحد: عتيق والنجيبات: جمع نجيبة، وهي القوية الخفيفة. المراسيل: السريعة. (14) العذافرة: الناقة الصلبة العظيمة. والأين: الإعياء والتعب. والإرقال: والتبغيل: ضربان من السير السريع: يقول: لا يبلغ تلك الأرض إلا ناقة عظيمة قوية على السير. (15) النضاخة: الكثيرة رشح العرق. والذفري: النقرة التي خلف أذن الناقة، وهي أول ما يعرق منها. وعرضتها: همتها. وطامس الأعلام: الدارس المتغير من العلامات التي تكون في الطريق ليهتدى بها.

16 - ترمي النجاد بعيني مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل 17 - حرف أخوها أبوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل 18 - يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقراب زهاليل 19 - عيرانة قذفت بالنحض عن عرض ... مرفقها عن بنات الزور مفتول 20 - كأنما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللحيين برطيل 21 - تمر مثل عسيب النخل ذا خصل .. في غارز لم تخونه الأحاليل 22 - قنواء في حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل 23 - تخدي على يسرات وهي لاحقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل

_ (16) اللهق: الأبيض، والحزان: الأمكنة الغليظة الصلبة تكثر فيها الحصباء، وهي جمع حزيز. والميل (بالكسر): جمع (ميلاء) بالفتح، وهي العقدة الضخمة من الرمل. (17) الحرف: (في الأصل): القطعة الخارجة من الجبل، شبه الناقة بها في القوة والصلابة والحرف (أيضاً) الناقة الضامرة. وأخوها أبوها والمهجنة: الكريمة الأبوين من الإبل، والقوداء: الطويلة الظهر والعنق. وهي من صفات الإبل التي تمدح بها. والشمليل: الخفيفة السريعة. (18) يزلقه: من الانزلاق، أي يسقطه. ومنها: أي عنها. واللبان (بالفتح): الصدر وقيل: وسطه. والأقراب بالفتح الخواصر. والزهاليل: الملس، جمع زهلول. (19) العيرانة: الناقة المشبهة عير الوحش في سرعته ونشاطه وصلابته، وهذا مما يستحسن في أوصاف الإبل. والنحض: اللحم وعن: بمعنى من. وعرض (بضمتين أو بضم فسكون): جانب. والمراد هنا العموم. يريد أنها رميت باللحم من كل جانب من جوانبها. والمرفق: يريد المرفقين. والزور: الصدر، وقيل: وسطه. وبنات الزور: ما يتصل به مما حوله من الأضلاع وغيرها. (20) الخطم: الأنف وما حوله. واللحيان: العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفىل من الإنسان وغيره. والبرطيل: حجر مستطيل. والقاب المقدار. (21) عسيب النخل: جريده الذي لم ينبت عليه الخوص، فإن نبت عليه سمي سعفاً. وذا خصل: يريد ذيلاً له لفائف من الشعر. وفي غارز: أي على ضرع. ولم تخونه: لم تنقصه والأحاليل: مخارج اللبن، جمع إحليل (بالكسر). (22) القنواء: المحدودبة الأنف. والحرتان: الأذنان. والعتق: الكرم. والمبين: الظاهر. وتسهيل: سهولة ولين، لا خشونة ولا حزونة وتجابة في خديها: سهولة وليونة. (23) تخدي: تسرع ولايسرات: القوائم الخفاف. وهي لاحقة: أي والحال أنها لاحقة بالنوق السابقة عليها، أو بالديار البعيدة عنها. والذوابل: جمع ذابل، وهي الرمح الصلب اليابس شبه قوائمها بها في الصلابة والشدة. ومسهن: أي مس تلك اليسرات للأرض أو وقعهن عليها. وتحليل: أي قليل لم يبالغ فيه، يريد أن هذه الناقة سريعة في السير

24 - سمر العجايات يتركن الحصى زيماً ... لم يقهن رءوس الأكم تنعيل 25 - كأن أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفع بالقور العساقيل 26 - يوماً يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول 27 - وقال للقوم جاديهم وقد جعلت ... ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا 28 - شد النهار ذراعاً عيطل نصف ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل 29 - نواحة رخوة الضبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول 30 - تسعى الغواة جنابيها وقولهم ... إنك يابن أبي سلمى لمقتول 31 - فقلت خلوا سبيلي لا أبالكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول 32 - كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوماً على آلة حدباء محمول 33 - نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول

_ = بقوائمها. سريعة الرفع عن الأرض. كأنها لا تمسها إلا تحلة القسم، فهي في غاية الإسراع في سيرها. (24) العجايات: الأعصاب المتصلة بالحافر؛ وقيل اللحمة المتصلة بالعصب المنحدر من ركبة البعير إلى الفرسن، يشبه عصبها أو لحم قوائمها بالرماح السمر لقوته وصلابته. وزيما: متفرقا. والأكم: هي الأراضي المرتفعة. والتنعيل: شد النعل على ظفر الدابة ليقيها الحجارة. (25) الأوب (بالفتح): سرعة التقلب والرجوع. وعرقت: أي وقت عرقهالا لتعب ولا لإعياء، لما تقدم من وصفها بالقوة والصلابة، بل لشدة الحر. وتلفح: اشتمل والتحف. والقور (بضم القاف). جمع قارة، وهي الجبل الصغير. والعساقيل: السراب يصف سرعة ذراعي ناقته في وقت الهاجرة وانتشار السراب فوق صغار الجبال. (26) الحرباء (بالكسر): ضرب من العظاء، يستقبل الشمس حيثما دارت، ويتلون بألوان الأمكنة التي يحل فيها. ومصطخدا: محترقاً بحر الشمس. وضاحيه: ما برز للشمس منه ومملول: موضوع في الملة، وهي الرماد الحار. (27) الحادي: السائق للإبل. والورق: جمع أورق أو ورقاء، وهو الأخضر الذي يضرب إلى السواد؛ وقيل: الورقة: لون يشبه لون الرماد. والجنادب: جمع جندب: ضرب من الجراد. ويركضن الحصى: يحركنه بأرجلهن لقصد النزول، بسبب الإعياء عن الطيران، من شدة الحر. وقيلوا: أمر من قال يقيل قيلولة، وهي الاستراحة في وقت شدة الحر. (28) شد النهار: وقت ارتفاعه، وهو مبالغة في شدة الحر. والعيطل: الطويلة. والنصف: المتوسطة في السن، والنكد: جمع نكداء، وهي التي لا يعيش لها ولد. والمثاكيل: جمع مثكال بالكسر، وهي الكثيرة الثكل. (29) النواحة: الكثيرة النوح على ميتها. ورخوة الضبعين: مسترخية العضدين. والبكر بالكسر: أول الأولاد. والناعون: المخبرون بالموت، النادبون له، والمعقول (هنا): العقل. (30) الغواة: المفسدون، جمع غاو. جنابيها: حواليها، تثنية جناب (بفتح الجيم) ومقتول: أي متوعد بالقتل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أهدر دمه. (33) نبئت: أخبرت. ويروى: (أنبئت). وأوعدني: تهددني بالقتل. ومأمول: مرجو ومطموع فيه.

34 - فقد أتيت رسول الله معتذراً ... والعذر عند رسول الله مقبول 35 - مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل 36 - لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل 37 - لقد أقوم مقاماً لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل 38 - لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل 39 - حتى وضعت يميني ما أنازعه ... في كف ذي نقما تقيله القيل 40 - فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسئول 41 - من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... في بطن عثرغيل دونه غيل 42 - يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس معفور خراديل

_ (35) هداك: زادك هدى، أو هداك الله للصفح والعفو عني، فيكون على هذا داعياً لنفسه. والنافلة: الزيادة، وسمي القرآن نافلة لأنه عطية زائدة على النبوة. (37) لقد أقوم: معناه: والله لقد أقوم مقاماً، فهو جواب قسم محذوف. (38) يرعد: تأخذه الرعدة، ويصح بناؤه للمفعول. والتنويل: التأمين. والمعنى: لصار الفيل يضطرب ويتحرك من الفزع، وإنما خصه بذلك لأنه أراد التعظيم والتهويل، والفيل أعظم الدواب جثة وشأناً. إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تأمين يسكن به روعه، وتثبت به نفسه. (39) حتى وضعت: أي فوضعت ولا أنازعه: أي حال كوني طائعاً له، راضياً بحكمه في، غير منازع له ولا مخالف. والنقمات (بفتح فكسر) جمع نقمة، والمراد بصاحب النقمات: النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان ينتقم من الكفار، فكان شديد السطوة والإغلاظ فيهم. وقيله: قوله. والمراد أن قوله معتد به لكونه نافذاً ماضياً. يشير بالبيت إلى حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه وهو في المسجد، ووضع يده في يده يستأمنه. (40) أخوف: أشد إخافة وغرهاباً. ومنسوب: أي إلى أمور صدرت منك. (41) ضيغم: أسد. وضراء الأرض: الأرض التي فيها شجر. والمخدر: غابة الأسد. وعثر: اسم مكان مشهور بكثرة السباع. والغيل: الشجر الكثير الملتف. وغيل دونه غيل: أي أجمة تقربها أجمة أخرى، فتكون أسدها أشد توحشاً، وأقوى ضراوة. يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر هيبة من الأسود في عثر آجامها. (42) يغدو: يخرج في أول النهار يتطلب صيداً لشبليه. أي يطعم. ويلحم: يطعمهما اللحم. والضرغام: الأسد ويريد بالضرغامين شبليه. ومعفور: ملقى في العفر، وهو التراب. ووصفه بذلك لكثرته وعدم اكتراثه به لشبعه. وخراديل: قطع صغار. يصف هذا الأسد بكثرة الافتراس، وعظم الاصطياد.

43 - إذا يساور قرناً لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مفلول 44 - منه تظل سباع الجو نافرة ... ولا تمشي بواديه الأراجيل 45 - ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مصرج البز والدرسان مأكول 46 - إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول 47 - في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا 48 - زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل

_ (43) يساور: يواثب. والقرن: المقاوم في الشجاعة. وفي ذكر القرن إشارة في القوة إلى أن هذا الأسد لا يساور ضعيفاً ولا جباناً وإنما يساور مقاومه في الشجاعة ومساويه. والمفلول: المكسور المهزوم. (44) الجو: اسم موضع، أو هو ما اتسع من الأودية، أو ما بين السماء والأرض. ونافرة: بعيدة، ويروى: (ضامزة) والضامز: الذي يمسك جرته بفيه ولا يجتر. ويروى: (ضامرة) أي جياعاً لعدم قدرتها على الاصطياد. والأراجيل: الجماعات من الرجال، وهو جمع أرجال، وأرجال: جمع رجل، ورجل: اسم جمع لراجل، يصف هذا الأسد بالقوة، حتى خافته السباع والناس. (45) أخو ثقة: الشجاع الواثق بشجاعته. ومضرج: مخضب بالدماء. والبز: السلاح. والدرسان (بضم الدال): أخلاق الثياب. الواحد دريس. ومأكول: أي طعام لذلك الأسد. يريد أنه لا يمر بوادي هذا الأسد شجاع إلا أكله وطرح ثيابه التي مزقها، فلا يولع إلا بالشجعان، ولا يلتفت لغيرهم. (46) يستضاء به: يهتدى به إلى الحق. والمهند: السيف المطبوع في الهند، وسيوف الهند قديماً أحسن السيوف. ومن سيوف الله: أي من سيوف عظمها الله بنيل الظفر والانتقام. والمسلول: المخرج من غمده. (47) العصبة: الجماعة. ويروى: "في فتية" جمع فتى، وهو السخي الكريم. وزولوا: فعل أمر من زال التامة، أي تحولوا وانتقلوا من مكة إلى المدينة. (48) الأنكاس: جمع نكس (بالكسر) وهو الرجل الضعيف. والكشف (بضم فسكون وحرك للشعر): جمع اكشف، هو الذي لا ترس معه، أو هم الشجعان الذين لا ينكشفون في الحرب، أي لا ينهزمون. والميل: جمع أميل، وهو الذي لا سيف له، أو هو الذي لا يحسن الركوب، فيميل عن السرج. والمعازيل: الذين لا سلاح معهم، واحدهم معزال (بكسر الميم).

49 - شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل 50 - بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول 51 - ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا 52 - يمشوا مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل 53 - لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل * * *

_ (49) شم: جمع أشم، وهو الذي في قصبة أنفه علو، مع استواء أعلاه. والعرانين: جمع عرنين، وهو الأنف. وصفهم بهذا الوصف إما على الحقيقة لأن ارتفاع الأنف من الصفات المحمودة في خلق الإنسان، وإما على المجاز، يريد ارتفاع أقدارهم، وعلو شأنهم. واللبوس: ما يلبس من السلاح. ونسج داود: أي منسوجه، وهو الدروع. والهيجا (بالقصر هنا): الحرب. والسرابيل: جمع سربال، وهو القميص أو الدرع. ووصفها بأنها من نسج داود دليل على مناعتها. (50) بيض: مجلوة صافية مصقولة، لأن الحديد إذا استعمل لم يركبه الصدأ. والسوابغ: الطوال السوابل، ويلزم من طول الدروع قوة لابسيها، إذ حملها مع طولها يدل على القوة والشدة. وشكت: أدخل بعضها في بعض. ويروى: (سكت) بمعنى ضيقت. والقفعاء: ضرب من الحسك، وهو نبات له شوك ينبسط على وجه الأرض، تشبه به حلق الدروع. ومجدول: محكم الصنعة. (51) مفاريح: كثيرو الفرح. ونالوا: أصابوا. ومجازيع: كثيرو الجزع. (52) الزهر: البيض. يصفهم بامتداد القامة، وعظم الخلق، والرفق في المشي، وبياض البشرة، وذلك دليل على الوقار والسؤود. ويعصمهم: يمنعهم. وعرد: فر وأعرض عن قرنه وهرب عنه. والتنابيل: جمع تنبال، وهو القصير. (53) وقوع الطعن في نحورهم: دليل على أنهم لا ينهزمون حتى يقع الطعن في ظهورهم. وحياض الموت: موارد الحتف، يريد بها ساحات القتال. وتهليل: تأخر.

فوائد عامة من أحداث السنة الثامنة

فوائد عامة من أحداث السنة الثامنة 1 - قبل فتح مكة كانت الدولة الإسلامية هي المدينة المنورة فقط، هذه الدولة لها نفوذ حيث وجد إسلام، ولها عيون حيث وجد إسلام، تربطها مع بعض القبائل شيء من المعاهدات، وكان المطلوب من كل مسلم غير عاجز أو غير مكلف بمهمة تقتضي مقامه حيث هو أن يهاجر إلى المدينة المنورة وبفتح مكة تغيرت الصورة، فالدولة الإسلامية توسعت حدودها، وستصل هذه الحدود إلى حيث يخضع الناس لأمير مسلم ولأحكام الإسلام ومن خلال هذا ستأخذ الدولة أبعادها، وكان رمز ذلك كله أن يدفع الناس الزكاة لمن يوليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فمنطقة أميرها مقر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدفع الزكاة لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هي جزء من الدولة الإسلامية وسنرى في أحداث السنة التاسعة أن هذه القضية كانت من أهم ما ركز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح. 2 - كانت الحركة العسكرية قبل الفتح هي السبيل الوحيد لإيصال الدعوة، وتجربتا الرجيع وبئر معونة أثبتتا ذلك. أما بعد الفتح فقد تغيرت المعالم إذ أصبح بالإمكان الدعوة من غير حركة عسكرية ولذلك نجد بعوث الدعوة ووفود المستجيبين أو السائلين والتأمير على الناس وجمع الزكوات أو الجزية أو الخراج أو ما اتفق عليه بصلح، كل هذه المعاني أصبحت تشكل مظاهر الحركة بعد الفتح. 3 - من مفاتيح الفهم لحركة السنة الثامنة فما بعد أنها أصبحت تستهدف الأوثان والأصنام بشكل مباشر كان تهديم وثن يكلف كثيراً، ولكن بعد تطهير مكة من الأوثان والأنصاب أصبح استئصال الوثنية سهلاً. لذلك نجد في أحداث السنة الثامنة والتاسعة والعاشرة التركيز على تهديم هذه الأصنام حيث كانت ولم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد زالت الوثنية من أرض العرب من خلال عدد من الإجراءات التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - قلة من القادة الذين يستطيعون إدراك طاقات الرجال والاستفادة منها وتدريبها وتنميتها وصقلها، والناجحون هم الذين يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب، وفي

الدعوات التي تقوم على أساس عقدي أو فكري يعتبر الزمن عاملاً من عوامل التقسيم، وندر من يستطيع التقدم بمجرد الدخول في الدعوة، ولا شك أن الاحتياط ضروري، ولكن هناك حالات لا مبرر فيها للاحتياط إذا دلت ظواهر قاطعة على النضج والصدق، والوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمارات وفراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة كل ذلك لا يمر معه كذب الكاذبين، وبالتالي فبالإمكان أن يستفاد من صدق الصادقين مباشرة والملاحظ أنه لم يمر على إسلام خالد وعمرو بن العاص إلا فترة قريبة حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلفهما بمهمات ويؤمرهما على من هم أقدم إسلاماً منهما، وفي ذلك درس للحركة الإسلامية. 5 - من أحداث السنة الثامنة أن بعض عبدان الطائف فروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحررهم، ثم لم يرجعهم إلى العبودية حتى بعد إسلام سادتهم ولقد دفع كل واحد من هؤلاء إلى رجل يطعمه ويؤويه ويعلمه، وفي هذه الحادثة درس من أعظم دروس السيرة النبوية: من ذلك أن نقل العبيد إلى الحرية يقتضي إجراءات مناسبة حتى لا يضيع هؤلاء ومن هذه الدروس وهي أهمها نقل التكاليف العامة إلى تكاليف خاصة، وهذه من أوائل مهام القيادات والأمراء. فمهما كانت الجماعات راقية، والمجتمعات متكاتفة عارفة بواجباتها فإن إمكانية ضياع الحقوق والتكاليف العامة موجودة ما لم تتحول هذه التكاليف العامة إلى تكليف محدد لشخص محدد، ومن هنا أوجدت المؤسسات والوظائف والجهات المختصة، وهذا المعنى نجده بارزاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما من تكليف عام إلا وينقله إلى تكليف شخصي، فههنا عبيد أسلموا فحررهم وكلف بكل واحد منهم من يقوم بأوده، وهذا دأبه عليه الصلاة والسلام في الواجبات العامة من جهاد إلى تعليم إلى ضيافة إلى غير ذلك من مهام. * * *

السنة التاسعة للهجرة

السنة التاسعة للهجرة

أحداث السنة التاسعة في سطور

أحداث السنة التاسعة في سطور تتميز مرحلة ما بعد الفتح بأنها مرحلة إقبال على الإسلام، دخل الناس فيها أفواجاً فهي من ناحية استمرار لما قبلها في الدعوة والتربية والعلم والقتال، ومن ناحية أخرى فقد تميزت بكثرة الوفود وببعوث الدعوة وبعوث جمع الزكاة وتوزيعها وكثيراً ما يختلف كتاب السير حول وفد أو جامع زكاة متى قدم الأول، ومتى أرسل الثاني، ولا يترتب في الغالب على ذلك عمل وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية الأحداث المشهورة في سنة تسع، كغزوة تبوك، وهدم مسجد الضرار. وذكر بمناسبة أن السنة التاسعة هي سنة الوفود ما تيسر له جمعه عن الوفود، فذكر وفوداً وفدت قبل سنة تسع، ووفوداً جاءت سنة تسع. وتتبع في الرحيق المختوم ما ذكره كتاب السير من أسماء المصدقين الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع الزكوات وتوزيعها. كما ذكر أهم أحداث السنة التاسعة، وعقد للوفود باباً تحدث فيه عن أهمها. ونحن هنا نقدم لك ثبتاً بأسماء المصدقين كما أوردهان وخلاصة بأحداث هذه السنة أحياناً بعبارته وأحياناً باستخلاص من سياقاته، ثم نقدم لك ثبتاً بأسماء الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أخذاً من ابن كثير، وكل ذلك بين يدي الفصول التي نعقدها لبعض أحداث هذا العام: - قائمة بأسماء المصدقين إلى القبائل: (1) عيينة بن حصن إلى بني تميم. (2) يزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار. (3) عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة. (4) رافع بن مكيث إلى جهينة. (5) عمرو بن العاص إلى بني فزارة. (6) الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب.

من أهم أحداث السنة التاسعة

(7) بشير بن سفيان إلى بني كعب. (8) ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان. (9) المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء (وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها). (10) زياد بن لبيد إلى حضر موت. (11) عدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد. (12) مالك بن نويرة إلى بني حنظلة. (13) الزبرقان بن بدر إلى بني سعد. (إلى قسم منهم). (14) قيس بن عاصم إلى بني سعد (إلى قسم آخر منهم). (15) العلاء بن الحضرمي إلى البحرين. (16) علي بن أبي طالب إلى نجران (لجمع الصدقة والجزية كليهما). * * * من أهم أحداث السنة التاسعة * سرية عيينة بن حصن الفزاري - في المحرم سنة 9 هـ إلى بني تميم، في خمسين فارساً، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري. وسببها أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء ما يستحق عليهم. وخرج عيينة بن حصن يسير الليل ويكمن النهار حتى هجم عليهم في الصحراء فولى القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث. وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، ثم اسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم. * سرية قطبة بن عامر إلى حي من خثعم بناحية تبالة، بالقرب من تربة، في صفر

سنة 9 هـ خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النعم والنساء والشاء إلى المدينة. * سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة 9 هـ بعثت هذه السرية إلى بني كلاب لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم رجلاً. * سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى سواحل جدة في شهر ربيع الآخر سنة 9 هـ في ثلاثمائة. بعثهم إلى رجال من الحبشة كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القرصنة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا. * سرية علي بن أبي طالب إلى صنم لطيء يقال له الفلس - ليهدمه - في شهر ربيع الأول سنة 9 هـ. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة حاتم مع الفجر، فهدموه وغنموا. اهـ من الرحيق. * وفي رجب من سنة 9 هـ حدثت غزوة تبوك، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن قيصر يعد العدة لحرب المسلمين، وقد جاء المسلمون إلى تبوك على حدود الشام ولم يأت الروم للحرب، فكان ذلك إثباتاً لقوة الإسلام على حدود الدولة البيزنطية ومحواً لأثر التراجع الذي تراجع به المسلمون يوم مؤتة. وكانت هذه الغزوة فتحاً كبيراً في مجموع ما انبثق عنها، فلقد كانت تبوك في هذه الغزوة قاعدة عمليات لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمخض عنها عهود وموادعات وسيطرة واستسلام. وقد ذكر ابن إسحاق مجيء صاحب أيلة وصلحه معر سول الله صلى الله عليه وسلم وإعطاءه الجزية، ومجيء أهل جرباء وأذرح ومصالحتهم وإعطاءهم الجزية، وبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة وأسره ومصالحته على دفع الجزية، وفي تبوك جاء رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى من الآيات ولم يكن هرقل متحمساً للصراع مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم فكانت غزوة تبوك فتحاً أشعرت عرب الشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد الموقف. * وفي هذه السنة آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهراً. * وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية: - بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عويمر العجلاني وامرأته. - رجمت المرأة الغامدية التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة رجمت بعد ما فطمت ابنها. - توفي النجاشي أصحمة، ملك الحبشة. وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب. - توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فحزن عليها حزناً شديداً وقال لعثمان: لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها. - مات رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول بعد مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه بعد ان حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر. * هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار عند عودته من غزوة تبوك. * وفي ذي القعدة أو ذي الحجة من السنة التاسعة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج ليقيم بالمسلمين المناسك، ثم نزلت أوائل سورة براءة التي منعت حج المشركين، وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالاً ينادون في الناس ألا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. * في هذا العام تتابعت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد بلغ عدد الوفود التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين وفداً. وكان حظ هذه السنة من هذه الوفود الحظ الأوفر، ولم تمض هذه السنة حتى سيطر الإسلام على الجزيرة العربية كلها تقريباً وهي ما هي مساحة، وأهلها أكثر خلق الله استعصاء على الانقياد والوحدة، حتى إنه لم يسيطر على جزيرة العرب ولم يوحدها أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وهاك قائمة ببعض وفود السنة التاسعة:

وفد بني أسد - وفد بني عبس - وفد بني فزارة - وفد بني مرة - وفد بني ثعلبة - وفد بني محارب - وفد بني كلاب - وفد بني رؤاس من كلاب - وفد بني عقيل بن كعب - وفد بني قشير بن كعب - وفد بني البكاء - وفد كنانة - وفد أشجع - وفد باهلة - وفد بني سليم - وفد بني هلال بن عامر - وفد بني بكر بن وائل - وفد بني تغلب - وفد ثقيل - وفد تجيب - وفد خولان - وفد جعفى - وفد الأزد - وفد كندة - وفد الصدف - وفد خشين - وفد بني سعد - وفد بني حنيفة - وفد همدان - وفد بلي - وفد عذرة - وفد عبد القيس. * * * تكاد السنوات الأخيرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون متشابهة: السنة التاسعة والعاشرة وجزء من الحادية عشر سنة الوفاة، فلا زالت السرايا تجول، وحدث في السنة التاسعة غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومع السرايا هناك بعوث الدعوة، وهناك الوفود، وهناك جمع الصدقات وتوزيعها، وصهر الناس وتربيتهم قائم على قدم وساق، وقد توج هذا الصهر بحجة الوداع في السنة العاشرة. * * *

فصل: في غزوة تبوك

فصل: في غزوة تبوك 676 - * روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة، وشهدت معه تسع عشرة غزوة، وكان آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبوك. 677 - * روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة، فينشرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره، ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين. 678 - * روى البزار عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن العسرة فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويضعه على بطنه، فقال أبو بكر الصديق؛ يا رسول الله، إن الله عودك في الدعاء خيراً، فادع فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتحب ذلك يا أبا بكر" قال: نعم. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأظلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت عن العسكر. 679 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: أرسلني

_ 676 - المستدرك (3/ 566) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 677 - الترمذي (5/ 626) 50 - كتاب المناقب - 19 - باب في مناقب عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وإسناده حسن. 678 - كشف الأستار (2/ 354). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 194): رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات. الفرث: هو ما في الكرش من سرجين. 679 - البخاري (8/ 110). 64 - كتاب المغازي - 78 - باب غزوة تبوك، وهي غزوة العسرة. ومسلم واللفظ له (3/ 1269) 27 - كتاب الأيمان - 3 - باب ندب من حلف يميناً، فرأى غيرها خيراً منها، أن=

أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء" ووافقته وهو غضبان، ولا أشعر، فرجعت حزيناً من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي، فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذ هذين القرينين، وهذين القرينين وهذين القرينين - لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد - فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله - أو قال: إن رسول الله - يحملكم على هؤلاء، فاركبوهن" قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي بهن، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله، لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سألته لكم، ومنعه في أول مرة، ثم إعطاءه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئاً لم يقله، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء. قال ابن حجر في الفتح: فإن غزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفاً لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؟ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة. وتبوك مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينه أربع عشرة مرحلة. وكان السبب فيما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين

_ = يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه. الحملان: الحمل، حملته على الدابة، أحمله حملاً وحملاناً، وذلك أنه جاء يطلب منه شيئاً يركبون عليه. القرينين: القرين الجمل يقرن بجمل آخر، فكلاهما قرينان.

يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعاً، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك. وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال: (كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلاً من عظمائهم يقال له قباذ وجهز معه أربعين ألفاً، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيراً إلى الشام فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال فسمعته يقول: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حيان نحوه، وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى" والبيهقي في "الدلائل" من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم (أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقاً فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) (1) الآية، انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلاً. أ. هـ. 680 - * روى أبو داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فخرجت إلى أهلي، فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه، فنادى شيخ من الأنصار، قال: لنا سهمه على أن نحمله عقبة، وطعامه معنا؟ قلت: نعم، قال: فسر على بركة الله، قال: فخرجت مع خير صاحب، حتى أفاء الله علينا، فأصابني قلائص، فسقتهن حتى أتيته، فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مدبرات، ثم قال:

_ (1) الإسراء: 76. 680 - أبو داود (3/ 55)، كتاب الجهاد، باب في الرجل يكري دابته على النصف أو السهم. بسند حسنه بعضهم. عقبة: حملت فلاناً عقبة: إذا أركبته وقتاً، وأنزلته وقتاً، فهو يعقب غيره في الركوب، أي يجيء بعده. قلائص: القلائص: جمع قلوص، وهي الناقة.

سقهن مقبلات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كراماً، قال: إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال: خذ قلائصك يا ابن أخي، فغير سهمك أردنا. 681 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان. فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه" حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". فتلوم أبو ذر رضي الله عنه على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه، فجعله على ظهره، فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماشياً، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده" فضرب الدهر من ضربته وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت، أوصى امرأته وغلامه إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم فقولوا هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقالوا ما هذا؟ فقيل جنازة أبي ذر فاستهل ابن مسعود رضي الله عنه يبكي، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه، فلما قدموا المدينة ذكر لعثمان قول عبد الله وما ولي منه.

_ 681 - المستدرك (3/ 50)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: فيه إرسال. تلوم في الأمر: تمكث. الربذة: قرية قرب المدينة. أجنه: ستره ودفنه.

682 - * روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي؟ ". وفي رواية مثله (1)، ولم يقل فيه: "غير أنه لا نبي بعدي". ولمسلم (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون منموسى، إلا أنه لا نبي بعدي". قال ابن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعداً. فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر. فقال: أنا سمعته. فقلت: أنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم. وإلا فاستكتا. وفي رواية الترمذي مختصراً (3): أنه قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى". 683 - * روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرصوها" فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال: "أحصيها، حتى نرجع إليك إن شاء الله" وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان

_ 682 - البخاري (8/ 112) 64 - كتاب المغازي - 78 - باب غزوة تبوك. ومسلم واللفظ له (4/ 1870) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 4 - باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (1) مسلم (4/ 1871) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 4 - باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (2) مسلم في نفس الموضع السابق (4/ 1870). استكتا: أي: صمتا. (3) الترمذي (5/ 641) 50 - كتاب المناقب - باب (21). 683 - البخاري (3/ 343) 24 - كتاب الزكاة - 54 - باب خرص التمر. ومسلم واللفظ له (4/ 1785) 43 - كتاب الفضائل - 3 - باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.=

له بعير فليشد عقاله" فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له برداً، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها: "كم بلغ ثمرها"؟ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث" فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: "هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه" ثم قال: "إن خير دور الأنصار: دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير" فلحقنا سعد بن عبادة، فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار، فجعلنا آخراً، فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخراً؟ فقال: "أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ ". 684 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما

_ = وادي القرى: هو واد بين المدينة والشام وهو بين تيماء وخيبر، من أعمال المدينة، سمي وادي القرى؛ لأن في الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة. لكنها الآن خراب. ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد. فتحها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من فتح خيبر سنة سبع. اخرصوا: خرص النخل: حزر مقدار ثمرها. أوسق: هو جمع وسق. قال في النهاية: الوسق: ستون صاعاً، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلاً عند أهل الحجاز وأربعمائة وثمانون رطلاً عند أهل العراق. أي ما يعادل 150 كغ عند الشافعية، وما يعادل 225 كغ عند الحنفية. بجبلي طيء: هما مشهوران. يقال لأحدهما: أجأ. والآخر سلمى. وطيء على وزن سيد، وهو أبو قبيلة. طابة: اسم المدينة، سماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك "طيبة" وهما من الطيب. فائدة: في الرجل الذي حملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء: إن هذا الرجل أهدته طيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدموا المدينة. 684 - البخاري (8/ 125) 64 - كتاب المغازي - 80 - باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر. ومسلم نحوه (4/ 2285) 53 - كتاب الزهد والرقائق - 1 - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين.

أصابهم، إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه وأسرع السير، حتى أجاز الوادي. وفي أخرى للبخاري (1): أنه قال لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم". وفي أخرى لمسلم (2): أنه قال لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين .. " ثم ذكر مثله. 685 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر - أرض ثمود - فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وللبخاري (4): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم: أن لا يشربوا من بئارها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء. 686 - * روى أحمد والبزار عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك، قامي خطب الناس، فقال: "يا أيها الناس! لا تسألوا نبيكم عن الآيات، أو لا تسألوا نبيكم الآيات، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله تبارك وتعالى لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج، فتشرب ماءهم يوم وردها،

_ (1) البخاري (8/ 125) 64 - كتاب المغازي - 80 - باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر. (2) مسلم (4/ 2285) 53 - كتاب الزهد والرقائق - 1 - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم: إلا أن تكونوا باكين. 685 - البخاري (6/ 378) 60 - كتاب الأنبياء - 17 - باب قول الله تعالى [73: الأعراف]: (وإلى ثمود أخاهم شعيباً) وقوله [80: الحجر]: (كذب أصحاب الحجر). ومسلم واللفظ له (4/ 2286) 53 - كتاب الزهد والرقائق - 1 - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن (4) البخاري (6/ 378) 60 - كتاب الأنبياء - 17 - باب قول الله تعالى [73: الأعراف]: (وإلى ثمود أخاهم شعيباً) وقوله [80: الحجر]: (كذب أصحاب الحجر). 686 - كشف الأستار (2/ 356) ومسند أحمد (1/ 296) نحوه.=

وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروا الناقة، فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، أو قيل لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، ثم جاءتهم الصيحة، فأهلك الله من كان تحت مشارق الأرض ومغاربها منهم إلا رجلاً كان في حرم الله، فمنعه من عذاب الله" قالوا: يا رسول الله! من هو؟ قال: "أبو رغال" قيل: ومن أبو رغال؟ قال: "جد ثقيف". 687 - * روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، فقال لي: "إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه" قال: قلت: أجل يا رسول الله، قال: "أما رأس الأمر فالإسلام وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد". 688 - * روى أحمد عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً، فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوق به عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة. "قد قد" حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل، ورجع عمار فقال: "يا عمار هل عرفت القوم" فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون. قال: "هل تدري ما أرادوا"؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه" قال: فساب عمار رضي الله عنه رجلاً من

_ = قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 196): رواه الطبراني في الأوسط والبزار وأحمد بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح. عتوا: عتا عتو وعتيا: استكبرو وجاوز الحد. فهو عات. فعقروا: أي: نحروا. 687 - المستدرك (2/ 76)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره زوائد الذهبي. 688 - أحمد في مسنده (5/ 453). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 195): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. قد قد: حسبي حسبي. ينفروا برسول الله: أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقع عنها.=

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة فقال: أربعة عشر. فقال: إن كنت فيهم كانوا خمسة عشر، فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. قال الوليد: وذكر أبو الطفيل في تلك الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس، ذكر له أن في الماء قلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: "أن لا يرد الماء أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فورده رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رهطاً قد وردوه قبله فلعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ. 689 - * روى أحمد والبزار عن حذيفة قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم غزوة تبوك فبلغه أن في الماء قلة فأمر منادياً فنادى في الناس: "أن لا يسبقني في الماء أحد" فأتى الماء وقد سبقه قوم فلعنهم. 690 - * روى الطبراني عن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وكنت على خدمته ذلك السفر، فنظرت على نحي السمن قد قل ما فيه، وهيأت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فوضعت النحي في الشمس ونمت، فانتبهت بخرير النحي، فقمت فأخذت برأسه بيدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآني: "لو تركته لسال وادياً سمناً". 691 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب رضي الله

_ = لا يرد الماء أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليبارك فيه قبل أن ينزحه الناس، وكان من عادته أن يدعو في الشيء القليل فيكثره الله. 689 - أحمد في مسنده (5/ 391). البزار نحوه: كشف الأستار (2/ 357). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 195): رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح. 690 - المعجم الكبير (3/ 160). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 191). رواه الطبراني من طريقين، إحداهما في علامات النبوة، ورجالها وثقوا. النحي: بالكسر: الزق، أو ما كان للسمن خاصة. 691 - البخاري (8/ 113) 64 - كتاب المغازي - 79 - باب حديث كعب بن مالك، وقول الله عز وجل: [18: التوبة]: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا).=

عنه من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد بذلك الديوان، قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك (1)

_ = ومسلم واللفظ له (4/ 2120) 49 - كتاب التوبة - 9 - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. عير: العير: الإبل والحمير تحمل الميرة والتجارة، ونحو ذلك. تواثقنا: التواثق: تفاعل من الميثاق، وهو العهد والحلف. راحلتين: الراحلة: الجمل والناقة القويان على الأسفار والأحمال، والهاء فيه للمبالغة، كداهية، وراوية، وقيل: إنما سميت راحلة، لأنها ترحل، أي: تحمل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كقوله تعالى (في عيشة راضية) [الحاقة: 21] أي: مرضية. ورى عن الشيء: إذا أخفاه وذكر غيره. مفازاً: المفاز والمفازة البرية القفر، سميت بذلك تفاؤلاً بالفوز والنجاة، وقيل: بل هو من قولهم: فوز: إذا مات. فجلا: جلا الشيء: إذا كشفه، أي: أظهر للناس مقصده. بوجههم: جهتهم التي يستقبلونها ومقصدهم.=

يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئاً. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو. فهممت أن أرتحل فأدركهم. فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حت بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك؟ " فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه (1)

_ = أصعر: أميل. استمر الجد: أي تتابع الاجتهاد في السير. يتمادى: التمادي: التطاول والتأخر. تفارط الغزو: تقدم وتباعد: أي. بعد ما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المسافة. طفقت: مثل جعلت. أسوة: الأسوة - بكسر الهمزة وضمها -: القدوة. مغموصاً: المغموص: المعيب المشار إليه بالعيب. والنظر في عطفيه: يقال: فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجباً بنفسه. يزول به السراب: زال به السراب يزول: إذا ظهر شخصه خيالاً فيه. لمزه: اللمز: العيب. قافلاً: القافل: الراجع من سفره إلى وطنه. بثي: البث: أشد الحزن، كأنه من شدته يبثه صاحبه أي يظهره.

ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم. وبايعهم واستغفر لهم. ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت. فلما سلمت تَبَسمَ تَبسُّمَ المغضب ثم قال: "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " قال قلت: يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر. لقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أني سخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني. فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال قلت: من هما؟ قالوا، مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذكروا

_ أظل: الإظلال: الدنو، وأظلك فلان: أي دنا منك، كأنه ألقى عليك ظله. زاح عني الأمر: زال وذهب. فأجمعت: أجمعت على الشيء: إذا عزمت على فعله. المخلفون: جمع مخلف، وهم المتأخرون عن الغزو، خلفهم أصحابهم بعدهم فتخلفوهم. بضعة: البضع: ما بين الثلاث إلى التسع من العدد. ووكل سرائرهم: وكلت الشيء إليك: أي رددته إليك، وجعلته إليك. والمراد به: أنه صرف بواطنهم إلى علم الله تعالى. ظهرك: الظهر هنا: عبارة عما يركب. ليوشكن: أوشك يوشك: إذا أسرع. تجد: تجد من الموجدة: الغضب. يؤنبونني: التأنيب: الملامة والتوبيخ.=

لي رجلين صالحين قد شهداً بدراً فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس - وقال: تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت: فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك عسان، وكنت كاتباً. فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله (1)

_ = فاستكانا: الاستكانة: الخضوع. تسورت الجدار: إذا ارتفعت فوقه وعلوته. نبطي: واحد من قوم الأعاجم وهو الفلاح. الطعام: القمح. مضيعة: المضيعة: مفعلة من الضياع: الاطراح والهوان، كذا أصله، فلما كانت عين الكلمة ياء، وهي مكسورة، نقلت حركتها إلى الفاء وسكنت الياء، فصارت بوزن معيشة، والتقدير فيهما سواء، لأنهما من ضاع وعاش. نواسك: المواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق ونحو ذلك. فتيممت: التيمم: القصد. استلبث: استفعل، من لبث: إذا أقام وأبطأ.

صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها، قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربنك" فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! فلبثت بذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة ويقولون:

_ = رحب: الرحب: السعة. أوفى: على الشيء: إذا أشرف عليه. سلع: جبل في أرض المدينة. ركض: الركض: ضرب الراكب الفرس برجليه ليسرع في العدو. آذن: أعلم. أتأمم: بمعنى: أتيمم: أي أقصد. فوجاً: الفوج: الجماعة من الناس.

لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا، بل من عند الله عز وجل" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه، قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال: وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، قال: فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أني حفظني الله تعالى فيما بقي، قال: فأنزل الله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) حتى بلغ: (إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) حتى بلغ: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (1) قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم

_ = يبرق: برق وجهه: إذا لمع وظهر عليه أمارات السرور والفرح. انخلع من مالي: أي أخرج من جميعه، كما يخلع الإنسان قميصه. ساعة العسرة: سمي جيش تبوك جيش العسرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في شدة الحر، فعسر عليهم، وكان وقت إدراك الثمار. (1) التوبة: 117 - 119.

فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) (1). قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه، فبذلك قال الله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. وفي رواية (2): ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبثت كذلك، حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي علي، فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم، حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة، تيب على كعب"، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: "إذا يحطمكم الناس، فيمنعونكم النوم سائر الليلة" حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، آذن بتوبة الله علينا. وفي رواية (3): أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.

_ = رجس: الرجس: النجس. (1) التوبة: 95 - 96. إرجاء: الإرجاء: التأخير. (2) البخاري (8/ 342) 65 - كتاب التفسير - 18 - باب (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) - إلى قوله - (إن الله هو التواب الرحيم). يحطمكم الناس: أي يطؤؤنكم ويزدحمون عليكم، وأصل الحكم: الكسر. (3) البخاري (6/ 113) 56 - كتاب الجهاد - 103 - باب من أراد غزوة فورى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس.

وفي رواية (1): طرف من هذا الحديث، وفيها زيادة معنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه. قال محقق الجامع: في هذا الحديث فوائد كثيرة، منها: إباحة الغنيمة لهذه الأمة، إذ قال: يريدون عيراً لقريش، وفضيلة أهل بدر والعقبة، والمبايعة مع الإمام، وجواز الحلف من غير استحلاف، وتورية المقصد إذا دعت إليه ضرورة، والتأسف على ما فات من الخير، وتمني المتأسف عليه، ورد الغيبة، وهجران أهل البدعة، وأن للإمام أن يؤدب بعض أصحابه بإمساك الكلام عنه، واستحباب صلاة القادم، ودخوله المسجد أولاً، وتوجه الناس إليه عند قدومه، والحكم بالظاهر وقبول المعاذير، واستحباب البكاء على نفسه، وأن مسارقة النظر في الصلاة لا تبطلها، وفضيلة الصدق، وأن السلام ورده كلام، وجواز دخول بستان صديقه بغير إذنه، وأن الكتابة لا يقع بها الطلاق ما لم ينوه. وإيثار طاعة الله ورسوله على مودة القريب، وخدمة المرأة لزوجها، والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه، إذ إن كعباً لم يستأذن في خدمة امرأته لذلك، وجواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى إذا كان لمصلحة، واستحباب التبشير عند تجدد النعمة واندفاع الكربة، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما ينسر أصحابه، والتصدق بشيء عند ارتفاع الحزن، والنهي عن التصدق بكل المال عند خوف عدم الصبر، وإجازة التبشير بخلعة، وتخصيص اليمين بالنية، وجواز العارية ومصافحة القادم، والقيام له، واستحباب سجدة الشكر، والتزام مداومة الخير الذي انتفع به. فائدة: قال الدكتور السباعي: وفي غزوة تبوك أو العسرة آيات بينات على ما يفعله الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال واندفاع أيديهم في بذل المال ومن استعذابهم الحر والعناء والتعب

_ (1) مسلم (1/ 496) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 12 - باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه.

الشديد في سبيل الله ومرضاته، ولذلك لما تخلف ثلاثة من المؤمنين الصادقين في إيمانهم عن هذه الغزوة من غير عذر، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، فامتنع أزواجهم وآباؤهم عن مكالمتهم فضلاً عن جمهور المسلمين. وقد ربط بعضهم نفسه بعمد المسجد، واحتبس آخر نفسه في البيت، حتى تاب الله عليهم بعد أن أخذ المسلمون درساً بليغاً فيمن يتخلف عن أداء الواجب لغير عذر، ويؤثر الراحة على التعب، والظل الظليل على حر الشمس وشدتها. * * *

فصل: في أسر أكيدر دومة الجندل

فصل: في أسر أكيدر دومة الجندل 692 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذ، فأتوه به، فحقن له دمه وصالحه على الجزية. وصل: إسلام عروة بن مسعود 693 - * روى الطبراني عن عروة يعني ابن الزبير قال: لما أنشأ الناس الحج سنة تسع، قدم عروة بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك" قال لو وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قومه مسلماً. فرجع عشاء فجاء ثقيف يحيونه، فدعاهم إلى الإسلام فاتهموه وأغضبوه وأسمعوه فقتلوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه". * * *

_ 692 - أبو داود (3/ 166)، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. بإسناد حسن. دومة الجندل: بفتح الدال وضمها: موضع. أكيدر: هو صاحبها، وهو أكيدر بن عبد الملك. حقن: حقنت دمه: إذا منعت من قتله، والحقن: الجمع. في ابن هشام: أكيدر دومة: رجل من كندة كان ملكاً عليها وكان نصرانياً. اهـ. ويقال: إنه من غسان. وأكيدر هو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل - بفتح الدال وضمها - وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي قرى وحصن بين الشام والمدينة قرب جبلي طيء، كان ينزلها بنو كنانة من كلب، وبينها وبين وادي القرى أربع ليال إلى تيماء. 693 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 386)، وقال: رواه الطبراني، وروي عن الزهري نحوه، وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن.

فصل: في الحج سنة تسع

فصل: في الحج سنة تسع 694 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أبو بكر فزعاً فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علياً أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا، فحجا، فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، وكان علي ينادي، فإذا عيي قام أبو بكر، فنادى بها. 695 - * وروى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بـ (براءة) مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: "لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي". فدعا علياً، فأعطاه إياه. 696 - * روى الحاكم عن أبي هريرة قال: كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة ببراءة. فقيل: ما كنتم تنادون فقال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فأجله ومدة عهده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي. * * *

_ 694 - الترمذي (5/ 275) 48 - كتاب تفسير القرآن - 10 - باب "ومن سورة التوبة". وإسناده حسن. الرغاء: صوت البعير. القصواء: بالمد: لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن قصواء، فإن القصواء: هي المشقوقة الأذن من النوق. ذمة الله: الذمة: العهد والأمان. ساح: في الأرض: إذا ذهب منها حيث أراد. 695 - الترمذي في نفس الموضع السابق، وقال: هذا حديث حسن غريب. 696 - المستدرك (4/ 179)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. صحل الصوت: إذا بح.

فصل: في تهديم ذي الخلصة

فصل: في تهديم ذي الخلصة 697 - * روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كان بيت في الجاهلية يقال له؛ ذو الخلصة، والكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تريحني من ذي الخلصة؟ " فنفرت في مائة وخمسين راكباً، فكسرناه، وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فدعا لنا ولأحمس. وفي رواية (2) عن جرير قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تريحني من ذي الخلصة؟ " فقلت: بلى. فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال: "اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً" قال: فما وقعت عن فرس بعد. قال: وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد، يقال له الكعبة. قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها. قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك. قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك. قال: فكسرها وشهد. ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك. فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

_ 697 - البخاري (8/ 70) 64 - كتاب المغازي - 62 - باب غزوة ذي الخلصة. ومسلم (4/ 1925) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 29 - باب ن فضائل جرير بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه. (2) البخاري (8/ 70) 64 - كتاب المغازي - 62 - باب غزوة ذي الخلصة. ومسلم بعضه (4/ 1925) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 29 - باب من فضائل جرير بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه. ذي الخلصة: الخلصة: قيل: كان اسم صنم لدوس، وكان في ذلك البيت، وقيل ذو الخلصة: هو البيت الذي كان لخثعم باليمن، يحجون إليه تشبيهاً ببيت الله الحرام. يستقسم بالأزلام: الأزلام: القداح، كانوا يتفاءلون بها عندما يعرض لهم من الحاجات، كالسفر والزواج وغير ذلك، وكان مكتوب عليها: افعل، لا تفعل، فما خرج له منها كان يتبعه: إما أمر وإما نهي، والاستقسام: طلب ما قسم لهم مما هو مغيب عنهم من خير أو شر وصلاح وفساد. جمل أجرب: شبه ما بها من آثار النار والإحراق بالجمل الأجرب.

قال ابن حجر في الفتح: وقد وقع ذكر ذي الخلصة في حديث أبي هريرة عند الشيخين في كتاب الفتن مرفوعاً "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة وكان صنماً تعبده دوس في الجالهية. والذي يظهر لي أنه غير المراد في حديث الباب، وإن كان السهيلي يشير إلى اتحادهما؛ لأن دوسا قبيلة أبي هريرة وهم ينتسبون إلى دوس بن عدثان بضم المهملة وبعد الدال الساكنة مثلثة ابن عبد الله بن زهران، ينتهي نسبهم إلى الأزد، فبينهم وبين خثعم تباين في النسب والبلد. وذكر ابن دحية أن ذا الخلصة المراد في حديث أبي هريرة كان عمرو بن لحي قد نصبه أسفل مكة، وكانوا يلبسونه القلائد ويجعلون عليه بيض النعام ويذبحون عنده، وأما الذي لخثعم فكانوا قد بنوا بيتاً يضاهون به الكعبة فظهر الافتراق وقوي التعدد. والله أعلم. قوله (والكعبة اليمانية والكعبة الشامية) كذا فيه، قيل وهو غلط والصواب اليمانية فقط، سموها بذلك مضاهاة للكعبة، والكعبة البيت الحرام بالنسبة لمن يكون جهة اليمن شامية فسموا التي بمكة شامية والتي عندهم يمانية تفريقاً بينهما. والذي يظهر لي أن الذي في الرواية صواب وأنها كان يقال لها اليمانية باعتبار كونها باليمن والشامية باعتبار أنهم جعلوا بابها مقابل الشام. وقال تعليقاً على أن من كان مع جرير كانوا مائة وخمسين: وجدت في "كتاب الصحابة لابن السكن" أنهم كانوا أكثر من ذلك، فذكر عن قيس ابن غربة الأحمسي أنه وفد في خمسمائة، قال: وقدم جرير في قومه وقدم الحجاج بن ذي الأعين في مائتين، قال: وضم إلينا ثلاثمائة من الأنصار وغيرهم، فغزونا بني خثعم. فكأن المائة والخمسين هم قوم جرير وتكملة المائتين أتباعهم وكأن الرواية التي فيها سبعمائة من كان من رهط جرير وقيس بن غربة لأن الخمسين كانوا من قبيلة واحدة، وغربة بفتح المعجمة والراء المهملة بعدها موحدة ضبطه الأكثر. وقوله "يستقسم" أي يستخرج غيب ما يريد فعله من خير أو شر، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى (وأن تستقسموا بالأزلام) (1) وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنهم كانوا

_ (1) المائدة: 3.

يستقسمون عند ذي الخلصة، وأن أمرأ القيس لما خرج يطلب بثأر أبيه استقسم عنده فخرج له ما يكره، فسب الصنم ورماه بالحجارة وأنشد: لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... لم تنه عن قتل العداة زورا قال: فلم يستقسم عنده أحد بعد حتى جاء الإسلام. قلت: وحديث الباب يدل على أنهم استمروا يستقسمون عنده حتى نهاهم الإسلام، وكأن الذي استقسم عنده بعد ذلك لم يبلغه التحريم أو لم يكن أسلم حتى زجره جرير. وقوله (ألا تريحني) هو بتخفيف اللام طلب يتضمن الأمر، وخص جريراً بذلك لأنها كانت في بلاد قومه وكان هو من أشرافهم، والمراد بالراحة راحة القلب، وما كان شيء أتعب لقلب النبي صلى الله عليه وسلم من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى. وروى الحاكم في "الإكليل" من حديث البراء بن عازب قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل من بني بجيلة وبني قشير مع جرير بن عبد الله، فسأله عن بني خثعم فاخبره أنهم أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام، فاستعمله على عامة من كان معه، وندب معه ثلاثمائة من الأنصار، وأمره أن يسير إلى خثعم، فيدعوهم ثلاثة أيام. فإن أجابوا إلى الإسلام قبل منهم وهدم صنمهم ذا الخلصة، وإلا وضع فيهم السيف. قوله (فدعا لنا ولأحمس) بمهملة وزن أحمر وهم إخوة بجيلة بفتح الموحدة وكسر الجيم رهط جرير، ينتسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار، وبجيلة امرأة نسبت إليها القبيلة المشهورة، ومدار نسبهم أيضاً على أنمار. وفي العرب قبيلة أخرى يقال لها: أحمس ليست مرادة هنا ينتسبون إلى أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار. ووقع في الرواية التي بعد هذه "فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات" أي دعا لهم بالبركة. ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد "فدعا لأحمس بالبركة". وفي الحديث: مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء كان إنساناً أو حيواناً أو جماداً، وفيه اسمتالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، والاستمالة بالدعاء والثناء والبشارة في الفتوح، وفضل ركوب الخيل في الحرب، وقبول خبر الواحد، والمبالغة في

نكاية العدو، ومناقب لجرير ولقومه، وبركة يد النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه، وأنه كان يدعو وتراً وقد يجاوز الثلاث. وفيه تخصيص لعموم قول أنس (كان إذا دعا دعا ثلاثاً) فيحمل على الغالب، وكأن الزيادة لمعنى اقتضى ذلك، وهو ظاهر في أحمس لما اعتمدوه من دحض الكفر ونصر الإسلام ولاسيما مع القوم الذين هم منهم. * * *

تقويم الموقف في نهاية السنة التاسعة

تقويم الموقف في نهاية السنة التاسعة * إذا سلم شعب لإنسان بأن يجبي منه مالاً ولم يجد له خياراً في ذلك فقد سلم له بالسلطة، ومن ههنا كان إرسال المصدقين هذا العام وجبايتهم المال هو في الحقيقة رمز التسليم لسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتراف بالدولة الإسلامية، لذلك ارتبطت الردة بهذا الموضوع وارتبط منع مال الزكاة بعدم الاعتراف بالحكم فقال قائل المرتدين: أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر أيخلفه بكر إذا قام بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر * جمع المال من مكان وتوزيعه في نفس ذلك المكان فيه معان كبيرة، فيه إشعار للفقراء والمستضعفين والمساكين ببركة الخضوع لسلطان الإسلام، وفي ذلك ربط محكم لهؤلاء بالدولة الإسلامية وإظهار المانعين بأنهم أعداء لشعبهم الفقير وهكذا يؤخذ الاعتراف بالدولة عن طريق ليس لأحد فيه خيار آخر، وتلك من مظاهر الفطرية الإسلامية التي تصل إلى أعظم الأشياء من أقرب طريق. * إقبال الوفود بهذه الكثرة وبهذا التسليم هو أثر عن مجموعة أمور كلها تدل على إحكام العمل بتوفيق الله، فحرارة إيمان الدعاة، وعمليات التعرض، والانتصارات المتلاحقة، والمعجزات اليومية والسياسية الحكيمة، وحسن التعامل مع النفس البشرية، وإشعار الناس أن أرباحهم في الإسلام أكبر من خسائرهم كل ذلك أدى دوره في أن تصبح الجزيرة العربية وافدة ومسلّمة مسلمة. * الهيبة العسكرية كانت عاملاً حاسماً، ومناطحة الرومان مرة بعد مرة أشعرت الجميع أنهم أمام سلطان لا يقهر، وكان ذلك هو الأساس للتحرك اللاحق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدام مع الدولتين العظميين وقتذاك. * إن نجاح الصادقين يغري الكاذبين والطامحين بسلوك طريقهم، وطرح دعاوى يزعمون أنها تشابه الحقائق التي يدعو إليها الأنبياء. ومن ههنا نبتت نابتة دعاوى النبوة على أثر الانتصارات الكاسحة. ومن ههنا تأتي دعاوى الأسود العنسي ومسيلمة وطليحة وسجاح ...

* كما أن فتح مكة كان من الناحية الاستراتيجية فتحاً للجزيرة العربية كلها، فإن الإعلان في حج هذا العام ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف به عريان كان من الناحية الاستراتيجية إنهاء للشرك في جزيرة العرب. * الملاحظ أن الوفود قبل الفتح كانت فردية في الغالب أما بعد الفتح فقد كانت جماعية. * بعد سير طويل لم يبق فيه لأحد حجة أصبح الحساب عسيراً، فما لم يكن يحاسب عليه الصف لم يعد يتحمل من الصف ولم يعد يتساهل فيه، فيوم أحد انفصل ثلث الجيش ولم يحاسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ولم يعاقبه، ولكنه ههنا حاسب وعاقب كما فعل بكعب وزميليه، ذلك أنه لم يعد لأحد حجة، فالمعجزات كثيرة، والقيادة على مستوى ليس له مثيل، ونجاحاتها متلاحقة وآفاقها أرقى من كل أفق، ومن ههنا نأخذ درساً وهو أن الصف الإسلامي عندما يكون مريضاً أو ضعيفاً لا ينبغي أن يتشدد بالحساب وإنما عليه في هذه الحالة أن يعالج أزمة الثقة وأن يحسن التخطيط والانتقال من الطور الأدنى إلى ما هو أعلى. * من خلال غزوة تبوك ونزول سورة براءة فيها ندرك أن الجهاد هو المحك، فهو المحك لإيمان الأشخاص، وهو المحك لنضج الصف، وهو المحك للحالة التي وصلت إليها الأمة. * بغزوة تبوك نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصراع من داخل الجزيرة العربية إلى خارجها، وهي السياسة التي سيتابعها أبو بكر وعمر وعثمان حتى حدوث الفتنة. وهذه السياسة تحقق أكثر من هدف بآن واحد: شغل الناس بالعدو الخارجي، وفي الوقت نفسه تربية الصف وإنضاجه وتفتيح آفاقه من خلال الجهاد، فهناك رسالة لشعب يجب أن يؤديها. * توطد في السنة التاسعة سلطان الدولة الإسلامية وتأكد، وأصبحت سيطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزيرة العربية كاملة، وليس له من عدو إلا مطارداً. وبعد أن كان المسلمون أفراداً في بحار شرك أصبح المشركون جزراً صغيرة في بحار الإسلام، وهم محكومون بحكمه، مطاردون مستهدفون ممنوعون من الحج إلا بالإسلام. مجبرون على الإسلام ودفع الزكاة. وكل ذلك كان مقدمة لحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر ليجتمع بأكبر قدر من الناس في جزيرة العرب فيعلمهم ويربيهم ويصهرهم. * * *

السنتان العاشرة والحادية عشرة

السنتان العاشرة والحادية عشرة

أحداث هاتين السنتين في سطور

أحداث هاتين السنتين في سطور قلنا إن مرحلة ما بعد الفتح تكاد تكون واحدة متشابهة ومتشابكة: بعوث ووفود مع أحداث بارزة في كل من السنوات الثلاث التي أعقبت الفتح، فالمعلم البارز في السنة التاسعة هو غزوة تبوك، والمعلم البارز في السنة العاشرة هو حجة الوداع، والمعلم البارز في السنة الحادية عشرة هو وفاته عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي - لذلك جعلنا الحديث عن السنة العاشرة والحادية عشرة موصولاً؛ لأن العام العاشر للهجرة كان عام الترتيب لتسليم اللواء إلى من سيحملون راية الإسلام بعده عليه الصلاة والسلام. * * * وقد ذكر ابن كثير في أحداث السنة العاشرة بعض بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: بعث خالد وعلي بن أبي طالب وأبي موسى ومعاذ بن جبل، كما ذكر حجته وبعض التمهيدات التي قدمت لوفاته عليه الصلاة والسلام، وذكر في أحداث السنة الحادية عشر وفاته وما صاحب ذلك من ترتيباته عليه الصلاة والسلام للحاضر والمستقبل. وإذن ففي سنة عشر: * تتابعت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابع عليه الصلاة والسلام إرسال البعوث للدعوة إلى الله وتعليم الناس، وخاصة إلى اليمن. * وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العام حجة الوداع التي تسمى كذلك بحجة البلاغ وحجة الإسلام، وكانت أكبر ظاهرة في تاريخ جزيرة العرب، وأعظم تجمع للمسلمين وأكبر عملية صهر بالإسلام جماعية، وأروع عملية تعليم تتم من خلال الاختلاط والتوجيه والتعليم. * وكانت كثير من تصرفاته عليه الصلاة والسلام في هذا العام تدل على أنه مودع، فقد اعتكف في رمضان هذا العام عشرين يوماً وكان من عادته أن يعتكف عشراً فقط، ولقد دارسه جبريل القرآن في رمضان هذا مرتين، وكان من عادته أن يدارسه إياه مرة واحدة.

سنة إحدى عشرة

وفي سنة إحدى عشرة: * بعد العودة من الحج أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتب لما بعد وفاته، ومن ذلك إعداده جيش أسامة بن زيد لغزو الروم وقد كان ذلك في صفر، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الجيش يتجمع حول المدينة، وقد جعل مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يتريثون بالانطلاق نحو الهدف، حتى إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هذا الجيش جاهزاً للحركة وكانت حركته عنواناً على أن الدولة الإسلامية مستمرة. * وفي اليوم التاسع والعشرين من صفر سنة 11 هـ بدأ المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر المرض حتى حدثت الوفاة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هـ وله عليه الصلاة والسلام ثلاث وستون سنة وأربعة أيام على أرجح الأقوال، وصلى الناس عليه أرسالاً ولا يؤمهم أحد، ودفن في بيت عائشة رضي الله عنها الذي توفي فيه وصلى عليه أولاً عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان، ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً حتى دخلت ليلة الأربعاء فواروه فيها التراب بأبي هو وأمي. ونحن ههنا عاقدون عدة فصول: فصل: في نماذج من بعوث السنة العاشرة والحادية عشرة. فصل: في نماذج من وفود هاتين السنتين. فصل: في حجة الوداع. فصل: في حادثة الوفاة. ثم نقوم الوضع عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسنتكلم في الباب السادس عن أصحابه وخلفائه وأزواجه وآل بيته، وكيف أن الإسلام امتد واشتد ونما وترعرع وملأ الخافقين ببركة المؤسس وقوة التأسيس. * * *

فصل: في نماذج من البعوث

فصل: في نماذج من البعوث 1 - بعث خالد وعلي إلى اليمن قبل حجة الوداع: 698 - * روى البخاري عن أبي إسحاق السبيعي قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن. قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه فقال: مر أصحاب خالد: من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل، فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذوات عدد. 669 - * روى البخاري عن بريدة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس؛ وكنت أبغض علياً وقد أغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "يا بريدة أتبغض علياً؟ " فقلت: نعم. قال: "لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك". قال ابن حجر في الفتح: قوله (فإن له في الخمس أكثر من ذلك) في رواية عبد الجليل "فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل على في الخمس أفضل من وصيفة" وزاد "قال: فما كان أحد من الناس أحب إلي من علي" وأخرج أحمد هذا الحديث من طريق أجلح الكندي عن عبد الله بن بريدة بطوله وزاد في آخره "لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي، وأخرجه أحمد أيضاً والنسائي من طريق سعيد بن عبيدة عن عبد الله بن بريدة مختصراً وفي آخره "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد احمر وجهه يقول: من كنت وليه فعلي وليه" وأخرجه الحاكم من هذا الوجه مطولاً وفيه قصة الجارية نحو رواية عبد الجليل، وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، قال أبو ذر الهروي: إنما أبغض الصحابي علياً لأنه رآه أخذ من المغنم، فظن أنه غل، فلما أعلمه

_ 698 - البخاري (8/ 65) 64 - كتاب المغازي - 61 - بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع. أن يعقب: إذا غزا الإنسان، ثم ثنى من سنته مرة أخرى، قيل: قد عقب، ويقال: تعقيبة خير من غزوة. 699 - البخاري (8/ 66) 64 - كتاب المغازي - 61 - بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع.

2 - بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ أقل من حقه أحبه وهو تأويل حسن، لكن يبعده صدر الحديث الذي أخرجه أحمد فلعل سبب البغض كان لمعنى آخر وزال بنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن بغضه. وقد استشكل وقوع علي على الجارية بغير استبراء، وكذلك قسمته لنفسه، فأما الأول فمحمول على أنها كانت بكراً غير بالغ ورأى أن مثلها لا يستبرأ كما صار إليه غيره من الصحابة، ويجوز أن تكون حاضت عقب صيرورتها له ثم طهرت بعد يوم وليلة ثم وقع عليها وليس ما يدفعه، وأما القسمة فجائزة في مثل ذلك ممن هو شريك فيما يقسمه كالإمام إذا قسم بين الرعية وهو منهم، فكذلك من نصبه الإمام قام مقامه. وقد أجاب الخطابي بالثاني، وأجاب عن الأول لاحتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها، ويؤخذ من الحديث جواز التسري على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف التزويج عليها لما وقع في حديث المسور في كتاب النكاح. أ. هـ. 700 - * روى الترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشين وأمر على أحدهما علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال: "إذا كان القتال فعلي" قال: فافتتح علي حصناً فأخذ منه جارية، فكتب معي خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشي به، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فتغير لونه ثم قال: "ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله؟ " قال: قلت: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله وإنما أنا رسول، فسكت. 2 - بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن: 701 - * روى البخاري عن أبي بردة: قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: "واليمن مخلافان" ثم قال: "يسِّرا ولا تعسِّرَا، وبشِّرا ولا تنفِّرا". فانطلق كل واحد منهما إلى عمله،

_ 700 - الترمذي (4/ 207) 24 - كتاب الجهاد - 26 - باب ما جاء من يستعمل على الحرب، وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو كما قال. 701 - البخاري (8/ 60) 64 - كتاب المغازي - 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. المخلاف: في اليمن: كالرستاق، ولكل مخلاف في اليمن: اسم يعرف به. وهو كالمديرية أو المحافظة في الاصطلاح الحديث أيم هذا: أي: أي شيء هذا؟ فحذف ألف (ما) تخفيفاً.=

وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريباً من صاحبه أحدث به عهداً، فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس: أيم هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يقتل، قال: إنما جيء به لذلك، فانزل، قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل، ثم نزل، فقال: يا عبد الله، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقاً، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. 702 - * روى البخاري ومسلم. عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن فقال: "يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا وتطاوعا" فقال أبو موسى: يا نبي الله، إن أرضنا بها شراب من الشعير: المزر، وشراب من العسل: البتع. فقال: "كل مسكر حرام" فانطلقا. فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقاً. قال: أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي. وضرب فسطاطاً فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق. فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد. فقال معاذ: لأضربن عنقه. 703 - * روى الحاكم عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان معاذ بن جبل شاباً حليماً من أفضل شباب قومه، ولم يكن يمسك شيئاً، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله، كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم غرماؤه، فلو تركوا أحداً من أجل أحد لتركوا معاذاً من أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

_ = أتفوقه تفوقاً: أقرؤه شيئاً بعد شيء، ووقتاً بعد وقت، من فواق الناقة، وهو أن تحلبن ثم تترك ساعة حتى تدر، ثم تحلب. 702 - البخاري (8/ 62) 64 - كتاب المغازي - 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم نحوه (3/ 1586) 26 - كتاب الأشربة - 7 - باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام. 703 - المستدرك (3/ 273)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

ماله، حتى قام معاذ بغير شيء. وذلك سر إرسال معاذ إلى اليمن، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعل الله يرزقه بدل ماله رزقاً حسناً. 704 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب". وفي رواية لمسلم (1) عن ابن عباس عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ... وذكر الحديث بنحوه فيكون حينئذ من مسند معاذ. 705 - * روى البخاري عن عمرو بن ميمون رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقرأ معاذ في صلاة الصبح سورة النساء، فلما قال (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) (2) قال رجل خلفه: قرت عين أم إبراهيم. 706 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان

_ 704 - البخاري (8/ 64) 64 - كتاب المغازي - 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم (1/ 51) 1 - كتاب الإيمان - 7 - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. فإياك وكرائم أموالهم: اجتنب كرائم الأموال، وهي خيارها ونفائسها، وما يكرم على أصحابها ويعز عليهم، جمع كريمة، فلا تأخذه في الصدقة، وخذ الوسط، لا العالي ولا النازل الرديء. (1) مسلم (1/ 50) 1 - كتاب الإيمان - 7 - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. 705 - البخاري (8/ 65) 64 - كتاب المغازي - 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. (2) النساء: 125. 706 - البخاري (12/ 268) 88 - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتلهم - 2 - باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.

3 - بعث أبي عبيدة إلى اليمن

من الأشعريين، أحدهما عني ميني، والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال: "ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس -؟ " قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: "لن - أو لا - نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس - " فبعثه على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل. ثم ذكر قصة اليهودي الذي أسلم ثم ارتد، وزاد فيه: قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله" ثم قولهما في قيام الليل، وليس فيه ذكر الأشربة. 707 - رو الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فاستعمل أبو بكر رضي الله عنه عمر على الموسم، فلقي معاذاً بمكة، ومعه رقيق، فقال، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء أهدوا إلي، وهؤلاء لأبي بكر فقال له عمر: إني أرى لك أن تأتي بهم أبا بكر. قال: فلقيه من الغد. فقال: يابن الخطاب لقد رأيتني البارحة وأنا أنزو إلى النار، وأنت آخذ بحجزتي وما أراني إلا مطيعك، قال: فأتى بهم أبا بكر، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لك. قال: فإنا قد سلمنا هديتك. فخرج معاذ إلى الصلاة فإذا هم يصلون خلفه، فقال معاذ: لمن تصلون. قالوا: لله عز وجل. فقال: فأنتم له فأعتقهم. 3 - بعث أبي عبيدة إلى اليمن: 708 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد

_ = ومسلم (3/ 1456) 33 - كتاب الإمارة - 3 - باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها. قلصت: انضمت وانزوت. 707 - المستدرك (3/ 272)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. أنزو: أثب. بحجزتي: الحجزة: بالضم معقد الإزار من السراويل. 708 - المستدرك (3/ 267)، وقال: قد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث مختصراً في الصحيحين من حديث الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة، وقد خالفهما إسرائيل فقال: عن صلة بن زفر عن عبد الله وساق الحديث أتم مما عند الثوري وشعبة، فأخرجته؛ لأنه على شرطيهما. صحيح. وأقره الذهبي.

صاحبا نجران إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريدان أن يلاعناه فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقالا: بل نعطيك ما سألت وابعث معنا رجلاً أميناً حق أمين. قال: فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح" فلما قفى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا أمين هذه الأمة". وروى (1) عن أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن، فأخذ بيد أبي عبيدة، فأرسله معهم، وقال: "هذا أمين هذه الأمة". 709 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح". ولمسلم (3): أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة". 710 - * روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: "لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين حق أمين" فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح. وفي رواية الترمذي (5) قال: جاء العاقب والسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: ابعث معنا

_ (1) الحاكم في نفس الموضع السابق، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بذكر القرآن. وأقره الذهبي. 709 - البخاري (7/ 92) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 21 - باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. ومسلم (4/ 1881) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 7 - باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه. (3) مسلم في الموضع السابق. 710 - البخاري (7/ 93) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 21 - باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه. ومسلم واللفظ له في الموضع السابق. (5) الترمذي (5/ 667) 50 - كتاب المناقب - 33 - باب مناقب معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي، وأبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنهم. وقال: هذا حديث حسن صحيح. السيد: مقدم القوم وكبيرهم. والعاقب: هو الذي يخلفه ويكون من بعده.

أمينك، قال: "فإني سأبعث معكم ... وذكر الحديث. قال: وكان أبو إسحاق إذا حدث بهذا الحديث عن صلة بن زفر وهو الراوي عن حذيفة قال: سمعته منذ ستين سنة.

فصل: في نماذج من الوفود

فصل: في نماذج من الوفود 1 - وفد بني تميم: 711 - * روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني تميم أبشروا" فقالوا: بشرتنا فأعطنا. فتغير وجهه. فجاءه أهل اليمن، فقال: "يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لمي قبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا. قال في الفتح: قوله (فتغير وجهه) إما للأسف عليهم كيف آثروا الدنيا، وإما لكونه لم يحضره ما يعطيهم فيتألفهم له، أو لكل منهما. قوله (فجاءه أهل اليمن) هم الأشعريون قوم أبي موسى، وقد أورد البخاري حديث عمران هذا وفيه ما يستأنس به لذلك. ثم ظهر لي أن المراد بأهل اليمن هنا نافع بن زيد الحميري مع وفد معه من أهل حمير، وقد ذكرت مستند ذلك في "باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن" وأن هذا هو السر في عطف أهل اليمن على الأشعريين مع أن الأشعريين من جملة أهل اليمن، لما كان زمان قدوم الطائفتين مختلفا ولكل منهما قصة غير قصة الآخرين وقع العطف. 2 - قدوم الأشعريين وأهل اليمن: قال البخاري (1): وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم "هم مني وأنا منهم". 712 - * وروى أحمد والطبراني عن فيروز قال: إنهم أسلموا وكان فيمن أسلم، فبعثوا وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعتهم وإسلامهم، فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا:

_ 711 - البخاري (6/ 286) 59 - كتاب بدء الخلق - 1 - باب ما جاء في قوله تعالى [27: الروم] (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه). (1) ذكره البخاري معلقاً (8/ 96) 64 - كتاب المغازي - 74 - باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن. 712 - أحمد في مسنده (4/ 232). والطبراني نحوه في المعجم الكبير (18/ 331). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 406): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن فيروز، وهو ثقة.

3 - وفد عبد القيس

يا رسول الله نحن من قد عرفت، وجئنا من حيث قد علمت وأسلمنا، فمن ولينا قال: "الله ورسوله" قالوا: حسبنا رضينا. 713 - * روى البخاري عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان ها هنا - وأشار بيده إلى اليمن - والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل من حيث يطلع قرنا الشيطان ربيعة ومضر". 714 - * وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً. الإيمان يمان، والحكمة يمانية. والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم". 715 - * وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان يمان، والفتنة ها هنا؛ ها هنا يطلع قرن الشيطان. 716 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدة. الفقه يمان، والحكمة يمانية". قال في الفتح: قوله: (الإيمان ههنا وأشار بيده إلى اليمن) أي إلى جهة اليمن، وهذا يدل على أنه أراد أهل البلد لا من ينسب إلى اليمن ولو كان من غير أهلها. وقال: قوله: "أتاكم أهل اليمن" ترد قول من قال: إن المراد بقوله "الإيمان يمان" الأنصار وغير ذلك. 3 - وفد عبد القيس: 717 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله

_ 713 - البخاري (8/ 98) 64 - كتاب المغازي - 74 - باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن. 714 - البخاري في نفس الموضع السابق. 715 - البخاري في نفس الموضع السابق (8/ 99). 716 - البخاري في نفس الموضع السابق. 717 - البخاري (1/ 129) 2 - كتاب الإيمان - 40 - باب أداء الخمس من الإيمان. وأيضاً (1/ 183) 3 - كتاب العلم - 25 - باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان .... =

صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من الوفد؟ - أو - من القوم؟ " قالوا: ربيعة. قال: "مرحباً بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا الندامى". قال: فقالوا: يا رسول الله! إنا نأتيك من شقة بعيدة. وإن بيننا هذا الحي من كفار مضر. وإنا لا نستطيع ان نأتيك إلا في شهر الحرام. فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربع. ونهاهم عن أربع. قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده. وقال: "هل تدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاة. وصوم رمضان. وأن تؤدوا خمساً من المغنم" ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت. قال شعبة: وربما قال: النقير. قال شعبة: وربما قال: المقير. وقال: "احفظوه وأخبروا به من ورائكم". وقال أبو بكر في روايته: "من وراءكم" وليس في روايته المقير. وزاد مسلم في رواية عن ابن عباس (1): وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". قال في الفتح: والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان: إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "بيننا وبينك كفار مضر" وكان ذلك قديماً إما في سنة خمس أو

_ = ومسلم واللفظ له (1/ 47) 1 - كتاب الإيمان - 6 - باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين. غير خزايا ولا الندامى: أي أنه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد ولا أصابكم أسار ولا سباء ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه أو تذلون أو تهانون أو تندمون. الدباء: هو القرع اليابس، أي الوعاء منه. الحنتم: الواحدة حنتمة. وقد اختلف فيه. فأصح الأقوال وأقواها أنها جرار خضر. النقير: جذع ينقر وسطه. المقير: هو المزفت، وهو المطلي بالقار وهو الزفت. وقيل: الزفت نوع من القار. والصحيح الأول. وأما معنى النهي عن هذه الأربع فهو أنه نهى عن الانتباذ فيها، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليها الإسكار فيها. فيصير حراماً نجساً. أقول: وقد علق التحريم فيما بعد على الإسكار ونسخ ما سوى ذلك. (1) مسلم (1/ 48) 1 - كتاب الإيمان - 6 - باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين. الحلم: العقل. الأناة: التثبت وترك العجلة.

4 - وفد طيء

قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج وقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" كما أخرج ذلك مسلم من حديث أبي سعيد. وقال: وفي حديث هود بن عبد الله بن سعد العصري أنه سمع حده مزيدة العصري قال - بينما النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: "سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق" فقام عمر فتوجه نحوهم فلقي ثلاثة عشر راكباً فبشرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم فأخذوا يده فقبلوها، وتأخر الأشج في الركاب حتى أناخها وجمع متاعهم ثم جاء يمشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خصلتين ... " الحديث أخرجه البيهقي، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" مطولاً من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمه. ثانيتهما كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلاً كما في حديث أبي حيوة الصناحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته وأنه كان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه. ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم "ما لي أرى ألوانكم تغيرت" ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير. أ. هـ. 4 - وفد طيء: 718 - * روى البخاري عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلاً رجلاً ويسميهم. فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. فقال عدي: فلا أبالي إذاً. قال في الفتح: قوله (فقال عدي: فلا أبالي إذاً) أي إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي إذا قدمت علي غيري.

_ 718 - البخاري (8/ 102) 64 - كتاب المغازي - 76 - باب قصة وفد طيئ.

5 - وفد بني حنيفة

وأخرج مسلم (1) من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر فقال: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 5 - وفد بني حنيفة: 719 - * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس - وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد - حتى وقف على مسليمة في أصحابه فقال: "لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله. وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف عنه". 720 - * روى البخاري عن ابن عباس، قال: سألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك أرى الذي أريت فيه ما أريت" فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة". 721 - * وروى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه، ثم طفنا به. فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه شهر رجب. وروى أيضاً عنه قال (2): كنت يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً أرعى الإبل على أهلي،

_ (1) مسلم (4/ 1957) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 47 - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ. 719 - البخاري (8/ 89) 64 - كتاب المغازي - 70 - باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال. 720 - البخاري في نفس الموضع السابق. 721 - البخاري في نفس الموضع السابق (8/ 90). (2) البخاري في نفس الموضع السابق.

فائدة

فلما سمعنا بخروجه فرونا إلى النار، إلى مسيلمة الكذاب. قال في الفتح: قوله (كنت يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً أرعى الإبل على أهلين فلما سمعنا بخروجه فررنا إلى النار، إلى مسيلمة الكذاب) الذي يظهر أن مراده بقوله طبعث" أي اشتهر أمره عندهم، ومراده بخروجه أي ظهوره على قومه من قريش بفتح مكة، وليس المراد مبدأ ظهوره بالنبوة ولا خروجه من مكة إلى المدينة لطول المدة بين ذلك وبين خروج مسيلمة، ودلت القصة على أن أبا رجاء كان من جملة من بايع مسيلمة من قومه بني عطارد ابن عوف بن كعب بطن من بني تميم، وكان السبب في ذلك أن سجاحا بفتح المهملة وتخفيف الجيم وآخره حاء مهملة وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة أيضاً فتابعها جماعة من قومها، ثم بلغها أمر مسيلمة فخادعها إلى أن تزوجها واجتمع قومها وقومه على طاعة مسيلمة. اهـ/ ثم أسلم أبو رجاء. فائدة: ذكر ابن سعد في طبقاته أخبار اثنين وسبعين وفداً وهي: وفد مزينة ... وفد سلامان ... وفد بارق وفد أسد ... وفد جهينة ... وفد دوس وفد بني عبد بن عدي ... وفد كلب ... وفد ثمالة والحدان وفد كندة ... وفد جرم ... وفد أسلم وفد تميم ... وفد تجيب ... وفد جذام وفد أشجع ... وفد خولان ... وفد مهرة وفد الصدف ... وفد جعفي ... وفد حمير وفد عبس ... وفد صداء ... وفد نجران وفد باهلة ... وفد مراد ... وفد جيشان وفد خشين ... وفد زبيد ... وفد السباع وفد فزارة ... وفد جعدة ... وفد الأزد وفد مرة ... وفد قشير بن كعب ... وفد غسان

وفد ثعلبة ... وفد بني البكاء ... وفد الحارث بن كعب وفد محارب ... وفد كنانة ... وفد همدان وفد سعد بن بكر ... وفد سليم ... وفد سعد العشيرة وفد كلاب ... وفد هلال بن عامر ... وفد عنس وفد رؤاس بن كلاب ... وفد عامر بن صعصعة ... وفد الداريين وفد عقيل بن كعب ... وفد ثقيف ... وفد الرهاويين حي من مذحج وفد شيبان ... وفود ربيعة: عبد القيس ... وفد غامد وفد طيء ... وفد بكر بن وائل ... وفد النخع وفد سعد هذيم ... وفد تغلب ... وفد بجيلة وفد بلي ... وفد حنيفة ... وفد خثعم وفد بهراء ... وفد أزد عمان ... وفد الأشعريين وفد عذرة ... وفد غافق ... وفد حضر موت إن قصص الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها من الأهمية بالمكان الكبير وكُتَّاب السير أشبعوها بحثاً وتحقيقاً غير أن كتابنا هذا قد التزم شروطاً لا يسعنا أن نذكر معها كل تحقيقات كتاب السير. ولكنا نلفت النظر إلى أن تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الوفود هو من أعظم المظاهر لسياسات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودقته في الترتيب والتنظيم ومعرفة النفسية البشرية وحسن التعامل معها إلى غير ذلك مما يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف وبعد النظر وجمع القلوب على الغاية وربط أفراد بأعيانهم بالمركز بحيث تبقى في كل الظروف والأحوال مرتكزات قوية للإسلام إلى غير ذلك من مظاهر العظمة التي تعطي للعاملين في كل الحقول نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وإدارياً وسياسياً وعسكرياً تعطي لكل عامل في جانب من هذه الجوانب دروساً تكفيه وتغنيه. ونلفت النظر إلى أهمية أن يتتبع القارئ أخبار هذه الوفود في كتب السير والمغازي. * * *

فصل: في حجة الوداع

فصل: في حجة الوداع 722 - * روى الترمذي عن قتادة قال: سألت أنساً رضي الله عنه: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة، إذ قسم غنيمة حنين. وفي رواية البخاري ومسلم (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلها في ذي القعدة، إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية - أو زمن الحديبية - في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة في حجته. 723 - * روى البخاري عن زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وإنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها: حجة الوداع. قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى. قال ابن حجر في الفتح: قوله (قال أبو إسحاق (2): وبمكة أخرى) هو موصول بالإسناد المذكور، وغرض أبي إسحاق أن لقوله "بعد ما هاجر" مفهوماً، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حج، ولكن اقتصاره على قوله أخرى قد يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة، وليس كذلك بل حج قبل أن يهاجر مراراً، بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط، لأن قريشاً في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي

_ 722 - الترمذي (3/ 170) 7 - كتاب الحج - 6 - باب ما جاء: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟. وقد قدمنا رواية الترمذي على رواية البخاري ومسلم؛ لأنها أصرح في موضوع الباب. (1) البخاري (3/ 600) 26 - كتاب العمرة - 3 - باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟. ومسلم (2/ 916) 15 - كتاب الحج 35 - باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن. 723 - البخاري (8/ 107) 64 - كتاب المغازي - 77 - باب حجة الوداع. (2) أقول: قد يكون معنى قول أبي إسحاق: (وبمكة أخرى) أي: وبمكة حججاً أخرى، فأخرى تكون صفة لمفرد وجمع.

امتازوا بها على غيرهم من العرب فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفاً بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية كما بينته في الهجرة إلى المدينة. أهـ. 724 - * روى مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته - قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة - حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (1) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول (أي والد جعفر بن محمد) - ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد) و (قل يا أيها

_ 724 - مسلم (2/ 886) 15 - كتاب الحج - 19 - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. واستثفري: استثفار الحائض: هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته على وسطها، ليمتنع الدم أن يجري ويقطر. القصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن قصواء، لأن القصواء هي المقطوعة الأذن. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به: يعني زاد بعضهم: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والفضل منك وإليك، لبيك لا شريك لك لبيك ... وأمثال ذلك. (1) البقرة: 125.

الكافرون) ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) (1) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله/ وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ثم دعا بين ذلك - قال مثل هذا ثلاث مرات - ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه علا على المروة فقال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة" فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا، بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته: أني أنكرت ذلك عليها فقال: "صَدَقَتْ صَدَقتْ، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: "فإن معي الهدي فال تحل" قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في

_ (1) البقرة: 158. صبيغاً: ثوب صبيغ، أي: مصبوغ، فعيل بمعنى: مفعول. محرشاً: التحريش: الإغراء، ووصف ما يوجب عتاب المنقول عنه وتوبيخه.

الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلبن فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ ". قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق

_ = دم ابن ربيعة بن الحارث: أصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر. بكلمة الله: كلمة الله: هي قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة: 229]. لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهون: معناه: أن لا يأذن لأحد من الرجال أن يتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، لا يرون ذلك عيباً، ولا يعدونه ريبة، إلى أن نزلت آية الحجاب، وليس المراد بوطء الفراش: نفس الزنا، لأن ذلك محرم على الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان ذلك كذلك لم يكن الضرب فيه ضرباً غير مبرح، إنما كان فيه الحد، والضرب المبرح: هو الضرب الشديد. ينكتها: نكت إصبعه: أمالها إلى الناس، يريد بذلك: أن يشهد الله عليهم. الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. الحبال: التل اللطيف من الرمل الضخم. شنق زمام ناقته: إذا جمعه إليه، كفاً لها عن السرعة في المشي.

للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس، السكينة، السكينة" كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلواً فشرب منه.

_ = مورك الرحل: ما يكون بين يدي الرحل، يضع الراكب رحله عليه، يقال: ورك وورك، مخففاً ومثقلاً. ولم يسبح بينهما: السبحة: الصلاة، وقيل: هي النافلة من الصلاة، أي: لم يصل بينهما سنة. وسيماً: رجل وسيم: له منظر جميل. ظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، والهودج أيضاً يسمى: ظعينة. حرك: سنة من سنن السير في ذلك الموضع، يسرع الماشي ويحرك الراكب قدر رمية حجر. الجمرة التي عند الشجرة: هي الجمرة الكبرى وهي جمرة العقبة. حصى الخذف: حصى صغار بحيث يمكن أن يرمى بإصبعين. ما غبر: الغابر الباقي. البضعة: القطعة من اللحم. انزعوا: النزع: الاستقاء.

وفي رواية: بنحو هذا، وزاد (1)، وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض له، حتى أتى عرفات فنزل. وفي أخرى (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا، وجمع كلها موقف". ولأبي داود (3) عند قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قال: فقرأ فيهما: بالتوحيد و (قل يا أيها الكافرون) وقال فيه: قال علي بالكوفة: قال أبي: هذا الحرف لم يذكره جابر، يعني: فذهبت محرشاً ... وذكر قصة فاطمة. وأخرج النسائي من الحديث أطرافاً متفرقة في كتابه (4)، وقد ذكرناها. قال محمد: أتينا جابراً فسألناه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة" وقدم علي من اليمن بهدي، وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة هدياً، وإذا فاطمة قد لبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، قال علي: فانطلقت محرشاً أستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن فاطمة قد لبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، وقالت: أمرني أبي، قال: "صدقت صدقت صدقت، أنا أمرتها". وله في موضومع ىخر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع حجج، ثم أذن في الناس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج هذا العام، فنزل المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفعل كما فعل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة،

_ (1) مسلم (2/ 892) 15 - كتاب الحج - 19 - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (2) مسلم (2/ 893) 15 - كتاب الحج - 20 - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف. جمع: مزدلفة. (3) أبو داود (2/ 187)، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (4) انظر النسائي (5/ 147 وما بعدها)، كتاب المناسك.

وخرجنا معه، قال جابر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فخرجنا لا ننوي إلا الحج. وله في موضع آخر قال: إن علياً قدم من اليمن بهدي، وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة هدياً، فقال لعلي: "بم أهللت"؟ قال: قلت: اللهم إني أهللت بما أهل به رسول الله، ومعي الهدي، قال: "فلا تحل إذاً". وله في موضع آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى ذا الحليفة صلى وهو صامت، حتى أتى البيداء. وفي موضع آخر: قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج، فلم يبق أحد يريد أن يأتي راكباً أو راجلاً إلا قدم، فتدارك الناس ليخرجوا معه، حتى حاذى ذا الحليفة، وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب ثم أهلي، ففعلت". وفي موضع آخر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق هدياً في حجته. وفي موضع آخر قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد، فاستلم الحجر، ثم مضى عن يمينه، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم أتى المقام، فقال: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى البيت بعد الركعتين فاستلم الحجر، ثم خرج إلى الصفا. وفي موضع آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد وهو يريد الصفا، وهو يقول: نبدأ بما بدأ الله به، ثم قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله). وفي موضع آخر: قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رقي على الصفا، حتى إذا نظر إلى البيت كبر. وفي موضع آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" يصنع

_ = تدارك الناس: الإدراك: اللحوق، تدارك القوم: تلاحقوا: لحق أولهم آخرهم.

ذلك ثلاث مرات ويدعو، ويصنع على المروة مثل ذلك. وفي موضع آخر: قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت سبعاً: رمل منها ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قام عند المقام، فصلى ركعتين، وقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ورفع صوته ليسمع الناس: ثم انصرف فاستلم، ثم ذهب، فقال: "نبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا، رقي عليه حتى بدا له البيت، وقال ثلاث مرات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وكبر الله وحمده ثم دعا بما قدر له، ثم نزل ماشياً حتى تصوبت قدماه في بطن المسيل، فسعى حتى صعدت قدماه، ثم مشى حتى أتى المروة، فصعد فيها، حتى بدا له البيت: فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". قال: ثلاث مرات، ثم ذكر الله وسبحه وحمده، ودعا بما شاء، فعل هذا حتى فرغ من الطواف. وفي موضع آخر: قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، ووجد القبة قد ضربت له بنمرة، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس، ثم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. وفي موضع آخر: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف". وفي موضع آخر قال: "المزدلفة كلها موقف". وفي موضع آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، فأردف الفضل بن عباس، حتى أتى محسراً، حرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، بمثل حصى الخذف، ورمى من بطن الوادي. وزاد في طرف آخر: ثم انصرف إلى المنحر فنحر. وفي موضع آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بعض بدنه بيده، ونحر بعضه غيره.

725 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس، إلا المزعفرة التي تردع على الجلد. فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنته، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بدنه، لأنه قلدها. ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون، وهو مهل بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة. وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال، والطيب والثياب. 726 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً. 727 - * وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: "هذه عرفة، وهذا هو الموقف، وعرفة كلها موقف" ثم أفاض حين غربت الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وجعل يشير بيده على هينته والناس يضربون يميناً وشمالاً يلتفت إليهم، ويقول: "يا أيها الناس، عليكم السكينة" ثم أتى جمعاً فصلى بهم الصلاتين جميعاً، فلما أصبح أتى قزح، فوقف عليه، وقال: "هذا قزح، وهو الموقف، وجمع كلها موقف"، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر، فقرع ناقته، فخبت حتى جاوز الوادي، فوقف وأردف الفضل، ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر،

_ 725 - البخاري (3/ 405) 25 - كتاب الحج - 23 - باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر. ترجل: الترجيل: تسريح الشعر. تردع: ثوب رديع، أي صبيغ، وقد ردعته بالزعفران، والمراد: الذي يؤثر صبغه في الجسد، فيصبغه من لونه. 726 - الترمذي (3/ 201) 7 - كتاب الحج - 31 - باب ما جاء في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة نهاراً. وسنده صحيح. 727 - الترمذي (3/ 223) 7 - كتاب الحج - 54 - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف. وقال: حديث علي حديث حسن صحيح. جمع: مزدلفة. الصلاتين جميعاً: المغرب والعشاء. قزح: موقف الإمام بمزدلفة.=

فقال: "هذا المنحر، ومني كلها منحر" واستفتته جارية شابة من خثعم، قالت: إن أبي شيخ كبير، قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: "حجي عن أبيك" قال: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شاباً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما" ثم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إني أفضت قبل أن أحلق؟ قال: "احلق أو قصر ولا حرج" قال: وجاء آخر فقال: يا رسول الله، إني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج" قال: ثم أتى البيت فطاف به، ثم أتى زمزم، فقال: "يا بني عبد المطلب، لولا أن يغلبكم الناس عليه لنزعت". 728 - * روى البخاري عن ابن عمر كان يبعث بهديه من جمع من آخر الليل، حتى يدخل به منحر النبي صلى الله عليه وسلم مع حجاج، فيهم الحر والمملوك. 729 - * روى أبو داود عن رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. 730 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر - وهو بمنى -: "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر" - يعني بذلك: المحصب - وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب (وهو صحيح) - أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

_ = لنزعت: لاستقيت معكم، ولكنه خشي أن يستن به الناس فيغلبوا بني عبد المطلب على هذا الشرف. 728 - البخاري (3/ 552) 25 - كتاب الحج - 116 - باب النحر في منحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى. 729 - أبو داود (2/ 198)، كتاب المناسك، باب أي وقت يخطب يوم النحر، وإسناده قوي. 730 - البخاري (3/ 453) 25 - كتاب الحج - 45 - باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة. ومسلم نحوه (2/ 952) 15 - كتاب الحج - 59 - باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر، والصلاة به. حيث تقاسموا على الكفر: يعني حصار الشعب.

وفي رواية (1): أنه قال - حين أراد قدوم مكة -: "منزلنا غداً إن شاء الله: بخيف بني كنانة." .. الحديث. 731 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به. 732 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم فإذا هبطت الأكمة فمرها فلتحرم فإنها عمرة متقبلة". 733 - * روى الترمذي عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم: شك شعبة - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". 734 - * روى الطبراني والحاكم عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقمت، ثم قام فقال: "كأني قد دعيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" ثم قال: "إن الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن" ثم أخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فقلت لزيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.

_ (1) البخاري (3/ 452) 25 - كتاب الحج - 45 - باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة. 731 - البخاري (3/ 590) 25 - كتاب الحج - 144 - باب طواف الوداع. 732 - المستدرك (3/ 477). وقوى إسناده الذهبي. 733 - الترمذي (5/ 633) 50 - كتاب المناقب - 20 - باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 734 - الطبراني في المعجم الكبير (5/ 166). والحاكم مطولاً في المستدرك (3/ 109). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. وسكت عنه الذهبي. وهو صحيح.

أقول: هذا هو الحديث المشهور بحديث غدير خم - وهو مكان بين مكة والمدينة - الذي بنى عليه الشيعة مذهبهم الباطل في أن الخلافة في علي وذريته بما لا يحتمله نص الحديث، وقد كان ذلك مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحج. وقوله عليه الصلاة والسلام "من كنت مولاه فعلي مولاه" ثابت في نصوص كثيرة حتى ذهب السيوطي إلى تواتره. 735 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر كان إذا صدر من الحج والعمرة أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان ينيخ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى للبخاري (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة صلى في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات بها. * * *

_ 735 - البخاري مطولاً (3/ 592) 25 - كتاب الحج - 148 - باب النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة إذا رجع من مكة. ومسلم (2/ 981) 15 - كتاب الحج - 77 - باب التعريس بذي الحليفة، والصلاة بها إذا صدر من الحج أو العمرة. الصدر: رجوع المسافر من مقصده. (1) البخاري (3/ 391) 25 - كتاب الحج - 15 - باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة.

فصل: في وفاته عليه الصلاة والسلام

فصل: في وفاته عليه الصلاة والسلام 736 - * روى الدارمي عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب". 737 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وفي أخرى قال (3): أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، فمكث ثلاث عشرة، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم. 738 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين. قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب بمثله. 739 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين. 740 - * روى الدارمي عن العباس رضي الله تعالى عنه: لأعلمن ما بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا. فقال: يا رسول الله إني رأيتهم قد آذوك وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشاً تكلمهم منه، فقال: "أزال بين أظهرهم يطؤون عقبي وينازعوني ردائي، حتى يكون الله

_ 736 - الدارمي (1/ 40)، المقدمة، باب في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن لشواهده. 737 - البخاري (7/ 227) 63 - كتاب مناقب الأنصار. 45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. ومسلم (4/ 1826) 43 - كتاب الفضائل - 33 - باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة. (3) البخاري (7/ 162) 63 - كتاب فضائل الأنصار - 28 - باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم نحوه (4/ 1826) 43 - كتاب الفضائل - 33 - باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة. 738 - البخاري (8/ 150) 64 - كتاب المغازي - 85 - باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم نحوه (4/ 1826) 43 - كتاب الفضائل - 33 - باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة. 739 - مسلم في نفس الموضع السابق. 740 - الدارمي (1/ 35)، المقدمة، باب في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ورجاله رجال الصحيح.

هو الذي يريحني منهم" قال: فعلمت أن بقاءه فينا قليل. 741 - * روى أحمد عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته. فلما فرغ قال: "يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري" فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: "إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا". 742 - * روى الطبراني والبزار عن العباس بن عبد المطلب قال: رأيت في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان شداد، فقصصت ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ذاك وفاة ابن أخيك". 743 - * روى أبو داود عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين، وعائدين، ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا. فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه

_ 741 - أحمد في مسنده (5/ 235) بإسنادين. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 22)، رواه أحمد بإسنادين، ورجال الإسنادين رجال الصحيح غير راشد بن سعد وعاصم بن حميد، وهما ثقتان. 742 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 23)، وقال: رواه البزار والطبراني، ورجالهما ثقات. تنزع: النزع: الجذب والقلع. أشطان: جمع شطن، والشطن: الحبل، وقيل هو الطويل منه. 743 - أبو داود (4/ 200)، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، وإسناده صحيح. والترمذي نحوه (5/ 44) 42 - كتاب العلم - 16 - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ولكنه لم يذكر الصلاة، وفي آخره تقديم وتأخير. قال ابن الأثير شارحاً غريب الحديث: مقتبسين: الاقتباس في الأصل: أخذ القبس من النار، وأراد به: الأخذ من العلم والأدب. ذرفت: العين تذرف: إذا دمعت. وجلت: وجل القلب يوجل: إذا خاف وفزع. والوجل: الفزع.

موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". 744 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم، فأدخله معهم، قال: فما رئيت أنه دعاني يومئذ، إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح) (1) فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا،

_ = تعهد: عهد إليه بكذا يعهد: إذا أوصى إليه. الراشدين: الراشد: اسم فاعل من رشد يرشد، ورشد يرشد رشداً، وهو خلاف الغي، وأرشدته أنا: إذا هديته. المهديين: المهدي: الذي قد هداه الله إلى الحق، هداه يهديه فهو مهدي، والله هاديه. وإن عبداً حبشياً: أي: أطع صاحب الأمر، واسمع له، وإن كان عبداً حبشياً، فحذف "كان" وهي مرادة. وعضوا عليها بالنواجذ: النواجذ: الأضراس التي بعد الناب، جمع ناجذ، وهذا مثل في شدة الاستمساك بالأمر، لأن العض بالناجذ عض بمعظم الأسنان التي قبلها والتي بعدها. الهدي: بفتح الهاء وسكون الدال: الطريقة والسيرة. محدثات الأمور: ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع. بدعة: الابتداع: إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وهو تكوين الأشياء بعد أن لم تكن، وليس ذلك إلا إلى الله تعالى، فأما الابتداع من المخلوقين، فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهو في حيز الذم والإنكار، وإن كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه أو رسوله، فهو في حيز المدح، وإن لم يكن مثاله موجوداً، كنوع من الجود والسخاء، وفعل المعروف، فهذا فعل من الأعمال المحمودة لم يكن الفاعل قد سبق إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: "من سن سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضده: من سن سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" (أخرجه مسلم 2/ 705) وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيز المدح، سماها بدعة ومدحها، وهي - وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها - إلا أنه تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس عليها، فمحافظة عمر عليها، وجمعه الناس لها، وندبهم إليها، بدعة، لكنها بدعة محمودة ممدوحة. قاله ابن الأثير. 744 - البخاري (8/ 734) 65 - كتاب التفسير - 4 - باب قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً). (1) النصر: 1.

وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: (إذا جاء نصر الله والفتح) وذلك علامة أجلك (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) (1) فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. وفي رواية (2) أن عمر كان يدني ابن عباس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناء مثله، فقال عمر: إنه من حيث تعلم، فسأل عمر ابن عباس عن هذه الآية (إذا جاء نصر الله والفتح) قال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي أخرى (3): أن عمر سألهم عن قوله: (إذا جاء نصر الله والفتح) قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: يا ابن عباس، ما تقول؟ قال: أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم، نعيت إليه نفسه. 745 - * روى الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يكثر أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك" قال: إني أمرت فقرأ (إذا جاء نصر الله والفتح). 746 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن الله تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد. قال ابن حجر: قوله (إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته) كذا للأكثر: وفي رواية أبي ذر "إن

_ (1) النصر: 3. (2) الترمذي (5/ 450) 48 - كتاب تفسير القرآن - 91 - باب "ومن سورة النصر". (3) البخاري (8/ 734) 65 - كتاب التفسير - 4 - باب قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً). 745 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 23)، وقال: رواه الطبراني في الصغير، ورجاله رجال الصحيح. 746 - البخاري (9/ 3) 66 - كتاب فضائل القرآن. 1 - باب كيف نزل الوحي؟ وأول ما نزل. ومسلم نحوه (4/ 2312) 54 - كتاب التفسير.

الله تابع على رسوله الوحي قبل وفاته" أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا وكثر سؤالهم عن الأحكام فكثر النزول بسبب ذلك. ووقع لي سبب تحديث أنس بذلك من رواية الدراوردي عن الإمامي عن الزهري "سألت أنس ابن مالك: هل فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ قال: أكثر ما كان وأجمه" أورده ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. قوله (حتى توفاه أكثر ما كان الوحي) أي الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة قوله (ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد) فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله "حتى توفاه الله"، وهذا الذي وقع أخيراً على خلاف ما وقع أولاً، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السور الطوال إلا القليل، ثم بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولاً بالسبب المتقدم. 747 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم" فأولوه على أنه نعى نفسه إليهم، وعرفهم ما يحدث لهم بعده من تمني لقائه عند فقدهم ما كانوا يشاهدون من بركاته عليه السلام. قال النووي: وتقدير الكلام يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعاً. ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ومشاهدته حضراً وسفراً للتأدب بآدابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته. ومنه قول عمر رضي الله عنه ألهاني عنه الصفق بالأسواق أ. هـ. 748 - * روى البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج وهو بين الرجلين

_ 747 - مسلم (4/ 1836) 43 - كتاب الفضائل - 39 - باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنيه. 748 - البخاري (8/ 141) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

تخط رجلاه في الأرض، بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قال، قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي. وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس" فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه من تك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. وفي رواية (1): قالت: أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له .. الحديث. 749 - * روى الدارمي عن عائشة قالت: رجع إلي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني، وأنا أجد صداعاً، وأنا أقول: وا رأساه. قال: "بل أنا يا عائشة وا رأساه" قال: "وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك" فقلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك، لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه. 750 - * روى أحمد عن أسماء بنت عميس قالت: أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في

_ = أوكيتهن: الأوكية: الأربطة. المخضب: وعاء كبير تغسل فيه الثياب ويسميه العامة في بلادنا اليوم طبقاً. (1) البخاري بنحوه (6/ 210) 57 - كتاب فرض الخمس - 4 - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وما نسب من البيوت إليهن. مسلم واللفظ له (1/ 312) 4 - كتاب الصلاة - 21 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس. اشتكى: مرض. 749 - الدارمي (1/ 37)، المقدمة، باب في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وابن ماجه بعضه (1/ 470) 6 - كتاب الجنائز - 9 - باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها. وعلق المحقق لابن ماجه بقوله في الزوائد: رجاله ثقات، ورواه البخاري من وجه آخر مختصراً. 750 - أحمد في مسنده (6/ 438). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 33)، رواه أحمد، ورجاله ثقات.

بيت ميمونة فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، فتشاور نساؤه في لده فلدوه، فلما أفاق قال: "ما هذا؟ " فقلنا: هذا فعل نساء جئن من ههنا، وأشار إلى أرض الحبشة. وكانت أسماء بنت عميس فيهن، قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله. قال: "إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقذفني به، لا يبقين في البيت أحد لا يلد إلا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني العباس: قالت لقد التدت ميمونة يومئذ وإنها لصائمة لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر رزين (1) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقد لي لواء في مرضه الذي مات فيه، وبرزت بالناس فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيته يوماً، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده علي ويرفعها، فعرفت أنه كان يدعو لي، فلما بويع لأبي بكر، كان أول ما صنع، أمر بإنفاذ تلك الراية التي كان عقدها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان سألني في عمر: أن أتركه له، ففعلت. وفي رواية الترمذي (2) قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت، وهبط الناس المدينة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصمت فلم يتكلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يديه علي ويرفعهما، فأعرف أنه يدعو لي. 751 - * روى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى. ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" قالت: ففعلنا: ففعلنا. فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلى الله عليه وسلم:

_ = اللدود: بالفتح: من الأدوية ما يسقاه المريض في أحدش قي الفم. (1) أوردها ابن الأثير في جامع الأصول (10/ 26)، وقال: هذه الرواية ذكرها رزين. برزت بالناس: البروز: الخروج. (2) الترمذي (5/ 677) 50 - كتاب المناقب - 41 - باب مناقب أسامة بن زيد، رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 751 - البخاري (2/ 172) 10 - كتاب الأذان - 51 - باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. ومسلم (1/ 311) 4 - كتاب الصلاة - 21 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس.

"أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق فقال: "أصلى الناس" فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة - فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر - وكان رجلاً رقيقاً - يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك. فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين - أحدهما العباس - لصلاة الظهر، وابو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، قال: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد، قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: هات. فعرضت عليه حديثها. فما أنكر منه شيئاً، غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي. 752 - * روى مالك والبخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس. فقالت عائشة: فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس. ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً.

_ 752 - مالك في الموطأ (1/ 170) 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر - 24 - باب جامع الصلاة. والبخاري (2/ 164) 10 - كتاب الأذان - 46 - باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.

753 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة: قالت: لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر. 754 - * روى أبو داود عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال: لما استعز بالنبي صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده في نفر من المسلمين - دعاه بلال إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا من يصلي بالناس" فخرج عبد الله بن زمعة، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر، قم فصل، فتقدم فكبر، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته - وكان عمر رجلاً مجهراً - قال: "فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون"، فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس. زاد في رواية (1) قال: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر قال ابن زمعة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال: "لا، لا، لا، ليصل بالناس ابن أبي قحافة" قال ذلك مغضباً.

_ 753 - البخاري (8/ 140) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. ومسلم (1/ 313) 4 - كتاب الصلاة - 21 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس. 754 - أبو داود (4/ 215)، كتاب السنة، باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه. وهو حديث حسن. استعز: بالمريض: إذا غلب على نفسه من شدة المرض، وأصله من العزة، وهي الغلبة والاستيلاء على الشيء. مجهراً: رجل مجهر، أي: صاحب جهر ورفع لصوته، يقال: جهر الرجل صوته وأجهر: إذا عرف بالجهر، فهو جاهر ومجهر. يأبى الله ذلك والمسلمون: فيه نوع دلالة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، لأن هذا القول يعلم منه: أن المراد به ليس نفي جواز الصلاة خلف عمر، كيف وهي جائزة خلف غيره من آحاد المسلمين ممن هو دون عمر؟ وإنما أراد به الإمامة التي هي الخلافة والنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال فيه: "يأبى الله ذلك والمسلمون". وعلى أنه يجوز أن يكون أراد بهذا القول: أن الله يأبى والمسلمون أن يتقدم في الصلاة أحد على جماعة فيهم أبو بكر، حيث هو أكبرهم قدراً ومنزلة وعلماً. (1) أبو داود (4/ 215)، كتاب السنة، باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه.

755 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنصار كرشي وعيبتي، وإن الناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". وفي رواية للبخاري (1) قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". 756 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: "أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع: فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم".

_ 755 - البخاري (7/ 121) 63 - كتاب مناقب لاأنصار - 11 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". ومسلم واللفظ له (4/ 1949) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 43 - باب من فضائل الأنصار، رضي الله تعالى عنهم. كرشي وعيبتي: أراد بقوله: الأنصار كرشي وعيبتي، أي: موضع سري وأمانتي، فاستعار الكرش والعيبة، لأن المجتر يجمع غلفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في غيبته، قال الهروي: قال أبو عبيد: يقال: عليه كرش من الناس، أي: جماعة، كأنه أراد: جماعتي وصحابتي الذين بهم أثق، وعليهم أعتمد. يقلون: يعني الأنصار. (1) البخاري (7/ 120) 53 - كتاب مناقب الأنصار - 11 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". 756 - مسلم (1/ 348) 4 - كتاب الصلاة - 41 - باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. فقمن: قمن: جدير وخليق.

وفي رواية (1): كشف الستر، ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال "اللهم هل بلغت؟ - ثلاث مرات - إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح، أو ترى له ... " ثم ذكر مثله. 757 - * روى البزار عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة، قالوا: يا رسول الله: أوصنا، قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين، وبأبنائهم من بعدهم، وبأبنائهم من بعدهم، وبأبنائهم من بعدهم، إن لا تفعلوا، لا يقبل منكم صرف، ولا عدل". 758 - * روى البزار عن أنس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه متوكئاً على أسامة مرتدياً بثوب قطن فصلى بالناس. 759 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "إن الله عز وجل خير عبداً بين الدنيا، وبين ما عنده. فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر". وعند الترمذي (5): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إن عبداً خيره الله

_ (1) مسلم (1/ 348) 4 - كتاب الصلاة - 41 - باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. 757 - البزار كشف الأستار (3/ 292) مجمع الزوائد (10/ 17) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار إلا أنه قال: أوصيكم بالسابقين الأولين، وبأبنائهم من بعدهم، ثلاث مرات. ورجاله ثقات. صرف: التوبة أو النافلة. عدل: الفدية أو الفريضة. 758 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 49)، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. 759 - البخاري (7/ 12) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 3 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر". ومسلم نحوه (4/ 1854) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (5) الترمذي (5/ 608) 50 - كتاب المناقب - 15 - باب حدثنا محمد بن عبد الملك. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده". فقال أبو بكر: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا. قال: فعجبنا، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أني ؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، وهو يقول، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". وفي رواية مسلم (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". قال النووي: وفيه فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه. وفيه أن المساجد تصان عن تطرق الناس إليها في خوخات ونحوها إلا من أبوابها إلا لحاجة مهمة. 760 - * روى مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".

_ = زهرة الدنيا: زينتها ومتاعها، وما هو محبوب إلى النفوس من موجوداتها. (1) مسلم (4/ 1854) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. الخوخة: منفذ يكون بين منزلين يجعل عليه باب. 760 - مسلم (1/ 377) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.

وفي رواية (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار. سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر". 761 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده" فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا" قال عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. وفي رواية قال (2): "قوموا عني، فلا ينبغي عندي التنازع" فخرج ابن عباس وهو يقول: إن الرزية كل الرزية: ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. وفي أخرى قال (3): قال ابن عباس: يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى. فقلت: يا ابن عباس! وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه. فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي" فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع. وقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه. قال: "دعوني. فالذي أنا فيه خير. أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". قال: وسكت عن الثالثة. أو قالها فأنسيتها.

_ (1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 42)، وقال: رواه عبد الله في زياداته على المسند ورجاله ثقات. اللغط: الشجة واختلاف الأصوات. 761 - البخاري (8/ 132) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. ومسلم (3/ 1259) 25 - كتاب الوصية - 5 - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. (2) البخاري (1/ 208) 3 - كتاب العلم - 39 - باب كتابة العلم. الرزية: المصيبة التي تنزل بالإنسان من الشدائد. (3) البخاري (8/ 132) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. ومسلم (3/ 1257) 25 - كتاب الوصية - 5 - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.

762 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين - وهم صفوف في الصلاة - كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم. فنكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر، فتوفي من يومه. وفي رواية (1) لهما عن أنس: قال: لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب، فلم يقدر عليه حتى مات. 763 - * روى أحمد وابن ماجه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه.

_ = أهجر: الهجر بالفتح نطق المريض بما لم يفهم. أجيزوا الوفد: الوفد: الذين يقصدون الملوك في طلب حوائجهم ويأتونهم في مهماتهم، وإجازتهم: إعطاؤهم الجائزة، وهي ما يعطون من العطاء والصلة. 762 - البخاري (2/ 164) 10 - كتاب الأذان - 46 - باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. ومسلم (1/ 315) 4 - كتاب الصلاة - 21 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس. (1) البخاري في الموضع السابق. ومسلم نحوها في الموضع السابق. 763 - أحمد في مسنده (6/ 311). وابن ماجه (1/ 519) 6 - كتاب الجنائز - 64 - باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المعلق على ابن ماجه: في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين. قال السندي: قوله (الصلاة): أي الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفلوا عنها (وما ملكت أيمانكم) من الأموال أي أدوا زكاتها ولا تسامحوا فيها وهذا هو الموافق لقران الصلاة، فإن المتعارف في عرف القرآن والشرع قرانهما ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء أي أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم، فإن المتبادر من لفظ ما ملكت الأيمان في عرف القرآن هم العبيد والإماء، قوله (حتى ما يفيض بها لسانه) أي ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه من فاض

764 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم". 765 - * روى أحمد عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت: عدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة بعد غداة يقول: "جاء علي" مراراً، قالت: وأظنه كان بعثه في حاجة: قالت: فجاء بعد فظننت أن له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند البيت، وكنت من أدناهم إلى الباب فأكب عليه علي فجعل يساره ويناجيه ثم قبض صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك، وكان أقرب الناس به عهداً. 766 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً. 767 - * روى ابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "وددت أن عندي بعض أصحابي" قلنا: يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر فسكت قلنا ألا

_ = الماء إذا سال وجرى حتى لم يقدر على الإفصاح بهذه الكلمة. 764 - البخاري (8/ 131) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. أبهري: الأبهر: عرق متصل بالقلب اتصالاً مباشراً. 765 - أحمد في مسنده (6/ 300). والطبراني مختصراً في المعجم الكبير (23/ 375). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 112): رواه أحمد وأبو يعلى، إلا أنه قال فيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قبض في بيت عائشة، والطبراني باختصار ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى، وهي ثقة. والذي أحلف به: تعني الله عز وجل، وغرضها بذلك أن ما ستذكره حصل يقيناً بغير شك. فأكب عليه علي: أي مال برأسه عليه ولازمه. فجعل يساره ويناجيه: أي يحدثه سراً. أقرب الناس به عهداً: تعني علياً رضي الله عنه. 766 - البخاري (8/ 142) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. 767 - ابن ماجه (1/ 42) في المقدمة - 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المعلق على ابن ماجة: في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

ندعو لك عمر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عثمان؟ قال "نعم" فجاء فخلا به، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ووجه عثمان يتغير قال قيس: فحدثني أبو سهلة مولى عثمان أن عثمان بن عفان قال يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً فأنا صائر إليه، وقال علي في حديثه: وأنا صابر عليه قال قيس: فكانوا يرونه ذلك اليوم. أقول: الظاهر أن قول علي إنما كان بعد ما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم عما يجري عليه وهذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم استدعاه وأسر إليه بما يجري عليه كما أخبر عثمان. 768 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه! فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟. وفي رواية النسائي (1): أن فاطمة بكت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات، فقالت: يا أبتاه، من ربه ما أدناه؟ يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه؟. 769 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك. فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قال فقلت: ذلك، أن لك أجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها".

_ 768 - البخاري (8/ 149) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. (1) النسائي (4/ 13)، كتاب الجنائز، باب في البكاء على الميت. 769 - البخاري (10/ 111) 75 - كتاب المرضى. 3 - باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. ومسلم واللفظ له (4/ 1991) 45 - كتاب البر والصلة والآداب - 14 - باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض وحزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها. إنك لتوعك وعكاً شديداً: الوعك: قيل هو الحمى، وقيل: ألمها ومغثها، وقد وعك الرجل يوعك فهو موعوك.

770 - * وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 771 - * وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً". وفي رواية (1): فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل أخذت بيده، لأنصع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي، ثم قال: "اللهم اغفر لي، واجعلني مع الرفيق الأعلى" قالت: فذهبت أنظر: فإذا هو قد قضى. وفي رواية (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي، يقول: "امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت". 772 - * روى مالك والبخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت: فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها.

_ 770 - البخاري (10/ 110) 75 - كتاب المرضى - 2 - باب شدة المرض. ومسلم نحوه (4/ 1990) 45 - كتاب البر والصلة والآداب - 14 - باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض وحزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها. 771 - البخاري (10/ 206) 76 - كتاب الطب - 38 - باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم نحوه (4/ 1722) 39 - كتاب السلام - 19 - باب استحباب رقية المريض. (1) البخاري (10/ 206). ومسلم (4/ 1722). الرفيق الأعلى: أراد: الملائكة ومجاورتهم ومرافقتهم. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. 772 - مالك في الموطأ (2/ 942) 50 - كتاب العين - 4 - باب التعوذ والرقية من المرض. والبخاري (9/ 62) 66 - كتاب فضائل القرآن - 14 - باب فضائل المعوذات. ومسلم (4/ 1723) 39 - كتاب السلام - 20 - باب رقية المريض بالمعوذات والنفث. ينفث: النفث: أقل ما يبزق الإنسان.

773 - * وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا - أو يخير" فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة، غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى" فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح. 774 - * وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" فعلمت أنه خُيِّر. 775 - * روى الحاكم عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنه تلا قول الله عز وجل: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) (1)، ثم قال: حدثتني عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعني على سكرات الموت". 776 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه، يقول: "أين أنا غداً" - يريد يوم عائشة - فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم

_ 773 - البخاري (8/ 136) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. ومسلم (4/ 1894) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 13 - باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها. شخص بصره: شخوص البصر: ارتفاع الأجفان إلى فوق وتحديد النظر. 774 - البخاري (8/ 255) 65 - كتاب التفسير - 13 - باب: (أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين). ومسلم (4/ 1893) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 13 - باب في فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها. 775 - المستدرك (2/ 465)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. (1) ق: 19. 776 - البخاري (8/ 144) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

الذي كان يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله عز وجل وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن. فأعطانيه، فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري. وعنها في رواية (1): توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري. وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: "في الرفيق الأعلى" ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستناً، ثم ناولنيها، فسقطت يده - أو سقطت من يده - فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة. وفي أخرى نحوه، إلا أنه قال (2): قالت: دخل عبد الرحمن بسواك، فضعف النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأخذته، فمضغته، ثم سننته به. وفي رواية (3): دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: "أن نعم" فتناوله، فاشتد عليه، قلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه: "أن نعم" فلينته، فأمره وبين يديه ركوة، أو علبة يشك عمر - فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيسمح بهما وجهه، يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" ثم نصب يده، فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ومالت يده.

_ سحر: السحر: الرئة، وأرادت: أنه مات عندها في حضنها. يستن: الاستنان: التسوك بالسواك. (1) البخاري (8/ 144) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. جريدة: الأصل أن الجريدة هي سعفة من سعف النخل، والمراد بها هنا: قطعة من السعفة تستعمل كالسواك. (2) البخاري (6/ 210) 57 - كتاب فرض الخمس - 4 - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وما نسب من البيوت إليهن. (3) البخاري (8/ 144) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم، ووفاته. ركوة: وعاء من جلد. والعلبة: وعاء من جلد يحلب منه.

تعليق

وفي أخرى (1): قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم. 777 - * روى الترمذي وابن ماجه عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا. تعليق: قوله: (وما نفضناعن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا): فيه رد على من ادعى أن حال الصحابة ورقيهم الروحي وغيره لا يفسر بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسهم، وهو قول انتشر في هذا العصر. ويكفي في رده قوله جل جلاله في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويزكيهم) (2) كما أن في هذا الحديث ما يدل على أن الرقي القلبي منوط بالاجتماع مع أهل الحق والارتباط الروحي فيهم ومن ههنا نؤكد على الانتساب للعلماء العاملين والربانيين المخلصين، ونؤكد على الأخذ منهم ومجالسة الصالحين من عباد الله. 778 - * روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما توفي رسول الله

_ (1) البخاري في نفس الموضع السابق. حاقنتي وذاقنتي: الحاقنة: ما سفل من البطن، والذاقنة: طرف الحلقوم الناتئ، وقيل: الحاقنة: المطمئن من الترقوة والحلق، والذاقنة: نقرة الذقن. 777 - الترمذي (5/ 588) 50 - كتاب المناقب - 1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث غريب صحيح. وابن ماجه واللفظ له (1/ 522) 6 - كتاب الجنائز - 65 - باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم. والحاكم نحوه مختصراً في المستدرك (3/ 57)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وهو حديث حسن. قال السندي: قوله أضاء منها: أي من المدينة. وما نفضنا: أي ما خلصنا من دفنه. أنكرنا قلوبنا: أي ما وجدناها على الحالة السابقة. ومعلوم أن البيت يصير مظلماً إذا أبعد عنه السراج. (2) البقرة: 129. والجمعة: 2. 778 - المستدرك (3/ 57)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

صلى الله عليه وآله وسلم، عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص، فقالت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 779 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو بكر - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. قال النووي: فيه زيارة الصالحين، وزيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه، وزيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها، واستصحاب العالم والكبير صاحباً له في الزيارة والعيادة ونحوهما، والبكاء حزناً على فراق الصالحين والأصحاب، وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه. والله أعلم. أ. هـ. 780 - * روى البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله قال: قالت عائشة رضي الله عنها في حديثها: أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقدمتها. قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، فقال: اجلس، فأبى، فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو

_ 779 - مسلم (4/ 1907) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 18 - باب من فضائل أم أيمن، رضي الله عنها. 780 - البخاري (3/ 113) 23 - كتاب الجنائز - 3 - باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه.

بكر رضي الله عنه، فمال إليه الناس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) إلى (الشاكرين) (1) فوالله، لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما بشر إلا يتلوها. 781 - * روى الحاكم عن عمر بن الخطاب، قال: لما تلاها أبو بكر عقرت حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات. 782 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وأبو بكر بالسنح قال إسماعيل: - تعني بالعالية - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وارجلهم. فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله فقال: بأبي أنت طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده: لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج، فقال: أيها الحالفن على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن

_ (1) آل عمران: 144. 781 - المستدرك (2/ 295)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة. وأقره الذهبي. لما تلاها: أي آية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .....). عقرت: عقر الرجل عقراً: بقي مكانه لم يتقدم أو يتأخر، لفزع أصابه، كأنه مقطوع الرجل. 782 - البخاري (7/ 19) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". فنشج: النشيج: تردد صوت الباكي في صدره من غير انتحاب. سقيفة: صفة لها سقف والمراد بها هنا المحل الذي يجتمع فيه أهل دائرة ما، للسهر والسمر والمداولة، ويسمى أمثاله في بعض البلاد العربية - الديوانية -. (2) الزمر: 30.

يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} (1). قال: فنشج الناس يبكون. قال: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير، ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر، لا والله، لا نفعل، منا أمير، ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب داراً، وأعزهم أحساباً - فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله. 783 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه، حتى طال علي فكلته، ففني. وفي رواية الترمذي (2)، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا شطر من شعير،

_ (1) آل عمران: 144. قتلتم سعد بن عبادة: أي بالازدحام على البيعة وطئتم سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان مريضاً أتي به في فراشه حتى كدتم تقتلونه. قتله الله: يعني عمر رضي الله عنه الدعاء عليه، لأن سعداً يريد بطلبه الخلافة تفريق كلمة المسلمين الذين لا يجتمعون إلا على رجل من قريش فهو مخطئ خطأ عظيماً في رأيه، يستحق معه الدعاء عليه. قال العيني: ليس المراد من قول عمر: اقتلوه حقيقة القتل بل المراد الإعراض عنه وخذلانه، وهو دعاء عليه لعدم نصرته للحق ومخالفته للجماعة، لأنه تخلف عن البيعة وخرج من المدينة ولم ينصرف إليها إلى أن مات بالشام. 783 - البخاري (6/ 209) 57 - كتاب فرض الخمس - 3 - باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. ومسلم (4/ 2283) 53 - كتاب الزهد والرقائق - حديث 27. شطر شعير: قال في الفتح: الشطر البعض ويطلق على النصف ويقال: أرادت نصف وسق، وفسره بعضهم شيئاً من شعير. (2) الترمذي (4/ 643) 38 - كتاب صفة القيامة - 31 - باب حدثنا هناد. قال: هذا حديث صحيح.

فأكلنا منه ما شاء الله، ثم قلت للجارية: كلية فكالته فلم يلبث أن فني، قالت: فلو كنا تركناه لأكلنا منه أكثر من ذلك. 784 - * روى الحاكم عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء مبلداً وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين. 785 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: والله لا ندري، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه، كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله تبارك وتعالى عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت - لا يدرون من هو -: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. 786 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. وفي رواية (1): قالت: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية، كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، وكفِّن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة، ولا قميص، فرفع عبد الله الحلة، فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكفن فيها، قال: فتصدق بها. وفي أخرى نحوه (2)، وزاد: أما الحلة، فإنما شُبِّه على الناس فيها، إنها اشتريت ليكفن

_ 784 - المستدرك (2/ 608)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 785 - أبو داود (3/ 196)، كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله. وإسناده صحيح. 786 - البخاري (3/ 135) 23 - كتاب الجنائز - 18 - باب الثياب البيض للكفن. ومسلم مطولاً واللفظ له (2/ 649) 11 - كتاب الجنائز - 13 - باب في كفن الميت. سحولية: سحول: قرية باليمن تنسب إليها الثياب. ... الكرسف: القطن. (1) مسلم (2/ 650) 11 - كتاب الجنائز - 13 - باب في كفن الميت. (2) مسلم في نفس الموضع السابق.

فيها، فتركت الحلة، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية فأخذها عبد الله بن أبي بكر، فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها. وفي أخرى لهما (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين توفي - سجي ببرد حبرة. وفي رواية الترمذي (2): فذكروا لعائشة قولهم، في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتي بالبرد ولكنهم ردوه، ولم يكفنوه فيه. 787 - * روى أبو داود عن عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، والفضل، وأسامة بن زيد، وهم أدخلوه في قبره، قال: وحدثني مرحب - أو ابن أبي مرحب - أنهم أدخلوا عبد الرحمن بن عوف، فلما فرغ علي، قال: إنما يلي الرجل أهله. وفي رواية عن الشعبي عن أبي مرحب (3): أن عبد الرحمن بن عوف نزل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كأني أنظر إليهم أربعة. وفي رواية ذكرها رزين قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، والفضل ومعهما العباس، وأسامة بن زيد، وهم أدخلوه قبره، وكان معهم في الغسل ابن عوف ورجل من الأنصار، فلما فرغوا قال علي: إنما يلي الرجل أهله، قال عبد الرحمن: كأني أنظر إلى الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، أحدهم: أنصاري. 788 - * وروى مالك رحمه الله أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم

_ (1) البخاري (10/ 267) 77 - كتاب اللباس - 18 - باب البرود والحبر والشملة. ومسلم نحوه (2/ 651) 11 - كتاب الجنائز - 14 - باب تسجية الميت. (2) الترمذي (3/ 312) 8 - كتاب الجنائز - 20 - باب ما جاء في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 787 - أبو داود (3/ 213)، كتاب الجنائز، باب كم يدخل القبر. (3) أبو داود (3/ 213)، كتاب الجنائز، باب كم يدخل القبر، وهو مرسل صحيح. 788 - مالك في الموطأ (1/ 231) 16 - كتاب الجنائز - 10 - باب ما جاء في دفن الميت. وهو صحيح لغيره. قال ابن عبد البر: لا أعلمه يروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالك هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث شتى.

الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء، وصلى الناس عليه أفذاذاً، لا يؤمهم أحد. فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه" فحفر له فيه. فلما كان عند غسله أرادوا نزع قميصه، فسمعوا صوتاً يقول: لا تنزعوا القميص، فلم ينزع القميص، وغسل وهو عليه صلى الله عليه وسلم. 789 - * روى الترمذي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما قبض رسول الله وغسل، اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته قال: "ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه" ادفنوه في موضع فراشه. 790 - * روى مالك عن عروة بن الزبير قال: كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، والآخر يشق، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد، فلحد له. 791 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال في مرضه الذي هلك فيه: الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصبا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. 792 - * روى الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جعل تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفن قطيفة حمراء.

_ = أفذاذاً: الأفذاذ: جمع فذ، وهو المنفرد. 789 - الترمذي (3/ 329) 8 - كتاب الجنائز - 33 - باب حدثنا أبو كريب. وهو حديث حسن لغيره. 790 - مالك في الموطأ (1/ 231) 16 - كتاب الجنائز - 10 - باب ما جاء في دفن الميت. وإسناده صحيح، ولكنه مرسل. وابن ماجه نحوه موصولاً عن أنس بن مالك (1/ 496) 6 - كتاب الجنائز - 40 - باب ما جاء في الشق. قال المعلق على ابن ماجه: في الزوائد: في إسناده مبارك بن فضالة، وثقه الجمهور، وصرح بالتحديث، فزال تهمة تدليسه وباقي رجال الإسناد ثقات، فالإسناد صحيح. 791 - مسلم (2/ 665) 11 - كتاب الجنائز - 29 - باب في اللحد ونصب اللبن على الميت. 792 - الترمذي (3/ 356) 8 - كتاب الجنائز - 55 - باب ما جاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر. وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي عن ابن عباس كراهة ذلك. والنسائي واللفظ له (4/ 81)، كتاب الجنائز، باب وضع الثوب في اللحد.

793 - * روى البخاري عن أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنماً. 794 - * روى الحاكم عن عروة أن أبا بكر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد، ودفن ليلاً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها. 795 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه قال: غسَّلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً صلى الله عليه وآله وسلم. 796 - * روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ولم يقم. ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد. وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر معناه. * * *

_ 793 - البخاري (3/ 255) 23 - كتاب الجنائز - 69 - باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. مسنماً: تسنيم القبر ضد تسطيحه، والسنم: المرتفع، وكل شيء علا شيئاً فقد تسنمه، ومنه سنام الجمل. 794 - المستدرك (3/ 65). وصححه الذهبي. 795 - المستدرك (3/ 59)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 796 - الدارمي (1/ 44)، في المقدمة، باب ما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعد موته، وسنده صحيح. يوم الحرة: هو اليوم الذي استبيحت فيه المدينة المنورة زمن يزيد بن أبي سفيان. همهمة: ترديد الصوت في الصدر.

نظرة عامة على أحداث السنتين العاشرة والحادية عشرة

نظرة عامة على أحداث السنتين العاشرة والحادية عشرة 1 - وصلت الأمة في هاتين السنتين إلى مرحلة النضج وكان ذلك يقتضي لمسات أخيرة، وكانت من علامة النضج أن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة بعده أن تسير من خلال شوراها، ومن أهم اللمسات التي احتاجتها مرحلة الإنضاج إشارته إلى الرجل المؤهل بعده، وإزالة كل ما يمكن أن يستند إليه المغرضون، وإيجاد التطلع نحو العمل الخارجي من خلال بعث أسامة. 2 - وسع عليه الصلاة والسلام في هاتين السنتين دائرة التلقي المباشر منه من خلال استقباله الوفود ومن خلال رحلة الحج، فأوجد قاعدة عريضة تحمل دعوته وقد تلقت عنه مباشرة، وكان لذلك أكبر الأثر في أن تبقى رحى الإسلام دائرة وإلى الأبد. 3 - عندما تنجح الدعوات الصادقة يتوضع على هامشها دعوات كاذبة، ولقد بدأت دعاوى النبوة تظهر في أخريات حياته عليه الصلاة والسلام، فظهر مسيلمة الكذاب في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن في السنة العاشرة، وقد أهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركز على اليمن، ولذلك فقد كفاه أهل اليمن في النهاية هذا الخبيث أما الخبيث الآخر فجاءته جند الله بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وأنهته، وهناك متنبآن آخران طليحة الأسدي وسجاح، وكلاهما مات على الإسلام بعد ذلك، ولكن بعد أن استطاع الجيل الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقهر الردة وأهلها. 4 - وبقدر ما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام حيوية في القلوب بفضل الله، فقد كان هناك تيار معاكس - هو تيار الردة - ينتظر الفرصة للظهور. وما أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر هذا التيار على أشده، جامعاً كل أولئكم الذين لم يدخل الإسلام إلى قلوبهم والذين قطعت هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نياط قلوبهم، فأسلموا لأنه لم يكن أمامهم إلا أن يسلموا. فبدأ صراع جديد بين التيارين، تيار الإيمان الصادق وتيار الجهل الماحق، وتغلب تيار الإيمان. وهذا وحده كاف للدلالة على أن قوة التأسيس كانت أكبر من كل قوة أخرى، وذلك توفيق الله أولاً وأخيراً، وفيه يظهر ما أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من خيرات وبركات.

5 - في غزوات بدر وأحد والخندق وخيبر والفتح وحنين أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل تخوف عند أصحابه ضد الجاهلية العربية أو ضد أي وجود على الأرض العربية. وفي غزوة تبوك أوجد عليه الصلاة والسلام الجرأة عند أصحابه على اقتحام غمرات الصراع مع الدول الكبرى فكان أن حمل الراية الأصحاب بعده فأنهوا الردة بسرعة، ودخلوا في صراع مباشر ضد الدولتين العظميين وقتذاك فارس والروم. 6 - ولم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أوجد سوابق حركية في كل جانب من الجوانب التي تتطلبها الحركة الإسلامية: دعوياً، وتربوياً، وثقافياً، وتعليمياً، وجهادياً. لقد كانت السوابق على منتهى الجلال، فسجلت أرفع التضحيات وأعلى أنواع القدوة، ولذلك كانت الحركة عند الجيل الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعصابه ودمه، ولذلك ذاب جيل الصحابة في هذا العالم وأعطى هذا الإسلام دفعة الحياة إلى قيام الساعة، لقد جدد جيل الصحابة عملية السيطرة على الجزيرة العربية ثم انساح في البلاد انسياحاً حقق غرضين بآن واحد: لم يعط فرصة للثأر الجاهلي أن يظهر، ولم يعط فرصة لخصم خارجي أن يتدبر أمره. ومع هذا وهذا كانت حركة الصهر تستمر للعناصر الإسلامية الجديدة من خلال حركية الدعوة والقدوة والتعليم والجهاد، وكانت العملية من الضخامة بحيث أفلت منها بعض الأمور التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة الكبرى ولكن يشفع لذلك عظم التوجه وضخامة الإنجاز. كانت العيون متوجهة كلها نحو معركة الإسلام، فأتي الصف من داخله، ولكن حيوية الانطلاق كانت أكبر من كل شيء فلم تعصف الفتنة بالإسلام ولكن أخرت مسيرته. 7 - إن حدوث الردة على هذه الضخامة بعده، ثم ضخامة الفتنة بعد ذلك في زمن عثمان رضي الله عنه دليلان على تفرد قيادته عليه الصلاة والسلام، فالردة بعد وفاته تشير إلى أن هيبته عليه الصلاة والسلام استحوذت على القلوب فأمسكتها، والفتنة بعده تشير إلى أن سياسته عليه الصلاة والسلام هي أرقى السياسات، فمهما كانت عظمة السائسين بعده فالأمر ليس كما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، ثم انتقلت الخلافة الراشدة بعده إلى ملك

عضوض ومع ذلك بقي المسرى العام محفوظاً. 8 - انظر ماذا حدث أثناء نبوته، وماذا فتح الله على يد المسلمين بعده إلى يومنا هذا، دعوياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً وتشريعياً وغير ذلك، نجد شيئاً هائلاً تعرف من خلاله أن الأمر رباني، وتعرف أنه ليس كرسول الله صلى الله عليه وسلم في مجموع ما أعطاه الله عز وجل. إن القيادة الناجحة هي التي تعرف أهدافها فتسير نحو تحقيق الأهداف سيراً متلاحقاً متكاملاً وتصل إلى الهدف، وإذا كانت الأهداف بعيدة فهي تستطيع أن تعطي الراية لغيرها ليستمروا بها. وهذا يقتضي في الإطار الأضيق: تخطيطاً وتدريباً ومتابعة وتنفيذاً ودفعاً نحو الأمام. فإذا ما كان الهدف مادياً كان لذلك وسائله، فإذا كان الهدف يحتاج إلى تربية فالأمر أوسع، فإذا كان الهدف يشمل الدنيا والآخرة فالأمل أكبر من ذلك بكثير. حاول أن تتذكر ملامح التخطيط في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ملامح التدريب، ثم ملامح المتابعة، ثم ملامح التنفيذ، ثم ملامح الدفع نحو الأمام. ثم انظر إلى الجانب التعليمي والتربوي. ثم انظر إلى ما يعتبره الناس انتصاراً سياسياً مجرداً ثم انتصاراً عسكرياً مجرداً ثم وثم ... وانظر قوة البناء وكثرة المتمردين عليه والمتربصين به، وكيف استعصى هذا البناء عليهم واعرف لجيل البناة فضلهم، وإنا بعد البابين الرابع والخامس سنتحدث عن جيل البناة الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في الباب الذي نتحدث فيه عن دوائر شرف حول الرسول صلى الله عليه وسلم. * * *

رقم الإيداع: 2872/ 89 الترقيم الدولي: 4 - 24 - 1471 - 977

الباب الرابع في الصفات والخصائص والشمائل

الباب الرابع في الصفات والخصائص والشمائل

تقديم

تقديم ألف في موضوع هذا الباب الكثيرن، بل كُتب في كل جانب فيه كتب، ونحن في هذا الباب سنتخير أمهت ماورد فيه، معتمدين على أن تفصيلات كثيرة سترد في هذا الكتاب؛ حيث الموضوع الأكثر لصوقاً بالنص. والسيرة النبوية هي المظهر التطبيقي لنصوص الكتاب والسنة، تحوي كل شيء، فما من موضوع حياتي يخطر بالبال إلا وتستطيع استخراج نصوص تتحدث عنه، وأي موضع تريد أن تكتب فيه بحثاً تستطيع أن تستخرج له من مجموع النصوص الكثير، الموزع في سياقات متعددة، ولذلك استطاع الباحثون أن يتوسعوا في كل موضوع طرقوه، أما ونحن نريد عرض السنة النبوية باختصار فلا يسعنا إلا أن نلحق كل نص في الموضوع الذي هو أكثر لصوقاً به وهذا الذي سنفعله في هذا الباب إن شاء الله. إنك لو أردت أن تستخرج صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصائصه، من الكتاب والسنة، فإنك ستجد نصوصاً كثيرة تستخرج منها خصيصة أو صفة، وهذا ليس الهدف الوحيد لنا في هذا الكتاب، فمن ثم تركنا الاستقصاء، ولكن ما تركناه هنا سيأتي معنا في سياقات أخرى. ومن تأمل صفاته، وخصائصه، وشمائله عليه الصلاة والسلام لم يشك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد توسعنا في هذا الموضوع في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) في باب الصفات، وكيف أن صفاته وحدها تدل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً؛ فلقد رزقه الله عز وجل الكمالات الجسمية، والنفسية، والخلقية، والسلوكية؛ فكان محمداً صلى الله عليه وسلم أي المتصف بصفة المحمودية في الأرض والسماء. فمحمّد اسم مفعول مشتق من الفعل المضعف (حمّد)، فمن حيث نظرت إليه وجدته محمداً في الدنيا، والآخرة، في العقل أو في القيادة، في السياسة أو في الحرب، في الدين أو في الدنيا، في العزلة أو في المخالطة، في المعاملة أو في المفاصلة، في المجادلة أو المجاولة، في المداراة أو التأديب.

إنه الكمال مجسداً، وليس الكمال المتوهّم، بل الكمال الحقيقي في كل شيء، فعواطفه كمالات كاملات، وتصرفته كمالات كاملات، وبيانه كمال كامل، وهو كلك زوج وأب، وقائد وقاضٍ، ومعلم ومؤدب ومبلغ وحكيم: مهما أشاد الواصفون بوصفه ... فسناه فوق مكانةِ الإمكان وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف * * *

أولا: نصوص قرآنية في بعض الخصائص والشمائل النبوية

أولاً: نصوص قرآنية في بعض الخصائص والشمائل النبوية 1 - منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (2) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (3) {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} (5) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (6) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (7) 2 - شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (8) {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (9)

_ (1) الأحزاب: 56. (2) الضحى: 1 - 5. (3) الإسراء: 79. (4) الإسراء: 1. (5) الفتح: 1 - 3. (6) الأنفال: 33. (7) النساء: 79. (8) الكوثر: 1. (9) النساء: 166.

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1). {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2). {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3). {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} (4). {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5). 3 - أخذ الميثاق على النبيين بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (6). ولهذا قال علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهم: ما بعث الله نبياً من الأنبياء- من لدن نوح- إلا أخذ ميثاقه، ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم - ولينصرنه - إن خرج وهم أحياء. ذكره الطبري في تفسيره. 4 - عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (7). {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (8).

_ (1) الفتح: 28. (2) يس: 1 - 4. (3) الأحزاب: 40. (4) الأحزاب: 45 - 47. (5) المائدة: 15، 16، وفسر بعضهم (النور) في الآية بأنه (محمد) صلى الله عليه وسلم. (6) آل عمران: 81. (7) سبأ: 28. (8) الأنبياء: 107.

5 - حتمية الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وما يلزم ذلك وعاقبة المعاندين: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (1). {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (2). {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (3). {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (4). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5). {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6). {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (7). {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (8). {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9). {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (10). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (11).

_ (1) الأعراف: 158. (2) آل عمران: 32. (3) الحديد: 7. (4) لحجرات: 15. (5) النساء: 126. (6) آل عمران: 132. (7) النساء: 80. (8) النساء: 14. (9) آل عمران: 31. (10) الفتح: 10. (11) الصف: 10، 11.

6 - إخلاصه صلى الله عليه وسلم في عبادته لربه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1). {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2). {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (3). 7 - امتنان الله عز وجل على الأمة ببعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4). {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5). {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6). 8 - رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7). {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (8).

_ (1) الأنعام: 14. (2) الأنعام: 162، 163. (3) الزمر: 11، 12. (4) آل عمران: 164. (5) الجمعة: 2. (6) الحجرات: 17. (7) التوبة: 128. (8) الأحزاب: 6.

9 - الأمر بتبليغ الدعوة وتكفل الله برعايته صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1). {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (2). {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} (3). {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (4). {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (5). 10 - أدب المسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (7). {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (8).

_ (1) المائدة: 67. (2) الأنفال: 64. (3) المائدة: 41. (4) الطور: 48. (5) الحجر: 94، 95. (6) الحجرات: 2 - 5. (7) المجادلة: 12، 13. (8) الأحزاب: 53.

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1). 11 - شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة يوم القيامة: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2). {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (3). 12 - معرفة أهل الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (4). {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ...} (5). {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...} (6).

_ (1) النور: 63. (2) النحل: 89. (3) الحج: 78. (4) الفتح: 29. (5) البقرة: 89. (6) الأعراف: 157.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1). 13 - رد القرآن على بعض افتراءات خصوم الإسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (2). {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3). {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} (4). {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (5). {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (6). {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7).

_ (1) البقرة: 146. (2) النجم: 2 - 18. (3) الحاقة: 38 - 41. (4) الطور: 29. (5) القلم: 1 - 4. (6) يس: 69. (7) التوبة: 61.

ثانيا: نصوص حديثية في الخصائص والشمائل النبوية

ثانياً: نصوص حديثية في الخصائص والشمائل النبوية 797 - * روى البخاري ومسلم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك؛ أنه سمعه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآذم. ولا بالجعد القططِ ولا بالسبط. بعثه الله على رأس أربعين سنة. فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين. وتوفاه الله على رأس ستين سنة. وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. أقول: مر معنا أنه عليه الصلاة والسلام توفي وهو في الثالثة والستين، فكلمة أنس ههنا أنه توفي عرى رأس ستين يمثل علمه وليس هو واقع الحال، وكذلك لبثه في مكة بعد النبوة عشر سنين، فمن المعلوم أنه بقي في مكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة. 798 - * روى البزار عن أبي هريرة أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رجلاً ربعةً وهو إلى الطول أقربُ، شديد البياض، أسود اللحية، حسن الشعر، أهدب أِفار العينين، بعيد مابين المنكبين، يطأ بقدمه جميعاً، ليس له أخمص، يُقبِل جميعاً، ويدبر جميعاً، لم أر مثلهً قبله ولا بعدهُ. 799 - * روى أحمد والبزار عن عائشة أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكرٍ رضي الله عنه يقضي:

_ 797 - البخاري (6/ 564) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم واللفظ له (4/ 1824) 43 - كتاب الفضائل - 31 - باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه، وسنه. ليس بالطويل البائن: أي المفرط الطول، أي هو بين زائد الطول والقصير. الأمهق: الكريه البياض كلون الجص. يريد أنه كان نير البياض. الآدم: الشديد السمرة. القطط: الشديد الجعودة. 798 - كشف الأستار (3/ 123). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 280): رواه البزار، ورجاله وثقوا. رَبْعَة: الوسيط القامة، أشفار العينين: أي طويل شعر العينين، ليس له أخمص: الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض عند الوطء. 799 - أحمد في مسنده (1/ 7) والبزار نحوه: كشف الأستار (2/ 134)، وقال: إسناده حسن.

وأبيض يستسقي الغمامُ بوجهه ... ربيعُ اليتامى عصمة للأرامل فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك والله رسول الله صلى الله عليه وسلم. 800 - * روى أحمد عن يزيد الفارسي قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم زمن ابن عباس وكان يزيدُ يكتبُ المصاحف قال: فقلت لابن عباس: إني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، قال ابن عباس: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي فمن رآني في النوم فقد رآني" فهل تستطيع أنْ تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: نعم رأيت رجلاً بين الرجلين جسمهُ، ولحمه أسمرُ إلى البياض، حسنُ المضحك أكحلُ العينين، جميل دوائر الوجه قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كادت تملأ نحرهُ. قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت فقال ابن عباس: لو رأيتهُ في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا. 801 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، شَثْنُ الكفين والقدمين، ضخم الرأس واللحية، مُشربٌ حمرة، ضخم الكرادس طويل المسرُبة إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما يمشي ينحطُّ من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم. 802 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليعَ

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 372): رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات. 800 - أحمد في مسنده (1/ 361)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 272): رواه أحمد، ورجاله رجال ثقات. 801 - المستدرك (2/ 606)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الألفاظ. شثن الكفين: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. الكراديس: جمع كُردَوس، وهو كل عظمين التقيا في مفصلٍ، نحو المنكبين والركبتين والورِكيْن. طويل المسربة: الشعر النابت على وسط الصدر نازلاً إلى آخر البطن. كأنما ينحط من صبب: كأنه ينحدر من موضع عال. 802 - مسلم (4/ 1820) 43 - كتاب الفضائل - 37 - باب في صفة فم النبي صلى الله عليه وسلم، وعينيه، وعقبه. ضليع الفم: عظيمه. الشكله في العين: حمرة تكون في البياض، والشهلة: حمرة في سوادها. منهوس العقبين: خفيف لحمهما، وأصله: أن النهس- بالسين المهملة - أخذ اللحم بأطراف الأسنان، وبالشين المعجمة - أخذه بالأضراس.

الفم، أشكل العينين، مَنْهوس العقبينِ. 803 - * روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهُ خلقاً، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير. وفي رواية (1) قال: كان مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغُ شحمة أذنيه، رأيتهُ في حُلةٍ حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منهُ. قال البخاري (2): وقال بعض أصحابي عن مالك بن إسماعيل: إن جُمتَهُ لتضربُ قريباً من منكبيه. قال أبو إسحاق: سمعتُه يُحدثه غير مرةٍ، ما حدَّث به قط إلا ضحك. 804 - * روى الترمذي عن إبراهيم بن مُحمدٍ من ولد علي بن أبي طالبٍ قال: كان عليُّ إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس بالطويل المُمَّغِطِ، ولا بالقصير المترددِ، وكان ربعةً من القوم، ولم يكن بالجعد القططِ ولا بالسبطِ كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهمِ ولا بالمكلثمِ، وكان في الوجه تدوير أبيضُ مشربُ، أدعج العينين، أهدب

_ 803 - البخاري (6/ 564) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1819) 43 - كتاب الفضائل -25 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. الجُمة: الشعر الواصل إلى المنكبين. قيل في الجمع بين لبسه الأحمر ونهيه عنه: أن الحُلة هذه كانت مخططة ولم تكن خالصة الاحمرار. (1) البخاري (6/ 565) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. (2) البخاري (10/ 356) 77 - كتاب اللباس -68 - باب الجعد. 804 - الترمذي (5/ 599) 50 - كتاب المناقب، 8 - باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل. الممغط: بتشديد الميم وبالغين المعجمة: هو الرجل البائن الطول، والمحدثون يقولونه بتشديد الغين. المتردد- الذي تردد بعض خلقه على بعض، فهو مجتمع. رجل ربعة: معتدل القامة، بين الطويل والقصير. شعر قَطِط: شديد الجعودة شعر سبط: سائل ليس فيه شيء من الجعودة. شعر رجِل: إذا لم يكن شديد الجعودة: ولا شديد السبوطة، بل بينهما. المطهم: الفاحش السمن، وقيل: المنتفخ الوجه الذي فيه جهامة، وقيل: هو النحيف الجسم الدقيقهُ، وقيل: الطهمة في اللون: أن تجاوز السمرة إلى السواد، ووجه مطهم إذا كان كذلك. المكلثم: المستدير الوجه، ولا يكون إلا مع كثرة اللحم.

الأشفارِ، جليل المُشَاشِ والكتِدِ، أجردَ ذو مسربة، شثْنَ الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صببٍ، وإذا التفت التفتَ معاً، بين كتفيه خاتمُ النبوة وهو خاتمُ النبيين، أجود الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابهُ، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعتُهُ لم أر قبله ولا بعده مثلهُ صلى الله عليه وسلم. وللترمذي في رواية أخرى (1) عن عليٍّ قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، شثْنَ الكفين والقدمين، ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويلُ المسرُبة، إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما انحط من صبب، لم أر قبله ولا بعد مثله صلى الله عليه وسلم. 805 - * روى الحاكم عن جابر بن سمُرة قال: رأيت خاتم النبوة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل بيضة الحمام.

_ = الدعج في العين: شدة سوادها. أهدب: الي شعر أجفانه كثير مستطيل. أشفار العين: منابت الشعر المحيط بالعين. جليل المشاش: عظيم رؤوس العظام: كالركبتين والمرفقين والمنكبين ونحو ذلك، والمشاش: جمع مُشاشة، وهي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. الكتد: الكاهل. المسربة: الشعر النابت على وسط الصدر نازلاً إلى آخر البطن. الشثن الكف: الغليظ الكف، وهو مدح في الرجل لأنه أشد. تقلع في مشيه: كأنه يقلع رجله من وحلٍ وهي مشية تتغنى بها العرب لما فيها من سكينة ووقار. اللهجة: اللسان. فلان لين العريكة: سلس القياد، لين المقادة. (1) الترمذي (5/ 598) 50 - كتاب المناقب-8 - باب ماجاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال هذا حديث حسن صحيح. الكراديس: كل عظمين التقيا في مفصل: فهو كردوس، والجمع الكراديس. نحو الركبتين والمنكبين والوركين. تكفأ تكفؤاً: التكفؤ: الميل في المشي إلى قُدام، كما تتكفأ السفينه في جريها، والأصل فيه الهمز، فترك، فيقال: تكفياً. كأنما انحط من صبب: قريب من التكفؤ، أي: كأنه ينحدر من موضع عال، وفي رواية أبي داود (صبوب) قال الخطابي: إذا فتحت الصاد كان اسماً لما يُصب على الإنسان من ماء ونحوه، كالطهور والغسول والقطور، ومن رواه بالضم: فعلى أنه جمع الصبب، وهو ما انحدر من الأرض؛ قال: وقد جاء في أكثر من الروايات (كأنما يمشي في صبب) قال: وهو المحفوظ. 805 - المستدرك (2/ 606)، وقال: هذا حديث صحيح علىش رط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

806 - * روى مسلم عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكلتُ معه خبزاً ولحماً - أو قال: ثريداً - قال فقلتُ له: أستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (1) قال: ثم دُرتُ خلفَهُ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفهِ اليُسرى جُمعاً، عليه خيلان، كأمثال الثأليلِ. 807 - * روى الإمام أحمدُ عن أبي زيد عمرو بن أخطب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا زيد أدنُ مني وامسح ظهري" وكشف ظهره، فمسحت ظهره وجعلت الخاتم بين أصبعي قال: فغمزتُها قال فقيل: وما الخاتم؟ قال: شعر مجتمع على كتفه. 808 - * روى الترمذي والحاكم عن جابر بن سمُرة رضي الله عنه قال: كان في ساقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمَوشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً، وكنتُ إذا نظرتُ إليه فقلتُ: أكحَلُ العينين، وليس بأكحل، صلى الله عليه وسلم.

_ 806 - مسلم (4/ 1833) 43 - كتاب الفضائل- 30 - باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم. ناغض الكتف: طرف العظم العريض، الذي في أعلى طرفه. جُمعاً: قال الحميدي: لعله عني جمع الكف. وهوأن يجمع الرجلُ أصابعه ويعطفها إلى باطن الكف. الخيلان: جعم خال، هو الشامة. الثآليل: جمع ثؤلول. وهي حبيبات تعلو الجسد. قال القاضي: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنها شخص في جسده قدر بيضة الحمام. وهو نحو بيضة الحجلة وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة. فتؤول على وفق الروايات الكثيرة ويكون معناه على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمام. (النووي على مسلم). (1) محمد: 19. 807 - أحمد في مسنده (5/ 341) والمستدرك (2/ 606)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 281): رواه أحمد وأبو يعلي والطباني، وأحد أسانيده رجاله رجال الصحيح. 808 - الترمذي (5/ 603) 50 - كتاب المناقب- 12 - باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو كما قال. والمستدرك (2/ 606)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي إلا أنه قال: وفيه حجاج وهو لين الحديث. رجل أحمشُ الساقين: دقيقهما، وكذلك: حمش الساقين. الكحل في العينين: سواد يكون في مغارز الأجفان خلقة.

809 - * روى الطبراني عن شداد قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتُ بيده فإذا هي ألينُ من الحرير وأبردُ منا لثلجِ. 810 - * روى مسلم عن الجُريري عن أبي الطفيل قال: قلت له: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعمْ، كان أبيض مليح الوجه. وفي رواية قال (1): رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على وجه الأرض رجلٌ رآهُ غيري، قال: فقلتُ له: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحاً مقصداً. وفي رواية أبي داود مثلهُ وقال (2): كان أبيض مليحاً، إذا مشى كأنه يهوي في صبوبٍ. 811 - * روى الدارمي والحاكم عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان وعليه حُلةٌ حمراءُ، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر. قال: فلهو كان أحسن في عيني من القمر. 812 - * روى البخاري عن أبي إسحاق قال: سُئل البراء: أكان وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.

_ 809 - المعجمالكبير (7/ 272). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 282): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير رجال الصحيح غير موسى بن أيوب النصبي، وهو ثقة. وقال الحافظ في الإصابة (4/ 324): إسناده على شرط الصحيح. 810 - مسلم (4/ 1820) 42 - كتاب الفضائل- 28 - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض، مليح الوجه. أبو الطفيل: هو عامر بن واثلة، آخر الصحابة وفاة على الإطلاق. (1) مسلم (4/ 1820) 42 - كتاب الفضائل-29 باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض، مليح الوجه. المقصد: الذي ليس بجسيم ولا قصير، وقيل: هو من الرجال نحو الربعة. (2) أبو داود (4/ 267) كتاب الأدب، باب في هدي الرجل. يهوي: ينزل ويتدلى، وتلك مشية القوي من الرجال، يقال: هوى الشيء يهوى هوياً -بفت حالهاء - إذا نزل من فوق إلى أسفل، وهو يهوي هوياً- بضم الهاء - إذا صعد. 811 - الدارمي (1/ 30) في المقدمة، باب في حسن النبي صلى الله عليه وسلم. والمستدرك (4/ 186)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. إضحيان: يقال: ليلة إضحيان، وإضحيانة، أي: مضيئة مقمرة. 812 - البخاري (6/ 565) 61 - كتاب النماقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

813 - *روى الطبراني عن أبي عبيدة بن مُحمد بن عُمار بن ياسر قال: قلتُ للربيع بنت معُوّذ بن عفراء: صِفِي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لو رأيته قلت: الشمسُ طالعةُ. 814 - * روى الحاكم عن كعب بن مالك قول: لما سلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وهو يبرُقُ وجههُ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجههُ كأنه قطعة قمرٍ، وكان يُعرف ذلك منهُ. 815 - * روى الحاكم عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قَدِمَ أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز واليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سلهُ هل خضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإني رأيتُ شعراً من شعره قد لون فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد مُتِّعَ بالسوادِ ولو عددتُ ما أقبل عليَّ من شيبهِ في رأسه ولحيته ما كنت أريدهن على إحدى عشرة شيبة، وإنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 816 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمِطَ مُقدمُ رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، وإذ شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية، فقال رجل: وجههُ مثل السيفِ؟ قال: لا، بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديراً، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده. وفي رواية النسائي (1) قال: سئل جابر بن سمرة عن شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان إذا دهن رأسه لم ير منه، وإذا لم يدهن رُئيَ منهُ. 817 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ إذا أردتُ أن أفرق رأس

_ 813 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 280)، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله وثقوا. 814 - المستدرك (2/ 605)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. 815 - المستدرك (2/ 607)، وقال: هذا حديث صحيح الإسنادولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 816 - مسلم (4/ 1823) 43 - كتاب الفضائل- 29 - باب شيبه صلى الله عليه وسلم. الشمطُ: الشيب. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شابت بعض شعراته. (1) النسائي (8/ 150)، كتاب الزينة، باب الدهن. 817 - أبو داود (4/ 82)، كتاب الترجل، باب ما جاء في الفَرْق، وإسناده صحيح.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدعْتُ الفرق من يافوخه، وأرسِلُ ناصيتهُ بين عينيهِ. 818 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرُقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعدُ. 819 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلِقُهُ، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجلٍ. 820 - * روى البخاري عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: قلتُ لعبيدة: عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، أصبناه من قِبل أنس - أو من قِبَل أهل أنس - فقال: لأنْ يكون عندي شعرة منه أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. 821 - * روى البخاري عن حريز بن عثمان رحمه الله قال: إنه سأل عبد الله بن بُسْر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شيخاً؟ قال: كان في عنفقته شعرات بيض.

_ = اليافوخ: وسط الرأس. الفرق: الفصل بين الشيئين. والفرق: هو الخط الذي يظهر بين شعر الرأس إذا قسم قسمين. الصدع: الشق. 818 - البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب-33 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم واللفظ له (4/ 1818) 43 - كتاب الفضائل-24 - باب في سدل النبي صلى الله عليه وسلم شعره، وفرْقه. سدل الشعر: إرساله. يفرُقون: مفرق الرأس: وسطه، وفرق الشعر: جعله فرقتين. الناصية: شعر مقدم الرأس. 819 - مسلم (4/ 1812) 43 - كتاب الفضائل. 19 - باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به. 820 - البخاري (1/ 273) 14 - كتاب الوضوء 33 - باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان. لعبيدة: هو عبيدة بن عمرو السلماني تابعي كبير. 821 - البخاري (6/ 564) 61 - كتاب المناقب، 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية مسلم (4/ 1822) 43 - كتاب الفضائل -29 - باب شيبه صلى الله عليه وسلم. قوله: ما شانه الله ببيضاء: أي كان شيبه حلواً جميلاً على قلته. في رأسه نبذ من شيب: شيء يسير، هو مفتوح الأول، ساكن الباء. عنفقته: العنفقة: الشعر الذي في الشفة السفلى. وقيل: الشعر الذي بينهما وبين الذقن وأصل العنفقة خفة الشيء وقلته.

وفي رواية عند مسلم (1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: سُئل عن شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما شانه الله ببيضاء. وفي رواية له قال: يُكره أن يَنُتِفَ الرجل الشعرة البيضاء من رأسه أو لحيته قال: ولم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كان البياض في عنفقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نبذٌ. 822 - * روى البخاري ومسلم عن قتادة رحمه الله قال: سألت أنساً رضي الله عنه عن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: شعر بين شعرين، لا رجلُ ولا جعدُ قططُ، كان بين أذنيه وعاتقه. وفي رواية قال (2): كان شعراً رجلاً، ليس بالسبط ولا الجعد، بين أذنيه وعاتقه. وفي رواية قال (3): كان يضرب شعره منكبيه. وفي أخرى (4): إلى أنصاف أذنيه. وفي رواية أبي داود (5): كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه. وفي رواية إلى أنصاف أذنيه. وفي أخرى (6): له شعر يبلغ شحمة أذنيه.

_ (1) مسلم (4/ 1821) 43 - كتاب الفضائل - 29 - باب شيبه صلى الله عليه وسلم. 822 - البخاري (10/ 356) 77 - كتاب اللباس - 68 - باب الجعد. ومسلم (4/ 1819) 43 - كتاب الفضائل-26 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. رجلا: هو الذي بين الجعودة والسبوطة، قاله الأصمعي وغيره. ولا بالسبط: قال ابن الأثير: السبط من الشعر المنبسط المسترسل. ليس بالجعد: قال في المقاييس: الجيم والعين والدال أصل واحد. وهو تقبض في الشيء، يقال: شعر جعد وهو خلاف السبط. (2) مسلم (1819) 43 - كتاب الفضائل -26 - باب صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم. (3) البخاري (10/ 356) 77 - كتاب اللباس- 68 - باب الجعد. ومسلم واللفظ وله (4/ 1819) -43 - كتاب الفضائل -26 - باب صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم. (4) مسلم في نفس الموضع السابق. (5) أبو داود (4/ 81) كتاب الترجل، باب ما جاء في الشعر. (6) أبو داود في نفس الموضع السابق.

823 - * روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يصبُغُ لحيته بالصُّفُرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقيل له: لِمَ تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُغ بها، ولم يكن شيء أحب إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها، حتى عِمامته. ولأبي داود أيضاً (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسُ النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك. 824 - * روى أبو داود عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقتُ مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ذو وفرة، بها ردُعُ حناءٍ، وعليه بردان أخضران. زاد في رواية (2): فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك، فإني رجل طبيب، قال: "الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبُها الذي خلقها". وفي رواية قال (3): أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبي" فقال لرجل - أو لأبيه - " من هذا" قال: ابني. قال: "لا تجني عليه" وكان قد لطخ لحيته بالحناء. وفي رواية النسائي (4)، قال: أتيت أنا وأبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد لطخ لحيته بالحناء.

_ 823 - أبو داود (4/ 52)، كتاب اللباس، باب في المصبوغ بالصفرة. والنسائي نحوه (8/ 140)، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة، وإسناده حسن. (1) أبو داود (4/ 86)، كتاب الترجل، باب ما جاء في الخضاب بالصفرة. السبتية: جلود بقر مدبوغة بالقرظ، سميت سبتية: لأن شعرها قد سبت عنها وحلق، وقيل: لأنها انسبتت بالدباغ، أي: لانت. الورس: نبت أصفر يُصبغ به. 824 - أبو داود (4/ 86)، كتاب الترجل، باب في الخضاب. الوفرة: شعر الرأس إذا كان إلى شحمة الأذن. الردع: أثر الصبغ على الجسم وغيره. (2) أبو داود (4/ 86)، كتاب الترجل، باب في الخضاب. (3) أبو داود في نفس الموضع السابق. لاتجني عليه: لا يتحمل مسئولية جنايتك. فحرف لا نافية. (4) النسائي (8/ 140)، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة.

وفي رواية (1): ورأيته قد لطخ لحيته بالصفرة. وأخرج النسائي أيضاً: حديث سؤاله عنه. 825 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقهُ اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسستُ ديباجةً ولا حريرةً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممْتُ مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى قال (2): ما شممتُ عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح النبي صلى الله عليه وسلمن ولا مسست شيئاً قط ديباجاً ولا حريراً ألين مساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري قال (3): ما مسستُ حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ ريحاً قط- أو عرقاً قط- أطيب من ريح - أو عرق - النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الترمذي قال (4): خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قط، وما قال لشيءٍ صنعته: لِمَ صنعتهُ؟ ولا لشيء تركته: لم تركتهُ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن النسا خُلُقاً، ولا مسستُ خزا قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. 826 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجتُ معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خدي، ووجدتُ ليده برداً أو ريحاً، كأنما

_ (1) النسائي في نفس الموضع السابق. 825 - مسلم (4/ 1815) 43 - كتاب الفضائل - 21 - باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم، ولين مه، والتبرُك بمسحه، والبخاري نحوه مختصراً (6/ 566) 61 - كتاب المناقب -23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. (2) مسلم (4/ 1814) 43 - كتاب الفضائل- 21 - باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم، ولين مسه، والتبرك بمسحه. (3) البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. (4) الترمذي (4/ 368) 28 - كتاب البر والصلة-29 - باب ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: حديث حسن صحيح. 826 - مسلم في نفس الموضع السابق (4/ 1814). صلاة الأولى: صلاة لاظهر. جؤلةُ العطار: هي التي يعدُّ فيها الطيب ويدخِرُه.

أخرجها من جؤنةِ عَطَّارٍ. وفي مسحة صلى الله عليه وسلم الصبيان بيان حسن خُلُقه ورحمته بالأطفال وملاطفتهم، وفي الحديث بيان طيب رائحته، وهذا مما أكرمه الله به، وكان ذلك صفته دون أن يمس طيباً صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب رائحته لملاقاة الوحي والملائكة ومجالسة المسلمين. 827 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم سُليم كانت تبسطُ للنبي صلى الله عليه وسلم نِطْعاً، فَيُقِيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا قام النبي صلى الله عليه وسلم أخذتْ منْ عرقِه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جعلتهُ في سُكِّ وهو نائم، قال: فلما حضر أنس ابن مالك الوفاة أوصى إلى أن يُجعل في حنوطِه من ذلك السُّك، قال: فجُعِلَ في حنوطِهِ. ولمسلم قال (1): كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخُلُ بيت أم سُليم، فينام على فراشها، وليستْ فيه، فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتيتْ، فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نائم في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرِق، واستَنْقَع عرقُهُ على قطعةِ أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها، فجعلت تُنشف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما تصنعين يا أم سُليْم؟ " فقالت: يا رسول الله، نرجو بركتهَ لصبياننا، قال: "أصبتِ". ولمسلم أيضاً قال (2): دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عندنا، فعَرِقَ وجاءت أمي بقارورةٍ، فجعلتْ تسلتُ العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أم سُليم، ما هذا

_ 827 - البخاري (11/ 70) 79 - كتاب الاستئذان - 41 - باب من زار قوماً فقال عندهم. النطير: بساط من الجلد والجمع أنطاع ونطُوع وأنطُع. قال الإنسان يقيل: إذا سكن وأقام عند القائلة، وهي شدةً الحر وسط النهار. السُّكُ: شيء يتطيب به. الحنوط: ما تطيبُ به أكفانُ الميت خاصة. (1) مسلم (4/ 1815) 42 - كتاب الفضائل -22 - باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به. عتيد المرأة: الإناء الذي تترك فيه ما يعزُّ عليها من متاعها. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. سلت الدم عن الجرح، والعَرَق عن الجسم: مسحه بيده وجمعَه.

الذي تصنعين؟ " قالت: هذا عرقُك نجعله في طيبنا وهو أطيبُ الطيب. وقد روى مسلم هذا عن أنس عن أم سُليْم نحوهُ. وفي رواية النسائي (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع على نطع فعرق فقامت أم سليم إلى عرقه، فنشفته، فجعلته في قارورة، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما هذا الذي تصنعين يا أم سليم؟ " قالت: أجعل عرقك في طيبي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. 828 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناهُ في وجهه. 829 - * روى الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جزءٍ رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية قال (2): ما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً. 830 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: "إن من خياركمُ: أحسنكُمْ أخلاقاً".

_ (1) النسائي (8/ 218) كتاب الزينة، باب ما جاء في الأنطاع. 828 - البخاري (10/ 513) 78 - كتاب الأدب- 72 باب من لم يواجه الناس بالعتاب. ومسلم (4/ 1809) 43 - كتاب الفضائل-16 - باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم. العذراء في خدرها: العذراء: البكرُ، وهي أبداً توصف بالحياء، وخِدرُ العروس: موضعها الذي تُصان فيه عن الأعين. خدرها: الخدر ستر- يجعل للبكر في جنب البيت. عرفناه في وجهه: أي لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه. فتفهم نحن كراهته. 829 - الترمذي (5/ 601) 50 - كتاب المناقب -10 - في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال هذا حديث حسن غريب. (2) الترمذي في الموضع السابق، وقال: حسن صحيح. 830 - البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب-23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1810) 43 - كتاب الفضائل -16 - باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم. فاحشا: الفاحشُ: ذُو الفحش في كلامه. متفحشاً: والمتفحش الذي يتكلف ذلك ويتعمدُه.

831 - * روى الحاكم عن سعيد بن هشام أنه دخل مع حكيم بن أفلح على عائشة رضي الله عها فسألها فقال: يا أم المؤمنين انبئيني عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالت: أليس تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن. 832 - * روى أحمد والبزار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق". 833 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذهُ بردائه جبذةً شديدة، نظرتُ إلى صفحة عنقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشيةُ الرداء، من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرّ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء. وفي رواية نحوه، وفيه (1): حتى انشق البُرد، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم. 834 - * روى الطبراني عن عبد الله بن سلام قال: إن الله لما أراد هُدى زيدٍ بن سُعْنَةَ

_ 831 - المستدرك (2/ 613)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 832 - أحمد في مسنده (2/ 381) والبزار: كشف الأستار (3/ 157) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 15)، رواه أحمد، ورجاله صحيح، ورواه البزار إلا أنه قال: لأتمم مكارم الأخلاق، ورجاله كذلك غير محمد بن رزق الله الكلوداني، وهو ثقة. أقول: وللحديث أكثر من رواية متقاربة فلذلك تعددت شواهده. 833 - البخاري (10/ 503) 78 - كتاب الأدب -68 - باب التبسم والضحك. ومسلم (2/ 730) 12 - كتاب الزكاة -44 - باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة. (1) مسلم في الموضع السابق. 834 - المعجم الكبير (5/ 222). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 340)، رواه الطبراني، ورجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (2/ 607): رجال الإسناد موثقون. حائط: بستان. همياني: الهميان: كيس تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط.

قال زيد بن سُعْنَة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حِلْمَه جهله ولا تزيد شدةُ الجهل عليه إلا حلماً، فكنت ألطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه من جهله. قال زيد بن سُعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله إن بُصْرَى قرية بني فلان قد اسلموا، ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم سِنَةٌ وشدة وقُحُوط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تُعينُهم به فعلت، فنظر إلى رجل جانبه أراه علياً رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء، فقال زيدُ بن سُعنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد هل كل أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: "لا يا يهودي، ولكني أبيعُك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا، ولا تُسمي حائط بني فُلانٍ" قلت: بلى، فبايعني فأطلقت هِمْيَاني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاها الرجل، فقال: "اغدُ عليهم فأعنهُمْ بها" فقال زيدُ بن سُعنة: فلما كان محلٍ الأجل بيومين أو ثلاث، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت له: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم؟ ونظرت إلى عمر وإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتصنع به ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدةٍ، ثم قال: "يا عمر أنا وهو كُنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحُسْنِ الأداء، وتأمره بحُسْنِ التباعة، اذهب به يا عمر وأعطه حقهُ وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما رَعْتَهُ" قال زيدٌ: فذهب بي عمر رضي الله عنه، فأعطاني حقي، وزاد عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رُعْتُك. قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، من أنت؟ قلت: أنا زيدُ بن سُعْنَ'، قال: الحَبْرُ؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت؟ قلتُ: يا عمرُ لم

تكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا انثتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمُه جهله، ولا يزيده الجهل عليه إلا حلماً، فقد أخبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وأشهدك أن شطر مالي - وإني أكثرها مالاً - صدقة على أمة محمد، فقال عمر رضي الله عنه: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله! " وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم تُوفي زيد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رَحِم الله زيداً. 835 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض ويتبعُ الجنائز ويُجيبُ دعوة المملوك ويركب الحِمار، ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خِطَامُهُ حبل من ليفٍ وتحته إكافٌ من ليف. 836 - * روى الطبراني عن أبي غالب قال: قلت لأبي أمامة: حدثنا حديثاً سمعتهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ويكثر الذكر ويُقصر الخطبة ويُطيل الصلاة، ولا يأنفُ، ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرُغَ من حاجته. وفي رواية للنسائي بإسناد حسن عن عبد الله بن أبي أوفى (1): يكثر الذكر ويُقِل اللغو ... ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة. 837 - * روى الطبراني عن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ويلبس الصوف ويعتَقِل الشاة ويأتي مراعاه الضيف.

_ 835 - المستدرك (2/ 466)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. الإكاف: البردَعة، والبردعة: ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليها كالسرج للفرس، والبردعة جمعها برادع. 836 - المعجم الكبير (8/ 245). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 20): رواه الطبراني، وإسناده حسن. (1) النسائي (3/ 109)، كتاب الجمعة، باب ما يستحب من تقصير الخطبة. 837 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 20)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. يعتقل الشاة: عقْل الشاة: أن يضع رجلها بين ساقه وفخذه ثم يحلبها.

838 - * روى البخاري عن أنس قال: كانت الأمةُ من إماء المدينة لتأخُذُ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلقُ به حيثُ شاءت. وقد اشتمل هذا الحديث على أنواع من المبالغة في التواضع لذكر المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، وبقوله في الرواية الأخرى (1): "فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" أي من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست مساعدته في تلك الحالة لساعدها على ذلك، وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكِبْر صلى الله عليه وسلم. 839 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً، فقال: "يا أم فلان انظري أي السككِ شئت، حتى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها. وفي رواية أخرى لأبي داود قال (2): جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال لها: "يا أم فلان، اجلسي في أي نواحي السكك شئت حتى أجلس إليك" قال: فجلست، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها، حتى قضت حاجتها. 840 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيتُ رجلاً التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رجلاً

_ = يأتي مراعاة الضيف: يؤدي ما يلزم من رعاية للضيف. 838 - البخاري (10/ 489) 78 - كتاب الأدب- 61 - باب الكبر. (1) أحمد في مسنده (3/ 216). 839 - مسلم (4/ 1813) 43 - كتاب الفضائل - 19 - باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به. (2) أبو داود (4/ 357) كتاب الأدب -باب في الجلوس في الطرقات. 840 - أبو داود (4/ 252) كتاب الأدب - باب في حسن العشرة. التقم أذنه: وضع فمه عند أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيه.

أخذ بيده فترك يده، حتى يكون الرجلُ هو الذي يدعُ يده. وفي رواية الترمذي قال (1): كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يدهُ من يدهِ، حتى يكون الرجل الذي ينزع، ولا يصرفُ وجههُ عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفُهُ، ولم يُرَ مقدماً ركبتيهِ بين يدي جليس لهُ. 841 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء" فما يؤتي بإناء إلا غمس يده فيها فربما جاؤوه في الغداةِ الباردة فيغمس يده فيها. قال النووي: بيان بروزه صلى الله عليه وسلم للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدي بها، وهكذا ينبغي لولاة الأمور، وفيها صبره صلى الله عليه وسلم على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمس يده وإدخالها في الماء كما ذكروا. وفيه التبرك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم وتبركهم بإدخال يده الكريمة في الآنية. 842 - * روى البخاري عن الأسود بن يزيد النخعي رحمه الله قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. 843 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجوَدَ الناس، وكان أجود ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاهُ

_ (1) الترمذي (4/ 654) 38 - كتاب صفة القيامة- 46 - باب حدثنا سُويد بن نصر، وهو حديث حسن. 841 - مسلم (4/ 1812) 43 - كتاب الفضائل -19 - باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به. 842 - البخاري (2/ 162) 10 - كتاب الأذان - 44 - باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج. المهنةُ: الصنعة، والمراد: شُغلُ أهله وحوائجهم. 843 - البخاري (1/ 30) 1 - كتاب بدء الوحي -5 - باب (6). وأيضاً البخاري (6/ 565) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1803) 43 - كتاب الفضائل -12 - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة. =

في كل ليلةٍ من رمضان، فيُدارِسُهُ القرآن، فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجوَدُ بالخيرِ من الريح المرسلة. وفي رواية نحوه قال (1): وكان جبريل يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. وفي هذا الحديث فوائد، منها: بيان عظم جوده صلى الله عليه وسلم. ومنها: استحباب إكثار الجود في رمضان. ومنها: زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم ومنها: استحباب مدارسة القرآن. (شرح صحيح مسلم للنووي 15/ 69). 844 - * روى الدارمي عن جابر قال: ما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا. قال أبو محمد: قال ابن عيينة: إذا لم يكن عندهُ وعد. 845 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يلتفت إذا مشى، وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو الشيء فلا يلتفت حتى يرفعوه؛ لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون، وكانوا قد أمِنُوا التفاته صلى الله عليه وسلم. 846 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشيته، كأنما الأرض تُطوى له، إنا لنهد أنفسنا وإنه لغير مُكْتَرِث. 847 - * روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وتلا قول لقمان لابنه:

_ = الريح المرسلة: المراد كالريح في إسراعها وعمومها. (1) البخاري (9/ 43) 66 - كتاب فضائل القرآن -7 - باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. 844 - الدارمي (1/ 24)، في المقدمة، باب في سخاء النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1805) 43 - كتاب الفضائل -14 - باب ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا. ولم يذكر مسلم قول ابن عيينة. 845 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 17)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. فلا يلتفت: عدم التفاته: لأنه صلى الله عليه وسلم قد جرت عادته ألا يلتفت إليهم حتى لا يحرجهم ويخجلهم إذا كانوا يتمازحون أو يتضاحكون. 846 - الترمذي (5/ 604) 50 - كتاب المناقب -12 - باب في صقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث حسن لغيره. 847 - المستدرك (3/ 411)، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

{واقصد في مشيك واغضض من صوتك}. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مشوا بين يديه وخلوا ظهرهُ للملائكة. 848 - * روى أحمد والبزار عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مُجتمعاً ليس فيه كسل. 849 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبُهُ التيمن في تنعلهِ وترجلهِ وطهوره وفي شأنه كله. وفي رواية (1): كان يُحب التيمن ما استطاع. وفي رواية الترمذي (2): كان يحبُّ التيمن في طهوره إذا تطهر وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل. وفي رواية للنسائي (3): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التيامن يأخذ بيمينه ويعطي بيمينه، ويحب التيمن في جميع أموره. 850 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قط، ولا: لِمَ صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟.

_ 848 - أحمد في مسنده (1/ 328). والبزار بنحوه: كشف الأستار (3/ 124). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 281): رواه أحمد والبزار وزاد: "لم يلتفت، يعرف في مشيه أنه غير كسل ولا وهن، ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن التابعي غير مسمى، وقد سماه البزار، وهو عكرمة، وهو من رجال الصحيح أيضاً. 849 - البخاري (1/ 369) 4 - كتاب الوضوء -31 - باب التيمن في الوضوء والغُسل. ومسلم (1/ 326) 2 - كتاب الطهارة-19 - باب التيمن في الطهور وغيره. اليتمن: الابتداء: في الأفعال باليمين، مثل أني لبس نعله اليمنى قبل اليسرى. التنعل: لبس النعل. الترجُّل: تسريح الشعر. (1) البخاري (1/ 523) 8 - كتاب الصلاة- 47 - باب التيمن في دخول المسجد وغيره. (2) الترمذي (2/ 506)، كتاب الصلاة، باب مايستحب من التيمن في الطهور. قال: هذا حديث حسن صحيح. (3) النسائي (8/ 132)، كتاب الزينة، باب التيامن في الترجل. 850 - البخاري (10/ 456) 78 - كتاب الأدب-39 - باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل. =

وفي رواية قال (1): لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أنساً غلام كيِّس، فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعته: لِمَ صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟. وفي أخرى (2): قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكره. ولمسلم قال (3): خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لِمَ فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليَّ شيئاً قط. وفي أخرى له (4): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمُر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: "يا أنيسُ، أذهبت حيثُ أمرتُكَ؟ " قال: قفلت: نعم، أنا أذهبُ يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما عَلِمته قال لشيء صنعته: لم فعلتُ كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا. 851 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنْتَهَك حرمةُ الله فينقمُ لله بها.

_ = ومسلم نحوه (4/ 1804) 43 - كتاب الفضائل -13 - باب كان رسول الله صلى الله عيله وسلم أحسن الناس خُلقاً. (1) البخاري (12/ 353) 87 - كتاب الديات -37 - باب من استعان عبداً أو صبياً. ومسلم (4/ 1804) 43 - كتاب الفضائل -13 - باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً. (2) البخاري (5/ 395) 55 - كتاب الوصايا -25 - باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحاً له. (3) مسلم (4/ 1805) 43 - كتاب الفضائل -12 - باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً. (4) مسلم في نفس الموضع السابق. 851 - البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب -23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1813) 43 - كتاب الفضائل -20 - باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته.

قال النووي: قولها (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه) فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراماً أو مكروهاً. قال القاضي: ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا من الله تعالى فيخيره فيما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار، وكان يختار الأيسر في كل هذا، قال وأما قولها ما لم يكن إثماً فيتصور إذا خيره الكفار والمنافقون فأما إن كان التخيير من الله تعالى أو من المسلمين فيكو الاستثناء منقطعاً. قولها (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله) وفي رواية ما قيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى. معنى نيل منه أصيب بأذى من قول أو فعل. وانتهاك حرمة الله تعالى هو ارتكاب ما حرمه. قولها (إلا أن تنتهك حرمة الله) استثناء معناه لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر له تعالى وانتقم ممن ارتكب ذلك. في هذا الحديث الحث على العفو والحلم واحتمال الأذى والانتصار لدين الله ممن فعل محرماً أو نحوه. وفيه أنه يستحب للأئمة والقضاة وسائر ولاة الأمور التخلق بهذا الخلق الكريم فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حق الله تعالى وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يقضي لنفسه ولا لمن لا يجوز شهادته له. 852 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطُّ فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل. 853 - * روى الطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً" قالوا: إنك تداعبُنا يا رسول الله، قال: "إني لا أقولُ إلا حقاً". 854 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم

_ 852 - مسلم (4/ 1814) 43 - كتاب الفضائل- 20 - باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته. 853 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 17)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. 854 - البخاري (10/ 582) 78 - كتاب الأدب-112 - باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل.

أحسن الناس خُلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عُمير- قال أحسبُهُ فطيماً - وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النُّفَير؟ " نُفَرّ كان يلعبُ به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنسُ وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا. وعند أبي داود قال (1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليا ولي أخ صغير يُكنى أبا عُمير، وكان له نفرٌ يلعب به، فمات، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرآه حزيناً، فقال: "ما شأنه؟ " قالوا: مات نُغَرُه، فقال: "يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيّر؟ ". وللترمذي قال (2): إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطُنا، حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير، ما فعل النُّغَير؟ ". 855 - * روى أحمد عن عبد الله بن الحاث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيراً من بني العباس، ثم يقول: "من سبق إليَّ فله كذا وكذا" قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم. 856 - * روى الطبراني عن خِوات بن جبير قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرُّ الظهران قال: فخرجت من خِبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن، فأعجبني، فرجعت فاستخرجت عيبتي، فاستخرجت منها حُلة فلبستها وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله

_ = ومسلم (3/ 1692) 38 - كتاب الآداب -5 - باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه، وجواز تسميته يوم ولادته. النغير: تصغير النغر، وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران، مثل: صُردَ وصِردان. النضح: الرشُّ. (1) أبو داود (4/ 293)، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرجل يتكنى وليس له ولد. (2) الترمذي (4/ 357) 28 - كتاب البر والصلة-57 - باب ما جاء في المزاح. قال: هذا حديث حسن صحيح. 855 - أحمد في مسنده (1/ 214). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 17): رواه أحمد، وإسناده حسن. 856 - المعجم الكبير (4/ 203). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 401): رواه الطبراني من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح ابن مخلد، وهو ثقةز مر الظهران: مكان بقرب مكة. العيبة: يما يجعل فيه الثياب.

صلى الله عليه وسلم من قبته فقال: "أبا عبدِ الله ما يُجلسُك معهن؟ " فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هِبْتُه واختلطت قلت: يا رسول الله جمل لي شَرَد، فأنا أبتغي له قيداً فمضى واتبعته، فألقى إلي رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره أو قال يقطر من لحيته على صدره فقال: "أبا عبد الله ما فعل شِرَادُ جَمَلِكَ؟ " ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقُني في المسير إلا قال: "السلامُ عليك أبا عبد الله ما فعل شِرادُ ذلك الجمل؟ " فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة، واجتنبت المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمت أصلي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطولت رجاء أن يذهب ويدعني فقال: "طوِّلْ أبا عبد الله ما شئت أن تُطوِّل فلستُ قائماً حتى تنصرف" فقلت في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدره. فلما قال: "السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شرادُ ذلك الجمل" فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم فقال: "رحمك الله" ثلاثاً ثم لم يعدْ لشيء مما كان. 857 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان فزعٌ بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة، يقال له: المندوب فركب، فلما رجع، قال: "ما رأينا من شيءٍ، وإن وجدناهُ لبحراً". وفي رواية قال (1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فَزِعَ أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس من قِبَل الصوت، فتلقاهم

_ = الأراك: شجر يتخذ منه السواك. ما فعل شرادُ جَمَلك: أراد به شِراد نفسه حتى حملته على مخالطة النساء. 857 - البخاري (5/ 240) 51 - كتاب الهبة -33 - باب من استعار من الناس الفرس. ومسلم (4/ 1803) 43 - كتاب الفضائل-11 - باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للرحب. (1) البخاري (6/ 95) 56 - كتاب الجهاد-82 - باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق. ومسلم (4/ 1803) 43 - كتاب الفضائل-11 - باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدمه للحرب. وقد استبرأ الخبر: استبرأ الشيء: كشفه وحقق أمره. لم تراعوا: أي روعاً مستقراً، أو روعاً يضركم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت - وفي رواية: وقد استبرأ الخبر - وهو على فرس لأبي طلحة عُري، في عنقه السيفُ، وهو يقول: "لم تُراعُوا لم تُراعُوا"، قال: "وجدناه بحراً - أو إنه لبحر-" قال: وكان فرساً يُبطأُ. وفي أخرى مختصراً قال (1): استقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس عُري، ما عليه سرجٌ، في عنقه سيف. وللبخاري (2): أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة كان يقطفُ- أو كان فيه قطافٌ - فلما رجع قال: "وجدنا فرسكم هذا بحراً" فكان بعد ذلك لا يُجاري. وله في أخرى قال (3): فزع الناس، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة بطيئاً، ثم خرج يركض وحدهُ، فركب الناس يركضون خلفه فقال: "لم تُراعُوا، إنه لبحرٌ" فما سُبق بعد ذلك اليوم. وللترمذي قال (4): ركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة يقال له: مندوبُ، فقال: "ما كان من فزع، وإن وجدناه لبحراً". قال النووي: وفيه فوائد، منها: بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه: بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعاً بعد أن كان يبطأ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم وجدناه بحراً أي واسع الجري. وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك وفيه جواز العارية، وجواز الغزو على الفرس المستعار

_ (1) البخاري (6/ 70) 56 - كتاب الجهاد-54 - باب ركوب الفرس العُري. (2) البخاري (6/ 70) 56 - كتاب الجهاد-55 - باب الفرس القُطوف. قطف الفرس في مشيه: إذا ضيق خطوه، وأسرع مشيه. فرس بحر: إذا كان واسع الجري. (3) البخاري (6/ 123) 56 - كتاب الجهاد-117 - باب السُّرعة والركض في الفزع. (4) الترمذي (4/ 198) 24 - كتاب الجهاد-14 - باب ما جاء في الخروج عند الفزع. قال: هذا حديث حسن صحيح.

لذلك. وفيه استحباب تقلد السيف في العنق، واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب. ووقع في هذا الحديث تسمية هذا الفرس مندوباً، قال القاضي: وقد كان في أفراس النبي صلى الله عليه وسلم مندوب فلعله صار إليه بعد أبي طلحة هذا كلام القاضي. قلت: ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم. 858 - * روى أحمد عن علي يعني ابن أبي طالب قال: لقد رأيتُنا يوم بدرٍ ونحن نلُوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربُنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً. 859 - * روى البزار عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاهُ الوحي أو وعظ، قلت: نذيرُ قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أطلق الناس وجهاً وأكثرهم ضحكاً وأحسنهُم بشراً. 860 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً، يفهمه كل من سمعهُ. 861 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدُ الكلمة ثلاثاً، لتُعقل عنهُ. 862 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحدثُ حديثاً لو عده العادُّ لأحصاهُ.

_ 858 - أحمد في مسنده (1/ 86). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 12): رواه أحمد والطبراني في الأوسط. والحديث حسن. 859 - كشف الأستار (3/ 160). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 17): رواه البزار، وإسناده حسن. 860 - أبو داود (4/ 261)، كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام. وإسناده حسن. 861 - الترمذي (5/ 600) 50 - كتاب المناقب -9 - باب في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهو كما قال. 862 - البخاري (6/ 567) 61 - كتاب المناقب 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 2298) 53 - كتاب الزهد والرقائق -16 - باب التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم.

وفي رواية عن عروة أنها قالت (1): ألا يُعجبكَ أبو فلان؟ جاء فجلس جانب حُجرتي يحدثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعُني ذلك، وكنتُ أسبحُ، فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركته لرددتُ عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرُدُ الحديث كسردكم. ولمسلم قال (2): كان أبو هريرة يُحدثُ، ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، اسمعي يا ربة الحجرة - وعائشة تُصلي - فلما قضت صلاتها، قالت لعروة: ألا تسمعُ إلى هذا ومقالته آنفاً؟ إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحدث حديثاً لو عدهُ العادُّ لأحصاهُ. 863 - * روى ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له: تكلفْ هذا يا رسول الله وقد غُفر لك؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً". قال ابن خزيمة: في هذا دلالة على أن الشكر لله عز وجل قد يكون بالعمل له لأن الشكر كله لله، وقد يكون باللسان، قال الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (3) فأمرهم جل وعلا أن يعملوا له شكراً فالشكر قد يكون بالقول والعمل جميعاً، لا على ما يتوهم العامة أن الشكر إنما يكون باللسان فقط. 864 - * روى أحمد عن معاذة قالت: سألت امرأة عائشة وأنا شاهدة عن وصل صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لها: أتعملين كعمله؟ فإنه قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان عمله نافلة له. 865 - * روى الطبراني عن نافع بن خالد الخزاعي قال: حدثني أبي أن رسول الله

_ (1) البخاري _6/ 567) 61 - كتاب المناقب-23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. أسبحُ: أتنفلُ بالصلاة. (2) مسلم (4/ 2298)، 53 - كتاب الزهد والرقائق-16 - باب التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم. 863 - ابن خزيمة في صحيحه (3/ 301)، وإسناده صحيح. (3) سبأ: 13. 864 - أحمد في مسنده (6/ 350) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 365): رواه أحمد، روجاله رجال الصحيح، وفي الصحيح بعضه. أتعملين كعمله؟: المعنى: إنك لا تستطيعين اللحاق به. 865 - المعجم الكبير (4/ 193).

صلى الله عليه وسلم: كان إذا صلى والناسُ ينظرون صلى صلاة خفيفةً تامة الركوع والسجود. 866 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يأتي علينا الشهرُ ما نُوقدُ فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلا أن نُؤتى باللحم. وفي رواية، قالت: ما شبع آل محمد من خُبزِ البُرِّ ثلاثاً، حتى مضى لسبيله. وفي أخرى، قالت: ما شبع آل محمد منذُ قدِم المدينة من طعام ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قُبِضَ. وفي أخرى: ما شبع آل محمدٍ من خبز شعيرٍ يومين متتابعين حتى قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى، قالت: ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا وإحداهما تمر. وفي أخرى: كانت تقول لعروة: والله يا ابن أختي، إن كنا للننظرُ إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال - ثلاثة أهلة في شهرين - وما أوقِدَ في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماءُ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائِحُ، فكانوا يُرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها، فيسقيناهُ. وفي أخرى قالت: تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شَبِعَ الناسُ من الأسودين: التمر والماء. وفي رواية ما شبعنا من الأسودين. ولمسلم أيضاً أنها قالت (1): لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين. وللترمذي (2) عن مسروق، قال: دخلتُ على عائشة، فدعت لي بطعام وقالت: ما

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 277): رواه الطبراني في الكبير، ونافع ذكره ابن حبان في الثقات، وبقية رجاله رجال الصحيح. 866 - البخاي (11/ 282) 81 - كتاب الرقاق -17 - باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومسلم نحوه (4/ 2282) 53 - كتاب الزهد والرقائق- حديث (26). والروايات الأخرى في نفس الموضع من الصحيحين. اللحيم: كذا بالتصغير إشارة إلى قلته. منائح: المنائحُ: جمع منيحة، وهي الناقة يُعيرها صاحبها إنساناً ليشرب لبنها ويعيدها. الأسودين: السوادُ: من صفات التمر، لأن الغالب على أنواع تمر المدينة السوادُ. فأما الماء فليس يأسود، وإنما جُعل أسود حيث قُرن بالتمر، فغُلب أحدهما على الآخر فسُمي به، وهذا من عادة العرب، يفعلونه بالشيئين يصطحبان، فيغلبُون اسم الأشهر، كقولهم: القمران، للشمس والقمر. (1) مسلم (4/ 2283) 53 - كتاب الزهد والرقائق- حديث (29). (2) الترمذي (4/ 579) 37 - كتاب الزهد، 31 - باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

أشبع من طعام فأشاءُ أن أبكي إلا بكيتُ، قال: قلتُ: لِمَ؟ قالت: أذْكُرُ الحال التي فارق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، والله ما شبع من خبزٍ ولحمٍ مرتين في يوم. 867 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعامٍ ثلاثة أيام، حتى قُبِضَ. وفي رواية (1)، قال أبو حازم: رأيت أبا هريرة يُشير بإصبعه مراراً، يقول: والذي نفسُ أبي هريرة بيده، ما شبع نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطةٍ، حتى فارق الدنيا. 868 - * روى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه سُمع يقول: ما كان يفضلُ عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم خبزُ الشعير. 869 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيتُ الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً، كان أكثر خبزهم خبز الشعير. 870 - * روى مسلم عن سِمَاكِ بن حربٍ، قال: سمعتُ النعمان يخطبُ قال: ذكر عُمرُ ما أصاب الناسُ من الدنيا. فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يد دقلاً يملأ به بطنهُ. 871 - * روى البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة؛ أنها كانت تقول: والله! يا ابن أختي! إنْ كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال. ثلاثة أهلة في شهرين. وما أُوقِدَ

_ 867 - البخاري (9/ 517) 70 - كتاب الأطعمة-1 - باب قول الله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) الآية. ومسلم نحوه (4/ 2284) 53 - كتاب الزهد والرقائق- حخديث (33). (1) مسلم في الموضع السابق. 868 - الترمذي (4/ 580) 37 - كتاب الزهد -38 - باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، وإسناده صحيح. 869 - الترمذي في نفس الموضع السابق، وإسناده حسن. 870 - مسلم (4/ 2285) 53 - كتاب الزهد والرقائق - حديث (36). الدقل: رديء التمر. 871 - البخاري (11/ 383) 81 - كتاب الرقاق -17 - باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليم عن الدنيا. ومسلم واللفظ له (4/ 2283) 52 - كتاب الزهد والرقائق - حديث (38). =

في أبيات رسول البخاري (11/ 383) 81 - كتاب الرقاق -17 - باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم نارٌ. قال قلتُ: يا خالة! فما كان يُعَيِّشُكمْ؟ قالت: الأسودان التمر والماء. إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار. وكانت لهم منائحُ. فكانوا يُرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها، فيسقيناهُ. 872 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أصبح لآلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعةُ أبياتٍ. وأخرجه ابن ماجه بلفظ (1): ما أصبح عند آل محمد صاعُ حبٍّ ولا صاع تمرٍ، وإن له يومئذٍ تسع نسوةٍ. 873 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن الرجُل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فُتحت عليه قُريظة والنضير، فجعل، بعد ذلك، يرد عليه ما كان أعطاه. 874 - * روى ابن خزيمة عن عائشة: قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بطعام ليس معه لحم. فقال: "ألم أر لكم بُرمة؟ " قلت: بلى. ذاك لحم تُصدق به على بريرة. فقال: "هو لها صدقة وهو منها هدية". 875 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرعُهُ

_ = منائح: المنيحة الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلاً يشرب لبنها ثم يردها ثم كثر استعمالها حتى أطلق على كل عطاء. 872 - البخاري (5/ 140) 48 - كتاب الرهن -1 - باب في الرهن في الحضر. (1) ابن ماجه (3/ 1389) 37 - كتاب الزهد-10 - باب معيشة آل محمد صىل الله عليه وسلم. قال محقق ابن ماجه: في الزوائد: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. 873 - البخاري (6/ 337) 57 - كتاب فرض الخمس -12 - باب كيف قسم النبي صلى الله عليه وسلم قريظة والنضير، وما أعطى من ذلك من نوائبه. ومسلم واللفظ له (3/ 1392) 33 - كتاب الجهاد والسير -34 - باب رد المهاجرين إلى النصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح. 874 - ابن خزيمة في صحيحه (4/ 101)، وهو حديث صحيح. برمة: قِدر، أي: رأيتكم تطبخون غير هذا الطعام. 875 - البخاري (6/ 99) 56 - كتاب الجهاد-89 - باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب.

مرهونةٌ عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعيرٍ. 876 - * روى أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت: كان ضِجَاعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أذدماً حَشْوُهُ ليفٌ. 877 - * روى أحمد والبزار عن أ [ي هريرة قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملكُ ينزلُ، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلِقَ قبل الساعة فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك قال: أفملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: "بل عبداً رسولاً". 878 - * روى البخاري وملم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثلُ الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجُعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنةُ؟ قال: فانا اللبنة وأنا خاتم النبيين" وقد رواه صالح أيضاً عن أبي سعيد الخدري. ولمسلم بنحوه إلى قوله (1): " فكنتُ أنا اللبنة". وفي أخرى له (2) "مثلي ومثلُ الأنبياء من قبلي كمثلِ رجلٍ ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناسُ يطوفون ويُعجبهم البنيان، فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة فيتم بنيانك؟

_ 876 - أحمد في مسنده (6/ 207، 213). وابن ماجه واللفظ له (2/ 1390) 37 - كتاب الزهد -11 - باب ضجاع آل محمد صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح. 877 - أحمد في مسنده (2/ 231). كشف الأستار (3/ 155). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 19): رواه أحمد والبزار وأبو يعلي، ورجال الأولين رجال الصحيح. 878 - البخاري (6/ 558) 61 - كتاب المناقب -18 - باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. ومسلم واللفظ له (4/ 1791) 43 - كتاب الفضائل -7 - كتاب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. (1) مسلم في الموضع السابق. (2) مسلم في نفس الموضع السابق.

فقال محمد صلى الله عليه وسلم: فكنتُ أنا اللبنة". 879 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثلُ ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيتُ الجيش بعيني، وإني أنا النذيرُ العُريان فالنجاء، فأطاعهُ طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلُ من أطاعني فاتبع ما جئتُ به، ومثلُ من عصاني وكذب بما جئت به من الحق". 880 - * روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علي وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحُجزكُم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي". قال النووي في شرحه على مسلم: ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه وكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله.

_ 879 - البخاري (13/ 250) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة-2 - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسلم (4/ 1788) 43 - كتاب الفضائل- 6 - باب شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته. النذير العُريان: لاذي لا ثوب عليه، وخص العريان، لأنه أبينُ في العين، وأصل هذا: أن الرجل منهم كان إذا أنذر قومه، وجاء من بلد بعيد انسلخ من ثيابه، ليكون أبين للعين. فالتجاء: أي اطلبوا الخلاص، وأنجوا أنفسكم وخلصوها. فأذلجُوا: إذا خُفف- من أدلج يُدلج- كان بمعنى: سار الليل كله، وإذا ثقل-من ادلج يدْلج- كان إذا سار آخر الليل. فاجتاحهم: استأصلهم، وهو من الجائحة التي تهلك الأشياء. 880 - البخاري (11/ 316) 81 - كتاب الرقاق -26 - باب الانتهاء عن المعاصي. ومسلم واللفظ له (4/ 1790) 43 - كتاب الفضائل -6 - باب شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته. الجنادب: جمع جندب، وهو طائر كالجراد، يصرُّ في الحر. تفلتُون: التفلُّت والانفلات: التخلص من اليد.

881 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، قال: فاضربوا له مثلاً. فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجلٍ بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فقالوا: فالدارُ الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. قال البخاري: تابعه قتيبةُ عن الليث عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يزدْ. قال الحميدي (1): وذكر أبو مسعود أوله: فقال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني رأيتُ في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً". وفي رواية الترمذي هذه التي أخرج أولها أبو مسعود وأتمها الترمذي (2): "فقال: أسمعُ، سمعت أذنُكَ، واعقل عقَل قلبك: إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعد رسولاً يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله: هو الملكُ، والدارُ: الإسلامُ، والبيتُ: الجنةُ، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل مما فيها".

_ 881 - البخاري (13/ 249) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة-2 - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (9/ 401). (2) الترمذي (5/ 145) 45 - كتاب الأمثال-1 - باب ما جاء في مثل الله لعباده، وله شاهد بسند جيد عند الطبراني.

882 - * روى الترمذي عن أبي عثمان النهدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، ومعهُ ابن مسعود فأقعده وخط عليه خطاً، ثم قال: "لا تبرحن فإنه سينتهي إليك رجال، فلا تُكلمهُم فإنهم لن يكلموك" فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، ثم جعلوا ينتهون إليَّ الخط لا يجاوزونه ثم يصدرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل جاء إلي فتوسد فخذي، وكان إذا نام نفخ في النوم نفخاً. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسد فخذي راقداً إذ أتاني رجال كأنهم الجمال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال، حتى قعد طائفة منهم عند رأسه وطائفة منهم عند رجليه، فقالوا بينهم: ما رأينا عبداً أوتي مثل ما أوتي هذا النبي صلى الله عليه وسلم عيناه لتنامان وإن قلبه ليقظان. اضربوا له مثلاً. سيد بنى قصراً ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه ثم ارتفعوا واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال: "أتدري من هؤلاء" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "الملائكةُ. قال: وهل تدري ما المثل الذي ضربوه؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "الرحمنُ بنى الجنة فدعا إليها عباده فمن أجابه دخل جنته، ومن لم يُجِبْ عاقبه وعذبه". 883 - * روى البزار عن أبي هريرة قال: خِيارُ ولدِ آدم خمسة: نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم وصلى الله عليهم أجمعين وسلم. 884 - * روى الطبراني عن الحسين بن علي قال: أحبُّونا بحب الإسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً". 885 - * روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 882 - الترمذي (5/ 145) 45 - كتاب الأمثال-1 - باب ما جاء في مثل الله بعباده. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. والدارمي واللفظ له (1/ 7)، في المقدمة، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب قبل مبعثه. 883 - كشف الأستاذ (3/ 114). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 254): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. 884 - المعجم الكبير (3/ 128)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 21): رواه الطبراني، وإسناده حسن. 885 - مسلم (4/ 2167) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم -16 - باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة =

"ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكل به قرينهُ من الجن وقرينه من الملائكة" قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلمن فلا يأمرني إلا بخير". 886 - * روى أحمد عن عروة بن الزبير قال: حدثني جار لخديجة بنت خُويلد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة: "أيُّ خديجةُ والله لا أعبد اللات والعُزى والله لا أعبد أبداً" قال: فتقول خديجة خل اللات خل العزى قال - يعني الراوي - كانت صنمهم التي كانوا يعبدون ثم يضجعون. 887 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه من القبة فقال لهم: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". 888 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْتُ رحمة مُهداة".

_ = الناس، وأن مع كل إنسان قريناً. القرين: الصاحب، وكل إنسان فإن معه قريناً من الملائكة، وقريناً من الشياطين، فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه، وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه، وفقنا الله لاتباع قرين الخير ومخالفة قرين الشر. قال النووي في شرحه على مسلم: (فأسلم) برفع الميم وفتحها. وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته. ومن فتح قال إن القرين أسلم، من الإسلامن وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير. واختلفوا في الأرجح منهما. فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض الفتح، وهو المختار، لقوله صلى الله عليه وسلم: فلا يأمرني إلا بخير. واختلفوا على رواية الفتح. قيل: أسلم بمعنى استسلم وانقاد. وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم: فاستسلم، وقيل: معناه صار مسلماً مؤمناً، وهذا هو الظاهر. قال القاضي: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا، لنحترز منه بحسب الإمكان. 886 - أحمد في مسنده (4/ 222)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 225): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. 887 - المستدرك (2/ 313)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (1) المائدة: 67. 888 - كشف الأستار (3/ 114). =

889 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمداً على أهل السماء وعلى أهل الأرض فقال رجل: يا أبا عباس وبما فضله على أهل السماء والأرض؟ قال إن الله عز وجل يقول لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (1) وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (2) فقيل له: يا أبا عباس فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله عز وجل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (3) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) فأرسله الله إلى الإنس والجن. 890 - * روى الطبراني عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا مُبلغ، والله يهدي". 891 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن هذه الآية التي في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (5) قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عهدي ورسولي، سميتُك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخابٍ بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئةن لكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا:

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 257): رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح. 889 - أورده الهيثمي في مجع الزوائد (8/ 254) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير الحكم بن أبان، وهو ثقة، ورواه أبو يعلي باختصار كثير. (1) الأنبياء: 29. (2) الفتح: 1، 2. (3) إبراهيم: 4. (4) سبأ: 28. 890 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 263)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين، أحدهما حسن. 891 - البخاري (8/ 585) 65 - كتاب التفسير-3 - باب "إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً". الملة العوجاء: الملة غير المستقيمة، وفي ذلك إشارة إلى ما غيرته الآباء من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. (5) الأحزاب: 45.

لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. 892 - * روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمساً لم يعطهُن أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعثُ إلى قومه خاصةً، وبُعثتُ إلى كل أحمر وأسود، وأُحِلَّتْ لي الغنائم، ولم تَحِلُّ لأحدٍ قبلي، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً، فأيما رجلٍ أدركتهُ الصلاة صلى حيث كان، ونُصرتُ بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيتُ الشفاعة". وفي رواية (1): "أعطيتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرُّعْبِ مسيرةَ شهر، وجُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليُصل، وأُحلت لي المغانم، ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة". 893 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جُعِلَ رزقي تحت ظل رُمحي، وجُعل الذلةُ والصَّغَارُ على من خالف أمري". 894 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثتُ بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعبِ، وبينا أنا نائم رأيتني أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي، قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم

_ 892 - البخاري (1/ 436) 7 - كتاب التيمم- 1 - باب حدثنا عبد الله بن يوسف. ومسلم واللفظ له (1/ 370) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - حديث (3). أحمر وأسود: أراد بالأسود والأحمر: جميع العالم، فالأسود: معروف، وهم الحُبوش والزنوج وغيرهم، والأحمر: هو الأبيض، والعرب تسمى الأبيض أحمر. الطهور: بفتح الطاء: ما يُتطهرُ به من الماء والتراب. (1) البخاري في الموضع السابق. 893 - البخاري تعليقاً (6/ 98) 56 - كتاب الجهاد-88 - باب ما قيل في الرماح. الصغار: الذُل والمران. 894 - البخاري (6/ 128) 56 - كتاب الجهاد -123 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرتُ بالرعب مسيرة شهر". والبخاري أيضاً (12/ 401) 91 - كتاب التعبير - 23 - باب المفاتيح في اليد. ومسلم (1/ 371) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - حديث (6).

تنتثِلونها. قال البخ البخاري (6/ 128) 56 - تاباري: وبلغني أن جوامع الكلم: أن الله عز وجل يجمعُ له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتبُ في الكتب قبلهُ في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك. وللبخاري قال (1): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُعطيتُ مفاتيح الكلم، ونُصرتُ بالرعْبِ، وبينا أنا نائم البارحة، إذ أوتيتُ بمفاتيح خزائن الأرض، حتى وُضعت في يدي، قال أبو هريرة: فهذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتقلونها. وفي رواية (2) - تلغثونها، أو ترغثونها، أو كلمة تشبهها - وفي نسخةٍ: تلعبون بها. ولمسلم (3): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُضلتُ على الأنبياء بست: أُعطيتُ جوامع الكلم، ونُصرتُ بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجُعلتْ لي الأرضُ طهوراً ومسجداً، وأرسلتُ إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون". وله في أخرى قال (4): "نُصرتُ بالرعب، وأوتيتُ جوامع الكلم". وله في أخرى قال (5): "نُصرتُ بالرعب على العدو، وأوتيتُ جوامع الكلم،

_ جوامع الكلم: أراد به القرآن، جمع الله بلطفه في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة، وكذلك ألفاظه صلى الله عليه وسلم كانت قليلة الألفاظ. كثيرة المعاني. نُصرتُ بالرعب: الرعبُ: الفزع والخوف، وذلك: أن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوقع الله في قلوبهم الرعب، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه، فلا يقدمون على لقائه. وقوله مفاتيح خزائن الأرض: أراد به ما سهل الله تعالى له ولأمته من استخراج الممتنعات، وافتتاح البلاد المتعذرات، ومن كان في يده مفاتيح شيء سهل الله عليه الوصول إليه. تنتثلونها: الانتثال: نثر الشيء، يقال: نثلت كنانتي: إذا استخرجت ما فيها جميعه ونثرته، والمراد: أنكم تأخذونها جميعاً. (1) البخاري (12/ 390) 91 - كتاب التعبير -11 - باب رؤيا الليل. ومفاتيح الكلم: المفاتيح: كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، فأخبر عليه السلام أنه أوتي مفاتيح الكلم، وهو ما سهل الله عليه من الوصول إلى غمض المعاني، وبدائع الحكم التي أُغلبت على غيره وتعذرت. (2) البخاري (13/ 247) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة-1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعثت بجوامع الكلم". ترغثونها: الرغث: الرضع، رغث الجدي أمه: أي رضعها، وأرغثت النعجة ولدها: أرضعته. (3) مسلم (1/ 371) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة- حديث (5). (4) مسلم في الموضع السابق. (5) مسلم في نفس الموضع السابق.

وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوُضِعَتْ في يدي". 895 - * روى الطبراني عن معاوية بن حيدة القُشيري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلما دفعتُ إليه قال: "أما إني قد سألت الله أن يغنيني بالسُّنة تُحفيكم، وبالرعْبِ يجعله في قلوبكم" فقال بيديه جميعاً: أما إني قد حلفت هكذا وهكذا أن لا أؤمن بك ولا أتَّبِعُك فما زالت السُّنة تُحفيني وما زال الرعب يُجعل في قلبي حتى قُمتْ بين يديك. 896 - * روى البزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فُضلتُ على الأنبياء بست لم يُعطهن أحدٌ كان قبلي: غُفرَ لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، وأعطيتُ الكوثر، ونصرتُ بالرعب، والذي نفسي بيده، إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحتهُ آدمُ فمن دونه". 897 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نا سيدُ ولدِ آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ - آدمُ فمن سواهُ - إلا تحت لوائي، وأنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ ولا فخر". قوله: (سيد ولد آدم) قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "أنا سيد ولد آدم" وقال في ذكر يونس عليه السلام: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متي" وقال: "لا تفضلوني على يونس" ووجه الجمع بينهما: أن قوله: "أنا سيد ولد آدم" إنما هو إخبار عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدُد، وتحدث بنعمة الله عنده وإعلام لأمته بذلك، ليكون إيمانهم به على حسب ذلك، وأما قوله في يونس عليه السلام (1)، فيحتمل أن يكون

_ 895 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 65) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. يغنيني: ينصرني. السنة: الجدب. تحفيكم: تستأصلكم. فقال بيديه: أشار. والقائل معاوية. 896 - كشف الأستار (3/ 147) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 369): رواه البزار، وإسناده جيد. 897 - الترمذي (5/ 587) 50 - كتاب المناقب -1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

أراد بقوله: "لا ينبغي لعبدٍ" أو لأحد، غير نفسه، أو أن يكون عاماً فيه وفي غيره من الناس، فيكون هذا على سبيل الهضم وإظهار التواضع لربه، يقول: لا ينبغي لي أن أقول: أنا خير منه، لأن الفضيلة التي نِلْتُها كرامة من الله وخصوصية منه، لم أنلها من قِبَل نفسي، ولا بلغتُها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها، وإنما يجب عليَّ أن أشكر عليها ربي، وإنما خص يونس بالذكر لما قصه الله علينا من شأنه، وما كان من قلة صبره على أذى قومه، فخرج مغاضباً، ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. 898 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيدُ ولدِ آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأولُ مُشفعٍ". وفي رواية للترمذي قال (1): "أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرض فأكسَى الحُلة من حُلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري". قال النووي: قال العلماء: وقوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" لم يقله فخراً بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وإنما قاله لوجهين: أحدهما: امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2) والثاني أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه صلى الهل عليه وسلم بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله تعالى. وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة. وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم. وأما الحديث الآخر: "لاتفضلوا بين الأنبياء" فجوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به. والثاني: قاله أدباً وتواضعاً. والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول. والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة

_ 898 - مسلم (4/ 1782) 43 - كتاب الفضائل-1 - باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم. (1) الترمذي (5/ 585) 50 - كتاب المناقب-1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. (2) الضحى: 11.

والفتنة. كما هو المشهور في سبب الحديث، والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى. ولابد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1) قوله صلى الله عليه وسلم، وأول شافع وأول مشفع، إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول والله أعلم. أهـ. 899 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس خروجاً إذا بُعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدُوا، وأنا مُبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرمُ ولد آدم على ربي، ولا فخر". 900 - * روى أحمد عن عبد الله يعني ابن مسعود قال: أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ إلا مفاتيح الغيب الخمس {اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2). 901 - *روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل ترون قِبْلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفي علي خشوعكم ولا ركوعكم وإني لأراكم من وراء ظهري".

_ (1) البقرة: 253. 899 - الترمذي (5/ 585) 50 - كتاب المناقب -1 - باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال. 900 - أحمد في مسنده (1/ 445). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 363): رواه أحمد وأبو يعلي، ورجالهما رجال الصحيح. (2) لقمان: 34. 901 - البخاري (9/ 514) 8 - كتاب الصلاة-40 - باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، وذكر القبلة. ومسلم (9/ 319) 4 - كتاب الصلاة-34 - باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها. قال النووي في شرحه على مسلم: وقال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له صلى الله عليه وسلم إدراكاً في قفاه يصبر به من ورائه، وقد انخرقت له العبادة بأكثر من هذا- وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به. قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤيا رؤية بالعين حقيقة، وفيه الأمر بإحسان الصلاة والخشوع، وإتمام الركوع والسجود، وجواز الحلف بالله تعالى من غير ضرر، ولكن المستحب تركه إلا لحاجة كتأكيد أمر وتفخيمه والمبالغة في تحقيقه =

902 - * روى أحمد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيتُ بمقاليد الدنيا على فرس أبلق عليه قطيفة من سُنْدُس". 903 - * روى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أُحدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال "إني فرطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخافُ عليكم أن تنافسُوا فيها". وفي رواية قال (1): صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحُدٍ بعد ثمان سين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع على المنبر، فقال: "إني بين أيديكم فرطٌ وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لستُ أخشى عليكم أن تُشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتُها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى (2): "إني فرطُكم على الحوض" وإن عرضهُ كما بين آيلة إلى الجحفة - وفيها- ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا فتهلكُوا، كما هلك من كان قبلكم".

_ = وتمكينه من النفوس، وعلى هذا يحمل ما جاء من الأحاديث من الحلف. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأراكم من بعدي" أي من ورائي كما في الروايات الباقية، قال القاضي عياض: وحمله بعضهم على بعد الوفاة وهو بعيد عن سياق الحديث، شرح مسلم للنووي. 902 - أحمد في مسنده (3/ 328). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 20): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. فرس أبلق: فيه سواد وبياض. 903 - البخاري (3/ 309) 23 - كتاب الجنائز -72 - باب الصلاة على الشهيد. ومسلم (4/ 1795) 43 - كتاب الفضائل -90 باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته. فرط: الفرط: المتقدم على القوم في السير، السابق إلى الماء، والمراد إني لكم سابق متقدم بين أيديكم، فإذا قدتم علي تروني وتجدونني لكم منتظراً. تنافسوا: المنافسة: المغالبة على تحصيل الشيء والانفراد به. (1) البخاري (7/ 348) 64 - كتاب المغازي -17 - باب غزوة أحد. (2) مسلم في الموضع السابق.

قال عقبة: فكانت آخر ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. 904 - * روى البخاري عن عمران بن حصي نرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يُسمون الجهنميين". 905 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجمعُ الله الناس يوم القيامة فيهتمّون لذلك (وقال ابن عبيدٍ: فيُلْهَمُون لذلك) فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا! قال فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدمُ أبوا لخلق. خلقك الله بيده ونفخ فيك من رُوحه. وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا عند ربك حتى يُريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لستُ هناكُمْ. فيذكر خطيئته التي أصاب. فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا نوحاً. أول رسول بعثه الله. قال فيأتون نوحاً صلى الله عليه وسلم. فيقولُ: لست هناكم. فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي اتخذه الله خليلاً. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقول: لستُ هناكم. ويذكر خطئيته التي أصاب فيستحيي ربهُ منها، ولكن ائتوا موسى صلى الله عليه وسلم, الذي كلمهُ الله وأعطاهُ التوراة. قال فيأتون موسى عليه السلام. فيقول: لست هناكم. ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى روح الله وكلمته. فيقول: لستُ هناكم، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، عبداً قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني. فأستأذن على ربي فيؤذنُ لي. فإذا أنا رأيتهُ وقعتُ ساجداً. فيدعُنِي ما شاء الله. فيُقالُ: يامحمد! ارفع رأسك. قل تُسمعْ. سل تعطه. اشفع تُشفع. فأرفع رأسي. فأحمدُ ربي بتحميدٍ يُعلمنيه ربي. ثم أشفعُ. فيحدُّ لي حداً فأخرجه من النار، وأُدخلهم الجنة. ثم أعُودُ

_ 904 - البخاري (11/ 418) 81 - كتاب الرقاق - 51 - باب صفة الجنة والنار. 905 - البخاري (11/ 417) 81 - كتاب الرقاق -51 - باب صفة الجنة والنار. ومسلم واللفظ له (1/ 180) 1 - كتاب الإيمان - 84 - باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. لست هناكم: لست أنا الذي يقوم هذا المقام.

فأقع ساجداً. فيدعُني ما شاء الله أن يدعني ثم يُقال: ارفعْ رأسك يا محمدُ! قلْ تُسمعْ. سل تعطه. اشفعْ تُشفعْ. فأرفع رأسي. فأحمدُ ربي بتحميد يُعلمنيه. ثم أُشفعُ فيحُدُّ لي حداً فأخرجه من النار، وأدخلهُمُ الجنة. (قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة قال) فأقول: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسهُ القرآن أي وجب عليه الخلودُ" (قال ابن عبيدٍ في روايته: قال قتادة: أي وجب عليه الخلود). وفي رواية (1) عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزنُ شعيرةً. ث يخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرة. ثم يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة". زاد ابنُ منهالٍ في روايته: قال يزيدُ: فلقيتُ شعبة فحدثتهُ بالحديث. فقال شعبة: حدثنا به قتادة عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث إلا أن شعبة جعل، مكان الذرة، ذُرةً. قال يزيد: صحف فيها أبو بسطامٍ. 906 - * روى الترمذي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". 907 - * روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها؛ فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسٌ أصابتهُم النارُ بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أُذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبُثوا على أنهار الجنةِ، ثم قيل:

_ (1) مسلم (1/ 182) 1 - كتاب الإيمان -84 - باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. 906 - الترمذي (4/ 625) 38 - كتاب صفة القيامة -11 - باب منه. وقال: هذا حديث حسن. وأبو داود عن أنس (4/ 236) كتاب السنة - باب في الشفاعة، وأحمد في مسنده عن أنس (3/ 213). 907 - مسلم (1/ 172) 1 - كتاب الإيمان-82 - باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار. ضبائر: جماعات متفرقة.

يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحِبِّةِ تكون في حميل السيل" قال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية. 908 - * روى مسلم عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة. فتعجل كل نبي دعوتَهُ. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة، إن شاء الله، من مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئاً". 909 - * روى أحمد وابن حبان عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُبعثُ الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تلٍّ، ويكسوني ربي تبارك وتعالى حُلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذاك المقامُ المحمود". 910 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أا أول الناس خروجاً إذا بُعثوا، وأنا خطيبهُم إذا وفدُوا، وأنا مبشرهم إذا أيسُوا، لواء الحمد يومئذٍ بيدي، وأنا أكرم ولدِ آدم على ربي ولا فخر". 911 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "عُرضت عليَّ الأممُ، فجعل يمرُّ النبي معه الرجلُ والنبيُّ معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد. ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فرجوتُ أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومهُ، ثم قيل لي: انظر، فرأيتُ سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً

_ حمِيل: م حمله السيل من الغثاء والطين. 908 - مسلم (1/ 189) 1 - كتاب الإيمان-86 - باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته. 909 - أحمد في مسنده (2/ 456). وابن حبان: موارد الظمآن (639) 41 - كتاب البعث - 6 - باب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. والمستدرك (3/ 363)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 910 - الترمذي (5/ 585) 50 - كتاب المناقب -1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن غريب. 911 - البخاري (10/ 311) 76 - كتاب الطب - 42 - باب من لم يرق. ومسلم (1/ 199) 1 - كتاب الإيمان -94 - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.

كثيراً سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمُتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير الترمذي حساب". فتفرق الناس ولم يبين لهم. 912 - * روى أحمد عن العرباض بن سارية: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنْجدل في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة إبراهيم وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام. فدعوة إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) وبشارة عيسى عليه السلام {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (2) صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الترمذي (3) عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " ..... أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقةن ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلهم في خيرهم بيتاً، وخيرهم نفساً". 913 - * روى مسلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشمن واصطفاني من بني هاشم". 914 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً. حتى كنتُ من القرن الذي كنت منه".

_ 912 - أحمد في مسنده (4/ 127). وابن حبان: موارد الظمآن (513) والمستدرك (3/ 600) وقال: صحيح الإسناد. (1) البقرة: 129. (2) الصف: 6. (3) الترمذي (5/ 584) 50 - كتاب المناقب-1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن. 913 - مسلم (4/ 1782) 43 - كتاب الفصائل-1 - باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. 914 - البخاري (6/ 566) 61 - كتاب المناقب - 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

915 - * روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اله عز وجل إذا أراد رحمة أمةٍ من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعلهُ لها فرطاً، وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمةٍ عذبها، ونبيها حيٌّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره". بل جعل حياته صلى الله عليه وسلم كلها خيراً ورحمة لأمته، وقد جعلنا هذا الحديث في باب الخصائص لأنه خص بأنه كان رحمة لأمته. كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال (1): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم، تحدثُون ويحدثُ لكم. ووفاتي خيرٌ لكم، تُعرضُ عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدتُ الله عليه، وما رأيتُ من شر استغفرت الله لكم". 916 - * روى البزار والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة". 917 - * روى مسلم عن معاوية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكُم؟ " قالوا: جلسنا نذكرُ الله ونحمدُه على ما هدانا لدينه ومن علينا بك ... " الحديث، وفي آخره "إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة". إنما جعلنا هذا الحديث في باب الخصائص للإشعار بما أكرم الله به من اتبع نبيه. 918 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد

_ 915 - مسلم (4/ 1792) 43 - كتاب الفضائل - 8 - إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. (1) البزار: كشف الأستار (1/ 397) كتاب الجنائز- باب ما يحصل لأمته منه في حياته وبعد وفاته. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 24): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. 916 - البزار: كشف الأستار (3/ 114) كتاب علامات النبوة- باب بعثته صلى الله عليه وسلم. والمستدرك (1/ 35) وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 257): رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح. 917 - مسلم (4/ 2075) 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار-11 - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. 918 - مسلم (1/! 57) 1 - كتاب الإيمان -75 - باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال.

رأيتُني في الحِجْر، وقريش تسألني عن مسراي ... " الحديث. وفيه "وقد رأيتُني في جماعة من الأنبياء ... فحانت الصلاة فأممتُهم، فلما فرغت من الصلاة، قال قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه. فبدأني بالسلام". 919 - * روى النسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُتيتُ بدابة فوق الحمار ودون بغلٍ ... " الحديث وفيه: "ثم دخلت بيت المقدس، فجُمِعَ لي الأنبياءُ عليهمُ السلام فقدمني جبريل حتى أممتُهم ... ". 920 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". وقال صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه- (1) " .... النجومُ أمنةً للسماء، فإذ ذهبت النجومُ أتى السماء ما تُوعد، وأنا أمنةً لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةً لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". وقال صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي اله عنهما - في صلاة الكسوف (2): " ... ألم تعدني أن لا تُعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ". 921 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن ناساً قالوا

_ 919 - النسائي (1/ 221) كتاب الصلاة - باب فرض الصلاة. 920 - البخاري (13/ 447) 17 - كتاب التوحيد - 31 - باب في المشيئة والإرادة. ومسلم واللفظ له (1/ 189) 1 - كتاب الإيمان -86 - باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته. (1) مسلم (4/ 1961) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 51 - باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة. (2) أبو داود (1/ 310) كتاب الصلاة - باب من قال يركع ركعتين. 921 - البخاري (13/ 419) 17 - كتاب التوحيد -24 - باب قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ .. الحديث وفيه "ويُضربُ الصراطُ بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزُ ... ". ولفظ البخاري: "فأكون أول من يجيز من الرسل بأمته". 922 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنَ الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً، أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة". 923 - * روى أحمد عن حُذيفة رضي الله عنه قال: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فلم يخرج حتى ظننا أنه لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة فظننا أن نفسهُ قد قُبضت منها، فلما رفع رأسه قال: "إن ربي تبارك وتعالى استشارني في أمتي ماذا أفعلُ بهم؟ فقلت: ما شئت أي رب، هم خلقُك وعبادُك، فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك. فقال: لا أحزنك - وفي مجمع الزوائد-: لا نخزيك - في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً. مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليَّ فقال: ادعُ تُجبْ وسلْ تُعطَ، فقلت لرسوله: أو معطيٍّ ربي سؤلي؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليُعطيك، ولقد أعطاني ربي عز وجل ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأنا أمشي حياً صحيحاً، وأعطاني أن لا تجوع أمتي، ولا تُغلبَ، وأعطاني الكوثر فهو نهرٌ من الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر، والرعبُ يسعى بين يدي أمتي شهراً. وأعطاني أني أول الأنبياء أدخل الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة (1)،

_ = ومسلم واللفظ له (1/ 164) 1 - كتاب الإيمان- 81 - باب معرفة طريق الرؤية. 922 - البخاري (13/ 347) 99 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة-1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعثت بجوامع الكلم". ومسلم واللفظ له (1/ 134) 1 - كتاب الإيمان -70 - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ..... 923 - أحمد في مسنده (5/ 392) بسند حسن. مجمع الزوائد (3/ 287) وقال: رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام.

وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا من حَرَج". 924 - * روى البخاري وملم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعامٍ سأل عنه: "أهديةً أم صدقة؟ " فإن قيل: صدقة، قال لأًحابه: "كُلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هديةً، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم. 925 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أُتي بباكورة الثمرة وضعها على عينيه ثم عل شفتيه، ........ ثم يعطيه من يكونُ عندهُ من الصبيان. 926 - * روى أحمد عن أبي واقد أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان أخف الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه صلى الله عليه وسلم. 927 - * روى أبو داود عن عبد الله بن بُسرٍ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قومٍ لم يستقببل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من رُكنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: "السلام عليكم، السلام عليكم. 928 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحبُّ الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلوُ البارد. 929 - *روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض الخلق إليه الكذبُ.

_ 924 - البخاري (5/ 203) 51 - كتاب الهبة- 7 - باب قبول الهدية. ومسلم (2/ 756) 13 - كتاب الزكاة - 53 - باب قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية ورده الصدقة. 925 - المعجم الكبير (11/ 116)، ومجمع الزوائد (5/ 39). 926 - أحمد في مسنده (5/ 218) وهو صحيح. مجمع الزوائد (3/ 70). 927 - أبو داود واللفظ له (4/ 348) كتاب الأدب - باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، وهو صحيح. 928 - الترمذي (4/ 307) 27 - كتاب الأشربة -21 - باب ما جاء أي الشراب كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحمد في مسنده (6/ 38، 40) وهو صحيحز 929 - مجمع الزوائد (1/ 142). وقال رواه البزار وأحمد بنحوه.

930 - * روى أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا". 931 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغهُ عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: "ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا". 932 - * روى سلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أُنزل عليه الوحي كرُب لذلك وتربَّد وجهه. 933 - * روى البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. 934 - * روى ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس بالصبيان والعيال. 935 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يردُّ الطيب. 936 - * روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أعتم سدل عمامته بين كتفيه. 937 - * روى البخاري ومسلم عن المغيرة رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم -

_ 930 - أبو داود (4/ 260) كتاب الأدب-باب في كراهية المراء. وهو صحيح. 931 - أبو داود (4/ 250) كتابالأدب - باب في حسن العشرة. وهو صحيح. 932 - مسلم (4/ 1817) 43 - كتاب الفضائل - 23 - باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد. 933 - البخاري (6/ 565) 61 - كتاب المناق 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 3137) 49 - كتاب التوبة 9 - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. 934 - ابن عساكر، وهو صحيح. 935 - البخاري (5/ 309) 51 - كتاب الهبة -9 - باب ما لا يرد من الهدية. 936 - الترمذي (4/ 225) 25 - كتاب اللباس -12 - باب في سدل العمامة بين الكتفين وقال: حسن غريب. 937 - البخاري (3/ 14) 19 - كتاب التهجد -6 - باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل.

أو ليصلي - حتى تَرم قدماه - أو ساقاه - فيقال له، فقول: "أفلا أكون عبداً شكورا؟ ". 938 - * روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسُ على الأرض، ويأكلُ على الأرضِ؛ ويعتق الشاة؛ ويُجيب دعوة المملوك على خُبز الشعير.

_ = ومسلم (4/ 2173) 50 - كتاب صفات المنافقين -18 - باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة. 938 - المعجم الكبير (12/ 67) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 20): رواه الطبراني وإسناده حسن.

الباب الخامس في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم

الباب الخامس في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم

بين يدي هذا الباب

بين يدي هذا الباب رتب الله عز وجل على بعثة الرسل أشياء كثيرة من وجوب الإيمان بهم ووجوب طاعتهم ونصرتهم كما رتب على ذلك النجاة في الدنيا والأخرى، ولأهمية هذه المعاني جعل الله عز وجل مع الرسل من الآيات ما تقوم به الحجة على الخلق وذلك من كمال فضله ورحمته جل جلاله. إن كمالات الرسل عليهم الصلاة والسلام كافية للإيمان بهم، ومع ذلك فقد أعطاهم ربهم معجزات تقطع حجج الخصوم وتستدعي الإيمان من عشاق الحق وأهل الإنصاف وخاصة الناس وعامتهم. ولم يعط رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام ما أعطيه رسولنا من مستدعيات الإيمان؛ لأنه بُعث لكل الناس وإلى آخر الناس، ولذلك كانت أعلام نبوته لا تتناهى، ودلائل بعثته لا تُحصى، وكم من إنسان استدعى الإيمان منه معنى لطيفاً أو صفة أو خارقة أو نبوءة أو لفتة غير متوقعة، ولذلك فقد كتب في دلائل نبوته وأعلام رسالته الكثير ولا زال، ولايطمع أحد في استقصائها؛ لأن كل يوم جديد يأتي بجديد. * * * وقد ذكر صاحب الرسالة المستطرفة تسعة وعشرين كتاباً مؤلفة في الدلائل وأعلام النبوة. وأشهرها كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الحافظ، ولأبي بكر البيهقي، وكتاب أعلام النبوة لأبي داود السجستاني، ودلائل الإعجاز لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرايني، وكتب السيرة للزهري، والواقدي، ومنها الروض الأنفُ للسهلي. وقد حاول الشيخ يوسف النبهاني في كتابه (حجة الله على العالمين) أن يجمع الكثير وقد ألفح. ولكن هذا الكثير نفسه قليل بالنسبة لما كتب ويمكن أن يكتب، فصفاته الجسمية صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الشخصية وسيرة حياته قبل البعثة وبعدها، وهديه في كل صغيرة وكبيرة، والقرآن الذي أنزل عليه، والسنة التي كملت وأكملت، ومعجزات كثيرة في كل، ونبوءات كثيرة في كل، وإعجاز القرآن وحده، وما في هذا الإعجاز من ملامح، فكل دليل على الإعجاز معجزة، وانطباق البشارات التي بشر بها رسل سابقون عليه، كل ذلك من أعلام نبوته ودلائل بعثته وكم من معجزة تأتي في سياق غزوة، وكم من معجزة تأتي

في سياق توجيه، وكم من نبوءة تأتي في معرض إنذار. كل ذلك نقوله للإشعار بأن ما سنذكره في هذا الباب بعض من كل، هو البعض الأكثر لصوقاً بمضمون هذا الباب. * * * وبمناسبة الكلام عن المعجزات والنبوءات ودلائل النبوة وأعلام الرسالة، أقول: إن هناك دلائل وأعلاماً تظهر بالمقارنة، وهناك دلائل تظهر من خلال دراسة البيئة، وهناك دلائل تظهر من خلال خروجها عن مبدأ الاحتمالات، فلو أنك درست معاني الكتاب والسنة فإنك تعرف استحالة انبثاقها عن البيئة العربية، ولو أنك درست تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدتها بالنسبة لعصرها خارقة حتى ولو كانت لا تخرج عن عالم الأسباب، نقول هذا كذلك للإشعار بأن ما سنذكره في هذا الباب لن ندخل فيه إلا ما كان من الخارقة للعادة مطلقاً، أو من باب النبوءة الواضحة في الإخبار عن مستقبل وبمثل هذا تقوم الحجة على كل إنسان. * * * سنرى أن كثيراً من المعجزات والنبوءات سترد في سياقات أخرى من هذا القسم، أو من هذا الكتاب وقد مر معنا الكثير من المعجزات فيما مضى، والمعروف أن المعجزات الرئيسية الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن، فهو معجزة مشتملة على معجزات كثيرة، وقد ذكرنا ذلك في الباب الثاني عند ظاهرة الوحي، ومن أكبر المعجزات معجزة انشقاق القمر، ومعجزة الإسراء والمعراج، وقد مرّتا معنا من قبل، وقد ذكرنا في الباب الأول أنواعاً من الخارقات، وذكرنا كذلك أنواعاً من المعجزات بمناسبة من المناسبات فيما مضى. وههنا سنذكر أمهات من المعجزات سواء كانت خارقات أو نبوءات، وواحدة من ذلك كله كافية للدلالة على رسالته عليه الصلاة والسلام فكيف إذا اجتمع هذا كله مع الخصائص ومع البشارات ومع الثمرات والتمكين؟! * * *

939 - * روى البخاري عن الجعد، قال: مر بنا أنس في مسجد بني رِفاعة، فسمعته يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنبات أم سُليم دخل عليها فسلم عليها، ثم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية؟ فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمرٍ وسمنٍ وأقطٍ، فاتخذت حيسَةُ في بُرمةٍ، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه، فقال لي: "ضعها" ثم أمرني، فقال: "ادعُ لي رجالاً" سماهم "وادعُ لي من لقيت" قال: ففعلت الذي أمرني، فرجعتُ، فإذا البيت غاص بأهله، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسَةِ، وتكلم بما شاء الله، ثُم جعل يدعو عشرة عشرة، يأكلون منه، ويقول لهم: "اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجلٍ مما يليه" حتى تصدعوا كلهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفر يتحدثون، قال: وجعلت أغتم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات، وخرجتُ في إثره، فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع فدخل البيت وأرخى السِّتر، وإني لفي الحجرة، وهو يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (1). ولمسلم (2) عن أنس بن مالك. قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله. قال: فصنعت أمي أم سُليمٍ حيساً فجعلته في تَوْرٍ. فقالت: يا أنسُ! اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، فقل: بعثتْ بهذا إليك أمي. وهي تُقرئك السلام. وتقول: إن هذا لك منا قليلٌ،

_ 939 - البخاري (9/ 226) 67 - كتاب النكاح -64 - باب الهدية للعروس. بجنبات: جنبات الإنسان: نواحيه. عروساً: العروس: يطلق على الرجل وعلى المرأة أيام دخول أحدهما بالآخر. التور: إناء يشرب فيه، جمع أتوار. أقط: الأقط. لبن مُحفف يابس صلب. حيسةٌ: الحيسة: خلط من تمر وسمن وأقطٍ. برمة: البرمة: القدرُ. تصدعوا: أي: تفروقا. (1) الأحزاب: 53. (2) مسلم (2/ 1051) 16 - كتاب النكاح -15 - باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس. =

يا رسول الله! قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلتُ: إن أمي تُقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل، يا رسول اللهّ! فقال: "ضعهُ" ثم قال: "اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيت." وسمى رجالاً. قال: فدعوتُ من سمى ومن لقيتُ. قال: قلت لأنسٍ: عدد كَمْ كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنسُ! هات التور" قال: فدخلوا حتى امتلأت الصُفة والحجرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتحلقُ عشرة عشرةٌ وليأكل كل إنسان مما يليه" قال: فأكلوا حتى شبعوا. قال: فخرجت طائفةً ودخلت طائفةً حتى أكلوا كلهم. فقال لي "يا أنس! ارفعْ" قال: فرفعتُ. فما أدري حين وضعتُ كان أكثر أم حين رفعتُ. قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، وزوجته موليةٌ وجهها إلى الحائط. فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج رسول الله صلى لله لعيه وسلم فسلم على نسائه. ثم رجع. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه. قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل. وأنا جالس في الحجرة. فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ. وأُنزلتْ هذه الآية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأهن على الناس {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إلى آخر الآية. قال الجعدَ: قال أنس بن مالك: أنا أحدثُ الناس عهداً بهذه الآيات. وحجبن نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم. ويستفاد من هذا الحديث (1): أنه يجوز في الدعوة أن يأذن المرسل في ناس معينين

_ = زُهاء: يقال: القوم زُهاء مائة، أي: قدر مائة. ليتحلقْ: التحلقْ: أن يصير القوم حلقة مجتمعة. أوْلمَ: الوليمة: طعام العُرس. فتقري: تقري: مثل استقري، أي: تتبع شيئاً فشيئاً. إتاه: الإنا مقصور: النضج.

وفي مبهمين، لقوله: "من لقيت، من أردت" وفي هذا لحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتكثير الطعام. قاله النووي. 940 - * روى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخطأني العشاءُ ذات ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخطأني أن يدعوني أحد من أصحابنا فصليت العشاء ثم أردتُ أن أنام فلم أقدر، ثم أردتُ أن أصلي فلم أقدر، فإذا رجل عند حجرة النبي صلى الله عليه سلم فأتيته فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فصلى، ثم استند إلى السارية التي كان يصلي إليها فقال: "منْ هذا؟ أبو هريرة! " قلت: نعم. قال: "أخطأك العشاءُ معنا الليلة" قلت: نعم. قال: "انطلق إلى المنزل، فقل هلموا الطعام الذي عندكم" فأعطوني صحفة فيها عصيدة بتمر، فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فوضعتها بين يديه، فقال: "ادع أهل المسجد" فقلت في نفسي: الويل لي مما أرى من قلة الطعام، والويل لي من المعصية، فآتي الرجل وهو نائم فأوقظه، وأقول: أجِبْ، وآتي الرجل وهو يصلي فأقول: أجبْ، حتى اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع أصابعه فيها وغمز نواحيها، وقال: "كلوا بسم الله" فأكلوا حتى شبعوا، وأكلت حتى شبعت. قال: "خُذها يا أبا هريرة فارددها إلى آل محمد فما في آل محمد طعام يأكله ذو كبد غير هذهِ، أهداها إلينا رجل من الأنصار" فأخذت اصحفة فرفعتها فإذا هي كهيئتها حين وضعتها إلا أن فيها أثار أصابع النبي صلى الله عليه وسلم. 941 - * روى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعْ لي أصحابك" فجعلت أتبعهم في المسجد رجلاً رجلاً أوقظهم، فأتينا باب النبي صلى الله عليه وسلم فدخلنا، فوضعت بين أيدينا صحفة صنيعٍ قدر مُدِّيْ شعير، فقال لنا "كلوا بسم الله" (1) قال

_ 940 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 308)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات. عصيدة: دقيق يُلت بالسمن ويطبخ. غمز نواحيها: ضغط عليها بإصبعه. 941 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 308)، وقال: رواه الطبراني في الوسط، ورجاله ثقات. صنيع: الطعام يدعي إليه. =

رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت الصحفة: "والذي نفس محمد بيده ما في آل محمد شيء غير ما ترونه" فأكلنا حتى شبعنا وفيها منه بقية، وكنا ما بين السبعين إلى الثمانين فقلت لأبي هريرة: مثل إيش كانت حين فرغتم منها؟ فقال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع. 942 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لأم سُليم: قد سمعتُ صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلك أبو طلحة؟ " قال: فقلت: نعم، فقال: "ألطعامِ؟ " فقلت: نعم، فقال رسول الله ر صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا" قال: فانطلق وانطلقتُ بين أيديهم، حتى جئتُ أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سُليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نُطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلمُ، قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلُمي ما عندك يا أم سليم" فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتَّ، وعصرتْ عليه أم سليم عُكَّةً لها، فأدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون.

_ = أيش: أي شيء. 942 - البخاري (6/ 586) 61 - كتاب النماقب - 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (3/ 1612) 36 - كتاب الأشربة-30 - باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك. العُكة: الوعاء الذي يكون في السمن. فأدمته: أي خلطته بالخبز، وجعلته له أدماً.

وللبخاري نحوه عن أنس (1): أن أم سُليم - أمهُ - عمدت إلى مُدٍ من شعير جشتْهُ وجعلت منه خطيفةً وعصرت عكة عندها، ثم بعثتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيتهُ - وهو في أصحابه - فدعوته. قال: "ومَنْ معي" فجئت فقلت: إنه يقول ومن معي. فخرج إليه أبو طلحة قال: يا رسول الله، إنما هو شيء صنعته أم سليم فدخل، فجيء به وقال: "أدخِل عليَّ عشرة" فأدخلوا فأكلوا حتى شبعوا. ثم قال: "أدخل علي عشرة" فدخلوا فألوا حتى شبعوا. ثم قال: "أدخل علي عشرة". حتى عدَّ أربعين. ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام، فجعلت أنظر هل نقص منها شيء؟. ولمسلم قال (2): بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل طعاماً. قال: فأقبلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فنظر إليَّ، فاستحييتُ فقلت: أجِب أبا طلحة، فقال الناس: "قوما" فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما صنعتُ لك شيئاً، قال فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة، ثم قال: "أدخِل نفراً من أصحابي عشرة" وقال: "كلوا" وأخرج لهم شيئاً من بين أصابعه، فأكلوا حتى شبعوا، فخرجوا، فقال: "أدخِل عشرة" فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يُدخلُ عشرة. ويخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل، حتى شبع، ثم هيأها، فإذا هي مثله حين أكلوا منها. وفي أخرى نحوه، وفي آخره (3): ثم أخذ ما بقي، فجمعه ثم دعا فيه بالبركة، قال: فعاذ كما كان، فقال: "دُونكم هذا". وفي أخرى بهذه القصة، وفيه (4): فقام أبو طلحة على الباب، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، إنما كان شيء يسير، قال: "هلُمَّه فإن الله سيجعل فيه البركة".

_ (1) البخاري (9/ 547) 70 - كتاب الأطعمة -48 - باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة. جشته: أي: طحنته طحناً قليلاً لتطبخه. الخطيفة: أن يؤخذ قليل لبن ويذرُ عليه دقيق، ثم يطبخ، فيلعقه الناس. (2) مسلم (3/ 1612) 36 - كتاب الأِربة-20 - باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك. (3) مسلم في نفس الموضع السابق (3/ 1613). (4) مسلم في الموضع السابق. =

وفي أخرى بنحو هذا، وفيه (1): ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أهلُ البيت، وأفضلوا ما أبلغوا جيرانهم. وفي أخرى قال (2): رأي أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مُضطجعاً في المسجد، ينقلبُ ظهراً لبطن وساق الحديث، وقال فيه: ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة، وأم سُليم، وأنس، وفضلت فضلة فأهديناه لجيراننا. 943 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: صنعت أمي طعاماً، وقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه فجئتُ النبي صلى الله عليه وسلم فسارَرُته فقلت: إن أمي قد صنعت شيئاً، فقال لأصحابه: "قومُوا" فقام معه خمسون رجلاً، فجلس على الباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُدْخِلْ عشرة عشرة" فأكلوا حتى شبعوا وفضل نحو ما كان. 944 - * روى البخاري ومسلم عن اجبر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بُهيمة داجن، قال: فذبحتها، وطحنت، ففرغت إلى فراغين فقطعتُها في بُرمتها. ثم وليتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بُهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفرٍ معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا أهل الخندق، إن

_ = هلمهُ": هاته. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. 943 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 308)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله وُثقوا. ساررته: ناجيته سراً. 944 - البخاري (7/ 396) 64 - كتاب المغازي -19 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب. ومسلم (3 م 1610) 36 - كتاب الأشربة -20 - باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك. الخمص والخميص: الضامر البطن، البهيمة: تصغير البهمة، وهي ولد الضأن، ويقع على المذكر منها والمؤنث. الداجن: الشاة التي تألف البيت وتتربى فيه. =

جابراً قد صنع لكم سُوراً فحمسفيهلا بكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن بُرمتكم، ولا تخبرن عجينتكم حتى أجيء، فجئتُ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك، وبك، فقلتُ: قد فعلتُ الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى بُرمتنا، فبصق فيها وبارك، ثم قال: "ادعي خابزة فلتخبر معكِ، واقدحي من بُرمتكم، ولا تُنزلُوها" وهم ألف، فأقسمُ بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن بُرمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا لتُخبزُ كما هو. 945 - * روى الترمذي عن سمرة بن جُندبٍ رضي الله عنه قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول في قصعة عن غُدوة حتى الليل، يقوم عشرةً، ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تُمدُّ؟ قال: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تُمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء. 946 - * روى أحمد عن عليٍّ رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب فيهم رهطٌ كلهم يأكل الجُذعة يشرب الفرَقَ، قال: فصنع لهم مُداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا. قال وبقي الطعام كما هو كأنه لم

_ = السؤر: لفظة فاسية، معناها: الوليمة والطعام الذي يدعى إليه، قال الأزهري: في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم بالفارسيةز حيهلا: كلمتان جُعلتا كلمة واحدة، ومعناها: تعالوا وعجلوا. بك وبك: أي ذمته ودعت عليه، وقيل معناه: بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الذم، وقيل معناه: جرى هذا برأيك وسوء نظرك وتسببك. اقدحي: قدحتُ القِدر: إذا غرفت ما فيها، والقديح: المرق، فعيل بمعنى مفعول، والمقدحة: المغرفة. تتغط: غطت القدر تغط: وغطيطها: صوتها. 945 - الترمذي (5/ 592) 50 - كتاب المناقب- 5 - باب في آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما قد خصه الله عز وجل به وقال: هذا حديث حسن صحيح. 946 - أحمد في مسنده (1/! 59). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 302): رواه أحمد، ورجاله ثقات. رهط: الرهط: ما بين الثلاثة إلى التسعة من الرجال. الجذعة: تقال لولد الشاة في السنة الثانية، وللبقر وذوات الحافر في الثالثة، وللإبل في الخامسة جذع. ويطلق الجذع عند فقهاء الحنفية ويريدون به ولد الشاة إذا زاد على ستة أشهر. الفرقُ: بالسكون ياسوي مائة وعشرين رطلاً، وبالفتح نصف صاعٍ.

يمس، ثم دعا بغمرٍ فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يُمس أو لم يُشربْ، فقال: "يا بني عبد المطلب إني بُعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامةٍ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ " قال: فلم يقُم إليه أحد قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، قال: فقال: "اجلس" قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول: "اجلس" حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي. 947 - * روى البزار عن علي قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ! اصنع رجل شاةٍ بصاعٍ من طعام، واجمع لي بني هاشم، وهم يومئذ أربعون رجلاً أو أربعون غير رجل قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطعام، فوضعه بينهم، فأكلوا حتى شبعوا، وإن منهم لمن يأكل الجذعة بإدامها، ثم تناول القدح، فشربوا حتى تروَّوا- يعني من اللبن - فقال بعضهم: ما رأينا كالسحر - يرون أنه أبو لهب الذي قاله فقال: "يا علي اصنع رجل شاة بصاع من طعام، وأعدِد قعباً من لبن" قال: ففعلتُ، فأكلوا كما أكلوا في اليوم الأول، وشربوا كما شربوا في المرة الأولى وفضل كما فضل في المرة الأولى، فقال: ما رأينا كاليوم في السحر، فقال: "يا علي اصنع رجل شاةٍ بصاع من طعام، وأعدد قعباً من لبن" ففعلت. فقال: يا علي اجمع لي بني هاشم" فجمعتهم، فأكلوا وشربوا فبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يقضي عني ديني" قال: فسكت وسكت القوم، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنطق فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: "أنت يا عليُّ، أنت يا علي".

_ (1) الغمرُ: العددُ الكثير من الناس. 947 - كشف الأستار (3/ 127). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 303): رواه البزار واللفظ له، وأحمد باختصار، والطبراني في الأوسط باختصار، ورجال احمد وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح، غير شريك، وهو ثقة. قعباً: القعب: القدح الضخم الجافي. (1) الشعراء: 214.

948 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسقِ شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم". 949 - * روى الطبراني عن واثلة بن الأسقع يقول: كنت من أصحاب الصفة، فشكى أصحابي الجوع، فقالوا: يا واثلة اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطعم لنا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أصحابي يشكون الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة هل عندك من شيء؟ " قالت: يا رسول الله ما عندي إلا فتات خبز، قال: "هاتيه" فجاءت بجراب، فدعا رسول الله بصحفة فأفرغ الخبز في الصحفة، ثم جعل يصلح الثريد بيديه وهو يربو، حتى امتلأت الصحفة، فقال: "يا واثلة اذهب فجيء بعشرة من أصحابك وأنت عاشرُهم" فذهبت فجئت بعشرة من أصحابي وأن عاشرهم، فقال: "اجلسوا خُذوا بسم لله خذوا من حواليها، ولا تأخذوا من أعلاها فإن البركة تنحدرُ من أعلاها" فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وفي الصحفة مثل ما كان فيها، ثم جعل يصلحها بيده وهي تربو حتى امتلأت، فقال "يا واثلة اذهب فجيء بعشرة من أصحابك" فجئت بعشرة، فقال: "اجلسوا" فجلسوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، ثم قال: "اذهب فجيء بعشرة مِنْ أصحابك" فذهبت فجئت بعشرة، ففعلوا مثل ذلك، فقال: "هل بقي أد؟ " قلت: نعم عشرة، قال: "اذهب فجيء بهم، فذهبت فجئت بهم، فقال: "اجلسوا" فجلسوا فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وبقي في الصحفة مثل ما كان. ثم قال: "يا واثلة اذهب بهذا إلى عائشة".

_ 948 - مسلم (4/ 1784) 43 - كتاب الفضائل -3 - باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. شطر: كل شيء: نصفه. الوسق: ستون صاعاً تقام لكم: أي لمن يفن أبداً. 949 - المعجم الكبير (22/ 86). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 305): رواه الطبراني بإسنادين، وإسناده حسن.

950 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحدٍ منكم طعام؟ " فإذا مع رجل صاع من طعام، أو نحوه، فعُجِن، ثم جاء رجل مشرك مشعَانٌّ طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعاً، أم عطية؟ " أو قال: "أم هبة؟ " قال: لا بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يُشوى، وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبي صلى الله عليه وسلم له حزةً من سواد بطنها، إن كان شاهداً أعطاه، وإن كان غائباً خبأ له، فجعل منهما قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا، ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير. وفي رواية (1): ففضل في القصعتين، فحملته على البعير - أو كما قال. 951 - * روى البزار عن أبي حُنيس الغفاري: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تِهامة، حتى إذ كنا بعُسْفان جاءه أصحابه، فقالوا: يا رسول الله! جهدنا الجوع فأذن لنا في الظهر نأكله، قال: "نعم" فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! ماذا صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظهر، فعلى ما يركبون؟ قال: "فما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفضل أزوادهم فتجمعه في تورٍ، ثم تدعو الله لهم، فأمرهم فجعلوا فضل

_ 950 - البخاري (5/ 230) 51 - كتاب الهبة -28 - باب قبول الهدية من المشركين. ومسلم (3/ 1627) 36 - كتاب الأشربة -32 - باب إكرام الضيف وفضل إيثاره. مشعان: الرأس - بالنون-: إذا كان منتفش الشعر ثائر الرأٍ. سواد البطن: الكبد. (1) مسلم (3/ 1637) 36 - كتاب الأشربة -32 - باب إكرام الضيف وفضل إيثاره. 951 - كشف الأستار (3/ 138). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 303): رواه البزار والطبراني في الأوسط وزاد فقال: ما ترى يا ابن الخطاب قال أرى أن تأمرهم وأنت أفضل رأياً وزاد أيضاً، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه وشربوا من الماء هم والكراع ثم خطبهم في ثلاثة نفر فذكر الحديث ورجاله ثقات. الظهر: هنا الإبل التي تركب في السفر (هي اسم جمع وجعلها هنا مفرداً). تور: إناء يشرب فيه، والجمع أتوار. الكراع: الخيلُ.

أزوادهم في تورٍ، ثم دعا لهم، ثم قال: "إيتوا بأوعيتكم" فملأ كل إنسان منهم وعاءه، ثم أذن بالرحيل، فلما جاوزوا مُطِروا، فنزل ونزلوا معه، فشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثة نفر فجلس اثنان مع النبي صلى الله عليه وسلم وذهب الآخر معرضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما واحد فاستحيا من الله فاستحيا الله منه وأما الآخر فأقبل تائباً فتاب الله عليه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه". 952 - * روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأصابنا جهدٌ، حتى هممنا أن ننْحَرَ بعض ظهرِنا، فأمرنا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجمعْنَا مزاوِدنَا، فبسطنا له نِطَعَا، فاجتمع زادُ القوم على النِّطَعِ، قال: فتطاولت لأحزُرهُ كم هو؟ فحزَرْتُه كرَبْضة العَنْزِ، ونحنُ أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً، ثم حشوْنا جُرُبَنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "فهل مِنْ وضوءٍ؟ " قال: فجاء رجلٌ بإداوةٍ له، فيها نُطفةً، فأفرغها في قدحٍ، فتوضأنا كُلُّنَا، نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَة، أربع عشرة مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية، فقالوا: هل من طَهورٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرّغَ الوضوءُ". وهذا لفظ البخاري: قال سلمة: خفت أزْوَاد الناس وأمْلَقُوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نَحْرِ إبِلهم، فأذِنَ لهُم، فلقيَهُم عُمر فأخبروه فقال: مابقاؤكم بعد إبلكُم (1)، فدخَلَ عمر على

_ 952 - البخاري (6/ 129) 56 - كتاب الجهاد -123 - باب حمل الزاد في الغزو. ومسلم (3/ 1354) 31 - كتاب اللقطة -5 - باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت، والمؤاساة فيها. ومسلم أيضاً عن أ [ي هريرة (1/ 56) 1 - كتاب الإيمان 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. مزاودنا: وفي رواية أزوادنا، وفي بعضها تزاودنا، والمزاود جمع مزود كمنبر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الزاد. وهو ما يتزوده المسافر لسفره من الطعام، والتزاود معناه ما تزودناه. النطفة: الماء القليل، ومنه سُمي ماء الرجل: نُطفة. ندغفقه: دغفقتُ الماء دغفقة: إذا صببته صباً كثيراً. الإملاق: الافتقار، والمراد: أنهم احتاجوا إلى الزاد.

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نادِ في الناس يأتُون بِفَضْل أزْوادِهم" فدعا وبرَّك عليهم ثم دعاهُم بأوعيتهم، فاحْتثى الناسُ حتى فرَغُوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله". قال النووي في شرحه على مسلم: وقولهم: (لو أذنت لنا) هذا من أحسن آداب خطاب الكبار والسؤال منهم فيقال: لو فعلت كذا أو أمرت بكذا لو أذنت في كذا وأشرت بكذا، ومعناه لكان خيراً أو لكان صواباً ورأياً متيناً أو مصلحة ظاهرة وما أشبه هذا، فهذا- أجمل من قولهم للكبير: افعل كذا بصيغة الأمر وفيه أنه لا ينبغي لأهل العسكر من الغزاة أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة والله أعلم أهـ. 953 - * روى أحمد عن النعمانِ بن مُقَرِّنٍ قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من مُزَينة، فأمارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فقال بعض القومِ: يا رسول الله مالنا طعام نتزودُه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عمر: "زَوَّدهُم" فقال: ما عندي إلا فاضلةٌ من تمرٍ، وما أراها تُغني عنهم شيئاً: فقال: "انطلِقْ فزودهم" فانطلق بنا إلى عَليِّةٍ له، فإذا فيها تمر مثل البَكْر الأورق، فقال: خذوا فأخذ القوم حاجتهم، قال: وكنتُ أنا في آخرِ القوم، قال: فالتفتُّ وما أفقدُ موضع تمرةٍ، وقد احتمل منه أربعمائة رجلٍ. 954 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال (1): أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بتمراتٍ،

_ 953 - أحمد في مسنده (5/ 445). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 304): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح. مزينة: قبيلة من قبائل العرب. علية: الغرفة في الطابق الثاني من الدار وما فوقه والجمع علالي. البكر: الفتى من الإبل. الأوراق: من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد. 954 - الترمذي (5/ 685) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث حسن.

فقلت: يا رسول الله ادعُ الله فيهنَّ بالبركة فصمهُنَّ ثُم دع لي فيهن بالبركة، فقال: "خُذْهُن واجعلهُن في مِزْوَدَِ هذا أو في هذا المِزْوَدِ كُلما أردْتَ أن تأخذ منه شيئاً فأدخِلْ فيه يدكَ فخذْهُ ولا تنْثُرْهُ نثراً" فقدْ حمَلْتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسْقٍ في سبيل الله، فكُنا نأكلُ منهُ ونُطْعِمُ، وكان لا يُفارقُ حِقْوِي حتى كان يومُ قَتْلِ عثمان فإنه انقطع. وزاد رزين: من حقوي، فسقط فحزنت عليه حزناً شديداً. 955 - * روى البخاري؛ عن جبر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن أباه تُوفي وترك ثلاثين وسقاً لرجلٍ من اليهود، فاستنْظَرَهُ جابر، فأبى أن يُنْظِرَهُ، فكلم جابرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم اليهودي ليأخذ تَمْرَ نخلهِ بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل، فمشى فيها، ثم قال لجابر: "جُدِّ له، فأوف الذي له" فجَدَّه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه ثلاثين وسقاً، وفضلتُ له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلا انصرف أخبرهُ بالفضلِ، فقال "أخْبِر ذلك ابن الخطاب" فذهب جابرٌ إلى عمر فأخبرهُ، فقال له عمر: لقد علمتُ حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُباركنَّ فيها. وفي رواية أخرى قال (1): تُوفي أبي وعليه دينٌ، فعرضتُ على غُرمائهِ أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك له، فقال: "إذا جَدَدتَهُ فوضعْتَه في المِربدِ آذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فجاء ومعه أبو بكر وعمر، فجس عليه ودعا بالبركة، ثم قال: "ادعُ غرماءك فأوْفهم" فما تركتُ أحداً له على أبي

_ = المزود: كمنبر، وهو الوعاء الذي يحمل فيه الزاد. الحقو: مشدُّ الإزار، وسمي الإزار نفسه حقوا لذلك. 955 - البخاري (5/ 60) 43 - كتاب الاستقراض -9 - باب إذا قاص أو جازفه في الدين تمراً بتمر أو غيره. فاستنظره: الاستنظار: طلبُ التأخير إلى وقت آخر، وأنظرتُه: أخرتُه. الجداد: قطع ثمر النخل، وهو الصرام. (1) البخاري (5/ 310) 53 - كتاب الصلح -13 - باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث، والمجازفة في ذلك، المربد: موضع التمر الذي يُجمع فيه.

دينٌ ألا قضيتُهُ، وفضل ثلاثة عشر وسقاً: سبعة عجوةً، وستةً لونُ - أو ستةً عجوةٌ وسبعةُ لون - فوافيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فذكرتُ ذلك له، فضحك، فقال: "ائت أبا بكر وعمر فأخبرهما" فقالا: لقد عَلمنا إذْ صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع أن سيكون ذلك. وقال في رواية (1): "صلاة العصر" وفي رواية (2): "صلاة الظهر". وفي أخرى قال (3): تُوفِّيَ عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دينٌ، فاستعنتُ بالنبي صلى الله عليه وسلم على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلمْ يفعلوا، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب، فصنف تمرك أصنافاً: العجوة على حدة، وعذق ابن زيد على حدة، ثم أرسل إليِّ" ففعلتُ، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس على أعلاه - أو في وسطه- ثم قال: كلْ للقومِ، فكلتَهُم، حتى أوفيْتهُم الذي لهم وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء. وفي رواية (4): فما زال يكيلُ لهم حتى أدَّاه. وفي أخرى نحوه، وفيه زيادة، قال جابر رضي الله عنه (5): أُصيبَ عبدُ الله وتركَ عيالاً وديناً، فطلبتُ إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضاً من دَينهِ فأبوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستشفعتُ به فأتوا. فقال: "صنِّفْ تمرك كل شيءٍ منه على حدتهِ: عذِقٍ ابن زيدٍ على حدة، واللين على حدةٍ، والعجوة على حدةٍ، ثم أحضرهم حتى آتيك" ففعلتُ. ثم جاء صلى الله عليه وسلم فقعد عليه، وكال لكل رجل حتى استوفى، وبقي التمر كما هو كأنه لم

_ (1) البخاري معلقاً في نفس الموضع السابق. (2) البخاري معلقاً في نفس الموضع السابق. (3) البخاري (4/ 344) 34 - كتاب البيوع-51 - باب الكيل على البائع والمعطى. على حدة: منفرداً، يعني كل جنس وحده. علق زيد: نوع من التمر بالمدينة معروف، وكذلك اللينة والعجوة، وقيل: اللينة، واللون: واحد الألوان، وهو عند أهل المدينة: كل تمر ليس بعجوة، وقيل: اللينة: جميع النخل من غير استثناء، والأول أشبه. (4) البخاري (4/ 344) 34 - كتاب البيوع-51 - باب الكيل على البائع والمعطي. (5) البخاري (5/ 67) 43 - كتاب الاستقراض- 18 - باب الشفاعة في وضع الدين.

يُمَسُّ وغزوتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم على ناضحٍ لنا، فأزْحَفَ الجملُ فتخلف على فوكزهُ النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى (1): أن أباهُ استُشهد يوم أُحُدٍ وترك ستُ بناتٍ ترك عليه ديناً، فلما حضرهُ جِذاذُ النخلِ أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله قد علمت أن والدي استشهد يوم أُحُد وترك عليه ديناً كثيراً، وإني أُحبُّ أن يراك الغرماء، قال: "اذهب فبيدِرْ كل تمرٍ على ناحيةٍ" ففعلتُ، ثم دعوته، فلما نظروا إليه أُغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدراً ثلاث مراتٍ، ثم جلس عليه ثم قال: "ادعُ أصحابك فما زال يكيلُ لهم حتى أدى الله أمانة والدي، وأنا والله راضٍ أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أُرجعُ إلى أخواتي تمرةً، فسلم والله البيادرُ كلُّها حتى أني أنظرُ إلى البيدر الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه لم ينقُص تمرةً واحدةً. وفي أخرى (2): أن أباه تُوفي وعليه دينٌ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبي ترك عليه ديناً، وليس عندي إلا ما يُخرجُ نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلقْ معي لكيلا يُفْحِشَ عليَّ الغُرماء، فمشى حول بيدرٍ من بيادر التمر، فدعا، ثم آخر، ثم جلس عليه، فقال: "انزِعوهُ فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم". وفي أخرى (3): أن أباه قُتل يوم أُحُدٍ شهيداً، فاشتد الغرماءُ في حقوقهم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي، ويُحَلِّلوا أبي، فأبوا فلم يعطهم ولم يكسره لهم، ولكن قال: "سأغد عليك إن شاء الله"، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، فدعا في ثمره بالبركة، فجددتُها، فقضيتُهم حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها

_ (1) البخاري (5/ 413) 55 - كتاب الوصايا - 36 - باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة. البيدرة: جمع الثمرة في البيدر، وهو المكان الذي تجمع فيه قبل نقلها إلى البيوت، وكذلك موضع الفلات يسمى بيدراً. أغريت: فلاناً بفلان: إذا حملته على قصده، والمراد: أنهم لجُوا في مطالبتي ألحوا والسبب: طمعهم أن يساعده النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء والدائن يهودي، وقد فعل اليهود مثل هذا يوم مكاتبة سلمان الفارسي. (2) البخاري (6/ 587) 61 - كتاب المناقب -25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (3) البخاري (5/ 224) 51 - كتاب الهبة-21 - باب إذا وهب ديناً على رجل.

بقية، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهو جالسٌ: "اسمع يا عمر" فقال عمر: ألا يكونُ قد علمنا أنك رسول الله؟ والله إنك لرسول الله. وفي رواية أبي داود (1): أنأباهُ تُوفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجلٍ من يهود، فاستنظرهُ جابرٌ فأبى، فكلم جابرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له عليه، فأبى عليه، وكلمه رسول الله أن يُنظرَهُ، فأبى، وساق الحديث وللنسائي في رواية قال (2): كان ليهودي على أبي تمر، فقُتِلَ يوم أُحُد، وترك حديقتين، وتمر اليهودي يستوعبُ ما في الحديقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن تأخذ العام نصفه، وتؤخر نصفه؟ " فأبى اليهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن تأخذ الجِدادَ؟ " فآذني، فآذنته، فجاء هو وأبو بكرٍ، فجعل يُجدُّ ويُكالُ منْ أسفلِ النخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة، حتى وفيناه جميع حقه من أصغر الحديقتين، فيما يحسبُ عمار، ثم أتيتُهم برُطبٍ وماء، فأكلوا وشربوا ثم قال: "هذا من النعيم الذي تسألون عنه". قال ابن حجر: وأصناف تمر المدينة كثيرة جداً، فقد ذكر الشيخ أبو محمد الجويني في "الفروق" أنه كان بالمدينة فبلغه أنهم عدوا عند أمرها صنوف التمر الأسود خاصة فزادت على السنين. قال: والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم. 956 - * روى أحمد والدارمي عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ليقاتلهم فقال أبي عبد الله: يا جابرُ لا عليك أن تكون في نظاري

_ (1) أبو داود (3/ 119) كتاب الوصايا - باب في الرجل يموت وعليه دين وله وفاء يستنظرُ غرماؤه ويرفق بالوارث. (2) النسائي (6/ 246) كتاب الوصايا - باب قضاء الدين قبل الميراث. 956 - أحمد في مسنده (3/ 397، 398)، وإسناده حسن. والدارمي واللفظ له (1/ 22) في المقدمة، باب ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم في بركة طعامه.

أهل المدينة، حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بناتٍ لي بعدي لأحببتُ أن تُقتل بين يديَّ. قال: فبينما أنا في الناظرين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي لتدفنهُما في مقابرنا فلحق رجل ينادي: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرُكم أن تردوا القتلى فتدفنوها في مضجعها حيث قُتلتْ، فرددناهما فدفناهما في مضجعهما حيثُ قُتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيانٍ إذ جاءني رجلٌ فقال: يا جابر بن عبد الله، لقد أثار أباك عُمال مُعاوية، فبدأ فخرج طائفة منهم، فانطلقت إليه فوجدتُه على النحو الذي دفنته، لم يتغير إلا ما لم يدع القتيل قال: فواريته. وترك أبي عليه ديناً من التمر، فاشتد عليَّ بعض غرمائه في التقاضي، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم كذا وكذا، وإنه ترك عليه ديناً من التمر، وإنه قد اشتد عليَّ بعض غرمائه في الطلب، فأحِبُّ أن تُعينني عليه لعلهُ أن يُنظرني طائفة من تمره إلى هذا الصِّرَام المقبل، قال: "نعم آتيك إن شاء الله قريباً من وسط النهار"، قال: فجاء ومعه حواريوه، قال: فجلسوا في الظل وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن، ثم دخل علينا قال: وقد قلت لامرأتي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء اليوم وسط النهار فلا يُرينَّكِ، ولا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ولا تكلميه ففرشت فراشاً ووسادة فوضع رأسه فنام. فقلتُ لمولي لي: اذبح هذه العِناق- وهي داجنٌ سمينةٌ- فالوَحا والعجَل، افرُغْ منها قبل أن يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معك، فلم نزل فيها حتى فرغنا منها وهو نائم. فقلتُ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يستيقظُ يدعُو بطُهُوره، وأنا أخاف إذا فرغ أن يقوم - أي أن يذهب- فلا يفرغ من طُهُوره حتى يوضع العِناقُ بين يديه. فلما استيقظ قال: "يا جابر إيتني بطهُور" قال: نعم، فلم يفرغ من وضوئه حتى وُضِعَتْ العناقُ بين يديه. قال: فنظر إليَّ فقال: "كأنك قد عَلِمْت حُبَّنا اللحم. ادع أبا بكر" ثم دعا حوارييه، قال: فجيء بالطعام فوُضِعَ. قال: فوضع يده وقال: "بسم الله كلوا"، فأكلوا حتى شبعوا، وفضل منها لحمٌ كثير. وقال (1): [الراوي

_ = أثار آباك: أي قلب الأرض عن أبيك. الصرام المقبل: أي وقت اجتناء التمر من العام الآتي. فالوحا: أي فالإسراع في ذلك، ثم أكد ذلك بقول (والعجَل). =

جابر] والله إن مجلس بني سلمة لينظرون إليهم: هو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) أحبُّ إليهم من أعينهم ما يقربُونه مخافة أن يُؤذُوه. ثم قام وقام أصحابُه فخرجوا بين يديه، وكان يقول: "خَلُّوا ظهري للملائكة" قال: فاتبعتهم حتى بلغت أُسْكُفَّة الباب، فأخرجت امرأتي صدرها وكانت ستيرة، فقالت: يا رسول الله صلْ عليَّ وعلى زوجي. قال "صلى الله عليك وعلى زوجك" ثم قال: ادعوا لي فلاناً، للغريم الذي اشتد عليَّ في الطلب، فقال: "أنْسيء جابراً طائفةً من دينك الذي على أبيه إلى هذا الصِّرام المُقبل، قال ما أنا بفاعل. قال: واعتل وقال: إنما هو مال يتامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين جابر؟ " قال: قلت: أنا ذا يا رسول الله. قال: "كِلْ له من العجوة فإن الله تعالى سوف يُوفيه" فرفع رأسه إلى السماء فإذا الشمسُ قد دلكت. قال: "الصلاة يا أبا بكر" قال: فاندفعوا إلى المسجد. فقلت لغريمي: قرِّب أوْعيتك، فكِلْتُ له من العجْوة فوفاه الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا، قال: فجئتُ أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده كأني شرارة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى، فقلت له: يا رسول الله إني قد كِلْتُ لغريمي تمرهُ فوفاهُ الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عمر بن الخطاب؟ " قال: فجاء يُهرْول قال: "سل جابر بن عبد الله عن غريمه وتمره" قال: ما أنا بسائله. قد علمتُ أن الله سوف يوفيه إذْ أخبرت أن الله سوف يوفيه. فردُدَ عليه وردد عليه هذه الكلمة ثلاث مرات، كل ذلك يقول: ما أنا بسائله. وكان لا يُراجعُ بعد المرة الثالثة فقال: "ما فعل غريمك وتمرك؟ قال: قلتُ (1): وفاه الله وفضل لنا من التمر كذا وكذا

_ = خلوا ظهري للملائكة: أي سيروا أمامي. وهذه من تواضعه صلى الله عليه وسلم. أسكفة الباب: عتبته. - قوله (فقالت: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي): الصلاة: الدعاء والاستغفار وفيه جواز كلام المرأة للرجال عند الحاجة وبشرط العفة. أنْسِئ: أخر. دلكت الشمس: حان وقت الظهر بدلوك الشمس. كأني شرارة: أي من السرعة والفرح. قوله: ما أنا بسائله: رفض عمر رضي الله عنه السؤال بسبب تصديقه بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بالسؤال بسبب سروره لمباركة الله في تمر جابر.

فرجعتُ إلى امرأتي. فقلت: ألم أكن نهيتُكِ أن تكلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي؟ فقالت: تظن أن الله تعالى يُورِدُ نبيهُ في بيتي ثم يخرج ولا أسأله الصلاة عليَّ وعلى زوجي. 957 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: تعُدُّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعُدُّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة - والحديبية بئر - فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناءٍ من ماءٍ، فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيدٍ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابُنا. وفي رواية نحوهُ، إلا أنه قال (1): "ائتوني بدلوٍ من مائها" فأتِيَ به فبصق فدعا، ثم قال: "دعُوها ساعة" قال: فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلُوا. قال ابن حجر: قوله (ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان) يعني قوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (2) وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم، والتحقيق أنه يختلف ذلك باختلاف المراد من الآيات، فقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} المراد بالفتح هنا الحديبية لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما: ثم تبعت الأسباب بعضها بعضاً إلى أن كمل الفتح. وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه إنما كان الكفر حيث القتال (3) فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضاً وتفاوضوا في

_ 957 - البخاري (7/ 441) 64 - كتاب المغازي -35 - باب غزوة الحديبية. غير بعيد: أي فترة يسيرة. (1) البخاري في نفس الموضع. (2) الفتح: 1. (3) أقول: إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا =

الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. أهـ. 958 - * روى ابن خزيمة عن جابر بن عبد الله: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضرتِ الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما في القوم طهورٌ؟ " قال: فجاء رجل بفضل ماء في إداوةٍ. قال: فصبهُ في قدح فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم إن القوم أتوا بقية الطهور. فقال- (أحدهم) - تمسحُوا به، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "على رسلكم" فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في القدح في جوف الماء، ثم قال: "أسبغُوا الطهُور" فقال جابر بن عبد الله: والذي أذهب بصري - قال: وكان قد ذهب بصره- لقد رأيت الماء ينبعُ من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرفع يده حتى توضؤوا أجمعُون قال عبيدة، قال الأسود، حسبتُهُ قال: كنا مائتين أو زيادة. 959 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نعدُّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فقل الماء، فقال: "اطلبوا فضلةً من ماءٍ" فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: "حي على الطهور المبارك، والبركة من الله تعالى" فلقد رأيتُ الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكلُ. وفي رواية النسائي قال (1): كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: فلم يجدوا ماءً، فأُتي بتورٍ فأدْخَل يدهُ، فلقد رأيتُ الماء يتفجرُ من بين أصابعه، ويقول: "حيَّ على الطهور، والبركة

_ = فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يُكلمْ أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه. 958 - صحيح ابن خزيمة (1/ 57) كتاب الوضوء - باب إباحة الوضوء من فضل وضوء المتوضئ وإسناده صحيح. 959 - البخاري (6/ 587) 61 - كتاب المناقب - 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. وأنتم تعدونها تخويفاً: إشارة إلى أن المخاطبين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا ينظرون إلى الآيات بخوف وذلك أخذاً من قوله تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسلُ بالآيات إلا تخوفياً) (الإسراء: 59). وإنما تغيرت النظرة بين الجيل والجيل؛ لأن الصحابة كانوا آمنين بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. (1) النسائي (1/ 60) كتاب الطهارة- باب الوضوء من الإناء.

من الله تعالى". قال الأعمش: فحدثني سالمُ بن أبي الجعْدِ قال: قلتُ لجابرٍ: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وخمسمائة. 960 - * روى ابن ماجة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! لقد جئتُك من عندِ قومٍ ما يتزوَّدُ لهم راعٍ، ولا يخطرُ لهم فحلٌ فصعِدَ المنبر، فحمد الله ثم قال: "اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً غير رائثٍ" ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا قد أحيينا. 961 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ربما ذكرتُ قول الشاعر- وأنا أنظرُ إلى وجه رسول الله يستسقي" فما ينزلُ حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يُستسقي الغمامُ بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمةً للأراملِ وهو قول أبي طالب.

_ 960 - ابن ماجه (1/ 404) 25 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها -154 - باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء. وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. ما يتزود لهم راع: يعني من الجدب والفقر، فلا يخرج لهم راع. ولا يخطر لهم فحلُ: المراد بيان ضعف الفحل الذي هو أقوى من الأنثى وهي من خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد مرة. قال السندي: "قوله (مريئا) بالهمز بمعنى محمود العاقبة (مريعاً) بضم الميم وفتحها مع كسر الراء والياء التحتانية من الريع وهو الزيادة. قوله طبقاً أي مائلاً إلى الأرض مغطياً. يقال غيث طبق أي عام واسع قوله عاجلاً في الحال. غير رائث أي بطيء متأخر، يقال راث يريث بالمثلثة إذا أبطأ. أهـ. 961 - البخاري معلقاً (2/ 494) 15 - كتاب الاستسقاء -3 - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. قال الحافظ في "الفتح": قوله: (وقال عمر بن حمزة)، أي: ابن عبد الله بن عمر، وسالم شيخه وهو عمه، وعمر يختلف في الاحتجاج به، وكذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المذكور في الطريق الموصولة فاعتضدت إحدى الطريقين بالأخرى، وهو من أمثلة إحدى قسمي الصحيح، كما تقرر في علوم الحديث، وطريق عمر بن حمزة المعلقة وصلها أحمد وابن ماجه والإسماعيلي من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل الثقفي عنه. قال السندي: قوله حتى يجيش: في القاموس جاش البحر يجيش إذا علا، والعين إذا فاضت، والوادي إذا جرى، وقال السيوطي: بجيم وشين معجمة أي يتدفق ويجري بالماء وقوله ثمال اليتامى: الغياث يقال: فلان ثِمالُ قومه أي غياث لهم يقوم بأمرهم.

962 - * روى مالك عن أبي الطفيل عامر بن واثلة؛ أن معاذ بن جبلٍ أخبرهُ أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام تبوك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعُ بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال: فأخر الصلاة يوماً. ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل. ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. ثم قال: "إنكم ستأتون غداً، إن شاء الله، عينَ تبوك. وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهارُ. فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً. حتى آتى" فجئناها، وقد سبقنا إليها رجلان. والعين تَبِضُّ بشيء من ماءٍ. فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسسْتُما من مائها شيئاً؟ " فقالا: نعم. فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غَرَفُوا بأيديهم من العين، قليلاً قليلاً. حتى اجتمع في شيء ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه وجهه ويديه. ثم أعاده فيها. فجرتِ العينُ بماءٍ كثير. فاستقى الناسُ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ، يا معاذ، إن طالت بك حياة، أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً". 963 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عُطِشَ الناسُ يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحو - وفي رواية (1): جهش الناس نحوه- فقال رسل الله صلى الله عليه وسلم: "مالكم؟ " قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب، إلا ما في رَكْوَتِكَ، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قال: فقلتُ لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألفٍ لكفانا، كنا خمسَ عشرة مائةً. هذا حديث البخاري، وهو أتم، ولم يُخرجْ مسلم منه إلا قوله (2): لو كنا مائة ألفٍ لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.

_ 962 - الموطأ (1/ 143) 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر-1 - باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر. 963 - البخاري (7/ 441) 64 - كتب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الإنسان: وهو مع ذلك يريد أن يبكي كالصبي يفزعُ إلى أمه. (1) البخاري (6/ 581) 61 - كتاب المناقب - 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (2) مسلم (3/ 1484) 33 - كتاب الإمارة -18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال.

وله أيضاً في رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعْد، قال (1): قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة، لم يزد. وللبخاري أن جابراً قال (2): قد رأيتُني مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضرت العصرُ، وليسمعنا ماء غير فضلةٍ، فجُعل في إناءٍ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم به، فأدخل يده فيه، وفرَّج أصابعه، ثم قال: "حيَّ على أهل الوضوء، والبركةُ من الله" فلقد رأيت الماء يتفجرُ من بين أصابعه، فتوضأ الناس وشربُوا، فجعلتُ لا آلو ما جعلتَ في بطني منه، فعلمت أنه بركة، قلت لجابرٍ: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفٌ وأربعمائة. قال البخاري: وقال حُصينُ وعمروُ بن مُرة عن سالم عن جابر: خمس عشرة مائة. وأخرج مسلم (3) من رواية حُصينٍ وعمرو بن مُرة بالإسناد. وللبخاري (4) من حديث ابن المسيب: أن قتادة قال له: لقد بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. قال البخاري تابعه أبو داود عن قرة عن قتادة، وقد قال بعض الرواة: عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن ابن المسيب قال: نسي جابر، كانوا خمس عشرة مائة ولم يقل: حدثني جابر. 964 - * روى أحمد والطبراني عن البراء بن عازب قال: كُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأتينا على ركيةٍ دمنةٍ - أي قليلة الماء - قال: فنزل فيها ستةٌ أنا سادسُهم

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. (2) البخاري (10/ 101) 74 - كتاب الأشربة -21 - باب شُرب البركة، والماء المبارك. (3) مسلم (3/ 1484) 33 - كتاب الإمارة-18 - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. (4) البخاري (7/ 443) 64 - كتاب المغازي - 35 - باب غزوة الحديبية. 964 - أحمد في مسنده (4/ 282) والمعجم الكبير (2/ 26). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 300): رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح. ركية: الركيةُ: البئر لم تطو، ولم تطو: أي لم تدفن بالحجارة. دمنة: الدمنة في الأصل خشاش الأرض إذا اجتمع، وهذه بئر مهجورة.

ماحةً. قال: فأدليتْ إلينا دلوٌ قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة الرَّكي، قال: فجعلنا فيها نصفها أو قريب ثلثيها فرُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البراء: فجئتُ بإنائي هل أجد شيئاً أجعله في حلقي؟ فما وجدتُ، فرُفِعَتِ الدلُو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمس يده فيها، فقال: ما شاء الله أن يقول: فأعيدتْ إلينا الدلْوُ بما فيها. قال: فقد رأيتُ آخرَنا أُخْرِجَ بقوةٍ خشية الغرقِ. قال: ثم ساحت - يعني جرت نهراً-. 965 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العُسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قَيْظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحرُ بعيره فيعصِرُ فرثَهُ فيشربُه، ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إنْ اله قد عوْدك في الدعاء خيراً، فادع له. فقال: "أتحبُّ ذلك؟ " قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهُما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جازت العسكر. 966 - * روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا أشريْنا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء فنسي عوفٌ- ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يُوقَظْ حتى يكون هو نستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه. فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس - وكان رجلاً جليداً - فكبَّرَ ورفع صوته بالتكبير، فما زال يُكبِّرُ ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال (1): "لا ضير

_ ماحةً: من الميح وهي جمع مائح، وهو الذي ينزل إلى البئر ويملأ الدلو. وذلك إذا قل ماؤها ليسقي من يحتاج من القوم. 965 - المستدرك (1/ 159)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 966 - البخاري (1/ 447) 7 - كتاب التيمم -6 باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء. ومسلم نحوه (6/ 476) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة -55 - باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. جليداً: الجليد: الجلدُ القوي في نفسه وجسمه. =

- أو لا يضيرُ - ارتحِلوا" فارتحل، فسار غير بعيدٍ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونُودِيَ بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يُصلِّ مع القوم، قال: "ما منعك يا فلان أن تُصلي مع القوم؟ " قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء. قال: "عليك بالصعيد. فإنه يكفيك" ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاءٍ نسيه أبو عوفٌ- ودعا علياً فقال: "اذهبا فابتغيا الماء" فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء على بعيرٍ لها فقالا لها: أين الماءُ؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خُلوفاً. قالا لها: انطلقي إذاً. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت الذي يُقال له الصابئُّ. قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي. فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاهُ الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودع النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرَّغَ فيه من أفواه المزادتين - أو السطيحتين - وأوكأ أفواههُما وأطلق العزالي ونُودي في الناس: اسقوا واستقوا. فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماءٍ. قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظرُ إلى ما يُفْعَلُ بمائها. وايمُ الله لقد أُقْلعَ عنها وإنه ليُخيَّلُ إلينا أنها أشدُّ ملأةُ منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لها" فجمعوا لها - من عجوةٍ ودقيقةٍ وسويقةٍ- حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوبٍ وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: "تعلمين ما رزِئْنا من مالك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا" فأتتْ أهلها وقد احتبسَتْ عنهم. قالوا: ما حَبَسكِ يا فُلانةُ؟ قالت: العجبُ، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقالُ له الصابئُّ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحرُ الناس من بين هذه وهذه (1) - وقالت بإصبعيْها الوُسطى والسبابة فرفعتهما إلى

_ = الضير والضرر: المضرة، ولا يضير: لا يضرُ، إلا أنه تفعل من الضير. الصعيد: وجه الأرض، وقيل: التراب خاصة النفر: جماعة القوم. الخلوف: الغيب عن الحي، والمعنى: أن الرجال قد خرجوا من الحي، وأقام النساء. الصابئ: الذي خرج من دين إلى دين آخر، وكان المشركون يسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصابئ، لمفارقته دينهم. الإيكاء: الشد والربط، الوكاء: ما يشد به رأس القِربة وغيرها من خيط ونحوه. العزالي: أفواه المزادة السفلى: واحدها: عزلاء. ما رزأنا: أي ما أخذنا ولا نقصنا. =

السماء تعني السماء والأرض - أو إنه لرسول الله حقاً. فكان المسلمون بعد لك يُغيرون على من حولها من المشركين ولا يُصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه. فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعُونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام. 967 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانتْ صلاةُ العصر، فالتمس الناسُ الوضوء، فَلَمْ يجدوهُ، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يدهُ، وأمر الناس أن يتوضؤوا منهُ، قال: فرأيتُ الماء ينْبُع من تحتِ أصابعه، حتى توضؤُوا منْ عند آخرهم. وفي رواية قال (1): إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماءٍ، فأُتي بقدحٍ رحراحٍ، فجعل القومُ يتوضؤون، فحزرْتَ ما بين الستين إلى الثمانين، قال: فجعلتُ أنظرُ إلى الماء ينبعُ من بين أصابعه. وللبخاري قال (2): حضرتِ الصلاةُ، فقام من كان قريب الدارِ من المسجد يتوضأ، وبقي قومٌ، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِخْضَبٍ من حجارةٍ فيه ماءٌ، فوضع كفه فصغُر المِخْضَبَ أنْ يبْسط فيه كفُهُ، فضم أصابعه فوضعها في المخضب، فتوضأ القومُ كلهم جميعاً، قلت: كمْ كانوا؟ قال: ثمانون رجلاً. وله في أخرى قال (3): خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مخارجه، ومعه ناسٌ من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ماء يتوضؤون، فانطلق رجلٌ من القوم

_ = الصّرْم: طائفة من القوم ينزلون بإبلهم ناحية من الماء منفردين. 967 - البخاري (1/ 371) 4 - كتاب الوضوء - 32 - باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة. ومسلم (4/ 1783) 43 - كتاب الفضائل -3 - باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. (1) البخاري بنحه (1/ 304) 4 - كتاب الوضوء -46 - الوضوء من التوْر ومسلم واللفظ له (4/ 1783) 43 - كتاب الفضائل -3 - باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. رحراح: الإناء الواسع القصير الجدار. (2) البخاري (6/ 581) 61 - كتاب المناقب - 35 - باب علامات النبوة في الإسلام. المِخْضَب: إناء واسع يغسل الناس فيه ثيابهم ويستعمل لما سوى ذلك. (3) البخاري في نفس الموضع السابق.

فجاء بقدحٍ من ماءٍ يسير، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم مد أصابعه الأربع على القدح، ثم قال: "قومُوا فتوضؤوا"، فتوضأ القومُ حتى بلغوا فيما يُريدون من الوضوء، وكانوا سبعين، أو نحوه. ولهما في رواية قال (1): أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبعُ من بين أصابعه، فتوضأ القومُ. قال قتادةُ: قلتُ لأنسٍ: كَمْ كنتُم؟ قال: ثلاثمائةٍ، أو زُهاء ثلاثمائة. ولمسلم (2): أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان وأصحابه بالزوراء - قال: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيما ثمَّه - دعا بقدح فيه ماءٌ، فوضع كفه فيه فجعل ينبعُ من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زُهاء الثلاثمائة. وللنساء قال (3): طلب بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحدٍ منكُم ماءٌ؟ " فوضع يدهُ في الماء، ويقول: "توضؤوا بسم الله" فرأيت الماء يخرُج من بينِ أصابِعِه، حتى توضؤوا من عند آخرهم. قال ثابت: قلت لأنس: كمْ تراهُم؟ قال: نحواً من سبعين. 968 - * روى مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلبُ العلمَ في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعهُ غلامٌ لهُ. معهُ صمامةٌ من صُحُفٍ وعلى أبي اليسر بردة ومعافري. وعلى غُلامه بردة ومعافري. فقال له أبي: يا عمِّ! إني أرى في وجهك

_ (1) البخاري في نفس الموضع السابق (6/ 580) ومسلم (4/ 1783) 43 - كتاب الفضائل -3 - باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. زهاء: كذا: قدر كذا وما يقاربه. (2) مسلم نفس الموضع السابق. (3) النسائي (1/ 61) كتاب الطهارة - باب التسمية عند الوضوء. 978 - مسلم (4/ 3301) 53 - كتاب الزهد والرقائق -18 - باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر. ضمامة: الإضمامة من الكتب: الرزمة المجتمعة منها، والذي جاء في مسلم ضمامة بغير ألف. المعافري: ثوب ينسب إلى معافر، وهو موضع باليمن. =

سفعة من غضبٍ. قال: أجل كان لي على فلان بن فلان الحرامي مالٌ. فأتيتُ أهلهُ فسلمتُ. فقلت: ثم هو؟ قالوا: لا. فخرج علي ابن له جفرٌ. فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت: اخرجْ إليَّ. فقدْ علمتُ أين أنت. فخرج. فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله! أُحدثك. ثم لا أكذبُك. خشيتُ، والله! أن أحدثك فأكذبك. وأن أعدك فأخلفك. وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت، والله! معسراً. قال: قلتُ: آلله! قال: اللهِ! قلت: آللهِ! قال: الله. قلت: آلله! قال: الله. قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده. فقال: إن وجدت قضاء فاقضني. وإلا أنت في حِلٍّ، فأشهدُ بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين، ووعاهُ قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من أنْظَرَ معسراً" أو وضعه عنهُ، أظلهُ الله في ظله". قال فقلتُ له أنا: يا عم! لو أنك أخذت بُردة غُلامِكَ وأعطيتَهُ معافريكَ، وأخذت معافريهُ وأعطيته بُرْدَتك، فكانت عليك حُلةً وعليه حُلةً. فمسح رأسي وقال: اللهم! بارك فيه. يا ابن أخي! بصرُ عيني هاتين، وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هاذ (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أطعموهم مما تأكلون. وألبسوهم مما تلبسون". وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون عليَّ منْ أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة. ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده، وهو يُصلي في ثوبٍ واحدٍ (1)،

_ = السُفعة: تغير اللون من الغضب، وأصله من سفعتهُ النار: إذا غيرت لونه. الحرامي: نسبة إلى بني حرام. غلام جفر: أي مشتد قوي. أريكة: الأريكة: السرير المنضد عليه فرش، ودونه ستر، وقيل: كل ما اتُّكئ عليه. قلت ألله: أتحلف بالله. قال الله: أحلف بالله. نياط القلب: هو العرق المعلق بالقلب. الحُلة: ثوبان من جنس واحد.

مشتملاً به. فتخطيتُ القومَ حتى جلستُ بينه وبين القِبْلَة. فقلت: يرحمُك الله! أتصي في ثوبٍ واحدٍ ورداؤك إلى جنبك؟ قال: فقال بيده في صدري هكذا. وفرَّق بين أصابعه وقوسها: أردتُ أن يدخل علي الأحمق مثلك، فيراني كيف أصنعُ، فيصنعُ مثله. أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طابٍ، فرأى في قبلة المسجد نُخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: "أيكم يُحبُّ أن يُعْرِض الله عنه؟ " قال فخشعنا. ثم قال: "أيكُمْ يُحبُّ أن يُعْرِض الله عنه؟ " قال فخشعنا. ثم قال: "أيُّكُم يُحبُّ أن يُعْرِض الله عنه؟ " قلنا: لا أينا، يا رسول الله! قا: "فإن أحدكم إذا قام يُصلي، فإن الله تبارك وتعلى قِبَلَ وجهه فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه. ولا عن يمينه. وليبصُق عن يساره، تحت رجله اليُسْرى. فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا" ثم طوى ثوبه بعضه على بعضٍ فقال: "أرثوني عبيراً" فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله. فجاء بخلوقٍ في راحتِه. فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العُرْجُونِ. ثم لطخَ به على أثر النُّخامة. فقال جابرٌ: فمِنْ هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم.

_ = مشتملاً به: ملتفاً. العُرجون: العود الذي يكون في شماريخ عِذق الرطب. عرجون ابن طاب: نوع من رطب المدينة. النخامة: البزقة التي تخرج من أقصى الحلق من مخرج الخاء المعجمة. فخشعنا: الفزع والخوف، هكذا روينا هذه اللفظة في كتاب مسلم وفي كتاب الحميدي بالجيم، وقد ذكرها الحافظ أبو موسى الأصفهاني ف يكتابه في "تتمة الغريبين" بالخاء المعجمة من الخشوع، وهو الاستكانة والخضوع. فإن عجلت به بادرة: أي غلبته نخامة أو بصاق. فليقل: فليفعل. أروني: أعطوني. العبير: طيب مخلوط، وقيل: العبير عند العرب: الزعفران. يشتدُ: الاشتداد: العدو. الخلوق: طيب له لون أحمر أو أصفر.

سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطنِ بُواطٍ. وهو يطلبُ المجديَّ بن عمرو الجُهنيِّ وكان الناضحُ يعقبهُ منا الخمسةُ والستةُ والسبعةُ. فدارت عُقبةُ رجلٍ من الأنصار على ناضحٍ له فأناخه فركبه. ثم بعثهُ فتلدَّن عليه بعض التلدُّن. فقال له: شأْ لعنك الله. فقال رسول الله: "من هذا اللاعنُ بعيرهُ؟ " قال: أنا يا رسول اله! قال: "انزلْ عنهُ، فلا تصحبنا بملعونٍ. لا تدعُوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكُمْ، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسألُ فيها عطاء، فيستجيبُ لكم". سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانت عُشيْشيةُ ودنونا ماء من مياه العرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رجلُ يتقدمنا فيمدُرُ الحوضَ فيشربُ ويسقينا؟ " قال جابر: فقمتُ فقلتُ: هذا رجلٌ، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّ رجلٍ مع جابرٍ؟ " فقام جبارُ بن صَخْرٍ. فانطلقنا إلى البئر. فنزعنا في الحوض سجلاً أو سجلين. ثم مدرناهُ. ثم نزعنا فيه حتى أفقهناهُ. فكان أول طالعٍ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "أتأذنانِ؟ " قلنا: نعم يا رسول الله! فأشرع ناقتهُ فشربتْ شنق لها فشجتْ فبالتْ. ثم

_ = يعقبه: التعقب ركوب الرفقة على بعير، واحداً بعد واحد، أي يركب هذا عقب هذا والعُقبة: هي تلك الفعلة. فتلدن: تلدن البعير: إذا توقف في المشي وتمكث على راكبه. شأ. لعنك الله: كلمة زجر للبعير. عُشيشيةٌ: تصغير عشية على غير قياس. مدرتُ الحوض: لطخته بالطين تصلحه به وتسدُّ ثقبه. السجل: الدلو العظيمة. نزعت الدلو: جذبتُها واستقيت بها الماء من البئر. أفقهتُ الحوض: ملأته. أشرع ناقته: إذا أوردها الماء. شنق لبعيره: جذب زمامه إليه بعد أن كان أرخاه. فشجت: أي قطعت الشرب، ومنه شججتُ المفازة: قطعتها بالسير هذا الذي فسره الحميدي في شرح كتابه "الجمع بين الصحيحين" والذي رواه الخطابيُّ في غريبه قال: "فأِرع ناقته فشربت، وشنق لها ففشجت وبالت"، وقال: معناه: تفاجت: وفرقت ما بين رجليها لتبول، والذي جاء في كتاب مسلم "فشجت" كما رواه الحميدي بتشديد الجيم، والله أعلم. =

عَدَلِ بها فأنخها، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فتوضأ منه ثم قُمتُ فتوضأت من متوضإ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب جبارُ بن صخرٍ يقضي حاجته. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي. وكانت عليَّ بردة ذهبتُ أن أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي وكانت لها ذياذبُ فنكستُها ثم خالفت بين طرفيها. ثم تواقصْتُ عليها. ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينيه، ثم جاء جبارُ بن صخرٍ فتوضأ. ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفهُ. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقُني وأنا لا أشعرُ. ثم فطِنْتُ به. فقال هكذا، بيده. يعني شُدَّ وسطك. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا جابرُ! " قلتُ: لبيك يا رسول الله قال: "إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه. وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك". سِرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قُوتُ كل رجلٍ منا، في كل يوم، تمرة. فكان يمُصُّها ثم يصرها في ثوبه وكنا نختبط بقِسينا ونأكل حتى قَرِحَتْ أشداقنا فأقسم أخطئها رجلٌ منا يوماً. فانطلقنا به نتعشَهُ. فشهدنا أنه لم يعطها. فأعطيها فقام فأخذها. سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفْيح. فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوةٍ من ماء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئاً يستتر به. فإذا شجرتان بشاطيء الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصنٍ من أغصانها. فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوشِ، الذي يُصانع قائدهُ. حتى أتى

_ = باذب: الذباذب: كل ما يتعلق من الشيء فيتحرك، والذبْذبة: حركة الشيء المعلق. تواقصتُ عليها: أمسكتها بعنقي، وهو أن يحني عليها رقبته. نختبط: الاختباط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها. قرحت أشداقنا: تجرحت من أكل الخبط. أخطئها: يعني أنهم غفلوا عن رجل منهم، فلم يعطوه التمرة التي تخصه نسياناً. ننعشه: نشهد له، كأنه قد عثر فانتعش، فقام فأخذها لما أُعطيها. الأفيح: الواسع. البعير المخشوْش: الذي قد جعل في أنفه الخشاش، وهو عُويد يجعل في أنفه ليكون أسرع لانقياده. =

الشجرة الأخرى. فأخذ بغصن من أغصانها فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصفِ مما بينهما، لأم بينهما (يعني جمعهُمَا) فقال: "التئما علي بإذن الله" فالتأمنا. قال جابر: فخرجتُ أحْضِرُ مخافة أن يُحِسَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرْبي فيبتعد (وقال محمدُ بن عياد: فيتبعد) فجلسْتُ أحدث نفسي. فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً. وإذا الشجرتان قد افترقتا كلُّ واحدةٍ منهما على ساقٍ. فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفةً. فقال يرأسه هكذا (وأشار أبو إسماعيل برأسه يميناً وشمالاً) ثم أقبل. فلما انتهى إلىَّ قال: "يا جابر! هل رأيت مقامي؟ " قلت: نعم. يا رسول الله! قال "فانطلقْ إلى الشجرتين فاقطعْ مِنْ كل واحدة منهما عُصْناً. فأقبل بهما. حتى إذا قمت مقامي فأرسل غُصناً عنْ يمينك وغُصْناً عن يسارك". قال جابر: فقُمتُ فأخذتُ حجراً فكسرتُهُ وحسرْتُهُ فانذلق لي. فأتيتُ الشجرتين فقطعتُ من كل واحدةٍ منهما غُصْناً. ثم أقبلتُ أجرهما حتى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلْتُ غصْناً عن يميني وغصْناً عن يساري. ثم لحقتهُ فقلتُ: قد فعلتُ يا رسول الله! فعَمِّ ذاك؟ قال: "إني مررتُ بقبرينِ يُعذَّبان. فأحْبَبْتُ، بشفاعتي، أنْ يَرَفَّه عنَّهما، ما دام الغُصّْنَانِ رطْبيَيْنِ". قال: فأتيْنا العسْكَرْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا جابرُ! نادِ بوضوءٍ" فقلتْ: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال قلتُ: يا رسول الله! ما وجَدْتُ في الرَّكْبِ مِنْ قطرةٍ. وكان رجلُ من الأنصار يُبَرِّدُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، في أشجابٍ له (1)؛ على حِمارةٍ

_ = المنصف: موضع النصف بين الشيئين. الإحضار: العدو والسعي، ورويداً: على مهل. فانذلق: صار له حد يقطع به، وذلق كل شيء: حده، وأذلقتُ الشيء: إذا حددته. حسرته: قطعته، وهو من حسرتُ الشعر: إذا أزلته من موضعه، وحسرت الذراع: إذا كشفتها، فكأنه كشف نواحي الحجر بالتقطيع، لتنفلق له شيظة من شظاياه يقطع بها غصن الشجر. الأِجاب: جمع شجب، وهو ما أخلق من الأسقية وبلى. حمارة: الحمارة: ثلاثة أعواد يشد بعض أطرافها إلى بعض، ويخالف بين أرجلها، ويعلق عليها السقاء ليبرد الماء. =

منْ جريدٍ. قال فقال لي: "انطلق إلى فلان بن فلانٍ الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيءٍ؟ " قال: فانطلقت إليه فنظرْتَ فيها فلم أجد إلا قطرة في غزلاء شجب منها، لو أني أفرِغَهُ لشربهُ يابسُهُ. فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله! إني لمْ أجد فيها إلا قطرةً في غزلاء شجبٍ منها. لو أني أفرغُهُ لشربهُ يابسُهُ. قال: "اذهب فأتني به" فأخذه بيده فجعَل يتكلمُ بشيءٍ لا أدري ما هو ويغمزُهُ بيديه. ثم أعطانيه فقال: "يا جابرُ! ناد بجفنةٍ" فقلتُ: يا جفنة الركبِ! فأتيتُ بها تُحْمَلُ. فوضعتها بين يديه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في الجفنةِ هكذا. فبسطها وفرق بين أصابعِه. ثم وضعها في قعر الجفنةِ. وقال: "خُذْ. يا جابرُ! قصُب عليَّ. وقل: باسم الله" فصببتُ عليه وقلتُ: باسم الله. فرأيتُ الماء يفورُ بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم فارتِ الجفنة ودارت حتى امتلأت فقال: "يا جابرُ! ناد من كان له حاجة بماءٍ" قال فأتى الناس فاستقوا حتى رووا. قال فقلت: هل بقي أحدٌ له حاجةً؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى. وشكا الناسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع. فقال: "عسى الله أن يُطْعِمكُمْ" فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرةَ. فألقى دابةً. فأورينا على شقها النار. فاطبخنا واشتوينا، وأكلنا حتى شبعنا قال جابرُ: فدخلت أنا وفلان وفلان، حتى عد خمسة، في حجاج عينها. ما يرانا أحد. حتى خرجنا. فأخذنا ضلعاً من أضلاعه فقوسناه. ثم دعونا بأعظم

_ = العَزْلاء: أحد عزالي المزادة، وهو فمها الذي يخرج منه الماء. لشربه يابسه: معناه أنه قليل جداً. فلقلته، مع شدة يبس باقي الشجب، وهو السقاء، لو أفرغته لاشتفه اليابس منه ولم ينزل منه شيء. ويغمزه بيديه: أي يعصره. يا جفنة الركب: أي يا صاحب جفنة الركب. فحذف المضاف للعلم بأنه المراد، وأن الجفنة لا تنادي. ومعناه يا صاحب جفنة الركب التي تشبعهم أحضرها، أي من كان عنده جفنة بهذه الصفة، فليحضره. سيف البحر: ساحله وجانبه. البحرُ يزخرُ: إذا هاج وارتفعت أمواجه. أورينا: أوقدنا النار. حِجاج العين: العظم المستدير حولها، الذي مجموع العين فيه.

رجلٍ في الركبِ، وأعظم جملٍ في اركب، وأعظم كفل في الركبِ، فدخل تحتهُ ما يطأطئ رأسه. 969 - * روى الطبراني عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي فانتهيتُ إليهم وأنا طاوٍ، فانتهيت إليهم وهم يأكلون دما، فقلت: إنما جئتُ أنهاكُم عن هذا، فوضعتُ رأسي فقمتُ وأنا مغلوب فأتاني آتٍ في منامي بإناء فيه شراب، فقال: خذ هذا واشرب ثم كظني بطني فشبعت ثم رويت، فسمعتهم يقولون أتاكُم رجلٌ من سُراة قومكم فلم تنجعوه بالمذيقة، فأتوني بمذيقتهم، فقلت: لا حاجة لي فيها إن الله أطعمني وسقاني فأريتُهم بطني فأسلموا عن آخرهم. 970 - * روى البخاري عن عائشة قالت: لقدْ تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفِّي مِنْ شيء يأكله ذو كبدٍ إلا شطرُ شعيرٍ في رف لي فأكلتُ منه حتى طال علي فكلتُهُ ففَنِيَ. 971 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عهما: أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكةٍ لها سمناً، فيأتيها بنوها، فيسألون الأدْم، وليس ندهم شءٌ، فتعمدُ إلى الذي كانت تُهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجدُ فيه سمناً، فما زال يقيم لها أدْمَ بيتُها حتى عصرتْهُ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "عصرتيها" قالت: نعم، قال: "لو تركتيها ما زال قائماً".

_ = الركب: جمع راكب، والمراد به: الرفقة كلهم. الكِفْل: الكساءُ الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط. 969 - المعجم الكبير (8/ 335) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 387): رواه الطبراني بإسنادين، وإسناد الأولى حسن، فيها أبو غالب، وقد وُثق. 970 - البخاري (11/ 274) 81 - كتاب الرقاق -16 - باب فضل الفقر. 971 - مسلم (4/ 1784) 43 - كتاب الفضائل-1 - باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. العُكة: آنية السمن. الأدْم: ماي ؤكل مع الخبز أي شيء كان.

972 - * روى الطبراني عن قيس بن النعمان السكوني قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر مستخفيان من قريش، فمروا براعٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل من شاة ضربها الفحْل؟ " قال: لا، ولكن ههنا شاة قد خلفها الجهد، قال: "ائتني بها" فأتاه بها فمسح ضرعها ودعا بالبركة، فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال له: تالله ما رأيتُ مثلك، من أنت؟ قال: "إن أخبرتك تكْتُم عليَّ؟ " قال: نعم، قال: "أنا محمدٌ رسول الله" قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: "إنهم يقولون ذلك"، قال: فإني أشهد إنك رسول الله، وإنه لا يقدر على ما فعلت إلا رسول، ثم قال له: اتبعك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما اليوم فلا، ولكن إذا سمعت أنا قد ظهرنا فأتنا" فأتى النبيُ صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر بالمدينة. 973 - * روى البخاري أن أبا هريرة كان يقول: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإنْ كنت لأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليُشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال "يا أبا هِرّ" قلتُ: لبيكَ رسول الله، قال: "الحقْ" ومضى. فتبعتُه، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا أهداهُ لك فلان - أو فلانة - قال: "أبا هر" قلتُ: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعُهم لي" قال: وأهلُ الصفة أضيافُ الإسلام، لا يأوون على أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتتهُ صدقةً بعث إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوّى بها (1)، فإذا جاءوا

_ 972 - المعجم الكبير (18/ 343). وقال الهيثمي في مجمع لازوائد (8/ 312): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: وسنده صحيح. 973 - البخاري (11/ 281) 81 - كتاب الرقاق-17 - باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا.

أمرني فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلُغني من هذا للبن، ولم يكنْ من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بُد، فأتيتُهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم" فأخذتُ القدح فجعلتُ أعطيه الرجل فيشربُ حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فيشربُ حتى يروى، ثم يردُّ عليَّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليَّ فتبسم فقال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "بقيتُ أنا وأنت" قلتُ: صدقت يا رسول الله، قال: "أٌعدْ فاشرب" فقعدتُ فشربت، فقال: "اشربْ" فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلتُ: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً. قال: "فأرني" فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. 974 - * روى الحاكم عن هشام بن حُبيش بن خويلد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة، وأبو بكر رضي الله عنه، ومولى أبي بكر عامرُ بن فُهيرة، ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط، مرُّوا على خيمتيْ أم سعيدٍ الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك (1)، وكان

_ 974 - المستدرك (3/ 9)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويستدل على صحته وصدق رواته بدلائل: فمنها: نزول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيمتين متواتراً في أخبار صحيحة ذوات عدد ومنها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون بوضع الحديث، والزيادة والنقصان، وقد أخذوه لفظاً بعد لفظ عن أبي معبد وأم معبد. ومنها: أن له أسانيد، كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه والأب عن جده، لا إرسال ولا وهن في الرواة ومنها: أن الحر بن الصباح النخعي أخذ عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الذي رويناه بسياقه الحديث عن الكعبيين فإنه إسناد صحيح عال للعرب والأعاربة، وقد علونا في حديث الحر بن الصبح. وأقره الذهبي. برزة: متجاهرة كهلة جليلة تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون وهي عفيفة. تحتبي: أحتبي: جلس على إليتيه وضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند، واحتبى بالثوب أداره على ساقيه وظهره وهو جالس كماسبق. بفناء الخيمة: يعني أما خيمتها.

القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبدٍ؟ " قالت: شاة خلفها الجهدُ عن الغنم. قال: "هل بها من لبن؟ " قالت: هي أجهد من ذلك: قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت: بأبي أنت وأمي. إنْ رأيت بها حلباً فاحلبْها فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى، ودعا لها في شاتها فتفاجتْ عليه درتْ فاجترتْ، فدعا بإناء يُرْبِض الرهْطَ فحلب فيه ثَجًّا حتى علا لبنها البهاءُ، ثم سقاها حتى زويتْ، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا، ثم حلب فيه الثانية على هداةٍ حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها فما لبثتْ حتى جاءها زوجُها أبو معبدٍ، ليسوق أعنزاً عجافاً يتساوكْنَ هزالاً، مخهنِّ قليل، فلما رأى أبو معبد اللين أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد، والشاء عازبُ حائلُ، ولا حلوب في البيت؟ قلت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخَلْق، لم تعبْه ثُجْلَةٌ، ولم تُزريه صعلةً، وسيم قسيمٌ، في عينيه دعجٌ، وفي أشفاره وطفٌ، وفي صوته صهلٌ (1)، وفي

_ = مرملين: يقال فلان رمل: إذا نفد زاده وافتقر. مسنتين: أسنت القوم: أصابتهم سنة مجدبة. كسر الخيمة: الكسر: جانب البيت. أو الناحية من كل شيء. والجمع أكسار وكسور. إن رأيت بها حلباً: أي وجدت بها لبناً. فتفاجت عليه: أي باعدت رجليها للحليب. يُربِضُ الرهط: أربض لشراب القوم: أرواهم حتى أثقلهم، فربضوا وناموا ممتدين على الأرض. ثجاً: ثج الماء ثجوجاً: سال وانصبُ فهو ثاج. والماء ونحوه ثجاً أساله فهو مثجوج. أراضوا: أراض فلان: شرب عللاً بعد نهلٍ. هداة: الهداة: الرفق والأناة. يتساوكن: تساوك: سار سيراً ضعيفاً. والمشية هزلت حتى تمايلت في مشيها من الضعف. عازب: العازب: البعيد. حالل: حالت الناقة تحل حؤولاً وحيالاً، أي ضربها الفحل فلم تحمل. ثُجلة: ثجلاً: عظم بطنه واسترخى، فهو أثجلُ وهي ثجلاء والجمع ثُجلُ. صعلة: الصعلة: الدقة والنحول والخفة في البدن. قسيم: القسامة: الحسن والجمال. دعجُ: دعجتِ العينُ دعجاً ودعجة: شدة سواد العين في شدة بياضها مع سعتها، وهو أدعجُ وهي دعجاءُ. أشفاره: الأشفار: الشُّفْر حرف الجفن الذي ينبت عليه الشعر وهو الهدب. وطف: وطِف - يوْطَفُ. فهو أوْطَفٌ: كثرة شعر حاجبيه وأهدابه مع استرخاء وطول. صهل: حدةٌ وصلابة. من صهيل الخيل وهو صتها. ويروى بالحاء. =

عنقه سطعٌ، وفي لحيته كثاثةٌ، أزجُّ أقرنُ، إن صمتُ فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فصلاً لا تزر ولا هدر كأن منطقهُ خرزاتُ نظمٍ يتحدرن، ربعةٌ لا تشنؤهُ من طولٍ، ولا تقتحمه عين من قصرٍ، غصن بين غصنين، فهو أنضرُ الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً له رُفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفودٌ محشدٌ، لا عابس ولا مفند. قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر، ولقد هممت أنْ أصحبه، ولأفعلن إنْ وجدت إلى ذلك سبيلاً وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه: وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسي رفيق محمد فيسأل قُصي ما زوى الله عنكم ... به من فعالٍ لا تجازى وسؤدد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يُسعد الله يسعد وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبتْ ... عليه صريحاضرة الشاة مزيد فغادره رهناً لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد

_ = سطعٌ: سطع في العنق: ارتفاع وطول العنق. أزَجُّ: أرجُّ الحواجب: الزججُ: تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. أقرن: أي مقرون الحاجبين. فهو أقرنُ وهي قرناءُ. لا نزر: النزرُ قليل الخير. ولا هدر: الهذر: الهذيان. لا تشنؤهُ من طول: أي لا يبْغض لفرط طوله. ويقال: شنئه. شنئتُه أشنؤه شنئاً وشنآناً. والشانئ المبغض. نحفون به: يحيطون به. محفود: المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته. والحفدُ والحفدةُ الخدم والأعوان. محشود: أي أن أصحابه يخدمونه ويجتمعون إليه. لا مفند: ليس بكذاب ولا ضعيف الرأي.

فلما سمع حسان الهاتف بذلك شبب يجاوبُ الهاتف فقال: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقُدس من يسري إيهم ويغتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... فأرشدهم، من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضُلال قومٍ تسفهوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلتْ عليهم بأسعد نبي يرى مالا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أوفى ضحى الغد 975 - * روى الطبراني عن أم معبد أنها قالت: بعثتُ إلى النبي صلى الله عيه وسلم بشاة داجنٍ، فردها وقال: "ابغني شاة لا تحلبُ". 976 - * روى الطبراني عن سعد مولى أبي بكر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه قال في سفر، فنزلنا منزلاً، فقال لي: "يا سعد اذهب إلى تلك العنز فاحلبها" وعهدي بذلك المكان وما فيه عنز، فأتيته فإذا عنز حافل فحلبتُها، قال: لا أدري كم من مرة، ثم وكلت بها إنساناً وشغلت بالرحلة، فذهبت العنزة، فاستبطأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أي سعدُ" قلت: يا رسول الله إن الرحلة شغلتنا، فذهبت العنز فقال: "عن العنز ذهب بها ربها". 977 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (1): كان جذعٌ يقوم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وُضع له المنبرُ سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل

_ 975 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 213)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير حزام بن هشام ابن حبيش وأبيه، وكلاهما ثقة. 976 - المعجم الكبير (6/ 55)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 313): رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 977 - البخاري (3/ 397) 11 - كتاب الجمعة-26 - باب الخطبة على المنبر. العشار: جمع عُشراء، وهي الناقة الحامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها.

رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه. وفي رواية: قال (1): كان المسجدُ مسقوفاً على جُذوع من نخلٍ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقومُ إلى جذع منها ... وذكر نحوه. وفي رواية (2): أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه؟ فإن لي غُلاماً نجاراً، قال: إن شئت. فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صُنع، فصاخت النخلةُ التي كان يخطبُ عندها، حتى كادت أن تنشق. وفي أخرى (3): فصاحت النخلة صياح الصبي - فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئنُّ أنين الصبي الذي يُسكِّتُ، حتى استقرت قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر. وفي رواية النسائي قال (4): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستندُ إلى جذع نخلةٍ من سواري المسجد، فلما صُنع المنبر واستوى عليه اضطربتْ تلك السارية كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكنتْ. 978 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى جذعٍ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحنَّ الجذعُ، فأتاهُ فمسح يده عليه. وفي رواية الترمذي (5): فأتاه فالتزمهُ، فسكن. 979 - * روى ابن خزيمة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

_ (1) البخاري (6/ 602) 61 - كتاب المناقب-25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (2) البخاري (4/ 319) 34 - كتاب البيوع-32 - باب النجار. (3) البخاري (6/ 601) 61 - كتاب المناقب 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (4) النسائي (3/ 102) كتاب الجمعة-باب مقام الإمام في الخطبة. 978 - البخاري (6/ 601) 61 - كتاب المناقب-25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (5) الترمذي (2/ 279) كتاب الجمعة-10 - باب ما جاء في الخطبة على المنبر. 979 - صحيح ابن خزيمة (3/ 140) -وإسناده حسن.

يقوم يوم الجمعة فيُسْنِدُ ظهره إلى جذع منصوبٍ في المسجد، فيخطُبُ فجاء رومي فقال: ألا نصْنَعُ لك شيئاً تقعد وكأنك قائم؟ فصنع له منبراً، له درجتان، ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع خوار الثور؛ حتى ارتجَّ المسجد بخواره حُزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخورُ، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، ثم قال: "والذي نفسي بيده لو لم التزمه ما زال هكذا حتى تقوم الساعة حُزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُفِنَ يعني الجِذْعَ. وفي خبر جابر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا بكى لما فقد من الذِّكْرِ". 980 - * روى الطبراني عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع المسجد فلما صنع المنبرُ حن الجذُع إليه فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم فسكن. قال الترمذي: وفي الباب عن أنس، وجابرٍ، وسهل بن سعدٍ، وأُبي بن كعبٍ، وابن عباس، وأم سلة. قال أحمد شاكر: أحاديث أنس وجابر وسهل بن سعد رواها البخاري، وحديث أبي بن كعب أخرجه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد في زيادته على المسند، وحديثا ابن عباس وأم سلمة أخرجهما في الكبير. وأفاده الشارح. وقد روى أحاديث حنين الجذع أيضاً أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 142 - 143) بأسانيده عن جابر، وعن أبي بن كعب وعن سهل بن سعد، وعن أبي سعيد الخدري، وعن عائشة. وفي الباب أحاديث كثيرة، وصحح كثير من العلماء بالسنة أن حديث حنين الجذع من الأحاديث المتواترة (1)، لوروده عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع

_ 980 - المعجم الكبير (33/ 255). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 183): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون.

ذلك. وانظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية طبعة بولاق (ج 5 ص 158 - 167). وقال الحافظ في الفتح: حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما مستفيضاً يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك عند أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك. أقول: وقد أخرج حديث الجذع الدارمي عن جابر وابن عباس وأبي بن كعب والحسن. 981 - * روى البزار والطبراني عن ابن عمر قال: كُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أين تُريد؟ " قال: إلى أهلي. قال: "هل لك في خيرٍ؟ " قال: ما هو؟ قال: تشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله". قال: من شاهد على ما نقول؟ قال: "هذه الشجرة" فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي فأٌبلت تخدُّ الأرض خدا حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعُوني آتيك بهم وإلا رجعتُ إليك فكنتْ معك. 982 - * روى الدارمي عن ابن عباس قال: أتي رجلٌ من بني عامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُريك آية؟ " قال: بلى قال: "فاذهب، فادع تلك النخلة""، فدعاها فجاءت تنقُزُ بين يديه، قال: قُلْ لها: ترجعُ. قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): "ارجعي" فرجعتْ حتى عادت إلى مكانها. فقال: يا بني عامر ما رأيتُ رجلاً كاليوم أسحر منه.

_ 981 - كشف الأستار (3/ 133)، والمعجم الكبير (12/ 432). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 292): ورواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلي أيضاً والبزار. 982 - الدارمي (1/ 13) في المقدمة، باب ما أكرم الله به نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن. وأورده الهيثمي نحوه في مجمع الزوائد (9/ 10)، وقال: رواه أبو يعلي، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي، وهو ثقة.

983 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبلهُ جبلٌ ولا شجرٌ إلا وهو يقول: السلامُ عليك يا رسول الله. 984 - * روى أحمد والطبراني عن يعلي بن مرة قال: رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشياء ما رآها أحد من قبلي، كنت معه في طريق مكة فمر على امرأةٍ معها ابن لها به لمم ما رأيت لمما أشدُّ منه. فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى، قال: إن شئت دعوتُ له" فدعا له ثم مضى، فمر عليه بعير مادِّ جرَانَه يرغو، فقال: "عليَّ بصاحب هذا" فجاء فقال: "هذا يقول نتجتُ عندهم واستعملوني حتى إذا كبرت أرادوا أن ينحروني" ثم مضى فرأى شجرتين متفرقتين فقال لي: "اذهب فُمرْهُما فلتجتمعا" فاجتمعتا فقضى حاجته وقال: "اذهب فقل لهما يتفرقا" ثم مضى، فلما انصرف مر على الصبي وهو يلعب مع الصبيان، وقد هيأت أمه ستة أكبُش فأهدت له كبشين. وقالت: ما عاد إليه شيء من اللمم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء إلا يعلم أني رسول الله إلا كفرةُ أو فسقةُ الجن والإنس". 985 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (1): كنتُ

_ 983 - الترمذي (5/ 593) 50 - كتاب المناقب- 6 - باب حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي. والدارمي (1/ 12) في المقدمة، باب ما أكرم الله به نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن. 984 - أحمد بنحوه في مسنده (4/ 170)، والمعجم الكبير واللفظ له (22/ 261). والحاكم بنحوه في المستدرك (1/ 371) عي علي بن مرة عن أبيه، وقال: هذا حديث صحيح الإسند، ولم يخرجاه بهذه السياقة. قال في الفتح الرباني: هذه الطرق التي جاءت هنا بعضها صحيح وبعضها حسن ويؤيد بعضها بعضاً. اللمم: المس والجنون. جرانه: الجران: باطن العنق من البعير وغيره. 985 - الترمذي (5/ 560) 49 - كتاب الدعوات-13 - باب في دعاء المريض. وقال: هذا حخديث حسن صحيح. وابن حبان: موارد الظمآن (545) 36 - كتاب النماقب -5 - باب في فضل علي رضي الله عنه.

شاكياً، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحْني، وإنْ كان متأخراً، فارفعني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ " قال: فأعاد عليه ما قال: فضربه برجله، فقال: "اللهم عافِه، أو اشفه" - شك شعبة- فما اشتكيت وجعي بعدُ. 986 - * روى أبو يعلي عن عليٍّ قال: ما رَمِدْتُ ولا صدِعْتُ منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتفل في عيني يوم خيبر حين أعطاني الراية. 987 - * روى الطبراني عن أبيض بن حمَّال أنه كان بوجهه حزازة (يعني القُوباء) فالتقمت أنفه، فدعاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على وجهه فلم يُمس ذلك اليوم وفيه أثر. 988 - * روى البخاري ومسلم عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبتْ بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجِعٌ، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربتُ من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرتُ إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة. وقال الجعيد (1): رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلداً معتدلاً، فقال: قد علمتُ ما مُتعتُ به سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. 989 - * روى الطبراني عن عطاء مولى السائب بن يزيد قال: رأيتُ مولاي السائب

_ 986 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 122)، وقال: رواه أبو يعلي وأحمد باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى، وحديثها مستقيم. 987 - المعجم الكبير (1/ 279). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 412): رواه الطبراني، ورجاله ثقات، وثقهم ابن حبان. 988 - البخاري (1/ 296) 4 - كتاب الوضوء -40 باب استعمال فضل وضوء الناس. ومسلم (4/ 1823) 43 - كتاب الفضائل- 30 - باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، وخله من جسده صلى الله عليه وسلم. زر الحجلة: المراد بالحجلة واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعُرى. (1) البخاري (6/ 560). 61 - كتاب المناقب 21 - باب حدثنا إسحاق بن إبراهيم. 989 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 409)، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الصغير والأوسط ثقات.

ابن يزيد لحيتهُ بيضاءُ، ورأسه أسودُ. فقلتُ: يا مولاي ما لرأسك لا يبيضُّ؟ فقال: لا يبيض رأسي أبداً؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى وأنا غُلام ألعبُ مع الغلمان فسلم وأنا فيهم، فرددتُ عليه السلام من بين الغلمان فدعاني فقال لي: "ما اسمُك؟ " فقلت: السائبُ بن يزيد ابنُ أخت النمر فوضع يده على رأسي، وقال: "بارك الله فيك" فلا يبيض موضعُ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً. وللطبراني في رواية قال (1): كان وسط رأس السائب أسود، وبقيةُ رأسه ولحيته أبيض، فقلت له: يا سيدي والله ما رأيت مثل رأسك هذا قطُّ، هذا أبيضُ وهذا أسودُ، قال: أولا أخبرك يا بني؟ قلت: بلى، قال: إني كنت مع صبيان نلعب، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرضت له فسلمت عليه، فقال: "وعليك، من أنت؟ " فقلت: أنا السائب بن يزيد أخو النمر بن قاسط، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي وقال: "بارك الله فيك" قال: فوالله لا يبيض أبداً، أو قال: لا يزال هكذا أبداً. 990 - * روى أحمد عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء فأتيتهُ بقدح فيه ماء، فكانت فيه شعرة فأخذتها، فقال: "اللهم جملُّهُ" قال: فرأيته وهو ابن أربع وتسعين ليس في لحيته شعرة بيضاء. 991 - * روى الترمذي عن أبي زيدٍ بن أخطب قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجهي ودعا لي، قال عزرَةُ: إنه عاش مائة وعشرين سنة وليس في رأسه إلا شعرات بيض. 992 - * روى أحمد عن أبي العلاء بن عمير قال: كنت عند قتادة بن ملحان حين

_ (1) المعجم الكبير (7/ 160)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 409): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح غير عطاء مولى السائب، وهو ثقة. 990 - أحمد في مسنده (5/ 340). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 378): رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال ستون سنة، وإسناده حسن. 991 - الترمذي (5/ 594) 50 - كتاب النماقب- 6 - باب حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي. وإسناده صحيح. 992 - أحمد في مسنده (5/ 28، 81). =

حضر، فمر رجل في أقصى الدار، قال: فأبصرته في وجه قتادة قال: وكنت إذا رأيتُه كأن على وجهه الدهان قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على وجهه. 993 - * روى الطبراني عن عبد الله بن بسرٍ قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي فقال: "يعيش هذا الغلام قرناً" فعاش مائة سنة وكان في وجهه ثؤلول فقال: "لا يموت حتى يذهب الثؤلول من وجهه" فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه. 994 - * روى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: بينا أعرابي في بعض نواحي المدينة في غنم له عدا عليه الذئب فأخذ شاة من غنمه فأدركه الأعرابي فاستنقذها منه وهجهجه، فعانده الذئب يمشي، ثم أقعى مُسْتَذْفِراً بذنبه يخاطبه، فقال: أخذت رزقاً رزقنيه الله قال: واعجباً من ذئب مُقعٍ مستذفرٍ بذنبه يخاطبني. فقال: والله إنك لتترك أعجب من ذلك. قال: وما أعجبُ من ذلك؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخلتين بين الحرَّتين، يحدث النسا عن نبأ ما قد سبق وما يكون بعد ذلك قال: فنعقَ الأعرابي بغنمه حتى ألجأها إلى بعض المدينة، ثم مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضرب عليه بابه، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أين الأعرابي صاحبُ الغنم؟ " فقام الأعرابي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حَدِّثِ النسا بما سمعتَ وما رأيت" فحدث الأعرابي الناس بما رأى من الذئب وسمع منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "صدق، آيات تكون قبل الساعة، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فيخبره نعله وسوطه وعصاه بما أحدث أهله بعده".

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 319): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. 993 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 404)، وقال: رواه الطبراني والبزار باختصار الثؤلول إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليدركن قرناً"، ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي وهو ثقة. 994 - أحمد في مسنده (3/ 88). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 291): رواه أحمد. ورجال أحد إسناديه رجال الصحيح. وهجهجه: هجهج بالسبع: صاح، وبالجمل: زجره. أقعى: جلس على استه مفترشاً رجليه ناصباً يديه.

وفي رواية قال (1): بينما من أسلم في غُنيمةٍ له يهُشُّ عليها في بيداء ذي الحليفة، إذ عدا عليه ذئب، فانتزع شاة من غنمه فجهجأه الرجل فرماه بالحجارة حتى استنقذ منه شاته فذكر نحوه. وفي رواية عن أبي هريرة (2) قال: جاء ذئب إلى راعي الغنم، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعِدَ الذئب على تل فأقعى واسْتَذْفَر، فقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعه مني، فقال الرجل: تالله إن رأيتُ كاليوم ذئباً يتكلم قال الذئب بأعجب من هذا: رجل في النخلات بين الحرتين يُخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم، كان الرجل يهودياً، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وخبره فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها أمارةً من أماراتٍ بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطُهُ ما أحدث أهلهُ بعده". 995 - * روى أحمد عن أنس بن مالك قال: كان أهل بيت من الأنصار، لهم جمل يسنُون عليه وأن الجمل استصعب عليهم، فمنعهم ظهرهُ، وإن الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه كان لنا جمل نسْتَنِي عليه وإنه استصعَب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرعُ والنخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا" فقاموا، فدخل الحائط والجملُ في ناحيته، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. فقالت الأنصارُ: يا رسول الله إنه قد صار مثل الكلب الكلبِ، وإنا نخافُ عليك صوْلته. فقال:

_ (1) أحمد في مسنده (3/ 89). غُنيمة غنم قليل بيداء ذي الحليفة: مكان مشهور وهو ميقات أهل المدينة ومن وراءهم، على بُعد أميال قليلة من المدينة. (2) أحمد في مسنده (2/ 306). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 392): رواه أحمد، ورجاله ثقات. استزفر: الزفير: إخراج النَّفَسِ. 995 - أحمد في مسنده (3/ 158). وكشف الأستار (3/ 151). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 4): رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحي غير حفص ابن أخي أنس، وهو ثقة. يسنون: يستقون.

"ليس عليَّ منه بأسُ" فلما نظر الجملُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوهُ حتى خر ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذلُ ما كانت قط حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقِلُ تسجُد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلُح لبشر أن يسجد لبشر لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَمِ حقه عليها. والذي نفسي بيده لو كان من قَدَمِة إلى مَفْرِقِ رأسه قرحةً تَنْبَجِسُ بالقيِّحِ والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه". 996 - * روى أبو داود عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يومٍ، فأسر إليَّ حديثاً، لا أُحدثُ به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخلٍ، قال: فدخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جملُ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حَنَّ، وذرفتْ عيناهُ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذِفْراهُ، فسكت، فقال: "من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجملُ" فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ: أنك تُجيعُهُ وتُدْيّبُهُ". 997 - * روى الحاكم عن سفينة قال: ركبتُ البحر في سفينة فانكسرتْ، فركبتُ لوحاً منها فطرحني في أجمةِ فيها أسد فلم يرعني إلا به، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه شِقِّي، فما زال يغمزني ويهديني إلى الطريق حتى وضعني على الطريق، فلما وضعني همهم فظننت أنه يُودعني.

_ 996 - أبو داود (3/ 23) كتاب الجهاد - باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم وإسناده صحيح. هدفا: الهدف: ما ارتفع من بناء ونحوه، ومنه هدف الرامي. حائش: النخل: نخلات مجتمعة. حائطاً: الحائط: البستان. ذِفراهُ: ذفري البعير: هي الموضع الذي يعرق من قفاه، ويجعل فيه القطران، وهما ذفريان. تدئبُه: نعبه بكثرة ما تستعمله. 997 - المستدرك (3/ 606)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

998 - * روى أحمد والبزار عن عائشة قالت: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشُ، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذ أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض فلم يترمرمْ ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت كراهية أن يؤذيه. 999 - * روى أحمد والطبراني عن حنظلة بن حِذْيَم قال: وفدتُ مع جدي حِذْيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم وهذا أصغرهم فأدناني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح رأسي قوال: "بارك الله فيك" قال الذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتي بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها فيقول: بسم الله على موضع كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحه فيذهب الورم. 1000 - * روى الطبراني في الأوسط عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار. وعند الطبراني حديث أسماء بنت عُميس بهذا المعنى بمناسبة نومه في جر عليٍّ حتى غابت الشمس لكن فيه مجهولة. 1001 - * روى الحاكم عن أنس قال (1): كان أُسيدُ بن حُضيرٍ وعبادُ بن بشر عند النبي

_ 9980 أحمد في مسنده (6/ 113). والبزار بنحوه: كشف الأستار (3/ 150). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 3): رواه أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني في الوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. وحش: الوحش في الأصل حيوان البر، ولعل المراد هنا الهر. لم يترمرم: لم يتحرك. 999 - أحمد مطولاً في مسنده (5/ 68). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 408)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وأحمد في حديث طويل، ورجال أحمد ثقات. 1000 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 296)، وقال: رواه الطبراني في الوسط، وإسناده حسن. 1001 - المستدرك (3/ 388)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه وأقره الذهبي. =

صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة ظلماء حَنْدسٍ، فلما انصرفا أضاءت عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها، فلما افترقا أضاءت عصا الآخر. 1002 - * روى الطبراني عن قتادة بن النعمان قال: خرجت ليلة من الليالي مظلمة، فقلت: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الصلاة وآنستُه بنفسي، ففعلتُ، فلما دخلت المسجد برقتِ السماء فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا قتادة ما هاج عليك؟ " قلت: أردتُ بأبي وأمي أن أؤنسك، قال: "خذ هذا العرجون فتحصن به، فإنك إذا خرجت أضاء لك عشراً أمامك وعشراً خلفك". ثم قال لي: "إذا دخلت بيتك رأيت مثل الحجر الأخشن" فضربته حتى خرج من بيتي. 1003 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه. قال: كان رجل نصرانياً فأسلم، وقرأ البقرة، وآل عمران. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم. فغاد نصرانياً. فكان يقولُ: ما يدري محمدٌ إلا ما كتبتُ له. فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرضُ. فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه، لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا. فألقوه. فحفروا له، فأعمقوا. فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه. نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم. فألقوه. فحفروا له، وأعمقوا له في الأرض، ما استطاعوا. فأصبح قد لفظته الأرض. فعلمُوا أنه ليس من الناس، فألقوهُ. وفي رواية قال (1): كان منا رجلٌ من بني النجار. قد قرأ البقرة وآل عمران. وكان

_ = حندس: أي: شديد الظلمة. 1002 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 318)، وقال: رواه الطبراني وأحمد في حديث طويل، والبزار أيضاً، ورجال أحمد الذي تقدم في الصلاة رجال الصحيح. عرجون: العذق الذي يعوجُ ويقطعُ منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً. والشماريخ: جمع شمراخ، والشمراخ: الغصن. 1003 - البخاري (6/ 634) 61 - كتاب المناقب - 35 - باب علامات النبوة في الإسلام. لفظته: الأرض، أي: ألقته من بطنها إلى ظهرها. فعلموا أنه ليس من الناس: أي ليس إخراجه من عمل الناس وإنما من الله تعالى. (1) مسلم (4/ 3154) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - حديث (14). =

يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب. قال فرفعُوا. قالوا: هذا قد كان يكتبُ لمحمدٍ. فأعجبوا به. فما لبث أن قصم الله عنقهُ فيهم. فحفروا له فواروهُ. فأصبحتِ الأرض قد نبذته على وجهها. ثم عادوا فحفروا له، فواروه. فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها. ثم عادوا فحفروا ل. فواروه. فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها. فتركوه منبوذاً. 1004 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي عند البيت، وأبو جهلٍ وأصحاب له جلوسٌ، وقد نُحِرَتْ جزُورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه في كتفي محمدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وةجعل بعضهم يميلُ على بعضٍ، وأنا قائم أنظرُ، لو كانت لي منعةُ طرحتُه عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجدٌ ما يرفعُ رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت - وهي جويريةُ - فطرحتهُ عنه، ثم أقبلتْ عليهم تشتمُهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوتهُ، ثم دعا عليهم - وكان إذا دَعَا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً - ثم قال: "اللهم عليك بقريشٍ" ثلاث مراتٍ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحكُ، وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعيط" وذكر السابع - (1) ولمْ

_ = قصم: الله عنقه، أي: دقها. نبذته: المنبوذ: المُلقى المرمي على وجه الأرض، ونبذته أنا: ألقيته. 1004 - البخاري (1/ 349) 4 - كتاب الوضوء -69 - باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته. ومسلم (3/ 1418) 32 - كتاب الجهاد والسير -39 - باب ما لقي النبي صلى الله عليه سلم من أذى المشركين والمنافقين. السلا: الذي يكون فيه الولد في بطن أمه، وقيل: هو الكرش. الجزور: البعير ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اللفظة مؤنثة. فانبعث أشقى القوم: هو عقبة بن أبي معيط. ويميل بعضهم: أي ينثني بعضهم على بعض من المرح والبطر. المنعة: القوة والشدة التي يمتنع بها الإنسان على من يريده بأذى أو غيره. =

أحفظه - فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحِبُوا إلى القليبِ، قليبِ بدر. وفي رواية (1): فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يوماً حاراً. وفي رواية (2): ذكر السابع، وهو عمارة بن الوليد. وفيها: فيعمد إلى فرْثها ودمها وسلاها، فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. قال ابن حجر: (فائدة): روى هذا الحديث ابن إسحق في المغازي قال: حدثني الأجلح عن أبي إسحق فذكر هذا الحديث، وزاد في آخره قصة أبي البختري مع النبي صلى الله عليه وسلم في سؤاله إياه عن القصة، وضرب أبي البختري أبا جهل وشجه إياهن والقصة مشهورة في السيرة، وأخرجها البزار من طريق أبي إسحق وأشار إل تفرد الأجلح بها عن أبي إسحق، وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيماً. وفيه معرفة الكفار بصدقه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له، وفيه حلمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه، ففي رواية الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث أن ابن مسعود قال: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ. وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما أقدموا عليه من الاستخفاف به حال عبادة ربه، وفيه استحباب الدعاء ثلاثاً، وقد تقدم في العلم استحباب السلام ثلاثاً وغير ذلك. وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله ما إذا كان كافراً، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيداً لاحتمال أن يكون اطلع صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعي لكل حي بالهداية. وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها، لشرفها في قومها ونفسها، لكونها صرحت بشتمهم وهم رءوس قريش، فلم يردوا عليها.

_ = القليب: البئر التي هي غير مطوية. الفرْث: ما يكون في الكرش. (1) البخاري (7/ 293) 64 - كتاب المغازي - 7 - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش. ومسلم (3/ 1420) 32 - كتاب الجهاد والسير-39 - باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين. (2) البخاري (1/ 594) 8 - كتاب الصلاة -109 - باب المرأة تطرح عن المصلي شيئاً من الأذى.

وفيه أن المباشرة آكد من السبب والإعانة لقوله في عقبة "أشقى القوم" مع أنه كان فيهم أبو جهل وهو أشد منه كفراً وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم لكن الشقاء هنا بالنسبة إلى هذه القصة لأنهم اشتركوا في الأمر والرضا وانفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبراً. واستدل به على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته ولو تمادى، وعلى هذا ينزل كلام المصنف، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها صحت اتفاقاً. واستدل به على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض وهو ضعيف، وحمله على ما سبق أولى. وتعقب الأول بأن الفرث لم يفرد بل كان مع الدم كما في رواية إسرائيل، والدم نجس اتفاقاً. وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلي وجلدة السلي الظاهرة طاهرة فكان كحمل القارورة المرصصة. وتعقب بأنها ذبيحة وثني فجميع أجزائها نجسة لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم، وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال. وقال النووي: الجواب المرضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحاباً لأصل الطهارة. وتعقب بأنه يشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة. وأجاب بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد. وتعقب بأنه لو أعاد لنقل ولم ينقل، وبأن الله تعالى لا يقره على التمادي في صلاة فاسدة. وقد تقدم انه خلع نعليه وهو في الصلاة لان جبريل أخبره أن فيهما قذراً، ويدل على أنه علم بما ألقي على ظهره أن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو صلاته بالدعاء عليهم. والله أعلم. أهـ. 1005 - * روى الحاكم عن أبي هريرة: ما على وجه الأرض مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ إلا وهو يُحبني. قال: قلتُ: وما علمُكَ بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إني كنتُ أدعُو أمي إلى الإسلام فتأبى وإني دعوتها ذات يوم فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أكرهُ فجئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله إني أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ وإني دعوتُها فأسمعتني فيك ما أكره (1)، فادع الله يا رسول الله أنْ

_ 1005 - المستدرك (2/ 621)، وقال: هذا حديث صحيح الإنساد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. =

يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجعتُ إلى أمي أُبشْرُها بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما كُنْتُ على الباب إذ البابُ مُغْلَقٌ، فدققت الباب، فسمعت حسي، فلبست ثيابها وعجلت عن خمارها، وقالت: ارفق يا أبا هريرة ففتحت لي الباب. فلما دخلتُ، قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي من الفرح كما كنتُ أبكي من الحَزْنِ، وجعلتُ أقول: أبشر يا رسول الله، قد استجاب الله دعوتك، وهدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام، فقلتُ: ادع الله أن يحببني وأمي إلى عبادة المؤمنين ويحببهم إلينا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم حببْ عُبيدكَ هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما" فما على الأرض مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يُحبني وأحبه. 1006 - * روى الطبراني عن ضمرة بن ثعلبة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ادعُ الله لي بالشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أُحَرِّمُ دم ابن ثعلبة على المشركين والكفار" قال: فكنت أحمل في عُظم القوم فيتراءى لي النبي صلى الله عليه وسلم خلفهم، فقالوا: يا ابن ثعلبة لتغرز وتحمل على القوم، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتراءى لي خلفهم فأحمل عليهم حتى أقف عنده، ثم يتراءى لي عند أصحابي فأحمل حتى أكون مع أصحابي، قال فعُمر زماناً من دهره. 1007 - * روى البخاري ومسلم عن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فما ترك شيئاً يكونُ في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيهُ من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء (1)، وإنه ليكونُ

_ = عجلتْ عن خمارها: لم تغط رأسها. 1006 - المعجم الكبير (8/ 369). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 379): رواه الطبراني، وإسناده حسن. 1007 - البخاري (11/ 494) 83 - كتاب القدر -4 - باب "وكان أمر الله قدراً مقدوراً". ومسلم (4/ 2217) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة -6 - باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة. وأبو داود (4/ 94) كتاب الفتن والملاحم - باب ذكر الفتن ودلائلها.

منه الشيء قد نسينُه، فأراهُ فأذكرُ كما يذكُر الرجلُ وجه الرجُل إذا غاب عنهُ، ثم إذا رآهُ عرفهُ. هذا الحديث وما بعده فيه إخبارات عن المغيبات ووقعت كلها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في عون المعبود: وفيه كمال علمه صلى الله عليه وسلم بما يكون وكمال علم حذيفة واهتمامه بذلك واجتنابه من الآفات والفتن وقد استدل بهذا الحديث بعض أهل البدع والأهواء على إثبات الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا جهل من هؤلاء لأن علم الغيب مختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الله بوحي والشاهد لهذا قوله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1) أي ليكون معجزة له، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به إعلاماً على ثبوت نبوته ودليلاً على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم قال علي القاري في شرح الفقه الأكبر: إن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما أعلمهم الله أحياناً، وذكر الحنفية تصريحاً بالتكفير باعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؛ لمعارضة قوله تعالى {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) كذا في المسايرة وقال بعض الأعلام في إبطال الباطل من ضروريات الدين إن علم الغيب مخصوص بالله تعالى، والنصوص في ذلك كثيرة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (3) الآية و {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (4) الآية. فلا يصح لغير الله تعالى أن يقال له إنه يعلم الغيب، ولهذا لما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجز؛ وفينا نبيٌّ يعلمُ ما في غد، أنكر على قائله وقال: "دع هذا وقل غير هذا". وبالجملة لا يجوز أن يقال لأحد إنه يعلم الغيب نعم الإخبار بالغيب بتعليم الله تعالى جائز وطريق هذا التعليم إما الوحي أو الإلهام

_ (1) الجن: 26، 27. (2) النمل: 65. (3) الأنعام: 59. (4) لقمان: 34.

عند من يجعله طريقاً إلى علم الغيب انتهي. وفي البحر الرائق: لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب انتهى قال المِزِّيُّ في الأطراف: وأخرجه البخاري في القدر وأخرجه مسلم وأبو داود في الفتن انتهى؟ أهـ عون المعبود. 1008 - * روى النسائي عن ابن سُكيْنَة - رجلٍ من المحررين - عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حلت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ المِعْوَلَ، ووضع رداءَهُ ناحية الخندق، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) فندر ثُلُُُ الحجرِ، وسلمان الفارسي قائم ينظرُ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقةُ، ثم ضرب الثانية، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فندر الثلث الآخر، فبرقت برقةً، فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فندر الثلث الباقي، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رداءه وجلس، قال سلمان: يا رسول الله، رأيتُك حين ضربت، ما تضربُ ضربة إلا كانت معها برقة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمانُ رأيت ذلك؟ " فقال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: "فإني حين ضربتُ الضربة الأولى: رُفعت لي مدائنُ كسرى وما حولها، ومدائنُ كثيرة، حتى رأيتُها بعيني" فقال له من حضرهُ من أصحابه: يا رسول الله، ادع الله أنْ يفتحها علينا، ويُغنمنا ديارهم ويُخرب بأيدينا بلادهُم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: "ثُمَّ ضربتُ الضربة الثانية، فرُفِعتْ لي مدائنُ قيصر وما حولها، حتى رأيتُها بعيني" قالوا: يا رسول الله، ادعُ الله أن يفتحها علينا ويُغنمنا ديارهُم ويُخرب بأيدينا بلادهُم، فدعا

_ 1008 - النسائي (6/ 43) كتاب الجهاد-باب غزوة الترك والحبشة. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسعود وله شاهد عند الطبراني من حديث معاوية وبعضها يشهد لبعض فهو حخديث حسن. ندر: سقط. (1) الأنعام: 115.

رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك "ثم ضربْتُ الثالثة فرُفِعتْ لي مدائنُ الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتُها بعيني" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "دعُوا الحبشة ما ودعُوكم، واترُكوا التُّرُكَ ما تركوكُم". 1009 - * روى البزار عن جابر بن سمرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتخرُجنَّ الظَّعينةُ من المدينة حتى تدْخُل الحيرةَ لا تخافُ أحداً إلا الله عز وجل". 1010 - * روى البخاري ومسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كِسْرَى فلا كِسْرَى بعدَهُ، وإذا هلك قيصرُ فلا قَيْصَرَ بعدَهُ، والذي نفسي بيده: لتُنْفَقَنَّ كنُوزُهُما في سبيل الله". وفي رواية لمسلم (1): "قد مات كِسرى فلا كسرى بعده ... ". قال ابن حجر: قال الخطابي: معناه فلا قيصر بعده يملك مثل ما يملك، وذلك أنه كان بالشام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا كان قد دخله إما سراً وإما جهراً، فانجلى عنه قيصر واستفتحت خزائنه ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعده، ووقع في الرواية التي في "باب الحرب خدعة" من

_ = قال المناوي: (دعو الحبشة) أي اتركوا الحبشة والترك ما داموا تاركين لكم، وذلك لأن بلاد الحبشة وعرة، وبين المسلمين وبينهم مفاوز وقفار وبحارن فلم يكلف المسلمين بدخول ديارهم لكثرة التعب، أما الترك فبأسهم شديد وبلادهم باردة والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة فلم يكلفهم دخول بلادهم، وأما إذا دخلوا بلاد الإسلام والعياذ بالله فلا يباح ترك القتال كما يدل عليه ما ودعوكم. 1009 - كشف الأستار (3/ 143). والمعجم الكبير (2/ 215). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 391): رواه الطبراني والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح غير أحمد بن يحيى الأودي، وهو ثقة. 101 - البخاري (6/ 319) 57 - كتاب فرض الخمس -8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُحلت لكم الغنائم". ومسلم (4/ 2236) 53 - كتاب الفتن وأشراط الساعة-18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء. (1) مسلم في الموضع السابق.

كتاب الجهاد "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وليهلكن قيصر" قيل: والحكمة فيه أنه قال ذلك لما هلك كسرى بن هرمز كما سيأتي في حديث أبي بكرة في كتاب الأحكام قال: "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم امرأة" الحديث، وكان ذلك لما مات شيرويه بن كسرى فأمروا عليهم بنته بوران. وأما قيصر فعاش إلى زمن عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي حارب المسلمين بالشام ولده وكان يلقب أيضاً قيصر. وعلى كل تقدير فالمراد من الحديث وقع لا محالة لأنهما لم تبق مملكتها على الوجه الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما قررته. أهـ. فتح. أقول: بل كسرى وقيصر للجنس، ولقد أنهى المسلمون حكم الأكاسرة ثم لم يعد، وكان يزدجرد آخر الأكاسرة قتل في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وأنهى محمد الفاتح حكم القياصرة في القسطنطينية ثم لم يعد. 1011 - * روى مسلم عن نافع بن عُتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قومٌ من قِبَلِ المغربِ عليهم ثيابُ الصوفِ، فوافقوهُ عند أكمةٍ، فإنهُم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ، قال: فقالت لي نفسي: ائتهم فقم بينهم وبينهُ لا يغتالونه، قال: ثم قلت: لعلهُ نجيٍّ معهمُ، فأتيتُهم، فقُمْتُ بينهم وبينه، قال: فحفظت منه أربع كلمات أعدهُنَّ في يدي، قال: "تغزون جزيرة العرب، فيفتحها الله ثم فارس، فيفتحها الله. ثم تغزون الروم، فيفتحها الله. ثم تغزون الدجال فيفتحه الله" قال نافع: يا جابر - هو جابر بن سمرة - لا نُرَى الدجال يخرج حتى تفتح الرومُ.

_ 1011 - مسلم (4/ 2225) 53 - كتاب الفتن وأشراط الساعة -12 - باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال. أكمة: الأكمة: الرابية، والموضع المرتفع من الأرض. يغتالونه: الاغتيال: أن يقتل بغتة. النجيُّ: المناجي وهو المسارر. تفتحون جزيرة العرب: فتحت جزيرة العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم فتحت في عهد أبي بكر رضي الله عنه بعد وقوع الردة.

1012 - * روى البخار يعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال: "يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ " قلتُ: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: "فإنْ طالت بك حياةٌ لترين الظعينة ترتحلُ من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخافُ أحداً إلا الله تعالى" قلتُ فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيء الذين قد سعروا البلاد؟ " ولئنْ طالتْ بك حياة لتفتحن كنوزُ كسرى" قلت: كسرى بن هُرمز؟ قال: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلبُ من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجُمان يُتَرْجِمُ له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيُبلغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أُعطك مالاً، وأُفْضِلْ عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنم، وينظرُ عن يساره فلا يرى إلا جهنم" قال عدي: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة" قال عدي: فرأيتُ الظعينة ترتحلُ من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنُوز كِسرى ابن هُرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "يُخرج ملء كفه ... ". قال في الفتح: قوله (الحيرة) بكسرة المهملة وسكون التحتانية وفتح الراء كانت بلد ملوك العرب الذين تحت حكم آل فارس، وكان ملكهم يومئذ إياس بن قبيصة الطائي وليها من تحت يد كسرى بعد قتل النعمان بن المنذر، ولهذا قال عدي بن حاتم "فأين دعار طيء" ووقع في رواية لأحمد من طريق الشعبي عند عدي بن حتم "قلت يا رسول الله فأين مقاتب طيء ورجالها" (1) ومقاتب بالقاف جمع مقتب وهو العسكر ويطلق على

_ 1012 - البخاري (6/ 610) 61 - كتاب المناقب -25 - باب علامات النبوة في الإسلام. الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، هذا هوالأصل، ثم سميت به المرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج ولا مسافرة.

الفرسان. قوله (حتى تطوف بالكعبة) زاد أحمد من طريق أخرى عن عدي "في غير جواز أحد". قوله (فأين دعار طيء) الدعار جمع داعر وهو بمهملتين وهو الشاطر الخبيث المفسد، وأصله عود داعر إذا كان كثير الدخان قال الجواليقي: والعامة تقوله بالذال المعجمة فكأنهم ذهبوا به إلى معنى الفزع والمعروف الأول. والمراد قطاع الطريق. وطيء قبيلة مشهورة، منها عدي بن حاتم المذكور، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، وكانوا يقطعون الطريق على من مر عليهم بغير جواز، ولذلك تعجب عدي كيف تمر المرأة عليهم وهي غير خائفة. قوله (قد سعروا البلاد) أي أوقدوا نار الفتنة، أي ملؤا الأرض شراً وفساداً، وهو مستعار من استعرا النار وهو توقدها. قوله (كنوز كسرى) وهو علم على من ملك الفرس، لكن كانت المقالة في زمن كسرى بن هرمز (اسمه ابرويز) ولذلك استفهم عدي بن حاتم عنه، وإنما قال ذلك لعظمة كسرى في نفسه إذ ذاك. قوله (فلا يجد أحداً يقبله منه) أي لعدم الفقراء في ذلك الزمان، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبذلك جزم البيهقي وأخرج في "الدلائل" من طريق يعقوب بن سفيان بسنده إلى عمر بن أسيد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال "إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهراً، ألا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيه فلا يجده، قد أغنى عمر الناس، قال البيهقي: فيه تصديق ما روينا في حديث عدي بن حاتم انتهى. ولا شك في رجحان هذا الاحتمال على الأول لقوله في الحديث "ولئن طالت بك حياة" قوله (بشق تمرة) بكسر المعجمة أي نصفها، وفي رواية المستملي "بشقة تمرة" وكذا اختلفوا في قوله بعده "فمن لم يجد شق تمرة" قال المستملي "شقة". قوله (ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم) هو مقول عدي بن حاتم، وقوله "يخرج ملء كفه- أي من المال - فلا يجد من يقبله" رواية أحمد المذكورة "والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قالها" وقد وقع ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به عدي. واستدل به بعضهم على جواز سفر المرأة وحدها في الحج الواجب وبالله التوفيق. أهـ الفتح.

1013 - * روى الطبراني عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمثلتْ لي الحيرةُ كأنياب الكلاب، وإنكم ستفتحونها" فقام رجل فقال: يا رسول الله هب لي بنت بُقيلة فقال: "هي لك. فأعطوه إياها" فجاء أخُوها فقال: تبيعُها؟ قال: نعم قال: فاحتكم ما شئت. قال: بألف درهم، قال: قد أخذتها بألفٍ، قالوا: لو قلت ثلاثين ألفاً. قال: وهل عدد أكبرُ من ألف. 1014 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فُتحت عليكم فارس والروم: أي قومٍ أنتم؟ " قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض". 1015 - * روى البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرامٍ بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرامٍ تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تَفْلِي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت فقلت: "وما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: (1) "ناسٌ من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثبجَ هذا البحر مُلوكاً على الأسِرَّة - أو مثل الملوك على

_ 1013 - المعجم الكبير (17/ 81). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 213): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 1014 - مسلم (4/ 2274) 53 - كتاب الزهد والرقائق- حديث (7). نقول كما أمرنا الله: معناه نحمده ونشكره، ونسأله المزيد من فضله. تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ... إلخ: قال العلماء: التنافس إلى الشيء المسابقة إليه وكراهة أخذ غيرك إياه، وهو أول درجات الحسد. وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن صاحبها. والتدابر التقاطع. وقد يبقى مع التدابر شيء من المودة أو لا يكون مودة ولا بغض. وأما التباغض فهو بعد هذا. ولهذا رتبت في الحديث. ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض: أي ضعفائهم فتجعلون بعضهم أمراء على بعض. 1015 - البخاري (6/ 10) 56 - كتاب الجهاد -3 - باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء. ومسلم (3/ 1518) 33 - كتاب الإمارة-49 - باب فضل الغزو في البحر. ثبج البحر: وسطه، وثبج كل شيء: وسطه. =

الأسرَّة" شك إسحاق - قالت فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك. فقلت: وما يُضحكُك يا رسول الله؟ قال: "ناسٌ من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله"- كما قال في الألو - قالت فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنتِ من الأولين" فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصُرعتْ عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكتْ. وفي رواية عن أنس عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت (1): نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: "أناس من أمتي عُرضوا عليَّ، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة" قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها ... ثم ذكر نحوه بمعناه. وفي أخرى (2): ما يُضحكك يا رسول الله - بأبي أنت وأمي؟ - قال: "أُريتُ قوماً من أمتي". وفيه: "يركبون ظهر البحر"- وفيه- "فإنك منهم" وفيه: فتزوجها عُبادة بن الصامت بعدُ، فغزا في البحر، فحملها معه، فلما أن جاءت قربت لها بغلةً فركبتها، فصرعتها، فاندقت عنقها. وفي أخرى قال (3): أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة ملحان خالة أنس، فوضع رأسه عندها - وعند البخاري: فاتكأ عندها - ثم ضحك، فقالت: لِمَ تضحك يا رسول الله؟ فقال: "ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على

_ = مثل الملوك على الأسرة: قيل: هو صفة لهم في الآخرة، إذا دخلوا الجنة. والأصح أنه صفة لهم في الدنيا. أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم. (1) البخاري (6/ 18) 56 - كتاب الجهاد-8 - باب فضل من يُصرع في سبيل الله فمات فهو منهم. ومسلم بنحوه (4/ 1519) 33 - كتاب الإمارة- 49 - باب فضل الغزو في البحر. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. (3) البخاري (6/ 76) 56 - كتاب الجهاد -63 - باب غزو المرأة في البحر. البحر الأخضر: قال الحافظ في الفتح: قال الكرماني: هي صفة لازمة للبحر لا مخصصة. انتهى. ويحتمل أن تكون مخصصة لأن البحر يطلق على المالح والعذب، فجاء لفظ الأخضر لتخصيص الملح بالمراد. قال: والماء في الأصل =

فوائد حول قصة أم حرام بنت ملحان

الأسرة": فقالت: يا رسول الله ادعُ الله أنْ يجعلني منهم، فقال: "اللهم اجعلها منهم" ثم عاد فضحك، فقالت له مثل - أو مم- ذلك، فقال لها مثل ذلك فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين، ولست من الآخرين" قال: قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قرظة" فلما قفلت ركبتْ دابتها، فوقصت بها، فسقطت عنها فماتت. فوائد حول قصة أم حرام بنت ملحان: * حول دخوله صلى الله عليه وسلم على (أم حرام بنت ملحان) قال النووي: اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في كيفية ذلك: فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته في الرضاعة. وقال آخرون: بل كانت خالة أبيه لجده. لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار. * قوله (في زمن معاوية) قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار: إن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وإن فيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرس فصرعت عن دابتها هناك. فتوفيت ودفنت هناك. وعلى هذا يكون قوله (1): في زمان

_ = لا لون له: وإنما تنعكس الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه، وقال غيره: إن الذي يقابله السماء. وقد أطلقوا عليها الخضراء لحديث "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء" والعرب تطلق الأخضر على كل لون ليس بأبيض ولا أحمر. قال الشاعر: وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة من نسل العرب يعني أنه ليس بالأحمر كالعجم. بنت هرطة: هي زوج معاوية، واسمها فاختة، وقيل: كنود، وأبوها قرظة، هو ابن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف وهي قرشية نوفلية. وقصت بها دابتها: أي: دقت عنقها، يقال: وقصت عنقه، فهي موقوصة. قال الحميدي: كذا في هذه الرواية بالواو، وكذا فُسر، ولعله على المآل، وقال: ومنهم من رواه (رقصت) بالراء، أي: أسرعت وزادت في المشي، وإنما وقع الخلاف لقوله: (فوقصت بها دابتُها، فسقطت) فظاهره: أن الوقص قبل السقوط، وإنما الوقص من السقوط وبعده، لا قبله، قال: وقال الهروي في تفسير الحديث الذي فيه (فركب فرساً، فجعل يتوقص به) أي ينزو ويثب، فجعل النزو والوثوب توقصاً، لا دقاً للعنق، فعلى هذا يحتمل ما في الرواية الأولى، والذي كره الهروي صحيح، فإن التوقص في اللغة: هو وثوب الدابة ونزوُها، يقال: مر فلان تتوقص به دابته، أي: تثبُ به وثباً متقارب الخطو.

معاوية- معناه في زمان غزوه في البحر، لا في أيام خلافته. * هناك خلاف حول موضع قبر بنت ملحان وهذا تحقيق صاحب الفتح في ذلك: والحاصل أن البغلة الشهباء قربت إليها لتركبها فشرعت لتركب فسقطت فاندقت عنقها فماتت، وظاهر رواية الليث أن وقعتها كانت بساحل الشام لما خرجت من البحر بعد رجوعهم من غزاة قبرس، لكن أخرج ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد عن هشام بن عمار بن يحيى بن حمزة بالسند الماضي لقصة أم حرام في "باب ما قيل في قتال الروم" وفيه "وعبادة نازل بساحل حمص" قال هشام بن عمار رأيت قبرها بساحل حمص، وجزم جماعة بأن قبرها بجزيرة قبرس، فقال ابن حبان بعد أن أخرج الحديث من طريق الليث بن سعد بسنده: "قبر أم حرام بجزيرة في بحر الروم يقال لها قبرس، بين بلاد المسلمين وبينها ثلاثة أيام" وجزم ابن عبد البر بأنها حين خرجت من البحر إلى جزيرة قبرس قربت إليها دابتها فصرعتها. وأخرج الطبري من طريق الواقدي أن معاوية صالحهم بعد فتحها على سبعة آلاف دينار في كل سنة، فلما أرادوا الخروج منها قربت لأم حرام دابة لتركبها فسقطت فماتت فقبرها هناك يستسقون به ويقولون قبر المرأة الصالحة، ثم وقفت على شيء يزول به الإشكال من أصله وهو ما أخرجه عبد الرزاق بسنده ... وذكر ابن حجر الحديث وفيه قال عطاء: فرأيتها في غزاة غزاها المنذر بن الزبير إلى أرض الروم فماتت بأرض الروم" وهذا إسناد على شرط الصحيح أهـ. 1016 - * روى مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضاً يُذكر فيها القيراط" وفي رواية (1) "ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط- فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً".

_ 1016 - مسلم (4/ 1970) 44 - كتاب فضائل الصحابة -56 - باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر. القيراط: قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهم، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به. (1) مسلم (4/ 1970) 44 - كتاب فضائل الصحابة -56 - باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر. ذمة: الذمة هي الحرمة والحق. وهي هنا بمعنى الذمام.

وفي أخرى (1) "فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً - أو قال: "ذمة وصهراً - فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها" قال: فرأيت عبد الرحمن بن شُرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها. 1017 - * روى أحمد عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنيطينية أو رُومية؟ فدعا عبدُ الله بصندوق له حلقٌ قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينا نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هِرَقلَ تُفتح أولاً" يعني قسطنطينية. 1018 - * روى أحمد والبزار عن بشير الخثعمي أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لتفتحن القسطنطينية. فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" قال: فدعاني مسلمة بن عبد الملك فسألني فحدثته فغزا القسطنطينية. أقول: قد كتب الله لمحمد الفاتح هذا الفضل بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثمانية قرون ونصف القرن. 1019 - * روى الطبراني عن يزيد بن معاوية العامري أن سمع عبد الله بن مسعود

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. ورحما: الرحم لكون هاجر أم إسماعيل منهم. وصهراً: الصهر لكون مارية أم إبراهيم منهم، ويمكن أن تكون الرحم والصهر بسبب كل من هاجر ومارية. 1017 - أحمد في مسنده (2/ 176). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 219): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل، وهو ثقة. أقول: وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق بهم. 1018 - أحمد في مسنده (4/ 335). كشف الأستار (2/ 258). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 218): رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجاله ثقات. 1019 - المعجم الكبير (9/ 277). وقال الهيثمي في مجع الزوائد (7/ 312): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

يقول: كيف أنتم إذا رأيتم قوماً أو أتاكم قومٌ لطخُ الوجوه؟! 1020 - * روى أحمد عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يملأ الله عز وجل أيديكم من العجم ثم يكونون أُسداً لا يفرون فيقتُلون مُقاتلتكم ويأكلون فيئكم". 1021 - * روى أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشكُ الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها" فقال قائل: "ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاء كغُثاء السيْل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت". قال في عون المعبود: والمعنى كما يدعو أكلة الطعام بعضهم بعضاً (إلى قصعتها) الضمير للأكلة أي التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع فيأكلونها عفواً صفواً كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم، قاله القاري قال في المجمع أي يقرب أن فرق الكفر وأمم الضلالة أن تداعى عليكم أي يدعو بعضهم بعضاً إلى الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم ليغلبوا على ما ملكتموها من الديار، كما أن الفئة الآكلة يدعو بعضهم بعضاً إلى قصعتها التي يتناولونها من غير مانع فيأكلونها صفواً عن غير تعب انتهى. 1022 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على

_ 1020 - أحمد في مسنده (5/ 11). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 310): رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح. 1021 - أحمد في مسنده (5/ 278). وأبو داود (4/ 111) كتاب الملاحم - باب في تدعي الأمم على الإسلام. وهو حديث حسن. تداعى: التداعي: التتابع، أي: يدعو بعضها بعضاً فتجيب. الأكلة: جمع آكل. غثاء: الغثاء: هو ما يلقيه السيل. 1022 - مسلم (4/ 1880) 44 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما.

حِراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعليٍّ وطلحة والزبير، فتحركت الصخرةُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد". وفي رواية (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء. فتحرَّك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكنْ جراءُ، فما عليك إلا نبي، أو صديقٌ، أو شهيدٌ" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص. فائدة: سعد بن أبي وقاص مات على فراشه فهو صديق. 1023 - * روى الترمذي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: لما حُصر عثمان رضي الله عنه أشرف عليهم فوق داره، ثم قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثبُت حراءُ، فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ " قالوا: نعم، قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جيش العُسرة: "من يُنفق نفقةً متقبلة" - والناس مُجهدون مُعسرون - فجهزتُ ذلك الجيش؟ قالوا: نعم. ثم قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن بئر رُومة، لم يكن يُشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا اللهم نعم، وأشياء عدها. وفي رواية البخاري (2): أن عثمان رضي الله عن حيث حُوصر أشرف عليهم وقال: أنشدُكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. 1023 - الترمذي (5/ 625) 50 - كتاب المناقب -19 - باب في مناقب عثمان رضي الله عنه. جهد: الرجل فهو مجهود: إذا وجد مشقة، وهو من الجهد، وجهد الناس: إذا قحطوا، فهم مجهودون، فأما أجهد فهو مُجهد، فإنما يكون على تقدير أنه وقع في الجهد، وهو المشقة، وكذلك مجهد - بالكسر -أي: إنه ذو جهد ومشقة، أو هو من أجهد دابته: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، ورجل مجهد ومجهِد: إذا كان ذا دابة ضعيفة، فاستعاره للحال في قلة المال ونحوه. وابن السبيل: السبيل: الطريق، وابن السبيل: هو المسافر، كأنه للزومه السفر والطريق نسب إليها. (2) البخاري (5/ 406) 55 - كتاب الواصايا -33 - باب إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين.

حفر رُومة فله الجنة" فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العُسرة فله الجنة" فجهزته؟ قال: فصدقوه بما قال. وقال عمر في وقفهِ: لا جُناح على من وليه أن يأكل، وقد يليه الواقف وغيره، فهو واسع لكلٍّ. 1024 - * روى البخار يعن أنس بن مالك ري الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثبُت أحدُ فإن عليك نبي وصديق وشهيدان". وفي رواية (1): اثبُتْ حراء، فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. 1025 - * روى أحمد عن عبد الله بن حوالة قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل دومةٍ، وعنده كاتب له يملي عليه، فقال: "ألا أكتبُك يا ابن حوالة؟ " قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله فأعرض عني. وقال إسماعيل مرة في الأولى: "نكتبك يا ابن حوالة؟، قلت: لا أدري فيم يا رسول الله؟ فأعرض عني، فأكب علي كاتبه يملي عليه، ثم قال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ " قلت: ما أدري ما خار الله لي ورسوله؟ فأعرض عني، فأكب على كاتبه يملي عليه، قال: فنظرت فإذا في الكتاب عمر، فقلت: إن عمر لا يكتبُ إلا في خير، ثم قال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ " قلت: نعم. فقال: "يا ابن حوالة كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟ " قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله. قال: "وكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأن

_ 1024 - البخاري (7/ 23) 63 - كتاب فضائل الصحابة -5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". (1) الترمذي (5/ 651) عن سعيد بن زيد 50 - كتاب النماقب -28 - باب مناقب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفقيل رضي الله عنه. وفي الباب عن سهل بن سعد عند الموصلي بإسناد صحيح. وعن سعيد بن زيد عند ابن ماجه وأدخل في عبد الرحمن بن عوف ونفسه، وعن بُريدة عند أحمد برجال الصحيح مقتصراً على أبي بكر وعمر وعثمان. 1025 - أحمد في مسنده (4/ 109). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 88): رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح. ظل دومة: دومةِ: نوع من الشجر. صياصي: المراد بالصياصي هنا القرون.

الأولى فياه انتفاجة أرنب؟ " قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله قال: "اتبِعُوا هذا" قال: ورجل مُقَفٍّ حينئذ. قال: فانطلقت فسعيت وأخذت بمنكبيه، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا. قال: "نعم" قال: وإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفي رواية (1): كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سُفَرٍ من أسفاره فنزل الناس منزلاً ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل دومةٍ فرآني مُقبلاً من حاجةٍ لي وليس غيري وغير كاتبه وقال فيه: فإذا في صدر الكتاب أبو بكر. وعمر وقال فيه: أصنعُ ماذا يا رسول الله؟ قال: "عليك بالشام" وقال فيه: فلا أدري كيف قال في الآخرة؟ ولأن أكون علمتُ كيف قال في الآخرة أحبُّ إليَّ من كذا وكذا. أقول: في الحديث إشارة إلى "أنه سيحصل خلاف وفتنة يكون عثمان بن عفان رضي الله عنه على الحق ومعارضوه على الباطل. وإشارة إلى أن الشام ستكون في معزل عن هذه الفتنة فمن أراد السلامة فليلحق بها، وهذا ما وقع فعلاً فإن أحداً من الشام لم يخرج على عثمان. 1026 - * روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسواق، وبلال معه، فدلى رجليه في البئر، وكشف عن فخذيه، فجاء أبو بكر يستأذن، فقال: "يا بلال ائذنْ له وبشره بالجنة" فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر، وكشف عن فخذيه، ثم جاء عمر يستأذن. فقال: "ائذن له يا بلال وبشره بالجنة" فدخل فجلس عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه، ثم جاء عثمان يستأذن، فقال: "ائذن له يا بلال وبشره بالجنة على بلوى

_ = انتفاجة: أي وثبة. (1) أحمد في مسنده (5/ 23). 1026 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 57) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن سعيد، وهو حسن الحديث. الأسواف: موضع بالمدينة.

تصيبه، فدخل عثمان فجلس قُبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه. 1027 - * روى أحمد والطبراني عن ابن عمر قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوباً أبيض، فقال: "أجديد ثوبُك أم غسيل؟ " فقال: فلا أدري ما رد عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألبس جديداً وعش حميداً ومُت شهيداً ويرزقك الله قُرة عين في الدنيا والآخرة". وزاد الطبراني بعد قوله: "يرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة" قال: وإياك يا رسول الله. 1028 - * روى أحمد والبزار عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "إنه سيكون بينك وبين عائشة أمرٌ" قال: أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: أنا؟ قال: "نعم" قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن إذا كان ذلك فاردُدها إلى مأمنها". 1029 - * روى الطبراني عن أبي أُسيد الساعدي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر حمزة بن عبد المطلب فجعلوا يجرون النِّمرة على وجهه فتنكشف قدماه ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها على وجهه، واجعلوا على قدميه من هذا الشجر" قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فإذا أصحابه يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف فيُصيبون منها مطعماً وملبساً ومركباً" أو قال: "مراكب فيكتبُون إلى أهليهم (1):

_ 1027 - أحمد في مسنده (2/ 89). وأورده الهيثمي في مجع الزوائد (9/ 73) وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح. 1028 - أحمد في مسنده (6/ 393). كشف الأستار (4/ 93). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 234): رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجاله ثقات. 1029 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 300)، وقال: رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. النمرة: بفتح النون وكسر الميم: وهي بُردة من صوف تلبسها الأعراب.

هلم إلينا، فإنكم بأرض حجازٍ جدويةٍ، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون". 1030 - * روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لكم من أنماط؟ " قلتُ: وأنى يكون لنا الأنماط؟ قال: "أما وإنها ستكون لكم الأنماط"- فأنا أقول لها - يعني امرأته - أخرى عنا أنماطك، فتقول: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون لكم الأنماط فأدعُها. وفي رواية النسائي قال (1): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تزوجت؟ " قلت: نعم، قال: "اتخذتم أنماطاً". وذكر الحديث إلى قوله: "ستكون". 1031 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فُتحت خيبرُ أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سُمٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود" فجُمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟ " قالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبُوكم؟ " قالوا: أبونا فُلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتُم، بل أبوكم فلان" فقالوا: صدقت وبررت، فقال: "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ " فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهلُ النار؟ " فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً" ثم قال لهم: "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ " قالوا: نعم فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُماً؟ " فقالوا: نعم. فقال: "ما حملكم على ذلك؟ " قالوا: أرْدنا إن كنت كاذباً نستريحُ منك، وإن كنت نبياً لم يضُركَ.

_ 1030 - البخاري (6/ 629) 61 - كتاب المناقب -25 - باب علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (3/ 1650) 37 - كتاب اللباس والزينة -7 - باب جواز اتخاذ الأنماط. أنماط: الأنماط جمع نمط، وهو من البُسط معروف. (1) النسائي (6/ 136) كتاب النكاح - باب الأنماط. 1031 - البخاري (10/ 344) 76 - كتاب الطب - 55 - باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم. اخسؤوا: خسأت الكلب: إذا طردتهُ وأبعدتهُ.

1032 - * روى أبو داود عن عاصم بن كُليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر: "أوسِعْ من قِبَلِ رجليه، أوسع من قبل رأسه" فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء، وجيء بالطعام، فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه، ثم قال: "أجِدُ لحم شاةٍ أُخذتْ بغير إذن أهلها" فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعميه الأسارى". 1033 - * روى أحمدُ عن حُذيفة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "في أُمتي كذابُون ودجالون سبعةٌ وعشرون منهم أربعُ نسوةٍ، وإني خاتمُ النبيين لا نبي بعدي". 1034 - * روى الطبراني عن النعمان بن بشير قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين".

_ 1032 - أبو داود (3/ 344) كتاب البيوع- باب في اجتناب الشبهات، وإسناده صحيح. يلوك: لاك اللقمة في فيه يلوكها: إذا مضغها. قال في عون المعبود: (أرسلت إلي بها) أي بالشاة فظهر أن شراءها غير صحيح لأن إذن الزوجة ورضاها غير صحيح وهو يقارب بيع الفضولي المتوقف على إجازة صاحبه وعلى كل فالشبهة قوية والمباشرة غير مرضية. الأساري: جمع أسير، والغالب أنه فقير. وقال الضبي: وهم كفار، وذلك أنه لما لم يوجد صاحب الشاة ليستحلوا منه واكن الطعام في صدد الفساد، إذ الشرع لا يجيز إتلاف المال ولم يكن بد من طعام هؤلاء فأمر بإطعامهم. أهـ. 1033 - أحمد في مسنده (5/ 396). كشف الأستار (4/ 132). والمعجم الكبير (3/ 170). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 334): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، ورجال البزار رجال الصحيحي. 1034 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 235)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير جندل بن والق، وهو ثقة.

1035 - * روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وُضع السيفُ في أمتي، لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائلُ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبُد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون، كلهم يزعمُ أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". أقول: وضع السيف في عهد عثمان رضي الله عنه ولم يرفع بعد ذلك. 1036 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن كان عند رجل من أهل الكوفة فجعل يحدثه عن المختار. فقال ابن عمر: إن كان كما تقول فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالاً كذاباً". وللطبراني في رواية قال (1): "بين يدي الساعة الدجالُ، وبين يدي الدجال كذابون ثلاثون أو أكثر" قلنا: ما آيتهم؟ قال: "أن يأتُوكم بسُنةٍ لم تكونوا عليها يُغيرون بها سُنتكم ودينكم، فإذا رأيتمُوهم فاجتنبوهم وعادوهم". والروايات الصحيحة في هذا المعنى كثيرة. أقول: إن المختار بن أبي عبيد آل أمره إلى ادِّعاء أنه يوحى إليه، وادعى ادعاءات كثيرة كاذبة ولذلك أجمع العلماء على أنه كذاب ثقيف الذي ورد ذكره في النصوص. 1037 - * روى الطبراني عن أبي إسحق قال: قلت لعبد الله بن عمر: إن المختار يزعمُ أنه يُوحى إليه. قال: صدق. وإن الشياطين ليُوحُون إلى أوليائهم.

_ 1035 - أبو داود مطولاً (4/ 97) كتاب الفتن والملاحم - باب ذكر الفتن ودلائلها. 1036 - أحمد في مسنده (2/ 118). (1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 333) ونسبه للطبراني. 1037 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 333)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.

1038 - * روى الطبراني عن أبي نوفل بن أبي عقرب العَرَنْجي قال: صلَبَ الحجاجُ ابن الزبير على عقبةٍ المدينة ليُري ذلك قريشاً، فلما أن تفرقوا جعلوا يمرون فلا يقفون عليه حتى مر عليه عبد الله بن عمر، فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خُبيب (قالها ثلاث مرات) لقد كنت نهيتُك عن ذا (قالها ثلاث مرات) لقد كنت صواماً قواما، تصل الرحم. فبلغ الحجاج موقفُ عبد الله بن عمر فبعث إليه، فاستنزلهُ فرمى به في قبور اليهود، وبعث إلى أسماء بنت أبي بكر أن تأتيه وقد ذهب بصرها، فأبتْ، فأرسل إليها لتجيئن أو لأبعثن إليك من يسحبُك بقُرونك، قالت: والله لا آتيك حتى تُرسل إليَّ من يسحبني بقروني، فأتاه رسوله فأخبره، فقال له: يا غلام ناولني سَبْتِيِّتَيِّ فناوله نعليه، فقام وهو يتوقدُ، حتى أتاها، فقال: كيف رأيت الله صنع بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وأما ما كنت تُعَيِّرُه بذات النطاقين، أجل لقد كان لي نطاقان: نطاق أُغطي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم من النمل ونطاق آخر لابد للنساء منه، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في ثقيف مُبيراً وكذاباً، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت ذاك" قال: فخرج. 1039 - * روى أبو يعلي عن أبي الجلاس قال (1): سمعتُ علياً يقولُ لعبد الله السبئي

_ 1038 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 256)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. عقبة المدينة: الظاهر من قوله عقبة المدينة أن المراد بذلك العقبة التي يخرج منها الناس من مكة إلى المدينة؛ لأن ابن الزبير صلب في مكة. والعقبة: المرتقى الصعب من الجبال. فبعث إليه: أي إلى عبد الله بن الزبير. سبتيتي: الحذاء. النطاق: شقة من ملابس النساء. المبير: المهلك. الكذاب: هو المتنبئ المختار بن أبي عبيد الثقفي. 1039 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 333) وقال: رواه أبو يعلي، ورجاله ثقات. عبد الله السبئي: هو عبد لله بن سبأ، ويلقب بابن السوداء، يهودي تظاهر بالإسلام، وغلا في علي بن أبي طالب، وهو من طلائع الباطنية الغلاة في الأمة الإسلامية. ولعل الهيثمي وثق رجاله لمعرفته بوجود شواهد ومتابعات، وإلا فقد ذكر ابن حجر ان أبا الجلاس مجهول، والمشهور عند العام والخاص من المسلمين عن عبد الله السبئي هذا أن دوره في الفتنة كان كبيراً.

ويلك، والله ما أفضى إلي بشيء كتمهُ أحداً من الناس، ولكن سمعتهُ يقول: "إنَّ بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهُم". 1040 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدِمَ مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمدٌ الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشرٍ كثيرٍ من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريدٍ، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريتُ فيه مارأيتُ، وهذا ثابت يُجيبك عني" ثم انصرف عنه، قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك أرى الذي أريتُ فيه ما أريت فأخبرني أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائمٌ رأيتُ في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إليَّ في المنام: أن انفخهُما فنفختهُما، فطارا، فأولتهما، كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: العنسي، والآخر: مسيلمة". وفي رواية عبيد لله بن عبد الله بن عتبة، قال (1): بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة، فنزل في دار بنت الحارث، وكانت تحتهُ بنتُ الحارث بن كُرْيزٍ، وهي أم عبد الله ابن عامرٍ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له: خطيبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبٌ، فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أُريتُ فيه ما أريتُ، وهذا ثابت بن قيس وسيُجيبك عني" فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبيد الله: سألتُ عبد الله بن عباس عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أريت فيه ما أريتُ، فقال

_ 1040 - البخاري (8/ 89) 64 - كتاب المغازي -70 - باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أُثال. ومسلم (4/ 1780) 42 - كتاب الرؤيا - 14 - باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم. (1) البخاري (8/ 91) 64 - كتاب المغازي-71 - باب قصة الأسود العَنْسي.

ابن عباس: ذُكِرَ لي - وفي رواية: أخبرني أبو هريرة ... وذكر الحديث- وفي آخره: أحدهما العنسيُّ الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة. وفي رواية: قال عبيد الله (1): سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكر، فقال ابن عباس ذُكِرَ لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أُريتُ أنه وُضِعَ في يدي سواران من ذهبٍ، فقطعتهُما وكرهتُهما، فأّذن لي، فنفختُهما، فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان" فقال عبيد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذاب. قال ابن حجر: قوله (قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) أي المدينة، ومسيلمة مصغر بكسر اللام ابن ثمامة بن كبير بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة. قال ابن إسحاق: ادعى النبوة سنة عشر، وزعم وثيمة في "كتاب الردة" أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، وفيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظاً فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، وسياق القصة يخالف ما ذكره ابن إسحاق أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم بحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا منه جائزته، وأنه قال لهم: إنه ليس بشركم وأن مسيلمة إنما ادعى أنه أشرك في النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج بهذه المقالة، وهذا مع شذوذه ضعيف السند لانقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله في هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع به وخاطبه وصرح له بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة الجريدة ما أعطاه، ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين، الأولى: كان تابعاً، وكان رئيس بني حنيفة غيره؛ ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعاً وفيها خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكباراً أن يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه: إنه ليس

_ (1) البخاري في نفس الموضع السابق. قطعة من جريد: أي قطعة من عود النخل.

بشركم أي بمكان، لكونه كان يحفظ رحاله، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يُفد في مسيلمة توجه بنفسه إليهم ليقيم عليهم الحجة ويعذر إليه بالإنذار والعلم عند الله تعالى، ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار إذا تعين ذلك طريقاً لمصلحة المسلمين. قوله (إن جعل لي محمد الأمر من بعده) أي الخلافة، وسقط لفظ "الأمر" هنا عند الأكثر وهو مقدر، وقد ثبتت في رواية ابن السكن وثبتت أيضاً في الرواية المتقدمة في علامات النبوة. قوله (وقدمها في بشر كثير) ذكر الواقدي أن عدد من كان مع مسيلمة م قومه سبعة عشر نفساً، فيحتمل تعدد القدوم كما تقدم. قوله (ولن تعدو أمر الله) كذا للأكثر، ولبعضهم لن تعد بالجزم وهو لغة، أي الجزم بلن، والمراد بأمر الله حكمه. وقوله (ولئن أدبرت) أي خالفت الحق، وقوله (ليعقرنك) بالقاف أي يهلكك. قوله (وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني) أي لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أُعطي جوامع الكلم فاكتفى بما قاله لمسيلمة وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب فهذا الخطيب يقوم عني في ذلك، ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك. أهـ. 1041 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يُدعى بالإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال: قاتل الرجل قتالاً شديداً، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفاً: إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً، وقد مات؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك، إذ قيل: إنه لم يمتْ، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجرح، فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".

_ 1041 - البخاري (7/ 471) 64 - كتاب المغازي -38 - باب غزوة خيبر. ومسلم واللفظ له (1/ 105) 1 - كتاب الإيمان -47 - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

وفي رواية عن عبيد الله بن كعب قال (1): أخبرني من شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ... الحديث 1042 - * روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ لا يدعُ لهم شاذةً ولا فاذةً إلا اتبعها، يضربها بسيفه - فقيل ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار"- وفي رواية: فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار؟ - فقال رجلٌ من القوم: أنا صاحبهُ، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرح الرجل جُرحا شديداً فاستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض، وذبابة بن ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجتُ في طلبه، ثم جُرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذُبابة بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعملُ عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعملُ عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة".

_ (1) البخاري في نفس الموضع السابق. 1042 - البخاري (7/ 471) 64 - كتاب المغازي -38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (1/ 106) 1 - كتاب الإيمان -47 - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. شاذة: الشاذة: التي انفردت من الجماعة، وكذلك (الفاذة) وأصله في الغنم، ثم نقل إلى كل من فارق جماعة وانفرد عنها. أجزأ: أجريت في الحرب وغيرهغا: إذا فعلت فعلاً ظهر أثره وقُمت فيه مقاماً لم يقمه غيرك. ذبابه: ذُباب السيف: طرف رأسه. تحامل: عليه، أي: اتكأ على السيف، جعله حاملاً له، وأصله من تكلف الأمر على مشقة. نصل سيفه: نصل السيف: حديده، وقد جعله هاهنا طرفه الأعلى الذي يدخل في المقبض.

وفي رواية نحوه بمعناه، وفي آخره (1): من قوله عليه السلام: "وإنما الأعمالُ بالخواتيم، أو بخواتيمها". 1043 - * روى الطبراني عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: جلس عميرُ بن وهبٍ الجُمحي مع صفوان بن أمية بعد مُصاب أهل بدر من قريش في الحِجْر بيسير، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عنتاً، إذ هم بمكة وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر، قال: فذكروا أصحاب القليب بمصائبهم، فقال صفوان: والله إنْ في العيش خيرٌ بعدهم، وقال عمير بن وهب: صدقت والله لولا دينٌ عليَّ ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني عندهم أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان فقال: عليَّ دينُك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعهم شيء نعجز عنهم، قال عمير: اكتُم عليَّ شأني وشأنك، قال: أفعلُ، قال: ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ وسُمَّ، ثم انطلق إلى المدينة، فبينا عمر بن الخطاب بالمدينة في نفر من المسلمين يتذاكرون يوم بدر، وما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم إذ نظر إلى عمير بن وهب قد أناخ بباب المسجد متوشح السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، هذا الذي حَرَّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشح السيف، قال: "فأدخله" فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال عمر لرجال ممن كان معه من الأنصار: أدخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده

_ (1) البخاري (11/ 330) 81 - كتاب الرقاق -33 - باب الأعمال بالخواتيم، وما يخاف منها. وأيضاً (11/ 499) 83 - كتاب القدر -5 - باب العمل بالخواتيم. 1043 - المعجم الكبير (17/ 58). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 284): رواه الطبراني مرسلاً، وإسناده جيد. الحِجْر: ما كان من الكعبة ولم يدخل في بنائها من الجهة الشمالية وهو معروف ويسمى الحطيم. حزرنا: قدر عددنا تخميناً. متوشحاً: متقلداً. لببه بها: أخذ بتلبيبه وجره مما في موضع اللبب من الثياب، ويعرف بالطوق والجمع: تلابيب. أقول: صفوان بن أمية بن خلف ابن عم عمير بن وهب بن خلف. وقد أسلم صفوان بعد ذلك وحسن إسلامه.

واحذروا هذا الكلب عليه، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه، فقال: "أرسِله يا عمر، أدْنُ يا عميرُ" فدنا، فقال: انعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، السلام تحيةُ أهل الجنة" فقال أما والله يا محمد إن كنتُ لحديث عهد بها، قال: "فما جاء بك؟ " قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه، قال: "فما بال السيف في عنقك؟ " قال: قبحها الله من سيوف، فهل أغنت شيئاً؟ قال: "اصدقني ما الذي جئت له"؟ قال: ما جئت إلا لهذا، قال: "بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر فتذاكرتُما أصحاب القَلِيب من قريش، فقلت: لولا دينٌ علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان لك بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائلٌ بينك وبين ذلك" قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أنبأك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقهُوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره" ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله شديد الأذى على من كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب قال لقريش: أبشروا بواقعة تأتيكم الآن تُنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً، فلما قَدم عمر مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذي من يخالفه أذى شديداً، فأسلم على يديه ناسٌ كثير. وللطبراني في رواية عن عروة بن الزبير نحوه مرسلاً، قال (1) فيه: ففرح المسلمون حين

_ (1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 286)، وقال: إسناده حسن.

هداه الله، وقال عمر بن الخطاب: لخنزير كان أحبَّ إليَّ منه حين اطلع وهو اليوم أحبُّ إليَّ منْ بعض بنيَّ. 1044 - * روى الحاكم عن عائشة قالت: لما جاءت أهل مكة في فداء أسارهم بعثتْ زينبُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وبعثتْ فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتُم أن تُطلقوا لها أسيرها، وتردُّوا عليها الذي لها فافعلوا" قالوا: نعم يا رسول الله وردوا عليه الذي لها. قال: وقال العباس: يا رسول الله إني كنتُ مسلماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الله أعلم بإسلامك فإن يكنْ كما تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك: نوفل بن الحاث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عُتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر" فقال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: "فأين المالُ الذي دفنت أنت وأمُّ الفضل؟ فقلت لها إن أُصبتُ فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقُثَمٍ" فقال: والله يا رسول الله إني أشهدُ أنك رسول الله إن هذا لشيء ما علمَهُ أحدٌ غيري وغيرُ أم الفضل فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مالٍ كان معي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفعل". ففدى العباس نفسه وابني أخويه وحليفه وأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مالٌ يضربُ به مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل. 1045 - * روى الطبراني عن أنس بن مالك قال: نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مؤتةَ على

_ 1044 - المستدرك (3/ 324)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه وأقره الذهبي، يضرب به: يتاجر به. (1) الأنفال: 70. 1045 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 349)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

المنبر، قال: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله". الشاهد في الحديث: أنه بلغهم ذلك إذ علمه عن طريق الوحي وأخبر به فور وقوعه ولم يصل الخبر عن طريق الناس إلا بعد أسابيع، فهو دليل على الوحي. لا يكذب به إلا كافر مكابر. 1046 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ من سفرٍ، فلما كان قُربَ المدينة هاجت ريحٌ شديدةٌ تكادُ أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت هذه الريحُ لموت منافق" فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين، قد مات. 1047 - * روى البزار عن ابن عباس قال: خرج عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أظلتنا سحابة ونحن نطمع فيها، فقال: "إن الملك الذي يسوقها أو يسوقُ هذه السحابة دخل عليَّ فسلم عليَّ فأخبرني أنه يسوقها إلى وادي كذا". 1048 - * روى أحمد عن عمر بن الخطاب قال: وُلد لأخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غلامٌ فسموه الوليد فقال النبي صلى الله عليه وسلم "سميتموه باسم فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو شر على هذه الأمة من فرعون لقومه". لعل في ذلك إشارة إلى الوليد بن يزيد وقد أشيعت عنه إشاعات كثيرة وقد اتهمه بنو أمية أنفسهم بالكفر وقتلوه أخيراً، والله أعلم بشأنه. 1049 - * روى الطبراني عن (جُبير بن نقيرٍ) قال (1): كان عبد الله بن وزاح قديماً لهُ

_ 1046 - مسلم (4/ 2145) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - حديث (15). 1047 - كشف الأستار (3/ 142). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 289): رواه البزار، ورجاله ثقات. 1048 - أحمد في مسنده (1/! 8). مجمع الزوائد (7/ 313)، وقال: راوه أحمد ورجاله ثقات. 1049 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 313)، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات الدهاقين: الدهقان: رئيس القرية أو رئيس الإقليم، ومن، ومن له مال وعقار، يجمع على: دهاقنة ودهاقين.

صُحبة يقول إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُوشِكُ أن يؤمر عليهم الرُّوَيجل فيجتمع إليه قومٌ مُحلقةً أقفيتهُم بيضٌ قُمُصُهُم فكان إذا أمرهُم بشيءٍ حضروا" فشاء ربُّك أن عبد الله بن وزاح ملك بعض المدن فاجتمع إليه قومٌ من الدهاقين محلقةً أقفيتهم بيض قُمُصهم فكان إذا أمرهم بشيء حضروا، فيقول: صدق الله ورسوله. أقول: لعل ظهور ما ورد في هذا الحديث في عصرنا أكثر منه في عصر مضى وإن كانت بوادر ما ذكره الحديث قد ظهرت مبكرة. 1050 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمانٌ، لا يدري القاتلُ في أي شيء قتل، ولا يدري المقتولُ في أي شيء قُتِل". وفي رواية (1) فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: "الهرْجُ، القاتلُ والمقتولُ في النارِ". 1051 - * روى أبو يعلي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يظهرُ معدن في أرض بني سُليمٍ يقال له فرعونُ، وفرعانُ. وذلك بلسان أبي جهم قريب من السوء- يخرجُ إليه شرارُ الناس أو يُحشر إليه شرارُ الناس". أقول: لعل في ذلك إشارة إلى ما ظهر من معادن في أنحاء من الجزيرة العربية وأعطي الامتياز فيها لبعض الشركات الأجنبية. * * *

_ 1050 - مسلم (4/ 2231) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة-18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء. الهرج: القتل. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. 1051 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 78) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات.

الباب السادس دوائر شرف حول الرسول صلى الله عليه وسلم

الباب السادس دوائر شرف حول الرسول صلى الله عليه وسلم

تقديم

تقديم بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن، وفي ذلك شرف للفريقين إذا استحقوا الخطاب من الله والتكليف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، وكان العرب هم المخاطبين الأُوَلَ برسالته، فكان ذلك شرفاً وتشريفاً لهم، وكان هاشمياً قرشياً وكان ذلك شرفاً للقبيلة والعشيرة، واستجاب له من استجاب ممن شاهده ورآه فحاز هؤلاء أعظم شرف بعد النبوة وهو شرف الصحبة الذي لا يعدله بعد شرف النبوة شرف، وهؤلاء الأصحاب منهم المهاجرون ومنهم الأنصار ولكل شرفه وفضله، وبعض الأصحاب كان له مزيدُ شرفٍ لزيادة وصف كمن اجتمعت له الصحبة والقرابة، أو من اجتمعت له الصحبة والزوجية، كأزواجه عليه الصلاة والسلام، أو من اجتمعت له الصحبة والبنوة، فهذه كلها دوائر من الشرف بعضها أرقى من بعض ولا شرف عند الله لمن كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن سنُدْخِلُ في هذا الباب فصولاً شتى يجمعها أنها دوائرُ أحاطت برسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هذه الفصول قصير وبعضها طويل وبعضها متداخل مع بعض، ولكنها جميعاً لابد منها لدارس سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام، وبعض من مواد هذه الباب يعتبر ألصق بأبواب أخرى، ولذلك فإننا سنذكره حيث الأجمل، وسنحاول ما استطعنا الاختصار، ونسأل الله عز وجل الحفظ والتوفيق. * * *

فصل في فضل أمته

فصل في فضل أمته

من المعلوم من الدين بالضرورة أن بعثته عليه الصلاة والسلام كانت إلى الإنس والجن، فالثقلان مكلفان برسالته إلى يوم القيامة، ومن ههنا فالعالمون كلهم أمته، لكن العلماء يفرّقون بين أمة الدعوة وأمة الاستجابة، فالإنس والجن عموماً هم أمة الدعوة، والذين استجابوا منهم فآمنوا وأسلموا هم أمة الاستجابة، وقد وردت في فضل أمة الاستجابة نصوص في الكتاب كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) كما وردت نصوص في السنة: 1052 - * روى الترمذي عن معاوية بن حَيْدة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "إنكم تُتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمُها على الله". 1053 - * روى البخاري عن أبي موسى رفعه: "مثلُ المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجلٍ استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجْرِك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخُذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركزا واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ من الأجْر، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: كل ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعَلْتَ لنا فيه فقال لهم: أكمِلُوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا فاستأجر قوماً أن يعملوا بقية يومهمْ، فعملوا بقية

_ (1) آل عمران: 110. 1052 - الترمذي (5/ 226) 48 - كتاب تفسير القرآن-4 - باب "ومن سورة آل عمران" وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (2/ 1423) 37 - كتاب الزهد - 34 - باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأحمد في مسنده (5/ 2). 1053 - البخاري (2/ 1433) 37 - كتاب الإجارة-11 - باب الإجارة من العصر إلى الليل.

يومهم حتى غابت الشمسُ واستكملوا أجر كليهما، فذلك مثلهُم ومثلُ ما قبلوا من هذا النور". 1054 - * روى البخاري عن ابن عمر رفعه: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين العصر إلى غروب الشمس. أُوتيَ أهلُ التوراة التوراةَ فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أُوتي أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطُوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهلُ الكتابين أي ربنا أعطيتَ هؤلاء قيراطين قراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال فهو فضلي أوتيه من أشاءُ". وفي رواية (1): "مثلكم ومثلُ أهل الكتابين كمثل رجلٍ استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوةٍ إلى نصف النهار على قيراطٍ؟ فعملتِ اليهودُ، ثم قال: من يعملُ لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراطٍ؟ فعمِلتِ النصارى، ثم قال: من يعملُ لي من العصر إلى تغيُّب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء". وفي أخرى (2): "قال إنما أجلكم في أجل مَنْ خلا من الأمم بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثلُ اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عُمالاً فقال: مني عملُ لي إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ " بنحوه. دلت هذه النصوص على أن هذه الأمة أفضل الأمم وأكرمها، والمراد بها من تابع محمداً

_ 1054 - البخاري (2/ 38) 9 - كتاب مواقيت الصلاة-17 - باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب. (1) البخاري (4/ 445) 37 - كتاب الإجارة - 8 - باب الإجارة إلى نصف النهار. (2) البخاري (6/ 495) 60 - كتاب أحاديث الأنبياء - 50 - باب ما ذكر عن بني إسرائيل. والترمذي (5/ 153) (45) كتاب الأمثال -7 - باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله.

صلى الله عليه وسلم وآمن به، والمراد بالأمم الأخرى من تابع الأنبياء الذين أرسلوا إليهم، فالمقارنة ههنا بين الأتباع المسلمين، أما الكافرون فلا وزن لهم أصلاً، فأتباع محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أتباع موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وقوله: (سبعون أمة) يشير إلى أن هناك سبعين أمة قد أرسل لها رسل: وبنو إسرائيل واحدة من الأمم، يفهم من ذلك كثرة الأمم التي أرسل لها رسل فالهنود أرسل لهم، والفرس أرسل لهم، والصينيون أرسل لهم، وغيرهم أرسل لهم، ولا يبعد أن يكون الهنود أُمماً، والصينيون أُمماً، وكل أمة منهم أرسل لها رسول، وتتبع روايات الأمم وعلى المقارنة بين الأديان يمكن أن يوصلانا إلى شيء في هذا الشأن إذا كان المتتبع والمقارن مسلماً، على أن المسألة في النهاية لا تخرج عن كونها من الظنيات ما دام الكتاب والسنة لم يفصلا. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (2) {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (4). 1055 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن أبي الدرداء: رفعه إن الله تعالى يقول: "يا عيسى إني باعث منْ بعدك أُمة إن أصابهم ما يُحبون حَمِدُوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال يا رب: كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم؟ قال أعطيهم من حلمي وعلمي" فضل الله وحده على هذه الأمة هو الذي جعل لها هذا المقام عند الله، فعلى هذه الأمة أن تشكر، وعليها ألا تفتر ولا تبطر.

_ (1) فاطر: 24. (2) إبراهيم: 4. (3) النحل: 36. (4) غافر: 78. 1055 - أحمد في المسند (6/ 450). والبزار .. كشف الأستار (3/ 320). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 67)، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير والأوسط"، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبي حليس يزيد بن ميسرة، وهما ثقتان.

يفهم من الحديث أن الفضل منوط بالعلم والحلم، فمن لم يعطه الله علماً ولا حلماً فلا فضل له. نسأل الله العلم والحلم ونسأله أن يوفقنا لتحصيل ذلك. 1056 - * روى الترمذي عن أنس رفعه: "مثلُ أُمتي مثلُ المطر لا يدري أوله خيرٌ أم آخره". قد يفهم فاهم أن الخيرية في هذه الأمة مقصورة على الأجيال الأولى فجاء هذا الحديث ليصحح هذا الوهم. نعم: للأجيال الأولى فضل لا تلحقهم به أجيال أخرى. 1057 - * روى البخاري ومسلم عن المغيرة رفعه: "لا يزالُ ناسٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر اللهم وهم ظاهرون". 1058 - * روى الترمذي عن معاوية بن قرة عن أبيه رفعه: "إذا فسد أهلُ الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة". 1059 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه (1): "لا يزال أهل الغرب

_ 1056 - الترمذي (5/ 152) 45 - كتاب الأمثال 6 - باب حدثنا قتيبة. قال في الفتح: هو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى درجة الصحة. 1057 - البخاري (6/ 632) 61 - كتاب المناقب -28 - باب. مسلم (3/ 1523) 33 - كتاب الإمارة -53 - باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". 1058 - الترمذي (4/ 485) 34 - كتاب الفتن - 27 - باب ما جاء في الشام وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1059 - مسلم (3/ 1535) 32 - كتاب الإمارة -53 - باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا تال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". أهل الغرب: قال علي بن المديني: المراد بأهل الغرب: العرب. والمراد بالغرب، الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالباً، وقال آخرون: المراد به الغرب من الأرض، وقال معاذ: هم بالشام: وجاء حديث آخر: هم ببيت المقدس، وقيل هم أهل الشام وما وراء ذلك، قال القاضي: وقيل المراد بأهل الغرب، أهل الشدة والجلد. وغرب كل شيء حده. قاله النووي. أقول: ظاهر الحديث أن المراد به ما كان غربي المدينة ويدخل في ذلك أجزاء من أفريقيا بالضرورة ومنها إفريقيا العربية والمغرب العربي الكبير جزء منها.

ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعةُ". تدل هذه الأحاديث أن الحق مستمر في هذه الأمة وخاصة في بعض أقطارها، وقد جعل الله الشام ميزاناً يعرف به مقدار الخيرية في هذه الأمة، ومن تأمل حال فلسطين والأردن ولبنان وسورية حين تأليف هذا الكتاب عرف سوء الحال، وهذا يقتضي من أهل الخير في الشام أن يبذلوا مزيد جهد فجهادهم في الشام له انعكاساته على الأرض كلها. 1060 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربهُ طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: "سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحخدة، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أُمتي بالغرق فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسهُم بينهم فمنعنيها". وللترمذي (1) عن خباب بن الأرت: "سألتُه أنْ لا يُهِلكَ أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يُسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يُذيق بعضهم بأس بعضٍ فمنعنيها". هذه الأمة مبتلاة ببعضها وموعودة بعدم الاستئصال غرقاً أو باجتياح كوني أو عالمي، وهذا لا ينافي أن يغرق بعض أجزائها أو تنزل ببعضها جوائحُ أو يسلط على بعضها الكفار فيغلبوهم أو يستأصلوهم فالمنفي هو الاستئصال، وهذا التاريخ شاهد وذلك معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم. 1061 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك. قال: مُرَّ بجنازةٍ فأُثْني عليها

_ 1060 - مسلم (4/ 2216) 52 - كتاب الفتن وشراط الساعة-5 - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم: أي يستأصلهم، أو المراد دوام التسليط. (1) الترمذي (4/ 472) 34 - كتاب الفتن -14 - باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً في أمته وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. 1061 - البخاري (3/ 228) 23 - كتاب الجنائز -85 - باب ثناء الناس على الميت. ومسلم (2/ 655) 11 - كتاب الجنائز -20 - باب فيمن يُثني عليه خير أو شر من الموتى.

خيراً. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبتْ" ومُرَّ بجنازة فأثني عليها (1) شراً. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وجبتْ وجبت وجبتْ". قال عمر: فدى لك أبي وأمي! مَرِّ بجنازة فأثنى عليها خيراً فقلت: وجبتْ وجبت وجبتْ. ومُرَّ بجنازةٍ فأثنى عليها شراً فقلت: وجبتْ وجبت وجبتْ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أثنيتُم عليه خيراً وجبت له الجنة. ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النارُ. أنتمْ شهداء الله في الأرض. انتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض". 1062 - * روى البخاري عن عمر رفعه: "أيما مسلم شهد له أربعةُ نفرٍ بخيرٍ أدخله الله الجنة" فقلنا وثلاثة؟ قال: "وثلاثة" فقلنا واثنان فقال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) فهذه الأمة أكرمها الله عز وجل بأن جعلها شهيدة على الأمم قبلها وعلى الأمم المعاصرة لها. وقوله تعالى: (وسطاً) أي خياراً عدولاً. وذلك يدل على أن الشهيد من هذه الأمة هو من اجتمع له الخيرية والعدالة، فلا عبرة لشهادة غير الخيار العدول، وعلى هذا يحمل الحديثان اللذان مرا، فمن شهد له عدلان بالخيرية فتك علامة على أنه من أهل الجنة، ويُستأنسُ بذلك لفقه الحركة أنه من زكاه عضوان استحق أن ينال صفة العضوية. 1063 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله تعالى عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبتِ، وكان

_ (1) فأثنى عليها خيراً، فأثنى عليه شراً: هكذا هو في بعض الأصول: خيراً وشراً بالنصب، وهو منصوب بإسقاط الجار، أي فأثنى بخير وبشر، وفي بعضها مرفوع، ومعنى الإثناء هو الوصف، يستعمل في الخير والشر، والاسم والثناء، قال في المصباح: يقال أثنيت عليه خيراً وبخير، وأثنيت عليه شراً وبشر، لأنه بمعنى وصفته. 1062 - البخاري مطولاً (3/ 239) 23 - كتاب الجنائز -85 - باب ثناء الناس على الميت. والترمذي (3/ 365) 8 - كتاب الجنائز -63 - باب ما جاء في الثناء الحسن على الميت. والنسائي مطولاً (4/ 51) كتاب الجنائز - باب الثناء. (2) البقرة: 143. 1063 - مسلم (2/ 586) 7 - كتاب الجمعة -6 - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. والنسائي (3/ 87) كتاب الجمعة، باب إيجاب الجمعة.

للنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيُّ لهم قبل الخلائق". 1064 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فُرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فاليهود غداً والنصارى بعد غد". 1065 - * روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: أُنزلت عليه هذه وهو في سفرٍ، فقال: "أتدرُون أي يومٍ ذلك؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلمُ، قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم ابعثْ بعث النار فقال: يا رب وما بعث النار؟ قال: تسعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة؟ " قال: فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربُوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية" قال: "فيؤخذ العددُ من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقْمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير" ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا رُبع أهل الجنة" فكبروا ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا ثم قال (1):

_ 1064 - البخاري (3/ 354) 11 - كتاب الجمعة -1 - باب فرض الجمعة. مسلم (2/ 586) 7 - كتاب الجمعة -6 - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. 1065 - البخاري مختصراً (11/ 388) 81 - كتاب الرقاق -46 - باب قوله عز وجل (إن زلزلة الساعة شيء عظيم). مسلم مختصراً (1/ 301) 1 - كتاب الإيمان -96 - باب قوله "يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". الترمذي (5/ 323) 48 - كتاب تفسير القرآن -33 - باب ومن سورة الحج. قاربوا وسددوا: المقاربة في الفعل: القصد والعدل، والسداد: الصواب من القول والفعل أي: اطلبوا القصد والصواب، واتركوا الغلو والإفراط الرقمة: النقطة التي تكون في باطن عضدي الحمار، وهما رقمتان في عضديه. =

"إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبرُوا، قال: لا أدري قال الثلثين أم لا؟ وفي رواية عن عمران بن حُصين قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فتفاوت بين أصحابه في السير فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بهاتين الآيتين {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله {عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فلما سمع ذلك أصحابه حَثُّوا المطي وعرفوا أنه عند قوله يقوله، فقال: "هل تدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "ذاك يوم ينادي الله فيه آدم فيناديه ربه فيقول: يا آدم ابعث بعث النار فيقول: يا رب؟ وما بعث النار، فيقول: مِنْ كل ألفٍ تسعمائةٍ وتسعةُ وتسعون في النار وواحد في الجنة" فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكةٍ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بأصحابه، قال: "اعملوا وأبشروا فوالذي نفسُ محمدٍ بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيءٍ إلا كثرتاهُ يأجوجُ ومأجوجُ ومنْ مات من بني آدم وبني إبليس" قال: فسُري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال: "اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمدٍ بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة". 1066 - * روى أحمد والترمذي عن أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألف وثلاث حثيات من حثياته". 1067 - * روى أحمد والترمذي عن بُريدة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): "أهل الجنة

_ = أبدوا بضاحكة: يقال: ما أبدى القوم بضاحكة، أي: ما تبسموا حتى تبدو منهم السن الضاحكة فإن من تبسم بدت أسنانه، ويقال في المبالغة: ضحك حتى بدت نواجذه. كثرتاه: تقول: كاثرته فكثرته: إذا غلبته بالكثرة، وكنت أكثر منه. فسري: سري عن الحزين والمغموم ونحوهما: إذا كشف عنه ما به وزال. 1066 - أحمد في المسند (5/ 268). والترمذي (4/ 636) 38 - كتاب صفة القيامة -13 - باب [منه]. وقال: حديث حسن غريب. حثيات: الحثيات جمع حثية- وهي الغرفة بالكف، ويقال: حثا يحثو ويحثي. 1067 - أحمد في المسند (5/ 347).

عشرون ومائة صفٍ، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم". 1068 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رفعه "يدخل الجنة من أمتي زُمرةٌ هم سبعون ألفاً تُضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" فقام عكاشةُ بن محصن الأسدي، فرفع نمرة عليه فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: "اللهم اجعل منهم" ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك عكاشةُ". 1069 - * روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كن يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلمٍ يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكُك من النار". ذكر كثرة يأجوج ومأجوج في سياق أنه يذهب من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار يفيد أن يأجوج ومأجوج كثيرون بالنسبة لأهل الأرض وأنهم مع كثرتهم كافرون ولو أننا تأملنا شعوب الأرض التي لا زالت كافرة والتي تشكل أكثرية مطلقة بالنسبة لأهل الأرض فإننا نجد شعوب الكتلتين الشرقية والغربية وبعض شعوب شرقي آسيا ومنهم الشعب الصيني فهل يدخل هؤلاء جميعاً في هذه التسمية؟ ذهب بعض علماء نجد أن الشعوب الآرية كلها يمكن أن تدخل في هذه التسمية

_ = والترمذي (4/ 683) 39 - كتاب صفة الجنة -13 - باب ما جاء في صفة أهل الجنة. وقال حديث حسن. وابن ماجه (2/ 1434) 37 - كتاب الزهد -34 - باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمستدرك (1/ 82). 1068 - البخاري (11/ 406) 81 - كتاب الرقاق- 50 - باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. مسلم (1/! 97) 1 - كتاب الإيمان -94 - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. زمرة: الزمرة: الطائفة من الناس والجماعة منهم. نمرة: النمرة، جمعها: أنمار وهي ثوب مخطط أو منقط بسواد. سبقك بها عكاشة: قيل لم يدعُ له كما دعا لعكاشة حتى يغلق هذا الباب فلربما طلب منه ثالث أو رابع أو عاشر لا يستحق ذلك فيقع في الحرج والله أعلم ولمي قل له لست منهم أدباً. 1069 - مسلم (4/ 3119) 49 - كتاب التوبة -8 - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.

والغربيون عامة من الشعوب الآرية، وذهب بعضهم إلى أن يأجوج ومأجوج هم سكان ما وراء جبال تركستان، وعلى هذا فإنه يدخل في ذلك التتار والمغول والصينيون، ولعل المتأمل لا يستبعد بعد ما ذُكِرَ الحديثُ أن يكون يأجوج ومأجوج هم كل هؤلاء تناسلوا من أصل واحد، وفي الإسلام متسع لكل الشعوب، ومن أسلم نجا. 1070 - * روى أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مِنْ أمتي من يشفعُ للفئام من الناس، ومنهم مني شفع للقبيلة، ومنهم من يشفعُ للعصبة، ومنهم من يشفعُ للرجل حتى يدخلوا الجنة". 1071 - * روى الترمذي عن عبد الله بن أبي الجدعاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثرُ من بني تميم" قلنا: سواك يا رسول الله؟ قال: "نعم سواي". 1072 - * روى مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده، قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذ أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حيٌّ فأهلكها وهو ينظرُ، فأقر عينهُ بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره". 1073 - * روى البزار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): "أنا حظكُم مِنَ

_ 1070 - أحمد في المسند (3/ 63). والترمذي (4/ 627) 38 - كتاب صفة القيامة -12 - باب منه. وقال: هذا حديث حسن. القثام: الجماعة الكبيرة من الناس. العصبة: الجماعة منا لناس. 1071 - الترمذي (4/ 626) 38 - كتاب صفة القيامة -13 - باب منه. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1072 - مسلم (4/ 1712) 43 - كتاب الفضائل -8 - باب إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. قبض نبيها: أي توفاه. الفرط والسلف: المتقدم وكل عمل صالح قدمه يسمى سلفاً. 1073 - البزار: كشف الأستار (3/ 321) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 68). وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أبي حبيبة الطائي، وقد صحح له الترمذي حديثاً، وذكره ابن حبان في الثقات.

الأنبياء وأنتم حظي من الأمم". 1074 - * روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". رأس كل مائة سنة: أولها. يجدد لها دينها: قال المناوي: أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم. قال ابن كثير: والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم. أقول: فليس شرطاً أن يكون المجدد واحداً ولكن قد يكون، وشاهد الحال انه ما انقطع المجددون من هذه الأمة بدليل بقاء الإسلام وعلومه وتجدد حيويته والعلماء مختلفون في تعيين المجددين في كل عصر ولا حرج في ذلك، ولأهل الفضل فضلهم، على أن معرفتنا بالمجدد مهمة من حيث إن ذلك يعطي لكلامه وزناً خاصاً. والذي جعل العلماء يحتملون أن يكون المجدد واحداً أو أكثر هو كلمة (من) في الحديث فهي تحتمل الواحد والجمع. * * *

_ 1074 - أبو داود (4/ 109) كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، وهو حديث صحيح. والمستدرك (4/ 522).

فصل في فضل العرب وقريش وبعض القبائل

فصل في فضل العرب وقريش وبعض القبائل

جل الله أن يكون في أفعاله عبث فهو الحكيم، وكل ما يصدر منه فهو على غاية الحكمة، فأن يختار الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب ثم من قريش ثم من بني عبد مناف ثم من بني هاشم فكل ذلك لحكم يعلمها جل جلاله وأن يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة ثم المدينة فذلك لحكم لا يحيط بها إلا هو، وقد ورد الكتاب بقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1) {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (2) أي لشرف لك ولقومك قريش خاصة والعرب عامة {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (4) {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (5) وقد وردت نصوص السنة ي فضل العرب وخصت بعض النصوص قريشاً وما تفرع عنها بالذكر، وذكرت نصوص أخرى قبائل من العرب كما ذكرت أهل أوطان بأعيانها. 1075 - * روى مسلم عن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قُريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم". 1076 - * روى الترمذي عن العباس قلتُ: يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلَك كمثلِ نخلةٍ في كيوةٍ من الأرض فقال صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم: من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني في خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً".

_ (1) الأنعام: 124. (2) الزخرف: 44. (3) الزخرف: 3. (4) الأنعام: 92. (5) آل عمران: 96. 1075 - مسلم (4/ 1783) 43 - كتاب الفضائل-1 - باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. والترمذي (5/ 583) 50 - كتاب المناقب -1 - باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. 1076 - الترمذي (5/ 584) 50 - كتاب المناقب-1 - في فضل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن. الكبوة: المنخفض الذي يتجمع فيه الغبار وما يشبهه: أي إن قريشاً جعلتك عظيماً من أسرة ليست كذلك.

1077 - * روى أحمد والترمذي عن سلمان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبغضني فتفارق دينك" قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله، قال: "تبغضُ العرب فتبغضني". 1078 - * روى أحمد والترمذي عن سعدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد هوان قريش أهانه الله". 1079 - * روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أذقت أول قريش نكالاً فأذِقْ آخرهم نوالا". 1080 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نساء قريش خير نساء ركِبْن الإبل، أحناهُ على طفلٍ في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" ويقول أبو هريرة في أثر ذلك: ولم تركب مريمُ ابنةُ عمران بعيراً قط، ولو علمت أنها ركبت بعيرا ما فضلتُ عليها أحداً. 1081 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): "الناس

_ 1077 - أحمد في المسند (5/ 440). والترمذي (5/ 723) 50 - كتاب المناقب- 70 - باب مناقب في فضل العرب. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1078 - أحمد في المسند (1/ 171). والترمذي (5/ 714) 50 - كتاب المناقب -66 - باب في فضل الأنصار وقريش، وقال: هذا حخديث غريب من هذا الوجه. 1079 - الترمذي (5/ 715) 50 - كتاب المناقب 66 - باب في فضل الأنصار وقريش، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. نكالا: النكال: المشقة والعذاب، نوالا: النوال: العطاء. 1080 - البخاري (6/ 472) 60 - كتاب أحاديث الأنبياء -46 - باب قوله تعالى (إذ قالت الملائكة يا مريم) إلى قوله (فإنما يقول له كن فيكون). ومسلم (4/ 1959) 44 - كتاب فضائل الصحابة -49 - باب من فضائل نساء قريش. احناه: أعطفه وأِفقه. أرعاه على زوج: المراعاة والحفظ والرفق به. في ذات يده: فيما يملك. 1081 - البخاري (6/ 535، 536) 61 - كتبا المناقب -1 - قول الله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى =

تبع لِقُريشٍ في هذا الشأن، مسلمهُم تبع لمسلمهم وكافرهم تبعٌ لكافرهم، والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهُوا تجدون من يخر الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه". 1082 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". 1083 - * روى البخاري عن معاوية أنه بلغه وهو عندهُ في وفدٍ من قريش - أن عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدث أنه سيكون ملكٌ من قحطان، فغضب معاوية، فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعدُ فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأولئك جُهالكم، فإياكم والأمانيُّ التي تُضل أهلها، فإني مسعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريشٍ، لا يعاديهم أحد إلا كبهُ الله على وجهه، ما أقاموا الدين". قال ابن حجر: قوله (من قحطان) هو جماع اليمن، وفي إنكار معاوية ذلك نظر لأن الحديث الذي استدل به مقيد بإقامة الدين فيحتمل أن يكون خروج القحطاني إذا لم تقم قريش أمر الدين وقد وُجِدَ ذلك، فإن الخلافة لم تزل في قريش والناس في طاعتهم إلى أن استخفوا بأمر الدين فضعُف أمرهم وتلاشى إلى أن لم يبق لهم من الخلافة سوى اسمها المجرد في بعض الأقطار دون أكثرها. أهـ. أقول: ليس شرطاً أن يكون الذي يسوق الناس بعصاه هو الإمام العظم بل قد يكون سلطاناً من السلاطين، فصلاح الدين مثلاً ساق الناس بعصاه وأصوله كردية، والنسابون العرب مجمعون على أن الأكراد عرب قحطانيون، والله أعلم.

_ = وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). ومسلم (3/ 1451) 33 - كتاب الإمارة-1 - باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش. 1082 - البخاري (6/ 533) 61 - كتاب المناقب -3 - باب مناقب قريش. ومسلم (3/ 1452) 33 - كتاب الإمارة-1 - باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش. 1083 - البخاري (6/ 533) 61 - كتاب المناقب -2 - باب مناقب قريش.

1084 - * روى أحمد والترمذي عن عمرو بن العاص، قال رجل عنده: لتنتهين قُريش أو ليجعلن الله هذا الأمر في جمهور من العرب غيرهم. فقال عمرو بن العاص: كذبت سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة". 1085 - * روى أحمد عن جُبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للقُرشي مثلي قوة الرجل من غير قريش" قال الزهري عني بذلك نُبْلَ الرأي. 1086 - * روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لايزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمعُ عليهم الأمة" فسمعتُ كلاماً من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه، فقلت لأبي ما يقول؟ قال: كلهم من قريش. 1087 - * روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُلكُ في قريشٍ، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة، والأمانة في الأزد" وزاد أحمد، "والسرعة في اليمن". 1088 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُريش والأنصار وجُهينةُ ومُزينة وأسلمُ وأشجعُ وغِفارُ مواليَّ ليس لهم مولى دون الله ورسوله".

_ 1084 - أحمد في مسنده (4/ 203). والترمذي (4/ 503) 34 - كتاب الفتن - 49 - باب ما جاء أن الخلفاء من قريش إلى أن تقوم الساعة. 1085 - أحمد في مسنده (4/ 81، 83) بسند صحيح. 1086 - مسلم (3/ 1453) 33 - كتاب الإمارة-1 - باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش. وأبو داود (4/ 106) كتاب المهدي. 1087 - أحمد في مسنده (2/ 364). والترمذي (5/ 737) 50 - كتاب المناقب - 73 - باب في فضل اليمن. 1088 - البخاري (6/ 533) 61 - كتاب المناقب - 2 - باب مناقب قريش. ومسلم (4/ 1954) 44 - كتاب فضائل الصحابة-47 - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء.

1089 - * روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن كان جهينة ومزينةُ وأسلم وغِفار خيراً من بني تميم وبني أسد ومن بني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة" فقال رجل: خابُوا وخسروا، فقال: "هم خيرٌ من بني تميم ومن بني أسد ومن بني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعةً". خابوا وخسروا: قال في الفتح: وقد ظهر مصداق ذلك عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد هؤلاء مع طلحة بن خويلد وارتد بنو تميم مع سجاح. 1090 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما بايعك سُراق الحجيج من أسلم وغفار ومُزينة - وأحسبه وجهينة، ابن أبي يعقوب شك- قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن كان أسلم وغِفارٌ ومُزينة وأحسِبه وجهينة خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان خابوا وخسروا؟ " قال: نعم. قال: "والذي نفسي بيده إنهم لأخيرُ منهم". 1091 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمُ سالمها الله، وغِفارُ غفر الله لها، أما إني لم أقلها ولكن الله قالها". 1092 - *روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال (1): "لا أزال أحب بني تميم بعد

_ 1089 - البخاري (6/ 542) 61 - كتاب المناقب -1 - باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع. ومسلم (4/ 1956) 44 - كتاب فضائل الصحابة-47 - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء. 1090 - البخاري (6/ 543) 61 - كتاب المناقب -6 - باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع. ومسلم (4/ 1956) 44 - كتاب فضائل الصحابة -47 - باب من فضائل غفار ... والأقرع بن حابس: أحد رؤساء بني تميم وقد أسلم وشهد مع رسول الله حنيناً. 1091 - البخاري (6/ 543) 61 - كتاب المناقب -6 - باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع. ومسلم (4/ 1953) 44 - كتاب فضائل الصحابة-46 - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لغفار وأسلم. 1092 - البخاري (5/ 170) 49 - كتاب العتق -13 - باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية. ومسلم (4/ 1957) 44 - كتاب فضائل الصحابة-47 - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة ودوس وطيء. =

ثلاث سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم، سمعته يقول: "هُم أشدُّ أمتي علي الدجال" وجاءت صدقاتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا" وكانت سبيةٌ منهم عند عائشة فقال صلى الله عليه وسلم: "أعتيقها فإنها من ولد إسماعيل". 1093 - * روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غِلَظُ القلوب وجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز". 1094 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألينُ قلوباً، الإيمانُ يُمانٍ، والحكمة يمانية ورأس الكفر قبل المشرق، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقارُ في أهل الغنم". 1095 - * روى البخاري ومسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان ههنا وأشار بيده إلى اليمن، والقسوة وغلظُ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرناً الشيطان في ربيعة ومُضر". قال النووي: وقوله صلى الله عليه وسلم (في الفدادين) فزعم أبو عمرو الشيباني أنه بتخفيف الدال وهو جمع فدِّاد بتشديد الدال وهو عبارة عن البقرة التي يحرث عليها حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه وعلى هذا المراد بذلك أصحابها فحذف المضاف والصواب في الفدادين بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة، وهذا قول أهل الحديث والأصمعي وجمهور أهل اللغة (1)، وهو من الفديد وهو الصوت الشديد فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك. وقال أبو عبدة معمر بن المثنى هم المكثرون من الإبل الذين يملك

_ = السبية: المرأة التي تُسبى من قومها، وتؤخذ أمة. 1093 - مسلم (1/ 73) 1 - كتاب الإيمان -21 - باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه. 1094 - البخاري (8/ 98) 64 - كتاب المغازي -74 - باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن. ومسلم (1/ 73) 1 - بكتاب الإيمان -21 - باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه. 1095 - البخاري (8/ 98) 64 - كتاب المغازي -74 - باب قدوم الأِشعريين وأهل اليمن. ومسلم (1/ 72) 1 - كتاب الإيمان -31 - باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل ايمن فيه. الفدادين: بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة، وهو من الفديد، وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم.

أحدهم المائتين منها إلى الألف. وقوله إن القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل معناه الذين لهم جلبةً وصياح عند سوقهم لها. وقوله صلى الله عليه وسلم "حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر" قوله ربيعة ومضر بدل من الفدادين، وأما قرنا الشيطان فجنبا رأسه، وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل شيعتاه من الكفار والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر. أهـ. 1096 - * روى الترمذي عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر قِبَلَ اليمن فقال: "اللهم أقْبِل بقلوبهم، وبرك لنا في صناعنا ومُدنا". 1097 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرفُ أصوات رُفقةِ الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم إذا لقي الخيل أو قال العدو، قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم". قال الحافظ في الفتح: قوله (قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم) أي تنتظروهم من الانتظار ومعناه أنه لفرط شجاعته كان لا يفر من العدو بل يواجههم ويقول لهم إذا أرادوا الانصراف مثلاً: انتظروا الفرسان حتى يأتوكم، ليثبتهم على القتال. هذا بالنسبة إلى الشق الثاني وهو قوله (أو قال العدو)، وأما على الشق الأول وهو قوله (إذا لقي الخيل) فيحتمل: أن يريد بها خيل المسلمين، ويشير بذلك إلى أن أصحابه كانوا رجالةً فكان هو يأمر الفرسان أن ينتظروهم ليسيروا إلى العدو جميعاً، وهذا أشبه بالصواب. قال ابن التين: معنى كلامه أن أصحابه يحبون القتال في سبيل الله ولا يبالون بما يصيبهم.

_ 1096 - الترمذي (5/ 726) 50 - كتاب المناقب - 73 - باب في فضل اليمن، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه من حديث زيد بن ثابت إلا من حديث عمران القطان. 1097 - البخاري (4857) 64 - كتاب المغازي -38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (4/ 1944) 44 - كتاب فضائل الصحابة -39 - باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم. حكيم: قيل اسم علم لرجل وقيل صفة من الحكمة.

1098 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم". 1099 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ القومُ الأزد، طيبةً أفواههم، برةً أيمانهم، نقيةً قلوبهم". 1100 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوساً قد هلكت، عصتْ وأبتْ، فادعُ الله عليهم، فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال: "اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم". 1101 - * روى الترمذي عن جابر أن الصحابة قالوا: يا رسول الله أخرقتنا نبالُ ثقيفٍ فادع الله عليهم فقال: "اللهم اهدِ ثقيفاً". 1102 - * روى البزار عن ابن مسعود، قال: شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الحي من النخع أو قال يُيني عليهم حتى تمنيت أني رجل منهم. 1103 - * روى أحمد عن طارقٍ بن شهابٍ قال (1): قدم وفدُ بجيلة على النبي صلى الله عليه وسلم،

_ 1098 - البخاري (5/ 128) 47 - كتاب الشركة-1 - باب الشركة في الطعام والنهد والعروض. ومسلم (4/ 1944) 44 - كتاب فضائل الصحابة-39 - باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم. 1099 - أحمد في مسنده (2/ 351)، بإسناد حسن. 1100 - البخاري (8/ 101) 64 - كتاب المغازي -75 - باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي. ومسلم (4/ 1957) 44 - كتاب فضائل الصحابة-47 - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء. 1101 - الترمذي (5/ 739) 50 - كتاب المناقب -74 - باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1102 - البزار: كشف الأستار (3/ 314). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 51) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد ثقات. 1103 - أحمد في مسنده (4/ 315).

فقال: "اكتُبوا البجليينَ وابدءوا بالأحمسيْينَ". وفي رواية (1): قَدِم وفدُ أحمسَ ووفدُ قيسٍ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ابدءوا بالأحمسيين قبل القيسيين" ثم دع لأحمس: "اللهم بارك في أحمس وخيلها ورجالها" سبع مراتٍ. 1104 - * روى الطبراني عن غالب بن أبجر قال: ذكرت قيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "رحم الله قيساً" قيل: يا رسول الله: ترَحَّمُ على قيس؟ قال: "نعم، إنه كان على دين أبينا إبراهيم خليل الله، يا قيسُ حيِّ يَمناً، يا يمن حي قيساً، إن قيساً فُرسانُ الله في الأرض، والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان ليس لهذا الدين ناصر غير قيس، إنما قيس بيضة فغلقت عنا أهل البيت، إن قيساً ضراء الله، يعني أُسْدُ الله". 1105 - * روى أبو يعلي والبزار عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنزة ذات يوم، فقال أصحابه: يا رسول الله وما عنزةُ؟ فأشار بيده نحو المشرق، فقال: "حيٌّ من ههنا مبغيٍّ عليهم منصورون". 1106 - * روى مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً إلى حيٍّ من أحياء العرب فسبُّوه وضربوه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أن أهل عُمان أتيت ما سَبُّوك ولا ضربوك".

_ (1) أحمد (4/ 315) والطبراني (8/ 387) وأورد الروايتين الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 48، 49) وقال: رواه كله أحمد، وروى الطبراني بعضه إلا أنه قال: "ابدؤا بالأحمسيين قبل القيسيين، ورجالهما رجال الصحيح. 1104 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 49) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات. 1105 - البزار: كشف الأستار (3/ 313). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 51) وقال: رواه أبو يعلي في الكبير والبزار بنحوه باختصار عنه، والطبراني في الأوسط وأحمد إلا أنه قال: عن العصان بن حنظلة أن أباه وفد على عمر، ولم يذكر حنظلة، وأحد إسنادي أبي يعلي رجاله ثقات كلهم. 1106 - مسلم (4/ 1971) 44 - كتاب فضائل الصحابة-57 - باب فضل أهل عمان.

1107 - * روى أحمد وأبو يعلي عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم أرضاً يقال لها عُمان ينضِحُ بناحيتها البحرُ، لو أتامه رسولي ما رموه بسهم ولا حجرٍ". * * *

_ 1107 - أحمد في مسنده (1/ 44). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 53) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير لمازة بن زياد وهو ثقة ورواه أبو يعلي كذلك.

فصل في آل بيته

فصل في آل بيته

من دوائر الشرف العظمى حول الرسول صلى الله عليه وسلم دائرة أهل بيته فهي الدائرة الأشد لصوقاً به عليه الصلاة والسلام، ولذلك كان الكلام عنها ألصق بسيرته، وسنرى أنه يدخل في هذه الدائرة: أزواجه وأبناؤه وبناته وأحفاده، كما يدخل في ذلك أقاربه الأدنون. وكل كلمة مرت معنا في الفصل السابق في فضل العرب أو قريش أو من أدلى بسبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل بيته وعشيرته الأقربون يدخلون فيها من باب أولى. ومع ذلك فقد وردت نصوص تدل على خصوصية الأقربين: قال تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (2) فسرها بعضهم إلا أن تودوا قرابتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (3). 1108 - * روى الترمذي والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحِبُّوا الله لما يغذُوكم به من نعمه وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي". 1109 - * روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أيها الناسُ إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تاركُ فيكم ثقلين، أولهما كتابُ الله فيه الهدى والنورُ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهلُ بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهلُ بيته يا زيدُ؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بته ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيلٍ وآلُ جعفرٍ وآلُ عباسٍ، قال: كل هؤلاء حُرمَ الصدقة؟ قال: نعم. وفي رواية: فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال لا وايمُ الله، إنَّ

_ (1) الشعراء: 314. (2) الشورى: 23. (3) الأحزاب: 33. 1108 - الترمذي (5/ 664) 50 - كتاب المناقب - 32 - باب في مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. والمستدرك (3/ 150) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1109 - مسلم (4/ 1873) 44 - كتاب فضائل الصحابة-4 - باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

المرأة تكونُ مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجعُ إلى أبيها وقومها. 1110 - * روى الطبراني عن جابر أنه سمع عمر يقول للناس حين تزوج بنت علي: ألا تهنوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ينقطعُ يوم القيامة كل سببٍ ونسبٍ، إلا سببي ونسبي". من هذه النصوص وأمثالها نعلم أنه قد خص آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم- أياً ما أطلق عليه هذا الاسم - بأحكام، ومن ذلك أنه وجب لهم في أعناق المسلمين الاحترامُ، ويتأكد هذا الاحترامُ كلما ضاقت الدائرة، فإذا وصلت إلى عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين فههنا قطب دائرة المحبة والاحترام. وذلك أنه ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة أربعُ بنات وذكران كلهم توفوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة فقد تأخرت عنه، وجاء له من مارية القبطية رضي الله عنها ابنهُ إبراهيم، وقد توفي صغيراً، لقد توفي أبناؤه الذكور وهم صغار ولم تنجب بنتاه أم كلثوم ورقية، ولقد أنجبت زينبُ رضي الله عنها لكن ذريتها لم تستمر، وفاطمة وحدها هي التي أنجبت وبقي عقبُها فاستمرت ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم في أبناء علي رضي الله عنه، ولهذا وغيره مما سنراه قلنا: إن هذه الدائرة تخص بمزيد الاحترام. والنصوص التي مرت معناه تدل على وجوب محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم مظنة الهدى والهداية، وأنهم محل عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة هم ومن اتصل بهم، والملاحظ أن رواية مسلم أخرجت من كلمة آل البيت أزواجه عليه الصلاة والسلام وأدخلت دائرة محددة في هذه، الكلمة، والأمر بجملته يحتاج إلى تفصيل: فقد توضّعت حول هذا الموضوع خلافات كثيرة بين أهل السنة والجماعة من جهة وبين بعض الفرق التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية من جهة أخرى فمن غالٍ إلى حاقد، وكل ذلك يترك آثاره على مسيرة الإسلام والمسلمين، كما أنه بسبب من الجهل أو العصبية يدخل الكثيرون في دائرة الضلال أو الفسوق أو الكفر لموقف من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ونحن ذاكرون في هذا الفصل ما يرتاح له قلبُ المسلم وعقله إن شاء الله تعالى وما هو محل

_ 1110 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 173) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجالهما رجال الصحيح غير الحسن بن سهل وهو ثقة.

الاعتبار والنجاة. * * * تطلق كلمة آل البيت على معنى أعم وعام ومعنى خاص ومعنى أخص فهي بمعناها الأعم يدخل فيها كل مؤمن ومؤمنة، وهي بمعناها العام يدخل فيها أزواجه وبناته وأحفاده وأقاربه الأدنون، وهي بمعناها الخاص يدخل فيها من حرمت عليه الصدقة على خلاف بين الفقهاء في ذلك، ورواية مسلم المذكورة تذكر إحدى وجهات النظر، وهي بمعناها الأخص يدخل فيها علي وفاطمة وأبناؤهما وذرية الحسن والحسين خاصة. فلكلمة آل البيت إذن معان متعددة باعتبار المقامات، فهي ترد على أكثر من معنى، والسياق هو الذي يعطيها مدلولها الأعم أو الأخص، فهي ترد ويراد بها جميعُ المؤمنين ولو كانوا عصاة، لأن كل مؤمن بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم رحم فالله عز وجل يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1) أي وهو أبوهم، وعلى هذا حمل بعض العلماء كلمة آل البيت إذا وردت في الدعاء فقولنا: (اللهم صل على سيدنا محمد وآله) يراد بالآل هنا كل المؤمنين على رأي هؤلاء، وفي مقام الزكاة يراد بالآل بنو هاشم وبنوعبد المطلب عند الشافعية، وبنو هاشم فقط عند المالكية والحنابلة. وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس وآل الحارث عند الحنفية، وعلى هذا الخلاف حمل كل من المذاهب كلمة آل البيت حيث وردت في بحث الزكاة في أنها لا تجوز لمحمد وآل بيته، وقد وردت نصوص تدخل في أهل بيته أزواجه عليه الصلاة والسلام خاصة وأن قوله جل جلاله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) قد جاء في سياق الخطاب لأزواجه عليه الصلاة والسلام. 1111 - * روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

_ (1) الأحزاب: 6. (2) الأحزاب: 33. 1111 - رواه ابن أبي حاتم في تفسيره فيما عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (3/ 483). وإسناد هذه الرواية حسن. والمباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال عكرمة: من شاء باهلْتُه، أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وعلق ابن كثير على قول عكرمة، فقال: فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك. كما جاءت نصوص تخص علياً وفاطمة والحسن والحسين بالذكر: 1112 - * روى أحمد والترمذي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم جللَ على الحسنِ والحسين وعلي وفاطمة ثم قال: "هؤلاء هلُ بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت أم سلمة: وأنا منهم يا رسول الله؟ قال: "إنك إلى خير". وهذا الحديث يدل على أن الآية أعم من أن تكون في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. 1113 - * روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} الآية دعا النبي صلى الله عليه سلم علياً وفاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: "اللهم هؤلاء أهلي". فهذان نصان يذكران آل البيت بالمعنى الأخص. 1114 - * روى أحمد والطبراني عن عائشة قالت: أُهدِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادةً من جَزْع ملمعة بالذهب، ونساؤه مجتمعات في بيتٍ كلهن، وأمامة بنت أبي العاص

_ 1112 - أحمد في مسنده (6/ 304). والترمذي (5/ 699) 50 - كتاب المناقب - 61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. جلل: غطى وكسا. حامتي: الحامة: القرابة القريبة وخاصة الإنسان. 1113 - الترمذي (5/ 225) 48 - كتاب تفسير القرآن -4 - باب "ومن سورة آل عمران". وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. 1114 - أحمد في مسنده (6/ 101، 261). قال في مجمع الزوائد (1/ 254): رواه الطبراني واللفظ له وأحمد باختصار وأبو يعلي وإسناد أحمد وأبي يعلي حسن. الجزع: ضرب من العقيق يعرف بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان.

ابن الربيع جارية تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف ترين هذه؟ " فنظرنا إليها فقلنا: يا رسول الله، ما رأينا أحسن من هذه قط، ولا أعجب، فقال: "اردُدْنَها إليّ" فلما أخذها قال: "والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إليَّ" قالت عائشة: فأظلمت علي الأرض يني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن، ولا أراهن إلا أصابهن مثلُ الذي أصابني، ووجمنا جميعاً سكوت، فأقبل هبا حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص فسُرِّيَ عنا. دل هذا الحديث على أن أحفاده من غير فاطمة من أهل بيته، فمن باب أولى أبناؤه وبناته، ولذلك سنعقد (وصلاً) ههنا عن أبنائه وبناته وأحفاده، وقد مر معنا حديث مسلم الذي ذكر فيه زيد بن أرقم وجهة نظره التي تذكر آل عقيل وآل جعفر وآل عباس، لكن هناك نصوصاً تدخل غيرهم معهم في حرمة الصدقة. 1115 - * روى مسلم عن المطلب بن ربيعة بن الحاث أنه قال: اجتمع ربيعةُ بن الحارث والعباس بن عبد المطلب. فقالا: والله! لو بعثنا هذين الغُلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماهُ، فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناسُ، وأصابا مما يُصيبُ الناسُ! قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب. فوقف عليهما. فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا. فوالله! ما هو بفاعلٍ. فانتحاه ربيعةُ بن الحارث فقال: والله! ما تصنعُ هذا إلا نفاسةٌ منك علينا. فوالله! لقد نلتَ صِهرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نفسناهُ عليك. قال عليٍّ: أرسلوهما. فانطلقا. واضطجع عليٍّ. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سبقناهُ إلى الحُجرةِ فقمنا عندها. حتى جاء فأخذ بآذاننا. ثم قال: "أخرجا ما تُصرِّرانِ" ثم

_ 1115 - مسلم (2/ 752 ط) 12 - كتاب الزكاة -51 - باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة. وأبو داود (3/ 147) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. والنسائي (5/ 105) كتاب الزكاة، باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة. فانتحاه: عرض له. النفاسة: البخل والمعنى: أي إلا بخلا منك علينا. تُصرران: ما تخبئانه في صدوركما من الكلام. =

دخل ودخلنا عليه. وهو يومئذٍ عند زينب بنت جحش. قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله! أنت أبرُّ الناس وأوصلُ الناس. وقد بلغنا النكاح. فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات. فنؤدي إليك كما يؤدي الناسُ، ونصيبُ كما يصيبون قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه. قال: وجعلتْ زينبُ تُلمِعُ علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماهُ. قال: ثم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمدٍ. إنما هي أوساخ الناس. ادعوا لي محمية" (وكان على الخُمُس) "ونوفلَ ابن الحاث بن عبد المطلب" قال: فجاءاه. فقال لمحمية: "أنكحْ هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباسٍ) فأنكحهُ. وقال لنوفل بن الحارث: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني. وقال لمحمية: "أصدق عنهما من الخُمُسِ كذا وكذا" قال الزهري: ولم يسمه لي. وكل ذلك دعانا إلى أن نعقد (وصلا) عن بعض من يدخل في آل بيته في الدائرة الأوسع. وعلى هذا فسنعقد في هذا الفصل عدة وصول: وصلا عن أزواجه، ووصلاً عن أبنائه وبناته وأحفاده ومنهم الحسن والحسين، ووصالً عن بعض أقاربه ممن يدخلون في دائرة آل البيت بالمعنى الخاص. وقد كان من حق الحسن أن نذكره أثناء الكلام عن الخلفاء الراشدين لكنا قدمناه ههنا، وكان من حق علي رضي الله عنه أن نضعه ههنا فذكرناه مع الخلفاء الراشدين وتقديم الكلام ههنا عمن سنذكرهم اضطرنا إليه سياق الكتاب. وهذا عذرنا لمن ينتقدنا لِمَ لَمْ نقدم الكلام عن أبي بكر وعمر وهما أفضل الأمة بعد رسولها عليه الصلاة والسلام، ونحب أن ننبه أن من نذكرهم هنا اجتمع لهم فضلان: فضل الصحبة إذا توافرت شروطها (1)، وفضل

_ = تُلْمع: تشير. أوساخ الناس: تنبيه على العلة في تحريمها ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم. محمية: هو ابن جزء بن عبد يغوث الزبيدي حليف بني سهم من قريش كان قديم الإسلام وهاجر إلى الحبشة وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخماس. وكان على الخمس: يتولى أمر خمس الغنيمة الذي من مصارفه ذوو القربى. أصدق المرأة: سمى لها صداقاً.

القرابة، وهناك استطرادات يضطرنا إليها السياق سنتحدث عنها بمناسبتها. 1116 - * روى أحمد عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله عز وجل، ممدودٌ ما بين السماء والأرض أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا على الحوض". 1117 - * روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يبغضُنا أهل البيت أحدٌ إلا أدخله الله النار". 1118 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتُها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بلى فاهدها إليَّ قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاةُ عليكم أهل البيت؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ" وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح، وإنما خرجتُه ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعاً هم، وأبو فروة هو عروةُ بن الحاث الهمداني من أوثق التابعين بالكوفة. 1119 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن أبا بكرٍ قال: ارقُبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. 1120 - * روى الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الحسن والحسينَ

_ 1116 - أحمد في مسنده (5/ 182). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 162): رواه أحمد وإسناده جيد. 1117 - المستدر (3/ 150) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. 1118 - المستدرك (3/ 148). 1119 - البخاري (7/ 78) 63 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1120 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 40) وقال: رواه الطبراني، وهو مرسل، ورجاله ثقات.

وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفرٍ وهم صغار ولم يبقُلوا ولم يبلُغوا، ولم يبايع صغيراً إلا منا. 1121 - * روى أبو يعلي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُكم خيركم لأهلي من بعدي" قال أبو خيثمة: الناس يقولون لأهل وقال هذا لأهلي. * * *

_ = يبقلوا: بَقِل وجهه: إذا نبتت لحيته. 1121 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 174) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات.

الوصل الأول في أزواجه عليه الصلاة والسلام

الوصل الأول في أزواجه عليه الصلاة والسلام

توطئة

توطئة: الحديث عن أزواجه جزء مهم من الحديث عن سيرته عليه الصلاة والسلام، فلا ينفصل الكلام عن أزواجه عن الكلام عنه، ثم إن أزواجه عليه الصلاة والسلام هنّ القدوة للمرأة المسلمة. والنساء يشكلن حيزاً كبيراً من المجتمع الإنساني، وإن كانت الأسرة تشكل دائرة مهمة من دوائر المجتمع فمن المهم أن يتعرف الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسرته. وهذا الوصل والوصل الذي بعده يعطينا صورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أسرته ويعطينا صورة عن أكمل أسرة في تاريخ الوجود، وسنذكر بين يدي نصوص هذا (الوصل) مقدمتين: مقدمة عامة، ومقدمة عن التفضيل بين أزواجه ....... وكان الكمال في البحث يقتضي أن تذكر مع ترجمة كل من زوجاته عليه الصلاة والسلام مجموع رواياته عنه عليه الصلاة فهي المقصود الأعظم من الترجمة، وبذلك تظهر الصورة الحقيقية عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجية، لكن هذا سيؤثر على أبحاث هذا الكتاب الأخرى لأن مرويات الزوجات ذات موضوعات متعددة، وهذا يقتضي أن نذكرها عند موضوعاتها في هذا الكتاب، ومن قبل قلنا إن هذا الكتاب بكل أقسامه مع تفسير القرآن هو السيرة كلها، فليعتبر القارئ إذن أن الحديث موصول عنه وعن زوجاته في بقية أقسام الكتاب، ومن ههنا فإن قارئ هذا البحث عن زوجاته سيجد فراغات كثيرة وقصوراً كبيرةً، إلا أن ذلك من مقتضيات طريقتنا في عرض السنة في هذا الكتاب، وفي الأصل فإن جامعي السنة يتحدثون عادة عما يسمى بالمناقب، وهذا البحث يكاد يكون أشبه بذلك. * * *

المقدمة الأولى لمحة عامة عن أزواجه وسراريه عليه السلام

المقدمة الأولى لمحة عامة عن أزواجه وسراريه عليه السلام قال المباركفوري: معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممتازاً عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاث عشرة امرأة، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والأخرى أم المساكين زينبُ بنت خزية. واثنتان لم يدخل بهما، وها هي أسماؤهن وشيء عنهن. 1 - خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. 2 - سودة بنت زمعة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بأيام، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو فمات عنها. 3 - عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنةٍ، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها في شوال بعد بدر - على ما قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات-، وكانت بكراً، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق. 4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيَّمت من زوجها خُنيس بن حُذافة السهمي بين بدر واحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 3 هـ. 5 - زينب بنت خزيمة من بني هلال بن عامر بن صعصعة، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 4 هـ. ماتت بعد الزواج بشهرين أو ثلاثة أشهر. 6 - أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة، فمات عنها في جمادي الأخرى سة 4 هـ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة نفسها.

7 - زينب بنت جحش بن رباب من بني أسد بن خزيمة، وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت زيد بن حارثة- الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم- فطلقها زيد. فأنزل الله تعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (1) وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. 8 - جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خُزاعة، كانت في سبي بني المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6 هـ. 9 - أم حبيبة رَمْلَةُ بنت أبي سفيان، كانت تحت عبيد الله بن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7 هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وبعث بها مع شُرحبيل بن حسنة. 10 - صفية بنت حيي بن أخطَب من بني إسرائيل، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7 هـ. 11 - ميمونة بنت الحاث أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة سنة 7 هـ، في عمرة القضاء بعد أن حل منها على الصحيح. فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان - خديجة بنت خويلد وزينب أم المساكين - في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي. وأما الاثنتان اللتان لم يبن بهما فواحدة من بني كلاب، وأخرى من كندة وهي المعروفة بالجونية، وهناك خلافات لا حاجة إلى بسطها. وأما السراري فالمعروف أنه تسري باثنتين إحداهما مارية القبطية. أهداها له المُقوقِس

_ (1) الأحزاب: 37.

المقدمة الثانية: في التفضيل

فأولدها ابنه إبراهيم الذي توفي صغيراً بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم، في 28/أو 29 من شهر شوال سنة 10 هـ وفق 27 يناير سنة 632 م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القُرظية، كانت من سبايا قريظة فاصطفاها لنفسه، وقيل بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم، أعتقها فتزوجها والقول الأول رجحه ابن القيم، وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. أهـ. * * * المقدمة الثانية: في التفضيل قال الشيخ عبد السلام اللقاني: وأما تفضيل الزوجات الشريفات، فأفضلُهُنّ: خديجة، وعائشة، وفي أفضلهن خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة وفاطمة، فتكون أفضل من عائشة ولما سئل السبكي عن ذلك قال: الذي نختاره وندينُ الله به، أن فاطمة بنت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ثم أمها خديحة ثم عائشة. واختار السبكي أن مريم أفضل من خديجة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير نساء العالمين مريم بنت عمران، ثم خديجة بنت خُويلد، ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون" (1) وللاختلاف في نبوتها. أقول: التفضيل لفاطمة على خديجة من حيثيةٍ كونها جزءاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفضيل لخديجة على فاطمة من حيثية ما قامت به. قال الشيخ اللقاني: وقال شيخ الإسلام في شرح البخاري: الذي اختاره الآن أن الأفضلية محمولة على أحوالٍ، فعائشة أفضلهن من حيث العلم، وخديجة من حيث تقدمها وإعانتها له صلى الله

_ (1) رواه أحمد في مسنده (1/ 322) عن ابن عباس.

عليه وسلم في المهمات، وفاطمة من يحث القرابة، ومريم من حيث الاختلاف في نبوتها، وذكرها في القرآن مع الأنبياء، وآسية امرأة فرعون من هذه الحيثية، ولكن لم تذكر مع الأنبياء، وعلى ذلك تنزيل الأخبار الواردة في أفضليتهن، وهذا جيد إن قلنا: إن التفضيل بالأحوال وكثرة الخصال الجميلة، وأما إن قلنا: إنه باعتبار كثرة الثواب، فالأقربُ الوقفُ كما هو قول الأشعري. وفي كلام البرهان الحلبي أن زينب بنت جحش تلي عائشة رضوان الله تعالى عليهما، ولم يقف أستاذنا على نص في باقيهن، ولا في مفاضلة بعض أبنائه الذكور على بعض، ولا في المفاضلة بينهم وبين البنات الشريفات، سوى ما شرف الله به الذكور على الإناث مطلقاً، ولا بينهن سوى فاطمة، بأنها أفضل بناته الكريمات، ولا بين باقي البنات سوى فاطمة مع الزوجات الطاهرات، وإن جرت علة فاطمة بالبعضية في الجميع، فالوقف أسلم، والله أعلم. أهـ. وهذه سيرة مختصرة للزوجات الطاهرات.

1 - خديجة بنت خويلد رضي الله عنها

1 - خديجة بنت خويلد رضي الله عنها يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: خديجة أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبتت جأشَهُ، ومضت به إلى ابن عمها ورقة. ومناقبها جمة، وهي ممن كمُلت من النساء. كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول: ما غرت من امرأةٍ ما غرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها. ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنها لم يتزوج امرأة قبلها، وجاء منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسري عليها قط، ولا تسري إلى أن قضت نحبها، فوجِد لفقدها، فإنها كانت تعم القرين وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر هو صلى الله عليه وسلم لها. قال الزبير بن بكار: كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها هي فاطمة بنت زائدة العامرية. كانت خديجة أولاً تحت أي هالة بن زُرارة التميمي، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم بعده النبي صلى الله عليه وسلم، فبنى بها وله خمس وعشرون، وكانت أسنُّ منه بخمس عشرة سنة. عن عائشة: أن خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة، وقيل: توفيت في رمضان ودفنت بالحجون (هو جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها) عن خمس وستين سنة. قال الواقدي: خرجوا من شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين فتوفي أبو طالب، وقبله خديجة بشهر وخمسة أيام، وقال الحاكم: ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام.

نصوص تتحدث عنها

قال ابن إسحاق: تتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاك أبي طالب وخديجة، وكانت خديجة وزيرة صدق وهي أقرب إلى قُصي من النبي صلى الله عليه وسلم برجل (1)، وكانت متمولة، فعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج في مالها إلى الشام فخرج مع مولاها ميسرة، فلما قدم باعت خديجة ما جاء به فأضعف، فرغبت فيه (2)، فعرضت نفسها عليه فتزوجها، وأصدقها عشرين بكرة. فأولادها منه: (القاسم، والطيب، والطاهر، ماتوا رضعاً، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة). قال الشيخ عز الدين بن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين. وقال الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى: أول من آمن بالله ورسوله خديجة، وأبو بكر، وعلي رضي الله عنهم. قال الواقدي: توفيت في رمضان ودفنت بالحجون. وقال قتادة: ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وكذا قال عروةُ أهـ كلام الذهبي. وهذه نصوص تتحدث عنها: 1122 - * روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيرُ نسائها: مريم بنت عمران، وخير نسائها: خديجة بنت خويلد". قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض.

_ (1) يعني كان قصي جدها الثالث وجد النبي صلى الله عليه وسلم الرابع. (2) لما رأت فيه من أمانة وبركة وما حدث به ميسرة عن خصاله الحميدة. 1122 - البخاري (7 م 470) 60 - كتاب أحاديث الأنبياء-45 - باب (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين). ومسلم (4/ 1886) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

1123 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريلُ عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام - أو طعام، أو شرابٌ - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني وبشرها ببيتٍ في الجنة من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب. 1124 - * روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوطٍ فقال: "أتدرون ما هذا؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ نساء أهل الجنة خديجةُ بنتُ خُويلدٍ، وفاطمةُ ابنةُ محمدٍ، ومريمُ ابنةُ عمران، وآسيةُ ابنةُ مُزاحمٍ امرأةُ فرعون". 1125 - * روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن خديجة أنها ماتتْ قبل أنْ تُنزل الفرائضُ والأحكام، قال: "أبصرتُها على نهرٍ من أنهار الجنة في بيت من قصبٍ لا لغو فيه ولا نصب" وسئل عن أبي طالب هل نفعتهُ؟ قال: "أخرجْتُهُ من جهنم إلى ضحضاح منها".

_ 1123 - البخاري (7/ 133) 63 - كتاب مناقب الأنصار-20 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها. ومسلم (4/ 1886) 44 - كتاب فضائل الصحابة-12 - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. قد أتتك: معناه توجهت إليك. فإذا هي أتتك: أي وصلتك. فاقرأ عليها السلام: أي سلم عليها. ببيت في الجنة من قصب: قال جمهور العلماء: المراد بالقصب قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف، وقيل قصر من ذهب منظوم بالجوهر. صخب: الصخب الصوت المختلط المرتفع. نصب: النصب المشقة والتعب. 1124 - أحمد في مسنده (1/ 326) والطبراني في الكبير (11/ 336). والحاكم (3/ 160) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 223) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني ورجالهم رجال الصحيح. 1125 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 223) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثق، وخاصة في أحاديث جابر. الضحضاح: القريب القعر.

1126 - * روى أحمد والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبُك من نساء العالمين: مريمُ بنت عمران، وخديجةُ بنت خويلدٍ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وآسيةُ امرأةُ فرعون". 1127 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة قط، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثرُ ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: "إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولدٌ". وفي رواية قالت (1): وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمرهُ ربُّه عز وجل- أو جبريل عليه السلام - أن يُبشرها ببيتٍ في الجنةِ من قصبٍ. قال في رواية (2): وأمره الله عز وجل أن يُبشرها ببيتٍ من قصبٍ، وإنْ كان ليذْبحُ الشاة، فيُهدي في خلائلها منها ما يسعهُنَّ. وفي أخرى (3): وكان إذا ذبح الشاة يقولُ: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبْتُه يوماً، فقلتُ: خديجة؟ فقال: "إني رُزقت حُبَّها".

_ 1126 - أحمد في مسنده (3/ 135). والترمذي (5/ 703) 50 - كتاب المناقب -62 - باب فضل خديجة رضي الله عنها. وقال: هذا حديث صحيح. والحاكم (3/ 157) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وأقره الذهبي. 1127 - البخاري (7/ 133) 63 - كتاب مناقب الأنصار -20 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها. ومسلم (4/ 1888) 44 - كتاب فضائل الصحابة-12 - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. (1) البخاري في الموضع السابق. (2) البخاري في نفس الموضع السابق. ومسلم في الموضع السابق. خلائلها: الخلائل: جمع خليلة، وهي الصديقة، والخليل: الصديق. (3) مسلم في نفس الموضع السابق.

وفي أخرى قالت (1): استأذنت هالة بنت خويلدٍ - أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: "اللهم هالةُ بنت خويلد" فغِرْتُ، فقلت: ما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيارً منها. ولمسلم: قالت (2): ما غِرْتُ للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ من نسائه، ما غرْتُ على خديجة لكثرةِ ذكره إياها، وما رأيتها قط، وقالت: لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت. وفي رواية الترمذي قالت (3): ما غِرْتُ على أحدٍ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وإن كان ليذبح الشاة، فيتتبعُ بها صدائق خديجة، فيهديها لهُنَّ. وفي أخرى قالت: ما حسدتُ أحداً ما حسدت خديجة، وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما ماتتْ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرها ببيتٍ في الجنةٍ من قصبٍ - يعني: من قصب اللؤلؤ - لا صخب فيه ولا نصب. 1128 - * روى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيتٍ في الجنة؟ قال: نعم، بشرها ببيت في الجنة من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب.

_ (1) البخاري (7/ 134) في الموضع السابق. ومسلم (4/ 1889) في الموضع السابق. فعرف استئذان خديجة: أي صفة استئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها، فتذكر خديجة بذلك. فارتاع: ارتاع: افتعل من الروْع، وهو الفزع، كأن طار لُبُّه لما سمع صوت أخت خديجة. حمراء الشدقين: معناه عجوز كبيرة جداً. حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبق لشدقيها بياض شيء من الأسنان، إنما بقي فيهما حمرة لثاتها. (2) مسلم في نفس الموضع السابق. (3) الترمذي (5/ 702) 50 - كتاب المناقب -63 - باب فضائل خديجة رضي الله عنها. 1128 - البخاري (7/ 133) 63 - كتاب مناقب الأنصار -20 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله تعالى عنها. ومسلم (4/ 1888) 44 - كتاب فضائل الصحابة-12 - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

قال في الفتح: وعند الطبراني في "الأوسط" من حديث فطمة قالت: قلت يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: "في بيت من قصب" قلت أمن هذا القصب؟ قال: "لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت" قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ. أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ هذا الحديث انتهى. وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها، إذ كانت حريصة على ضراه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها. وأما قوله "ببيت" فقال أبو بكر الإسكاف في "فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال "لا نصب فيه": أي لم تتعب بسببه. قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها. قال: وجزاء الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر انتهى. وفي ذكر البيت معنى آخر؛ لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، لما ثبت في تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة "لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها" وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها. وقوله (لا صخب فيه ولا نصب) الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة التعب. وأغرب الداودي فقال: الصخب العيب، والنصب العوج. وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة. وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين- أعني المنازعة والتعب - أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي

يبشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها. 1129 - * روى الطبراني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثرُ ذكر خديجة، فقلتُ: ما أكثرَ ما تكثرُ من ذكر خديجة، وقد أخلف الله تعالى لك من عجوزٍ حمراء الشدقين، وقد هلكت في دهرٍ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً ما رأيته غضب مثله قط، وقال: "إن الله رزقه مني ما لم يرزُق أحداً منكُن" قلت: يا رسول الله اعفُ عني، والله لا تسمعني أذكرُ خديجة بعد هذا اليوم بشيء تكرهه. وفي رواية (1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كر خديجة لم يكن يسأم من ثناءٍ عليها والاستغفار، قال: "ورزقت مني الولد إذ حُرِمْتُنَّه مني" فغدا عليِّ بها وراح شهراً. 1130 - * روى أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى فأحسن الثناء. قالت: فغِرتُ يوماً فقلتُ: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها. قال: "أبدلني الله خيرا منها؟ قد آمنت بي إذ كفر بي الناسُ، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس". 1131 - * روى الطبراني عن الزهري قال: لَمْ يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت. 1132 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: لما تُوفيت خديجة اشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تزوج عائشة. * * *

_ 1129 - المعجم الكبير (23/ 11) وقال الهيثمي (9/ 324): رواه الطبراني وأسانيده حسنة. (1) المعجم الكبير (33 - 13). فغدا على بها وراح شهراً: أي كررها على مدة شهر. 1130 - أحمد في مسنده (6/ 118) وقال الهيثمي (9/ 22): رواه أحمد وإسناده حسن. 1131 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 220): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 1132 - رواه الطبراني مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح.

2 - سودة أم المؤمنين رضي الله عنها

2 - سودة أم المؤمنين رضي الله عنها يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: سودة أم المؤمنين بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية وهي أول من تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى د خل بعائشة. وكانت سيدة جليلة نبيلة ضخمة، وكانت أولاًً عند السكران بن عمرو، أخي سهيل بن عمرو العامري وهي التي وهبت يومها لعائشة، رعاية لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد فركت رضي الله عنها - أي قل ميلها إلى الرجال-. لها أحاديث، وخرج لها البخاري، حدث عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الله النصاري توفيت في آخر خلافة عمر بالمدينة. قال ابن سعد: أسلمت سودة وزوجها، فهاجرا إلى الحبشة. قال الأعمش عن إبراهيم، قالت سودة: يا رسول الله صليت خلفك البارحة فركعت بي، حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم، فضحك، وكانت تضحكه الأحيان بالشيء. وقالت عائشة: استأذنت سودة ليلة المزدلفة أن تدفع قبل حطمة (1) الناس - وكانت امرأة ثبطة - أي ثقيلة - فأذن لها. قال ابن سعد: إن عمر بعث إلى سودة بغرارةٍ دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في الغرارة مثل التمر، يا جارية: بلغيني القنع (2)، ففرقتها. يروى لسودة خمسة أحاديث، منها في الصحيحين حديث واحد عند البخاري، أهـ كلام الذهبي. حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ثم لم تحج بعد ذلك لقوله عليه السلام

_ (1) الحطمة: الزحمة، أي قبل أن يزدحم الناس ويحطم بعضهم بعضاً. (2) القنع: الطبق.

بعض نصوص في أصول الكتاب عنها

لأزواجه: (هذه ثم ظهور الحصر) والحصر جمع حصير وهو ما يفرش بالبيت. أي: الزَمْنَ بيوتكن بعد هذه الحجة. وهذه بعض نصوص في أصول الكتاب عنها: 1133 - * روى الطبراني عن سهل بن حُنيفٍ قال: ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، وكانت قبلهُ تحت السكران بن عمرو أخي بني عامر بن لؤي. 1134 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة فجاء أخوها من الحج عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه التراب، فلما أسلم قال: إني لسفيه يوم أحثو على رأسي التراب أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم سودة. 1135 - * روى مسلم عن عائشة قالت: ما رأيتُ امرأة أحبُّ إليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة. من امرأة فيه حدةً. قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة. قالت: يا رسول الله! قد جعلتُ يومي منك لعائشة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمُ لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. 1136 - * روى البخاري عن عائشة قالت: خرجت سودةُ - بعدما ضُرب الحجابُ - لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودةُ، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرقَ، فدخلت فقالت: يا رسول الله، إني خرجتُ لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه (1)، ثم رُفع عنه

_ 1133 - قال الهيثمي في مجع الزوائد (9/ 346): رواه الطبراني، فيه القاسم بن عبد الله بن مهدي، وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. 1134 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 346): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1135 - مسلم (3/ 1085) 17 - كتاب الرضاع 14 - باب جواز هبتا نوبتها لضرتها. مسلاخها: السلاخ هو الجلد. ومعناه أن أكون أنا هي. من امرأة: قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام. حدة: لم ترد عائشة عيب سودة بذلك. بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة، وهي الحدة. 1136 - البخاري (8/ 528) 65 - كتاب التفسير-8 - باب (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين =

وإنَّ العرَقَ في يده ما وضعه فقال: "إنه قد أذن لكُنَّ أن تخرجُن لحاجتِكن". 1137 - * روى أبو داود والترمذي عن عكرمة مولى ابن عباس رحمه الله قال: قيل لابن عباس بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة - لبعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد، فقيل له: أتسجدُ هذه الساعة؟ فقال: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتُم آيةً فاسجدوا؟ " فأيُّ آيةٍ أعظم منْ ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟. * * *

_ = إناه) - إلى قوله (إن ذلكم كان عند الله عظيماً). العرق: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. 1137 - أبو داود (1/ 311) كتاب الصلاة، باب السجود عند الآيات. والترمذي (5/ 707) 50 - كتاب المناقب -64 - باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

3 - عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

3 - عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن أبي قُحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، بن كعب بن لؤي، القرشية التيمية المكية، النبوية، أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وأمها أم رُومان بنت عامر بن عويمر، بن عبد شمس، هاجر بعائشة أبواها، وتزوجها نبي الله قبل مهاجره بعد وفاة الصديقة خديجة بنت خويلد وذلك قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً، وقيل: بعامين، ودخل بها في شوال سنة اثنتين، بعد منصرفه عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر، وهي ابنة تسع. روت عنه علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وعن أبيها، وعن عمر وفاطمة وسعد، وحمزة ابن عمرو الأسمي وجُدامة بنت وهب أخت عُكاشة بن مِحْصَن الأسدي لأمه وهي صحابية لها سابقة وهجرة. وكانت عائشة امرأة بيضاء جميلة، ومن ثم يقال لها: الحميراء، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولا أحب امرأة حبها، ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا النساء مطلقاً امرأة أعلم منها، وذهب بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، بل نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فهل فوق ذلك مفخرة، وإن كان للصديقة خديجة شأوً لا يلحق، وأن واقف في أيتهما أفضل نعم جزمت بأفضلية خديجة عليها لأمور ليس هذا موضعها. وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد ثم دخل بسودة فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر، فما تزوج بكراً سواها وأحبها حباً شديداً كان يتظاهر به. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم ومها تقرباً إلى مرضاته.

وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه ذكر عائشة، فقال: خليلةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وهذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة مع ما وقع بينهما، فرضي الله عنهما، ولا ريب أن عائشة ندمت كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ، فعن عمارة بن عمير، عمن سمع عائشة إذا قرأت {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) بكت حتى تبل خمارها. قال أبو إسحاق، عن مصعب بن سعد، قال: فرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن الشعبي أن عائشة قالت: رويت للبيدٍ نحواً من ألف بيت، وكان الشعبي يذكرها، فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة. قال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأحسن الناس رأياً في العامة. قال حفص بن غياث: حدثنا إسماعيل، عن أبي إسحاق، قال: قال مسروق: لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين، يعني عائشة. ويريد بقوله: بعض الأمر: خروجها إلى حرب الجمل. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: قدم رجل فسأله أبي: كيف كان وجدُ الناس على عائشة؟ فقال: كان فيهم وكان، قال: أما إنه لا يحزن عليها إلا من كانت أمه. عن صالح بن كيسان وغيره: أن عائشة جعلت تقولُ: إن عثمان قُتِلَ مظلوماً، وأنا أدعوكم إلى الطلب بدمه، وإعادة الأمر شُورى. وقد سقتُ وقعة الجمل مُلخصة في مناقب عليٍّ، وإن علياً وقف على خباء عائشة يلُومُها على مسيرها. فقالت: يا ابن أبي طالب، ملكت فأسجح (3). فجهزها إلى المدينة، وأعطاها اثني عشر ألفاً. فرضي الله عنه وعنها.

_ (1) قال الذهبي: هذا حديث حسن ومصعب صالح لا بأس به. (2) الأحزاب: 33. (3) ملكت فأسجح: أي قدرت فسهل وأحسن العفو.

عن عروة بن الزبير: أن معاوية بعث مرة إلى عائشة بمئة ألفِ درهم، فوالله ما أمست حتى فرقتها. فقالت لها مولاتُها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً؟ فقالت: ألا قلتِ لي. عن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة بقلادة بمئة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين. عن عائشة: أنها تصدقت بسبعين ألفاً؛ وإنها لترفع جانب درعها رضي الله عنها. قال محمد بنُ عامر: حدثا ابن جُريج، عن نافع، قال: شهدتُ أبا هريرة صلى على عائشة بالبقيع، وكان خليفة مروان على المدينة، وقد اعتمر تلك الأيام. قال عروة بن الزبير: دفنت عائشة ليلاً، قال هشام بن عروة، وأحمد بن حنبل، وشبابٌ، وغيرهم: تُوفيت سنة سبع وخمسين. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى، والواقدي، وغيرهما: سنة ثمان وخمسين. عن قيس، قال: إن عائشة كانت تُحدثُ نفسها أن تُدفن في بيتها، فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثاً، ادفنوني مع أزواجه. فدُفِنتْ بالبقيع رضي الله عنها. قال الذهبي: تعني بالحدث: مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامة كلية، وتابت من ذلك: على أنها ما فعلت ذلك إلا مُتأولة قاصدة للخير، كما اجتهد طلحةُ بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وجماعة من الكبار، رضي الله عن الجميع. ومدةُ عمرها، ثلاث وستون سنة وأشهر. ومسند عائشة يبلغ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث. اتفق لها البخاري ومسلم على مئة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين وانفرد مسلم بتسعة وستين. وعائشة ممن وُلِدَ في الإسلام، وهي أصغرُ من فاطمة بثماني سنين. وكانت تقول: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين. وذكرت أنها لحقت بمكة سائس الفيل شيخاً أعمى يستعطي أهـ الذهبي بتصرف. وقد ذكر الذهبي حوالي (185) اسماً ممن رووا عنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي الله

بعض نصوص في أصول هذا الكتاب عنها رضي الله عنها

عنها وأرضاها ولعن من أبغضها وشانها. ومن أهم أحداث حياتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1 - حادثة الإفك. 2 - حادثة ضياع عقدها وما ترتب عليه من نزول آية التيمم. 3 - حادثة التخيير بين البقاء والطلاق. 4 - وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيتها. ومن أهم أحداث جاءتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجها مطالبة بدم عثمان رضي الله عنه وما ترتب عليه من موقعة الجمل التي تعتبر من أعظم المآسي في تاريخ المسلمين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرها من ذلك وقد ندمت بعد ذلك ندماً شديداً. وقد مرت معنا حادثة الإفك في أحداث السنة الخامسة وحادثة الوفاة في أحداث السنة الحادية عشر، وستمر معنا حادثة التيمم عند بحث التيمم وسنذكر ههنا بعض روايات التخيير وبعض روايات لها صلة بموقعة الجمل وهي من معجزاته صلى الله عليه وسلم. وهذه بعض نصوص في أصول هذا الكتاب عنها رضي الله عنها: 1138 - * روى أحمد عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطبٍ، قالا: لما هلكتْ خديجة جاءت خولة بنت حكيمٍ امرأةُ عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج قال: "مَنْ" قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً قال: "فمن البكر" قالت: بنت أحبِّ خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: "ومن الثيب" قالت: سودة ابنة زمعة قد آمنتْ بك واتبعتك على ما تقول قال: "اذهبي فاذكريهما عليِّ" (1) فأتت أمَّ

_ 1138 - رواه أحمد في مسنده (6/ 310). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 225): رواه أحمد، بعضه صرح فيه بالاتصال عن عائشة، وأكثره مرسل، فيه محمد بن عمرو بن علقمة وثقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح. زمعة: هو زمعة بن نبس العمري القرشي. =

رُومن فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبُ عليه عائشة قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبُ عائشة. قال: وهل تصلح له إنما هي ابنةُ أخيه فرجعتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتْ له قال: "ارجعي فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي" فرجعتُ فذكرت ذلك له فقال انتظري وخرج قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه فوالله ما وعد وعداً قط فأخلفه لأبي بكر. فدخل أبو بكر على مُطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مُصبٍ صاحبنا مدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك، قال أبو بكر للمُطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعد، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته، فزوجها إياهُ، وعائشة رضي الله عنها يومئذٍ بنت ست سنين، ثم خرجتْ فدخلتْ على سودة بنت زمعة فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبُك عليه قالت: ودِدْتُ، أدخُلي على أبي فاذكري ذلك له، وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن قد تخلف عن الحج فدخلتْ عليه فحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه فقالت: خولة ابنة حكيم، قال: فما شأنكِ؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطبُ عليه سودة، فقال: كفؤ كريم. فإذا تقول صاحبتُك؟ قالت: تُحبُ ذلك. قال: ادعيه لي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي على رأسه التراب؛ فقال بعد أن أسلم: لعمري إني لسفيه يوم أحثي في رأٍي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة ابنة زمعة. قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج بالسُّنْحِ قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيننا فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحةٍ ترجح بي بين عدقين فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْمَة ففرقتها ومسحت وجهي بشيءٍ من ماءٍ ثم أقبلتْ تقودني حتى وقفتُ عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي (1)، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ على

_ السُّنْح: موضع قرب المدينة.

سريرٍ في بيتنا، وعندهُ رجالٌ ونساءٌ من الأنصار، فاحتبستني في حجرة، ثم قالت: هؤلاء أهلُك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ما نُحِرت عليَّ جزورُ ولا ذُبحت عليَّ شاةً، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنةٍ كان يُرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنةُ سبع سنين. 1139 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُريتُك في المنام ثلاث ليالٍ، جاءني بك الملك في سرقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشفُ عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول: إن يك من عند الله يُمضه". وفي رواية (1): أن جبري لجاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة. قال النووي: (إن يك هذا من عند الله يمضه) قال القاضي: إن كانت هذه الرؤيا قبل النبوة، وقبل تخليص أحلامه صلى الله عليه وسلم من الأضغاث. فعناها: إن كانت رؤيا حق. وإن كانت بعد النبوة فلها ثلاث معانٍ؛ أحدها أن المراد إن تكن الرؤيا على وجهها وظاهرها لا تحتاج إلى تعبير وتفسير، فسيمضيه الله تعالى وينجزه، فالشك عائد إلى أنها رؤيا على ظاهرها أم تحتاج إلى تعبير وصرفٍ عن ظاهرها. الثاني: أن المراد إن كانت هذه الزوجة في الدنيا يمضها الله، فالشك في أنها زوجته في الدنيا أم في الجنة.

_ 1139 - البخاري (7/ 223) 63 - كتاب مناقب الأنصار -44 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها. ومسلم (4/ 1889) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب فضل عائشة رضي الله تعالى عنها. (1) الترمذي (5/ 704) 50 - كتاب المناقب -63 - باب فضل عائشة رضي الله عنها وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمرو بن علقمة.

الثالث: أنه لم يشك، ولكن أخبر على التحقيق وأتى بصورة الشك. كما قال: أأنت أم سالم؟ وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف. وسماه بعضهم مزج الشك باليقين. أهـ النووي على مسلم. قال في الفتح: قوله (جاءني بك الملك) وقع في رواية أبي أسامة "إذا رجل يحملك" فكأن الملك تمثل له حينئذ رجلاً. ووقع في رواية ابن حبان من طريق أخرى عن عائشة "جاء بي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله (في سَرَقةِ من حرير) السرقة بفتح المهملة والراء والقاف هي القطعة، ووقع في رواية ابن حبان "في خرقة حرير" وقال الداودي: السرقة الثوب، فإن أراد تفسيره هنا فصحيح، وإلا فالسرقة أعم. وأغرب المهلب فقال: السرقة كالكلة أو كالبرقع. وعند الآجري من وجه آخر عن عائشة "لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني" ويجمع بين هذا وبين ما قبله بأن المراد أن صورتها كانت في الخرقة والخرقة في راحته، ويحتمل أن يكون نزل بالكيفيتين لقولها في نفس الخبر "نزل مرتين" وقوله (فكشف عن وجهك الثوب) في رواية أبي أسامة "فأكشفها" فعبر بلفظ المضارع استحضاراً لصورة الحال. قال ابن المنير: يحتمل أن يكون رأى منها ما يجوز للخاطب أن يراه، ويكون الضمير في "أكشفها" للسرقة أي أكشفها عن الوجه، وكأنه حمله على ذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وأن عصمتهم في المنام كاليقظة، وقال أيضاً: في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولة فلا عورة فيها البتة، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد. أهـ. 1140 - * روى البخار يعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر، إنما أنا أخوك، فقال: "أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال". قال في الفتح: وقال ابن بطال (1): يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعاً ولو كانت في

_ 1140 - البخاري (9/ 123) 67 - كتاب النكاح، 11 - باب تزويج الصغار من الكبار رواه مرسلاً.

المهد، لكن لا يُمكن منها حتى تصلح للوطء، فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة لأنه أمر مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أن الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنه أخذ ذلك من عدم ذكره، وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر وهو الظاهر، فإن القصة وقعت بمكة قبل الهجرة. وقول أبي بكر "إنما أنا أخوك" حصر مخصوص بالنسبة إلى تحريم نكاح بنت الأخ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب "أنت أخي في دين الله وكتابه" إشارة إلى قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ونحو ذلك، وقوله "وهي حلال لي" معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين. 1141 - * روى الحاكم عن عائشة: ما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتاه جبريل بصورتي وقال هذه زوجتك، وتزوجني وإني لجارية علي حوف فلما تزوجني ألقى الله علي حياء وأنا صغيرة. 1142 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: قدمنا مهاجرين فسلكنا في ثنيةٍ صعبة فنفر جملٌ كنتُ عليه نفوراً منكراً، فوالله ما أنسى قول أمي يا عُريسة فركب بي رأسه، فسمعت قائلاً يقول والله ما أراه: ألقي خِطامَهُ، فألقيته، فقام يستدير كأنما إنسان قائم تحته يمسكه. 1143 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكتُ (1)،

_ 1141 - المستدرك (4/ 9) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. الحوفُ: جلد يشق كهيئة الإزار تلبسه الحيض والصبيان. 1142 - المعجم الكبير (33/ 183) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 239): رواه الطبراني، وإسناده حسن. 1143 - البخاري (7/ 223) 63 - كتاب مناقب الأنصار-44 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ... إلخ. مسلم (2/ 1038) 16 - كتاب النكاح - 10 - باب تزويج الأب البكر الصغيرة. =

فتعرق شعري، فوفَّ جُمَيْمَة، فأتتني أمي - أم رومان- وإني لفي أرجوحةٍ، ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي؟ فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهجُ، حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحتْ به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني غليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرُعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضُحى، فأسلمتني إليه، وأنا يومئذٍ بنتُ تسع سنين. وفي رواية (1) نحوه، إلا أن فيه: فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه، ههْ، حتى ذهب نفسي وفيه: فغسلن رأسي، وأصلحنني، فلم يرعْني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمْنَنِي إليه. وفي أخرى (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين، وأُدخلت عليه وهي بنت تسعٍ، ومكثتْ عنده تسعاً. وفي أخرى (3) عن عروة قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين - أو قريباً من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنتُ تسع سنين. ولمسلم (4) عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنتُ سبع سنين وزُفَّتْ إليه وهي

_ = تمرق: الشعر، وامرق: سقط وانتشر من مرض أو علةٍ تعرض له. وفي: إذا كثر. جُميمة: تصغير جُمة وهي الشعر لنازل إلى الأذنين ونحوهما، أي صار إلى هذا الحد بعد أن كان قد ذهب بالمرض. على خير طائر: على أفضل حظ. لم يرُعْني: لم يفجأني. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. هه ههْ حكاية تتابع النفس من التهيج، وقيل: أرادت حكاية صوت البكاء. (2) البخاري (9/ 190) 67 - كتاب النكاح -38 - باب إنكاح الرجل ولده الصغار. (3) البخاري (7/ 224) 63 - كتاب مناقب الأنصار -44 - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ... إلخ. (4) مسلم (2/ 1039) 16 - كتاب النكاح - 10 - باب تزويج الأب البكر الصغيرة.

بنتُ تسع سنين، ولعبها معها، ومات عنها وهي بنتُ ثماني عشرة. وفي أخرى (1): تزوجها وهي بنتُ ست سنين، وبنى بها وهي بنتُ تسع، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة. قال في الفتح: "تزوجني وأنا بنت ست سنين" أي عقد عليَّ. وقولها "فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج" أي لما قدمت هي وأمها وأختها أسماء بنت أبي بكر كما سأبينه، وأما أبوها فقدم قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله (فتمزق شعري) بالزاي أي تقطع والكشميهني "فتمرق" بالراء أي انتتف. قوله (فوفي) أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره ثم فصلت من الوعك فتربى شعري فكثر، وقولها "جميمة" بالجيم مصغرة الجُمة بالضم وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط على المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة. وقولها "في أرجوحة" بضم أوله معرفة وهي التي تلعب بها الصبيان، وقوله "أنهج" أي أتنفس عالياً، وقولهن "على خير طائر" أي على خير حظ ونصيب، وقولها "فلم يُرعني": بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني شيء إلا دخوله عليِّ، وكنتْ بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك فإنه يفزع غالباً. أهـ. 1144 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ ألعبُ بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحبُ يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عيه وسلم إذا دخل ينقمعْنَ منه فيَُربهُن إليَّ فيلعبن معي. وفي رواية أبي داود (2) قالت: كنتُ ألعبُ بالبنات، فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن. وله في أخرى (3): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِمَ من غزوة تبُوكَ - أو خيبر وفي سهوتها

_ (1) مسلم في نفس موضع الرواية السابقة. 1144 - البخاري (10/ 536) 78 - كتاب الأدب-81 - باب الانبساط إلى الناس. ومسلم (4/ 1890) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها. ألعب بالبنات: البنات: اللعب المصنوعة- على هيئة البنات (2) أبو داود (4/ 283) كتاب الأدب، باب في اللعب بالبنات. سهوتِها: السهوة: صفة صغيرة، كالمخدع. (3) أبو داود (4/ 283) كتاب الأدب، باب في اللعب بالبنات.

سِتْرٌ، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بناتٍ لعائشة لُعَبٍ، فقال: "ما هذا يا عائشة" قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاعٍ، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قالت: فرسٌ، قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان، قال: "فرسٌ له جناحان؟ " قالت: أما سمعت أن لسليمان عليه السلام خيلاً لها أجنحةً؟ قالت: فضحك حتى رأيتُ نواجذَهُ. قال النووي: قوله (عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن. قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن. قال: وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن، وروي عن مالك كراهة شرائهن، وهذا محمول على كراهة الاكتساب بها وتنزيه ذوي المروات عن تولي بيع ذلك لا كراهة اللعب. قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن وقالت طائفة: هو منسوخ بالنهي عن الصور هذا كلام القاضي. قولها (كانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسربهن إلي) معنى ينقمعن يتغيبن حياء منه وهيبة وقد يدخلن في بيت ونحوه وهو قريب من الأول يسربهن بتشديد الراء أي يرسلهن وهذا من لطفه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته. 1145 - * روى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قال: ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عيه وسلم طعاماً فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ قال: "إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام". 1146 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1145 - أبو داود (3/ 297) كتاب البيوع، باب فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله. والنسائي (7/ 71) كتاب عشرة النساء، باب الغيرة، وإسناده حسن، حسنه الحافظ في الفتح. أفكل: شدة الرعدة من البرد. 1146 - البخاري (9/ 320) 67 - كتاب النكاح -107 - باب الغيرة. =

عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفةٍ فيها طعامٌ، فضربتِ التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفةُ، فانفلقتْ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِلَق الصحفة، ثم جعل يجمعُ فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: "غارت أمُّكُم، غارت أمكم" ثم حبس الخادم، حتى أتى بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرتْ صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كُسر فيها. وفي رواية النسائي (1) أن أم سلمة أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة مُتِّزرةً بكساء، ومعها فِهْرُ، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، ويقول: "كُلوا، غارت أمُّكم" - مرتين - ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة، فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة. 1147 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها. فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين بعيري وأركب بعيرك، فتنظرين وانظر؟ قالت: بلى. فركبت عائشة على بعير حفصة. وركبت حفصة على بعير عائشة. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة، وعليه حفصة، فسلم ثم سار معها. حتى نزلوا. فافتقدته عائشة فغارتْ. فلما نزلوا جعلت تجعلُ رجلها بين الإذخر وتقول: يا رب! سلط عليَّ عقرباً أو حية تلدعني. رسولك ولا أستطيعُ أن أقول له شيئاً.

_ = بصحفة: الصحفة كالقصعة. (1) النسائي (7/ 70) كتاب عشرة النساء، باب الغيرة. الفِهر: بكسر الفاء، وسكون الهاء: الحجر قدر ما يدق به الجوز أو ما يملأ الكف، ويؤنث، والجمع: أفهار وفهور. 1147 - البخاري (1/ 310) 67 - كتاب النكاح -97 - باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً. ومسلم (4/ 1894) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب في فضل عائشة رضي الله عنها. فطارت القُرعة: يقال: طار سهم فلان، أي: خرج نصيبه، وتعين اسمه من بين الأسماء. الإذْخِر: نبت معروف توجد فيه الهوام غالباً في البرية.

قال الحافظ في الفتح (رسولك) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رسولك، وإنما تتعرض لحفصة لأنها هي التي أجابتها طائعة فعادت على نفسها باللوم. وقال في الفتح أيضاً: قوله (إذا أراد سفراً) مفهومه اختصاص القرعة بحالة السفر وليس على عمومه بل لتعين القرعةُ من يسافر بها، وتجري القرعة أيضاً فيما إذا أراد أن يقسم بين زوجاته فلا يبد بأيهن شاء بل يقرع بينهن فيبدأ بالتي تخرج لها القرعة، إلا أن يرضين بشيء فيجوز بلا قرعة. قوله (أقرع بين نسائه) زاد ابن سعد من وجه آخر عن القاسم عن عائشة "فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية" واستدل به على مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء وغير ذلك كما تقدم في أواخر الشهادات، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الخطر والقمار، وحكى عن الحنفية أجازتها أهـ، وقد قالوا به في مسألة الباب، واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى، قوال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحاً بغير مرجح أهـ. وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلاً لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى قال الداودي: يحتمل أن تكون المسايرة في ليلة عائشة ولذلك غلبت عليها الغيرة فدعت على نفسها بالموت، وتعقب بأنه يلزم أنه يوجب القَسْم في المسايرة، وليس كذلك إذ لو كان لما كان يخص عائشة بالمسايرة دون حفصة حتى تحتاج حفصه تتحيل على عائشة، ولا يتجه القسم في حالة السير إلا إذا كانت الخلوة لا تحصل إلا فيه بأن يركب معها في الهودج وعند النزول يجتمع الكل في الخيمة فيكون حينئذ عماد القسم السير، أما المسايرة فلا، وهذا كله مبني على أن القسم كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يدل عيه معظم الأخبار، ويؤيد القول بالقرعة أنهم اتفقوا على أن مدة السفر لا يحاسب بها المقيمة بل يبتدئ إذا رجع بالقسم فيما يستقبل، فلو سافر بمن شاء بغير قرعة فقدم بعضهن في القسم للزم منه إذا رجع أن يوفي من تخلفت حقها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن ذلك لا يجب، فظهر أن للقرعة فائدة وهي أن لا يؤثر بعضهن بالتشهي لما يترتب على

ذلك من ترك العدل بينهن، وقد قال الشافعي في القديم: لو كان المسافر يقسم لمن خلف لما كان للقرعة معنى بل معناها أن تصير هذه الأيام لمن خرج سهمها خالصة انتهى، ولا يخفى أن محل الإطلاق في ترك القضاء في السفر ما دام اسم السفر موجوداً، فلو سافر إلى بلدة فأقام بها زماناً طويلاً ثم سافر راجعاً فعليه قضاء مدة الإقامة، وفي مدة الرجوع خلاف عند الشافعية، والمعنى في سقوط القضاء أن التي سافرت وفازت بالصحبة لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك والمقيمة عكسها في الأمرين معاً أهـ من الفتح. وفي الحديث جواز الحيلة التي لا تفوّت مقصد الشريعة. 1148 - * روى أحمد وأبو يعلي والطبراني عن عائشة قالت: أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة من جزعٍ مُلَمَّعةً بالذهب ونساؤه مجتمعات في بيتٍ كلهن، وأمامة بنت أبي العاص ابن الربيع جاريةٌ تلعبُ في جانب البيت بالتراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تريْنَ هذه؟ " فنظرنا إليها، فقلنا: يا رسول الله ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب فقال: "اردُدْنَها إليَّ" فلما أخذها قال: "والله لأضعنها في رقبة أحَبَّ أهل البيت إليَّ" قالت عائشة: فأظلمتْ عليَّ الأرضُ بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن ولا أراهنَّ إلا أصابهن مثلُ الذي أصابني ووجمنا جميعاً سُكُوتاً، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص فسُرِّي عنَّا. 1149 - * روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ مِنْ عندها ليلاً، قالت: فغِرْتُ عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: "مالك يا عائشة، أغرْتِ؟ " فقلتُ: وما لي لا يغارُ مثلي على مثلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقد جاءك شيطانُك؟ " قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: "نعم" قلتُ: (1) ومع

_ 1148 - أحمد في مسنده (6/ 101، 261). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 254): رواه الطبراني واللفظ له وأحمد باختصار وأبو يعلي، وإسناد أحمد وأبي يعلي حسن. 1149 - مسلم (4/ 2168) 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم-16 - باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً. قد جاءك شيطانك: أي فأوقع عليك أني قد ذهبت إلى بعض أزواجي فأنت لذلك متحيرة مفتشة عني.

كل إنسان؟ قال: "نعم" قلتُ: ومعك يا رسول الله؟ قال: "نعمْ، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم". قال النووي في شرح مسلم: فأسلم: برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه: أسلم أنا من شره وفتنته، ومن فتح قال: إن القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير، واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض الفتح، وهو المختار لقوله: فلا يأمرني إلا بخير، قال النووي: قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان. أهـ. 1150 - * روى الطبراني عن مسروق أنهُ قيل له: هل كانت عائشةُ تُحسِنُ الفرائض قال: والذي نفسي بيده لقد رأيتُ مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض. 1151 - * روى الطبراني عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو جُمِعَ عِلم نساء هذه الأمة فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كان عِلْمُ عائشة أكثر مِنْ علمهِنَّ". 1152 - * روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري رض الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قطُّ، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. 1153 - * روى أحمد والبزار عن عروة قال (1): قلت لعائشة إني أفكر في أمْرِكِ

_ 1150 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 242) وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن. 1151 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 243) وقال: رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات. 1152 - الترمذي (5/ 705) 50 - كتاب المناقب - 63 - باب فضل عائشة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1153 - أحمد في مسنده (6/ 67). والبزار: كشف الأستار (3/ 340). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 242): رواه البزار واللفظ له، وأحمد بنحوه إلا أنه قال: قالت: وكنت أعالجها له فمن ثم، والطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عبد لله بن معاوية الزبيري قال أبو حاتم: مستقيم الحديث وفيه ضعف، وبقية رجاله أحمد والطبراني في الكبير ثقات.

فأعْجَبُ. أجِدُكِ من أفقه الناس فقلت ما يمنعُها؟ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنةُ أبي بكر وأجدك عالمةً بأيام العرب وأنسابها وأشعارها؟ فقلتُ: وما يمنعها؟ وأبوها علامةُ قريش؟ ولكن أعجبُ أني أجدك عالمةً بالطبِّ فمنْ أين؟ فأخذت بيدي وقالت: يا عُرية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثُرَتْ أسقامه فكان أطباء العرب والعجم يبعثون له فتعلمتُ ذلك. 1154 - * روى الطبراني عن معاوية قال: والله ما رأيت خطيباً قطُّ أبلغ ولا أفصح ولا أفطن من عائشة. وفي رواية (1): ما رأيت أحداً كان أفصح من عائشة رضي الله عنها. 1155 - * روى الطبراني عن عروة قال: ما رأيت امرأة أعلم بطبِّ ولا بفقهٍ ولا بشعرٍ من عائشة. 1156 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر فاطمة رضي الله عنها: فتكلمتُ أنا، فقال: "أما ترضين أنْ تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة" قلت: بلى والله. قال: "فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة". 1157 - * روى الحاكم عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: سمعتُ عَمار بن ياسر يحلف بالله إنها زوجته صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة. 1158 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: خِلال في سبعٌ لم تكن في أحد من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران والله ما أقول هذا فخراً على أحدٍ من صواحبي، فقال لها

_ 1154 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 243) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (1) في الموضع السابق. 1155 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 242) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1156 - المستدرك (4/ 10) وقال: الحديث صحيح ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1157 - المستدرك (4/ 6) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1158 - المعجم الكبير (23/ 31). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 241): رواه الطبراني، ورجال أحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح.

عبد الله بن صفوان: وما هُنَّ يا أم المؤمنين؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، وأُهديتُ إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً، ولم يشركهُ فيِّ أحدٌ من الناس، وكان الوحي يأتيه وأنا وهو في لحافٍ واحدٍ، وكنتُ أحَبَّ النسا إليه وبنت أحب الناس إليه، وقد نزل في آيات من القرآن، وقد كادت الأمةُ تهلكُ فيّ، ورأيتُ جبريل ولم يره أحدٌ من نسائه غيري، وقُبِضَ في بيتي لم يله أحد غيري والملك. 1159 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "يا عائشُ، هذا جبريلُ يقرئك السلام" قالت: فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، قالت قالت: -وهو يرى ما لا يرى- تُريدُ: رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (1) للنسائي قالت: أوحى الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معهُ، فقُمتُ فأجفْتُ الباب بيني وبينه، فلما رُفِّه عنه قال لي: "يا عائشةُ إن جبريل يُقرئك السلام". قال ابن حجر: وقال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة؛ وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سداً للذريعة، ومنع منه ربيعةُ مطلقاً. وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن مُنعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا: ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها. وقال المتولي: إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت

_ 1159 - البخاري (7/ 106) 63 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضل عائشة. ومسلم (4/ 1896) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب فضل عائشة. يا عائش: دليل لجواز الترخيم، ويجوز فتح الشين وضمها. يرى ما لا أرى: تريد أنه يرى جبريل ويسمع كلامه وهي لا تراه. (1) النسائي (7/ 69) كتاب عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض. أجفت الباب: إذا أغلقته. رفه عنه: تقول: رفه عني: إذا أراحني، وإذا كان الإنسان في ضيق فنفستُ عنه، قلت: رفهتُ عنه.

أجنبية نُظِر: إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جواباً، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز. وحاصل الفرق بين هذا وبين المالكية التفصيل في الشابة بين الجمال وعدمه. فإن الجمال مظنة الافتتان، بخلاف مطلق الشابة، فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة. أهـ. 1160 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَمُلَ من الرجال كثيرٌ، ولم يكمُلْ من النساء إلا مريمُ بنتُ عمران، وآسيةُ امرأةُ فرعون. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وفي رواية الكسائي (1) عن أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". 1161 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لأعْلُم إذا كُنت عَنِّي راضيةً، وإذا كنت على غضبي" قالت: فقلتُ: ومن أيْنَ تعْرِفُ ذلك؟ فقال: "أما إذا كُنْتِ عني راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمدٍ، وإذا كنتِ غضبي، قلت: لا وربِّ إبراهيم" قالت: قلتُ: أجل والله يا رسول الله، ما أهجرُ إلا اسمك. وفي رواية (2): "إني لأعرف غضبك من رضاك ... " وذكر بمعناه. 1162 - * روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"

_ 1160 - البخاري (7/ 106) 62 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضل عائشة رضي الله عنها. ومسلم (4/ 1886) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 12 - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. (1) النسائي (7/ 68) كتاب عشرة النساء، باب - حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض. 1161 - البخاري (9/ 335) 67 - كتاب النكاح -108 - باب غيرة النساء ووجدن. ومسلم (4/ 1890) 78 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب في فضل عائشة. (2) البخاري (10/ 497) 78 - كتاب الأدب- باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. 1162 - البخاري (7/ 18) 62 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذاً خليلاً". =

فقلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب" فعدُ رجالاً. إن سؤال عمرو بن العاص هذا يدل على أن كل من كان يحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم يستشعر أنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أدب عظيم ينبغي أن يتخلق به وُرَّاث الأنبياء. 1163 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الناس كانوا يتحرون هداياهُم يوم عائشة يبتغون بها - أو يبتغون بذلك - مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1164 - * روى البخاري عن عائشة قالت: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنِّ حِزْبينِ، فحِزْبُ فيه: عائشة وحفصةُ وصفيةُ وصفيةُ وسوْدةُ، والحزب الآخر: أُمُّ سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حُب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديةٌ يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها، حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة. فكلم حزْبُ أم سلمة، فقُلْنَ لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكلم الناس، فيقول: منْ أراد أن يُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليُهْدها حيثُ كان من بيوت نسائه، فكلمتْهُ أمُّ سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئاً، فسألنها. فقالت: ما قال لي شيئاً، فقلن لها: فكلميه، قالت: فكلمْتُه حين دار إليها أيضاً، فلم يقل لها شيئاً، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئاً، فقلن لها، كلميه حتى يكلمك، فدار إليها فكلمته، فقال لها: "لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأةٍ إلا عائشة" قالت. فقلتُ: أتوبُ إلى الله من أذاك يا رسول الله، ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن نساءك ينشدْنك العدل في بنت أبي بكرٍ، فكلمته، فقال: "يا بُنيَّةُ (1)، ألا تُحبين ما

_ = ومسلم (4/ 1856) 44 - كتاب فضائل الصحابة-1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 1163 - البخاري (5/ 203) 51 - كتاب الهبة-7 - باب قبول الهدية. ومسلم (4/ 1891) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب في فضل عائشة. 1164 - البخاري (5/ 305) 51 - كتاب الهبة- 8 - باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض، ينشدنك: أي يسألنك. العدل في ابنة أبي بكر: معناه يسألنك التسوية بينهن في محبة القلب. في ثوب امرأة: أي في لحاف امرأة.

أحبه؟ " فقالت: بلى، فرجعت إليهن، فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه فأبتْ أن ترجع، فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظتْ، وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة، فرفعت صوتها، حتى تناولت عائشة، وهي قاعدة، فسبَّتْها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة: هل تكلمُ؟ قال: فتكلمت عائشة ترُدُّ على زينب، حتى أسكتتها، قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: "إنها ابنةُ أبي بكر". وفي أخرى (1) قال: كان الناس يتحرون بهداياهُم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريدُ الخير، كما تُريده عائشة، فمُري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم. قالت: فأعْرَضَ عني، قالت: فلما عاد إليّ ذكرْتُ له ذلك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرتُ ذلك فقال: "يا أم سلمة: لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأةٍ منكن غيرها". وفي أخرى (2) قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمن فاستأذنت عليه وهو مُضطجعُ معي في مِرْطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في ابنةِ أبي قُحافة، وأنا ساكتةٌ، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيّ بنيةُ، ألستِ تحبين ما أحب؟ " فقالت: بلى، قال: "فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعتْ إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتْهُن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما تُراك أغنيتِ عنا من شيءٍ، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجكَ

_ (1) البخاري (7/ 107) 62 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضل عائشة. يتحرون: التحري: القصد والاعتماد للشيء، والاجتهاد في تحصيل الأمر المطلوب. (2) ومسلم (4/ 1891) 44 - كتاب فضائل الصحابة-13 - باب في فضل عائشة. مرطي: المِرْط: الكساء من الخز والصوف يُتغطى به. =

ينشدْنك العدل في ابنة أبي قُحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحشٍ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تُساميني منهنَّ في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدقُ به، وتقربُ به إلى الله تعالى ما عدا سؤرة من حدٍّ كانت فيها، تُسرعُ منها الفيئةُ، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقُب طرفة، هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيتُ عليها - وفي روايةٍ: لم أنشبْها أن أثخنْتُها غلبةً - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر". قال ابن حجر: وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لعائشة، وقد استدل به على فضل عائشة على خديجة وليس ذلك بلازم لأمرين: أحدهما احتمال أن لا يكون أراد إدخال خديجة في هذا، وأن المراد بقوله "منكن" المخاطبة وهي أم سلمة ومن أرسلها أو من كان موجوداً حينئذ من النساء، والثاني على تقدير إرادة الدخول فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق كحديث "أقرؤكم أبي وأفرضكم زيد" ونحو ذلك، ومما يسأل عنه الحكمة في اختصاص عائشة بذلك، فقيل لمكان أبيها (1)، وأنه لم يكن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في

_ - تساميني: المساماة: المناظرة والمناصبة، وهو مفاعلة من السمو، وهو العلو. سورة من حد: السورة: الوثوب والثوران، الحد: الحدة في الإنسان. الفيئة: الرجوع عن الشيء الذي يكون قد لابسه الإنسان. وقعت به: إذا وقعت في عرضه وشتمته، من الوقيعة في الناس. لم أنشبها: أي: لم ألبثها ولم أمهلها. أنحيت عليها: أي قصدتها: بالمعارضة. أثخنتها: قمعتها وقهرتها.

أغلب أحواله، فسرى سره لابنته مع ما كان لها من مزيد حبه صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله تعالى. قال السبكي الكبير: الذي ندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة: والخلاف شهير ولكن الحق أحقُّ أن يتبع. وقال ابن تيمية: جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة. وكأنه رأى التوقف. وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذاك أمر لا يُطلعُ عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أري كثرة العلم فعائشة لا محالة؛ وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة فقد ثبت النص لفاطمة وحدها. قلت: امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام؛ فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله. وقيل انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة. (فرع): ذكر الرافعي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء هذه الأمة، فإن استثنيت فاطمة لكونها بضعة فأخواتها شاركنها. وقد أخرج الطحاوي والحاكم بسند جيد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زينب ابنته لما أوذيت عند خروجها من مكة: "هي أفضل بناتي، أصيبت في" وقد وقع في حديث خطبة عثمان حفصة زيادة في مسند أبي يعلي "تزوج عثمان خيراً من حفصة، وتزوج حفصة خير من عثمان" ويحتمل أن يقدر من (أفضل بناتي) وأن يقال كان ذلك قبل أن يحصل لفاطمة جهة التفضيل التي امتازت بها عن غيرها من أخواتها، قال ابن التين: فيه أن الزوج لا يلزمه التسوية في النفقة بل يفضل من شاء بعد أن يقوم للأخرى بما يلزمه لها، قال: ويمكن أن لا يكون فيها دليل لاحتمال أن يكون من خصائصه، كما قيل أن القسم لم يكن واجباً عليه وإنما كان يتبرع به. 1165 - * روى أبو يعلي والبزار عن عائشة قالت (1): دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا

_ 1165 - البزار: كشف الأستار (3/ 240). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 241) وقال: رواه أبو يعلي والبزار باختصار، وفيه مُجالد وهو حسن الحديث، وبقية رجاله رجال الصحيح.

أبْكِي، فقال: "ما يُبْكيكِ؟ " قلتُ: سبتَّني فاطمة فقال: "يا فاطمة سببت عائشة؟ " قالت: نعم يا رسول الله، قال: "أليس تُحبين من أحبُّ؟ " قالت: نعم. قال: "فإني أحبُّ عائشة فأحبيها" قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً. 1166 - * روى الطبراني عن عامر الشعبي قال: قال رجلٌ: كل أمهاتِ المؤمنين أحبُّ إليَّ من عائشة، قلتُ له: أما أنت فقد خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي كانت أحبهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1167 - * روى الطبراني في الوسط عن عمرو بن الحارث بن المصطلق قال: بعث زياد إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمالٍ، وفضل عائشة، فجعل الرسولُ يعتذرُ إلى أمة سلمة، فقالت: يعتذرُ إلينا زيادٌ! فقد كان يُفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زيادٍ، رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1168 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً فيه شجرةً قد أُكِلَ منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها؛ في أيها كُنتَ تُرتعُ بعيرك؟ قال: "في التي لم يُرتَعْ منها" يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوجْ بكراً غيرها. قال في الفتح: وفي هذا الحديث مشروعية ضرب المثل وتشبيه شيء موصوف بصفة بمثله مسلوب الصفة. وفيه بلاغة عائشة وحسن تأتيها في الأمور، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم "في التي لم يرتع منها" أي أوثر ذلك في الاختيار على غيره. فلا يرد على ذلك كون الواقع منه أن الذي تزوج من الثيبات أكثر، ويحتمل أن تكون عائشة كنت بذلك عن المحبة بل عن أدق من ذلك أهـ.

_ 1166 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 343) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 1167 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 343)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. 1168 - البخاري (9/ 120) 67 - كتاب النكاح -9 - باب نكاح الأبكار. الرتع: الاتساع في الخِصْب، ورتع البعير، وارتعه صاحبه: أرسله في المرعى، واختاره له.

1169 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله: كُلُّ صواحبي لهُنَّ كُنّآ، قال: "فاكتني بابنك عبد الله بن الزبير" فكانت تُكنى: بأم عبد الله. 1170 - * روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطُمَها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مُغْضَباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: "كيف رأيتني أنقذْتُكِ من الرجل؟ " قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكهما كما أدخلتماني في حربكما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد فعلنا قد فعلنا". قال عبد الحق الدهلوي: اللطم: ضرب الخد بالكف وهو منهي عنه، ولعل هذا كان قبل النهي أو وقع ذلك منه لغلبة الغضب أو أراد ولم يلطم. قلت: قوله: أنقذتك من الرجل ولم يقل من أبيك، وإبعاده صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن عائشة تطييباً وممازحة كل ذلك داخل في المزاح. 1171 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسِمُ لعائشة يومها ويوم سودة. 1172 - * روى مسلم عن عائشة قالت (1): ما رأيتُ امرأة أحبُّ إليَّ أنْ أكون في

_ 1169 - أبو داود (4/ 293) كتاب الأدب، باب في المرأة تكنى. وإسناده قوي. 1170 - أبو داود (4/ 300) كتاب الأدب، باب ما جاء في المزامع، وإسناده حسن. حَجَزه: حجزتُه عن كذا، أي: حُلتُ بينه وبينه، ومنعته عنه. أنقذتك: الإنقاذ: التخليص. سلمكما: السلْمُ: الصلح، وهو ضد الحرب. 1171 - البخاري (9/ 312) 67 - كتاب النكاح -98 - باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك. 1172 - مسلم (2/ 1085) 17 - كتاب الرضاع - 14 - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها. =

مِسْلاخها: من سودة بنت زمعة، من امرأة فيها حدة، قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة. قالت: يا رسول الله، قد جعلتُ يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسِمُ لعائشة يومين: يومها ويوم سودة، زاد في رواية: قالتْ: " وكانتْ أول امرأةٍ تزوُجها من بعدي. وقول عائشة فيها حدة: وردت من قبل في وصف سودة وفسرناها على ظاهرها، ولكن النووي فسرها تفسيراً آخر وذلك من زيادة أدبه فقال: لم تُرِدْ عائشة عيب سودة بذلك، بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة هنا. قال ابن حجر: قوله (إن سودة بنت زمعة) هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تزوجها وهو بمكة بعد مت خديجة ودخل عليها بها وهاجرت معه. ووقع لمسلم من طريق شريك عن هشام في آخر حديث الباب "قالت عائشة: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي" ومعناه عقد عليها بعد أن عقد على عائشة، وأما دخوله عليها فكان قبل دخوله على عائشة بالاتفاق، وقد نبه على ذلك ابن الجوزي. قوله (وهبت يومها لعائشة) تقدم في الهبة من طريق الزهري عن عروة بلفظ "يومها وليلتها" وزاد في آخره "تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ووقع في رواية مسلم من طريق عقبة بن خالد عن هشام "لما أن كبرت سودة وهبت" وله نحوه من رواية جرير عن هشام، وأخرج أبو داود هذا لحديث وزاد فيه بيان سببه أوضح من رواية مسلم، فروى عن أحمد بن يونس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة بالسند المذكور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم" الحديث، وفيه "ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} الآية" وتابعه ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي الزناد في وصله، ورواه سعيد بن منصور عن ابن أبي الزناد مرسلاً لم يذكر فيه عن عائشة، وعند الترمذي من حديث ابن عباس موصولاً نحوه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر بمعنى ذلك (1)،

_ = المسلاخ: هو الجلد ومعناه أن أكون أنا هي. من امرأة: قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام.

فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت، وأخرج ابن سعد بسندٍ رجاله ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة مرسلاً" أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها طلقة رجعية فقعدت له على طريقه فقالت: والذي بعثك بالحق مالي في الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة، فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها علي؟ قال: لا. قالت: فأنشدك لما راجعتني، فراجعها. قالت: فإني قد جعلت يومي وليلتي لعائشة حِبّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة) في رواية جرير عن هشام عند مسلم "فكان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة. أهـ فتح الباري. 1173 - * روى أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته. 1174 - * روى البخار يعن عروة قال: كان عبدُ الله بن الزبير رضي الله عنه أحب البشر إلى عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وكان أبرَّ الناس بها، وكانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تصدقت، فقال ابن الزبير: ينبغي أن يؤخذ على يديها، فقالت: أيؤخذُ على يدي؟! عليَّ نذرٌ إن كلمته، فاستشفع إليها برجال من قريش، وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فامتنعت، فقال له الزهريُّون أخوال النبي صلى الله عليه وسلم - منهم عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث والمسْوَرُ بن مخزمة-: إذا استأذنا فاقتحم الحجاب، ففعل، فأرسل إليها بعشر رقابٍ فأعتقتهم، ثم لم تزل تُعتِقْهم حتى بلغت أربعين، فقالت: وددت أني جعلت حين حلقتُ عملاً أعمله، فأفرغ منه. وفي رواية طرف منه، قال عروة: ذهب عبد الله بن الزبير مع أناسٍ من بني زُهرة إلى عائشة، وكانت أرق شيء عليهم لقربتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1173 - أحمد في مسنده (6/ 129). وابن ماجه (1 - 636) 9 - كتاب النكاح -50 - باب حسن المعاشرة. وقال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري، وعزاه المزي في الأطراف للنسائي، وليس هو في رواية ابن السني. 1174 - البخاري (6/ 533) 61 - كتاب المناقب- 2 - باب مناقب قريش. يؤخذُ على يديها: أخذت على يد فلان: إذا منعته من التصرف في نفسه وماله. فاقتحم الحجاب: أُدخله مسرعاً منغير إذن.

1175 - * روى البخاري عن عوفِ بن مالك بن الطفيل رحمه الله - وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها - أن عائشة حدثت: أن عبد الله بن الزبير قال- في بيع أو غطاء أعطته عائشة-: والله لتنتهين عائشة أو لأحجُرَنَّ عليها، قالت: أو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذرٌ أن لا أكلم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله، لا أشفع فيه أبداً، ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث - وهما من بني زُهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحلُّ لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسورُ وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلامُ عليك ورحمة الله وبركاته، أندخلُ؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلُّكم، ولا تعلمُ أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطفق يُناشدها ويبكي، وطفق المسورُ وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلتْ منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثِ ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما، وتبكي، وتقول: إني نذرت، والنذرُ شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي، حتى تبُلَّ دموعُها خِمَارَها. حكى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قتلتْ جانا (1)، فأُتيتْ في منامها: والله لقد قتلتِ مسلماً. قالت: لو كان مسلماً لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

_ 1175 - البخاري (10/ 491) 78 - كتاب الأدب- 63 - باب الهجرة. لأحجُرن: الحجرُ: المنع، ومنه حجرُ القاضي على السفين: إذا منعه من التصرف في ماله. قطيعتي: القطيعة: الهجرانُ وتركُالمكالمة. مشتملين بأرديتهما: اشتمل بثوبه: التف به. يُناشدها: ناشدت الرجل: إذا سألته وأقسمت عليه. التحريج: التضييق والتأثيمُ، وذلك أنهما كانا - بتكرار المبالغة في القول والخطاب معها - ضيقاً عليها وجه الاعتذار، وأوقعاها في الإثم بالامتناع من إجابتها. (1) جانا: حية أكحل العين، لا تؤذي، وهي كثيرة في الدور.

فقيل: أو كان يدخل عليك إلا وعليك ثيابك" فأصبحت فزعة، فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلتها في سبيل الله. كذا في سير أعلام النبلاء. 1176 - * روى البخاري عن القاسم بن محمد: أن عائشة اشتكتْ، فجاء ابن عباس، فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرطِ صدقٍ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر. 1177 - * روى البخاري عن ابن أبي مُليكة رحمه الله قال: استأذن ابن عباس على عائشة قُبيل موتها وهي مغلوبةٌ قالت: أخشى أن يُثني عليّ، فقيل: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وجوه المسلمين قالت: ائذنوا له، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخير، إن اتقيتُ قال: فأنتِ بخير إن شاء الله تعالى" زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينْكِحْ بكراً غيرك، ونزل عُذْرُك من السماء. ودخل ابن الزبير خلافه، فقالت: دخل ابن عباس فأثنى علي، وددتُ أني كنت نسياً منسياً. قال أهل العلم: ينبغي أن يجمع العبد بين الخوف والرجاء، ويغلب الخوف حال الصحة والرجاء عند الاحتضار، ففعل ابن عباس من الفقه. وفي الحديث جواز عيادة المريضة غير المحرم بشرط الحجاب، وكان الصحابة يدخلون على أمهات المؤمنين وبينهم ستار صفيق. 1178 - * روى الحاكم عن ابن أبي مُليكة قال: جاء ابن عباس يستأذن على عائشة رضي الله عنها في أن تأذن فقال لها بنو أخيها: ائذني له فإنه من خير ولدك قالت (1): دعُوني

_ 1176 - البخاري (7/ 106) 62 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضل عائشة. أن عائشة اشتكت: مرضت وذلك مرض الموت. تقدمين: بفتح الدال (على فرط): بفتح الفاء والراء بعدها مهملة وهو المتقدم من كل شيء. قال ابن التين: فيه أنه قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف. على رسول الله: بدل بتكرير العامل. 1177 - البخاري (8/ 482) 65 - كتاب التفسير-8 - باب (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ...). مغلوبة: أي غلبها المرض فلم تعد كما كانت في صحتها. نسياً منسياً: أي شيئاً حقيراً، متروكاً مطرحاً لا يلتفت إليه. خلافه: بعده. 1178 - المستدرك (4/ 8) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح.

من تزكيته، فلم يزالوا بها حتى أذنتْ له، فلما دخل عليها، قال ابن عباس: إنما سُميت أم المؤمنين لتسعدي، وإنه لاسْمُكِ قبل أن تُولدي إنك كنت من أحب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحب إلا طيباً، وما بينك وبين أن تلقي الأحبة إلا أن تفارق الروح الجسد، ولقد سقطت قلادتك ليلة الأنواء فجعل الله للمسلمين خيرةً في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم ونزلتْ فيكِ آيات من القرآن، فليس مسجدُ من مساجد المسلمين إلا يُتلى فيه عُذرك آناء الليل وآناء النهار فقالت: دعني من تزكيتك لي يا ابن عباس فوددت أني كنتُ نسياً منسياً. وأما حادثة التخيير فقد كان سببها طلب أزواجه منه التوسعة الدنيوية عليهن، وقد ورد في بعض روايات صلتها بالآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (1) والظاهر أن ذلك الطلب وحادثة التحريم كانتا في وقت واحد، وتتعدد الروايات حول سبب نزول آية التحريم، ولا مانع من تعدد سبب النزول. قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: أخرج البخاري (2) في التفسير عن عائشة بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلت مَغَافير، إني أجد منك ريح مغافير قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً". والمغافير: صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط (نوع من الشجر)، فيوضع في ثوب، ثم ينضح بالماء فيشرب، وله ريح منكرة. وثمت سبب آخر في نزول الآية، فقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح فيما قاله الحافظ إلى مسروق قال: حلف رسول الله لحفصة لا يقرب أمته، وقال: علي حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِرَ أن لا يحرم ما أحل الله له، وأخرج الضياء المقدسي في

_ (1) التحريم: 1. (2) البخاري (8/ 656) 65 - كتاب التفسير-96 - سورة التحريم.

"المختارة" من مسند الهيثم بن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحداً أن أم إبراهيم علي حرام" قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) وأخرج الطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية ببيت حفصة، فجاءت، فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك: فذكر نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: دخلت حفصة بيتها، فوجدته يطأ بمارية، فعاتبته فذكر نحوه. قال الحافظ: وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معاً. وقد روى النسائي من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس هذه القصة مختصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) الآية. أهـ. وحادثة التخيير علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فأن يطلب منه أزواجه عليه الصلاة والسلام التوسعة الدنيوية وهو قادر عليها، ويأبى عليه الصلاة والسلام إلا أن يعيش هو وأهله حياة التقشف والشظف، ويتأصلهن على ذلك بأمر الله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) 1179 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن أبا بكر جاء يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس ببابه جُلوساً، لم يؤذنْ لهم فأُذِنَ له فدخل، ثم أقبل عمرُ، فاستأذن فأُذن له، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه، (قبل الأمر

_ (1) التحريم: 2. (2) التحريم: 1. (3) الأحزاب: 28، 29. 1179 - مسلم (2/ 1104) 18 - كتاب الطلاق- 4 - باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية. =

بالحجاب) واجماً ساكتاً، فقال أبو بكر: لأقولن شيئاً أُضْحِك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة تسألني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" فقام عمر إلى حفصة يجأُ عُنُقها، وقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله أبداً شيئاً ليس عندهُ، قال: ثم اعتزلهُن شهراً أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} - حتى بلغ - {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) قال: فبدأ بعائشة، فقال: "يا عائشةُ، إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك" قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أنْ لا تُخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: "لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً". 1180 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس. قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) حتى حج عُمر وحججتُ معه. فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلتُ

_ = الواجم: المطرق الساكت، كأنه مفكر. وجأ: ضب، وتأتي بمعنى داسه برجله ونحو ذلك. معنتاً: مشدداً على الناس وملزماً إياهم ما يصعب عليه. متعنتاً: طالباً زلتهم، وأصل العنت: المشقة. قالت عائشة: وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت: قالت ذلك طمعاً أن يصفو لها الرسول صلى الله عليه وسلم. لاتسألني امرأة منهن إلا أخبرتها: يدل ذلك على أن من طلب منه أن يكتم شيئاً ليس من الواجب أو المصلحة كتمانه فله أن لا يقبل الاستكتام. (1) الأحزاب: 27، 28. 1180 - البخاري (9/ 378) 67 - كتاب النكاح -830 باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها. ومسلم (3/ 111) 18 - كتاب الطلاق 5 - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخبيرهن وقوله تعالى (وإن تظاهرا عليه). (2) التحريم: 4. =

معه بالإداوة. فتبرزَ ثم أتاني فسكبْتُ على يديه. فتوضأ. فقلتُ: يا أمير المؤمنين! من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل لهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! (قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه) قال: هي حفصة وعائشة. ثم أخذ يسوقُ الحديث. قال: كنا معشر قريش، قوماً نغلبُ النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيدٍ، بالعوالي. فتغضبْتُ يوماً على امرأتي فإذا هي تُراجعني فأنكرْتُ أن تُراجعني. فقالت: ما تُنْكِرُ أنْ أراجعك؟ فوالله! إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه. وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة. فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعمْ. فقلت: أتهجره إحداكُن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر. أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تساليه شيئاً. وسليني ما بدا لك ولا يغُرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكِ (يريد عائشة). قال: وكان لي جارٌ من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينزلُ يوماً وأنزلُ يوماً فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدثُ، أن غسان تُنعِلُ الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه. فقال: حدث أمر عظيمٌ. قلت: ماذا؟ أجاءت غسانُ؟ قال: لا. بل أعظمُ من ذلك وأطولُ. طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. فقلتُ: قد خابت حفصة وخسرتْ. قد كنتُ أظنُّ هذا كائناً. حتى إذا صليتُ

_ صغت قلوبكما: مالت. العوالي: جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة. تراجع: مراجعة الكلام مرادته برجع جوابه، أي إعادته. جارتُك: الجارة هاهنا: الضرةُ، أراد بها عائشة رضي الله عنها. ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لا تفعلي مثلها إن فعلت ذلك، فهي أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. غسان: الأشهر ترك صرف غسان. تنعل الخيل: أي يجعلون لخيولهم نعالاً لغزونا، يعني يتهيأون لقتالنا.

الصبح شددتُ علي ثيابي. ثم نزلتُ فدخلته على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربةِ. فأتيتُ غلاماً له أسود. فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إليَّ. فقال: قد ذكرتك له فصمت. فانطلقتُ حتى انتهيت إلى المنبر فجلست. فإذا عنده رهطٌ جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلاً. ثم غلبني ما أجدُ ثم أتيتُ الغلام فقلتُ: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتُك له فصمت. فوليت مدبراً. فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثرَ في جنبه فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليَّ وقال: "لا" فقلت: الله أكبر! لو رأيتنا، يا رسول الله! وكنا معشر قريشٍ، قوماً نغلبُ النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تُراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلتُ: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم منك وأحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت استأنسُ: يا رسول الله! قال: "نعمْ" فجلستُ فرفعتُ رأسي في البيت فوالله ما رأيتُ فيه شيئاً يَرُدُّ البصر، إلا أهباً ثلاثة. فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع علي أُمَّتِكَ فقد وسع على فارس والروم. وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالساً ثم قال: "أفي شك أنتَ؟ يا ابن الخطاب (1)! أولئك قوم عُجلت لهم طيباتهم في الحياة

_ = المشربةُ: بضم الراء وفتحها: الغرفة. غلبني ما أجد: ما أشعر من الحزن والغضب. رمال حصير: يقال: رملتُ الحصير: إذا ضفرتهُ ونسجته، والمراد: أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. استأنس يا رسول الله: الظاهر من إجابته صلى الله عليه وسلم أن الاستئناس هنا، هو الاستئذان في الأنس والمحادثة، ويدل عليه قوله: فجلست. الأهبُ والأهبُ: جمع إهاب وهو الجلد. من شدة موجدته: أي غضبه وحزنه.

الدنيا" فقلتُ: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهنُ حتى عاتبه الله عز وجل. قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة. قالت: لما مضى تسعٌ وعشرون ليلة، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم. بدأ بي فقلتُ: يا رسول الله! إنك أقسمتَ أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهُن. فقال: "إن الشهر تسع وعشرون" ثم قال: "يا عائشة إني ذاكرٌ لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك" ثم قرأ عليّ الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {أَجْرًا عَظِيمًا} قالت عائشة: قد علم والله أن أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت فقلتُ: أو في هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريدُ الله ورسوله والدار الآخرة. قال معمرٌ: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتُك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أرسلني مُبلغاً ولم يرسلني متعنتاً". قال قتادة: صفتْ قلوبكما: مالت قلوبكما. وفي رواية (1) لمسلم عن عبد الله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال: دخلتُ المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر فقلت: لأعلمنِّ ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب؟ عليك بعيبتك. قال: فدخلتُ على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ر؟ والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُحبك ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) مسلم (2/ 1105) 18 - كتاب الطلاق-5 - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى (وإن تظاهرا عليه). ينكتون بالحصى: أي يضربون به الأرض، كفعل المهموم المفكر. عليك بعيبتك: المراد عليك بوعظ بنتك حفصة. قال أهل اللغة: العيبة، في كلام العرب، وعاء يجعل الإنسان فيها ألإضل ثيابه ونفيس متاعه، فشبهت ابنته بها.

فبكت أشد البكاء. فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على أُسْكُفَّةِ المشربة مُدلٍّ رجليه على نقير من خشب. وهو جِذْعٌ يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر فناديتُ: يا رباحُ! استأذنْ لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئاً ثم قلت: يا رباحُ! استأذنْ لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئاً. ثم رفعتُ صوتي فقلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئتُ من أجل حفصة. والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ورفعت صوتي. فأومأ إليّ أن ارْقَهْ. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلستُ. فأدنى عليه إزاره ولبس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرْتُ ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. ومثلها قرظاً في ناحية الغرفة وإذا أفيق مُعَلّقْ. قال: فابتدرت عيناي. قال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟! " قلت: يا نبي الله مالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصرُ وكسرى في الثمار والأنهار. وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوتهُ. وهذه خزانتك. فقال: "يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ (1) "

_ = خزانته: الخزانة مكان الخزن، كالمخزن، وما يخزن فيه يسمى خزينة. المشربة: قال في المصباح: بفتح الميم والراء، الموضع الذي يشرب منه الناس. وبضم الراء وفتحها، الغرفة، أسكفة: هي عتبة الباب السفلى. مدل رجليه: أي مرسلهما. نقير: أي على شيء من خشب نقر وسطه حتى يكون كالدرجة. قال النووي: هذا هوالصحيح الموجود في جميع النسخ، وذكر القاضي أنه بالفاء، بدل النون، وهو فقير بمعنى مفقورن مأخوذ من فقار الظهر، وهو جذع فيه درج. أن أرقه: أي أشار إليَّ رباح بالصعود إلى المشربة بواسطة ذلك الجذع المنقور كالسلم. فـ (أن) تفسيرية. وارقه: أمر من الرقي. والهاء في آخره للسكت. وفي الكلام حذف. تقديره فرقيت فدخلت. قرظاً: القرظ ورق السلم يدبغ به. أفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه. وجمعه أفق. كأديم وأدم. وقد أفق أديمه يأفقهُ. فابتدرت عيناي: أي لم أتمالك أن بكيت حتى سالت دموعي

قلت: بلى. قال: ودخلتُ عليه حين دخلتُ وأنا أرى في وجهه الغضب. فقلت: يا رسول الله! ما يشُقُّ عليك من شأن النساء؟ فإنْ كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمتُ، وأحمدُ الله، بكلام إلا رجوت أن يكون الله يُصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية آية التخيير {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (1) وكانت عائشة بنتُ أبي بكرٍ وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: "لا" قلت: يا رسول الله! إني دخلتُ المسجد والمسلمون ينْكُتُون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: "نعم. إن شئت" فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر فضحك. وكان من أحسن الناس ثغراً. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلتُ. فنزلتُ أتشبثُ بالجذع ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسهُ بيده فقلت: يا رسول الله! إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين. قال: "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين" فقمت على باب المسجد فناديتُ بأعلى صوتي: لم يُطلقْ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) فكنت أنا استنبطتُ ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التخيير.

_ (1) التحريم: 4، 5. (2) النساء: 83. تحسر الغضب: أي زال وانكشف. كشر: أي أبدى أسنانه تبسما، ويقال أيضاً في الغضب. قال ابن السكيت: كشر وبسم وابتسم وافتر، كله بمعنى واحد، فإن زاد قيل: قهقه وزهزق وكركر. أتشبث: أي مستمسكاً بذلك الجذع، الذي هو كالسلم للغرفة. يستنبطونه: قال الزمخشري في الكشاف: أي الذين يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم، والنبط الماءُ يخرج من البئر أول ما تحفر. وإنباطه واستنباطه إخراجه واستخراجه. فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم.

وفي رواية للبخاري ومسلم (1) عن عبد الله بن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آيةٍ فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجاً فخرجتُ معه. فلما رجع، فكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراكِ لحاجةٍ له. فوقفت له حتى فرغ ثم سرتُ معه فقلتُ: يا أمير المؤمنينّ! من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشةُ. قال فقلت له: والله! إن كنتُ لأريد أنْ أسألك عن هذا منذ سنةٍ فما أستطيع هيبةً لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه. فإن كنت أعلمه أخبرتك. قال: وقال عمر: والله إن كنا في الجاهلية ما نعُد للنساء أمراً حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر أأتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: ومالك أنت ولما ههنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجباً لك، يا ابن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان. قال عمر: فأخذ ردائي ثم أخرج مكاني. حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنية! إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله! إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أُحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية! لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. ثم خرجتُ حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب! قد دخلت في كُلِّ

_ (1) البخاري (8/ 657) 65 - كتاب التفسير -2 - باب "تبتغي مرضاة أزواجك". ومسلم (2/ 1108) 18 - كتاب الطلاق - 5 - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى (وإن تظاهرا عليه). الأراك: جاء في المعجم، للعلايلي: الأراك في وصف القدماء، شجرة طويلة خضراء ناعمة كثيرة الورق والأغصان، خوارة العود. يستاك بفروعها، أي تنظف بها الأسنان، وهو طيب النكهة، له حمل كحمل عناقيد العنب. ويعد اليوم من فضيلة الزيتونيات. عدل إلى الأراك لحاجة: عدل عن الطريق المسلوكة الجادة، منتهياً إلى شجر الأراك لحاجة له، كناية عن التبرز. أأتمره: معناه أشاور فيه نفسي وأفكر. معنى بينما وبينا، أي بين أوقات ائتماري. تراجع: مراجعة الكلام مرادته برجع جوابه، أي إعادته.

شيءٍ حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه! قال: فأخذتني أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجدُ. فخرجتُ من عندها وكان لي صاحب من الأنصار إذا غِبْتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر. ونحن حينئذ نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا. فقد امتلأت صدورنا منه. فأتى صاحبي الأنصاري يدق الباب. وقال: افتح. افتح. فقلت: جاء الغساني؟ فقال: أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه. فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة. ثم آخذ ثوبي فأخرج حتى جئت. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربةٍ له يُرتقى إليها بعجلةٍ. وغلامٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسود على رأس الدرجة. فقلت: هذا عمر. فأُذن لي. قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث. فلما بلغتُ حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء. وتحت رأسه وسادة من أُدمٍ حشوها ليفٌ، وإن عند رجليه قرظاً مضبوراً. وعند رأسه أهباً مُعلقةً. فرأيتُ أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت. فقال: "ما يُبكيك؟ " فقلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هُما فيه. وأنت رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولك الآخرة؟ ". قال محقق الجامع: وفي الحديث من الفوائد: سؤال العالم عن بعض أمور أهله وإن كان عليه فيه غضاضة إذا كان في ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ. وفيه توقير العالم ومهابته عن

_ = غسان: الأشهر ترك صرف غسان. رغم أنف حفصة وعائشة: هو بفتح الغين وكسرها، والمصدر فيه بتثليث الراء. أي لصق بالرغام، وهوالتراب. هذا هو الأصل. ثم استعمل في كل من عجز عن الانتصاف، وفي الذل والانقياد كرها. الدرجة: ما نسميه اليوم درجاً وسلماً. بعجلة: قال النووي: وقع في بعض النسخ: بعجلها. وفي بعضها: بعجلتها، وفي بعضها: بعجلة. وكله صحيح والأخيرة أجود. قال ابن قتيبة وغيره: هي درجة من النخل. كما قال في الرواية السابقة: جذع. من أدم: هو جلد مدبوغ. جمع أديم. مضبوراً: وقع في بعض الأصول: مضبوراً، بالضاد المعجمة. وفي بعضها بالمهملة. وكلاهما صحيح، أي مجموعاً. أهبا معلقة: بفتح الهمزة والهاء، وبضمهما. لغتان مشهورتان. جمع إهاب. وهو الجلد قبل الدباغ، على قول الأكثرين. وقيل: الجلد مطلقاً.

استفسار ما يخشى من تغيره عند ذكره. وترقب خلوات العالم ليسأل عما لعله لو سئل عنه بحضرة الناس أنكره على السائل وفيه أن شدة الوطأة على النساء مذموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم وترك سيرة قومه. وفيه تأديب الرجل ابنته وقرابته بالقول لأجل إصلاحها لزوجها. وفيه سياق القصة على وجهها وإن لم يسأل عن ذلك، إذا كان في ذلك مصلحة من زيادة شرح وبيان، لا سيما إذا كان العالم يعلم أن الطالب يؤثر ذلك، وفيها البحث في العلم في الطرق والخلوات وفي حال القعود والمشي، وفيه ذكر العالم ما يقع من نفسه وأهله بما يترتب عليه فائدة دينية وإن كان في ذلك حكاية ما يستهجن، وجواز ذكر العمل الصالح لسياق الحديث على وجهه، وبيان ذكر وقت التحمل وفيه الصبر على الزوجات والإغضاء عن خطابهن والصفح عما يقع منهن من ذلك في حق المرء دون ما يكون من حق الله تعالى. وفيه جواز اتخذا الحاكم عند الخلوة بواباً يمنع من يدخل إليه بغير إذنه. وفيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته وخاصة عند الأمر يطوقه من جهة أهله حتى يذهب غيظه ويخرج إلى الناس وهو منبسط إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يحسن الدخول إليه بغير إذن ولو كان الذي يريد أن يدخل جليل القدر، عظيم المنزلة عنده وفيه أن المرء إذا رأى صاحبه مهموماً استحب له أن يحدثه بما يزيل همه ويطيب نفسه، لقول عمر: لأقولن شيئاً يضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويستحب أن يكون ذلك بعد استئذان الكبير في ذلك. كما فعل عمر، وفيه التجمل بالثوب والعمامة عند لقاء الأكابر، وفيه التناوب في مجلس العالم إذا لم تتيسر المواظبة على حضوره لشاغل شرعي من أمر ديني أو دنيوي، وفيه أن الأخبار التي تشاع ولو كثر ناقلوها إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسي من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق، فإن جزم الأنصاري في روايته بوقوع التطليق، وكذا جزم الناس الذين رآهم عند المنبر بذلك، محمول على أنهم شاع بينهم ذلك من شخص بناء على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم فظن لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهن فأشاع أنه طلقهن، فشاع ذلك فتحدث الناس به، وفيه أن الغضب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف منه، لقول عمر: ثم غلبني ما أجد ثلاث مرات، وفيه كراهة سخط النعمة واحتقار ما أنعم الله به ولو قليلاً، والاستغفار من وقوع ذلك، وطلب الاستغفار من أهل الفضل، وإيثار القناعة، وعدم الالتفات إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا

الفانية. أهـ. 1181 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر مما كان يحتبسُ، فغِرْتُ فسألت عن ذلك؟ فقيل لي: أهدتْ لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربةً، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقول له: يا رسول الله أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجدُ؟ - زاد في رواية: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه أن يُوجد منه الريحُ - فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرستْ نحلهُ العُرْفُط، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية مثل ذلك، قالت: تقول سودة: فوالله الذي لا إله إلا هو، ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أبادئه بما أمرتني فرقاً منك، دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا" قالت: فما هذه الريح التي أجدُ منك؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسلٍ" فقالت: جرست نحلهُ العُرْفُطَ، فلما دار إليّ، قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية، قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة، قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: "لا حاجة لي فيه" قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي. وفي رواية (1) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكثُ عند زينب بنت جحش، فيشربُ عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة، أنا أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ 1181 - البخاري (9/ 374) 68 - كتاب الطلاق-8 - باب لم تحرم ما أحل الله لك. ومسلم (2 م 1101) 18 - كتاب الطلاق - 3 - باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ين الطلاق. عُكة: العكة. الظرف الذي يكونُ فيه العسلُ. مغافير: المغافير بالفاء والياء: شيء ينضحه الغُرفُط، حلو كالناطف وله ريح كريهة. جرست العرفط: جرست النحل العرفط: إذا أكلته، ومنه قيل للنحل: جوارس، والعُرفط: جمع عرفطة، وهو شجر من العضاه زهرته مدحرجة، والعضاة: كل شجر يعظمُ وله شوك كالصلح والسمر والسلم ونحو ذلك. فرقا: الفرق: الفزعُ والخوف. (1) البخاري في نفس الموضع السابق.

فلنقل له: إني أجدُ منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له فقال: بل شربتُ عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (1) {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} (2) لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (3) لقوله: بل شربتُ عسلاً ولنْ أعود له، وقد حلفتُ، فلا تخبري بذلك أحداً. قال محقق الجامع: وهذه الرواية من طريق عبيد بن عمير عن عائشة، في "الصحيحين" أيضاً من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وفيه أن شرب العسل كان عند حفصة بنت عمر، قال الحافظ: وأخرج ابن مردويه من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن شرب العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا على وفق ما في رواية عبيد بن عمير، وإن اختلفا في صاحبة العسل وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدد، فلا يمنع تعدد السبب للأمر الواحد، فإن جنح إلى الترجيح، فرواية عبيد بن عمير أثبت لموافقة ابن عباس لها، على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة على ما تقدم في التفسير، وفي الطلاق من جزم عمر بذلك، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدد القصة في شرب العسل وتحريمه، واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة، ويؤيد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها: أن شرب العسل كان عند حفصة تعرض للآية، ولا يذكر سبب النزول. والراجح أيضاً أن صاحبة العسل زينب لا سودة، لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتحد بطريق هشام بن عروة، لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها: أجد ريح مغافير، ويرجحه أيضاً ما ثبت عن عائشة أن نساء النبي كن حزبين، أنا وسودة وحفصة وصفية في حزب، وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب، فهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل، ولهذا

_ (1) التحريم: 1. (2) التحريم: 4. (3) التحريم: 3.

غارت منها لكونها من غير حزبها والله أعلم. أهـ. قال صاحب عون المعبود: لِمَ تُحَرَمُ ما أحل الله لك: من شرب العسل أو مارية القبطية. قال ابن كثير والصحيح أنه كان في تحريم العسل. وقال الخطابي: الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية حين حرمها على نفسه، ورجحه في فتح الباري بأحاديث عند سعيد بن منصور والضياء في المختارة والطبراني في عشرة النساء وابن مردويه والنسائي ولفظه عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة رضي الله عنهما حتى حرمها فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال القسطلاني: ولكن قال الخطابي في معالم السنن: في الحديث دليل على أن يمين النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقعت في تحريم العسل لا في تحريم أم ولده مارية القبطية كما زعمه بعض الناس. قال الخازن: قال العلماء: إنها في قصة العسل لا في قصة مارية القبطية المروية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح أهـ عون المعبود. أقول: يلاحظ أن الخطابي قد رجح أن التحريم كان بسبب حادثة العسل ولا مانع أن تكون الآيات قد نزلت مرتين بسبب هاتين الحادثتين والمرة الثانية كانت مذكرة بأن النص نفسه ينطبق على الحادثة الجديدة. قال في الفتح: قوله (وكان إذا انصرف من العصر) كذا للأكثر، خالفهم حماد بن سلمة عن هشام بن عروة فقال "الفجر" أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن أبي النعمان عن حماد، ويساعده رواية يزيد بن رومان عن ابن عباس ففيها "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس وله حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها" الحديث أخرجه ابن مردويه، ويمكن الجمع بأن الذي كان يقع في أول النهار سلاماً ودعاء محضاً، والذي في آخره معه جلوس واستئناس ومحادثة، لكن المحفوظ في حديث عائشة ذكر العصر ورواية حماد بن سلمة شاذة. قوله (دخل على نسائه) في رواية أبي أسامة أجاز إلى نسائه أي مشى،

ويجيء بمعنى قطع المسافة، ومنه فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، أي أول من يقطع مسافة الصراط. قوله (فيدنو منهن) أي فيقبل ويباشر من غير جماع كما في الرواية الأخرى. قوله (فاحتبس) أي أقام، زاد أبو أسامة "عندها". قوله (فسألت عن ذلك) ووقع في حديث ابن عباس بيان ذلك ولفظه "فأنكرت عائشة احتباسه عند حفصة فقالت: لجويرية حبشية عندها يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها فانظري ما يصنع". قوله (فلت لسودة بنت زمعة إنه سيدنو منك) في رواية أبي أسامة "فذكرت ذلك لسودة وقلت لها: إنه إذا دخل عليك سيدنو منك" وفي رواية حماد بن سلمة "إذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فإذا قال: ما شأنك؟ فقولي: ريح المغافير" قوله (والله لقد حرمناه) بتخفيف الراء أي منعناه. قوله (قلت لها اسكتي) كأنها خشيت أن يفشو ذلك فيظهر من كيدها لحفصة. وفي الحديث من الفوائد ما جبل النساء عليه من الغيرة. وأن الغيراء تعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرتها عليها بأي وجه كان، وترجم عليه المصنف في كتاب ترك الحيل "ما يكره من احتيال المرأة من الزوج والضرائر" وفيه الأخذ بالحزم من الأمور وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح خشية من الوقوع في المحذور. وفيه ما يشهد بعلو مرتبة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرتها تهابها وتطيعها في كل شيء تأمرها به حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع الناس قدراً. وفيه إشارة إلى ورع سودة لما ظهر منها من التندم على ما فعلت لأنها وافقت أولا على دفع ترفع حفصة عليهن بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصل إلى بلوغ المراد من ذلك لحسم مادة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة. لكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتب عليه منع النبي صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه وهو شرب العسل مع ما تقدم من اعتراف عائشة الآمرة بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجب مما وقع منهن في ذلك. ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها "اسكتي" بل أطاعتها وسكتت لما تقدم من اعتذارها في أنها كانت تهابها وإنما كانت تهابها لما تعلم من مزيد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهن، فخشيت إذا خالفتها أن تغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغير عليها خاطر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتمل ذلك، فهذا معنى خوفها منها. وفيه أن عماد القسم الليل، وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع لكن بشرط أن لا تقع

المجامعة إلا مع التي هو في نوبتها كما تقدم تقريره. وفيه استعمال الكنايات فيما يستحيا من ذكره لقوله في الحديث "فيدنو منهن" والمراد فيقبل ونحو ذلك، ويحقق ذلك قول عائشة لسودة" إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له إني أجد كذا" وهذا إنما يتحقق بقرب الفم من الأنف، ولا سيما إذا لم تكن الرائحة طافحة، بل المقام يقتضي أن الرائحة لم تكن طافحة لأنها لو كانت بحيث يدركها النبي صلى الله عليه وسلم ولأنكر عليها عدم وجودها منه، فلما أقر على ذلك دل على ما قررناه أنها لو قدر وجودها لكانت خفية وإذا كانت خفية لم تدرك بمجرد المجالسة والمحادثة من غير قرب الفم من الأنف، والله أعلم، أهـ ابن حجر. 1182 - * روى ابن ماجه عن عائشة قالت: أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدخُلَ على نسائه شهراً فمكث تسعة وعشرين يوماً، حتى إذا كان مساء ثلاثين دخل عليَّ، فقلت: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً فقال: "الشهر كذا"، يُرسل أصابعه فيه ثلاث مراتٍ والشهر كذا، وأرسل أصابعه كلها وأمسك أُصبعاً واحداً في الثالثة. 1183 - * روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة، حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (1). قال محقق الجامع: ذكر ابن كثير في تفسيره عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحداً، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام" فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: فوالله لا أقربها" قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، قال: فأنزل الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (2) وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج". أهـ.

_ 1182 - ابن ماجه (1/ 664) 10 - كتاب الطلاق- 24 - باب الإيلاء. قال في الزوائد: إسناده حسن لأن عبد الرحمن بن أبي الرجال مختلف فيه. قال في التقريب: صدوق ربما أخطأ. 1183 - النسائي (7/ 71) كتاب عشرة النساء، باب الغيرة. يطؤها: يجامعها. (1) التحريم: 1. (2) التحريم: 2.

1184 - * روى أبو يعلي عن أم سلمة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أزواجه كل غداةٍ فيسلم عليهن، فكانت منهن امرأة عندها عسلٌ، فكان إذا دخل عنها أحضرت له منه شيئاً فيمكث عندها، وإن عائشة وحفصة وجدتا من ذلك. فلما دخل عليهما قالتا: يا رسول الله إنا نجد منك ريح مغافير. فترك ذلك العسل. 1185 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعددها علينا شيئاً. أقول: إن حادثة التخيير من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم بل هي أعظم رد على أعدائه، فالرسول عليه الصلاة والسلام مهمته الارتقاء بالنفس البشرية ابتداء من أهل بيته إلى أن يعم الخير كل الناس. ومن أعظم أنواع الارتقاء أن يتمحض الإنسان للآخرة فتكون تطلعاته وأعماله أخروية فلما أراد أزواجه أن ينزلن عن هذا الأفق الرفيع كان الهجران ثم التخيير بين البقاء والطلاق، وأن تخير الجميع بمن في ذلك عائشة وحفصة فذلك يدل على أن الأمر رباني أولاً وأخيراً. وإلا فمن يقف هذا الموقف لولا الثقة المطلقة بالله ولولا أنه منفذ لأمر الله. قد يقال إن التوسع في المباح جائز، وإنما طلبن أمراً جائزاً، فنجيب أن من الكمال لمن يلي أمور الناس أن يعيش كأدناهم في الرزق حتى لا ينساهم في صولة السلطان، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون لما ولوا الخلافة، وكذلك فعل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ولكن ليس ذلك من الواجبات، وكثيراً ما يفسد أمور الناس أنهم يطالبون أمراءهم بالاخشيشان متناسين الزمان والمكان والاستعداد، في كثير من الأحيان يكون توسع الأمراء جائزاً فهذا الذي لا نرى فيه حرجاً ولكن الكمال هو الأول (1).

_ 1184 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلي وفيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات. 1185 - البخاري (9/ 367) 68 - كتاب الطلاق-5 - باب من خير أزواجه. مسلم (2/ 1104) 18 - كتاب الطلاق -4 - باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية. فلم يعددها علينا شيئاً: فلم يعتبره طلاقاً.

وأما حادثة الجمل فسنتعرض لها أثناء الكلام عن الإمام علي رضي الله عنه وهذه بعض روايات في شأنها مما له صلة بعائشة رضي الله عنها: 1186 - * روى أحمد والبزار عن قيس بن أبي حازم: أن عائشة لما نزلت على الحوأبِ سمعت نُباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: "أيتكُنَّ ينبحُ عليها كلاب الحوأب" فقال لها الزبير: ترجعين عسى الله أن يُصلح بك بين الناس. وفي رواية لأحمد (1) قال: لما أقبلت عائشة، فلما بلغت مياه بني عامر ليلا، نبحت الكلاب فقالت: أي ماءٍ هذا؟ قالوا: ماءُ الحوأبِ. قالت: ما أظنني إلا راجعةً. قال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون، فيصلح الله ذات بينهم، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "كيف بإحداكن تنبحُ عليها كلابُ الحوأب". 1187 - * روى البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنسائه: "ليتَ شعري أيتكن صاحبةَ الجمل الأدَّبَبِ، تخرج فينبحُها كلاب حوأب يُقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير ثم تنجو بعد ما كادت".

_ 1186 - أحمد في مسنده (6/ 97) وابن حبان: موارد الظمآن (1831). البزار: كشف الأستار (4/ 94)، والحاكم (3/ 130) وصححه ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 334)، وقال: رواه أحمد وأبو يعلي والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. وأورده الحافظ في الفتح (13/ 45) وقال: أخرج هذا أحمد وأبو يعلي والبزار، وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح، وقال الحافظ ابن كثير في البداية (6/ 212) بعد أن ذكره من طريق الإمام أحمد: وهذا إسناد علىش رط الصحيحين ولم يخرجوه. والحوأب: من مياه العرب على طريق البصرة، قاله أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري فيما نقله عنه ياقوت في معجم البلدان، وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: ماء قريب من البصرة على طريق مكة إليها سمي بالحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية. (1) أحمد في مسنده (6/ 52). 1187 - البزار: كشف الأستار (4/ 94). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 234) وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. الجمل الأديب: الأدبُّ وهو الكثير وبر الوجه.

1188 - * روى البخاري أن عمار بن ياسر قال على المنبر: (إني أعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة) يعني عائشة رضي الله عنها. قال ذلك قُبيل موقعة الجمل بعد خروج عائشة على عليٍّ رضي الله عنه. أقول: إن هذه النصوص التي ذكرناها التي تذكر أن عماراً تقتله الفئة الباغية والنصوص الواردة في ذم الخوارج كل ذلك يدل على أن الحق والصواب كان بجانب علي رضي الله عنه وإنما يشفع للمواقف الأخرى النيات والاجتهاد، وذلك ينفع من صحت نيته وتحقق إخلاصه وعائشة رضي الله عنها كانت من هؤلاء يقيناً، ولعل كلام عمار في ذلك وهو من أشد الناس على الخارجين على علي رضي الله عنه يدل على أن هناك إجماعاً على ذلك (1). * * *

_ 1188 - البخاري (7/ 106) 62 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضل عائشة رضي الله عنها.

4 - حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها

4 - حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: السِّترُ الرفيعُ، بنت أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها من خُنَيس بن حُذافة السهمي، أحد المهاجرين، في سنة ثلاث من الهجرة. قالت عائشة: هي التي كانت تُساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أن مولدها كان قبل المبعث بخمس سنين. فعلى هذا يكون دخول النبي صلى الله عليه وسلم بها ولها نحو من عشرين سنة. روَتْ عنه عدة أحاديث. روى عنها: أخوها ابنُ عمر، وهي أسنُّ منه بست سنين؛ وحارثة بن وهب، وشُتيرُ بن شكل، والمطالب بن أبي وداعة، وعبد الله بن صفوان الجمحي، وطائفة. تُوفيت حفصة سنة إحدى وأربعين عام الجماعة. ومسندها في كتاب بقي بن مخلد ستون حديثاً. اتفق لها الشيخان على أربعة أحاديث. وانفرد مسلم بستة أحاديث. ويُروى عن عمر: أن حفصة وُلدت إذ قريش تبني البيت وقيل: بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة ثلاث. أهـ. 1189 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن عمر حين تأيمت حفصة من خُنيس بن حّذافة السهمي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً، تُوفي بالمدينة - قال عمر: فلقيتُ عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة ابنة عمر، فقال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة ابنة عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إليَّ شيئاً (1)، فكنتُ أوجد

_ 1189 - البخاري (9/ 175) 67 - كتاب النكاح -33 - باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير. تأيمت المرأة: مات زوجها أو فارقها، وقيل: الأيم اليت لا زوج لها تزوجت أو لم تتزوج، والرجل أيضاً: أيم.

عليه مني على عثمان، فلبثتُ ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياهُ، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنن كنتُ علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم لأكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلْتُها. قال في الفتح: قله (باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) أورد عرض البنت في الحديث الأول، وعرض الأخت في الحديث الثاني. قوله (حين تأيمت) بهمزة مفتوحة وتحتانية ثقيلة أي صارت أيما، وهي التي يموت عنها زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطال: العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما" زاد في "المشارق" وإن كان بكراً. قوله (من خنيس) بخاء معجمة ونون وسين مهملة مصغر. قوله (ابن حذافة) وهو أخوعبد الله بن حذافة الذي تقدم ذكره في المغازي. ومن الرواة من فتح أول خنيس وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير، وعند معمر كالأول ولكن بحاء مهملة وموحدة وشين معجمة. وقوله (وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية معمر كما سيأتي بعد أبواب "من أهل بدر". قوله (فتوفي بالمدينة) قالوا مات بعد غزوة أحد من جراحة أصابته بها، وقيل بل بعد بدر ولعله أولى، فإنهم قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خمسة وعشرين شهراً من الهجرة، وفي رواية بعد ثلاثين شهراً، وفي رواية بعد عشرين شهراً، وكانت أحد بعد الهجرة بأكثر من ثلاثين شهراً، وفي رواية بعد عشرين شهراً، وكانت أحد بعد الهجرة بأكثر من ثلاثين شهراً، ولكنه يصح على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر الأخرى وبه جزم ابن سيد الناس، وهو قول ابن عبد البر أنه شهد أحداً ومات من جراحة بها، وكانت حفصة أسن من أخيها عبد الله فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وعبد الله ولد بعد البعثة بثلاث أو أربع. قوله (أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة؟ فقال: سأنظر في أمري، إلى أن قال قد بدا لي أن لا أتزوج) هذا هو الصحيح، ووقع في رواية ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم "أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان، وأدل عثمان

على ختن خير منك؟ قال: نعم يا نبي الله قال: تُزوجني بنك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه "قد بدا لي أن لا أتزوج". قلت: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه، وزاد في آخره "فخار الله لهما جميعاً". ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولاً إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها، ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، ورد على عمر بجميل. ووقع في رواية ابن سعد "فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة" وذكر ابن سعد عن الواقدي بسند له "أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان يومئذ يريد أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا مما يؤيد أن موت خنيس كان بعد بدر فإن رقية ماتت ليالي بدر وتخلف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده وابن سعد من مرسل سعيد بن المسيب قال "تأيمت حفصة من زوجها وتأيم عثمان من رقية، فمر عمر بعثمان وهو حزين فقال: هل لك في حفصة؟ فق انقضت عدتها من فلان" واستشكل أيضاً بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدتها إلا في سنة أربع، وأجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته ولو سقطاً فحلت. قوله (وكنت أوجد عليه) أي أشد موجدة أي غضاً على أبي بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما ما كان بينهما من أكيد المودة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما، وأما عثمان فلعله كان تقدم من عمر رده فلم يعتب عليه حيث لم يجبه لما سبق منه في حقه، والثاني لكون عثمان أجابه أولا ثم اعتذر له ثانياً، ولكون أبي بكر لم يعد عليه جواباً. ووقع في رواية ابن سعد "فغضب على أبي بكر وقال فيها: كنت أشد غضباً حين سكت مني على عثمان". وقوله (ولو تكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتاه) وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه عتاب الرجل لأخيه وعتبه عليه واعتذاره إليه وقد جبلت الطباع البشرية على ذلك، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه

خشي أن يبدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوجها فيقع في قلب عمر انكسار، ولعل اطلاع أبي بكر على أن النبي قصد خطبة حفصة كان بإخباره له صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئاً مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من اطلاعه على ما يريد لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا اطلع أبو بكر على ذلك قبل اطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخطبة. ويؤخذ منه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فضلاً عن الركون. وفيه الرخصة في تزويج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق: لو تركها لقبلتها. وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجاً لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجاً. وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث، لأن تحليفه وقع على أن يكتم أنه حدثه وقد أفشاه. وفيه أن الأب يخطب إليه بنته الثيب كما يخطب إليه البكر ولا تخطب إلى نفسها كذا قال ابن بطال، وقوله لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدل عليه. قال وفيه أنه يزوج بنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفؤاً لها، وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور إلا أنه يؤخذ من غيره، وقد ترجم له النسائي "إنكاح الرجل بنته الكبيرة" فإن أراد بالرضا لم يخالف القواعد، وإن أراد بالإجبار فقد يمنع، والله أعلم، أهـ. 1190 - * روى أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، ثم أرجعها (1).

_ 1190 - أبو داود (2/ 285) كتاب الطلاق، باب في المراجعة. والنسائي (6/ 313) كتاب الطلاق، باب الرجعة، وإسناده صحيح.

قال صاحب عون المعبود: قال الشيخ الدهلوي في المدارج: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة طلقة واحدة فلما بلغ هذا الخبر عمر رضي الله عنه فاهتم له فأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة. كذا في إنجاح الحاجة. قال المنذري: وأخرجه النسائي وابن ماجه. 1191 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة، وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، إن النبي صلى الله عليه وسلم طلقكِ وراجعكِ من أجلي، والله لئن كان طلقك لا كلمتُكِ كلمةً أبداً. 1192 - * روى الطبراني والحاكم عن قيس بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاها خالاها عثمان وقُدامة ابنا مظعون فقالت: والله ما طلقني عن شبع، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة". 1193 - * روى الطبراني عن مالك بن أنس قال: تُوفيت حفصة عام فُتحت إفريقية، وماتت ومروان على المدينة (1).

_ 1191 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 244) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1192 - المستدرك (4/ 15) وسكت عليه هو والذهبي. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 244)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. تجلببت: لبست جلبابها، المرأة إذا طلقت طلقة رجعية لا يجب عليها أن تستتر عن زجها بل من الأدب أن تتزين له لكن حفصة لم تفعل ذلك تحقيقاً لأمر شرعي، وإنما لنواح نفسية لحظتها والله أعلم. 1193 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 245) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

5 - زينب بنت خزيمة أم المؤمنين رضي الله عنها

5 - زينب بنت خُزيمة أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: بنت خُزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية، وتُدعى أيضاً: أم المساكين، لكثرة معروفها أيضاً. قُتِلَ زوجها عبد الله بن جحش يوم أُحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن لم تكث عنده إلا شهرين، أو أكثر، وتوفيت رضي الله عنها. وهي أخت أم الممنين ميمونة لأمها. أهـ. أقول: ليس في أصول هذا الكتاب كلام عنها سوى بعض روايات عند الحاكم لا تخرج عما ذكره الذهبي. * * *

6 - أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها

6 - أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: السيدة المتحجبة الطاهرة، هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ابن يقظة بن مُرة، المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، سيف الله، وبنت عم أبي جهل ابن هشام. من المهاجرات الأول. كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أخيه من الرضاعة: أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح. دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة. وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسباً. وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين. عُمرت حتى بلغها مقتلُ الحسين، الشهيد، فوجمَتْ لذلك، وغُشي عليها، وحزنت عليه كثيراً. لم تلبث بعده إلا يسيراً، وانتقلت إلى الله. ولها أولاد صحابيون: عمر، وسلمة، وزينب، ولها جملة أحاديث. روى عنها: سعيد بن المسيب، وشقيق بن سلمة، والأسود بن يزيد، والشعبي، وأبو صالح السمان، ومجاهد، ونافع بن جبير بن مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وشهرُ بن حوشب، وابن أبي مليكة، وخلق كثير. عاشت نحواً من تسعين سنة. وأبوها: هو زادُ الراكب، أحد الأجواد - قيل: اسمه - حُذيفة وقد وهم من سماها رملة؛ تلك أم مبيبة. وكانت تعد من فقهاء الصحابيات. قال مصعب الزبيري: هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة فشهد أبو سلمة بدراً، وولدت له عمر، وسلمة، وزينب، ودرة، وبعض أرخ موتها في سنة تسع وخمسين، فوهم أيضاً والظاهر أيضاً وفاتها سنة إحدى وستين رضي الله عنها، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم حين حلت في شوال سنة أربع ويبلغ مسندها ثلاث مائة وثمانية وسبعين حديثاً.

واتفق البخاري ومسلم لها على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر. أهـ. من السير. وقال الذهبي في التلخيص: قال الزهري: وممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من هجرة الحبشة الأولى ثم هاجر إلى المدينة أبو سلمة وزوجته أم سلمة. 1194 - * روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث؟! فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1). قال مجاهد، فأنزل فيها: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (2). وكانت أم سلمة أول ظعينةٍ قدمت المدينة مهاجرة. 1195 - * روى الطبراني عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاها فَلَفَّ رداءه ووضعه على أسكفةِ الباب واتكأ عليه، وقال: "هل لك يا أم سلمة" قالت: إني امرأةٌ شديدة الغيرة وأخاف أن يبدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ما يكره، فانصرف، ثم عاد فقال: "هل لك يا أم سلمة إن كان بك الزيادة في صداقك زدنا" فعادت لقولها فقالت أم عبد: يا أم سلمة تدرين ما يتحدث به نساء قريشٍ؟ يقُلن إن أم سلمة إنما ردتْ محمداً لأنها شابة من قريش أحدث منه سناً وأكثر منه مالاً. قال: فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها.

_ 1194 - والترمذي (5/ 337) 48 - كتاب تفسير القرآن -5 - باب ومن سورة النساء. وقال: هذا حديث مرسل. وأحمد في مسنده (6/ 322). والحاكم (2/ 305) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة. وأقره الذهبي. الظعينة: المرأة، وهي في الأصل: ما دامت في الهودج، ثم صارت تطلق على المرأة وإن لم تكن في هودج. (1) النساء: 32. (2) الأحزاب: 35. 1195 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 245) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. الأسكفة: هي الخشبة التي يوطأ عليها.

1196 - * روى الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أصابت أحدكم مصيبة، فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مُصيبتي فأجرني فيها" وكنت إذا أردتُ أنْ أقول: وأبدلني بها خيراً منها قلت: ومن خيرً من أبي سلمة فلم أزل حتى قلتها. فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردتهُ، وخطبها عمر فردته، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخطبها فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرسوله أقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام وأخبره أني امرأة مُصيبة غيري، وإنه ليس أحد من أوليائي شاهدٌ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما قولك إني مُصيبةٌ فإن لله سيكفيك صبيانك وأما قولك إني غَيْرَى، فسأدعو الله أن يُذهب غيرتكِ. وأما الأولياء فليس أحدٌ منهم شاهد ولا غائب إلا سيرضاني" فقالت لابنها: قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجها إياه، وقال لها: "لا أنقصُك مما أعطيتُ أختك فلانة جرتينِ ورحاتين ووسادة من أدم حشوها ليف" فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيها وهي تُرضع زينب، فكانت إذا جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذتها فوضعتها في حجرها تُرضعها، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيياً كريماً فيرجعُ، ففطن لها عمار بن ياسر وكان أخاً لها من الرضاعة، فأراد رسول الهل صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيها ذات يوم فجاء عمار فدخل عليها فانتشط زينب من حجرها، وقال دعي هذه المقبوحة المشقُوحة التي قد آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل يُقلبُ بصره في البيت ويقول: "أين زنَابُ؟ مالي لا أرى زناب؟ " فقالت: جاء عمار فذهب بها، فبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهله، وقال: "إن شئت أن أُسبعَ لك سبُعْتُ للنساء". 1197 - * روى ابن سعد عن أم سلمة أنها قالت لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموتُ زوجها، وهو من أهل الجنة، ثم لم تزوجْ، إلا جمع الله بينهما في الجنة (1)، فتعال أعاهدك ألا

_ 1196 - المستدرك (4/ 16) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. 1197 - الطبقات الكبرى (8/ 88) ورجاله ثقات.

تزوج بعدي ولا أتزوج بعدك. قال: أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: إذا مُت تزوجي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يحزنُها ولا يؤذيها، فلما مات، قلتُ: من خير من أبي سلمة؟ فما لبثت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على الباب فذكر الخطبة إلأى ابن أخيها، أو ابنها، فقالت: أردُّ على رسول الله أو أتقدمُ عليه بعيالي، ثم جاء الغد فخطب، وفيه: ثم جاء الغد، فذكر الخطبة، فقلت مثل ذلك، ثم قالت لوليها: إن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجْ، فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها. * * *

7 - زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها

7 - زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: زينب بنت جحش بن رياب، وابنةُ عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمها: أميمةُ بنت عبد المطلب بن هشام. وهي أخت حَمْنَةَ، وأبي أحمد. من المهاجرات الأولى. كانت عند زيد، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي يقول الله فيها: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (1). فزوجها الله تعالى نبيه بنص كتابه، بلا وليٍّ ولا شاهد. فكانت تفخرُ بذلك على أمهات المؤمنين، وتقول: زوجكُنَّ أهاليكن، وزوجني الله من فوق عرشه. وكانت من سادة النساء، ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً، رضي الله عنها وحديثها في الكتب الستة. روى عنها: ابنُ أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، وأم المؤمنين أم حبيبة، وزينب بنت أبي سلمة، وأرسل عنها القاسم بن محمد. توفيت في سنة عشرين، وصلى عليها عمر. عن ابن عمر قال: لما ماتت بنتُ جحش أمر عمر منادياً: ألا يخرج معها إلا ذو محرم. فقالت بنتُ عميس: يا أمير المؤمنين، ألا أريك شيئاً رأيت الحبشة تصنعه بنسائهم؟ فجعلت نعشاً وغشته ثوباً. فقال: ما أحسن هذا وأستره؛ فأمر منادياً، فنادى: أن اخرجوا على أُمِّكُم. وروى عن عائشة قالت: كانت زينب بنتُ جحش تُساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما رأيت امرأة خيراً في الدين من زينب، أتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله

_ (1) الأحزاب: 37.

تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها تُسرع منها الفيئة. وعن الأعرج، قال: أطعم رسول الله زينب بنت جحش بخيبر مئة وسق. ويُروى عن عمرة، عن عائشة، قالت: يرحم الله زينب، لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها، ونطق به القرآن. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "أسرعكن بي لحوقاً أطولكن باعاً" فبشرها بسرعة لحقوها به، وهي زوجته في الجنة. وكانت صناع اليد، فكانت تدبُغُ، وتخرزُ، وتصدقُ. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بزينب في ذي القعدة سنة خمس، وهي يومئذ بنت خمس وعشرين سنة. وكانت صالحة، صوامة، قوامة، بارة، ويقال لها: أم المساكين. ولزينب أحد عشر حديثاً، اتفقا لها على حديثين. أهـ. من السير. 1198 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء زيدُ بن حارثة يشكو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله، وأمسِكْ عليك زوجك" قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت تفخرُ على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات. وفي رواية (1) قال: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وفي رواية (2) قال: لما نزلت هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} في شأن زينب بنت جحش، جاء زيد يشكو، فهم بطلاقها، فاستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك، واتق الله". وفي أخرى له (3) قال: لما نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ

_ 1198 - البخاري (12/ 403) 97 - كتاب التوحيد- 22 - باب "وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم". (1) البخاري (13/ 404) في نفس الموضع السابق. (2) الترمذي (5/ 354) 48 - كتاب تفسير القرآن -34 - باب ومن سورة الأحزاب. (3) الترمذي في نفس الموضع السابق.

مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} قال: فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكُن أهلوكُن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وفي رواية النسائي (1) قال: كانت زينبُ بنت جحش تفخرُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء، وفيها نزلت آية الحجاب. قال محقق الجامع: قال الحافظ في الفتح: وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقاً واضحاً حسناً، ولفظه، بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة، فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بم صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيداً، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء زيد بن حاثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى قالة الناس. قال الحافظ: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته هو المعتمد. والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابناً ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. أهـ.

_ (1) النسائي (6/ 80) كتاب النكاح، باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها.

1199 - * روى البخاري ومسلم عن أنس؛ قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد. وحبْلٌ ممدود بين ساريتين. فقال: "ما هذا؟ " قالوا: لزينب تُصلي. فإذا كسلت أو فترتْ أمسكت به. فقال "حُلُّوهُ. ليُصلِّ أحدكم نشاطه. فإذا كسل أو فتر قعد". وفي حديث زهير "فليقعدْ". 1200 - * روى أبو يعلي عن أنس قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش فذكر حديث الوليمة إلى أن قال: وإن زينب لجالسة في جنب البيت، قال: وكانتْ المرأة قد أُعطيت جَمالاً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ... فذكر الحديث. 1201 - * روى الطبراني عن الهيثم بن عدي قال: أول من هلك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش هلكتْ في خلافة عمر، وآخر من هلكت أمُّ سلمة زمن يزيد بن معاوية سنة ثنتين وستين. 1202 - * روى الطبراني عن الزهري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحشٍ ابن رئاب بن خزيمة وأمها أميمةُ بنت عبد المطلب بن هاشم عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم توفيتْ. 1203 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" قالت عائشة (1): فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نمد أيدينا في الجدار

_ 1199 - البخاري (3/ 36) 19 - كتاب التهجد - 18 - باب ما يكره من التشديد في العبادة. ومسلم (1/ 542) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها -31 - باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن والذكر بأن يرقد حتى يذهب عنه ذلك. ساريتين: اسطوانتين من اسطوانات المسجد. فترت: كسلت عن القيام. 1200 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 247) وقال: رواه أبو يعلي، ورجاله رجال الصحيح. 1201 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 245) وقال: رواه الطباني، ورجاله ثقات. هلك: أي مات. 1202 - أورده الهيثمي في مجمع الزائد (9/ 247) وقال: رواه الطبراني مرسلا، ورجاله ثقات. 1203 - المستدرك (4/ 25) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. =

نتطاولُ فلم نزَلْ نفعل ذلك حتى توفيت زينبُ بنتُ جحشٍ زوجُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذٍ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قال: وكانت زينبُ امرأةً صناعة اليد فكانت تدبغُ وتخرزُ وتصدق في سبيل الله عز وجل. 1204 - * روى أبو يعلي عن أبي برزَة قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوةٍ فقال يوماً: "خيركن أطولكن يداً" فقامت كل واحدة تضعُ يدها على الجدار فقال: "لستُ أعني هذا ولكن أصنعكن يدين". 1205 - * روى البزار عن عبد الرحمن بن أبزى أنِّ عمر كَبَّرَ على زينب بنت جحشٍ أربعاً ثم أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من يدخل هذه قبرها؟ فقلن: من كان يدخل عليها في حياتها، ثم قال عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أسرعُكُن بي لحوقاً أطولكن يداً" فقامتْ فكن يتطاولن بأيديهن وإنما كان ذلك لأنها كانت صناعاً تعينُ بما تصنعُ في سبيل الله. 1206 - * روى الطبراني عن ابن المنكدر قال: توفيتْ زينبُ بنتُ جحشٍ زوج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشرين. 1207 - * روى الطبراني عن الشعبي انه صلى مع معمر على زينب وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتاً، وكان يعجبه أن يُدْخِلها قبرها، فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: منْ يدخلها قبرها؟ فقلن: من كان يراها في حياتها فليدخلها قبرها. 1208 - * (1) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي

_ = تخرز: خرز الجلد ونحوه: خاطه. 1204 - ورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 248) وقال: رواه أبو يعلي، وإسناده حسن. 1205 - البزار: كشف الأستار (3/ 243). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 248) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. 1206 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 248) وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 1207 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 248) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. 1208 - البخاري (3/ 285) 24 - كتاب الزكاة -باب 11 - حدثنا موسى بن إسماعيل.

صلى الله عليه وسلم: "أينا أسرعُ بك لحوقاً؟ قال: "أطولكن يداً" فأخذُوا قصبةً يذرَعُونها، فكانت سودة أطولهن يداً، فعلمنا بعد أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقاً به، وكانت تحب الصدقة. وفي رواية لمسلم (1) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكُنَّ يداً" قالت: فكن يتطالون، أيتهن أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعملُ بيدها وتصدقُ. قال النووي: (فكانت أطولنا يداً زينب) معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية، وهي الجارحة فكن يَذْرعن أيديهن بقصبة، فكانت سودة أطولهن جارحة، وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود. قال في الفتح: وروى ابن سعد من طريق برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فتعجبت وسترته بثوب وأمرت بتفرقته، إلى أن كشف الثوب فوجدت تحته خمسة وثمانين درهماً ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت فكانت أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحوقاً به. وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقاً به وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة وهو لفظ "أطولكن" إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخر، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يُلم وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وأما ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن: ليس ذلك أعني إنما أعني أصنعكن يداً، فهو ضعيف جداً، ولو كان ثابتاً لم

_ (1) مسلم (4/ 1907) 44 - كتاب فضائل الصحابة-17 - باب من فضائل زينب أم المؤمنين.

يحتجن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذرع أيديهن كما تقدم في رواية عمرة عن عائشة. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة، وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة. وما قاله لا يمكن اطراده في جميع الأحوال. والله أعلم أهـ. * * *

8 - جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها

8 - جويريةُ بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: جويرية بنتُ الحارث بن أبي ضرار المُصطلقية. سُبيتْ يوم غزوة المريْسيع في السنة الخامسة وكان اسمها: بَرَّة، فغير وكانت من أجل النساء. أتت النبي تطلب منه إعانة في فكاك نفسها، فقال: "أو خيرٌ من ذلك؟ أتزوجُك" فأسلمت، وتزوج بها؛ وأطلق لها الأسارى من قومها. وكان أبوها سيداً مطاعاً. حدث عنها: ابن عباس، وعبيد بن السباق، وكُريب، ومُجاهد، وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدي، وآخرون وقد قدم أبوها الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم. وعن جويرية، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت عشرين سنة. تُوفيت أم المؤمنين جُويرية في سنة خمسين. وقيل تُوفيت سنة ست وخمسين، رضي الله عنها. جاء لها سبعة أحاديث: منها عند البخاري حديث، وعند مسلم حديثان. أهـ. 1209 - * روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برَّة، فحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة. 1210 - * روى الحاكم عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب على جويرية الحجاب وكان يقسم لها كما يقسمُ لنسائه (1).

_ 1209 - مسلم (3/ 1687) 38 - كتاب الآداب -3 - باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوهما. 1210 - المستدرك (4/ 28) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

1211 - * روى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: وقعتْ جويرية بنتُ الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس - أو ابن عم له - فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة مُلاحةً، تأخذها العينُ قالت عائشة رضي الله عنها: فجاءتْ تسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها، فلما قامتْ على الباب فرأيتُها كرهتُ مكانها، وعرفْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل الذي رأيتُ، فقالتْ: يا رسول الله، أنا جُويرية بنُ الحارث، وإنه كان من أمري ما لا يخفى عليك، وإني وقعتُ في سهم ثابت بن قيس بن شماس، وإني كاتبتُ على نفسي، فجئتُك أسألك في كتابتي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك إلى ما هو خيرٌ منه؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: قد فعلتُ، فتسامع تعني الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية فأرسلوا ما في أيديهم من السبي فأعتقوهم وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأينا امرأةً كانت أعظم بركة على قومها منها، أُعتق في سبيها مائة أهل بيتٍ من بني المصطلق. قال صاحب عون المعبود: قال الشامي: نظرها صلى الله عليه وسلم حتى عرف حسنها لأنها كانت أمة ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها لأنه لا يكره النظر إلى الإماء أو لأن مراده نكاحها (قالت) نعم يا رسول الله (قد فعلت) زاد الواقدي فأرسل إلى ثابت بن قيس فطلبها منه فقال ثابت: هي لك يا رسول الله بأبي وأمي فأدى صلى الله عليه وسلم ما كان عليها من كنايتها وأعتقها وتزوجها. (مائة أهل بيت) بالإضافة أي مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت، ولم تقل مائة هم أهل بيت لإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مراداً وقد روى أنهم كانوا أكثر من سبعمائة قاله الزرقاني وفي أسد الغابة ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبها وقسم لها وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية (1). رواه شُعبة ومِسْعَر وابن

_ 1211 - أحمد في مسنده (6/ 277). وأبو داود (4/ 22) كتاب العتق، باب - في بيع المكاتب إذا نسخت الكتابة. ملاحة: الملاحة: بمعنى المليحة، وهذا البناء للمبالغة في الملاحة. كتابتها: المكاتبة: أن يشتري العبد نفسه منمولاه ليؤدي ثمنه إليه من كسبه.

عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس انتهى قال المنذري وفيه محمد بن إسحاق بن يسار انتهى قلت وقد صرح بالتحديث في رواية يونس بن بكير عنه وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (قال أبو داود هذا) الحديث (حجة في أن الولي هو يزوج) ولو (نفسه) المرأة التي هو وليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان سلطاناً ولا ولي لها والسلطان ولي من لا ولي له أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأيضاً كان صلى الله عليه وسلم مولى العتاقة لها ومولى العتاقة ولي المعتقة لكونه عصبة له فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ولياً لها وقد زوجها نفسه الكريمة فقد ثبت أن الولي يزوج نفسه وموضع الاستدلال هو قوله صلى الله عليه وسلم "وأتزوجك" فإن قلت قد روى ابن سعد في مرسل أبي قلابة قال سبي جويرية يعني وتزوجها فجاء أبوها فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فخلِّ سبيلها فقال "أرأيت إن خيرتُها أليس قد أحسنت" قال بلى فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا قالت: فإني أختار الله ورسوله، وسنده صحيح كذا في الإصابة وشرح المواهب ففيه أن أباها كان حاضراً وقت التزويج. قلت: أبوها وإن أسلم لكن لم يثبت إسلامه قبل هذا التزويج، فكانت كمن لا ولي لها بل يعلم مما ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة الحارث بن أبي ضرار أبي جويرية أن إسلامه بعد هذا التزويج والله أعلم وقال ابن هشام ويقال اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس واعتقها وأصدقها أربعمائة درهم. أهـ. 1212 - * روى الطبراني عن مُجاهد قال: قالت جويرية للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أزواجك يفخرن عليَّ ويقلن: لم يتزوجك النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: "أو لمْ أُعظِمْ صداقكِ، ألم أعتقْ أربعين من قومك". 1213 - * روى الطبراني عن الشعبي قال: كانت جويرية ملكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وأعتق كل أسير من بني المصطلق (1).

_ 1213 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350) وقال: رواه الطبراني مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح. 1213 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350) وقال: رواه الطبراني مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح.

1214 - * روى الطبراني عن الزهري قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن الحارث بن عابد بن مالك بن المصطلق من خزاعة، واسم المصطلق خزيمة يوم واقع بني المصطلق (1). * * *

_ 1214 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350) وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن.

9 - أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها

9 - أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: السيدة المحجبة: رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي. مسندها خمسة وستون حديثاً. واتفق لها البخاري ومسلم على حديثين، وتفرد مسلم بحديثين. وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس في أزواجه من هي أقربُ نسباً إليه منها، ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها، ولا من تزوج بها وهي نائيةُ الدار أبعدُ منها. عُقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة، وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مئة دينار، وجهزها بأشياء. حدث عنها، أخوها: الخليفةُ معاوية، وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير، وأبو صالح السمان، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أبي سلمة، وشتيْرُ بن شكل، وأبو المليح عامر الهذلي. وآخرون. وقدمت دمشق زائرة أخاها. ويقال: قبرها بدمشق. وهذا لا شيء، بل قبرها بالمدينة. وإنما التي بمقبرة باب الصغير: أم سلمة أسماء بنت يزيد الأنصارية. قال ابن سعد: ولد أبو سفيان: حنظلة، المقتول يوم بدر؛ وأم حبيبة، توفي عنها زوجُها الذي هاجر بها إلى الحبشة: عُبيد الله بن جش بن رباب الأسدي، معتداً متنصراً. عُقِدَ عليها للنبي بالحبشة سنة ست، وكان الولي عثمان بن عفان. كذا قال. وعن عثمان الأخنسي: أن أم حبيبة ولدت حبيبة بمكة، قبل هجرة الحبشة. وعن أبي جعفر الباقر: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن أمية إلى النجاشي يخطبُ عليه

أمُ حبيبة، فأصدقها من عنده أربع مئة دينار وقد كان لأم حبيبة حُرمة وجلالة، ولا سيما في دولة أخيها؛ ولمكانه منها قيل له: خال المؤمنين. أهز 1215 - * روى أبو داود عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها من حديثها: أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلافٍ، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شُرحبيل بن حسنة. وفي رواية (1): أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَبِلَ. وفي رواية النسائي (2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة، زوجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف، وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم. قال في عون المعبود: فزوجها النجاشي: النجاشي لقب ملك الحبشة، واسم الذي آمن أصحمة، وقد يعد في الصحابة، والأولى أن لا يعد لأنه لم يدرك الصحبة قال القاري: قال الخطابي معنى قوله: زوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ساعد إليها المهر، فأضيف عقد النكاح إليه لوجود سببه منه وهو المهر، وقد روى أصحاب السير أن الذي عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وهو ابن عم أبي سفيان (وأمهرها عنه) أي أصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المواهب: وأم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب وقيل اسمها هند. والأول أصح. وأمها صفية بنت أبي العاص فكانت تحت عبيد الله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم تنصر وارتد عن الإسلام ومات هناك وثبتت أم حبيبة على الإسلام، واختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وفي موضع العقد، فقيل: إنه عقد

_ 1215 - أبو داود (2/ 235) كتاب النكاح: باب الصداق. (1) أبو داود في نفس الموضع السابق. (2) النسائي (6/ 119) كتاب النكاح، باب القسط في الصدقة وإسناده صحيح. مهرت: المرأة وأمهرتُها: إذا جعلت لها مهراً وسقت إليها مهرها.

عليها بأرض الحبشة سنة ست، فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه فزوجها إياه وأصدقها عنه أربع مائة دينار وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. وقيل: إن عقد النكاح كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة، والمشهور الأول. أهـ. * * *

10 - صفية أم المؤمنين رضي الله عنها

10 - صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: صفية بنت حُيي بن أخطب بن سعية، من سبط اللاوي بن نبي الله إسرائيل بن إسحاق ابن إبراهيم، عليهم السلام. ثم من ذرية رسول الله هارون عليه السلام. تزوجها قبل إسلامها: سلام بن أبي الحُقيق، ثم خلف عليها كنانةُ بن أبي الحقيق، وكانا من شعراء اليهود، فقُتل كنانةُ يوم خيبر عنها، وسُبيت، وصارت في سهم دحية الكلبي؛ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم عنها؛ وأنها لا تنبغي أن تكون إلا لك. فأخذها من دحية، وعوضه عنها سبعة أرؤس ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما طهرت، تزوجها وجعل عتقها صداقها. حدث عنها: عليُّ بن الحسين، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، وكنانة مولاها، وآخرون. وكانت شريفة عاقلة، ذات حسب، وجمال، ودين. رضي الله عنها. قال أبو عمر بن عبد البر: روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود. فبعث عمر يسألها. فقالت: أما السبتُ، فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة؛ وأما اليهودُ، فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصِلُها، ثم قالت للجارية؛ ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: فاذهبي فأنت حرة. قال الحسن بن موسى الأشيب: حدثنا زهير: حدثنا كنانة، قال: كنتُ أقودُ بصفية لترد عن عثمان، فلقيها الأشترُ، فضرب وجه بغلتها حتى مالت؛ فقالت: ذروني، لا يفضحني هذا! ثم وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان، تنقل عليه الماء والطعام (1). وكانت صفية ذات حلم ووقار، وقبرها بالبقيع وقد أوصت بثلثها لأخٍ لها يهودي، وكان ثلاثين ألفاً. ورد لها من الحديث عشرة أحاديث، منها واحد متفق عليه. أهـ.

_ (1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 138) ورجاله ثقات.

1216 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أقبل هو وأبو طلحة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفيةُ يُرْدِفُها على راحلته. فلما كان ببعض الطريق عثرتِ الدابة فصُرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأةُ، وإن أبا طلحة قال أحسبُ قال: اقتحم عن بعيره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، جعلني الله فداءك، هل أصابك من شيء؟ قال: "لا، ولكن عليك المرأة" فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها، فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة، فشد لهما على راحلتهما فركبا، فساروا، حتى إذا كانوا بظهر المدينة- أو قال: أشرفوا على المدينة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون" فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة. 1217 - * روى الترمذي عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلامٌ، فذكرت ذلك له، فقال: "ألا قلت: كيف تكونان خيراً مني، وزوجي محمدٌ، وأبي هارون، وعمي موسى؟ " وكان الذي بلغها أنهم قالوا نحنُ أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وقالوا: نحن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وبناتُ عمه. وفي أخرى (1): فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيكِ؟ " فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخرُ عليك؟ ثم قال: "اتقي الله يا حفصة". 1218 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال: لما خلتْ صفية بنتُ حيي رضي الله

_ 1216 - البخاري (6/ 192) 56 - كتاب الجهاد-197 - باب ما يقول إذا رجع من الغزو. فصرع: صُرع الراكب: إذا وقع عن ظهر مركوبه. اقتحم: أي أسرع على النجدة. آيبون: آب الرجل: إذا رجع من سفره. 12170 الترمذي (5/ 708) 50 - كتاب المناقب- 64 - باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. (1) الترمذي في نفس الموضع السابق. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. 1218 - أحمد في مسنده (2/ 233). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 351) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فُسْطاطة، حضر ناسٌ وحضرتُ معهم ليكون لي فيها قسمٌ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قوموا عن أمكم" فلما كان من العشاء حضرنا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا في طرف ردائه نحو من مُد ونصفٍ من تمر عجوة فقال: "كلوا من وليمة أمكم". 1219 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت صفية من الصفيِّ. 1220 - * روى أبو داود عن عامر الشعبي رحمه الله قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يُدعى: الصفيِّ، إن شاء عبداً، أو أمةً، أو فرساً، يختاره قبل الخُمسِ. 1221 - * روى أبو داود عن ابن عون رحمه الله قال: سألتُ محمداً وهو ابن سيرين - عن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفي؟ قال: كان يُضربُ له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي: يؤخذ له رأس من الخمس، قبل كل شيء. قال صاحب فتح الودود: (رأس) عبدُ أو أمة أو فرس كما في الحديث السابق، (من الخمس) ظاهره أن الصفي يكون من الخمس وظاهر ما سبق أنه من تمام الغنيمة قبل الخمس، إلا أن يقال معنى قبل الخمس قبل أن يقسم الخمس فيرجع إلى هذا الحديث. 1222 - * روى الطبراني عن وحشي بن حرب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه صفية قال لأًحابه: "ما تقولون في هذه الجارية؟ " قالوا: نقول إنك أولى الناس بها وأحقهم. قال: "فإني أعتقتها واستنكحتها وجعلت عتقها مهرها" فقال رجل: يا رسول الله الوليمة. قال: "الوليمة حق والثانية معروف والثالثة فخر وحرج" (1).

_ 1219 - أبو داود (3/ 152) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في سهم الصفي. والحاكم (3/ 59) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. الصفي: ما كان يصطفيه رئيس الجيش من الغنائم لنفسه، يأخذه خارجاً عن القسمة، وهو الصفية أيضاً، والجمع: الصفايا. 1220 - أبو داود في نفس الموضع السابق، وإسناده صحيح. 1221 - أبو داود في نفس الموضع السابق، ورجاله ثقات، لكنه مرسل. 1222 - المعجم الكبير (22/ 136). =

1223 - * عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: "التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر" فخرج بي أبو طلحة مُردفي وأنا غُلام راهقتُ الحُلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيراً يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز،، والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال" ثم قدمنا خيبر، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب - وقد قُتِل زوجُها، وكانت عروساً - فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلت، فبنى بها، ثم صنع حيساً في نطع صغير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذن من حولك" فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية. ثم خرجنا إلى المدينة قال: فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضعُ، ركبتهُ، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أُحدٍ فقال: "هذا جبل يُحبنا ونُحبه" ثم نظر إلى المدينة فقال: "اللهم إني أُحرمُ ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم". وفي رواية له (1) عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغَلسٍ، ثم ركب فقال: "الله أكبر، خربت خيبرُ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذرين" فخرجوا يسعون في السكك ويقولون: محمد والخميس - قال: والخميسُ الجيشُ - فظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل المقاتلة وسبى الذراري، فصارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها، وجعل صداقها عتقها. فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنساً ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها فتبسم.

_ = وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 251) وقال: رواه الطبراني، ورجاله وثقهم ابن حبان. 1223 - البخاري (6/ 86) 56 - كتاب الجهاد -74 - باب من غزا بصبي للخدمة. الحيْس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقِطّ والسمن وقد يجعل عوض الأقط الدقيق. نطع: الجمع: أنطاع: وهو البساط من الجلد. يحوي: الحَوية: كساء يعمل حول سنام البعير ليركب عليه، وكذلك إن عمل على كفله ليردف الراكب وراءه أحداً يركب عليه ليتمكن من الركوب. (1) البخاري (2/ 438) 12 - كتاب الخوف -6 - باب التبكير والغلس بالصبح.

قال السندي: وجعل عتقها صداقها: قيل يجوز ذلك لكل من يريد أن يفعل كذلك، وقيل بل هو مخصوص به إذ يجوز له النكاح بلا مهر وليس لغيره ذلك. 1224 - * روى مسلم عن أنسٍ: كنتُ رِدْفَ أبي طلحة يوم خيبر، وقدمي تمسُّ قدم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم، فقالوا: محمد والخميسُ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خرِبَتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذرين" قال: وهزمهم الله، ووقعت في سهم دحية جاريةً جميلةً، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤسٍ، ثم دفعها إلى أُمِّ سُليمٍ تُصنعُها له وتُهيِّئُها، قال: وأحسبُهُ قال: وتعتدُّ في بيتها، وهي صفية بنت حيي، قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليمتها التمر والأقط والسمن، فُحصت الأرض أفحايص، وجيء بالأنطاع، فوضعت فيها، وجيء بالأقط والسمن، فشبع الناس، قال: وقال الناس: لا ندري: أتزوجها، أم اتخذها أم ولدٍ؟ فقالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يجبها فهي أم ولدٍ، فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه قد تزوجها، فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعنا، قال: فعثرتِ الناقة العضباءُ، وندر رسول الله صلى الله عليه وسلم وندرتْ، فقام فسترها، وقد أشرفت النساء، فقلن: أبعد الله اليهودية، قال: قلت: يا أبا حمزة، أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي والله لقد وقع، قال أنس: وشهدتُ وليمة زينب، فأشبع الناس خُبزاً ولحماً، وكان يبعثني فأدعو الناس، فلما فرغ قام وتبعته، فتخلف رجلان استأنس بهما الحديث لم يخرجا، فجعل يمرُّ على نسائه، فيُسلمُ على كل واحدة منهن: (1) "سلامٌ عليكم، كيف أنتم يا أهل

_ 1224 - مسلم (2/ 1045) 16 - كتاب النكاح -14 - باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها. بزغت الشمس: طلعتْ. مكاتلهم: جمع مِكتل، وهو الزنبيل. مرُورهم: جمع مر وهي المساحي أي المجارف من حديد، قيل المرور الحبال التي يصعدون بها إلى النخل. فُحصت الأرض: كشفت، وجعل فيها موضع، ومنه مفحص القطاة. دفع: أسرع في سيره. العضباء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن عضباء، فإن العضب شق أذن الناقة، ولم تكن مشقوقة الأذن. ندر: من ظهر الدابة: إذا سقط عنها بغتة.

البيتِ؟ " فيقولون: بخيرٍ يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فيقول: "بخير" فلما فرغ رجع، ورجعت معه، فلما بلغ الباب إذا هو بالرجلين قد استأنس بهما الحديث، فلما رأياه قد رجع قاما فخرجا، فوالله ما أدري، أنا أخبرته، أم أُنزل عليه الوحي بأنهما قد خرجا؟ فرجع ورجعت معه، فلما وضع رجله في أسكفة الباب أرخى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله عز وجل {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية (1). وفي أخرى له (2) قال: صارت صفية لدحية في مقسمِهِ، وجعلوا يمدحونها عند رسول الله صلى الله علي وسلم، ويقولون: ما رأينا في السبي مثلها، قال: فبعث إلى دحية، فأعطاهُ بها ما أراد، ثم دفعها إلى أمي، فقال: "أصلحيها" قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، حتى إذا جعلها في ظهره نزل، ثم ضرب عليها القُبة، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده فضلُ زادٍ فليأتنا به" قال: فجعل الرجلُ يجيءُ بفضل التمر وفضل السويق، حتى جعلوا م ذلك سواداً حيساً، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس، ويشربون من حياضٍ إلى جنبهم من ماء السماء، قال: فقال أنس: فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، قال: فانطلقنا حتى إذا رأينا جُدُر المدينة هششنا إليها، فرفعنا مطينا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال: وصفيةُ خلفهُ قد أردفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فعثرتُ مطية رسول الله صلى الله عليه وسلمن فصُرع وصُرعت، قال: فليس أحدٌ من الناس ينظر إليه ولا إليها، حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها، قال: فأيتناهُ، فقال: "لم نُضَرُّ" قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه يتراءينها ويشتمن بصرعتها. 1225 - * روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفية باتَ أبو أيوب على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أصبح

_ (1) الأحزاب: 53. (2) مسلم في نفس الموضع السابق (3/ 1047). هُشيشنا للأمر: فرحنا به وسررنا برؤيته. رفعنا مطينا: جعلنا إبلنا تبالغ في السير. فصرع: صُرع الرجل عن ظهر الدابة: إذا سقط عنها. 1225 - المستدرك (4/ 28) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبرَ، ومع أبي أيوب السيفُ، فقال: يا رسول الله كانت جارية حديثة عهدٍ بعُرسٍ، وكنت قتلت أباها وأاها وزوجها فلم آمنها عليك فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له خيراً. 1226 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: كان بعيني صفية خضرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه الخضرة بعينيك؟ " قالت قلتُ لزوجي: إني رأيتُ فيما يرى النائم، كأن قمراً وقع في حجري. فلطمني وقال: أتريدين ملك يثرب قالت: وما كان أبغض إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي وزوجي فما زال يعتذرُ إليَّ وقال: "يا صفية إن أباك ألب عليَّ العرب، وفعل. وفعل" حتى ذهب ذلك من نفسي (1). * * *

_ 1226 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 251) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

11 - ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها

11 - ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: بنت الحارث بن حزن بن بُجير بن الهُزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية. زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس. تزوجها أولاً مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام، ففارقها. وتزوجها أبو رُهم بن عبد العزى، فمات. فتزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم في وقت فراغه من عمرة القضاء سنة سبع في ذي القعدة. وبنى بها بسرف- أظنه المكان المعروف بأبي عُروة-. وكانت من سادات النساء. روت عدة أحاديث. حدث عنها ابن عباس، وابن أختا الآخر: عبد الله بن شداد بن الهاد، وعُبيدُ بن السباق، وعبد الرحمن بن السائب الهلالي وابن أختها الرابع: يزيد بن الأصم، وكُريب مولى ابن عباس، ومولاها سليمان بن يسار، وأخوه: عطاء بن يسار. وآخرون. وقال خليفة: توفيت سنة إحدى وخمسين. رضي الله عنها. روى لها سبعة أحاديث في "الصحيحين"، وانفرد لها البخاري بحديث. ومسلم بخمسة. وجميع ماروت ثلاثة عشر حديثاً. أهـ. 1227 - * روى الطبراني عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأخوات المؤمنات ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم الفضل امرأة العباس، وأسماء بنت عُميس امرأة جعفر، وامرأة حمزة وهي أختهن لأمهنْ" (1).

_ 1227 - المعجم الكبير (11/ 415). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 360) وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

1228 - * روى الحاكم عن ابن عباس قال: كان اسم حالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة. 1229 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة بن الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثاً، فأتاه حويطبُ بن عبد العُزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا له: إنه انقضى أجلك فاخرج عنا قال: "وما عليكم لو تركتموني فأعرستُ بين أظهركم، فصنعتُ لكم طعاماً، فحضرتموه" قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا فخرج بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسرفٍ. 1230 - * روى الطبراني عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بسرف. 1231 - * روى الحاكم عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة قال: تلقيتُ عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن لطلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه، فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله، وأقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله تعالى ساقك حتى جعلك في أهل بيت نبيه، ذهبت والله ميمونة ورُمي برسنك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله عز وجل وأوصلنا للرحم. قال الذهبي في التلخيص: فيه دليل على أن ميمونة ماتت قبل عائشة فبطل قول من قال ماتت سنة إحدى وستين، أهـ (1).

_ 1228 - الحاكم (4/ 30) وقال: صحيح وأقره الذهبي. 1229 - المستدرك (4/ 31) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. معرف: موضع قريب من مكة. 1230 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 249) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح. 1231 - المستدرك (4/ 32) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

1232 - * روى أحمد عن أبي رافع قال: كنت في بعثٍ مرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذهب فائتني بميمونة" فقلت: يا رسول الله إني في البعث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أليس تُحبُّ ما أحبُّ" فقلت: بلى. قال: "فاذهب فائتني بها" فذهبت فجئت بها. قال في الفتح الرباني: وتوفيت ميمونة في الموضع الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق ودفنت في موضع قبتها وذلك سنة إحدى وخمسين على الصحيح كما في التقريب. أهـ. 1233 - * روى الطبراني عن يزيد بن الأصم قال: رأيت ميمونة تحلقُ رأسها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ليزيد بن الأصم فقال: أراها تبتذل. 1234 - * روى أبو يعلي عن يزيد بن الأصم قال: ثقلت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وليس عندها أحد من بني أخيها. فقالت: أخرجوني من مكة، فإني لا أموت بها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة. قال: فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها في موضع الفيئة قال: فماتت، فلما وضعناها في لحدها أخذت ردائي فوضعته تحت خدها في اللحد، فأخذه ابن عباس فرمى به. 1235 - * روى البخاري ومسلم عن عطاء قال (1): حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة

_ 1232 - أحمد في مسنده (6/ 391). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 249) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن علي بن رافع وهو ثقة. 1233 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 249) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير عقبة بن وهب وهو ثقة. فقلت ليزيد: سأله عن سبب ذلك. تبتذل: تبتعد عن الزينة. 1234 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 249) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح. 1235 - البخاري (9/ 112) 67 - كتاب النكاح -4 - باب كثرة النساء. ومسلم (2/ 1086) 67 - كتاب الرضاع -14 - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها.

زوج النبي صلى الله عليه وسلم بسرف فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا فإنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع كان يقسم لثمانٍ ولا يقسم لواحدة. فكان يقسم لثمان: من جملتهن ميمونة رضي الله عنها، أي فينبغي أن تعرفوا فضلها وتراعوه. 1236 - * روى الطبراني عن ميمون بن مهران قال: أتيت صفية بنت شيبة امرأة كبيرة فقلت لها: أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم؟ قالت: لا، ولقد تزوجها وهما حلالان. * * * هؤلاء من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللاتي بنى عليهن ودخل فيهن وثبت لهن اسم أمهات المؤمنين فعليهن رضوان الله (1). * * *

_ 1236 - المعجم الكبير (24 - 324). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 268) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير رجال الصحيح.

عطف: فيمن عقد عليهن ولم يدخل بهن

عطف: فيمن عقد عليهن ولم يدخل بهنّ والمشهور أن هناك ثنتين عقد عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهما: إحداهما من بني كلاب وأخرى من كندة وهي المعروفة بالجونية، وقيل إن الكلابية والجونية واحدة، وبعضهم يرى أن المعقود عليهن بلا دخول أكثر من ذلك، وجميع هؤلاء لم تثبت لهن التسمية بأمهات المؤمنين وليس لهن حقوق الأزواج. ونحن هنا سنذكر بعض الروايات الواردة في أصولنا عن ذلك مما يتوافر فيه شرطنا، كما سنذكر بعض الروايات التي لها علاقة بسراريه والواهبات أنفسهن له عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك تحت عنوان عطف على وصل. * * *

عطف على وصل

عطف على وصل 1237 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "لقد عُذتِ بعظيم، الحقي بأهلك". وفي رواية النسائي (1): أن الكلابية لما دخلتْ على النبي صلى الله عليه وسلم ... الحديث. قال السندي: قوله (الحقي بأهلك) نعلم منه أن الطلاق لا يتوقف على التصريح بل يقع بالكناية. قال في الفتح: والصحيح أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل كما في حديث أبي أسيد، وقال مرة: أميمة بنت شراحيل فنسبت لجدها، وقيل اسمها أسماء، وروى ابن سعد عن الواقدي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكلابية" فذكر مثل حديث الباب، وقوله الكلابية غلط وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت. نعم للكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد أيضاً بهذا السند إلى الزهري وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعْرَ وتقول: أنا الشقية. قال وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية". ومن طريق سعيد بن أبي هند أنها استعاذت منه فأعاذها. ومن طريق الكلبي اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو، وحكى ابن سعد أيضاً أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل بنت يزيد بن الجون. وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية. وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قلت: وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة فيبعد أن تخدع أخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع

_ 1237 - البخاري (9/ 356) 68 - كتاب الطلاق-3 - باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟. (1) النسائي (6/ 150) كتاب الطلاق، باب مواجهة الرجل المرأة بالطلاق.

الخبر بذلك. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية. واختلفوا في سبب فراق فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت. فطلقها. وقيل كان بها وضح (1) كالعامرية قال: وزعم بعضهم أنها قالت أعوذ بالله منك فقال: "قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني" فطلقها. قال: وهذا باطل إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر وكانت جميلة فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها إنه يعجبه أن يقال له نعوذ بالله منك ففعلت، فطلقها. كذا قال، وما أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته في حديث عائشة في صحيح البخاري. أهـ فتح الباري. 1238 - * روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فأرسل فقدمت، فنزلت في أُجُمِ بني ساعدة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، فدخل عليها، فإذا امرأة منكسةً رأسها، فلما كلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك، قال: "قد أعذْتُك مني" فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله، جاءك ليخطبك، قالت: أنا كنت أشقى من ذلك، قال سهل: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: "اسقنا"- لسهلٍ- قال: فأخرجت لهم هذا القدح، فأسقيتهم فيه، قال أبو حازم: فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا فيه، ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز، فوهبه له. 1239 - * روى البخاري عن أبي أُسيد رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى انطلقنا إلى حائطٍ يقال له: الشوطُ، حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي

_ (1) الوضح: البياض وقد يكنى به عن البرص. 1238 - البخاري (10/ 98) 74 - كتاب الأشربة- 30 - باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته. ومسلم (3/ 1591) 36 - كتاب الأشربة -9 - باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكراً. الأجم: واحد الآجام، وهي الحصون. أنا كنت أشقى من ذلك، ليس أفعل التفضيل هنا على بابه وإنما مرادها إثبات الشقاء لها لما فاتها من التزوج برسول الله صلى الله عليه وسلم. 1239 - البخاري (9/ 356) 68 - كتاب الطلاق - باب منطلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟. = إلى حائط يقال له الشوط: بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهمله وقيل معجمة، وهو بستان في المدينة معروف.

صلى الله عليه وسلم "اجلسوا هاهنا" ودخل، وقد أُتي بالجونية فأنزلت في بيتٍ في نخلٍ، في بيتِ أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتُها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي نفسك لي" قالت: وهل تهب الملكةُ نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يدهُ عليها لتسكُن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: "قد عُذتِ بمعاذٍ" ثم خرج علينا فقال: "يا أبا أُسيد اكسُها رازقيين، وألحقها بأهلها". وفي رواية (1) عن أبي أسيد، وعن سهل بن سعد قالا: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيدٍ أن يجهزها ويكسوها ثوبيين رازقيين. قال صاحب الفتح: (حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا ههنا ودخل) أي إلى الحائط. وفي رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فأمرني أن آتيه بها فأتيته بها فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ونحن معه. وذُباب بضم المعجمة وموحدتين مخففاً جبل معروف بالمدين، والأطم الحصون هو الأجم أيضاً والجمع آطام وآجام كعنق وأعناق، وفي رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً فقال: ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؟ فتزوجها وبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأنزلها في بني ساعدة فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها. قوله (فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل) هو بالتنوين في الكل، وأميمة بالرفع إما بدلاً عن الجونية وإما عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في الكلام على الرواية التي بعدها: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ "في بيت" وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في

_ = السوقة: من الناس: العامة والرعاع. رازقيين: الثياب الرازقية: ثياب من كتان. (1) البخاري في نفس الموضع السابق.

مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال "في بيت في النخل أميمة إلخ" وجزم هشام بن الكلبي بأنها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية، وكذا جزم بتسميتها أسماء محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب وغيرهما، فلعل اسمها أسماء ولقبها أميمة. ووقع في المغازي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحق" أسماء بنت كعب الجونية" فلعل في نسبها من اسمه كعب نسبها إليه، وقيل هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان. قوله (ومعها دايتها حاضنة لها) الداية بالتحتانية الظئر المرضع وهي معربة، ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة. قوله (هبي نفسك لي إلخ) السوقة بضم السين المهملة يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، واما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائناً من كان، فكأنه استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكاً نبياً فاختار أن يكون عبداً نبياً تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم لربه، ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها، وقال غيره يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال، نعم سيأتي في أواخر الأشربة م طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال "ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أٍيد الساعدي أن يرسل إليها فقدمت، فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد أعذتك مني" فقالوا لها أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك. فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب ألحقها بأهلها ولا قوله في حديث عائشة الحقي بأهلك تطليقاً، ويتعين أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة ولا امنع من ذلك فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب. وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرمي الضعيف عن ابن عمر قال "كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختلف عينا اسم الكلابية فقيل فاطمة بنت الضحاك بن سفيان وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد

وقيل سنا بنت سفيان بن عوف وقيل العاليةب نت ظبيان بن عمرو بن عوف، فقال بعضهم هي واحدة اختلف في اسمها، وقال بعضهم بل كن جمعاً ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها". ثم ترجم الجونية فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال "قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً فقال: يا رسول الله ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك؟ قال: نعم. قال: فابعث من يحملها لك. فبعث معه أبا أسيد الساعي. قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته" الحديث. قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم عن أبي أسيد قال "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها" الحديث. ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها اسعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، وخدعت لما رؤي من جمالها، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت فقال: "إنهن صواحب يوسف وكيدهن" فهذه تنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضاً فإنه ليس فيها إل الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوي أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة والتي في حديث سهل اسمها أسماء والله أعلم. وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها وهذه لم يعقد عليها بل جاء ليخطبها فقط. قوله (فأهوى بيده) أي أمالها إليها. ووقع في رواية ابن سعد، فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى وقبل" وفي رواية لابن سعد "فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء فقالت: إنك من الملوك فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جاءك فاستعيذي منه" ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب "أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله

منك". قوله؛ فقال: قد عذت بمعاذ) هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العوذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد "فقال بكمه على وجهه وقال: عذت معاذاً. ثلاث مرات" وفي أخرى له "فقال أمن عائذ الله" قوله (ثم خرج علينا فقال: "يا أبا أٍيد اكسها رازقيين" براء ثم زاي ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف العلم به، والرازقية ثياب من كتان بيض طوال قاله أبو عبيدة. وقال غيره: يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق. قال ابن التين: متعها بذلك إما وجوباً وإما تفضلاً. قلت: سيأتي حكم المتعة في كتاب النفقات قوله (وألحقها بأهلا) قال ابن بطال: ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق. وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيحمل عل أنه قال لها الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال له ألحقها بأهلها، فلا منافاة، فالأول قصد به الطلاق والثاني أراد به حقيقة اللفظ وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الذي كان أحضرها كما ذكرناه. ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال "فأمرني فرددتها إلى قومها" وفي أخرى له "فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خُدعتُ. قال فتوفيت في خلافة عثمان". قال "وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمداً" ثم روى بسند فيه الكلبي "أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها فقالت: ما ضرب عليَّ الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها" وعن الواقدي: سمعت من يقول عن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال: وليس ذلك يثبت. ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق. وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك كتب إيه يسأله، فكتب إليه: ما تزو النبي صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون فملكها. فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها. فقوله فطلقها يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق، ولعل هذا هو السر في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بت الحكم. واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها فكيف يطلقها؟ والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافية في ذلك، ويكون قوله "هي لي نفسك" تطييباً لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في

رواية لابن سعد "أنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك وخطبت إليك" أهـ. 1240 - * روى البخاري عن ثابت البناني رحمه الله قال: كنت عند أنس وعنده ابنة له، قال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها! واسوأتاه، واسوأتاه، قال: هي خيرٌ منك، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، ففرضت عليه نفسها. قال في الفتح: (قوله) (وعنده ابنة له) لم أقف على اسمها وأظنها أُمينة بالتصغير. قوله (جاءت امرأة) لم أقف على تعيينها، وأشبه من رأيت بقصتها ممن تقدم ذكر اسمهن في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصة غير التي في حديث سهل، قوله (واسوأتاه) أصل السوءة- وهي بفتح المهملة وسكون الواو بعدها همزة - الفعلة القبيحة. وتطلق على الفرج، والمراد هنا الأول. والألف للندبة والهاء للسكت. ثم ذرك المصنف حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة مطولاً، وسيأتي شرحه بعد ستة عشر باباً، وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسه على الرجل وتعريف رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك. وأن الي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت. وقال المهلب: فيه أن على الرجل أن لا ينكحها إلا إذا وجد في نفسه رغبة فيها، ولذلك صعد النظر فيها وصوبه. كما سيرد انتهى. وليس في القصة دلالة لما ذكره. قال: وفيه جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف، وأن ذلك لين في صرف السائل وأأدب من الرد بالقول. أهـ فتح الباري. 1241 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرة وهبت نفسها له (1).

_ 1240 - البخاري (9/ 174) 67 - كتاب النكاح -37 - باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح. 1241 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 252) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

1242 - * روى البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (1) قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وفي أخرى (2)، قلت: كنت أغارُ على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نحوه. وفي أخرى (3)، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا، بعد أن أنزلت هذه الآية {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} (4) فقلتلها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنتُ أقول له: إن كان ذاك إليَّ، فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً. قال السندي: قوله: أما تستحي المرأة قالته تقبيحاً لهذا الفعل وتنفيراً للنساء عنه لئلا تهب النساء أنفسهن له صلى الله عليه وسلم فيكثرن عنده، قال القرطبي: وسبب ذلك لقوة الغيرة، وإلا فقد علمت أن الله تعالى أباح له هذا خاصة وأن النساء معذورات ومشكورات في ذلك لعظيم بركته صلى الله عليه وسلم وأي منزلة أشرف من القرب لا سيما مخالطة اللحوم ومشابكة الأعضاء قوله: فقلت إن ربك إلخ كناية عن ترك ذلك التنفير والتقبيح لما رأت من مسارعة الله تعالى في مرضاة النبي صلى الله عليه وسلم أي كنت أنفر النساء عن ذلك فلما رأيت الله عز وجل أنه يسارع في مرضاة النبي صلى الله عليه وسلم تركت ذلك لما فيه من الإخلال بمرضاته صلى الله عليه وسلم، وقال النووي: معنى يسارع في هواك يخفف عنك ويوسع عليك في الأمور ولها خير، وقيل: قولها

_ 1243 - البخاري (9/ 164) 67 - كتاب النكاح- 29 - باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد. ومسلم (2/ 1085) 17 - كتاب الرضاع- 14 - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها. (1) الأحزاب: 51. تُرجي: الإرجاء: التأخير. (2) البخاري (8/ 534) 65 - كتاب التفسير-7 - باب "ترجي من تشاء منهن ... ". ومسلم (2/ 1085) 17 - كتاب الرضاع -14 - باب جواز هبتها نوبتها. (3) البخاري في نفس الموضع السابق. (4) الأحزاب: 51.

المذكور أبرزته للغيرة والدلال وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مناسبة فإنه صلى الله عليه وسلم منزه عن الهوى لقوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) وهو ممن ينهى النفس عن الهوى. ولو قالت في مرضاتك كان أولى وقد يقال المذموم هو الهوى الخالي عن الهدى لقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) والله أعلم فتأمل. قال النووي: هذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو زواج من وهبت نفسها له بلا مهر، قال الله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (3) واختلف العلماء في هذه الآية، وهي قوله: (تُرجي من تشاء) فقيل: ناسخة لقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (4) ومبيحة له أن يتزوج ما يشاء. وقيل: بل نسخت تلك الآية بالسنة، قال زيد بن أرقم: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ميمونة، ومليكة، وصفية، وجويرية، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الل عليه وسلم حتى أحل له النساء. وقيل عكس هذا، وأن قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ناسخة لقوله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} والأول: أصح. قال أصحابنا: الأصح: انه صلى الله عليه وسلم ما توفي حتى أبيح له النساء مع أزواجه. قال في الفتح: قوله (كنت أغار) كذا وقع بالغين المعجمة من الغيرة. ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن بشر عن هشام بن عروة بلفظ "كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن" بعين مهملة وتشديد. قوله (وهبن أنفسهن) هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك" الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال "التمس ولو خاتماً من حديد" ومن حديث أنس "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي ابنة - فذكرت من جمالها - فآثرتك بها. فقال: وقد قبلتها" فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصدع قط. فقال: "لا حاجة لي في ابنتك" وأخرجه أحمد أيضاً، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم،

_ (1) النجم: 3. (2) القصص: 50. (3) الأحزاب: 50. (4) الأحزاب: 52.

وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقاً. ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر ابن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت. وخولة بنت حكيم وهو في الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له "أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمراد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان مباحاً له لأنه راجع إلى إرادته لقوله تعالى {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} وقد بينت عائشة في هذا الحديث سبب نزول قوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} وأشارت إلى قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقوله تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس أيضاً قال: فرض عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين. وقوله (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي ما أرى الله إلا موجداً لما تريد بلا تأخير، منزلاً لما تحب وتختار. وقوله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي تؤخرهن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وغيرهم، وأخرج الطبري أيضاً عن الشعبي في قوله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم وقيل المراد بقوله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له: لا تطلقنا وأقسم لنا ما شئت، فكان يقسم مستوياً، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجأهن. فحاصل ما نقل في تأويل {تُرْجِي} أقوال: أحدها: تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت. وحديث الباب يؤيد هذا والذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يُرج أحداً منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري

"ما أعلم أنه أرجا أحداً من نسائه"أخرجه ابن أبي حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. قوله (يستأذن المرأة في اليوم) أي الذي يكون فيه نوبتها إذا أراد أن يتوجه إلى الأخرى. تكميل: اختلف في المنفي في قوله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية وهي قوله {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} هل المراد بعد الأوصاف المذكورة فكان يحل له صنف دون صنف؟ أو بعد النساء الموجودات عند التخيير؟ على قولين، وإلى الأول ذهب أُبي بن كعب ومن وافقه أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وإلى الثاني ذهب ابن عباس ومن وافقه وأن ذلك وقع مجازاة لهن على اختيارهن إياه، نعم الواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجدد له تزوج امرأة بعد القصة المذكورة، لكن ذلك لا يرفع الخلاف. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء" وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها مثله. أهـ. 1243 - * روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت أهب نفسي لك، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسهُ، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلستْ، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: "فهل عندك من شيءٍ؟ " فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: "اذهب إلى أهلك فانظُر: هل تجد شيئاً؟ " فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله، ما وجدت شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتماً من حديد" فذهب، ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتماً من حديدٍ، ولكن هذا إزاري- قال سهل: ماله رداء - فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): "ما تصنعُ بإزارك؟ إن لبستهُ لم يكن عليها منهُ شيءٌ، وإن لبسَتْهُ لم يكن عليك منه شيءٌ" فجلس

_ 1243 - البخاري (8/ 524) 65 - كتاب التفسير-7 - باب "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء .. ". ومسلم (2/ 1040) 16 - كتاب النكاح -13 - باب الصداق و ..... ". فصعد النظر: تصعيد النظر: أن تنظر إلى أعلى الشيء، وتصويبه: أن تنظر إلى أسفله. ولو خاتم: هكذا هو في النسخ: خاتم من حديد. وفي بعض النسخ خاتماً. وهذا واضح. والأول صحيح أيضاً. أي ولو حضر خاتم من حديد =

الرجل حتى إذا طال مجلسهُ قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً، فأمر به فدُعي، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا، وسورة كذا - عددها - قال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكَها بما معك من القرآن". وفي حديث زائدة (1): انطلق فقد زوجتكَها، فعلمها من القرآن". وفي حديث فُضيل بن سليمان (2): فخفض فيها البصر ورفعه، فلم يُردها، فقال رجل من أصحابه: زوجنيها، وفيه: ولكن أُشقق بُردتي هذه، فأعطيها النصف، وآخذُ النصف، قال: "هل معك من القرآن شيء؟ " قال: نعم، قال: "اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن". وفي رواية ابن المديني (3) قال: إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قامت امرأة فقالت: يا رسول الله، إنها قد وهبتْ نفسها لك، فر فيها رأيك، فلم يُجبها شيئاً، ثم قامت فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك، فر فيها رأيك فلمْ يُجبها شيئاً، ثم قامت الثالثة فقالت: إنها قد وهبتْ نفسها لك، فر فيها رأيك فقام رجلٌ، فقال: يا رسول الله أنكحنيها. وفي أخرى مختصراً (4): ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ "تزوج ولو بخاتمٍ من حديدٍ". 1244 - * روى مسلم عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه ان رجلاً كان يُتهمُ بأمِّ ولد

_ = ملكتكها: هكذا هو في معظم النسخ، وكذا نقلها القاضي عن رواية الأكثرين: ملكتها. وفي بعض النسخ: ملكتكها. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. (2) البخاري (9/ 188) 67 - كتاب النكاح - 37 - باب إذا كان الولي هو الخاطب. (3) البخاري (9/ 205) 67 - كتاب النكاح - - باب التزويج على القرآن وبغير صداق. (4) البخاري (9/ 216) 67 - كتاب النكاح - - بَاب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ. ومسلم مطولاً (2/ 1041) 16 - كتاب النكاح - 19 - باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد. 1249 - مسلم (4/ 2139) 49 - كتاب التوبة-1 - باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة.

رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "اذهبْ فاضربْ عنقهُ" فأتاهُ فإذا هو في ركيٍّ يتبردُ فيها، فقال له علي: اخرُجْ، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف عليٍّ عنه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنه لمجبوب. ماله ذكر. قال النووي: قيل: لعله كان منافقاً ومستحقاً للقتل بطريق آخر، وجعل هذا محركاً لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا، وكف عنه علي رضي الله عنه اعتماد على أن القتل بالزنا، وقد علم انتفاء الزنا. 1245 - * روى أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات قال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (1) فأحل الله فتياتكم المؤمنات {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (2) وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} إلى قوله {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. 1246 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضل بعضنا على بعض في القَسْم من مُكثِهِ عندنا، وكان قل يومٌ إلا وهو

_ = ركي: الركية: البئر. 1245 - أحمد في مسنده (1/ 318). والترمذي (5/ 355) 48 - كتاب تفسير القرآن-34 - باب "ومن سورة الأحزاب". وقال: هذا حديث حسن. (1) الأحزاب: 52. (2) الأحزاب: 50. حبط عمله: أي بطل. (3) المائدة: 6. (4) الأحزاب: 50. 1246 - أبو دود (2/ 243) كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء. =

يطوف علينا جميعاً، فيدنُو من كل امرأةٍ من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها، فيبيتُ عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقَتْ أن يُفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: تقول: في ذلك أنزل الله عز وجل وفي أشباهها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} (1). قال في عون المعبود: من غير مسيس: وفي رواية من غير وقاع، وهو المراد هنا، (فرقت): أي خافت. (يا رسول الله يومي لعائشة): أي نوبتي ووقت بيتوتتي لعائشة. والحديث فيه دليل على أنه يجوز للرجل الدخول على من لم يكن في يومها من نسائه والتأنيس لها واللمس والتقبيل، وفيه بيان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وأنه كان خير الناس لأهله. وفيه دليل على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها ويعتبر رضى الزوج لأن له حقاً في الزوجة فليس لها أن تسقط حقه إلا برضائه. 1247 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيَّتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تبتغي بذلك رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في عون المعبود: القرعة: بحال السفر وليس على عمومه بل لتعين القرعة من يسافر بها. واستدل الحديث على مشروعية القرعة بين الشركاء في القسمة وغير ذلك، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة. قال القاضي عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنها من باب الحظر والغمار - وهو الرهان - وحكي عن الحنفية إجازتها. أهـ. 1248 - * روى مسلم عن أبي سلمة قال: سألتُ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كمْ كان صداقُ

_ = نشوز المرأة: بُغضها زوجها، واستعصاؤها عليه، نشوز الزوج: ضربُها وجفاؤها. (1) النساء: 128. 1247 - البخاري (5/ 218 51 - كتاب الهبة-15 - باب هبة المرأة لغير زوجها .. 1248 - مسلم (2/ 1042) 16 - كتاب النكاح -13 - باب الصداق.=

أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية، ونشأ قالت: أتدري ما النشءُ؟ قال: قلتُ: لا. قالت: نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه. 1249 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَّسِمُ فيعدلُ، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملكُ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"- يَعني القلب. قال في عون المعبود: يقسم فيعدل: أي فيسوي بين نسائه في البيتوتة، واستدل به من قال إن القسم كان واجباً عليه وذهب البعض إلى أنه لا يجب عليه واستدلوا بقوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية (1) وذلك من خصائصه. (فيما أملك) أي فيما أقدر عليه (فلا تلمني) أي فلا تعاتبني ولا تؤاخذني (فيما تملك ولا أملك) أي عن زيادة المحبة وميل القلب فإنك مقلب القلوب (يعني القلب) هذا تفسير من المؤلف لقوله ما تملك ولا أملك وقال الترمذي يعني به الحب والمودة كذلك فسره أهل العلم. والحديث يدل على أن المحبة وميل القلب أمر غير مقدور للعبد بل هو من الله تعالى، ويدل له قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} - بعد قوله {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (2) وبه فسروا {اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (3). 1250 - * روى أبو يعلي والطبراني عن أم سلمة قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداع: "هي هذه الحجَّةُ ثم الجلوسُ على ظهور الحُصْرِ في البيوت".

_ = فتلك خمسمائة درهم: أي مجموع المهر. 1249 - أبو داود (2/ 242) كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء. والترمذي (2/ 437) 9 - كتاب النكاح- 42 - باب ما جاء في التسوية بين الضرائر. والنسائي (7/ 64) كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض. (1) الأحزاب: 51. (2) الأنفال: 62. (3) الأنفال: 24. 1250 - المعجم الكبير (23/ 313). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 214) وقال: رواه أبو يعلي والطبراني في الكبير بنحوه، ورجال أبي يعلي ثقات.

1251 - * روى الطبراني عن أنس قال: أوْلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة بتمر وسمن. 1252 - * روى أبو يعلي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بمُدَّيْن من شعير (1). * * *

_ 1251 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. 1252 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح.

الوصل الثاني في بناته وأبنائه وأحفاده عليه الصلاة والسلام

الوصل الثاني في بناته وأبنائه وأحفاده عليه الصلاة والسلام

كل أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته من زوجته خديجة رضي الله عنها ما عدا إبراهيم عليه السلام فإنه من مارية القبطية، سريته رضي الله عنها، وكل أبنائه الذكور توفوا في حياته عليه الصلاة والسلام، وقدتوفيت رقية وأم كلثوم وزينب من بناته عليه الصلاة والسلام في حياته ولم تنجب منهن إلا زينب فقد جاءتها بنت هي أمامة رضي الله عنها لكنها توفيت ولم تعقب، ومن تأخرت وفاة فاطمة الزهراء بنته عليه الصلاة والسلام إلى ما بعد وفاته بقليل وقد أنجبت الحسن والحسين وغيرهما مما سنرى، لكن استمررا الذرية كان في الحسن والحسين فاستمرت ذريته عليه الصلاة والسلام في عقب فاطمة رضي الله عنها وسنتحدث في هذا الوصل عن أبنائه وبناته صلى الله عليه وسلم: رقية فأم لثوم فزينب ففاطمة ثم ولداها: السن والحسين. * * *

أبناؤه عليه الصلاة والسلام

أبناؤه عليه الصلاة والسلام 1253 - * رُوي عن الطبراني الأسود بن سريع قال: لما مات عثمان بنُ مظعون أشفق المسلمون عليه فلما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْحَقْ بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون". 1254 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُلد لي غلامٌ، فسميته باسم أبي إبراهيم" ثم دفعهُ إلى أم سيفٍ - امرأة فَيْنِ، يقال له: أبو سيفٍ - فانطلق يأتيه: واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف - وهو ينفخُ بكيره، قد امتلأ البيت دخاناً - فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف، أمس، جاء رسول الله فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول، فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه - بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "تدمعُ العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا تقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون". 1255 - * روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إبراهيم مُسترضعاً في عوالي المدينة، فكان ينطلقُ ونحن معه، فيدخل البيت، وإنه ليُدِّخَنُ، وكان ظئرهُ قيناً، فيأخذه فيُقبله، ثم يرجع، قال عمرو: فلما تُوفي إبراهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني، وإنهُ مات في الثدي، وإن له لظئرين تُكملان رضاعه في الجنة" (1).

_ 1253 - المعجم الكبير (1/ 286) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 302) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1254 - مسلم (4/ 1807) 43 - كتاب الفضائل - 15 - باب: رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك. يكيد بنفسه: أي يجود بها. ومعناه: وهي في النزع. القين: الصائغ، وأراد به الحداد. 1255 - مسلم (4/ 1808) 43 - كتاب الفضائل -15 - باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك. الظئر: المرضعة ويسمى زوجها ظئرا لرضيعها، فالظئر تطلق على الذكر والأنثى. عوالي المدينة: هي القرى التي عند المدينة. مات في الثدي: معناه مات وهو في سن رضاع الثدي. أو في حال تغذيته بلبن اثدي. تكملان رضاعه: أي يتمانه سنتين. ليدِّخنُ: ادخنت النار. دخنت.

1256 - * روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له مرضعاً في الجنة". قال في الفتح: وقع في رواية الإسماعيلي "إن له مرضعاً تُرضعه في الجنة" والمعنى تكمل إرضاعه لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً على اختلاف الروايتين وقيل إنما عاش سبعين يوماً. 1257 - * روى الطبراني عن ابن أبي أوّْفى وقيل له: هل رأيت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم مات وهو صغير أشبه الناس به صلى الله عليه وسلم. 1258 - * روى ابن ماجه عن أسماء بنت يزيد قالت: لما تُوفي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له المعزيْ (إما أبو بكر وإما عمر) أنت أحقُّ من عظمَ الله حقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدمعُ العينُ ويحزنُ القلب ولا نقول ما يُسخط الرب، لولا أنه وعد صادقٌ وموعودٌ جامعٌ وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم، أفضل مما وجدنا وإنا بك لمحزونون". 1259 - * روى البخاري عن إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: قلت لابن أبي أوفى رضي الله عنه: رأيت إبراهين بن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيراً، ولو قُضي أنْ يكون بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه، ولكن لا نبي بعدهُ. قال في الفتح: قوله (ولو قضى أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه) إبراهيم (ولكن لا نبي بعده) هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى. ومثل هذا لا يقال بالرأي، وقد تواردعليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال (1): لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1256 - البخاري (10/ 577) 78 - كتاب الأدب -109 - باب من سمى بأسماء الأنبياء. 1257 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 163) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبيد بن جناد الحلبي وهو ثقة. 1258 - ابن ماجه (1 - 506، 507) -6 - كتاب الجنائز-53 - باب ما جاء في البكاء على الميت. وقال البوصيري في الزوائد: إسناده حسن. حقه: الذي هو النهي عن البكاء والأمر بالصبر. لولا أنه: أي أنالموت جامع للخلائق كلها. 1259 - البخاري (10/ 577) 78 - كتاب الأدب -101 - باب من سمى بأسماء الأنبياء.

وقال: إن له مرضعاً في الجنة، لو عاش لكان صديقاً نبياً، ولأعتقتُ أخوالهُ القبط، وروى أحمد وابنُ منده من طريق السدي: سألت أنساً كم بلغ إبراهيم؟ قال: كان قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء، ولفظ أحمد لو عاش إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقاً ولم يذكر القصة. فهذه أحاديثُ صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك، فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل، وجسارة في الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين، فرواه عن غيرهم ممن تأخر عنهم فقال ذلك، وقد استنكر قبله ابن عبد البر في "الاستيعاب" الحديث المذكور فقال هذا لا أدري ما هو، وقد ولد نوح من ليس بنبي، وكما يلد غيرُ النبي نبياً فكذا يجوز عكسه، حتى نسب قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك، مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية. أهـ. 1260 - * روى أحمد عن السُّدي قال: سألتُ أنس بن مالك قلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم؟ قال: لا أدري رحمةُ الله على إبراهيم لو عاش لكان صِديقاً نبياً (1). * * *

_ 1260 - أحمد في مسنده (3/ 281) مطولاً، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 162) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

بناته عليه الصلاة والسلام

بناته عليه الصلاة والسلام 1 - رُقيةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال ابن سعد: تزوجها عُتبةُ بن أبي لهب قبل النبوة كذا قال، وصوابهُ: قبل الهجرة. فلما أزِلتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (1)، قال أبوه: رأسي من رأسك حرامٌ، إن لم تطلق بنتهُ. ففارقها قبل الدخول. وأسلمت مع أمها - خديجة - وأخواتها. ثم تزوجها عُثمان، وولدت من عثمان عبد الله، وبه كان يُكنى، وبلغ ست سنين، فنقرهُ ديك في وجهه، فطَمِر وجهه، فمات (كمر وجهه: ورِمَ وانتفخ.). قال ابن سعد: هاجرت معه إلى الحبشة، الهجرتين جميعاً، ثم هاجرتْ إلى المدينة بعد عثمان، ومرضت قبيل بدر، فخلف النبي صلى الله عليه وسلم عليها عثمان؛ فتُوفيت، والمسلمون ببدر. أهـ. قال الذهبي في التلخيص: ذكرها عروة في تسمية الذين خرجوا المرة الأولى إلى هجرة الحبشة مع زوجها عثمان. وقيل كانت أصغر من أختها زينب بثلاث سنين وولدت لعثمان عبد الله، مات صغيراً. 1261 - * روى الطبراني عن الزُّهري قال: تُوفيت رُقية يوم جاء زيدُ بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشرى بدرٍ. * * *

_ (1) المسد: 1. 1261 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 217) وقال: رواه الطبراني وهو مرسل ورجاله ثقات.

2 - زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

2 - زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبرُ أخواتها من المهاجرات السيدات. يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: تزوجها في حياة أمها ابنُ خالتها أبو العاص: فولدت له: أمامة التي تزوج بها عليُّ بن أبي طالب بعد فاطمة، وولدتْ له: عليٍّ بن أبي العاص الذي يُقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْدفهُ يوم الفتح، وأظنه مات صبياً. وذكر ابن سعد: أن أبا العاص تزوج بزينب قبل النبوة. وهذا بعيد. أسلمت زينب، وهاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين. أهـ. وقال الذهبي في تلخيصه للمستدرك: (هي أكبرهن) قاله الزهري فقيل ولدت سنة ثلاثين من مولده - أي مولد النبي عليه الصلاة والسلام وماتت سنة ثمان للهجرة. أهـ. وقال الذهبي في السير: قال الشعبي: أسلمت زينبُ، وهاجرت، ثم أسلم زوجها بعد ذلك وما فرق بينهما. وكذا قال قتادة، وقال: ثم أنزلت "براءةٌ" بعد. فإذا أسلمت امرأة قبل زوجها؛ فلا سبيل له عليها، إلا بخطبة. وقال ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته إلى أبي العاص بعد سنين بنكاحها الأول ولم يُحدث صداقاً. وعن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: خرج أبو العاص إلى الشام في عير لقريش، فانتدب لها زيد في سبعين ومئة راكب؛ فلقُوا العير في سنة ست، فأخذوها، وأسروا أناساً، منهم أبو العاص، فدخل على زينب سحراً، فأجارته، ثم سألتْ أباها، أن يرُد عليه متاعه ففعل، وأمرها ألا يقربها ما دام مشركاً، فرجع إلى مكة، فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم رجع مسلماً مهاجراً في المحرم سنة سبع، فرد عليه زينب بذاك النكاح الأول، وتوفيت في أول سنة ثمان. أهـ.

1262 - * روى البخاري ومسلم عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تُوفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني" فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حِقوَهُ فقال: "أشعرنها إياهُ" تعني إزاره. روى البزار (1) عن أبي هريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، وكنت فيهم، فقال: "إن لقيتم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو، فأحرقوهما"، وكانا نخساً بزينب بنت رسول الله حين خرجت، فلم تزل ضَبْنَة حتى ماتت. ثم قال: "إنْ لقيتموهما، فاقتلوهما؛ فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله". 1263 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما بعث أهل مكة في فداء أساراهُم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فداء أبي العاص بقلادةٍ وكانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقةً شديدةً، وقال: "إن رأيتُم أن تُطلقوا لها أسيرها وترُدوا عليها الذي لها".

_ 1262 - البخاري (3/ 125) 23 - كتاب الجنائز -8 - باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر ومسلم (2/ 646) 11 - كتاب الجنائز-12 - باب في غسل الميت. الحقو: الإزار، وسمي الإزار حقواً، لأنه يُشد على الحقو، وقوله: "أشعرنها إياه" يريد: اجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي جسدها، فالشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار فوق الشعار، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه للأنصار: "أنتم شعار والناس دثار". (1) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 247) وعزاه إلى البزار وقال محققه وإسناده قوي. هبار بن الأسود: أسلم، ففي سنن سعيد بن منصور عن ابن عيينةن عن ابن نجيح ... فلم تصبه السريةن وأصابه الإسلام فهاجر، فذكر قصة إسلامه. ضبنة: الضبنة هي التي أصابها مرض مزمن. 1263 - المستدرك (4/ 45) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

1264 - * روى الطبراني عن عروة بن الزبير أن رجلاً أقبل بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقهُ رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباهُ عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة فأسقطتْ وأهريقتْ دماً، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءتهُ نساء بني هاشم فدفعها إليهن، ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع، فكانوا يرون أنها شهيدة. 1265 - * روى الطبراني عن ابن جريج قال: قال لي غير واحد كانت زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1266 - * روى الطبراني عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة خرجتْ ابنته زينبُ من مكة مع كنانة أو ابن كنانة، فخرجُوا في طلبها فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزلْ يطعن بعيرها برُمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها فتحملت واشتجر فيها بنو هاشمٍ، وبنو أمية، فقال بنو أمية: نحن أحق بها، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص، وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، وكانت تقول هذا في سبب أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لزيد بن حارثة: "ألا تنطلقُ فتجيء بزينب" قال: بلى يا رسول الله. قال: (1) "فخُذ خاتمي فأعطها إياه" فانطلق زيد فلم يزل يتلطفُ

_ 1264 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 216) وقال: رواه الطبراني وهو مرسل ورجاله رجال الصحيح. 1265 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 212) وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى ابن جريج رجال الصحيح. 1266 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 212، 213) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بعضه، ورواه البزار (3/ 242، 243) ورجاله رجال الصحيح. كنانة: هو ابن الربيع أخوأبي العاص. كذا في ان هشام. (قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثه ألا تنطلق فتجيء بزينب): كان زيد وقتذاك لا زال له حكم الابن فلم يُلغَ التبني إلا بعد زمن من هذه الحادثة فهو أخ لزينب وقتذاك، وعلى كل حال فهجرة المضطهد به لها أحكام مستثناه من اشتراط المحرم، لكن الضرورات تقدر بقدرها. (قوله: قال لها اركبي بين يدي): هي كانت أخته وقتذاك، وقد جرت العادة أن يكون للأكرم صدر الدابة، فهو أراد أن يعطيها صدر الدابة إجلالاً لها لأنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أدبها وحياءها منعاها من ذلك. (قوله: هي خير بناتي أصيبت فيّ) لا ينفي أن تكون فاطمة أفضل منها، بل زينب أفضل بناته من حيثية الابتلاء، لكن عليّ بن الحسين خشي أن يفهم ما فهم أنها أفضل من فاطمة فاعتبر ذلك انتقاصاً فأحب أن يزيل الوهم.

فلقي راعياً فقال: لمن ترعى؟ فقال: لأبي العاص. فقال لمن هذه الغنم فقال لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئاً، ثم قال هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياهُ، ولا تذكره لأحدٍ قال: نعم. فأعطاه الخاتم فعرفته فقالت، من أعطاك هذا؟ قال رجل قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها اركبي بين يدي على بعيره، قالت: لا ولك ناركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى إذا أتت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي خيرُ بناتي أصيبتْ فيِّ "فبلغ ذلك علي بن حسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تنتقصُ حق فاطمة، فقال عروة والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقها لها، وأما بعد ذلك إني لا أُحدثُ به أبداً. 1267 - * روى الحاكم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إليها أبو العاص بن الربيع أن خُذي لي أماناً من أبيك، فخرجتْ فأطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصبح يُصلي بالناس، فقالت: أيها الناس إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني قدْ أجرتُ أبا العاص، فلما فرغَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة قال: "أيها الناسُ إنهُ لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يُجيرُ على المسلمين أدناهُم". 1268 - * روى الحاكم عن أنس قال: رأيتُ على زينب بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُردة سيراء من حرير. 1269 - * روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدِمَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حليةً من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب، فيه فصٍّ حبشيٍّ، قالت (1): فأخذه

_ 1267 - المستدرك (4/ 45) وسكت عنه الذهبي، وقد حسنه بعضهم لشواهده. 1268 - المستدرك (4/ 46) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. السيراء: نوع من البرود فيه خطوط صغيرة، أو يخالطه حرير. 1269 - أبو داود (4 - 92، 93) كتاب الخاتم، باب ماجاء في الذهب للنساء وإسناده حسن.

رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُودٍ معرضاً عنه، أو ببعض أصابعه، ثم دعا أمامة ابنة أبي العاص ابنة ابنته زينب، فقال: "تحَلَّي بهذه يا بُنَيَّةُ". * * *

3 - أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

3 - أم كُلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم البضعةُ الرابعة النبوية. الذهبي في سير أعلام النبلاء: يُقال، تزوجها عُتيبةُ بن أبي لهب، ثم فارقها. وأسلمت، وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما توفيت أختها رقية تزوج بها عثمان - وهي بكر - في ربيع في ربيع الأول سنة ثلاث، فلم تلد له. وتوفيتْ في شعبان سنة تسع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كُن عشراً لزوجتهن عثمان" حكاه ابن سعد. أهـ. 1270 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: شهدنا بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال: فقال: "هل منكم رجلٌ لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل، قال: فنزل في قبرها (1). * * *

_ 1270 - البخاري (3/ 151) 23 - كتاب الجنائز -32 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سننه. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس فسماها رقية، والصواب أنها أم كلثوم، وقد وهم حماد في تسميتها فقط. وقوله: لم يقارق: أي لم يجامع أهله تلك الليلة.

4 - فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها

4 - فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها قال الذهبي في سير أعلام النبلاء عنها: سيدةُ نساء العالمين في زمانها البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، أم أبيها (كانت كنية لفاطمة رضي الله عنها)، بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيةُ الهاشميةُ، وأم الحسنين. مولدُها قبل المبعث بقليل. وتزوجها الإمامُ عليُّ بن أبي طالب في ذي القعدة، أو قُبيله، ومن سنة اثنتين بعد وقعة بدر. وقال ابن عبد البر: دخل بها بعد وقعة أُحُد. فولدتْ له الحسن والحسين، ومحسناً، وأم كلثوم، وزينب. وروت عن أبيها؛ وروى عنها ابنها الحسين، وعائشة، وأم سلمة، وأنس بن مالك وغيرهم؛ وروايتها في الكتب الستة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحبها ويُكرمها ويُسرُّ إليها؛ ومناقبُها غزيرةٌ؛ وكانت صابرة دينةً خيرةً صينةً قانعةً شاكرة لله؛ وقد غضب لها النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أبا الحسن هم بما رآه سائغاً من خطبة بنت أبي جهل، فترك عليٍّ الخطبة رعاية لها، فما تزوج عليها ولا تسرى فلما توفيت تزوج وتسرى رضي الله عنها. ولما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم حزنت عليه، وبكته، وقالت: يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه! يا أبناه! أجاب رباً دعاه! يا أبتاه! جنةُ الفردوس مأواه! وقالت بعد دفنه: يا أنسُ، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وقد قال لها في مرضه: إني مقبوض في مرضي هذا فبكتْ؛ وأخبرها أنها أول أهله

_ (1) البخاري (8/ 149) 64 - كتاب المغازي- 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

لحوقاً به، وأنها سيدةُ نساء هذه الأمة فضحكت، وكتمتْ ذلك؛ فلما تُوفي صلى الله عليه وسلم، سألتها عائشةُ؛ فحدثتها بما أسر إليها (1). وقالت عائشة رضي الله عنها: جاءت فاطمةُ تمشي ما تُخطئ مشيتُها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام إليها وقال: "مرحباً بابنتي" (2). ولما توفي أبوها تعلقتْ آمالُها بميراثه، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق. فحدثها أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورثُ، ما تركنا صدقة" فوجدت عليه، ثم تعللت - أي تناست وتشاغلت- (3). روى إسماعيل بنُ أبي خالد، عن الشعبيُّ، قال: لما مرضتْ فاطمةُ أتى أبو بكر فاستأذن، فقال عليٍّ: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذنُ عليك. فقالتْ: أتحبُّ أن آذن له قال: نعم. قال الذهبي: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذنْ في بيت زوجها إلا بأمره، قال: فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وقال: والله ما تركتُ الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت. قال: ثم ترضاها حتى رضيت (4). توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، أو نحوها؛ وعاشت أربعاً أو خمساً وعشرين سنة. وأكثر ما قيل: إنها عاشت تسعاً وعشرين سنة؛ والأول أصحُّ. وكانت أصغر من زينب، زوجة أبي العاص بن الربيع؛ ومن رقية؛ زوجة عثمان بن عفان؛ وقد انقطع نسبُ النبي صلى الله عليه وسلم إلا من قبل فاطمة؛ لأن أمامة بنت زينب، التي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحملُها في صلاته

_ (1) البخاري (8/ 135) 64 - كتاب المغازي -83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. (2) البخاري (6/ 627) 61 - كتاب المناقب -25 - باب علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (4/ 1904) 44 - كتاب فضائل الصحابة-15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام. (3) البخاري (6/ 197) 57 - كتاب فرض الخمس -1 - باب فرض الخمس. ومسلم (3/ 1280) 32 - كتاب الجهاد والسير-16 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لانورث ما تركناه فهو صدقة". (4) ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح لكنه مرسل.

تزوجت بعلي بن أبي طالب، ثم من بعده بالمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وله رؤية، فجاءها منه أولاد. قال الزبير بنُ بكار: انقرض عقبُ زينب. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل فاطمة وزوجها وابنيهما بكساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتي، اللهم فأذهِبْ عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" (1). وعن أبي هريرة: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: "أنا حزبٌ لمنْ حاربكم، سِلْمٌ لمن سالمكمُ" (2). وعن أبي سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُبْغِضُنا أهل البيت - أحد، إلا أدخله الله النار" (3). وعن ابن عباس مرفوعاً: "أفضل نساء أهل الجنة خديجةُ وفاطمةُ" (4). وكان لها من البنات: أم كلثوم، زوجة عُمر بن الخطاب؛ وزينبُ، زوجةُ عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب. وعن عائشة، قالت: عاشت فاطمةُ بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، ودُفنتْ ليلاً. وقال سعيد بن عفير: ماتت ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة؛ وهي بنتُ سبع وعشرين سنة أو نحوها، ودُفِنتْ ليلاً. وروى يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: مكثت فاطمةُ بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستةُ أشهر وهي تَذُوب.

_ (1) الترمذي (5/ 699) 50 - كتاب المناقب- 61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. وأحمد في مسنده (6/ 304) والحاكم (2/ 416). (2) أحمد في مسنده (2/ 443) والحاكم (3/ 149). ورواه الحاكم أيضاً من حديث زيد بن أرقم وكذلك الترمذي (5/ 696) 50 - كتاب المنقاب -61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. (3) أخرجه الحاكم وصححه وأقره الذهبي. (4) أحمد في مسنده (1/ 316 - 292).

ومما يُنسبُ إلى فاطمة ولا يصح: ماذا على منْ شَمَّ تربة أحمد ... ألا يشم مدى الزمان غواليا صُبت عليَّ مصائب لو أنها ... صُبتْ على الأيام عُدن لياليا ولها في مسند بقيَّ ثمانية عشر حديثاً، منها حديث واحد متفق عليه. وعن أبي جعفر الباقر: انها تُوفيت بنت ثمانٍ وعشرين سنة، وُلدتْ وقريش تبني الكعبة. قال: وغسلها علي. وذكر المسبِّحي: أن فاطمة تزوج بها عليُّ بعد عُرس عائشة بأربعة أشهر ونصف، ولفاطمة يومئذ خمس عشرة سنة وخمسةُ أشهر ونصف. قتيبة بن سعيد: حدثنا محمد بن موسى: عن عون بن محمد بن علي عن أمه أم جعفر. وعن عمارة بن مهاجر، عن أم جعفر: أن فاطمة قالت لأسماء بنت عُميس: إني أستقبحُ ما يُصنَعُ بالنساء، يُطرحُ على المرأةِ الثوبُ، فيصفُها أي وهي على نعشها. قالت: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً. فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! إذا مِتُّ فغسليني أنت وعليِّ، ولاي دخلن أحد عليّ. فلما تُوفيتْ، جاءتْ عائشة لتدخل، فقالت أسماءُ: لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر. فجاء، فوقف على الباب، فكلَّم أسماء. فقالت: هي أمرتني. قال: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف. قال ابن عبد البر: هي أول من غُطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة. أهـ. 1271 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت (1): دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها

_ 1271 - البخاري (8/ 135) 64 - كتاب المغازي - 83 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

السلام في شكواه الذي قُبِضَ فيه، فسارها بشيءٍ فبكتْ، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكتْ، فسألنا عن ذلك؟ فقالت: سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبضُ في وجعه الذي تُوفي فيه فبكيتُ، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكتُ. وفي رواية، قال (1): كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عندهُ لم يُغادِرْ منهن واحدةً فأقبلتْ فاطمةً تمشي، ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها، فقال: "مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ثم سارها، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى جزعها سارها الثانية، فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار، ثم أنت تبكين؟ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ، قالت: فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمتُ عليك بمالي عليك من الحق، لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى، فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرةً، وإنه عارضهُ الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين - أو سيدة نساء هذه الأمة -؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت. وفي أخرى (2) عن عائشة قالت: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم. فلمْ يُغادرْ منهن امرأة. فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "مرحباً بابنتي"

_ (1) مسلم (1904، 1905) 44 - كتاب فضائل الصحابة-15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام. السرار: المساراة أي حديث السر. عزمت عليك: أي أقسمت. (2) مسلم (4/ 1905، 1906) 44 - كتاب فضائل الصحابة-15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام. لم يغادر: أي لم يترك. =

فأجلسها عن يمينه أو عن شماله. ثم إنه أسر إليها حديثاً فبكت فاطمة. ثم إنه سارها فضحكت أيضاً. فقلت لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حُزنٍ. فقلت لها حين بكت: أخصكِ رصول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا قُبض سألتها فقالت: إنه كان حدثني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة. وإنه عارضهُ به في العام مرتين؛ ولا أراني إلا قد حضر أجلي؛ وإنك أول أهلي لحوقاً بي؛ ونعم السلفُ أنا لك فبكيتُ لذلك. ثم إنه سارني فقال: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؛ أو سيدة نساء هذه الأمة"؟ فضحكتُ لذلك. وفي رواية الترمذي (1) قالت: ما رأيت أحد أشبه سمتاً ودلا وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم - في قيامها وقعُودها - من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكانت إذا دخلتْ على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها، فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا دخل عليها قامتْ من مجلسها، فقبلته وأجلسته في مجلسها، فلما مرض النبي صلى الله عليه وسلم، دخلت فاطمة فأكبتْ عليه، فقبلته، ثم رفعت رأسها، فبكت، ثم أكبتْ عليه ثم رفعت رأسها فضحكت، فقلت: إن كنت لأظن أن هذه من أعقل نسائنا، فإذا هي من النساء، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لها: أرأيت حين أكببتِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسك فبكيت ثم أكببت عليه، فرفعت رأسك فضحكت: ما حملك على ذلك؟ قالت: إني إذاً لبذرةً، أخبرني أنه ميتٌ من وجعه هذا فبكيتُ، ثم أخبرني: أني أسرعُ أهله لحوقاً به، فذلك حين ضحكت. قال في الفتح: قوله (دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء) وفي أول هذا الحديث من رواية مسروق عن عائشة كما مضت في علامات النبوة: أقبلت

_ (1) الترمذي (5/ 700) 50 - كتاب المناقب - 61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. يعارضه القرآن: أي يدارسه في كل عام مرة واحدة بجميع القرآن الذي نزل. نِعم السلف: الماضون، أي نعم ما تقدم لك مني، لأن السلف: ما تقدم من الآباء والأجداد. لبذِرَة: البذِر: الذي يفشي السر، ويظهر ما يسمعه.

فاطمة تمشي كأن مشيها مشية النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً ببنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها، ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه؛ وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك. فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه تقبله، واتفقت الروايتان على أن الذي سارها به أولاً فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارها به أولاً فبكت هو إعلامه إياها بأن ميت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارها به ثانياً فضحكت، ففي رواية عروة أنه إخبار إياها بأنها أول أهله لحوقاً به، وفي رواية مسروق أنه إخباره إياها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وجعل كونها أول أهله لحوقاً به مضموماً إلى الأول وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة وهو من الثقات الضابطين، فما زاده مسروق قول عائشة: فقلت ما رأيت كاليوم فرحاً أقر بمن حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إلأى أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقاً بي، وقولها: كأن مشيتها، هو بكسر الميم لأن المراد الهيئة، وقولها "ما رأيت كاليوم فرحاً" التقدير ما رأيت كفرح اليوم فرحاً أو ما رأيت فرحاً كفرح رأيته اليوم، وقولها "حتى توفي" متعلق بمحذوف تقديره: فلم تقل لي شيئاً حتى توفي، وقد طوى عروة هذا كله فقال في روايته بعد قوله: فضحكت: فسألناها عن ذلك فقالت سارني أنه يقبض في وجهه الذي توفي فيه: الحديث. وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاءها وضحكها قالت إن كنت لأظن أن هذه المرأة أعقل النساء، فإذا هي من النساء، ويحتمل تعدد القصة، ويؤيده الجزم في رواية عروة بأنه ميت من وجعه ذلك، بخلاف رواية مسروق فيها أن ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن، وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بأنها أول أهله لحوقاً به سبباً لبكائها أو ضحكها معاً باعتبارين، فذكر كل من الروايين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائي

من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الآخرين ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك أنها سيدة النساء. وفي رواية عائشة بنت طلحة عنها أن سبب البكاء موتهُ، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبري من وجه آخر عن عائشة أنه قال لفاطمة: إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأةً من نساء المسلمين أعظم ذرية منك فلا تكوني أدنى امرأةٍ منهن صبراً. وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة عليها السلام كانت أول من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده حتى من أزواجه. 1272 - * روى الترمذي عن جُميع بن عُمير التيمي رحمه الله قال: دخلتُ مع عمتي على عائشة، فسئلت أيُّ الناس كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمةُ، قيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علِمْتُ صواماً قواماً. 1273 - * روى أبو يعلي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى علياً وفاطمة غلاماً وقال أحسنا إليه فإني رأيته يصلي. 1274 - * روى البزار والطبراني عن ابن عباس أن علياً تزوج فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدن من حديد. 1275 - * روى الترمذي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: إن علياً ذكر بنت أبي جهلٍ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما فاطمةُ بضعةٌ مني يؤذيني ما آذاها (1)، ويُنْصبُني ما أنصبها".

_ 1272 - الترمذي (5/ 701) 50 - كتاب المناقب 61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليهما وسلم وقال: هذا حديث حسن غريب. 1273 - رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. 1274 - البزار: كشف الأستار (2/ 162) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 283). وقال: رواه البزار والطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح. البدن: الدرع القصيرة. 1275 - الترمذي (5/ 690) 50 - كتاب المناقب -61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليهما وسلم. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

1276 - * روى الحام عن سُويد بن غفلة، قال: خطب عليّ بنت أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعَنْ حسبِها تسألني"؟ قال عليُّ: قد أعلمُ ما حسبُها. ولكن أتمرني بها؟ فقال: "لا، فاطمةُ مضغةً مني، ولا أحسبُ إلا أنها تحزنُ أو تجزعُ" قال: لا آتي شيئاً تكرهه. 1277 - * روى الطبراني عن علي أيضاً: قلت لأمي فاطمة بنت أسدٍ بن هاشم: اكفي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سقاية الماء والذهاب في الحاجة وتكفيك خدمة الداخل الطحن والعجن. 1278 - * روى الحاكم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: جاءت ابنة هبيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي يدها فتخٌ من ذهبٍ أو خواتيم من ذهب فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضربُ بيدها، فأتتْ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكت إليها ما صنع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال ثوبان فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة، وأنا معه، وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب، فقالت: هذه أهداها إليَّ أبو حسن والسلسلة في يدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طيا فاطمةُ أيسُرُّكِ أن يقول الناسُ فاطمة بنتُ محمدٍ، وفي يدك سلسلةٌ من نارٍ"، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقعد، فعمدت فاطمةُ إلى السلسلة، فاشترت بها غُلاماً فأعتقتهُ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار". قال الشيخ شعيب محقق السير: أخرجه أحمد من طريق همام والنسائي من طريق هشام كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال (1): حدثني زيد بن سلام عن جده أبي سلام عن أبي

_ 1276 - المستدرك (2/ 159) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة وصححه الذهبي وقال: مرسل قوي. 1277 - رواه الطبراني وقال الهيثمي: ورجال الرواية الثانية- أي هذه الرواية رجال الصحيح. 1278 - المستدرك (3/ 153) وقال: هذا حيدث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. فتخ: جمع فتخةٍ: خاتم كبير يكون في اليد والرجل.

أسماء الرحبي. وهذا سند رجاله ثقات إلا أنه قد أُعِلُ بالانقطاع، فقل نقل ابن القيم في "تهذيب السنن" 6/ 126 عن ابن القطان قوله: وعلته أن الناس قالوا: إن رواية يحيى ابن أبي كثير، عن زيد بن سلام منقطعة، على أن يحيى قال: حدثني زيد بن سلام، وقد قيل: إنه دلس ذلك، ولعله كان أجازه زيد بن سلام، فجعل يقول: حدثنا زيد. وهذا النوع من التدليس بيَّنه الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلسين" فقال: ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التبعير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهماً السماع، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً. وقال المؤلف في "ميزانه" في ترجمه يحيى بن أبي كثير: وروايته عن زيد بن سلام منقطعة، لأنها من كتاب وقعت له. ومع كل ما تقدم، فقد صحح الحديث الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 1/ 557 في باب الترهيب من منع الزكاة. وما ذهب إليه الشيخ ناصر الدين الألباني بالاستناد إلى هذا الحديث وغيره مما أورده في "آداب الزفاف" من تحريم تحلي النساء بالذهب المحلق، وإباحة غير المحل قلهن، فقد خالف بذلك إجماع المسلمين سلفاً وخلفاً على إباحة تحلي النساء بالذهب محلقاً وغير محلق كالطوق والخاتم والسوار، والخلخال والقلائد، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء المحققين كالجصاص الرازي في "أحكام القرآن" 4/ 477 والقرطبي في "تفسيره" 16/ 71، 72، والنووي في "المجموع" 4/ 442 و 6/ 40، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 10/ 317 - ولا يتسع هذا التعليق لبيان وهاء رأيه هذا الذي انفرد به، والشبهات التي أثارها حول هذه المسألة، ونحيل القارئ الكريم على كتاب "إباحة التحلي بالذهب المحلق للنساء" للشيخ الفاضل إسماعيل بن محمد الأنصاري! فقد تكفلبالرد عليه، وتوهين ما استند إليه من الأحاديث التي يظن أنها تدل على مدعاه، ونقل عن العلماء أن المراد منها - على فرض صحتها - وغير ما ذهب إليه، وأورد نصوصاً من الكتاب والسنة الصحيحة تدل على صحة ما ذهب إليه جماهيرُ السلف والخلف من العلماء، وقد أجاد في كل ذلك وأفاد، فجزاه الله عنا خير الجزاء.

1279 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في مرضه الذي تُوفي فيه؟ يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين، هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا. كذا في المستدرك، قال الذهبي صحيح. 1280 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت إذا دخلتْ عليه رحب بها، وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 1281 - * روى الحاكم عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما فاطمةً شجنةٌ مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضُها. 1282 - * روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران". 1283 - * روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتتْ فاطمةٌ رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسألهُ خادماً، فقال لها: "الذي جئت تطلبين أحب إليك أم خير منه" قال: فحسبت أنها سألت علياً قال (1): قُولي اللهم ربِّ السماوات وربُّ

_ 1279 - المستدرك (3/ 156) وقال: هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا، وقال الذهبي: صحيح. 1280 - المستدرك (3/ 154) وقال: هذاحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 1281 - المستدرك (3/ 154) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الشِجنة: الشجنة: الشعبة من كل شيء. 1282 - المستدرك (3/ 154) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه إنما تفرد مسلم بإخراج حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نساء العالمين أربع". وقال الذهبي: صحيح. 1283 - المستدرك (3/ 157) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

العرش العظيم ربنا ورب كل شيءٍ منزل التوراة والإنجيل والقرآن فالقالحب والنوى أعوذُ بك من شر كل شيءٍ أنتَ آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. 1284 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "حسبُك من نساء العالمين مريمُ بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمدٍ". 1285 - *روى الحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أفضل نساء العالمين خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون". 1286 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها في خميل وقريةٍ ووسادةٍ، من أدمٍ حشوُها ليفٌ. 1287 - * روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت إذا ذكِرَتْ فاطمةُ بنتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها. 1288 - * روى الحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نزل ملك من السماء، فاستأذن الله أنْ يُسلِّم عليِّ لم ينزل قبلها، فبشرني أن فاطمة سيدةُ نساء أهل الجنة" (1).

_ 1284 - المستدرك (3/! 58) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسبك من نساء العالمين" يسوي بين نساء الدنيا، وأقره الذهبي. 1285 - المستدرك (2/ 594) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ وقال الذهبي: صحيح. خميل: الخميل: القطيفة. 1286 - المستدرك (2/ 185) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح. 1287 - المستدرك (3/ 161) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1288 - المستدرك (3/ 151) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح.

1289 - * روى أحمد عن النعمان بن بشيرٍ قال: استأذن أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقدْ عرفتُ أن علياً وفاطمة أحبُّ إليك مني ومن أبي مرتين أو ثلاثاً، فاستأذن أبو بكر فأهوى إليها، فقال: يا بنت فلانة لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1290 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عليٍّ وفاطمة، وهما يضحكان، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم سكتا فقال لهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم "ما لكُما كُنتما تضحكان، فلما رأيتماني سكتما" فبادرتْ فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله قال هذا: أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فقلت: بل أنا أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا بنيةُ لك رقة الولد وعليُّ أعزُّ عليَّ منك". 1291 - * روى الطبراني عن أسماء بنت عُميس قالت: لما أهديت فاطمة إلى عليِّ بن أبي طالب لم نجدْ في بيته إلا رُملاً مبسوطاً ووسادة حشوها ليف وجرة وكوزاً فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثنِّ حدثاً" أو قال: "لا تقربن أهلك حتى آتيك" فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أثم أخي" فقالت أم أيمن وهي أم أسامة بن زيدٍ وكانتْ حبشية، وكانت امرأة صالحة: يا رسول الله هذا أخوك وزوجته ابنتك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أًحابه وآخى بين عليٍّ ونفسه، قال: "إن ذلك يكونُ يا أمَّ أيمن" قالت: فدع النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء ثم قال: ما شاء الله أن يقول (1)، ثم مسح صدر عليٍّ ووجهه، ثم دعا فاطمة، فقامت إليه فاطمة تعثرُ في مرطها من الحياء فنضح

_ 1289 - أحمد في مسنده: (4/ 275) وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 201) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 1290 - أورده الهيثمي (9/ 202) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. بأبي أت: أي أفديك بأبي، وهو أبوها. 1291 - المعجم الكبير (24/ 137) وأورده الهيثمي (9/ 319، 210) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. رُملاً: رمال الحصير، الرمال: ما رمل أي نسج، والمراد أنه كالسرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. فنضح عليها: أي رش. مرطها: كساء من قطن أو صوف أو كتان، وتتلفع به المرأة.

عليها من ذلك وقال لها: ما شاء الله أن يقول ثم قال لها: طأما إني لم آلك أنْ أنكحتك أحبّ أهلي إليّ" ثم رأى سواداً من وراء الستر أو من وراء الباب، فقال: "من هذا" قالت أسماءُ قال: "أسماء بنت عُميس" قالت: نعم يا رسول الله قال: "جئتِ كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم": قالت نعم إن الفتاة ليلة يُبنى بها لابد لها من امرأة تكون قريباً منها إن عرضتْ لها حاجة أفضتْ ذلك إليها قالت: فدعا لي بدعاء إنه لأوثقُ عملي عندي ثم قال لعلي "دونك أهلك" ثم خرج فولى، فما زال يدعو لهما حتى توارى في حجره. 1292 - * روى الطبراني والبزار عن بريدة قال: قال نفرٌ من الأنصار لعليٍّ رضي الله عنه: عندك فاطمة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حاجة ابنُ أبي طالب رضي الله عنهُ" فقال: يا رسول الله ذكرتُ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحباً وأهلاً" لم يزدْ عليها فخرج عليّث بن أبي طالب على أولئك الرهط من الأنصار ينتظرونه فقالوا: ما وراءك قال: ما أدري غير أنه قال لي مرحباً وأهلاً. قالوا يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما أعطاك الأهلُ والمرحب، فلما كان بعد ما زوجهُ قال: "يا عليٌّ إنه لابد للعروس من ليمة" قال سعد: عندي كبشٌ وجمعَ له من الأنصار أصوعاً من ذُرةٍ، فلما كانت ليلة البناء قال: "لا تُحدثْ شيئاً حتى تلقاني" فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه عليّ فقال "اللهم بارك فيهما وبارك لهما في بنائهما". 1293 - * روى الطبراني عن حجر بن عنبس وكان قد أكل الدم في الجاهلية، وشهد مع عليٍّ رضي الله عنه الجمل وصفين فقال: خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي لك يا عليُّ" (1).

_ 1292 - المعجم الكبير (2/ 20) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 309): رواه الطبراني والبزار بنحوه إلا أنه قال: قال نفر من الأنصار لعلي رضي الله عنه لو خطبت فاطمة .. وقال في آخره: "اللهم بارك فيهماوبارك لهما في شبليهما". ورجالهما رجال الصحيح غر عبد الكريم بن سليط ووثقه ابن حبان. أصوعا: جمع صاع، الذي يكال به ويؤنث وهو أربع حفنات يكفي الرجل وهو أربعة أمداد كل مد رطل وثلث، والرطل قال الداودي معياره الذي لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما إذ ليس كل مكان فيه صاع النبي صلى الله عليه وسلم 1293 - المعجم الكبير (4/ 34) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 304): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

1294 - * روى البخاري عن الموسر بن مخرمة رضي الله عنه قال: إن علياً خطب بنت أبي جهلٍ فسمعت بذلك فاطمةُ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يزعُم قومُك أنك لا تغضب لبناتك وهذا عليٍّ ناكحُ بنت أبي جهلٍ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعته حين تشهد يقول: "أما بعدُ، أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني وصدقني وإن فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن يسؤوها - وفي رواية: أن يفتنوها - والله لا تجتمعُ بنت رسول اله وبنت عدو الله عند رجلٍ واحدٍ" فترك عليٍّ الخطبة. وفي رواية (1) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليٍّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". قال صاحب عون المعبود: (لا آذن لهم ثم لا آذن لهم) كرر ذلك تأكيداً، وفيه إشارة إلى تأييده مدة المنع وكأنه أراد منع المجاز لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها فقال: ثم لا آذن أي ولو مضت المدة المفروضة تقديراً لا آذن بعدها كذلك أبداً. (يريبني ما أرابها) قال إبراهيم الحربي: الريب: ما رابك من شيء خفت عقباه. ويؤخذ من هذا الحديث أن فاطمة لو رضيت بذلك لم يمنع علي من التزويج بها أو بغيرها.

_ 1294 - البخاري (7/ 85) 63 - كتاب فضائل الصحابة-16 - باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو العاص بن الربيع. (1) مسلم (4/ 1103) 44 - كتاب فضائل الصحابة-15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام. البضعة: القطعة من اللحم. يريبني: أي: يسوؤني ما يسوؤها، تقول: رابني هذا الأمر يريبني: إذا رأيت منه ما تكرهه، وهُذيل تقول: أرابني. فحدثني وصدقني: هذا المشار إليه بالوعد والوفاء: هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أُسر في غزوة بدر، فنفذت زينب فداءه من مكة، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي نفذته قلادة كانت خرجت معها لما دخلت عليه، كانت لخديجة، فرقَّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقةً شديدة واستطلق أسيرها من المسلمين، واستوهبهم الفداء فوهبوه، فرده إليها، وشرط على أبي العاص أن يُنفذ زينب إليه إذا وصل إلى مكة، ففعل.

قال في الفتح: قوله (إن علياً خطب بنت أبي جهل) اسمها جويرية كما سيأتي، ويقال العوراء ويقال جميلة، وكان عليٌّ قد أخذ بعموم الجواز، فلما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عليٍّ عن الخطبة، فيقال تزوجها عناب بن أسيد، وإنما خطب النبي صلى الله عليه وسلم ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به إما على سبيل الإيجاب وإما على سبيل الأولوية. وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة، فزعم أن هذا الحديث موضوع لأنه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي، وجاء من رواية ابن الزبير وهو أشد في ذلك، ورد كلامه بإطباق أصحابِ الصحيح على تخريجه، وسيأتي بسط ما يتعلق بذلك في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله (وهذا علي ناكح بنت أبي جهل) أطلقت عليه اسم ناكح مجازاً باعتبار ما كان قصد يفعلُ، واختلف في اسم ابنة أبي جهل فروى الحاكم في "الإكليل" جويرية وهو الأشهرُ، وفي بعض اطلرق اسمها العوراء أخرجه ابن طاهر في "المهمات"، وقيل اسمها الحيفاء ذكره ابن جرير الطبري، وقيل جرهمة حكاه السهلي، وقيل اسمها جميلة ذكره شيخنا ابن الملقن في شرحه؛ وكان لأبي جهل بنت تسمى صفية تزوجها سهل بن عمرو سماها ابن السكيت وغيره وقال هي الحيفاء المذكورة. قوله (حدثني فصدقني) لعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك علي، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن علياً نسي ذلك الشرط فلذلك أقدم على لاخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر فلصذلك وقعت المعاتبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحداً بما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة عليها السلام، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، ولم يكن حينئذ تأخر من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بإخوتها فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها. 1295 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: ما رأيتُ أفضل من فاطمة غير أبيها قالت: وكان بينهما شيء فقالت: يا رسول الله سلها فإنها لا تكذبُ (1).

_ 1295 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 201) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلي، إلا أنها قالت: ما رأيتُ أحداً قط أصدق من فاطمة، ورجالهما رجال الصحيح. وكان بينهما شيء: حدث بين عائشة وفاطمة.

1296 - * روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطب أبو بكرٍ وعمر فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها صغيرة" فخطبها عليٍّ، فزوجها منه". 1297 - * روى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، ومن الرجال عليٍّ. قال إبراهيم النخعي: يعني: من أهل بيته (1). * * *

_ 1296 - النسائي (6/ 62) كتاب النكاح، باب تزوج المرأة مثلها في السن، وإسناده حسن. فخطبها علي: أي عقب ذلك بلا مهلة كما تدل عليه الفاء، فعلم أنه لاحظ الصغر بالنسبة إليهما وما بقي ذلك بالنظر إلى علي فزوجها مه، ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يترك ذاك لما هو أعلى منه كما في تزوج عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم. 1297 - الترمذي (5/ 698) 50 - كتاب المناقب -61 - باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليهما وسلم.

عطف: فيما ورد بفاطمة وزوجها وابنيهما مشتركا

عطف: فيما ورد بفاطمة وزوجها وابنيهما مشتركاً 1298 - * روى أبو يعلي عن أم سلمة قالت جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متوركة الحسن والحسين، في يدها برمة للحسن فيها سخين حتى أتت بها النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضعتها قدامه قال: "أين أبو حسن" قالت: في البيت فدعاه فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ يأكلون. قالت أمُّ سلمة وما سامني النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما أكل طعاماً وأنا عنده إلا سامنيه قبل ذلك اليوم، تعني سامني دعاني إليه. فلما فرغ التف عليهم بثوبه ثم قال: "اللهم عادِ من عاداهم ووالِ من والاهم"؟ 1299 - * روى أحمد عن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وابنيه وفاطمة وقال: "أنا حربٌ لمن حاربكم وسِلمٌ لمن سالمكم". 1300 - * روى الطبراني عن علي أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بسط شملة؛ فجلس عليها هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمجامعه فعقد عليهم ثم قال: "اللهم ارض عنهم كما أنا عنهم راضٍ". 1301 - * روى الطبراني عن يعلي بن مرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحبه، والحسن والحسين سبطان من الأسباط" (1).

_ 1298 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 166) وقال: رواه أبو يعلي وإسناده جيد. متوركة: حاملة على وركها. برمة: قدر. سخين: طعام حار يتخذ مندقيق وسمن وقيل دقيق وثمر، أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة. 1299 - أحمد في مسنده (2/ 443) والمستدرك (3/ 149) وقال: حديث حسن وأقره الذهبي. 1300 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 169) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبيد بن طفيل وهو ثقة كنيته أبو سيدان. الشملة: كساء يتغطى به ويتلفف فيه. 1301 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 181) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

1302 - * روى الترمذي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعليّ وفاطمة كساء، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتي وخاصتي، أذهبْ عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" فقالت أمُّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: "إنك إلى خيرٍ". 1303 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يمر ببابِ فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية، قريباً من ستة أشهرٍ، يقول: الصلاة أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. 1304 - * روى مسلم عن عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرطٌ مُرَحَّلٌ، من شعرٍ أسود. فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسينُ فدخل معه. ثم جاءت فاطمة فأدخلها. ثم جاء عليٍّ فأدخله. ثم قال: "إنما يريد الله ليُذهب عنكمُ الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً". 1305 - * روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "لما أُنزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ...} الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: "اللهم هؤلاء أهلي". 1306 - * روى الترمذي عن حُذيفة قال: سألتني أمي متى عهْدُكَ (1): تعني بالنبي

_ 1302 - الترمذي (5/ 619) 50 - كتاب المناقب-61 - باب في فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليهما وسلم. الرجس: النجس، وكل ما يستقذر، وقيل: هو الإثم. 1303 - الترمذي (5/ 352) 48 - كتاب تفسير القرآن -34 - باب "ومن سورة الأحزاب" وقال: هذا حديث حسن غريب. 1304 - مسلم (4/ 1383) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 9 - باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. مرط مرحل: المرط كساء. جمعه مروط. المرحل هو الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل وقال الجوهري: هو إزار خز فيه علم. الرجس: قيل هو الشك. وقيل العذاب. وقيل الإثم، قال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من عمل. 1305 - الترمذي (5/ 235) 48 - كتاب تفسير القرآن -4 - باب ومن سورة آل عمران. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. 1306 - الترمذي (5/ 660) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن غريب.

صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: مالي به مُنْذُ كذا وكذا، فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأصلي معه المغرب، وأسأله أن يستغفر لي ولك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب فصلى حتى صلى العشاء ثم انفتل فتبعْتُه، فسمع صوتي، فقال: "من هذا؟ حذيفة؟ " قلت: نعم، قال: "ما حاجتُك غفر الله لك ولأمك" قال: "إن هذا ملك لم ينزل الأرض قطُّ قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يُسلم عليَّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". 1307 - * روى البزار والطبراني عن علي قال: لما ولِد الحسن سميته حرباً وكنت أحب أن أكتني بأبي حرب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحنكهُ فقال: "ما سميتُم ابني" فقلنا حرباً فقال: "هو الحسن" ثم وُلد الحسين فسميته حرباً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه فقال: "ما سميتُم ابني" فقلنا حرباً فقال: "هو الحسينُ". 1308 - * روى أحمد وأبو يعلي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طالحسنُ والحسينُ سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمةُ سيدةُ نسائهم، إلا ما كان لمريم بنت عمران". 1309 - * روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لقد قُدتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء، حتى أخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قُدامهُ، وهذا خلفه. 1310 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد

_ 1307 - البزار: كشف الأستار (2/ 416) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 52): رواه البزار والطبراني بنحوه بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح. 1308 - أحمد في مسنده (3/ 64) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 201) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي ورجالهما رجال الصحيح. 1309 - مسلم (4/ 1883) 44 - كتاب فضائل الصحابة-8 - باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما. 1310 - الترمذي (5/ 641) 50 - كتاب المناقب، باب: 21. وقال: هذا حديث حسن غريب.

حسن وحسين، وقال: "من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي درجتي يوم القيامة". وذكر رزين بعد قوله: "وأمهما"" "ومات متبعاً لسنتي غير مبتدع، كان معي في الجنة". 1311 - * روى النسائي والترمذي وأبو داود عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما السلام، وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق الله {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما". ولم يذكر أبو داود: ووضعهما بين يديه. وقال في آخره: "رأيت هذين فلم أصبر" ثم أخذ في الخطبة. ولم يذكر النسائي: ووضعهما بين يديه، أيضاً. 1312 - * روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعاً رفيقاً، فإذا عاد عادا فلما صلى جعل واحداً هاهنا وواحداً هاهنا فجئته فقلت يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما قال: "لا" فبرقت برقة فقال: "الحقا بأمكما" فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلاً. 1313 - * روى ابن ماجه دون أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1) "من أحبَّ

_ 1311 - النسائي (3/ 108) كتاب الجمعة باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة وقطع كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة. والترمذي (5/ 658) 50 - كتاب المناقب- 31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذاحديث حسن غريب. وأبو داود (1/ 290) كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة لأمر يحدث. 1312 - المستدرك (3/ 167) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1313 - ابن ماجه (1/ 51) المقدمة 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم)، قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني". 1314 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الحسنُ أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأٍ، والحسين أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك. 1315 - * روى النسائي والحاكم عن عبد الله بن شداد رحمه الله عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً - أو حُسيناً - فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاة سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليك، قال: "كل ذلك لم ينك، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أُعجله حتى يقضي حاجته". قال الذهبي: أين الفقيه المتنطع عن هذا الفعل. 1316 - * روى البخاري ومسلم عن البراء قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسنُ على عاتقه يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه". وفي رواية الترمذي (1): أنه أبصر حسناً وحسيناً فقال: "اللهم إني أحبهما فأحبهما". 1317 - * روى البزار عن سعد - يعني ابن أبي وقاص - قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1314 - الترمذي (5/ 660) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1315 - النسائي (2/ 229) كتاب الافتتاح - أبواب التطبيق - باب هل يجوز أن كون سجدة أطول من سجدة والحاكم (3/ 166) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ظهراني القوم والأمر، أي وسطه وفيما بينه. 1316 - البخاري (7/ 94) 62 - كتاب فضائل الصحابة-12 - باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. ومسلم (4/ 1883) 44 - كتاب فضائل الصحابة-8 - باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما. (1) الترمذي (5/ 661) 50 - كتاب المناقب- 31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1317 - البزار: كشف الأستار (3/ 325) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 181) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

والحسن والحسينُ يلعبان على بطنه، فقلت يا رسول الله أتحبهما فقال: "ومالي لا أحبهما وهما ريحانتاي". 1318 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ثم يقول: هكذا كان يعوذ إبراهيم ابنيه إسماعيل وإسحاق. 1319 - * روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الحسن والحسين: هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل يا رسول الله إنك تحبهما فقال: "نعم من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني". 1320 - * روى أحمد وابن ماجه عن يعلي بن مرة قال: جاء الحسنُ والحسين يسعيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه، وقال: "إن الولد مبخلةً مجبنةً". 1321 - * روى الطبراني عن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء الحسن والحسين أو أحدهما فركب على ظهره فكان إذا رفع رأسه قال بيده فأمسكه أو أمسكهما قال: "نعم المطيةُ مطيتُكما". 1322 - * روى الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشتملٌ على شيء، لا أدري ما هو؟ فلما فرغتُ من حاجتي قلتُ: ما هذا الذي أنت مشتملُ عليه؟ فكشفه (1)، فإذا حسنُ وحُسينٌ على

_ 1318 - المستدرك (3/ 167) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 1319 - المستدرك (3/ 166) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1320 - أحمد في مسنده (4/ 172) وابن ماجه (2/ 1309) 33 - كتاب الأدب-3 - باب بر الوالد والإحسان إلى البنات. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صيح ورجاله ثقات. 1321 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 182) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. 1322 - الترمذي (5/ 656) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن غريب. الطروق: إتيان المنزل ليلاً.

وركيه، فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبُّهما فأحبهما وأحِبَّ من يحبهما". 1323 - * روى الطبراني عن بريدة قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن الحسن والحسين. قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: تزوج عليّ فاطمة رضي الله عنها في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن والحسين، ويقال محسن، وولدت له أم كلثوم وزينب، وقد تزوج عمر بن الخطاب في أيام ولايته بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة وأكرمها إكراما زائداً؛ أصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها إلأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب، وقد كان عبد الله بن جعفر تزوج بأختها زينب بنت علي وماتت عنده، وتوفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر على أشهر الأقوال، وهذا الثابت عن عائشة في الصحيح، وقاله الزهري أيضاً: وأبو جعفر الباقر. أهـ. 1324 - *روى الطبراني عن عائشة قالت: توفيت فاطمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر ودفنها عليُّ بن أبي طالب ليلاً. 1325 - * روى الطبراني عن يزيد بن الأصم قال: خرجت مع الحسن وجارية تحت شيئاً من حناء عن أظافره فجاءته إضبارةُ من كتب فقال: يا جارية هاتي المخضب فصب فيه ماء وألقى الكتب في الماء يفتح منها شيئاً ولم ينظر إليه فقلت: يا أبا محمد ممن هذ الكتب؟ قال من أهل العراق، من قوم لا يرجعون إلى حق ولا يقصرون عن باطل أما إني لست أخشاهم على نفسي ولكني أخشاهم على ذلك، وأشار إلى الحسين (1).

_ 1323 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 59) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. 1324 - المعجم الكبير (23/ 398) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 211) رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح. 1325 - المعجم الكبير: (3/ 70). مجمع الزوائد: (6/ 243) وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن الحكم بن أبي زياد، وهو ثقة. وقال ابن حجر عنه: صدوق. إضبارة: حزمة. المخضب: الوعاء.

أحفاده عليه الصلاة والسلام

أحفاده عليه الصلاة والسلام 1 - الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء عنه: الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف، الإمام السيد، ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه، وسيدُ شباب أهل الجنة، أبو محمد القرشي الهاشمي المدني الشهيد. مولده في شعبان سنة ثلاث من الهجرة. وقيل: في نصف رمضانها، وعقِّ عنه جده بكبش. وحفظ عن جده أحاديث، وعن أبيه، وأمه. حدث عنه: ابنه الحسن بن الحسن، وسُويد بن غفلة، وأبو الحوراء السعدي، والشعبي، وهبيرة بن يريم، وأصبغ بن نُباتة، والمسيب بن نجبة. وكان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان هذا الإمام سيداً، وسيماً، جميلاً، عاقلاً، رزيناً، جواداً، ممدحاً، خيراً، ديناً، ورعاً، متحشماً، كبير الشأن. وكان منكاحاً، مطلاقاً، تزوج نحواً من سبعين امرأة، وقلما كان يُفارقه أربعُ ضرائر. عن جعفر الصادق؛ أن علياً قال: يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن، فإنه مِطلاق، فقال رجل: والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق. قال ابن سيرين: تزوج الحسن امرأة، فأرسل إليها بمئة جارية، مع كل جارية ألف درهمن وكان يعطي الرجل الواحد مئة ألف. وقيل: إنه حج خمس عشرة مرة، وحج كثيراً منها ماشياً من المدينة إلى مكة، ونجائبه تُقاد معه. زهير بن معاوية: حدثنا عُبيد الله بن الوليد، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير: قال ابن عباس: ما ندمتُ على شيء فاتني في شبابي إلا أني لم أحد ماشياً، ولقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقادُ معه. ولقد قاسم الله ماله ثلاث

مرات، حتى إنه يعطي الخف ويمسكُ النعل. روى نحواً منه محمدُ بن سعد، حدثنا علي بن محمد، حدثنا خلاد بن عبيد، عن ابن جُدعان؛ لكن قال: خمس عشرة مرة. روى مغيرة بن مِقسم، عن أم موسى، كان الحسنُ بن عليِّ إذا أوى إلى فراشه قرأ الكهف. قال سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسن بن علي رجلاً إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهمن فانصرف، فبعث بها إليه. رجاء: عن الحسن، أنه كان مبادراص إلى نُصرة عثمان، كثير الذبِّ عنه، بقي في الخلافة بعد أبيه سبعة أشهر. إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن عليّ أنه خطب، وقال: إن الحسن قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمهُ بينكم، فحضر الناس. فقام الحسن، فقال: إنما جمعتُه للفقراء. فاقم نصف النسا. القاسم بن الفضل الحُداني، حدثنا أبو هارون قال: انطلقنا حُجاجاً، فدخلنا المدينة، فدخلنا على الحسن، فحدثنا بمسيرنا وحالنا، فلما خرجنا، بعث إلى كل رجل منا بأربع مئة، فرجعنا، فأخبرناه بيسارنا، فقال: لا تردوا علي معروفي، فلو كنت على غير هذه الحال، كان هذا لكم يسيراً، أما إني مزودُكم: إن الله يُباهي ملائكته بعباده يوم عرفة. قال المدائنيُّ: أحصن الحسن تسعين امرأة. جعفر بن محمد، عن أبيه؛ قال عليُّ: يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن، فإنه رجل مطلاق، قد خشيت أن يورثنا عداوة في القبائل. شَريك: عن عاصم، عن أبي رزين، قال: خطبنا الحسنُ بن عليّ يوم جمعة، فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها. منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، قال: كان الحسنُ بن عليٍّ لا يدعو أحداً إلى

الطعام، يقول: هو أهون من أن يدعي إليه أحد. (كان يرى الطعام أهون من أن يُحلف عليه، أي كان لا يحلف على من شبع من طعام أن يزيد). قال المبرِّدُ: قيل للحسن بن عليٍّ: إن أبا ذر يقول: الفقر أحبُّ إليّ من الغنى، والسقم أحب إليّ من الصحة - فقال: رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول: من اتكل على حُسن اختيار الله له، لم يتمن شيئاً. وهذا حدُّ الوقوف على الرضى بما تصرف به القضاء. عن الحرمازي: خطب الحسنُ بن علي بالكوفة، فقال: إن الحِلم زينة، والوقار مروءة، والعجلة سفه، والسفه ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالطة الفُساق ريبة. زهير: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن الأصم: قلت للحسن: إن الشيعة تزعُم أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله. قال جرير بن حازم: قُتل عليّ، فبايع أهل الكوفة الحسن، وأحبوه أشد من حُبِّ أبيه. وقال الكلبي: بويع الحسن، فوليها سبعة أشهر وأحد عشر يوماً، ثم سلم الأمر إلى معاوية. وقال عوانة بن الحكم: سار الحسنُ حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد (بن عبادة) على المقدمات وهم اثنا عشر ألفاً، فوقع الصائح: قُتِل قيس، فانتهب الناس سُرادق الحسن، ووثب عليه رجل من الخوارج، فطعنه بالخنجر، فوثب الناسُ على ذلك، فقتلوه، فكتب الحسنُ إلى معاوية في الصلح. ابن سعد: حدثنا محمد بن عبيد، عن مجالد، عن الشعبي، وعن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه: ان اله العراق لما بايعوا الحسن، قالوا له: سِرْ إلى هؤلاء الذين عصوا الله ورسوله وارتكبوا العظائم، فسار إلى أهل الشام، وأقبل معاويةُ حتى نزل جسر

منيج، فبينا الحسن بالمدائن، إذ نادى مناد في عسكره: ألا إن قيس بن سعد قد قُتل، فشد الناس على حُجرة الحسن، فنهبوها حتى انتهبت بسطه، وأخذوا رداءه، وطعنه رجل من بني أسد في ظهره بخنجرٍ مسموم في أليته، فتحول، ونزل قصر كسرى الأبيض، وقال: عليكم لعنة الله من أهل قرية، وقدعلمت أن لا خير فيكم، قتلتمُ أبي بالأمس، واليوم تفعلون بي هذا. ثم كاتب معاوية في الصلح على أن يسلم له ثلاث خصال: يُسلم له بيت المال فيقضي منه دينه ومواعديه ويتحمل منه هو وآله، ولا يُسبُّ عليٍّ وهو يسمع، وأن يُحمل إليه خراج فسا ودرابجرْد كل سنة إلى المدينة، فأجابه معاوية، وأعطاه ما سأل. ويقال: بل أرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل إلى معاوية حتى أخذ له ما سأل، فكتب إليه الحسنُ: أنْ أقبِلْ، فأقبل من جسر منيج إلى مسكن في خمسة أيام، فسلم إليه الحسن الأمر، وبايعه حتى قدما الكوفة. ووفى معاوية للحسن ببيت المال، وكان فيه يومئذ سبعةُ آلاف درهم؛ فاحتملها الحسن، وتجهز هو وأهل بيته إلى المدينة، وكف معاوية عن سب عليٍّ والحسن يسمع؛ وأجرى معاوية على الحسن كل سنةٍ ألف ألف درهم، وعاش الحسنُ بعد ذلك عشر سنين. وأخبرنا عبد الله بن بكر، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، أن معاوية كان يعلم أن الحسن أكرهُ الناس للفتنة، فلما توفي علي بعث إلى الحسن، فأصلح ما بينه وبينه سراً، وأعطاه معاوية عهداً إن حدث به حدث والحسن حيٍّ ليسمينه وليستخلفنه، وليجعلن الأمر إليه، ف لما توثق منه الحسن، قال ابن جعفر: والله إني لجالس عند الحسن، إذ أخذتُ لأقوم، فجذب بثوبي، وقال: يا هناه يا هذا اجلس! فجلستُ، فقال: إني قد رأيت رأياً، وإني أحب أن تتابعني عليه! قلت: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أعمد إلى المدينة، فأنزلها، وأُخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسُفكت الدماء، وقطعت الأرحام والسبل، وعُطلت الفروج (أي ترك الناس الزواج فأصبحت الفروج لا تلد). قال ابن جعفر: جزاك الله خيراً عن أمة محمدٍ، فأنا معك. فقال: ادعُ لي الحسين! فأتاه، فقال: أي أخي! قد رأيت كيت وكيت فقال: أُعيذك بالله أن تُكذب علياً،

وتصدق معاوية. فقال الحسنُ: والله ما أردتُ أمراً قط إلا خالفتني، والله لقد هممتُ أن أقذفك في بيت، فأطينه عليك، حتى أقضي أمري. فلما رأى الحسينُ غضبه، قال: أنت أكبرُ ولد عليٍّ، وأنت خليفته، وأمرنا لأمرك تبع. فقام الحسنُ، فقال: أيها الناس! إني كنت أكر الناس لأول هذا الأمر، وأنا أصلحت آخره، إلى أن قال: إن الله قد ولاك يا معاوية هذا الحديث لخير يعلمه عندك، أو لشر يعلمه فيك {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (1) ثم نزل. (قول الحسين: أعيذك بالله أن تكذب علياً وتصدق معاويةن أي إنك إن سلمت لمعاوية جعلت والدك كاذباً في دعاوه أن على الحق وجعلت معاوية صادقاً في دعواه أنه على الحق). قال أبو جعفر الباقر: كان الحسنُ والحسينُ لاي ريان أمهاتِ المؤمنين. فقال ابن عباس: إن رؤيتهن حلال لهما. قال الذهبي: الحلُّ متيقن. ابن عون، عن محمد: قال الحسن: الطعام أدق (أهون) من أن نُقسم عليه. وقال قرةُ: أكلتُ في بيت ابن سيرين، فلما رفعتُ يدي، قال: قال الحسن بن علي: إن الطعام أهونُ من أن يُقسم عليه. روى جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يقبلان جوائز معاوية. أبو نعيم: حدثنا مسافر الجصاص، عن رُزيق بن سوار، قال: كان بين الحسن ومروان كلام، فأغلظ مروان له، وحسنٌ ساكت، فامتخط مروان بيمينه، فقال الحسن: ويحك! أما علمت أن اليمين للوجه والشمال للفرج؟ أُفٍّ لك! فسكت مروان. وعن محمد بن إبراهيم التيمي: أن عمر ألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بدر لقرابتهما برسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) الأنبياء: 111.

شيبان: عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرب؛ سمع الحسن يقول: والله لا أبايعُكم إلا على ما أقول لكم. قالوا: ما هو؟ قال: تُسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربتُ. ابن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الحُبابَ، عن حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة؛ أن الحسن دخل على معاوية، فقال: أي معاوية لأجيزنك بجائزة لم أجز بها أحداً، فأجازه بأرب مئة ألف، أو أربع مئة ألف ألف، فقبلها (1). ومن "الاستيعاب" لأبي عمر، قال: سار الحسنُ إلى معاويةن وسار معاوية إليه، وعلم أنه لا تغلب طائفةٌ الأخرى حتى تذهب أكثرها، فبعث إلى معاوية أنه يصير الأمر إليك بشرط أن لا تطلب أحداً بشيء كان في أيام أبي، فأجابه، وكاد يطير فرحاً، إلا أنه قال: أما عشرةُ أنفس، فلا، فراجعه الحسنُ فيهم، فكتب إليه: إني قد آليتُ متى ظفرتُ بقيس ابن سعد أن أقطع لسانه ويده. فقال: لا أبايعك. فبعث إليه معاوية برق أبيض، وقال: اكتب ماش ئت فيه وأنا التزمه، فاصطلحا على ذلك. واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كله معاوية. فقال له عمرو: إنه قد انفل حدُّهم، وانكسرت شوكتهم. قال: أما علمت أنه قد بايع علياً أربعون ألفاً على الموت، فوالله لا يقتلون حتى يُقتل أعدادهم منا، وما والله في العيش خيرٌ بعد ذلك. قال أبو عمر: وسلم في نصف جمادى الأول الأمر إلى معاوية، سنة إحدى وأربعين (2). ابن عُلية: عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: دخلنا على الحسن بن عليٍّ نعوده، فقال لصاحبي: يا فلان سلني. ثم قام من عندنا، فدخل كنيفاً، ثم خرج، فقال: إني والله قد لفظتُ طائفةً من كبدي قلبتُها بعود، وإني قد سُقيتُ السُّم مراراً، فلم أسقَ مثل هذا، فلما كان الغد أتيته وهو يسوق (أي وهو في النزع)، فجاء الحسينُ،

_ (1) إسناده حسن. (2) أي بعد البيعة لأبي بكر رضي الله عنه بثلاثي سنة وشهرين، وهذا تصديق الحديث الصحيح: "الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون مُلكاً عضوضاً".

فقال: أي أخي أنبئني من سقاك؟ قال: لِمَ! لتقتله؟ قال: نعم. قال: ما أنا مُحدثُك شيئاً، إنْ يكن صاحبي الذي أظن، فالله أشد نقمة، وإلا فوالله لا يُقتل بي بريء. ابن عيينة: عن رقبة بن مصقلة. لما احتضر الحسن بن علي، قال: أخرجوا فراشي إلى الصحن؛ فأخرجوه، فقال: اللهم إني أحتسبُ نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ. أبو عوانة: عن حصين، عن أبي حازم، قال: لما حُضر الحسن، قال للحسين: ادفني عند أبي - يعني النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تخافوا الدماء، فادفني في مقابر المسلمين، فلما قُبضَ، تسلح الحسينُ، وجمع مواليه، فقال له أبو هريرة: أنشُدك الله ووصية أخيك، فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، فدفنه بالبقيع، فقال أبو هريرة: أرأيتم لو جيء بابن موسى ليُدفن مع أبيه، فمُنع، أكانوا قد ظلموه؟ فقالوا: نعم. قال: فهذا ابن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جيء ليُدفن مع أبيه. قال جويرية بن أسماء: لما أخرجوا جنازة الحسن، حمل مروان سريره، فقال الحسين: تحملُ سريره! أما والله لقد كنت تُجرعه العيظ. قال: كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمُه الجبال. ابن سإحاق: حدثني مُساور السعدي، قال: رأيتُ أبا هريرة قائماً على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات الحسن؛ يبكي، ويُنادي بأعلى صوته: يا أيها الناس! مات اليوم حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابكوا. قال جعفر الصادق: عاش الحسنُ سبعاً وأربعين سنة. وروينا من وجوه: أن الحسن لما احتُضِر، قال للحسين: يا أخي: إن أباك لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، استشرف لهذا الأمر، فصرفه الله عنه، فلما احتضر أبو بكر، تشرف أيضاً لها، فصُرفت عنه إلى عمر. فلما احتضر عمر، جعلها شورى، أبى أحدُهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصُرفت عنه إلى عثمان، فلما قُتل عثمان، بويع، ثم نوزع حتى جَرْد السيف وطلبها، فما صفا له شيء منها، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا - أهل البيت - النبوة والخلافة؛ فلا أعرفن ما استخفك سُفهاء أهل الكوفة، فأخرجوك. وقد كنتُ طلبت إلى

عائشة أن أُدفن في حجرتها؛ فقالت: نعم. وإني لا أدري لعل ذلك كان منها حياء، فإذا ما متُّ، فاطلبْ ذلك إلأيها، وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا، فادفني في البقيع. فلما مات قالت عائشة: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت. والله لا يُدفنُ هناك أبداً؛ منعوا عثمان من دفنه في المقبرة، ويريدون دفن حسنٍ في بيت عائشة؛ فلبس الحسينُ ومن معه السلاح، واستلام مروان أيضاً في الحديد، ثم قام في إطفاء الفتنة أبو هريرة. فبنو الحسن هم: الحسن، وزيدٌ، وطلحة، والقاسم، وأبو بكر، وعبد الله، فقتلوا بكربلاء مع عمهم الشهيد. وعمرو، وعبد الرحمن، والحسين، ومحمدُ، ويعقوب، وإسماعيل، فهؤلاء الذكور من أولاد السيد الحسن. ولم يُعقب منهم سوى الرجلين الأولين؛ الحسن وزيد. فلحسنٍ خمسة أولاد أعقبوا، ولزيدٍ ابن وهو الحسن بن زيد، فلا عقب له إلا منه، ولي إمرة المدينة، وهو والد الست نفيسة. والقاسم، وإسماعيل، وعبد الله، وإبراهيم، وزيد، وإسحاق، وعلي رضي الله عنهم. اهـ من السير. 1326 - * روى أبو داود والترمذي عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذَّن في أُذن الحسن بن عليٍّ، حين ولدته فاطمة بالصلاة. وفي سنده عاصم بن عبد الله، وهو ضعيف، لكن يشهد له حديث ابن عباس عند البيهقي في الشعب، فيتقوى به، ولذا صححه الترمذي. قال ابن القيم: وسر التأذين - والله أعلم - أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها (1)،

_ (1) استلام: ليس لأمته. 1326 - أبو داود (4/ 328) كتاب الأدب باب في الصبي يولد فيؤذن في أذنه. والترمذي (4/ 97) 30 - كتاب الأضاحي -17 - باب الأذان في أذن المولود، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها فيسمع شيطانه ما يصفعه ويغيظه أول أوقات تعلقه به، وفيه معنى آخر، وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام، وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها، ولغير ذلك من الحكم. 1327 - * روى أحمد عن أبي رافع، قال: لما وُلدت فاطمة حسناً، قالت: يا رسول الله! ألا أعقُّ عن ابني بدم؟ قال: "لا، ولكن احلقي رأسه، وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين" ففعلتْ. 1328 - * روى أحمد عن معاوية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه أوقال شفته يعني الحسن بن علي وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1329 - * روى البخاري عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء فاطمة فقال: "أثم لكع، أثم لكعُ؟ " فحبسته شيئاً، فظننت أنها تُلبسه سخاباً أو تغسله، فجاء يشتد حتى عانقهُ وقبله قوال: طاللهم أحبه وأحب من يحبه" قال سفيان قال عبيد الله أخبرني أنه رأى نافع بن جبير أوتر بركعة (1).

_ 1327 - أحمد في مسنده (6/ 310) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 57): أخرجه أحمد وهو حديث حسن. 1328 - أحمد في مسنده (4/ 93) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 177): أخرجه أحمد وإسناده صحيح. 1329 - البخاري (4/ 339) 34 - كتاب البيوع 49 - باب ما ذكر في الأسواق. طائفة من النهار: قطعة منه. خباء: أي بيتها. لكع: المراد هنا الصغير يقال للصغير: لكع، فإن أطلق على الكبير، أريد به الصغير العلم, سخاباً: جمعه سخب. وهو قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب. يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيانوالجواري. وقيل: هو خيط فيه خرز. سمي سخاباً لصوت خرزه عند حركته. من السخب، وهو اختلاط الأصوات.

وفي رواية (1) عن أبي هريرة. قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من النهار. لا يكلمني ولا أكلمه. حتى جاء سوق بني قينقاع. ثم انصرف؛ حتى أتى خباء فاطمة فقال: "أثم لكعُ؟ أثم لكعُ؟ يعني حسناً. فظننا أنه إنما تحبسهُ أمهُ لأن تُغسله وتُلبسه سخاباً. فلم يلبثْ أن جاء يسعى. حتى اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! إني أحبه، فأحبهُ وأحبب من يحبه". 1330 - * روى الحاكم عن عروة بن الزبير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَبَّل حسناً وضمه إليه وجعل يشمه، وعنده رجل من الأنصار، فقال الأنصاري: إن لي ابناً قد بلغ ما قبلتُه قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أرأيت إن كان الله نزع الرحمة من قلبك فما ذنبي". 1331 - * روى أبو يعلي عن علي بن أبي طالب قال: خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، قال فباع علي رضي الله عنه درعاً له وبعض ما باع من متاعه فبلغ أربعمائة وثمانين درهماً. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي نجعل ثلثيه في الطيب وثلثاً في الثياب، ومجِّ في جرةٍ من ماءٍ فأمرهم أن يغتسلوا به. قال: وأمرها أن لا تسبقه برضاع ولدها قال فسبقته رضاع الحسين وأما الحسن فإنه صلى الله عليه وسلم وضع في فيه شيئاً لا ندري ما هو فكان أعلم الرجلين. 1332 - * روى البخاري عن الحسن البصري رحمه الله قال: سمعتُ أبا بكرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسنُ إلى جنبه، وهو ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: "ابني هذا سيدٌ ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين من المسلمين". وفي رواية الترمذي (2) قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فقال: "إن ابني هذا سيدٌ،

_ (1) مسلم (4/ 1882) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 8 - باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما. 1330 - المستدرك (3/ 170) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 1331 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 175) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. 1332 - البخاري (7/ 94) 92 - كتاب فضائل الصحابة-22 - باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. (2) الترمذي (5/ 658) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

يُصلح الله على يديه فئتين عظيمتين". وفي رواية أبي (1) داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليٍّ: "إن ابني هذا سيدٌ، وإني أرجو أن يُصلح الله به بين فئتين من أمتي". وفي رواية: "ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين". 1333 - * روى الترمذي عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحسنُ بن عليٍّ يشبهه. 1334 - * روى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صلى أبوب كر العصر، ثم خرج يمشي ومعه عليّ، فرأى الحسن يلعبُ مع الصبيان فحمله على عاتقه، وقال: بأبي، شبيه بالنبي، ليس شبيهاً بعلي، وعليٌّ يضحك. 1335 - * روى أحمد والترمذي عن أبي الحوراء السعدي: قال قلت للحسن بن علي ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذكر أني أخذتُ تمرة من تمر الصدقة فألقيتها في فيّ فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابها فألقاها في التمر فقال له رجل ما عليك لو أكل هذه التمرة قال: "إنا لا نأكل الصدقة" قال وكان يقول: "دعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة" قال وكان يعلمنا هذا الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنه لا يذلُ من واليت" ربما قال: "تباركت ربنا وتعاليت". 1336 - * روى الطبراني عن أبي جميلة أن الحسن بن علي حين قُتل عليٍّ استُخِلف فبينا

_ (1) أبو داود (4/ 216) كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة. 1333 - الترمذي (5/ 659) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1334 - البخاري (7/ 95) 62 - كتاب فضائل الصحابة-22 - باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. 1335 - أحمد في مسنده (1/ 200). والترمذي (4/ 668) 38 - كتاب صفة القيامة -60 - باب ... 1336 - المعجم الكبير (3/ 93) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 172): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

هو يصلي بالناس إذ وثب إليه رجل فطعنه بخنجر في ورُكه فتمرض منها أشهراً ثم قام على المنبر يخطب فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أُمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فما زال يومئذ يتكلمُ حتى ما نرى في المسج إلا باكياً. ذكر الذهبي (1) في السير عن هوذة: عن عوفٍ، عن محمدٍ، قال: لما ورد معاوية الكوفة واجتمع عليه النسا، قال له عمرو بن العاص: إن الحسن مرتفعٌ في الأنفس لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه حديث السن عييّ، فمره فليخطبْ، فإنه سيعيي، فيسقطُ من أنفس الناس، فأبى فلم يزالوا به حتى أمره، فقام على المنبر دون معاوية: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: لو ابتغيتم بين جابَلْقَ وجابَرْس (أي المشرق والمغرب) رجلاً جدُّه نبيٌّ غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا معاوية بيعتنا، ورأينا أن حقْنَ الدماء خيرٌ {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، وأشار بيده إلى معاوية. فغضب معاويةُ، فخطب بعده خطبة عييةً فاحشةً، ثم نزل. وقال: ما أردت بقولك: فتنةً لكم ومتاع؟ قال: أردتُ بها ما أراد الله بها. 1337 - * روى الحاكم عن جبير بن نُفير قال: قلتُ للحسن: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة. فقال: قد كانت جماجمُ العرب في يدي، يُسالمون من سالمتُ، ويحاربون من حاربت، تركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقني دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أبتزها بأتياسِ الحجاز؟ 1338 - * روى البزار عن رجاء بن ربيعة قال كنت جالساً بالمدينة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في حلقةٍ فيها أبو سعيد وعبد الله بن عمرو، فمر الحسنُ بن علي فسلم فرد عليه القومُ وسكت عبد الله بن عمرو، ثم اتبعه فقال: وعليك السلام ورحمة الله. ثم قال: هذا أحبُّ

_ (1) سير أعلام النبلاء (3/ 373) وإسناده صحيح. 1337 - المستدرك (3/ 170) وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 1338 - كشف الأستار (3/ 228). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 177): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير هاشم بن البريد وهو ثقة.

أهل الأرض إلى أهل السماء. والله ما كلمته منذ ليالِ صفين. فقال أبو سعيد: ألا تنطلق إليه فتعذر إلأيه؟ قال: نعم، قال: فقام فدخل أبو سعيد فاستأذن فأذن له، ثم استأذن لعبد الله بن عمر فدخل، فقال أبو سعيد لعبد الله بن عمرو: حدثنا بالذي حدثتنا به حيث مر الحسن، فقال: نعم، أنا أحدثكم إنه أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء. قال: فقال له الحسن: إذ علمت أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلم قاتلتنا أو كثرت يوم صفين؟ قال: أما إني والله ما كثرت سواداً ولا ضربت معهم بسيف ولكني حضرت مع أبي أو كلمة نحوها. قال: أما علمت أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله؟ قال: بلى ولكني كنت أسردُ الصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكاني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل، قال "صم وأفطر وصل ونم، فإني أنا أًلي وأنام وأصوم وأفطر قال لي: يا عبد الله اطع أباك" فخرج يوم صفين وخرجت معه. 1339 - * روى الطبراني عن المقبري قال: كان مع أبي هريرة، فجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما فسلم فرد عليه القوم ومعنا أبو هريرة لا يعلم، فقيل، له: هذا حسن بن علي يسلم فلحقه فقال: وعليك يا سييد فقيل له: تقول: يا سيدي؟ فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه سيد. 1340 - * روى الطبراني عن ابي الطفيل قال: خطبنا الحسنُ بن علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه وذكر أمير المؤمنين علياً رضي الله عنها خاتم الأوصياء ووصىِّ الأنبياء وأمين الصديقين والشهداء ثم قال: يا أيها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الراية فيقاتل جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عليه (1)، لقد قبضه الله في الليلة التي قبض فيها وصيّ

_ 1339 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 178) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1340 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 146) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار إلا أنه قال ليلة سبعٍ وعشرين من رمضان. وأبو يعلي باختصار والبزار بنحوه إلا أنه قال: ويعطيه الراية فإذا حُم الوغى فقاتل قائل جبريل عن يمينه. وقال: وكانت إحدى وعشرين من رمضان. ورواه أحمد باختصار كثير وإسناد أحمد وبعض طرق البزار والطبراني في الكبير حِسان.

موسى، وعُرج بروحه في الليلة التي عُرج فيها بروح عيسى بن مريم وفي الليلة التي أنزل الله عز وجل فيها الفرقان، والله ما ترك ذهباً ولا فضة وما في بيت ماله إلا سبعمائة وخمسون درهماً فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً لأم كلثومٍ، ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد صلى الل عليه وسلم ثم تلاه هذ الآية قول يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ثم أخذ في كتاب الله، ثم قال: أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، وأنا ابن النبي، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا ابن الذي أرسل رحمة للعالمين، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عز وجل مودتهم وولايتهم فقال فيما أنزل على محمد {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وفي رواية وفيها قُتل يوشعُ بن نونٍ فتى موسى. 1341 - * روى أحمد والطبراني عن عمير بن إسحاق، قال: رأيتُ أبا هريرة لقي الحسن بن علي فقال له: اكشف عن بطنك حيث رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلُ منه فكشف عن بطنه فقبله، فقبل سُرَّته. 1342 - * روى البخاري عن الحسن البصري رحمه الله قال: استقبل والله الحسنُ بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إني لأرى كتائب لا تُولي حتى تقتُل أقرانها، فقال له معاوية - وكان والله خير الرجلين-: أي عمرو: أرأيت إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ منْ لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرحمن بن سمُرة (1)، وعبد

_ 1341 - أحمد في مسنده (3/ 427). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 177). وقال: رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال: فكشف عن بطنه فقبله وفي رواية سرته، ورجالهما رجال الصحيح غير عمير بن إسحاق وهو ثقة. 1342 - البخاري (5/ 306، 307) 52 - كتاب الصلح-9 - باب قول النبي صلى الله لعيه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين".بكتائب: الكتائب: جمع كتيبة، وهي القطعة المجتمعة من الجيش. أقرانها: الأقران: جمع قرن - بكسر القاف - وهو المثل والنظير في الحرب. بضيعتهم: ضيعة الرجل: ما يكون معاشه من صناعة وغيرها من غلةٍ وتجارة ونحوها.

الله بن عامر، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه، فدخلا عليه، وتكلما، وقالا له، وطلبا إليه، فقال لهم الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرضُ عليك كذا وكذا، ويطلبُ إليك ويسألك؟ قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحنُ لك به، فصالحهُ فقال الحسن: لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن عليٍّ إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". تصويبات: 1 - لا شك أن الحسن رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الخامس وتنازله عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه وهو الأحق منه بالخلافة يرشدنا إلى أنه يجوز لولي الأمر أن يتنازل عن إمرته إذا وجد أن في ذلك مصلحة للمسلمين، وهكذا قدمت لنا الخلافة الراشدة نموذجين، نموذجاً على الاستمرار بالتمسك بالحق وعدم الرضوخ لمطالب الثائرين كما فعل عثمان رضي الله عنه، ونموذجاً على التنازل حقناص لدماء المسلمين، وكل ذلك سنة لخليفة راشد. 2 - لقد كان الحسن رضي الله عنه على رأس الأمر وعنده كتائب كأمثال الجبال {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} فلم يكن تنازله لمعاوية رضي الله عنه عن تقية ولكن كان عن قناعة وروية ومصلحة وهذا حجةً على الشيعة في أكثر من مقام، وبالنسبة للمستقبل فإنه يفتح للشيعة الباب أن يخضعوا لأي خليفة فضلاً عن خليفة يختاره المسلمون. * * *

_ عاثت: العيث: الفساد.

2 - الحسين الشهيد بن علي رضي الله عنهما

2 - الحسين الشهيد بن علي رضي الله عنهما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام الشريفُ الكامل، سِبطُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، ومحبوبُه. أبو عبد الله الحسين بن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف ابن قصي القرشي الهاشمي. حدث عن جده، وأبويه، وصهره عمر، وطائفة. حدث عنه: والداه عليٌّ وفاطمةُ، وعبيد بن حنين، وهمام الفرزدق، وعكرمة، والشعبي، وطلحة العقيلي، وابن أخيه زيد بن الحسن، وحفيده محمد بن علي الباقر، ولم يدركه، وبنته سُكينة، وآخرون. قال الزبير: مولده في خامس شعبان سنة أربع من الهجرة. قال جعفر الصادق: بين الحسن والحسين في الحمل طهر واحد. حماد بن زيد: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبيد بن حُنين، عن الحسين، قال: صعدتُ المنبر إلى عمر، فقلت: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك. فقال: إن أبي لم يكن له منبر، فأقعدني معه، فلما نزل، قال: أي بني من علمك هذا؟ قلت: ما علمنيه أحد. قال: أي بني! وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم، ووضع يده على رأسه، وقال: أي بني! لو جعلت تأتينا وتغشانا. إسناده صحيح. روى جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عمر جعل للحسين مثل عطاء عليٍّ، خمسة آلاف. حماد بن زيد: عن معمر، عن الزهري: أن عمر كسا أبناء الصحابة؛ ولم يكن في ذلك ما يصلح للحسن والحسين؛ فبعث إلى اليمن، فأُتي بكسوة لهما، فقال: الآن طابت نفسي. يونس بن أبي إسحاق: عن العَيْزار بن حُريث، قال: بينا عمرو بن العاص في ظل الكعبة، إذ رأى الحسين، فقال هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم.

وعن سعيد بن عمرو؛ أن الحسن قال للحُسين: وددتُ أن لي بعض شدة قلبك، فيقول الحسين: وأنا وددتُ أن لي بعض ما بُسط من لسانك. عن أبي المهزم، قال: كنا في جنازة، فأقبل أبو هريرة ينفُضُ بثوبه التراب عن قدم الحسين. بلغنا أن الحسين لم يعجبه ما عمل أخوه الحسنُ من تسليم الخلافة إلى معاوية، بل كان رأيه القتال، ولكنه كظم، وأطاع أخاه، وبايع. وكان يقبَلُ جوائز معاوية، ومعاوية يرى له، ويحترمه، ويُجله، فلما أن فعل معاوية ما فعل بعد وفاة السيد الحسن من العهد بالخلافة إلى ولده يزيد، تألم الحسين، وحق له، وامتنع هو ابن أبي بكر وابن الزبير من المبايعة، حتى قهرهم معاوية، وأخذ بيعتهم مكرهين، وغُلبوا، وعجزوا عن سلطان الوقت. فلما مات معاوية، تسلم الخلافة يزيدُ، وبايعه أكثر الناس، ولم يبايع له ابن الزبير ولا الحسين، وأنفوا من ذلك، ورام كل واحد منهما الأمر لنفسه، وسارا في الليل من المدينة. قالوا: ولما حُضر معاوية، دعا يزيد، فأوصاه، وقال: انظر حُسيناً، فإنه أحبُّ الناس إلى الناس، فصِلْ رحمه، وارفق به، فإن يك منه شيء، فسيكفيك الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه. ومات معاوية في نصف رجب، وبايع الناس يزيد، فكتب إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: أن ادعُ الناس وبايعهم، وابدأ بالوجوه، وارفقب الحسين، فبعث إلى الحسين وابن الزبير في الليل، ودعاهما إلى بيعة يزيد، فقالا: نُصبح وننظر فيما يعمل الناس. ووثبا، فخرجا. وقد كان الوليد أغلظ للحسين، فشتمه حسين، وأخذ بعمامته، فنزعها، فقال الوليد: إن هجنا بهذا إلا أسداً. فقال له مروان أو غيره: اقتله. قال: إن ذاك لدم مصون. وخر جالحسين وابن الزبير لوقتهما إلى مكة، ونزل الحسين بمكة دار العباس، ولزم

عبد الله الحِجر، ولبس المعافريِّ (1) وجعل يُحرض على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين، ويشير عليه أن يقدم العراقن ويقول: هم شيعتكم، وكان ابن عباس ينهاه. وقال له عبد الله بن مطيع: فداك أبي وأمي، متعنا بنفسك ولا تسر، فوالله لئن قُتلت ليتخذونا خولاً وعبيداً. ولقيهما عب الله بن عمر، وعبد الله بن عياش بنأبي ربيعة منصرفين من العمرة، فقال لهما: أذكركما الله إلا رجعتما، فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشاذ، وإن افترق عليه كان الذي تريدان. وقال ابن عمر للحسين: لا تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها، ثم اعتنقه، وبكى وودعه. فكان ابن عمر يقول: غلبنا بخروجه، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرك. وقال له ابن عباس: أين تريد يا ابن فاطمة؟ قال: العراق وشيعتي قال: إني كاره لوجهك هذا، تخرج إلى قومٍ قتلوا أباك ... إلى أن قال: وقال له أبو سعيد: اتق الله، والزم بيتك. وكلمه جابر، وأبو واقد الليثي. وقال ابن المسيب: لو أنه لم يخرج لكان خيراً له. قال: وكتبتْ إليه عمرةُ تعظم ما يريد أن يصنع، وتُخبره أنه إنما يساقُ إلى مصرعه، وتقول: حدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُقتل حسين بأرض بابل" فلما قرأ كتابها، قال: فلابد إذاً من مصرعي. وكتب إليه عبد الله بن جعفر يُحذره ويناشده الله. فكتب إليه: إني رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له.

_ (1) المعافري: بُرْدَ يمني.

وأبي الحسين على كل من أشار عليه إلا المسير إلى العراق. وقال له ابن عباس: إني لأظنك ستقتل غداً بين نسائك وبناتك كما قُتل عثمان، وإني لأخاف أن تكون الذي يُقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: أبا العباس! إنك شيخ قد كبرت. فقال: لولا أن يُزري بي وبك، لنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلمُ أنك تقيم، إذاً لفعلت، ثم بكى، وقال: أقررت عين ابن الزبير. ثم قال بعد لابن الزبير: قد أتى ما أحببت؛ أبو عبد الله يخرج إلى العراق، ويتركك والحجاز: يا لك من قنبرة (1) بمعمر ... خلا لك البر فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري وقال أبو بكر بن عياش: كتب الأحنف إلى الحسين: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (2). عوانة بن الحكم: عن لبطة بن الفرزدق، عن أبيه قال: لقيتُ الحسين، فقلت: القلوبُ معك، والسيفو مع بني أمية. ابن عُيينة: عن لبطة، عن أبيه قال: لقيني الحسين وهو خارج من مكة في جماعة عليهم يلامق الديباج؛ فقال: ما وراءك؟ قال: وكان في لسانه ثِقل من برسام (3) عرض له. وقيل: كان مع الحسين وجماعته اثنان وثلاثون فرساً. وروى ابنُ سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسينُ طريق العُذيب، حتى نزل قصر أبي مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيتُ كأن فارساً يسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم. ثم نزل كربلاء، فسار إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص

_ (1) القنبرة: طير يشبه الحمرة. (2) الروم: 60. (3) البرسام: التهاب في الغشاء بالرئة.

كالمكره. إلى أن قال: وقُتِل أصحابه حوله، وكانوا خمسين، وتحول إليه من أولئك عشرون، وبقي عامة نهاره لا يقدم عليه أحد، وأحاطت به الرجالة، وكان يشد عليهم، فيهزمهُم، هم يكرهون الإقدام عليه، فصرخ بهم شمر! ثكلتكم أمهاتكم، ماذا تنتظرون به؟ وطعنه سنان بن أنس النخعي ف يترقوته، ثم طعنه في صدره فخر واتز رأسه خولي الأصبحي لا رضي الله عنهما. ذكر ابن سعد بأسانيد له قالوا: قدم الحسين مسلم [بن عقيل]، وأمره أن ينزل على هانئ بن عروة، ويكتب إليه بخبر الناس، فقدم الكوفة مُستخفياً، وأتته الشيعة، فأخذ بيعتهم، وكتب إلى الحسين: بايعني إلى الآن ثمانية عشر ألفاً، فعجَّل؛ فليس دون الكوفة مانع، فأغذ السير حتى انتهى إلى زبالة، فجاءت رسل أهل الكوفة إليه بديوان فيه أسماء مئة ألف، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين. فكتب إلى بعيد الله وهو على البصرة. فضم إليه الكوفة، وقال له: إن كان لك جناحان، فطرْ إلى الكوفة! فبادر متعمماً متنكراً، ومر في السوق، لما رآه السفلة، اشتدوا بين يديه: يظنونه الحسين، وصاحوا: يا ابن رسول الله! الحمد لله الذي أراناك، وقبلوا يده ورجله؛ فقال: ما أشد ما فسد هؤلاء. ثم دخل المسجد، فصلى ركعتين، وصعد المنبر، وكشف لثامهم، وظفر برسول الحسين - وهو عبد الله بن بقطر - فقتله. وقدم مع عبيد الله؛ شريك بن الأعور - شيعي-؛ فنزل على هانئ بن عروة، فمرض، فكان عبيد الله يعوده، فهيؤوا لعبيد الله ثلاثين رجلاً ليغتالوه، فلم يتم ذلك. وفهم عُبيد الله، فوثب وخرج، فنم عليهم عبدُ لهانئ، فبعث إلى هانئ - وهو شيخ - فقال: ما حملك على أن تُجيز عدوي؟ قال: يا ابن أخي، جاء حق هو أحقُّ من حقك، فوثب إليه عبيد الله بالعنزة حتى غرز رأسه بالحائط. وبلغ الخبر مُسلماً، فخرج في نحو الأربع مئه، فما وصل إلى القصر إلا في نحو الستين، وغربت الشمس، فاقتتلوا، وكثر عليهم أصحاب عبيد الله، وجاء الليل، فهرب مسلم، فاستجار بامرأةٍ من كندة، ثم جيء به إلى عبيد الله، فقتله؛ فقال: دعني أوص. قال: نعم. فقال لعمر بن سعد: يا هذا! إنْ لي إليك حاجة، وليس هنا قرشي غيرك، وهذا

الحسين قد أظلك، فأرسل إليه لينصرف، فإن القوم قد غروه، وكذبوه، وعليِّ دين فاقضه عني، وار جُثتي، ففعل ذلك. وبعث رجلاً على ناقة إلى الحسين، فلقي عليِّ أربع مراحل، فقال له ابنه على الأكبر: ارجع يا أبه، فإنهم أهل العراق وغدرهم وقلةُ وفائهم. فقالت بنو عقيل: ليس بحين رجوع، وحرضُوه، فقال حسين لأصحابه: قد ترون ما أتانا، وما أرى القوم إلا سيخذلوننا، فمن أحب أن يرجع، فليرجع، فانصرف عنه قوم. وأما عبيد الله فجمع المقاتلة، وبذل لهم المال، وجهز عمر بن سعد في أربعة آلاف، فأبى، وكره قتال الحسين، فقال: لئن لم تسر إليه لأعزلنك، ولأهدمن دارك، وأضرب عنقك. وكان الحسين في خمسين رجلاً، منهم تسعة عشر من أهل بيته. وقال الحسين: يا هؤلاء! دعونا أرجع من حيث جئنا، قالوا: لا. وبلغ ذلك عبيد الله، فهم أن يخلي عنه، وقال: والله ما عرض لشيء من عملي، وما أراني إلا مخل سبيله يذهب حيث يشاء، فقال شمر: إنْ فعلت، وفاتك الرجل، لا تستقيلها أبداً فكتب إلى عمر. الآن حيث تعلقته حبالنا ... يرجو النجاة ولات حين مناص فناهضه، وقال لشمر: سر فإن قاتل عمر، وإلا فاقتله، وأنت على الناس. وضبط عبيد الله الجسر، فمنع من يجوزه لما بلغه أن ناساً يتسللون إلى الحُسين. قال: فركب العسكر، وحسين جالس، فرآهم مقبلين، فقال لأخيه عباس: القهُم فسلهم: ما لهم؟ فسألهم، قالوا: أتانا كتابُ الأمير يأمرنا أن نعرض عليك النزول على حكمه، أو نُناجزك. قال: انصرفوا عنا العشية حتى ننظر الليلة، فانصرفوا. وجمع حسينُ أصحابه ليلة عاشوراء، فحمد الله، وقال: إني لا أحسبُ القوم إلا مقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حل مني، وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له قوة، فيضم إليه رجلاً من أهل بيتي، وتفرقوا في سوادكم، فإنهم إنما يطلبونني، فإذا رأوني، لهوا عن طلبكم. فقال أهل بيته: لا أبقانا الله بعدك، والله لا نفارقك. وقال أصحابه كذلك. الثوري: عن أبي الجحاف، عن أبيه: أن رجلاً قال للحسين: إن عليِّ ديناً. قال: لا

يُقاتل معي من عليه دين. رجع الحديث إلى الأول: فلما أصبحوا، قال الحسينُ: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت فيما نزل بي ثقةٌ، وأنت وليُّ كل نعمة، وصاحبُ كل حسنة. وقال لعمر وجنده: لا تعجلوا، والله ما أتيتُكم حتى أتتني كتب أماثلكم بأن السُّنة قد أُميتت، والنفاق قد نجم، والحدود قد عُطلت؛ فاقدمْ لعل الله يصلح بك الأمة. فأتيتُ؛ فإذْ كرهتُم ذلك، فأنا راجع، فارجعوا إلى أنفسكم؛ هل يصلحُ لكم قتلي، أو يحلُّ دمي؟ ألستُ ابن بنت نبيكم ابن ابن عمه؟ أو ليس حمزة والعباسُ وجعفر عمومتي؟ ألم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَّ وفي أخي: "هذان سيدا شباب أهل الجنة"؟ فقال شِمْر: هو يعبدُ الله على حرف إن كان يدري ما يقول، فقال عُمر: لو كان أمرُك إليَّ، لأجبتُ. وقال الحسينُ: يا عمر! ليكوننْ لما ترى يومُ يسوؤك. اللهم إنَّ أهل العراق غرُّوني، وخدعوني، وصنعوا بأخي ما صنعوا. اللهم شَتّتْ عليهم أمرهم، وأحصهم عدداً. فكان أول من قاتل مولى لعبيد الله بن زياد، فبرز له عبدُ الله بنُ تميم الكلبي، فقتله، والحسينُ جالسٌ عليه جَبَّةُ خَزٍّ دكناء، والنبل يقع حوله، فوقعت نبلةُ في ولدٍ له ابن ثلاث سنين، فلبس لأمتهُ، وقاتل حوله أصحابه حتى قُتلوا جميعاً، وحمل ولده عليُّ الأكبر يرتجز: أنا عليُّ بن الحسين بن عليِّ ... نحنُ وبيت الله أولى بالنبي فجاءته طعنة، وعطش حسينُ فجاء رجلٌ بماء، فتناوله، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فيه، فجعل يتلقى الدم بيده ويحمد الله. وتوجه نحو المسناة يريد الفرات، فحالوا بينه وبين الماء، ورماه رجل بسهمٍ، فثبته في حنكه، وبقي عامة يومه لا يقدم عليه أحد، حتى أحاطت به الرجالةُ، وهو رابط الجأش، يُقاتل قتال الفارس الشجاع، إن كان ليشُدُّ عليهم فيتكشفون عنه انكشاف المعزى شد فيها الأسد، حتى صاح بهم شِمر: ثكلتكم أمهاتكم! ماذا تنتظرون به؟ فانتهى إليه زرعةُ التميمي، فضرب كتفه، وضربه

الحسينُ على عاتقه، فصرعه، وبرز سنان النخعي، فطعنه في ترقوته وفي صدره، فخرَّ، ثم نزل ليحتز رأسه، ونزل خولي الأصبحي، فاحتز رأسه، وأتى به عبيد الله بن زياد، فلم يُعطه شيئاً. قال: ووُجد بالحسين ثلاث وثلاثون جراحة، وقُتل من جيش عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفساً. قال: ولم يُفلت من أهل بيت الحسين سوى ولده عليِّ الأصغر، فالحسينية من ذريته، كان مريضاً، وحسن بن حسن بن علي وله ذرية، وأخوه عمرو، ولا عقب له، والقاسم ابن عبد الله بن جعفر، ومحمد بن عقيل، فقدم بهم وبزينب وفاطمة بنتي علي، وفاطمة وسكينة بنتي الحسين، وزوجته الرباب الكلبية والدة سكينة، وأم محمد بنت الحسن بن علي، وعبيد وإماء لهم. قال: وأُخذ ثَقَل الحسين، وأخذ رجل حليَّ فاطمة بنت الحسين، وبكى؛ فقالت: لم تبكي؟ فقال: أأسلب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبكي؟ قالت: فدعه، قال: أخاف أن يأخذه غيري. وأقبل عمر بن سعد، فقال: ما رجع رجل إلى أهله بشر مما رجعتُ به، أطعت ابن زياد، وعصيت الله، وقطعتُ الرحم. وورد البشير على يزيدح فلما أخبره، دمعت عيناه، وقال: كنتُ أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. وقالت سكينة: يا يزيد؛ أبنات رسول الله سبايا؟ قال: يا بنت أخي هو والله عليَّ أشدُ منه عليك، أقسمت ولو أن بين ابن زياد وبين حُسين قرابة ما أقدم عليه، ولكن فرقتْ بينه وبينه سمية، فرحم الله حُسيناً، عجل عليه ابن زياد، أما والله لو كنتُ صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا بنقص بعض عمري، لأحببتُ أن أدفعه عنه، ولوددتُ أن أُتيتُ به سلماً. ثم أقبل على عليِّ بن الحسين، فقال: أبوك قطع رحمي، ونازعني سلطاني. فقام رجلٌ، فقال: إن سباءهم لنا حلال. قال عليٍّ: كذبت إلا أن تخرج من ملتنا. فأطرق يزيدُ، وأمر بالنساء، فأُدخلن على نسائه، وأمر نساء آل أبي سفيان، فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيام، إلى أن قال: وبكت أمُّ كلثوم بنتُ عبد الله بن عامر، فقال يزيد وهو

زوجُها: حق لها أن تُعْوِلَ عل كبير قريش وسيدها. أحمد بن جناب المصيصي: حدثنا خالدُ بن يزيد القسري، حدثنا عمار الدُّهني: قلتُ لأبي جعفر الباقر: حدثني بقتل الحسين. فقال: مات معاوية، فأرسل الوليدُ بن عتبة والي مكة إلى الحسين ليبايع، فقال: أخرني، ورفق به، فأخره، فخرج إلى المدينة، فأتاه رسلُ أهل الكوفة، وعليها النعمان بن بشير، فبعث الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل: أن سِرْ، فانظر ما كتبوا به، فأخذ مسلم دليلين وسار، فعطشوا في البرية، فمات أحدهما. وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه: امض إلى الكوفة، ولم يُعفه، فقدمها، فنزل على عوسجةٍ (1) فدب إليه أهل الكوفة، فبايعه اثنا عشر ألفاً، فقام عُبيد الله بن مسلم؛ فقال للنعمان: إنك لضعيف! قال: لأن أكون ضعيفاً أحبُّ إليَّ من أنْ أكون قوياً في معصية الله، وما كنتُ لأهتك ستراً ستره الله. وكتب بقوله إلى يزيد، وكان يزيدُ ساخطاً على عُبيد الله بن زياد، فكتب إليه برضاه عنه، وأنه ولاه الكوفة مُضافاً إلى البصرة، وكتب إليه أن يقتُل مسلماً، فأسرع عبيدُ الله في وجوه أهل البصرة إلى الكوفة مُتَلثَّماً، فلا يمر بمجلس، فيسلمُ عليهم إلا قالوا: وعليك السلام يا ابن رسول الله، يظنونه الحسين. فنزل القصر؛ ثم دعا مولى له، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وقال: اذهب حتى تسأل عن الذي يُبايع أهل الكوفة؛ فقل: أنا غريبٌ، جئت بهذا المال يتقوى به، فخرج، وتلطف حتى دخل على شيخٍ يلي البيعة، فأدخله على مُسلم، وأعطاه الدراهم وبايعه، ورجع، فأخبر عُبيد الله. وتحوَّل مسلم إلى دار هانئ بن عُروة المرادي، فقال عُبيد الله: ما بالُ هانئ لم يأتنا؟ فخرج إليه محمد بنُ الأشعث وغيره، فقالوا: إن الأمير قد ذكرك فركِبَ معهم، وأتاه وعنده شُريح القاضي، فقال عُبيد الله: "أتتك بحائنٍ رجلاه" "ميت أو هالك" فلما سلم، قال: يا هانئ أين مسلم؟ قال: ما أدري؛ فخرج إليه صاحبُ الدراهم، فلما رآه، قطع به، وقال: أيُّها الأمير؛ والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء، فرمى نفسه عليَّ. قال:

_ (1) العوسجة: شجر من شجر الشوك له ثمر مدور كأنه خرز العقيق.

ائتني به. قال: والله لو كان تحت قدميَّ، ما رفعتهما عنه، فضربه بعصاً، فشجه، فأهوى هانئ إلى سيف شرطي يستلُّه، فمنعه. وقال: قد حل دمك، وسجنه، فطار الخبرُ إلى مذجج، (قبيلة هانئ) فإذا على باب القصر جلية، وبلغ مُسلماً الخبرُ، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعون ألفاً، فعبأهم، وقصد القصر، فبعث عُبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة، فجمعهم عنده، وأمرهم، فأشرفوا من القصر على عشائرهم، فجعلوا يُكلمونهم، فجعلوا يتسللون حتى بقي مُسلم في خمس مئة، وقد كان كتب إلى الحُسين ليُسرع، فلما دخل الليل، ذهب أولئك، حتى بقي مسلم وحده يترددُ في الطرق، فأتى بيتاً! فخرجتْ إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته. ثم دخلتْ، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجتْ، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلسُ ريبة، فقُم؛ فقال: أنا مسلمُ بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم فأدخلته، وكان ابنها مولى محمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَطَ إلى مسلم؛ فخرج، وسل سيفه، وقاتل، فأعطاه ابن الأشعث أماناً، فسلم نفسه، فجاء به إلى عُبيد الله، فضرب عنقه وألقاه إلى الناس، وقتل هانئاً. قال: وأقبل حسين على كتاب مسلم، حتى إذا كان على ساعةٍ من القادسية، لقيه رجل؛ فقال للحسين: ارجعْ، لم أدع لك ورائي خيراً، فهمَّ أن يرجع. فقال إخوةُ مسلم: والله لا نرجع حتى نأخذ بالثأر، أو نُقتل؛ فقال: لا خير في الحياة بعدكم. وسار. فلقيتهُ خيلُ عبيد الله، فعدل إلى كربلاء، وأسند ظهره إلى قصمياً حتى لا يقاتل إل من وجهٍ واحد، وكان معه خمسة وأربعون فارساً ونحو من مئة راجل. وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص - وقد ولاه عبيد الله بن زياد على العسكر - وطلب من عبيد الله أن يعفيه من ذلك، فأبى، فقال الحسين: اختاروا واحدة من ثلاث؛ إما أن تدعوني فألحق بالثغور؛ وإما أن أذهب إليى يزيد، أو أُردَّ إلى المدينة. فقبل عمر ذلك، وكتب به إلى عبيد الله، فكتب إليه: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي. فقال الحسين: لا والله؛ وقاتل، فقُتل أًحابه، منهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته. قال: ويجيء سهمٌ، فيقعُ بابنٍ له صغير، فجعل يمسحُ الدم عنه، ويقول: اللهم احكُمْ

بيننا وبين قومنا، دعونا لينصرونا، ثم يقتلوننا. ثم قاتل حتى قُتل. قتله رجل مذحجي، وحز رأسه، ومضى به إلى عبيد الله، فقال: أوقِر ركابي فضةً وذهبا ... فقد قتلتُ الملك المحجبا قتلت خير الناس أُماً وأبًّا قال الجماعةُ: مات يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، زاد بعضهم يوم السبت وقيل: يوم الجعة، وقيل: يوم الاثنين. مولده في شعبان سنة أربع من الهجرة. عبد الحميد بن بهرام، وآخر ثقة، عن شهر بن حوشب، قال: كنتُ عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاها قتلُ الحسين، فقالت: قد فعلوها؟! ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، ووقعت مغشيةً عليها، فقمنا. وحدثتني رياً؛ ن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان فبعث، فجيء به، وقد بقي عظماً أبيض، فجعله في سفطٍ، وطيبه، وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين. فلما دخلت المسودةُ (1) سألوا عن موضع الرأس فنبشوه، وأخذوه، فالله أعلم ما صُنِعَ به. وذكر باقي الحكاية وهي قوية الإسناد. وممن قُتل مع الحسين إخوتُه الأربعة؛ جعفرُ، وعتيق، ومحمد (2)، والعباسُ الأكبر. وابنه الكبير عليٍّ، وابنه عبد الله، وكان ابنه عليٍّ زينُ العابدين مريضاً، فسِلَم. وكان ييد يُكرمه ويرعاه وقُتِلَ مع الحسين، ابنُ أخيه القاسمُ بن الحسن، وعبد الله وعبد الرحمن ابنا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

_ (1) المسوَّدة: العباسيون. (2) غير محمد بن الحنفية.

فأولاد الحسين هم؛ عليٍّ الأكبر الذي قُتِلَ مع أبيه، وعليِّ زين العابدين، وذريته عدد كثير، وجعفر، وعبد الله ولم يُعقبا. فولد لزين العابدين الحسن والحسين ماتا صغيرين، ومحمد الباقر، وعبد الله، وزيدٌ، وعمر، وعليٍّ، ومحمد الأوسط ولم يعقب، وعبد الرحمن، وحسين الصغير، والقاسم ولم يعقب. أهـ من السير. 1343 - * روى أحمد عن ربيعة بن شيبان أبي الحوراء قال: قلت للحسين بن عليّ عليهما السلام: ما تعقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال صعدت عرفة فأخذت تمرة فسلكتها في فيِّ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقها فإنا لا تحل لنا الصدقة". 1344 - * روى ابن ماجه عن يعلي بن مرة أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعُوا له. فإذا حسين يلعب في السكةِ. قال: فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم، وبسط يديه. فجعل الغلامُ يفرُّ ههنا وههنا، ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى في فأس رأسه (1) فقَبَّلهُ. وقال: "حُسينٌ منيِّ، وأنا من حُسينٍ. أحب الله من أحب حُسيناً. حسينٌ سبطٌ من الأسباط". 1345 - * روى الطبراني عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت فإن جاراً لنا من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين بن علي قتله الله. فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس الله بصره. 1346 - * روى الطبراني عن منذر الثوري قال: كنا إذا ذكرنا حسيناً ومن قُتِلَ معه

_ 1343 - أحمد في مسنده (1/ 201)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 90): رواه أحمد ورجاله ثقات. 1344 - ابن ماجه (1/ 51) المقدمة-11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم). (1) فأس رأسه: قال في الإفصاح: الفأس حرف القمحدوة المشرف على القفا، والقمحدوة هي الناشزة فوق القفا، بين الذؤابة والقفا- قد انحدرت على الهامة. إذا استلقى الرجل أصابت الأرض من رأسه. 1345 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. بلهجيم: اسم قبيلة. 1346 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 198) وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

قال محمد بن الحنفية قُتل معه سبعة عشر كلهم ارتكض في رحم فاطمة رضي الله عنها وعنهم. 1347 - * روى الطبراني عن الليث يعني ابن سعد قال أبي الحسين بن علي أن يستأسر فقاتلوه فقتلوه وقتلوا ابنيه وأصحابه الذين قاتلوا معه بمكان يقال له: الطَّفُّ، وانطلق بعلي بن حسين وفاطمة بنت حسين وسكينة بنت حسين إلى عبيد الله بن زياد وعليٍّ يومئذٍ غلام قد بلغ فبعث بهم إلى يزيد بن معاوية فأمر بسكينة فعجلها خلف سريره لئلا ترى رأس أبيها وذوي قرابتها، وعليُّ بن حسينٍ في غُلٍّ فوضع رأسه فضرب على ثنيتي الحسين فقال: نُفلق هاماً من رجالٍ أحبةٍ ... إلينا وهم كانوا أعسقَّ وأظلما فقال عليٍّ بن حسين: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فثقل على يزيد أن يتمثل ببيتِ شعرٍ وتلا عليُّ بن الحسين آية من كتاب الله عز وجل، فقال يزيدُ: بل بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، فقال عليٍّ أما والله لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلولين لأحب أن يُخلينا من الغُل. فقال: صدقت، فخلوهم من الغل، فقال: ولو وقفنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعدٍ لأحب أن يقربنا. قال: صدقت، فقربوهم. فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريا رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر رأسه، ثم أمر بهم فجهزوا وأصلح إليهم وأُخرجوا إلى المدينة. 1348 - * روى الطبراني عن الليث بن سعدٍ قال: توفي معاويةُ في رجب لأربع ليال خلون منه، واستخلف يزيد سنة ستين وفي سنة إحدى وستين قتل الحسين بن علي وأصحابه رضي الله عنهم لعشر ليال خلون من المحرم يوم عاشوراء. وقُتل العباس بن علي بن أبي طالب وأمه أم البنين عامريةُ، وعفر بن علي بن أبي طالب (1)، وعبد الله بن علي

_ 1347 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 195) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1348 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 197) وقال: رواه الطبراني، ورجاله إلى قائله رجال الصحيح.

ابن أبي طالب، وعثمان بن علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن علي بن أبي طالب وأمه ليلى بنت مسعودٍ نهشلية؛ وعليُّ بن الحسين بن أبي طالب الأكبر وأمه ليلى ثقفية وعبد الله بن الحسين وأمه الربابُ بنت مُري كلبية، وأبو بكر بن الحسين لأم ولدٍ، والقاسم بن الحسين لأم ولد، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن عقيل بن أبي طالب، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب وسليمان مولى الحسين، وقُتل الحسين وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنة رضي الله عنهم. 1349 - * روى الطبراني عن دُويد الجعفي عن أبيه قال: لما قتل الحسين انتهبت جوزر من عسكره فلما طبخت إذا هي دم. 1350 - * روى الطبراني عن عمرو بن بعجة قال: أول ذل دخل على العرب قتل الحسين بن علي وادعاء زياد. 1351 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال استأذنني حسين في الخروج، فقال (أي ابن عباس) لولا أن يُزري ذلك بي أو بك لشبكتُ بيدي في رأسك، فكان الذي رد عليِّ أن قال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَّ من أن يُستحل بي حرم الله ورسوله قال: فذلك الذي سلى بنفسي عنه. 1352 - * روى البزار والطبراني عن الشعبي قال: إنما أرا الحسين بن علي أن يخرج إلى أرض أراد ان يلقى ابن عمر فسأل عنه فقيل له: إنه في أرضٍ له، فأتاه ليوةدعه، فقال له: إني أريد العراق. فقال: لا تفعل فإن رسول الله صلى الله علي وسلم قال: "خُيرْتُ بين أنْ أكون ملكاً نبياً أو نبياً عبداً فقيل لي: تواضعْ، فاخترتُ أن أكون نبياً عبداً" (1) وإنك

_ 1349 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1350 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. ادعاء زيادك أي ادعاء زياد بن أبيه لأبي سفيان. 1351 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 192) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1352 - كشف الأستار (3/ 232) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 192) رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار ثقات.

بضعةٌ من رسول الله صلى الله عيه وسلم فلا تخرج قال: فأبى فودعه وقال أستودعك الله من مقتول. 1353 - * روى الطبراني عن الزبير بن بكار قال: ولد الحسينُ لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وقُتل يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، قتله سنان ابن أبي أنس، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير، وحز رأسه وأتى به عبيد الله بن زياد فقال سنان: أوقِرْ ركابي فضة وذهباً ... أنا قتلت الملك المحجبا قتلتُ خير الناس أماً وأبا 1354 - * روى الطبراني عن الشعبي قال رأيتُ في النوم كان رجالاً من السماء نزلوا معهم حِرابٌ يتتبعون قتلة الحسين فما لبثت أن نزل المختار فقتلهم. 1355 - * روى الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم في بيتي قال: لا يدخل عليَّ أحدٌ فانتظرتُ فدخل الحسين فسمعتُ نشيج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل. فقال: "إن جبريل عليه السلام كان معنا في البيت قال أفتحبه؟ قلت: أما في الدنيا فنعم". قال: إن أمتك ستقتلُ هذا بأرض يُقال لها: كربلاءُ فتناول جبريل من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه وسلم فلما أحيط بحسينٍ حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاءُ. فقال: صدق الله ورسوله كربُ وبلاءٌ، وفي رواية صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض كربٍ وبلاءٍ. 1356 - * روى الطبراني عن الزهري قال: قال لي عبد الملك: أيُّ واحد أنت إن أعلمتني أيُّ علامةٍ كانت يوم قتل الحسين. فقال قلتُ (1): لم ترفع حصاةً ببيتِ المقدس إلا

_ 1353 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 194) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1354 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1355 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 189) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات. النشيج: صوت معه توجع وبكاء. 1356 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

وجد تحتها دم عبيطٌ، فقال لي عبد الملك: إني وإياك في هذا الحديث لقرينان. 1357 - * روى الطبراني عن الزهري قال ما رُفع بالشام حجرٌ يوم قتل الحسين بن علي إلا عن دمٍ. 1358 - * روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجلي الكوفي رحمه الله قال: كنتُ شاهداً لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض؟ فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا! ". وفي رواية (1): أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يُصيب الثوب، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدُّنيا". 1359 - * روى البخار يعن انس بن مالك رضي الله عن هقال: أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجُعل في طستٍ، فجعل ينكتُ، وقال في حُسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة. وفي رواية (2) قال: كنت عند ابن زيادٍ، فجيء برأس الحسين، فجعل يضربُ بقضيبٍ

_ = دم عبيط: سائل طري. 1357 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1358 - البخاري (10/ 426) 78 - كتاب الأدب-18 - باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. (1) الترمذي (5/ 657) 50 - كتاب المناقب - 31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام وقال: هذا حديث صحيح. البعوض: جمع بعوضة، وهو صغار البق. الريحان والريحانة: السعادة والرحمة والراحة، ويسمى الولد ريحاناً وريحانة لذلك. 1359 - البخاري (7/ 94) 62 - كتاب فضائل الصحابة-22 - باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. النكت: بالقضيب: أن يضرب الأرض بطرفه ليؤثر فيها. الوسمة: شيء أسودُ يصبغ به الشعر. (2) الترمذي (5/ 651) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

في أنفه، ويقول: ما رأيتُ مثل هذا حُسناً، فقلت: أما إن كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم. 1360 - * روى الترمذي عن عُمارة بن عمير رحمه الله قال: لما جيء برأس عبيد الله بن زيادٍ وأصحابه نُضدتْ في المسجد في الرحبة، فانتهيتُ إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تُخلل الرؤوس، حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهةً، ثم خرجت فذهبت حتى تغيبتْ، ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. 1361 - * روى الترمذي وابن ماجه عن يعلي بن مرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُسينٌ مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حُسيناً، حسين سبط من الأسباط". 1362 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسين بن عليّ. وفي رواية (1): من الحسنِ.

_ 1360 - الترمذي (5/ 660) 50 - كتاب المناقب-31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن صحيح. نضدت المتاع: جعلت بعضه فوق بعض مرتباً. 1361 - الترمذي (5/ 658) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهام السلام. وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (1/ 51) المقدمة 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فضل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب). السبط: ولد الولد، وسباط بني إسرائيل: هم أولاد يعقوب عليه السلام، وهم فيهم كالقبائل في العرب، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حسيناً رضي الله عنه واحداً من أولاد الأنبياء، يعني أنه من جملة الأسباط الذين هم أولاد يعقوب عليه السلام. 1362 - البخاري (7/ 95) 62 - كتاب فضائل الصحابة-22 - باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. (1) الترمذي (5/ 659) 50 - كتاب المناقب -31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

1363 - * روى الطبراني عن أبي قُبيل قال: لما قُتل الحسين بن علي انكسفت الشمسُ كسفةً حتى بدت الكواكبُ نصف النهار حتى ظننا أنها هي. 1364 - * روى البزار والطبراني عن أنس قال: لما أُتي عبيد الله بن زيادٍ برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقولُ: لقد كان (أحسبُه قال) جميلاً، فقلت: والله لأسوءنك إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقعُ قضيبك، قال: فانقبض. 1365 - * روى الطبراني عن محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي قال: كان جسد الحسين شبه جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1366 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرج ما بين فخذي الحسين وقبل زبيبته. 1367 - * روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحداهما: "لقد دخل عليَّ البيت ملك فلم يدخلء عليَّ قبلها، قال: إن ابنك هذا حسينا مقتول وإن شئت أريتُك من تربة الأرض التي يُقتل بها" قال: فأخرج تربة حمراء. 1368 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن الحضرمي أنه سار مع علي رضي الله عنه وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوي وهو منطلقٌ إلى صفين فنادى علي اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلتُ (1): وما ذاك؟ قالك دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1363 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 197) وقال: روا هالطبراني وإسناده حسن. أنها هي: أي يوم القيامة. 1364 - كشف الأستار (3/ 233) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 195) رواه البزار والطبراني بأسانيد ورجاله وثقوا. 1365 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 185) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1366 - أحمد في مسنده (6/ 314) وقال الهيثمي في مجمع الزوائدك رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 1367 - كشف الأستار (3/ 231) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 187): رواه أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني ورجاله ثقات. 1368 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 187) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعد وقيل ابن سعيد وهو ثقة.

ذات يومٍ وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: "بل قام من عندي جبريل عليه السلام قيل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات: قال فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت: نعم. قال: فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا". 1369 - * روى أبو يعلي عن جار قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن علي فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. 1370 - * روى الطبراني عن أسلم المنقري قال: دخلتُ على الحجاج فدخل سنان بن أبي أنسٍ قاتل الحسين فإذا شيخ آدمُ فيه خنا، طويل الأنف، في وجهه يبرشٌ، فأوقف بحيال الحجاج، فنظر إليه الحجاج فقال: أنت قتلت الحسين؟ قال: نعم، قال: وكيف صنعت به؟ قال: عمتُه بالرمح وهبرتُه بالسيف هبراً فقال له الحجاج: أما إنكما لن تجتمعا في دار. 1371 - * روى الطبراني عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تنوحُ على الحسين بن علي. 1372 - * روى الطبراني عن الأعمش قال: خري رجلٌ على قبر الحسين فأصاب أهل ذلك البيت خبلٌ وجنونٌ وجُذامٌ وبرصٌ وفقر. 1373 - * روى الطبراني والبزار عن عمارة بن يحيى بن خالد بن عُرفطة قال: كنا عند خالد بن عرفطة يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال لنا خالد: هذا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي.

_ 1370 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 194) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. الهبر: القطع، وهبر اللحم: قطعه قطعاً كباراً. 1371 - أورده الهيثمي في مجمع الوائد (9/ 199) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1372 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 197) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1373 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 194) وقال: رواه الطبراني والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة، وعمارة وثقه ابن حبان.

1374 - * روى أحمد والطبراني عن ابن عباس قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دمُ يلتقطه أو يتبعُ فيها شيئاً فقلت: ما هذا؟ قال: "دمُ الحسين وأصحابه" فلم أزل أتتبعه منذ اليوم. 1375 - * روى الطبراني عن أبي الطفيل قال: استأذن ملك القطْرِ أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة، فقال: "لايدخل علينا أحدٌ" فجاء الحسين بن علي رضي الله عنهما فدخل، فقالت أم سلمة: هو الحسين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طدعيه" فجعل يعلو رقبة النبي صلى الله عليه وسلم ويعبثُ به والملك ينظر، فقال الملك: أتحبه يا محمد؟ قال: "أي والله إني لأحبُّه" قال. أما إن أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان، فقال بيده فتناول كفاً من تراب فأخذتْ أم سلمة التراب فصرتْه في خمارها فكانوا يرون أن ذلك التراب من كربلاء. 1376 - * روى الطبراني عن علي قال: ليُقتلنَّ الحسينُ، وإني لأعرف التربة التي يقتلُ فيها قريباً من النهرين. 1377 - * روى الطبراني عن عبد الملك بن عمير قال: دخلتُ على بعيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين قدامهُ على تُرسٍ، فوالله ما لبثتُ إلا قليلاً حتى دخلت على المختار فإذا رأس عبيد الله بن زياد على ترس، فوالله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلتُ على مصعب بن الزبير وإذا رأس المختار على ترس، فوالله ما لبثتُ إلا قليلاً حتى دخلتُ على عبد الله وإذا رأسُ مصعب بن الزبير على ترسي. 1378 - * روى الطبراني عن ابن أبي ليلى قال: قال حسين: حين أحسَّ بالقتل (1):

_ 1374 - أحمد في مسنده (1/ 242) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 194): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح. 1375 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 190) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1376 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 190) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1377 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 196) وقال: رواه الطبراني وأبو يعلي بنحوه ورجال الطبراني ثقات. 1378 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 193) وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى قائله ثقات.

ائتوني ثوباً لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لا أجردُ فقيل له: تبان؟ فقال: لا، ذاك لباس من ضُربتْ عليه الذلة، فأخذ ثوباً فخرقه فجعله تحت ثيابه. فلما أن قتل جردوه. 1379 - * روى الطبراني عن إبراهيم النخعي قال: لو كنتُ فيمن قتل الحسين ثم غفر لي ثم أدخلت الجنة استحييت أن أمر على النبي صلى الله عليه وسلم فينظر في وجهي. تصويبات: 1 - إذا لم يكن الحسين رضي الله عنه من أئمة الهدى الين يقتدى بهم، فمن هم أئمة الهدى؟ وعلى هذا فتصرفاتُ الحسين محل القدوة ومن تصرفاته نأخذ: أنه يجوز الخروج على الحاكم إذا وصل إلى الحكم عن غير طريق شرعي، كما يجوز الخروج عليه إذا اختل فيه شرط من شروط الإمامة على أن الجواز شيء والوجوب شيء آخر، وإذا كان هذا جائزاً لمثل الحسين في فضله فإن على غيره أن يعقد موازنات كثيرة قبل أن يقرر الخروج. 2 - إن خروج الحسين رضي الله عنه علامة على الخيرية في هذه الأمة فهو يمثل صحوتها ورقابتها، ولقد أسقط بفعله عن الأمة إثماً كبيراً، تصور أن تصبح الخلافة ملكاً عضوضاً ولا يتحرك أحد من المسلمين، لقد تحرك الحسين رضي الله عنه ضد أيلولة الخلافة إلى الملك العضوض فأعطى الأمة درساًن صحيح أن الملك استمر وقتل الحسين، لكن استشهاده، وضع الأساس لإنهاء ملك بني أمية، ومع أن الملك العضوض استمر بعد بني أمية لكن الدرس الذي أعطاه الحسين للأمة باقٍ، ألا تسمح لأحد أن يصل إلى حكم المسلمين إلا بالطريق الشرعي، وإلا فالثورات والاضطرابات لا تنتهي. * * *

_ = التبان: سروان صغير يستر العورة المغلظة فقط ويكثر لبسه الملاحون. 1379 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 195) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

الوصل الثالث في بعض أقاربه الأدنين ممن يدخل في لفظة أهل البيت بالمعنى العام

الوصل الثالث في بعض أقاربه الأدنين ممن يدخُل في لفظة أهل البيت بالمعنى العام

مقدمة

مقدمة الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو قصيّ، فهو عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وولد لقصيٍّ أربعة ذكور وامرأتان، اشتهر من الذكور عبد مناف وعبد الدار، وجاء لعبد مناف أربعة نفر: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل وهم أركان حلف الفضول ابتداء، ثم انسحب من حلف الفضول آل عبد شمس ونوفل، وبقي بنو هاشم وبنو المطلب، ومن ثم استمرت نصرة هذين الفرعين لبعضهما، ومن ههنا حرم بعضهم الزكاة على بني هاشم وبني المطلب، فأبناؤهم وبناتهم هم آل البيت بالمعنى العام على هذا الرأي. وولد لهاشم أربعة نفر وخمس نسوة: عبد المطلب وأسد وأبو صفي، ونضلة والشقاءُ وخالدة وضعيفة ورقية، وجية. وولد لعبد المطلب عشرة نفر وست نسوة: العباس وحمزة وعبد الله وأبو طالب والزبير والحارث وحجلا والمقوم وضرار وأبو لهب، وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكه وأميمة وأروى وبرة. وقد أسلم من أعمامه حمزة رضي الله عنه لكنه استشهد مبكراً ولم يرزق ذكراً، والعباس وقد أنجب، ولذلك فقد دخل آل العباس فيمن تحرم عليهم الصدقة، وأسلم من أولاد عمه أبي طالب: علي وعقيل وجعفر، وقد أنجبوا، فمن ثم أدخل بعضهم هؤلاء الثلاثة فيمن تحرم عليهم الصدقة. وعلى هذا فالآل بالمعنى العام على رأي هؤلاء هم آل العباس وآل عقيل وآل جعفر وآل علي رضي الله عنهم مع خصوصية لآل علي، ونحن سنترجم في هذا الوصل لبعض من كان هاشمياً أو مطلبياً فضلاً عن بعض من يدخلون في الدائرة الأضيق. مبتدئين بحمزة والعباس رضي الله عنهم وصفية من أعمامه وعماته، ثم بجعفر وعقيل ابني عمه أي طالب، وبعض أبناء عمه، ثم نذكر اثنين من أحفاد أعمامه، مع ملاحظة أننا سنؤخر ذكر الإمام علي لنستوفي الكلام عنه مع إخوانه الخلفاء الراشدين. * * *

أسلم من أعمامه: حمزة والعباس. وقد استشهد حمزة رضي الله عنه. وأسلم من عماته: صفية بيقين وأروى وعاتكة وأميمة على قول. وأسلم من أولاد عمه أبي طالب: علي وجعفرٌ وعقيلٌ، وقد استشهد اثنان منهما علي وجعفر. وأسلمت من بنات أبي طالب: أم هانئ. وأسلم من أولاد عمه أبي لهب: درة ابنته. وأسلم من أولاد عمه الزبير: ضباعة زوجة المقداد بن الأسود، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وقد استشهد في قتال مع الروم. وأسلم من أولاد عمه الحارث بن عبد المطلب: نوفلُ بن الحاث، وأسلم معه ابنه الحارث ابن نوفل، وكذلك أبو سفيان بن الحاث وابنه جعفر، وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر، وكذلك ربيعة بن الحارث وعبد الله بن الحارث، ولربيعة ابن اسمُه عبد المطلب بن ربيعة له صحبة. وقد أسلم من أولاد عمه العباس، قُثَم، وقد استشهد بسمرقند، ومعبد بن عباس وكثير ابن العباس وهو تابعي، وتمام ابن عباس والفضل وعبد الله وعبيد الله، وممن له صحبة من أبناء جعفر بن أبي طالب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. والملاحظ أن كثيراً من أقاربه الأدنين من أعمامه وأبناء أعمامه وأبنائهم قد استشهدوا. ونحن سنترجم ههنا لعمه حمزة والعباس وعمته صفية. وسنترجم من أبناء عمومته: لجعفر وعقيل وأم هانئ ودرة وعبد الله بن عباس وعبيد الله بن عباس. وسنترجم من أحفاد أعمامه عبد الله بن جعفر. * * *

1 - من أعمامه وعماته عليه الصلاة والسلام

1 - من أعمامه وعماته عليه الصلاة والسلام حمزة بن عبد المطلب قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. الإمام البطل الضِّرغام أسد الله أبو عُمارة، وأبو يعلي القرشيُّ الهاشميُّ المكيُّ ثم المدنيُّ البدريُّ الشهيد، عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة. استشهد يوم أحد، قتله وحشي. ووجدوا حمزة قد بُقر بطنه، واحتمل وحشي كبده إلى هند في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. فدفن في نمرةٍ كانت عليه، إذا رُفعت إلى رأسه، بدتْ قدماه، فغطوا قدميه بشيء من الشجر. أهـ. وقال الحاكم في المستدرك: حمزة بن عبد المطلب كانت له كنيتان أبو يعلي وأبو عمارة لابنيه يعلي، وعمارة، أسلم حمزة في السنة السادسة من النبوة، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأربع سنين، وقتل يوم السبت في المغزى بأحد لسبع خلون من شوال سنة ثلاث من الهجرة (1). 1380 - * روى الطبراني والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طسيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله". 1381 - * روى الطبراني عن يعقوب بن عُتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريقٍ حليف

_ (1) المستدرك (3/ 192). 1380 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 368) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ضعف. والمستدرك (3/ 195) وقال: صحيح الإسند ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح والصفار لا يدري من هو. وللحديث شاهد يقوي به فهو حديث حسن بإذن الله تعالى. 1381 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 367) وقال: رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات، وأخرج نحوه ابن إسحاق عن رجل من أسلم.

بني زهرة: أن أبا جهلٍ اعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا فآذاه، وكان حمزةُ رضي الله عنه صاحب قَنْصٍ وصيدٍ، وكان يومئذٍ في قنصه، فلما رجع قالت له امرأتُه وكانت قد رأت ما صنع أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عُمارة لو رأيت ما صنع - تعني أبا جهل- بابن أخيكَ فغضب حمزة ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته، وهو معلق قوسه في عنقه حتى دخل المسجد فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش فلم يكلمه حتى علا رأسه بقوسه فشجه فقام رجالٌ من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه فقال حمزة: ديني دينُ محمد أشهد أنه رسول الله فوالله لا أنثني عن ذلك فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين. فلما أسلم حمزة عزَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وثبت لهم بعضُ أمرهم وهابت قريشُ وعلموا أن حمزة رضي الله عنه سيمنعُه. 1382 - * روى الطبراني عن ابن شهابٍ في تسميةِ من شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب بن عبد منافٍ. 1383 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه قال: قال لي أمية بنُ خَلَفٍ، وأنا بينه وبين ابنه علي، آخذ بأيديهما: يا عبد الإله من الرجلُ منكم المُعلم بريْشَةِ نعَامةٍ في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزةُ بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. 1384 - * روى الحاكم عن علي قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "نادِ حمزة فقلتُ: من هو صاحب الجمل الأحمر؟ فقال حمزةُ: هو عتبة بن ربيع. فبارز يومئذ حمزة عتبة فقتله. 1385 - * روى أحمد والحاكم عن أنس قال: لما كان يوم أحد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، على حمزة وقد جُدع ومُثِّل به، فقال: "لولا أن تجدَ صفيةُ في نفسها (1)، لتركتُه حتى

_ 1382 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 267) وقال: رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات 1383 - المستدرك (3/ 117) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: أخرجه ابن خزيمة. 1384 - المستدرك (3/ 194) مطولاً وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 1385 - أحمد في مسنده (3/ 138) والمستدرك (1/ 365) وسكت عنه الذهبي.

يحشره الله من بطون السباع والطيرِ". وكُفن في نمرةٍ إذا خَمِّر رأسهُ، بدت رجلاه، وإذا خُمرت رجلاه بدا رأسه. ولم يُصلِّ على أحدٍ من الشهداء، وقال: "أنا شهيدٌ عليكم" وكان يجمعُ الثلاثة في قبر، والاثنين فيسأل: "أيهما أكثر قرآناً" فيقدمه في اللحد وكفن الرجلين والثلاثة في ثوب. 1386 - * روى أحمد والحاكم عن ابن عمر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء الأنصار يبكين على هلكاهُن فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" فجئن فبكين على حمزة عنده. إلى أن قال: "مُرُوهن لا يبكين على هالكٍ بعد اليوم". وقد ذكرنا رواية وحشي عن قتله حمزة في غزوة أحد. 1387 - * روى أحمد عن عروة قال: أخبرني أبو الزبير رضي الله عنه أنه كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى قال فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم فقال: "المرأة المرأة"، قال الزبير رضي الله عنه فتوسمت أنها أمي صفية قال فخرجت أسعى إلأيه فأدركتُها قبل أن تنتهي إلى القتلى قال: فلدمتْ في صدري وكانت امرأة جلدة قالت: إليك لا أرض لك قال: فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك قال، فوقفتُ وأخرجتُ ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة قال فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له.

_ نمرة: كل شملة مخططة من مأزر الأعراب فهي نمرة، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. 1386 - أحمد في مسنده (3 م 40، 84، 92) والمستدرك (3/ 194)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 1387 - أحمد في مسنده (1/ 165)، ورواه غيره وهو حديث حسن.

العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

1388 - * روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ إذا ذكر أصحاب أحد: "أما والله لوددتُ أني غودرت مع أصحاب فَحْصِ الجبل". * * * العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهبي في ترجمته: قيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر فأُسر يومئذ، فادَّعى أنه مُسلم. فالله أعلم. وليس هو في عداد الطُّلقاء؛ فإنه كان قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح؛ ألا تراه أجار أبا سثفيان بن حرب. وله عدة أحاديث، منها خمسة وثلاثون في مُسند بقي وفي (البخاري ومسلم) حديث، وفي (البخاري) حديث، وفي (مسلم) ثلاثة أحاديث. وقدم الشام مع عُمر. فعن أسلم مولى عمر: أن عمر لما دنا من الشام تَنحَّى ومعه غلامه، فعمد إلى مركب غلامه فركبه، وعليه فروّ مقلوب، وحوَّل غُلامه على رَحل نفسه. وإنَّ العباس لبين يديه على فرس عتيق، وكان رجلاً جميلاً فجعلت البطارقةُ يُسلِّمون عليه، فيشير: لستُ به: وإنه ذاك. قال الكلبي: كان العباس شريفاً، مهيباً، عاقلاً، جميلاً، أبيض بضاً، له ضفيرتان. وُلد قبل عام الفيل بثلاث سنين.

_ 1388 - أحمد في مسنده (3/ 375) وإسناده قوي. غودرت: قُتلت. أصحاب فحص الجبل: أي شهداء أحد.

كان من أطولِ الرجال، وأحسنِهم صورة، وأبهاهم، وأجهرهم صوتاً مع الحلم الوافر والسؤدد. قال الزبير بن بكار: كان للعباس ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم، ومنظرة (1) لجاهلهم وكان يمنع الجار، ويبذُل المال، ويُعطي في النوائب. ونديمه في الجاهلية أبو سفيان بن حرب. قال ابن سعد: الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار ممن لم يشهد بدراً؛ فبدأ بالعباس، قال: وأمه نُتيلة بنت جناب بن كليب. وسرد نسبها إلى ربيعة بن نزار بن معدٍ. وعن ابن عباس: وُلد أبي قبل أصحاب الفيل بثلاث سنين. وبنوه: الفضل - وهو أكبرهم- وعبد الله البحر، وعبيد الله، وقُثَم ولم يُعقِب - وعبد الرحمن - توفي بالشام ولم يُعقب - ومعبد - استشهد بإفريقية- وأم حبيب: وأمهم: أمُّ الفضل لبابة الهلالية، وفيها يقول ابن يزيد الهلالي: ما ولدت نجيةُ من فحل ... بجبلٍ نعلمه أو سهل ككستة من بطن أم الفضل ... أكرمْ بها من كهلةِ وكهلِ قال الكلبي: ما رأينا ولد أم قط أبعد قبوراً من بني العباس. ومن أولاد العباس: كثير - وكان فقيهاً - وتمَّام- وكان من أشد قريش - وأميمة؛ وأمُّهم أمُّ ولد. والحارث بن العباس، وأمه حُجيلة بنت جُندب التميمية. فعدتهم عشرة. ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الثقة قال: كان العباس إذا مر بعمر أو بعثمان، وهما راكبان، نزلا حتى يُجاوزهما إجلالاً لعم رسول الله. الضحاك بن عثمان الحزامي قال: كان يكون للعباس الحاجةُ إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقفُ على سلعٍ، وذلك في آخر الليل، فيُناديهم فيُسمعهم. والغابةُ نحو من تسعة أميال.

_ (1) أي سجن للجاهل منهم.

وقال: كان تامِّ الشكل، جهوري الصوت جداً، وهو الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهتف يوم حُنين: يا أصحاب الشجرة. قال القاضي أبو محمد بن زبر: حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا نصرُ بن علي: أخبرنا الأصمعي، قال: كان للعباس راعٍ يرعى له على مسيرة ثلاثة أميال، فإذا أراد منه شيئاً صاح به، فأسمعه حاجته. ليث: حدثني مجاهد، عن علي بن عبد الله، قال: أعتق العباس عند موته سبعين مملوكاً. وقال: لم يزل العباس مُشفِقاً على النبي صلى الله عليه وسلم، مُحباً له، صابراً على الأذى، ولما يُسلم بعد، بحيث إنه ليلة العقبة عرف، وقام مع ابن أخيه في الليل، وتوثق له من السبعين، ثم خرج إلى بدر مع قومه مكرها، فأُسر؛ فأبدى لهم أنه كان أسلم، ثم رجع إلى مكة. فما أدري لماذا أقام بها (1). ثم لا ذِكر له يوم أُحد، ولايوم الخندق، ولا خرج مع أبي سفيان، ولا قالت له قريش في ذلك شيئاً، فيما علمت. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً قُبيل فتح مكة؛ فلم يتحرر لنا قدومُه. وثبت أن العباس كان يوم حُنين، وقت الهزيمة، آخذاً بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت معه حتى نزل النصر. وقال خليفة، وغيره: بل مات سنة أربع وثلاثين، وقال المدائني: سنة ثلاث وثلاثين. وقد اعتنى الحفاظُ بجمع فضائل العباس رعاية للخلفاء. وبكل حال، لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم ممن يُورثُ لما ورثه أحد، بعد بنته وزوجاته، إلا العباس.

_ (1) أقول: الظاهر أنه أقام بها ليرسل بالأخبار للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد صار الملكُ في ذُرية العباس. وإذا اقتصرنا من مناقب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النبذة، فلنذكر وفاته: كانت في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وله ست وثمانون سنة؛ ولمي بلغ أحد هذه السن من أولاده، ولا أولادهم، ولا ذُريته الخلفاء. عن نملة بن أبي نملة، عن أبيه، قال: لما مات العباس بعثتْ بنو هاشم من يُؤذِن أهل العوالي: رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب. فحشدَ الناس. فلما أُتي به إلى موضع الجنائز، تضايق، فقدموا به إلى البقيع. فلما رأيت مثل ذلك الخروج قط، وما يقدرُ أحد يدنو إلى سريره. وازدحموا عند اللحد، فبعث عثمان الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم، حتى خلص بنو هاشم، فنزلوا في حفرته. ورأيتُ على سريره بُرد حِبرة قد تقطع من زحامهم. وفي مستدرك الحاكم (1)، عن محمد بن عقبة، عن كُريبٍ، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلُّ العباس إجلال والده. عن عائشة، قالت: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجل أحداً ما يُجلُّ العباس أو يُكرم العباس (2). ورد أن عمر عمدَ إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه. فقال له: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه. فأقسم عمرُ لتصعدن على ظهري، ولتضعنه موضعه (3). عن سعد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في نقيع الخيلِ، فأقبل العباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا العباسُ عمُّ نبيكم، أجودُ قريش كفاً، وأوصلها لها" رواه عدةٌ عنه (4).

_ (1) المستدرك (3/ 334) وقال: هذا حديث صحيح الإسند ولم يخرجاه وأقره الذهبي. (2) قال الذهبي: إسناده صالح. (3) أخرجه أحمد (1/ 310)، وسنده حسن. (4) المستدرك (3/ 339) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي لشواهده. =

عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسلُ إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا. قال: فيسقون (1). قال الحافظ في "الفتح" وقد بيَّنَ الزبيرُ بن بكار في "الأنسابط صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له ان العباس لما استسقى به عمر، قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، قد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. وكان ذلك عام الرمادةِ سنة ثمان عشرة. عن ابن عباس، أن رجلاً من الأنصار وقع في أبٍ للعباس كان في الجاهلية، فلطمه العباس، فجاء قومُه، فقالوا: والله لنلطمنَّه كما لطمه، فلبسوا السلاح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عيه وسلم؛ فصعد المنبر، فقال: "أيُّها الناسُ، أيُّ أهلِ الأرض أكرمُ على الله؟ " قالوا: أنت. قال: "فإن العباس، مني وأنا منه، لا تسبُّوا أمواتنا فتؤذُوا أحياءنا" فجاء القوم فقالوا: نعوذ بالله من غضبك يا رسول الله (2). عن حُميد بن هلال قال: بعث العلاء بنُ الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال ثمانين ألفاً من البحرين، فنُثِرتْ على حصير، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف، وجاء الناسُ؛ فما كان يومئذ عدُّ ولا وزن، ما كان إلا قبضاً. فجاء العباسُ بخميصةٍ عليه، فأخذ، فذهب يقوم، فلم يستطع، فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارفع عليَّ. فتبسم رسول الله حتى خرج ضاحكطُه - أو نابه - فقال: أعد في المال طائفة، وقم بما تُطيق. ففعل. قال: فجعل العباسُ يقول- وهو منطلق - أما إحدى اللتين وعدنا الله، فقد أنجزها - يعني قوله:

_ = النقيع: بالنون والقاف، وهو على عشرين فرسخاً من المدينة وقدره ميل في ثمانية أميال هاشمية، حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المسلمين ترعى فيه والفرسخ ثلاثة أميال، أو اثني عشر ألف ذراع، أو عشر آلاف ذراعٍ. (1) البخاري (2/ 414) 15 - كتاب الاستسقاء - 3 - باب سؤال الناس الإمام إذا قحطوا. (2) أحمد في مسنده (1/ 300) وسنده حسن.

{قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (1) (ونزلت الآية بعد غزوة بدر) فهذا خيرٌ مما أُخذ مني. ولا أدري ما يُصنع في المغفرة (2). عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمر على الصدقة ساعياً، فمنع ابنُ جميلٍ، وخالدٌ، والعباسُ. فقال رسول الله: "ما ينقمُ ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله! وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، إنه قد احتبس أدراعه وأعتادهُ في سبيل الله؛ وأما العباس، فهي عليَّ ومثلها". ثم قال: "أما شعرت أن عم الرجل صِنْو أبيه" (3). المطلب بن ربيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بالُ رجال يُؤذُونني في العباس، وإن عم الرجل صِنو أبيه، من آذى العباس فقد آذاني" (4) أهـ. 1389 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في العباس: "إنَّ عم الرجل صِنوُ أبيه" وكان عمر كلمه في صدقة. 1390 - * روى الترمذي عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب: أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضباً وأنا عندهُ، فقال: "ما

_ (1) الأنفال: 70. (2) أخرجه ابن سعد، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً، وأخرجه بنحوه الحاكم م طريق سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، وصححه، ووافقه الذهبي. الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام. (3) البخاري (3/ 331) 24 - كتاب الزكاة-49 - باب قول الله تعالى: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله). ومسلم (3/ 676، 677) 12 - كتاب الزكاة-3 - باب في تقديم الزكاة ومنعها واللفظ له. احتبس: وقف. (4) أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح مع أن يزيد بن أبي زياد ضعيفن لكن في الباب ما يعضده ويقويه. الصنو: المثل، يقال لكل نخلتين طلعتا في منبت واحد: هما صنوانز 1389 - الترمذي (5/ 653) 50 - كتاب المناقب -29 - باب مناقب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1390 - الترمذي (5/ 652) 50 - كتاب المناقب- 29 - باب مناقب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح.

أغضبك؟ " قال يا رسول الله ما لنا ولقريش، إذا تلاقو بينهم تلاقوا بوجوهٍ مبشرةٍ، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجلٍ الإيمانُ حتى يُحبكمْ لله ولرسوله، ثم قال: يا أيها الناس، من آذى عمي فقد آذاني فإنما عمُّ الرجل صِنوُ أبيه". 1391 - * روى الطبراني عن أبي رزين قال: قيل للعباس: أيما أكبر أنت أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أكبر مني، وأنا وُلدتُ قبله وكان العباس أسن من النبي صلى الله عليه وسلم ولد قبل الفيل بثلاث سنين. 1392 - *روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس "إذا كان غداة الاثنين فائتني أنت وولدك، حتى أدعو لك بدعوة ينفعك الله بها وولدك" قال: فغدا وغدونا معه، وألبسنا كساء، ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولده، مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنباً، اللهم احفظه في ولده". 1393 - * روى الطبراني عن أبي أٍيد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب "لا تبرحْ منزل وبنوك غداً حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة" فانتظروه حتى بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال "السلام عليكم" قالوا: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته قال "كيف أصبحتم" قالوا نحمدُ الله قال "تقاربوا بزحف بعضكم إلى بعض" حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته، ثم قال: "يارب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملائتي هذه" فأمنت أسكُفةَ الباب وحوائطُ البيت فقالت: آمين آمين آمين (1).

_ = وجوه مبشرة: سمحة باسمة. 1391 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 270) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1392 - الترمذي (5/ 653) 50 - كتاب المناقب - 39 - باب مناقب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن غريب. 1393 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 370) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. الأسكفة: هي الخشبة التي يوطأ عليها أو العتبة.

1394 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "العباس مني وأنا منه". 1395 - * روى الحاكم عن جابر قال: كان العباس بالمدينة فطلبت الأنصار ثوباً يلبسونه فلم يجدوا قميصاً يصلحُ عليه إلا قميص عبد الله بن أبي فكسوه إياه قال جابر: وكان العباس أسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وإنما أخرج كُرهاً، فحمل إلى المدينة فكساهُ عبد الله بن أبي قميصه، فلذلك كفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قميصه مكافأة لما فعل بالعباس. 1396 - * روى الحاكم عن عقبة بن عبد الغافر اقل: دخل عبد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان وقد تحلقت عنده بطون قريش فسأله معاوية عن آبائهم إلى أن قال: فما تقول في أبيك العباس بن عبد المطلب؟ فقال رحم الله أبا الفضل كان والله عم نبي الله، وقرة عين رسول الله، سيد الأعمام والأخدان جد الأجداد وآباؤه الأجوادُ وأجداده الأنجادُ، له علم بالأمور، قد زانه حلم، وقد علاه فهمٌ، كان يُكسبُ حباله كل مهند، ويُكسبُ لرأيه كل مخالفٍ رعديد، تلاشت الأخدان عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنسابُ عند ذكر عشيرته، صاحبُ البيت والسقاية والنسب والقرابة ولم لا يكون كذلك؟ وكيف لا يكون كذلك؟ ومدبر سياسته أكرمُ من دبر وأفهم من نشأ من قريش وركب. 1397 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر خاصم العباس عليا في أشياء تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر شيء تركه رسول الله صلى الله علي هوسلم فلم يحركه فلا أحركه فلما استُخلف عمر اختصما إليه فقال: (1) شيء لم يحركه أبو بكر فلستُ أحركه فلما استُخلف عثمان اختصما إليه فأسكت عثمان ونكس رأسه قال ابن عباس فحسبتُ

_ 1394 - المستدرك (3/ 329) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح على شرط مسلم. 1395 - أحمد في مسنده ورجاله ثقات. 1396 - المستدرك (3/ 335) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1397 - المستدرك (3/ 330) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أن يأخذه فضربتُ بين كتفي العباس، فقلت: يا أبت أقسمتُ عليك إلا سلمته إلى عليٍّ قال: فسلمه له. * * * صفية عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهبي: بنت عبد المطلب، الهاشمية. وهي شقيقة حمزة. وأم حواريِّ النبي صلى الله عليه وسلم الزبير. وأمُّها من بني زُهرة. تزوجها الحارث، أخو أبي سفيان بن حرب؛ فتُوفي عنها. وتزوجها العوامُ أخو سيدة النساء خديجة بنت خويلد، فولدت له: الزبير والسائب، وعبد الكعبة. والصحيح: أنه ما أسلم من عمات النبي صلى الله عليه وسلم سواها. ولقد وجدت على مصرع أخيها حمزة، وصبرت، واحتسبت. وهي من المهاجرات الأُوَل، وما أعلم هل أسلمت مع حمزة أخيها، أو مع الزبير ولدها؟ وقد كانت يوم الخندق في حصن حسان بن ثابت. قالت: وكان حسان معنا في الذرية. فمرَّ بالحصن يهوديٍّ، فجعل يُطيفُ بالحصن والمسلمون في نُحور عدوِّهم. ثم ساقت الحديث، وأنها نزلت، وقتلت اليهودي بعمود. فروى هشام، عن أبيه، عنها، قالت: أنا أول امرأة قتلت رجلاً: كان حسانُ معنا، فمر بنا يهودي، فجعل يُطيف بالحصن؛ فقلت لحسان: إن هذا لا آمنه أن يدل على عورتنا؛ فقم فاقتله. قال: يغفر الله لك! لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فاحجزتْ، وأخذتْ عموداً (1)،

_ احتجزت: شدت وسطها.

تعليقات

ونزلتْ، فضربتْه، حتى قتلته (1). تُوفيت صفية في سنة عشرين، ودُفنت بالبقيع. ولها بضع وسبعون سنة. عن عائشة: قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام النبي صلى الله لعيه وسلم، فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفيةُ بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملكُ لكم من الله شيئاً؛ سلوني من مالي ما شئتم" (2). وهي القائلة تندُب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عينُ جُودي بدمعةٍ وسهودِ ... واندبي خير هالك مفقود واندبي المصطفى بحزنٍ شديد ... خالط القلب فهو كالمعمود كدتُ أقضي الحياة لما أتاهُ ... قدرٌ خط في كتاب مجيد فلقد كان بالعباد رؤوفاً ... ولهم رحمةً، وخيرَ رشيد رضي الله عنه حياً وميتاً ... وجزاه الجنان يوم الخلودِ فهذا مما أورد لصفية، فالله أعلم بصحته. أهـ. * * * تعليقات 1 - نلاحظ من خلال النظر في سيرة حمزة والعباس وصفية كيف أن الشجاعة سمة في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرى ذلك في مواقف حمزة يوم بدر وأُحد ويوم أعلن إسلامه، وترى ذلك في موقف العباس يوم حنين وموقف صفية يوم أُحد، وقتلها الكافر يوم الخندق. 2 - أنك تلاحظ سعة الأفق ونبل الرأي وافقدام حيث درست حال آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم أمة.

_ (1) المستدرك (4/ 51) وصححه ونعقبه الذهبي بقوله: عروة لم يدرك صفية وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 134) وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى عروة رجال الصحيح لكنه مرسل. (2) مسلم (1/ 193) 1 - كتاب الإيمان -89 - باب في قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين).

2 - بعض أبناء وبنات أعمامه عليه الصلاة والسلام

2 - بعض أبناء وبنات أعمامه عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب قال الذهبي: السيد الشهيذُ، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبوعبد الله، ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبدِ مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي الهاشمي، أخو علي بن أبي طالب، وهو أسنُّ من علي بعشر سنين. هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها، فأقام بالمدينة أشهراً، ثم أمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك، فاستشهد. وقد سُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً بقدومه، وحزن والله لوفاته. (ويقال: عاش بضعاً وثلاثين سنة). روى شيئاً يسيراً. وروى عنه ابن مسعود، وعمرو بن العاص، وأم سلمة، وابنه عبد الله. قال الشعبي: تزوج علي أسماء بنت عميس، فتفاخر ابناها محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر. فقال كل منهما: أبي خير من أبيك. فقال علي (زوجها الثالث): يا أسماء اقضي بينهما. فقالت: ما رأيتُ شاباً كان خيراً من جعفر، ولا كهلاً خيراً من أبي بكر. فقال علي: ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير هذا لمقتك فقالت: والله إن ثلاثة أنت أخسُّهم لخيار. عن عبد الله بن جعفر قال: ما سألت علياً شيئاً بحق جعفر إلا أعطانيه. قال شباب: عليّ، وجعفر، وعقيل، أمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. قال الواقدي: هاجر جعفر إلى الحبشة بزوجته أسماء بنت عميس، فولدت هناك عبد الله، وعوناً، ومحمداً. وقال ابن إسحاق: أسلم جعفر بعد أحدٍ وثلاثين نفساً أهـ.

1398 - * عن ابن مسعود قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: فأين هم؟ قال هم في أرضك فابعث إليهم، فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلم ولم يسجدا، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال: ما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله وجل: هو كلمة الله وروحُه ألقاها إلى العراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد. قال: فرفع عوداً من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يسوي هذا مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أن رسول الله فإنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيت حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد بن مسعود حتى أدرك بدراً وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته. 1399 - * روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، قدم جعفر رضي الله عنه من الحبشة، تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جبهته ثم قال: "والله ما أدري بأيهما أنا أفرحُ: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر". وفي رواية محمد بن ربيعة، عن أجلح: فقبل ما بين عينيه، وضمه واعتنقه (1).

_ 1398 - أحمد في مسنده (1/ 461) وإسناده قوي. 1399 - المستدرك (3/ 391) وقال: هذا حديث صحيح، إنما ظهر بمثل هذا الإسناد الصحيح مرسلاً، وقال الذهبي: وهو الصواب.

1400 - * روى الإمام أحمد عن أبي قتادة النصاري فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء فقال "عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر ابن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً قال "امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير" فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وأمر أن ينادي الصلاة جامعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باب خير أو بات خير أو ثاب خير" - شك عبد الرحمن - ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا فلقوا العدو فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له" فاستغفر له الناس "ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً أشهد له بالشهادة فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه" ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه فقال: "اللهم هو سيف من سيوفك فانصره" فمن يومئذ سمي خالد سيف الله ثم قال"انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد" قال فنفر الناس في حر شديد مشاة وركبانا. 1401 - * روى أبو داود عن يحيى بن عباد حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني مرة ابن عوف، وكان في الغزاة غزاة مؤتة، قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل. 1402 - * روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قُتل زيدٌ فجعفرٌ، وإن قتل جعفرٌ فعبد الله بن رواحة. قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية" (1).

_ 1400 - أحمد في مسنده (5/ 300) وإسناده صحيح. 1401 - أبو داود (3/ 29) كتاب الجهاد، باب في الدابة تعرقب في الحرب. وإسناده قوي. 1403 - البخاري (7/ 510) 64 - كتاب المغازي-44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام.

1403 - * روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل. فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دُبُره - يعني ظهره". 1404 - * روى الحاكم عن عبد الله بن جعفر قال: لما نُعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفرٍ طعاماً، فقد آتاهم أمرٌ يشغلهم". وفي رواية أحمد: لما جاء نعي جعفر حين قتل. وفيها "أو أتاهم ما شغلهم". 1405 - *روى الحاكم عن عائشة قالت: لما أتى نعي جعفر، عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. 1406 - * روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مُرَّ بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مُخضب الجناحين بالدم أبيضُ الفؤاد". 1407 - * روى البخار يعن الشعبي: كان ابن عمر إذا سلم علي عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. 1408 - * روى الطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وأسماء بنت عميس قريبة منه رد السلام ثم قال: "يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلى الله عليهما مروا فسلموا علينا فرددتُ عليهم السلام، وأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا فأصبتُ في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين بين طعنةٍ وضربة، ثم أخذتُ اللواء بيدي اليمنى فقطعت (1)، ثم أخذته باليسار فقطعت فعوضني الله من يدي جناحين أطيرُ بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة أنْزل بهما

_ 1403 - البخاري (7/ 510) 64 - كتاب المغازي -44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشم. 1404 - المستدرك (1/ 372) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأحمد في مسنده (6/ 270). 1405 - المستدرك (3/ 209) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 1406 - المستدرك (3/ 213) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 1407 - البخاري (7/ 75) 63 - كتاب فضائل الصحابة-10 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه. 1408 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 273) وقال: رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن.

حيثُ شئتُ وآكلُ من ثمارها ما شئت" فقالت أسماء: هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكني أخاف أن لا يصدقني الناس فاصعد المنبر فأخبر الناس يا رسول الله: فصعد المنبر فحمدا الله وأثنى عليه ثم قال "أيها الناس إن جعفر بن أبي طالب مع جبريل ومكائيل له جناحان عوضه الله من يديه يطيرُ بهما في الجنة حيث شاء فسلم علي فأخبر كيف كان أمرهم حين لقي المشركين فاستبان للناس بعد ذلك أن جعفر لقيهم فسمى جعفر الطيار في الجنة ذا جناحين يطيرُ بهما حيث شاء مخضوبة قوادمهُ بالدماء". 1409 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جعفراً يطيرُ في الجنة مع الملائكة". 1410 - * روى الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجعفر بن أبي طالب: "أشبهت خلقي وخُلُقي". 1411 - * روى البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنتُ ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكلُ الخمير، ولا ألبسُ الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة. وكنتُ ألصقُ بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمُني. وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلبُ بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العُكَّة التي ليس فيها شيء فيشقُّها فنلعقُ ما فيها (1).

_ 1409 - الترمذي (5/ 654) 50 - كتاب المناقب- 30 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: هذا حديث غريب. 1410 - الترمذي (5/ 654) 50 - كتاب المناقب -30 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1411 - البخاري (7/ 75) 63 - كتاب فضائل الصحابة-10 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه. الحبير من البرد: ما كان موشىً بخططاً. والعُكة: بضم المهملة وتشديدالكاف: ظرف السمن.

عقيل بن أبي طالب الهاشمي

1412 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل من جعفر بن أبي طالب يعني في الجُود والكرم. * * * عقيل بن أبي طالب الهاشمي قال الذهبي: هو أكبرُ إخوته وآخرهم موتاً، وهو جد عبد الله بن محمد بن عقيل المحدث، وله أولاد: مسلم ويزيد، وبه كان يُكنى، وسعيد، وجعفر، وأبو سعيد الأحول، ومحمد، وعبد الرحمن، وعبد الله. شهد بدراً مشركاً، وأخرج إليها مكرهاً، فأسر، ولم يكن له مال، ففداه عمه العباس. ورُوى أن عقيلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أُسِر: من قتلت من أشرافهم؟ قال: قُتِلَ أبو جهل. قال: الآن صفا لك الوادي (أي قتل ألدُّ أعدائك. والوادي: مكة). قال ابن سعد: خرج عقيل مهاجراً في أول سنة ثمان، وشهد مؤتة، ثم رجع فتمرض مدة، فلم يُسمع له بذكر في فتح مكة ولا حُنين ولا الطائف. وقد أطعمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر مئة وأربعين وسقاً كل سنة. وعن عبد الله بن محمد بن عقيل أن جده أصاب يوم مؤتة خاتماً فيه تماثيل فنفله أباه. عن زيد بن أسلم قال: جاء عقيل بمخيط، فقال لامرأته: خيطي بهذا ثيابك. فسمع المنادي: ألا لا يغُلنَّ رجل إبرة فما فوقها، فقال عقيل لها: ما أرى إبرتك إلا قد فاتتك. عن عطاء، رأيتُ عقيل بن أبي طالب شيخاً كبيراً يُقِلُّ الغَرْب (1) قالوا: توفي زمن معاوية.

_ 1412 - الترمذي (5/ 654) 50 - كتاب المناقب - 30 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. الاحتذاء: لبس الحذاء، وهو النعل. المطايا: جمع مطية، وهي ما يركب من الإبل، أي: يركب مطاها وهو ظهرها. (1) يُقل: يحمل. الغَرُبّ: الدلو العظيم.

أم هانئ

وكان أسن من أخيه علي بعشرين سنة؛ ومن أخيه جعفر الطيار بعشر سنين. هاجر في مدة الهدنة، وشد غزوة مؤتة وله جملة أحاديث. روى عنه ابنه محمد، وحفيده عبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن طلحة، وعطاء، والحسن، وأبو صالح السمان. وعُمر بعد أخيه الإمام عليٍّ. ثم وفد على معاوية، وكان بساماً، مزاحاً، علامة بالنسب وأيام العرب أهـ. 1413 - * روى الحاكم عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعقيل ابن أبي طالب: "يا أبا يزيد إني أُحبك حُبين حُباً لقرابتك مني، وحباً لما كنتُ أعلمُ من حب عمي إياك". * * * أم هانئ قال الذهبي: السيدة الفاضلة أمُّ هانئ بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمية المكية. أختُ: عليِّ، وجعفر. اسمها: فاختة. وقيل: هند تأخر إسلامها. دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلها يوم الفتح، فصلى عندها ثمان ركعات ضُحى (1). روت أحاديث. حدث عنها: حفيدُها جعدةُ، ومولاها أبو صال حباذام، وكُريب مولى ابن عباس،

_ = وقال الحافظ في الإصابة: روى في تاريخ البخاري، بسند صحيح أنه مات في خلافة يزيد قبل الحرة. 1413 - المستدرك (3/ 576) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 373) رواه الطبراني مرسلاً ورجاله ثقات. (1) البخاري (8/ 19) 64 - كتاب المغازي-50 - باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومُجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وعُروة بن الزبير؛ وآخرون. كانت تحت هُبيرة بن عمرو بن عائذ المخزومي، فهرب يوم الفتح إلى نجران. أولداها: عمرو بن هبيرة، وجعدة، وهانئاً، ويوسف. قال ابن إسحاق: لما بلغ هبيرة إسلامها، قال أبيتاً منها: وعاذلة هبتْ بليلٍ تلومُني ... وتعذلني بالليل ضل ضلالها وتزعم أني إن أطعت عشيرتي ... سأوذي وهل يؤذيني إلا زوالها فإن كنت قد تابعت دين محمد ... وقُطعت الأرحام منك حبالها فكوني على سحيقٍ بهضبةٍ ... مُلملةٍ غبراء يبسٍ بلالها (1) قال الذهبي: لم يذكر أحد أن هبيرة أسلم. وعاشت أم هانئ إلى ما بعد سنة خمسين. قال الدغولي: كان ابنُها جعدة بن هبيرة، قد ولاه علي بن أبي طالب خراسان، وهو ابن أخته. وقيل: إن أم هانئ لما بانت عن هبيرة بإسلامها، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة مصيبة (2). فسكت عنها. بلغ مُسندها: ستة وأربعين حديثاً. لها من ذلك حديث واحد أخرجاه أهـ. 1414 - * روى البخاري ومسلم عن أم هانئ رضي الله عنه أخت علي بن أبي طالب

_ (1) السحيق: البعيد، والهضبة: الكدية العالية، والململة: المستديرة، والغبراء التي علاها الغبارن ويبس: يابسة. يبس بلالها: يابسة خضرتها وماؤها. (2) مصيبة: أي ذات أولاد. 1414 - البخاري (1/ 469) 28 - كتاب الصلاة-4 - باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به. =

رضي الله عنهما، قالت: ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسلُ، وفاطمةُ ابنته تستره بثوب، فسلمتُ عليه، فقال: "من هذه"؟ فقلت: أنا أمُّ هانئ بنت أبي طالب، فقال: "مرحباً بأم هانئ" فلما فرغ من غُسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي علي: أنه قاتل رجلاً قد أجرتهُ - فلان ابن هبيرة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجر من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: وذلك ضُحى. قال الحافظ في الفتح: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئاً ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ماورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. 1415 - * روى الطبراني عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله علي هوسلم فقلتُ: ما بي عنك رعنةٌ يا رسول الله ولكن لا أحب أن أتزوج وبني صغار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيرُ نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش أحناهُ على طفل في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده". 1416 - * وروى الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي رافع أن أمُّ هانئ بنت أبي طالب خرجت متبرحةً قد بدا قُرطاها، فقال لها عمر بن الخطاب: اعملي فإن محمداً لا يغني عنك شيئاً، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته به: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لا تنالُ أهل بيتي، وإن شفاعتي تنال حاوحكم" وحاوحكم قبيلتان (1). * * *

_ = ومسلم (1/ 498) 6 - كتاب صلاة المسافرين -13 - باب استحباب صلاة الضحى. أجرنا: أجرت الرجل: منعت من يريده بسوء وأمنته شره وأذاه. 1415 - المعجم الكبير (24/ 436) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 271) رواه الطبراني في الكبير والوسط ورجاله ثقات. 1416 - المعجم الكبير (24/ 434) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 257) رواه الطبراني، وهو مرسل ورجاله ثقات.

عبد الله بن عباس البحر

عبد الله بن عباس البحر قال الذهبي: حبرُ الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس عبد الله، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قُصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه. مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاثين شهراً، وحدث عنه بُجملةٍ صالحة، وعن عمر، وعلي، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت وخَلْقٍ. وقرأ على أُبَّي، وزيد. قرأ عليه مُجاهد، وسعيد بن جُبير، وطائفة. روى عنه؛ ابنه علي، وابنأخيه عبد الله بن معبد، ومواليه؛ عِكرمةُ، ومِقْسمُ، وكُريب، وأبو معبد نافذ، وأنسُ بن مالك، وأبو الطُّفيل، وأبو أمامة بن سهل، وأخوه كثير بنُ العباس، وعُروةُ بن الزبير، وعُبيدُ الله بن عبد الله، وطاووس، وأبو الشعثاء جابر، وعلي بن الحسين، وسعيدُ بن جبير، ومجاهدُ بنُ جَبْر، والقاسمُ بنُ محمد؛ وأبو صالح السمان، وأبو رجء العُطاردي، وأبو العالية، وعُبيدُ بن عُمير، وابنه عبد الله، وعطاء بن يسار، وإبراهيمُ بن عبد الله بن معبد، وأربدةُ التميمي صاحبُ التفسير، وأبو صالح باذام، وطليقُ بن قيس الحنفي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبيُّ، والحسنُ، وابن سيرين، ومحمدُ بن كعب القُرظي، وشهر بنُ حوشب، وابنُ أبي مُليْكة، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبو جَمْرة نصرُ بن عمران الضبعيُّ، والضحاكُ بن مُزاحم، وأبو الزُّبير المكيُّ، وبكر بن عبد الله المزني، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيدُ بن أبي الحسن، وإسماعيلُ السُّديُّ، وخلق سواهم. وفي "التهذيب": من الرواة عنه مئتان سوى ثلاثة أنفس.

وأُمُّه: هي أمُّ الفضل لبابة بنتُ الحارث بن حَزْ بن بُجير الهلاليةُ من هلال بن عامر. وله جماعة أولاد؛ أكبرهم العباس، وبه كان يُكنى، وعليُّ أبو الخلفاء، وهو أصغرهم، والفضلُ، ومحمد، وعبيد الله، ولبابة، وأسماء. وكان وسيماً، جميلاً، مديد القامة، ممهيباً، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال. وأولاده؛ الفضل، ومحمدُ، وعبيد الله، ماتواولا عقب لهم. ولبابةُ ولها أولاد وعقب من زوجها عليِّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وبنتهُ الأخرى أسماء وكانت عند ابن عمها عبد الله ب عبيد الله بن العباس، فولدت له حسناً، وحُسيناً. انتقل ابنعباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين؛ أنا من الولدان، وأمي من النساء (1) إشارة لقوله تعالى: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (2). قال الزبير بنُ بكار: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولابن عباس ثلاث عشرة سنة. قال أبو سعيد بن يونس: غزا ابنُ عباس إفريقية مع ابن أبي سرح؛ وروى عنه من أهل مصر خمسة عشر نفساً. قال أبو عبد الله بنُ مندة: أمه هي أمُّ الفضل أخت أم المؤمنين ميمونة، وُلد قبل الهجرة بسنتين. وكان أبيض، طويلاً، مُشرباً صفرة (شقرة) جسيماً، وسيماً، صبيح الوجه، وله وفْرةً، يخضِبُ بالحناء، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة. قلت: وهو ابن خالة خالد بن الوليد المخزومي.

_ (1) البخاري (8/ 255) 65 - كتاب التفسير-14 - باب قوله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) ... إلى (الظالم أهلها ..). (2) النساء: 98.

سعيد بن سالم، حدثنا ابن جُريج قال: كنا جُلوساً مع عطاء في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس؛ فقال عطاء: ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة إلا ذكرتُ وجه ابن عباس. إبراهيم بن الحكم بن أبان؛ عن أبيه، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا مر في الطريق، قُلن النساءُ على الحيطان؛ أمَرَّ المِسكُ، أم مرَّ ابن عباس؟. عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له أنْ يزيده الله فهماً، وعلماً. وعن ابن عباس: دعا لي رسول الله بالحكمة مرتين. ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: قال لي معاويةُ: أنت على ملة عليٍّ؟ قلتُ: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن طاووس قال: ما رأيتُ أحداً أشد تعظيماً لحُرمات الله من ابن عباس. عن ابن عباس، قال: إن كنتُ لأسألُ عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (إسناده صحيح). عن سعيد بن جُبير، قال: قال عمر لابن عباس: لقد علمت علماً ما علمناهُ. عن ابن عباس، قال: دعاني عُمرُ مع الأكابر، ويقولُ لي: لا تتكلمْ حتى يتكلموا، ثم يسألني، ثم يُقبلُ عليهم، فيقول: ما منعكم أن تأتوني بمثل ما يأتيني به هذا الغلامُ الذي لم تستوِ شؤون رأسه (1). موسى بن عُبيدة، عن يعقوب بن زيد، قال: كان عمر يستشير ابن عباس في الأمر إذا أهمه، ويقول: غُصْ غوَّاصَ. وعن مُجالد، عن الشعبي قال: قال ابن عباس: قال لي أبي: يا بُني! إنَّ عُمر يُدنيك، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تُفْشينَّ له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا يُجرِّيَنَّ عليك كذباً.

_ (1) شؤون الرأس: عظامه والشعب التي تجمع بين قبائل الرأس، وهي أربعة أشؤن.

عن عبد اله بن مسعود، قال: لو أدرك ابن عباس أسنانناً ما عشِرهُ منا أحد. وفي رواية "ما عاشره" (1). الأعمش: حدثونا أن عبد الله قال: ولنعم ترجمانُ القرآن ابن عباس. أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. الأعمش: عن إبراهيم، قال: قال عبد اللهك لو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا، ما تعلقنا معه بشيء. وعن عكرمة: سمعتُ معاوية يقول لي: مولاك والله أفقه من مات ومن عاش. ويُروى عن عائشة قالت: أعلم من بقي بالحح ابن عباس. عمرو بن دينار: أن أهل المدينة كلموا ابن عباس أن يحاج بهم. فدخل على عثمان، فأمره، فحجَّ، ثم رجع فوجد عثمان قد قُتل؛ فقال لعليٍّ: إن أنت قُمت بهذا الأمر الآن، ألزمك الناس دم عثمان إلى يوم القيامة. وعن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أنه قال لعلي لما قال: سِر فقد وليتُك الشام، فقال: ما هذا برأيٍ، ولكنْ اكتبْ إلى معاوية، فمنه، وعِدْهُ، قال: لا كان هذا أبداً. ابن جُريج، عن طاووس قال: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس. وقال مُجاهد: ما رأيتُ أحداً قط مثل ابن عباس. لقد مات يوم مات وإنه لحَبْرُ هذه الأمة. الأعمش، عن مجاهد، قال: كان ابنُ عباس يُسمى البَحْرَ لكثرة علمه.

_ (1) المستدرك (3/ 537) وإسناده صحيح. ما عشره منا أحد: أي ما بلغ عُشره في العلم.

ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ما سمعتُ فُتيا أحسنَ من فتيا ابن عباس إلا أن يقول قائل: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم. وعن طاووس، قال: أدركتُ نحواً من خمس مئة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عباس، فخالفوه، فلم يزل يُقررُهم حتى ينتهوا إلى قوله. قال يزيدُ بن الأصم: خرج مُعاويةُ حاجاً معه ابن عباس، فكان لمعاويةَ موكبٌ، ولابن عباس موكبُ ممن يطلب العلم. الأعمش: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابنُ عباس، وهو أمير على الموسم، فافتتح سورة النور، فجعل يقرأ، ويُفسر، فجعلتُ أقولُ: ما رأيتُ ولاسمعتُ كلام رجل مثل هذا، لو سمعتْه فارس، والروم، والتركُ، لأسلمتْ. وروى عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل مثله. روى جويبر، عن الضحاك، قال: ما رأيتُ بيتاً أكثر خُبزاً ولحماً من بيت ابن عباس. سُليم بن أخضر، عن سليمان التيمي، قال: أنبائي من أرسله الحكم بن أيوب إلى الحسن، فسأله: منْ أولُ من جمع الناس في هذا المسجد يوم عرفة؟ فقال: إن أول من جمع ابن عباس. وعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجملُ الناس. فإذا نطق، قلتُ: أفصحُ الناس. فإذا تحدث، قلت: أعلمُ الناس. قال القاسم بن محمد: ما رأيتُ في مجلس ابن عباس باطلاً قط. قال سفيان بن عيينة: لم يدركْ مثل ابن عباس في زمانه، ولا مثل الشعبي في زمانه، ولا مثل الثوري في زمانه. أبو عامر الخزاز: عن ابن أبي مُليكة: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يُصلي ركعتين، فإذا نزل، قام شطر الليل، ويرتلُ القرآن حرفاً حرفاً، ويُكثُر في ذلك من النشيج والنحيب.

مُعتمر بن سُليمان: عن شعيب بن درهم، عن أبي رجاء، قال: رايت ابن عباس وأسفل من عينيه مثلُ الشراك البالي من البكاء. وعن الشعبي وغيره: أن علياً رضي الله عنه أقام بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة، ثم سار إلى الكوفة، واستخلف ابن عباس على البصرة، ووجه الأشتر على مُقدمته إلى الكوفة، فلحقه رجل فقال: من استخلف أمير المؤمنين على البصرة؟ قال: ابن عمه. قال: ففيم قتلنا الشيخ أمس بالمدينة؟ قال: فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى سار إلى صفين، فاستخلف أبا الأسود بالبصرة على الصلاة، وزياداً على بيت المال. وقال الذهبي: وقد كان عليٍّ لما بُويع، قال لابن عباس: اذهب على إمرة الشام. فقال: كلا، أقلُّ ما يصنعُ بي معاوية إنْ لم يقتلني الحبسُ، ولكن استعملهُ، وبين يديك عزلهُ بعد، فلم يقبل منه. وكذلك أشار على عليٍّ أن لا يولي أبا موسى يوم الحكمين، وقال: ولني، أو فول الأحنف، فأراد عليٍّ ذلك، فغلبُوه على رأيه. قال أبو عبيدة في تسمية أمراء عليٍّ يوم صفين: فكان على الميسرة ابن عباس، ثم رُد بعد إلى ولاية البصرة. ومما قال حسان رضي الله عنه فيما بلغنا: إذا ما ابن عباس بدلك وجههُ ... رأيت له في كل أقواله فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بمنتظمات لا ترى بينها فصلا كفى وشفي ما في النفوس فلم يدع ... لذي أربٍ في القول جداً ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقةٍ ... فنلت ذُراها لا دنيا ولا وغْلا خُلقت حليفاً للمروءة والندى ... بليجاً، ولم تُخلق كهاماً ولا خبْلا روى العُتبى عن أبيه، قال: لما سار الحسينُ إلى الكوفة، اجتمع ابن عباس، وابن الزبير، بمكة، فضرب ابن عباس على جيب ابن الزبير، وتمثل: يا لك من قُنبرةٍ بمعمرِ ... خلا لك الجو فبيضي واصفري

وتقري ما شئت أن تُنَقَّري خلا لك والله يا ابن الزبير الحجازُ، وذهب الحسينُ. فقال ابن الزبير: والله ماترون إلا أنكم حقُّ بهذا الأمر من سائر الناس. فقال: إنما يرى من كان في شك، نحن فعلى يقين. لكن أخبرني عن نفسك: لِمَ زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب؟ فقال ابن الزبير: لشرفي عليهم. قال: أيما أشرفُ، أنت أم من شُرفتَ به؟ قال: الذي شَرفْتُ به زادني شرفاً. قال: وعلتْ أصواتهما حتى اعترض بينهما رجالٌ من قيش، فسكتوهما. وعن عكرمة، قال: كان ابن عباس في العلم بحراً ينشقُّ له الأمر من الأمور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل" فلما عمي، أتاهُ ناسٌ من أ÷ل الطائف ومعهم علم من علمه -أو قال كتب من كتبه - فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يُقدِّم ويؤخر، فلما رأى ذلك، قال: إني قد تلهْتُ من مُصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فليقرأ عليَّ، فإن إقراري له كقراءتي عليه. قال: فقرؤوا عليه. تَلِهْتُ: تحيرتُ، والأصل ولهتُ كما قيل في وجاه تجاه. أبو عوانة: عن أبي الجويرية، قال: رأيت إزار ابن عباس إلى نصف ساقه أو فوق ذلك، وعليه قطيفةٌ روميةٌ وهو يصلي. رِشْدين بن كُريب: عن أبيه، قال: رأيت ابن عباس يعتمُّ بعمامة سوداء، فيُرخي شِبراً بين كتفيه ومن بين يديه. ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، أن ابن عباس كان يتخذُ الرداء بألف. أبو نعيم: حدثنا سلمة بن شابور؛ قال رجل لعطيةَ: ما أضيق كُمكَ قال: كذا كان كمُّ ابن عباس، وابن عُمر. مالك بن دينار، عن عكرمة: كان ابن عباس يلبس الخز، ويكره المصمت (1).

_ (1) المصْمَتُ: هو الذي جميعه إبريسم لا يخالطه قطن ولا غيره والإبريسم: أحسن الحرير.

1417 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: حدثتني أم الفضل بنتُ الحارث (أي أمه) قالت: بينا أنا مارة والنبي صلى الله عليه وسلم في الحِجْر فقال: "يا أم الفضل" قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "إنك حاملٌ بغلامٍ" قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يُولدون النساء؟ قال: "هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فائتيني به" قالت: فلماوضعته أتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهُ عبد الله، وألباه برقه. قال: "اذهبي به فلتجدنه كيساً" قال: قالت: فأتيتُ العباس فأخبرتهُ، فتبسم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً جميلاً مديد القامة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قام إلأيه فقبل ما بين عينيه، وأقعده عن يمينه، ثم قال: "هذا عمي فمن شاء فليباه بعمِّه" فقال العباس: بعض القول يا رسول الله قال: "ولم لا أقول؟ وأنت عمي وبقيةُ آبائي والعمُّ والدٌ". 1418 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: "اللهم علمْهُ الكتاب" وفي رواية "الحكمة". وفي رواية (1): أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء، فوضعتُ له وضوءاً، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟ " فأُخبر، قال: "اللهم فقهه في الدين". وعند مسلم (2): "اللهم فقهه" قال الحميدي: وحكى أبو مسعود قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وفي رواية الترمذي (3) قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم علمْهُ الحكمة".

_ 1417 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 375) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. أنبأه: أي صب ريقه في فيه. 1418 - البخاري (7/ 100) 62 - كتاب فضائل الصحابة-34 - باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما. (1) البخاري (1/ 344) 4 - كتاب الوضوء-10 - باب وضع الماء عند الخلاء. (2) مسلم (4/ 1927) 44 - كتاب فضائل الصحابة-30 - باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (3) الترمذي (5/ 680) 50 - كتاب المناقب - 43 - باب مناقب عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وفي أخرى (1) قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الحكمة مرتين. وفي أخرى (2) قال: إنه رأى جبرل مرتين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم مرتين. 1419 - * روى أحمد والطبراني عن ابن عباس قال: كنتُ مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كالمُعرِض عن أبي، فخرجنا من عنده، فقال: ألم تر ابن عمك كالمُعرض عني؟ فقلت: إنه كان عنده رجلٌ يُناجيه. قال: أو كان عنده أحد؟ قلت: نعم. فرجع إليه، فقال: يا رسول الله، هل كان عندك أحدٌ؟ فقال لي: "هل رأيته يا عبد الله؟ " قال: قلت نعم. قال: "ذاك جبريلُ، فهو الذي شغلني عنك". 1420 - * روى الطبراني عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فوجد عنده رجلاً، فرجع، ولم يُكلمه. فلقي العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقال: أرسلتُ إليك ابني، فوجد عندك رجلاً، فلم يستطع أن يكلمه. فقال: "يا عم تدري من ذاك الرجلُ". قال: لا. قال: "ذاك جبيلُ لقيني، لن يموت ابنك حتى يذهب بصرهُ، ويُؤتى علماً". 1421 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عباس عن أبيه قال أمرني العباس رضي الله عنه قال: بت بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة فانطلقتُ إلى المسجد فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العشاء الآخرة، حتى لم يبق في المسجد أحد غيرُه قال: ثم مر بي فقال: "من هذا؟ " فقلت: عبد الله. قال: "فمه؟ " قلت: أمرني أبي أن أبيت بكم الليلة قال: "فالحق" فلما دخل قال: "افرشوا لعبد الله" قال: فأتيت بسادة من مسوح قال: وتقدم إليَّ العباسُ أن لا تنامن حتى تحفظ صلاته قال: فقِدَمَ رسول الله صلى الله وآله وسلم فنام حتى سمعتُ غطيطهُ قال: ثم استوى على فراشه فرفع رأسه إلى السماء

_ (1) الموضع السابق نفسه وقال: هذا حديث مرسل. (2) الموضع السابق نفسه وقال: هذا حديث حسن غريب. 1419 - أحمد في مسنده (1/ 214) ورجاله ثقات. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 276) وقال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالهما رجال الصحيح. 1420 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 277) وقال رواه الطبراني بأسانيد ورجاله ثقات. 1421 - المستدرك (3/ 535) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

فقال: "سبحان الملك القُدوس" ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثم قام فبال ثم استن بسواكه ثم توضأ ثم دخل مُصلاه فصلى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين قال فصلى ثم أوتر فلما قضى صلاته سمعته يقول: "اللهم اجعلْ في بصري نوراً واجعل في سمعي نوراً، واجعل في لساني نورا، واجعل في قلبي نورا، واجعل عن يميني نوراً، واجعل عن شمالي نورا، واجعل أمامي نوراً، واجعل من خلفي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، واجعل من أسفل مني نوراً، واجعل لي يوم لقائك نوراص، وأعظمْ لي نوراً". 1422 - * روى البخاي عن ابن عباس قال ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره ودعا لي بالحكمة. 1423 - * روى أحمد والحاكم عن عبد الله، قال: بتُّ في بيت خالتي ميمونة، فوضعتُ للنبي صلى الله عليه وسلم غُسلا، فقال: "مَنْ وضع هذا"؟ قالوا: عبد الله. فقال: "اللهم علمه التأويل وفقههُ في الدين". 1424 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أقبلتُ راكباً على أتانٍ، وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بالناس بمنى. وفي رواية (1) عن ابن عباس قال: أقبلتُ راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام، ورسول الله صلى الله عيه وسلم يصلي بالناس بمنى، فمررتُ بين يدي بعض الصف، فنزلتُ، فأرسلتُ الأتان ترتع، ودخلتُ في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد.

_ 1422 - البخاري (7/ 100) 62 - كتاب فضائل الصحابة-24 - باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما. 1423 - أحمد في مسنده (1/ 328، 335)، والمستدرك (3/ 534) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الصذهبي. 1424 - البخاري (1/ 171) 3 - كتاب العلم-18 - باب متى يصح سماع الصغير. ومسلم (1/ 261) 4 - كتاب الصلاة-47 - باب سترة المصلي، واللفظ له. والأتان: أنثى الحمار. (1) البخاري (1/ 751 - 8 - كتاب الصلاة-90 - باب سترة الإمام سترة من خلفه. قوله وناهزت الاحتلام: أي قاربته. وكان ذلك في حجة الوداع.

1425 - * روى الحاكم والطبراني عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة. وقد ختنت. 1426 - * روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. قال الحافظ في (الفتح): المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير وصححه ابن عبد البر، وأورده بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: ولدت وبنو هاشم في الشعب، وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" ولا قوله: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك، لاحتمال أن يكون أدرك، فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله "وأنا ابن عشر" فمحمول على إلغاء الكسر، ورواية أحمد "وأنا ابن خمس عشرة" يمكن ردها إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء، وولد في أثناء السنة، فجبر الكسرين، بأن يكون ولد مثلاً في شوال، فله من السنة الأولى ثلاثة أشهر، فأطلق عليها سنة، وقبض النبي صلى الله عيه وسلم في ربيع، فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى، وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال: "ثلاث عشرة" ألغى الكسرين، ومن قال "خمس عشرة" جبرهما، والله أعلم. 1427 - * روى الحاكم والطبراني عن ابن عباس قال: لما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير؛ فقال: (1) واعجباً

_ 1425 - المستدرك (3/ 534) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وهو أولى من سائر الاختلاف في سنه، وأقره الذهبي. والمعجم الكبير (10/ 289) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 385) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1426 - البخاري (11/ 88) 79 - كتاب الاستئذان -51 - باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط. 1427 - المستدرك (1/ 106، 107) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري وهو أصل في طلب الحديث وتوقير المحدث وأقره الذهبي. والمعجم الكبير (10/ 299، 300) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 277)، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه السلام من ترى؟ فتركتُ ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديثُ عن الرجل، فآتيه وهو قائل (1)، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ عليَّ التراب، فيخرجُ، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ألا أرسلت إلى فآتيك؟ فأقول: أنا أحقُّ أن آتيك، فأسألك. قال: فبقي الرجلُ حتى رآني وقد اجتمع الناسُ عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقلُ مني. 1428 - * روى البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فقال بعضهم: أُمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. 1429 - * روى أبو داود عن عكرمة أن علياً كرم الله وجهه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُعذبوا بعذاب الله" وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك علياً عليه السلام، فقال: ويح ابن عباس.

_ (1) قائل: نائم وسط النهار. 1428 - البخاري (8/ 734) 65 - كتاب التفسير-4 - باب قوله: "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" من تفسير سورة (110). 1429 - أبو داود (4/ 126) كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد. قال الخطابي: قوله: "ويح اب عباس": لفظه لفظ الدعاء عليه، ومعناه المدح له، والإعجاب بقوله، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم في أ [ي بصير: "ويل أمه مسعر حرب".

1430 - * روى الحاكم عن أبي وائل قال: حججتُ أنا وصاحب لي وابن عباس على الحج فجعل يقرأ سورة النور ويفسرُها فقال صاحبي يا سبحان الله ماذا يخرجُ من رأس هذا الرجل لو سمعت هذا التركُ لأسلمت. 1431 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دعا الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دعاني معهم، فدعانا ذات يوم أو ذات ليلة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: في ليلة القدر ما قد علمتم فالتمسوها في العشر الأواخر ففي أي الوتر ترونها؟ فقال بعضهم: تاسعه، وقال بعضهم سابعه وخامسه وثالثه، فقال: مالك يا ابن عباس لا تتكلم؟ قلت: إن شئت تكلمتُ؟ قال: ما دعوتك إلا لتكلم فقال: أقول برأي؟ فقال: عن رأيك أسألك. فقلتُ: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله تبارك وتعالى أكثر ذكر السبع، فقال السماوات سبع، والأرضون سبع، وقال: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فالحدائق مُلتفٌّ وكل ملتفٌّ حديقة، والأب ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس. فقال عمر (رضي الله عنه) أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه؟ ثم قال: إني كنت نهيتُك أن تكلم فإذا دعوتك معهم فتكلم. وفي رواية (1) عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: ياأمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلتُ (أي ابن عباس): والله ما أُحبُّ أن يُسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مهْ فانطلقتُ إلى منزلي مُكتئباً حزيناً، فقلتُ: قد كنتُ نزلتُ من هذا بمنزلة، ولا

_ 1430 - المستدرك (3/ 537) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1431 - المستدرك (3/ 539) وقالك هذا حديث صحيح الإسند ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. شؤون رأسه: عظامه والشعب التي تجعم بين قبائل الرأس وهي أربعة أشؤن. (1) سير أعلام النبلاء (3/ 348) وقال محققه: رجاله ثقات وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (11/ 317) حديث (30368). زبرني عمر: زجرني وانتهرني. مهْ: كُفَّ.

أراني إلا قد سقطت من فسه، فاضطجعت على فراشي، حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك، قيل لي: أجِبْ أمير المؤمنين. خرجتُ، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال، ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين، إنْ كنتُ أسأتُ، فإني أستغفر الله، وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت. قال: لتخبرني. قلتُ: متى ما يُسارعوا هذه المسارعة يحتقوا (1)، ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفون يقتتلوا. قال: لله أبوك لقد كنتُ أكتُمها الناس حتى جئت بها". أقول: ينبغي أن يكون مع التلاوة والحفظ لكتاب الله تعالى التأدب والتخلق على أيدي العلماء والمربين حتى لا يورث العلمُ الغرور إن خلا من الأدب والخلق، كما ينبغي أن يرافق الحفظ الفهم والالتزامُ والعمل والأخذُ بفهم الراسخين في العلم وبذلك ينتفي ما تخوف منه ابن عباس. 1432 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عباس قال: يا ابن شداد ألا تعجب، جاءني الغلامُ وقد أخذت مضجعي للقيلولة، فقال هذا رجل بالباب يستأذن قال: فقلت: ما جاء به هذه الساعة إلا حاجة، ائذن له. قال فدخل فقال: ألا تخبرني عن ذاك الرجل؟ قلت: أي رجل. قال: علي بن أبي طالب. قلتُ عن أي شأنه؟ قال: متى يُبعث؟ قلت: سبحان الله يبعثُ إذا بُعث من في القبور. قال: فقال: ألا أراك تقول كما يقول هؤلاء الحمقاء؟ فقلت: أخرجوا عني هذا، فلا يدخلن علي هذا أو لأضربنه. 1433 - * روى الحاكم عن أبي الطفيل قال: إنه رأى معاوية رضي الله عنه يطوف بالكعبة وعن يساره عبد الله بن عباس وأنا أتلوهما في ظهورهما أسمع كلامهما، فطفق معاويةُ يستلم ركني الحِجْر (2) فيقولُ له ابن عباسٍ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم

_ (1) يحتقوا: أي: يختصموا، ويقول كل واحد منهم: الحق في يدي. 1433 - المستدرك (3/ 540) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. 1433 - المستدرك (3/ 543) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (2) ركني الحجر: الركن الشامي والركن العراقي للكعبة.

يكُنْ يستلمُ هذين الركنين، فيقول معاوية: يا ابن عباس فإنه ليس شيء منها مهجوراً فطفق ابن عباس لا يذره كلما وضع يده على شيء من الركنين إلا قال له ذلك. 1434 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مليل العِجْليِّ قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قبل موته بثلاثٍ يقول: اللهم إني أتوبُ إليك مما كنت أُفتي الناس في الصرف. أقول: المعروف عند العلماء أن الربا نوعان: ربا النسيئة، وربا الفضل؛ وكان ابن عباس لا يرى أن في الفضل رباً، وأن الربا في النسيئة فقط، ثم رجع عن ذلك وتاب منه. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال ابنُ عبد البر في ترجمة ابن عباس: هو القائل ما رُوي عنه من وجوه: إن يأخُذِ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نُورٌ قلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دخلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ قال سالم بن أبي حفصة: عن أبي كلثوم، أن ابن الحنفية لما دُفن ابن عباس، قال: اليوم مات رباني هذه الأمة. ورواه بعضهم فقال: عن "مُنذر الثوري" بدل "أبي كلثوم". قال حسين بن واقد المروزي: حدثنا أبو الزبير قال: لما مات ابن عباس جاء طائرٌ أبيضُ، فدخل في أكفانه. حماد بن سلمة: عن يعلي بن عطاء، عن بُجير بن أبي عبيد، قال: مات ابن عباس بالطائفِ، فلما خرجُوا بنعشه، جاء طيرٌ عظيمٌ أبيضُ من قِبَل وجٍّ حتى خالط أكفانه، ثم لم يروه، فكانوا يرون أنه عِلْمُه. قال ابن حزم في كتاب "الإحكام" (1): جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن

_ 1434 - المستدرك (3/ 543) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وهو من أجل مناقب عبد الله بن عباس أنه رجع عن فتوى لم ينقم عليه في شيء غيرها.

عبيد الله بن العباس

المأمون أحدُ أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتاباً. عن سعيد (1)؛ قال: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائرٌ لم يُر على خلْقَتِه، فدخل نعشه، ثم لم يُرَ خارجاً منه، فلما دُفِنَ، تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يُدرى من تلاها {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (2). رواه بسام الصيرفي، عن عبد الله بن يامين سميَّ الطائر غُرنُوقاً. وروى فُراتُ بن السائب، عن ميمون بن مهران: شهدتُ جنازة ابن عباس ... بنحو من حديث سالم الأفطس. فهذه قضية متواترة. قال علي بن المديني: تُوفي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين، وقال الواقدي: والهيثم، وأبو نعيم: سنة ثمان. وقيل: عاش إحدى وسبعين سنة. ومسنده ألف وست مئة وستون حديثاً. وله من ذلك في "الصحيحين" خمسة وسبعون. وتفرد البخاري له بمئة وعشرين حديثاً، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث. * * * عبيدُ الله بن العباس قال الذهبي: ابنعبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو عبد الله وكثير، والفضل، وقُثم، ومعبد، وتمام. وُلد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: له رؤية. وله حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في سُنن النسائي: حُكمه أنه مُرسلٌ. وكان أميراً، شريفاً، جواداً، مُمدحاً.

_ (1) المستدرك (3/ 543، 544)، ومجمع الزوائد (9/ 285) وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (2) الفجر: 27، 28.

قثم بن العباس الهاشمي

ذكره محمد بن سعد في الطبقة الخامسة من الصحابة فقال: كان أصغر من عبد الله بسنة واحدة؛ ثم قال: سمع من النبي صلى الله عليه وسلم. وكان رجلاً تاجراً مات بالمدينة. فذكر الواقدي: أنه بقي إلى دولة يزيد بن معاوية. قلتُ: هو شقيق عبد الله. ولي إمرة اليمن لابن عمه عليِّ، وحج بالناس، وقد ذبح بُسر ابن أرطأة ولديه عدوانا وظلماً، تولهت أمهما عليهما، وهرب عبيد الله. قيل: إن عبدي الله وصل مرة رجلاً بمئة ألف. قال الفسوي: مات زمن معاوية، وقال خليفة وغيره: مات سنة ثمان وخمسين. وأما أبو عبيد وأبو حسان الزيادي، فقالا: مات سنة سبع وثمانين. أهـ. * * * قُثَم بن العباس الهاشمي قال الذهبي في السير: ابن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخو الفضل وعبد الله وعُبيد الله وكثير. وأمُّه هي أمُّ الفضل لُبابة بنتُ الحارث الهلالية، وكانت ثانية امرأةٍ أسلمت، أسلمت بعد خديجة. قاله الكلبي. لقِثم صُحبة، وقد أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه (1). وكان أخا الحُسين بن عليٍّ من الرضاعة (2). وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قليل الرواية. وعن ابن عباس قال: كان آخر من خرج من لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم قُثم.

_ (1) البخاري في التاريخ (7/ 194) وأحمد في مسنده (1/ 305). (2) أحمد في مسنده (6/ 329) بسند حسن.

معبد بن العباس

ولما استخلف عليُّ بن أبي طالب، استعمل قُثَم على مكة، فما زال عليها حتى قُتل عليُّ، قاله خليفةُ بنُ خيَّاط. وقال الزبير بن بكار: استعمله عليُّ على المدينة. وقيل: إنه لم يُعقب. قال ابن سعدك غزا قُثُم خراسان وعليها سعيدُ بن عثمان بن عفان، فقال له: أضربُ لك بألف سهم؟ فقال: لا بل خمس، ثم أعطِ الناس حقوقهم؛ ثم أعطني بعدُ ما شئت، وكان قُثم رضي الله عنه سيداً، ورعاً، فاضلاً قال الزبير: سار قُثم أيام مُعاوية مع سعيد بن عثمان إلى سمرقند، فاستُشهد بها. قلتُ: لا شيء له في الكتب الستة. وقد ذكره أبو عبد الله الحاكم في "تاريخ نيسابور"، فقال: كان شبيه النبي صلى الله عليه وسلم وآخر الناس به عهداً. وحديثُ أم الفضل ناطق بذلك بأسانيد كثيرةٍ. قال: فما وفاة قُثَم، وموضعُ قبره، فمختلفٌ فيه، فقيل: إنه تُوفي بسمرقند، وبها قبره، وقيل: إنه تُوفي بمرو. قال الحاكم: والصحيح أن قبره بسمرقند. أهـ. * * * مَعْبَد بن العبَّاس من صغار ولد العباس، وهو من أم الفضل. له أولاد؛ عبد الله، وعباس، وميمونة. وأمهم أم جميل عامرية. وله بقية وذرية كثيرة. * * * كثير بن العباس أُمُّه أُمُّ ولد. تابعي يروي عن أبيه وغيره. وكان فقيهاً، جليلاً، صالحاً، ثقةً، له عقب. قاله ابنُ سعد. * * *

تمام بن العباس

تمَّامُ بنُ العبَّاس من أمِّ ولد، وهو شقيقُ كثير. قال ابن سعد: كان تمامُ من أشد أهل زمانه بطشاً. وله أولاد، وأولادُ أولاد، فانقرضوا وآخرهم يحيى بن جعفر بن تمام مات زمن المنصور، وورثه أعمامُ المنصور، فأطلقوا الميراث كله لعبد الصمد بن علي. * * * الفضل بن العباس هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد أو أبا عبد الله، وكان أسن ولد العباس، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحنيناً، وثبت يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولي الناس، وشهد معه حجة الوداع، وأردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح مسلم أن النبي زوَّجه وأمهر عنه، وفي بعض حديثه في حجة الوداع لما حجب وجهه عن الخثعمية: "رأيت شاباً وشابة، فلم آمن عليهما الشيطان"، وكان فيمن غسل النبي صلى الله عليه وسلم، وولي دفنه. مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب، ولم يترك ولداً إلا أم كلثوم تزوجها الحسن بن علي، ثم فارقها، فتزوجها أبو موسى الأشعري. * * * ربيعةُ بن الحارث قال الذهبي في السير: ابن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو أروى. وله من الولد: محمد، وعبد الله، والحارث، والعباس، وأمية، وعبدُ شمس، وعبد المطلب، وأروى الكبرى، وهند، وأروى، وآدم. وآدم: هو المسترضع له في

عبد الله بن الحارث

هُذيل، فقتله بنو ليث بن بكر في حرب كانت بينهم. وكان صغيراً يحبُو أمام البيوت، فأصابه حجرٌ قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأولُ دمٍ أضعه دمُ ابن ربيعة بن الحارث". يرى أن قال فيه: "آدم، رأى في الكتاب دم ابن ربيعة، فزاد ألفاً، والظاهر أنه لصغره ما حفظ اسمه. وقيل: كان اسمه تمام بن ربيعة". قالوا: وكان ربيعة أسنُّ من عمه العباس بسنتين .. ونوبةَ بدرٍ كان ربيعة غائباً بالشام. قال ابن سعد: فلما خرج العباس ونوفل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين أيام الخندق، شيعهما ربيعةُ إلى الأبواء، ثم أراد الرجوع، فقالا له: أين ترجعُ؟ إلى دار الشرك تُقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُكذبونه، وقد عز وكثُف أصحابُه، ارجع. فسار معهما حتى قدموا جميعاً مسلمين. وأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيعة بخيبر مئة وسق كل سنة، وشهد معه الفتح وحُنيناً، وابتنى داراً بالمدينة، وتوفي في خلافة عمر. وكان ربيعةُ شريكاً لعثمان في التجارة. وقد جاء في حديث جابر الذي في المناسك، "وإن أول دمٍ أضع دم ابن ربيعة بن الحارث" أراد الذي يستحق ربيعة به الدية من أجل ولده. وقيل: إنه توفي سة ثلاث عشرة، وأمه هي غُزية بنت قيس بن طريف. * * * عبد الله بن الحارث قال الذهبي: ابن عبد المطلب الهاشمي. أخو ربيعة ونوفل. وكان اسمه عبد شمس فغُيِّر. فرُووا أنه هاجر قُبيل الفتح، فسماه النبي، صلى الله عليه وسلم عبد الله، وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فمات بالصفراء فكفنه في قميصه - يعني قميص النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قيل إنه قال فيه: هو سعيدٌ أدركته السعادةُ. كذا أورد ابن سعد هذا بلا إسناد. ولا نسل لهذا.

عبيدة بن الحارث

عبيدةُ بن الحارث قال الذهبي في السير: ابن المطلب بن عبد مناف بن قُصي القرشي المطلبي، وأمه من ثقيف. وكان أحد السابقين الأولين. وهو أسنُّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين. هاجر هو وأخواه الطفيل وحُصين. وكان ربعةً من الرجال، مليحاً، كبير المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي بارز رأس المشركين يوم بدر فاختلفا ضربتين، فأثبت كلُّ منهما الآخر. وشدَّ عليِّ وحمزة على عتبة، فقتلاه، واحتملا عُبيدة وبه رمق. ثم توفي بالصفراء (1)، قال في العشر الأخير من رمضان، سنة اثنتين رضي الله عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره على ستين راكباً من المهاجرين، وعقد له لواء. فكان أول لواء عُقد في الإسلام. فالتقى قريشاً وعليهم أبو سفيان عند ثنية المرُة، وكان ذاك أول قتالٍ جرى في الإسلام. قاله ابن إسحاق، أهـ. * * * نوفل بن الحارث قال الذهبي في السير: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وأبو الحارث أخو أبي سفيان بن الحارث. كان نوفل أسنُّ من عمه العباس. حضر بدراً مع المشركين، فأُسر، ففداه عمه العباس، ثم أسلم، وهاجر عام الخندق. وقيل: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين العباس، وقد كانا شريكين في الجاهلية متصافيين.

_ (1) الصفراء: قرية كثيرة النخل والمزارع، وماؤها عيون. وهي فوق ينبع مما يلي المدينة وماؤها يجري إلى ينبع. وقد قيل ف يرثاء عبيدة بن الحارث: لقد ضمن الصفراء مجداً وسؤددا ... وحلماً أصيلاً وافر اللب والعقل عبيدة فابكيه لأضياف غُربةٍ ... وأرملةِ نهوي لأشعث كالجذل

سعيد بن الحارث

شهد نوفل بيعة الرضوان، وأعان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت معه يومئذ، وما علمتُ له روايةً ولا ذكراً بأكثر مما أوردت. قيل: مات سنة عشرين، وقيل مات سنة خمس عشرة، وكان أسنُّ بني هاشم في زمانه. اهـ. * * * سعيد بن الحارث قال الذهبي: ابن عبد المطلب. ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. له حديثٌ واحدٌ وقد ضعُفَ هذا الحديث. * * * أبو سفيان بن الحارث قال الذهبي في السير: هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي. أخو نوفل وربيعة. تلقى النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق قبل أن يدخل مكة مسلماً، فانزعج النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه، لأنه بدت منه أمورٌ في أذية النبي صلى الله عليه وسلم فتدلل للنبي صلى الله عليه وسلم حتى رق له. ثم حَسُنَ إسلامه، ولزم هو والعباسُ رسول الله يوم حنين إذ فَرَّ الناس، وأخذ بلجام البغلة، وثبت معه. وقد روى عنه ولده عبد الملك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني هاشم إياكم والصدقة" وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة. سماه هشام بن الكلبي، والزبير: مغيرة. وقال طائفة: اسمه كنيته، وإنما المغيرة أخوهم. وقيل: كان الذين يُشبهُون بالنبي صلى الله عليه وسلم جعفر، والحسن بن علي، وقُثَم ابن العباس،

وأبو سفيان بن الحارث. وكان أبو سفيان من الشعراء، وفيه يقول حسان: ألا أبلغْ أبا سفيان عني ... مُغلْغَلةْ، فقد برح الخفاءُ هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء (1) قيل: إن أبا سفيان حجَّ، فحلقه الحلاقُ، فقطع ثُؤلولاً في رأسه، فمرض منه ومات بعد قدومه بالمدينة، وصلى عليه عمر. ويُقال: مات بعد أخيه نوفل ابن الحارث بأربعة أشهر. قال أبو إسحاق السبيعي: لما احتُضِرَ أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قال: لا تبكوا عليّ، فإني لم أتنطَّف (2) بخطيئة منذ أسلمتُ. قال ابن إسحاق: ولأبي سفيان يرثي النبي صلى الله عليه وسلم: أرقتُ فبات ليلى لا يزولُ ... وليل أخي المصيبة فيه طولُ وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليلُ فقد عظمتْ مُصيبتنا وجلتْ ... عشية قيل قد قُبض الرسول فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيلُ وذاك أحقُّ ما سألتْ عليه ... نفوسُ الخلقِ أو كادت تسيلُ نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يُوحي إليه وما يقولُ ويهدينا فلا نخشى ضلالاً ... علينا، والرسول لنا دليلُ فلم نر مثله في الناس حياً ... وليس له من الموتى عديلُ أفاطمُ إن جزعتِ فذاك عُذرٌ ... وإن لم تجزعي فهو السبيلُ فعُودي بالعزاء فإن فيه ... ثواب الله والفضلُ الجزيلُ

_ (1) البيتان من قصيدة طويلة لحسان بن ثابت، قالها يوم فتح مكة، مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء. (2) لم أتنطف: لم أتلطخ.

درة بنت أبي لهب

وقولي في أبيك ولا تملي ... وهل يجزي بفضل أبيك قيلُ فقبرُ أبيك سيدُ كل قبرٍ ... وفيه سيدُ الناس الرسولُ وقد انقرض نسل أبي سفيان. قاله ابنُ سعد. حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيبأن أبا سفيان بن الحارث كان يُصلي في الصيف نصف النهار حتى تُكره الصلاة، ثم يُصلي من الظهر إلى العصر. عن هشام بن عروة، عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان بنُ الحارث سيدُ فتيانِ أهل الجنة" (1). فحج، فحلقه الحلاق، وفي رأسه ثؤلول فقطعه فمات. فيرؤنه شهيداً. ويقال مات سنة عشرين بالمدينة. أهـ. 1435 - * روى البزار عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به أبو سفيان بن الحارث فقال: "يا عائشة هلمي حتى أريك ابن عمك الذي هجاني". 1436 - * روى الطبراني عن أبي حبة البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لا ينظر في ناحية إلا رأى أبا سفيان بن الحاث يقاتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان خير أهلي أو من خير أهلي". دُرةُ بنت أبي لهب قال الذهبي في السير: بنتُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي لهب بن عبد المطلب الهاشمية. من المهاجرات. لها حديثٌ واحد، في "المسند" من رواية ابن عمها الحارث بن نوفل.

_ (1) ذكره الذهبي ورجاله ثقات لكنه مرسل كما قال الحافظ في الإصابة وأخرجه الحاكم وسكت عنه وكذلك الذهبي. 1435 - رواه البزار عن شيخه عبد الرحمن بن شيبة قال أبو حاتم. حديثه صحيح وبقية رجاله ثقات. هجاني: ذمني. وكان ذلك قبل الإسلام. 1436 - المعجم الكبير (22/ 327) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 274) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده خسن.

ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب

وقيل: تزوَّج بها دِحْية الكلبي. * * * ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قال الذهبي في السير: بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، الهاشميةُ. من المهاجرات. وكانت تحت المقداد بن الأسود، فولدت له: عبد الله، وكريمة، لها أحاديث يسيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدث عنها من القدماء: ابن عباس، وجابر. وقُتل ولدها عبد الله بن المقداد يوم الجمل مع أم المؤمنين عائشة. عن عائشة، قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير، فقالت: إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حُجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" (1). بقيت ضباعة إلى بعد عام أربعين، فيما أرى، رضي الله عنها، أهـ. * * * عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب قال الذهبي: الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمه عاتكة بنتُ أبي وهب المخزومية، من مُسلمة الفتح.

_ (1) مسلم (2/ 868) 15 - كتاب الحج-15 - باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض وغيره. ومحلي حيث حبستني: هو خطاب لله عز وجل معناه: جواز اشتراط المحرم التحلل من الإحرام بعذر المرض ونحوه.

3 - من أحفاد أعمامه صلى الله عليه وسلم

لا نعلمُ له روايةُ. كان موصوفاً بالشجاعة والفروسية. ولما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لهذا نحو من ثلاثين سنة، أهـ. * * * 3 - من أحفاد أعمامه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر قال الذهبي: ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم. السيدُ العالمُ، جعفر القرشي الهاشمي، الحبشي المولد، المدني الدار، الجواد ابن الجواد ذي الجناحين. له صحبةٌ وروايةٌ، عِدادُه في صغار الصحابة. استُشهد أبوه يوم مؤتة فكفله النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ في حجره. وروى أيضاً عن عمه علي، وعن أمه أسماء بنت عُميس. وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه من بني هاشم. وله وفادة على معاية، وعلى عبد الملك. وكان كبير الشأن كريماً، جواداً، يصلُحُ للإمامة. عن علي بن أبي حملة، قال: وفد عبد الله بن جعفر على يزيد، فأمر له بألفي ألف. وما ذاك بكثير، جائزةُ ملك الدنيا لمن هو أولى بالخلافة منه. قال مُصعب الزبيري: هاجر جعفر إلى الحبشة؛ فولدت له أسماء؛ عبد الله، وعوناً ومحمداً. ابن جعفر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم بعد ماأخبرهم بقتل جعفر بعد ثالثة، فقال: "لا تبكوا أخي بعد اليوم" ثم قال: "ائتوني ببني أخي"، فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال: "أدعو لي الحلاق" فأمره، فحلق رؤوسنا، ثم قال: "أما محمدُ؛ فشبهُ عمنا أبي طالب، وأما عبد الله؛ فشبهُ خلقي وخُلُقي" ثم أخذ بيدي، فأشالها. ثم قال:

"اللهم اخلفْ جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقته" قال: فجاءت أُمُّنا، فذكرت يُتمنا. فقال: "العيلة تخافين عليهم وأنا وليُّهُم في الدنيا والآخرة" (1). عن أبان بن تغلب، قال: ذُكر لنا أن عبد الله بن جعفر قدم على معاوية، وكانت له منه وفادة في كل سنة، يُعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مئة حاجة. قيل: إن أعرابياً قصد مروان، فقال: ما عندنا شيء، فعليك بعبد الله بن جعفر، فأتى الأعرابي عبد الله، فأنشأ يقول: أبو جعفر من أهل بيت نبوة ... صلاتهم للمسلمين طهورُ أبا جعفر ضن الأميرُ بماله ... وأنت على ما في يديك أميرُ أبا جعفر يا بن الشهيد الذي له ... جناحان في أعلى الجنان يطيرُ أبا جعفرٍ ما مثلُك اليوم أرتجي ... فلا تتركني بالفلاةِ أدورُ فقال: يا أعرابي سار الثقل (2) فعليك بالراحلة بما عليها، وإياك أن تُخدع عن السيف، فإني أخذته بألف دينار. ويروى أن شاعراً جاء إلى عبد الله بن جعفر، فأنشده: رأيت أبا جعفر في المنام ... كساني من الخز دراعه شكوت إلى صاحبي أمرها ... فقال ستُوتي بها الساعة سيكسوكها الماجد الجعفريُّ ... ومن كفُّهُ الدهر نفاعه ومن قال للجود لا تعدني ... فقال له السمعُ والطاعه فقال عبد الله لغلامه: أعطه جُبتي الخزِّ. ثم قال له: ويحك كيف لا ترجُبِّني الوشي؟ اشتريتُها بثلاث مئة دينار منسوجةً بالذهب. فقال: أنامُ، فلعلي أراها. فضحك عبد الله، وقال: ادفعوها إليه.

_ (1) أحمد في مسنده (1/ 304) وسنده قوي. (2) سار الثقل: اعتذر بغياب ماله.

قال أبو عبيدة: كان على قريش وأسد وكنانة يوم صفين عبد الله بن جعفر. حماد بن زيد: أخبرنا هشام، عن محمد، قال: مر عثمان بسبخة فقال: لمن هذه؟ فقيل: اشتراها عبد الله بن جعفر بستين ألفاً، فقال: ما يسرُّني أنها لي بنعل. فجزأها عبد الله ثمانية أجزاء؛ وألقى فيها العمال. ثم قال عثمان لعلي: ألا تأخذُ على يدي ابن أخيك، وتحجُر عليه؟ اشترى سبخة (1) بستين ألفاً. قال: فأقبلت. فركب عثمان يوماً، فرآها، فبعث إليه، فقال: ولني جُزءين منها. قال: أما والله دون أن تُرسل إلى من سفهتني عندهم، فيطلبون إليَّ ذلك، فلا أفعلُ. ثم أرسل إليه أني قد فعلتُ. قال: والله لا أنقصك جزءين من مئة ألفٍ وعشرين ألفاً. قال: قد أخذتُها. وعن العُمَري؛ أن ابن جعفر أسلف الزبير ألف ألف، فلما تُوفي الزبيرُ، قال ابن الزبير لابن جعفر: إني وجدتُ في كتب الزبير أن له عليك ألف ألف. قال هو صادق. ثم لقيه بعدُ، فقال: يا أبا جعفر، وهمتُ؛ المال لك عليه. قال: فهو له. قال: لا أريد ذلك. قال محقق السير: وتمامه عند ابن عساكر: قال: فاختر، إن شئت، فهو له، وإن كرهت ذلك، فلك فيه نظرة ما شئت، فإن لم ترد ذلك، فبعني من ماله ما شئت، فقال: أبيعك، ولكن أقوم، فقوم الأموال، ثم أتاه، فقال: أحب أن لا يحضرني وإياك أحد، فقال عبد الله يحضرنا الحسن والحسين، فيشهدان لك، فقال: ما أحب أن يحضرنا أحد، قال: انطلق، فمضى معه، فأعطاه خراباً وسباخاً لا عمارة له وقوَّمه عليه، حتى إذا فرغ، قال عبد الله لغلامه: ألقِ لي في هذا الموضع مصلى، فلقى له في أغلظ موضع من تلك المواضع مصلى، فصلى ركعتين، وسجد فأطال السجود يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء، قال لغلامه: احفر في موضع سجودي، فحفر، فإذا عين قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني، فقال: أما دعائي وإجابة الله إياي، فلا أقيُلك، فصار ما أخذ منه أعمر مما في أيدي ابن الزبير. عن الأصمعي: أن امرأة أتتْ بدجاجةٍ مسموطة (2)، فقالت لابن جعفر: بأبي أنت!

_ (1) السبخة: أرض ذات نز وملح. (2) دجاجة مسموطة: ذبحت ونتف ريشها.

هذه الدجاجة كانت مثل بنتي (1)، فآليتُ أن لا أدفنها إلا في أكرم موضع أقدِرُ عليه؛ ولا والله ما في الأرض أكرمُ من بطنك. قال: خذُوها منها، واحملُوا إليها، فذكر أنواعاً من العطاء، حتى قالت: بأبي أنت! إن الله لا يُحبُّ المسرفين. هشام، عن ابن سيرين؛ أن رجلاً جلب سُكراً إلى المدينة، فكسد، فبلغ عبد الله بن جعفر، فأمر قهرمانه (2) أن يشريهُ، وأن يُنْهبَهُ الناس. ذكر الزبير بن بكار، أن عُبيد الله بن أبي مُليكة، عن أبيه، عن جده، قال: دخل ابن أبي عمار وهو يومئذ فقيهُ أهل الحجاز على نخاس، فعرض عليه جارية، فعَلِقَ بها، وأخذه أمر عظيم، ولم يكن معه مقدارُ ثمنها، فمشى إليه عطاء، وطاووس، ومُجاهد، يعذلونه. وبلغ خبرهُ عبد الله، فاشتراها بأربعين ألفاً، وزيَّنها، وحَّلاها، ثم طلب ابن أبي عمار، فقال: ما فعل حبُّك فلانة؟ قال: هي التي هام قلبي بذكرها، والنفس مشغولة بها، فقال: يا جارية، أخرجيها، فأخرجتها ترفُل في الحُلي والحُلل. فقال: شأنك بها، بارك الله لك فيها. فقال: لقد تفضلت بشيء ما يتفضل به إلا الله. فلما ولى بها، قال: يا غلام احمل معه مئة ألف درهم. فقال: لئن والله وُعِدنا نعيم الآخرة، فقد عجَّلْتَ نعيم الدنيا. ولعبد الله بن جعفر اخبار في الجُود والبذل. وكان وافر الحشمة، كثير التنعُّم، وممن يستمعُ الغناء (3). قال الواقدي ومصعب الزبيري: مات في سنة ثمانين. وقال المدائني: توفي سنة أربع أو خمسٍ وثمانين. 1437 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال له ابن

_ (1) كانت مثل بنتي: أي أحبها مثلها. (2) القهرمان: هو الوكيل عن السيد في تدبير أموره. (3) أي الغناء المباح. 1437 - البخاري (6/ 111) 56 - كتاب الجهاد-196 - باب استقبال الغزاة.

الزبير: أتذكُر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس؟ قال: نعمْ، فحملنا وتركك. وفي أخرى لمسلم (1) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلقي بصبيان أهل بيته، قال: وإنه قدم من سفر، فسُبِقَ بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فطمة، فأردفه خلفه، قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة. وفي أخرى (2): كان إذا قدم من سفر تُلقي بنا، فتُلقي بي وبالحسن أو بالحسين قال: فحمل أحدنا بين يديه، والآخر خلفه، حتى دخلنا المدينة. قوله (قال نعم فحملنا وتركك) ظاهره أن القائل (فحملنا) هو عبد الله بن جعفر وأن المتروك هو ابن الزبير، وأخرجه مسلم من طريق أبي أسامة وابن علية كلاهما عن حبيب ابن الشهيد بهذا الإسناد مقلوباً ولفظه (قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير) جعل المستفهم عبد الله بن جعفر والقائل (فحملنا) عبد الله بن الزبير، والذي في البخاري أصحُّ، ويؤيده ما تقدم في الحج عن ابن عباس قال (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استقبله أغيلمةُ من بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه) فإن ابن جعفر من بني عبد المطلب بخلاف ابن الزبير وإن كان عبد المطلب جد أبيه لكنه جده لأمه. وأخرجه أحمد والنسائي من طريق خالد بن سارة عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمله خلفه وحمل قثم بن عباس بين يديه، وقد حكى ابن التين عن الداودي أنه قال: في هذا الحديث من الفوائد حفظ اليتيم، يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب كان مات فعطف النبيُ صلى الله عليه وسلم على ولده عبد الله فحمله بين يديه، وهو كما قال. وأغرب ابن التين فقال: إن في الحديث النص بأنه صلى الله عليه وسلم حمل ابن عباس وابن الزبير ولم يحمل ابن جعفر، قال: ولعل الداودي ظن أن قوله (فحملنا وتركك) من كلام ابن جعفر وليس كذلك، كذا قال، والذي قاله الداودي هو الظاهر من سياق البخاري، فما أدري كيف قال ابن التين إنه نص في خلافه، وقد نبه عياض على أن الذي وقع في البخاري هو الصواب، قال: وتأويل رواية مسلم أن يجعل الضمير في "حملنا" لابن جعفر فيكون المتروك ابن الزبير، قال ووقع على الصواب

_ (1) مسلم (4/ 1885) 44 - كتاب فضائل الصحابة-11 - باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. (2) مسلم (4/ 1885) 44 - كتاب فضائل الصحابة-11 - باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.

أيضاً عند ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وغيرهما. قلت: وقد روى أحمدُ الحديث عن ابن علية فبين سبب الوهم ولفظه مثل مسلم، لكن زاد بعد قوله "قال نعم: قال فحملنا" قال أحمد "وحدثنا به مرة أخرى فقال فيه: قال نعم فحملنا" يعني وأسقط "قال" التي بعد نعم. قلت: وبإثباتها توافق رواية البخاري وبحذفها تخالفها والله أعلم أه،. أقول: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد إلى المدينة وخرج الأولد يستقبلونه أن يحمل معه واحداً أو اثنين. 1438 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلم على عبد الله ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. 1439 - * روى أحمد عن عبد الله بن جعفر قال: لقد رأيتني وقثم وعبيدُ الله ابني عباس ونحن صبيان نلعبُ إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ارفعوا هذا إليَّ" فحملني أمامه، وقال لقُثم "ارفعوا هذا إليَّ" فحمله وراءه وكان عبيد الله أحب إلى عباس فما استحيا من عمه أن حمل قثم وتركه. قال: ثم مسح على رأسي ثلاثاً، كلما مسح قال: "اللهم اخلف جعفراً في ولده" قال: قلتُ لعبد الله: ما فعل قثم؟ قال: استُشهد. قلت: الله ورسوله أعلم بالخير قال: أجل. 1440 - * روى أبو يعلي والطبراني عن عمرو بن حُريثٍ قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله ابن جعفر وهو يلعبُ بالتراب، فقال: "اللهم بارك له في تجارته". 1441 - * روى أبو داد وأحمد والحاكم عن عبد الله بن جعفر، قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أحدثُ به أحداً، فدخل حائطاً، فإذا جملٌ (1)، فلما

_ 1438 - البخاري (7/ 75) 63 - كتاب فضائل الصحابة-10 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه. 1439 - أحمد في مسنده (1/ 305) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 286): رواه أحمد ورجاله ثقات. 1440 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 386) وقال: رواه أبو يعلي والطبراني ورجالهما ثقات. 1441 - أبو داود (3/ 23) كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم. وأحمد في مسنده (1/ 204، 205). المستدرك (2/ 99) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، أقره الذهبي.

عبد المطلب بن ربيعة

رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ، وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه (1) فسكت، فقال: / "من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبُه". * * * عبد المطلب بن ربيعة قال الذهبي في السير: ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، والد محمد، له صحبة وحديث يرويه عنه عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي (2)، وروى عن عليٍّ حديثاً آخر. قال مصعب الزبيري: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث أن يُزوِّج بنته بعبد المطلب بن ربيعة، ففعل. سكن الشام في أيام عمر. وقال شباب: تُوفي عبد المطلب في دولة يزيد. وقال الطبراني: توفي سنة إحدى وستين. قال الذهبي: له بدمشق دار كبيرة والله أعلم. 1442 - * روى مسلم وأبو داود عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين

_ (1) ذِفراه: الذفري من جميع الحيوانات هو العظم الشاخص خلف الأصذن. (2) أخرجه مسلم (1073) في الزكاة - باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة. وأبو داود (1285) في الخراج - باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. وابن سعد 4/ 58، 59 من طريق الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن المطلب بن ربيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". 1442 - مسلم (2/ 752) 12 - كتاب الزكاة -51 - باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة وأبو داود (3/ 147) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى.

الغلامين - قال لي، وللفضل بن العباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه، فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناسُ، وأصابا مما يصيبُ الناسُ؟ قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب، فوقف عليهما، فذكرا له ذلك، فقال علي: لا تفعلا، فوالله ما هو بفاعلٍ، فانتحاه ربيعة بن الحارث، فقال: والله ما تصنعُ هذا إلا نفاسة منك علينا، فوالله لقد نلت صِهْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نفسناهُ عليك، فقال علي: أرسلُوهُما، فانطلقا، واضطجع علي، قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سبقناه إلى الحُجرة، فقمنا عندها، حتى جاء، فأخذ بآذاننا، ثم قال: "أَخرجَا ما تُصرِّران" ثم دخل ودخلنا معه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدُنا، فقال: يا رسول الله، أنت أبر الناس، وأوصلُ الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناسُ، ونُصيب كما يصيبون، قال: فسكت طويلاً، حتى أردنا أن نُكلمهُ، قال: جعلت زينبُ تُلمِعُ إلينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه، قال ثم قال: "إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخُ الناس، ادعُوا لي محميةَ"- وكان على الخُمس- "ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب" قال: فجاءاه: فقال لمحية: "أنكِحْ هذا الغلام ابنتك" للفضل بن العباس فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث "أنكحْ هذا الغلام ابنتك" فأنكحني، وقال لمحيةَ: "أصدِقْ عنهما من الخمس كذا وكذا" قال الزهري: ولم يُسَمِّهِ لي. وفي رواية نحوه (1)، وفيه قال: فألقى عليِّ رداءه ثم اضطع عليه، وقال: أنا أبو

_ (1) فانتحاه: أي: عرض له. النعاسة: البخل، أي: بخلا منك علينا. ما تُصرران؟ أي: ما جمعتما في صدوركما وعزمتما على إظهاره: وكل شيء جمعته، فقد صررته. فتواكلنا الكلام: التواكل: أن يكل كل واحد أمره إلى صاحبه، ويتكل فيه عليه، يريد أن يبتدئ صاحبه بالكلام دونه. (1) مسلم (2/ 754) 12 - كتاب الزكاة-51 - باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة.

حسنٍ القرْمُ والله لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابناكُما بحَوْر ما بعثتما به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال في الحديث: ثم قال لنا: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخُ الناس، وإنها لا تحِلُّ لمحمد ولا لآل محمد" وقال أيضاً: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعُوا لي محمية بن جزءٍ" وهو رجل من بني أسدٍ، كان رسول الله استعمله على الأخماس. واختصره النسائي (1) قال: إن ربيعة بن الحارث قال لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل ابن العباس: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولا: استعملنا على الصدقات، فأتى عليُّ بن أبي طالب ونحن على تلك الحال، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل أحداً منكم على الصدقة، فقال عبد المطلب: فانطلقت أنا والفضل حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخُ الناس، وإنها لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد". قال النووي في شرح مسلم: قوله "تُصرِّران" هكذا هو معظم الأصول في بلادنا، وهو الذي ذكره الهروي والمازري وغيرُهما من أهل الضبط "تُصرران" بضم التاء وفتح الصاد المهملة وكسر الراء وبعدها راء أخرى، ومعناه: ما تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جعتهُ فقد صررتهُ، ووقع في بعض النسخ "تسرران" بالسين، من السر، أي: ما تقولانه لي سراً، وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات، هاتان اثنتان، والثالثة "تصدران" بإسكان الصاد وبعدها دال مهملة، ومعناها: ماذا ترفعان إليّ؟ قال: وهذه رواية السمرقندي، الرابعة "تُصوران" بفتح الصاد وبواو مكسورة، قال: وهكذا ضبطه الحميديُّ، قال القاضي: وروايتُنَا عن أكثر شيوخنا بالسين، واستبعد رواية الدال، والصحيح: ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا، ورجحه أيضاً صاحب المطالع، فقال: الأصوب "تصرران" بالصاد والراءين. قال النووي في شرح مسلم: بلغنا النكاح: أي الحُلُم، كقوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا

_ (1) القرمُ: السيد، قال الخطابي: وأكثر الروايات "القوم" بالواو، ولا معنى له، وإنما هو "القرمُ" بالراء، يريد به: المقدم في الرأي والمعرفة بالأمور والتجارب. لا أ {يمُ: تقول: لا أريم عن هذا المكان، أي: لا أبرحُ. بحور ما بعثتما به: أي بجواب ما تقولانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل الحور: الرجوع. (1) النسائي (5/ 105) كتاب الزكاة، باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة.

النِّكَاحَ} (1) قال النووي في شرح مسلم: "إن هذه الصدقة لا تحل لآل محمد" دليل على أنها كانت محرمة سواء كانت بسبب العمل أو سبب الفقر والمسكنة، وغيرها من الأسباب الثمانية، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وجوز بعض أصحابنا لبني هاشم ولبني المطلب: العمل عليها بسهم العامل، لأنه إجارة، وهذا ضعيف، أو باطل، وهذا الحديث صريح في رده، وقوله: "إنما هي أوساخُ الناس" تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنه لكرامتهم وتنزيهم من الأوساخ. ومعنى "أوساخ الناس" أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) فهي كغسالة الأوساخ. قال النووي في شرح مسلم: وقوله: "أنا أبو الحسن القرم" وهو بتنوين "حسن" وأما القرم: فيفتح القاف وبالراء الساكنة، مرفوع، وهو السيد، وأصله: فحْل الإبل، وقال الخطابي معناه: المقدم في المعرفة بالأمور والرأي، كالفحل، هذا أصح الأوجه في ضبطه، وهو المعروف في نسخ بلادنا، والثاني: حكاه القاضي "أبو الحسن القوم" بالواو، بإضافة "حسن" إلى "القوم" ومعناه: عالم القوم وذو رأيهم، والثالث حكاه القاضي أيضاً "أبو حسن" بالتنوين، و"القوم" بالواو، مرفوع، أي: أنا من علمتم رأيه، أيها القوم، وهذا ضعيف، لأن حرف النداء لا يحذف في نداء القوم ونحوه. قال النووي في شرح مسلم: "وهو رجل من بني أسد" كذا وقع، والمحفوظ: أنه من بني زبيد لا من بني أسد. قال النووي في شرح مسلم "أصدق عنهما من الخمس" يحتمل أن يريد: من سهم ذوي القربى، ويحتمل أن يريد: من سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس. * * *

_ (1) النساء: 6. (2) التوبة: 103.

تصويبات وتوصيات

تصويبات وتوصيات هذه نماذج على دائرة من دوائر الشرف التي أحاطت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي دائرة آل بيت، وقد رأيت من خلال سيرهم صراحة ووضوحاً، فإذا آمن أحدكم أعطى الإيمان حقه وإلا كان شديداً فيما يعتقد، وقد رأيت في كلِّ ما مر اجتماع السمت والهدى ونبل الرأي والاستيعاب وحسن الخلق والقيام بالحقوق والواجبات، والشفاعة بالخير، والجرأة على إنكار المنكر وعلى قول الحق، فلا عجب بعد ذلك أن نرى دائماً على منابر الهدى والتجريد أو في ميادين الإصلاح والإنكار رجالاً من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا عجب أن نرى المحاولات التي لا تنقطع من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة حكم إسلامي راشد، وما أكثر ما أقاموا دولاً على هدى ورشاد. أما الذين ادعوا التشيع وانحرفوا عن هديهم بانحرافهم عن الكتاب والسنة فهؤلاء ليسوا من آل البيت في شيء، وعلى كل الأحوال فأدبنا مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحترام والتوقير والإجلال والمناصحة بالحق وإخلاص النصيحة. * * *

فصل في أصحابه عليه الصلاة والسلام

فصل في أصحابه عليه الصلاة والسلام

الحديث عن أصحابه عليه الصلاة والسلام لا ينفصل عن الحديث عنه، ولذلك فقد رأينا أن نعقد هذا الفصل وأن نذكر وصولاً متعددة فيه، واخترنا أن تكون هذه الوصول متكاملة، يجتمع فيها جلاء الصورة، وتصحيح العقيدة، وتعميق القدوة، وتوضيح جوانب من الهداية، واخترنا أن ندخل في هذا الفصل ما هو أشد لصوقاً بأبحاث السيرة فمن فاته حديث فليبحث عنه في بقية أقسام الكتاب حيث الموضوع الأشد لصوقاً به. لقد حمل أصحاب الإسلام في حياته وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وكان أزواجه هم نافذته على مجتمع النساء، وقدم آل بيته أعظم التضحيات في حياته، وشاركوا في حمل الراية بعد ذلك وقدم بعضهم حياته ثمناً لتصحيح أوضاع - وقد مر معنا شيء من ذلك - ولقد كان خلفاؤه الراشدون استمراراً له عليه الصلاة والسالم في جانب الإمامة والسلطان، وكان أصحابه استمراراً له في باب الدعوة والقدوة، وهذا يقتضي كلاماً عنهم، فإذا دخل بعضهم في دائرة آل البيت وخصصناه بكلام فيما مر فلابد من حديث آخر عن آخرين، فالكلام عن أصحابه عليه الصلاة والسلام بشكل عام جزء من الكلام عن سيرته: * فهم يمثلون الجانب الثاني في السيرة فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائد فهم الجند، وهم من هذه الحيثية يمثلون القدوة لمن ابتلاهم الله بالجندية وهم الأكثرية من هذه الأمة. * ولأن الحديث عنهم في حياته عليه الصلاة والسلام جزء من الحديث عن سيرته فالحديث عن الكل يشكل السيرة النبوية. * ولأنهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام يشكلون القدوة العليا للأمة الإسلامية، فالله عز وجل يقول: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1). نفهم من هذه الآية أن السابقين من المهاجرين والأنصار قدوة الخلقِ في الحق. * ولأن مذهب الصحابي عند بعضهم يعتبر حجة شرعية على خلاف بين العلماء في حدود

_ (1) التوبة: 100.

هذه الحجية، وبعض أقوال الصحابة لها حكم الأحاديث المرفوعة، ولذلك كان الحديث عنهم له أهمية خاصة. * ثم إن الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام جعلا للصحبة فضلاً لا يلحقه فضل، وجعلا لجيل الصحابة شأواً لا يلحقه شأو، إلا ما كان للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فكان لابد من إبراز هذا الفضل من خلال القصص والتعليل. * ولقد خالف ناس في الصحابة وفرقوا بينهم، ولقد اختلف الصحابة أنفسهم اختلافات فقهية واختلفات سياسية وعسكرية، فأين هذا من قضية القدوة، وما تعليل ذلك وما تحليله وما تأثيره على حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها. كل ذلك جعلنا نذكر هذا الفصل في قسم السيرة، وهناك شيء آخر: * يذكر الإنجيل الحالي على لسان المسيح عليه السلام كيفية التعرف على الأنبياء الكبة فيقول: (من ثمارهم تعرفونهم). فثمار النبي الكاذب تعرف عليه، وكذلك ثمار النبي الصادق تعرف عليه والله عز وجل يقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (1). ولقد كانت ثمار محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطيب والكمال والنضج بحيث تكفي وحدها شهادة على أنه رسول الله، ومن ثماره عليه الصلاة والسلام أصحابه، وقد ضرب الله لهم مثلاً في التوراة ومثلاً في الإنجيل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} (2) فهم كثيرو العبادة لله وتلك ثمرة من ثمرات النبوة {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (3) فهذا مثلهم في الإنجيل، جيل يقوى وينتشر، وهاهم عليهم رضوان الله بدأوا ضعافاً، ثم قووا ثم انساحوا في البلاد ناشرين دين الله فعم بهم الخير هذا العالم. هذه الثمار الطيبة لابد من الحديث عنها، وهذا الأريج العطر لابد من نشره.

_ (1) الأعراف: 58. (2) الفتح: 29. (3) الفتح: 29.

وقد وردت نصوص كثيرة في بعضهم كما وردت روايات كثيرة في شأنهم. ونحن في هذا الفصل سننقل من الروايات ماله علاقة مباشرة في موضوع كتابنا وما هو ألصق بقسم السيرة، كما أننا سنترجم لنماذج منهم فقط، إذ الإحاطة مستحيلة وتخرج هذا الكتاب عن مضمونه. وخير أصحابه الخلفاء الراشدون الأربعة، وإذ كان لهم وضع خاص ولتصرفاتهم وزنها التشريعي فسنخصهم بفصل مستقل، وهكذا فإننا سنعقد في هذا الفصل ثلاثة وصول: الوصل الأول: فيما ورد في فضل الصحابة. الوصل الثاني: في الخلفاء الراشدين. الوصل الثالث: في نماذج من الأصحاب. * * *

الوصل الأول فيما ورد في فضل الصحابة أو في بعضهم إجمالا وتفصيلا

الوصل الأول فيما ورد في فضل الصحابة أو في بعضهم إجمالا وتفصيلاً

تمهيد

تمهيد: قدم الإمام النووي لكتاب فضائل الصحابة فقال: قال الإمام أبو عبد الله المازري: اختلف الناس في تفضيل بعض الصحابة على بعض، فقالت طائفة: لا نفاضل بل نمسك عن ذلك، وقال الجمهور: بالتفضيل، ثم اختلفوا فقال أهل السنة: أفضلهم أبو بكر الصديق، وقال الخطابية: أفضلهم عمر بن الخطاب، وقالت الراوندية: ألإضلهم العباس، وقالت الشيعة: عليٍّ، واتفق أهل السنة على أن أفضلهم: أبو بكر ثم عمر قال جمهورهم: ثم عثمان ثم عليٍّ، وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم عليٍّ على عثمان، والصحيح المشهور تقديم عثمان. قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم بيعة الرضوان وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلى إلى القبلتين في قول ابن المسيب وطائفة، وفي قول الشعبي: أهل بيعة الرضوان، وفي قول عطاء ومحمد بن كعب: أهل بدر. قال القاضي عياض: وذهبت طائفة منهم ابن عبد البر إلى أن من تُوفي من الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ ممن بقي بعده، وهذا الإطلاق غير مرضي ولا مقبول. واختلف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعي أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن أم في الظاهر خاصة؟ وممن قال بالقطع: أبو الحسن الأشعري قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال بأنه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني، وذكر ابن الباقلاني اختلاف العلماء في أن التفضيل هل هو في الظاهر أم في الظاهر والباطن جميعاً، وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة أيتما أفضل؟ وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، وأما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع وقتل مظلوماً وقتلته فسقة، لأن موجبات القتل مضبوطة ولم يجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه، ولم يشارك في قتله أحد من أصحابه، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة الأطراف والأرذال تحزبوا

وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه رضي الله عنه، وأما عليٍّ رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع وكان هو الخليفة في وقته لا خلافة لغيره وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله نه. وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول رضي الله عنهم ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يُخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم، واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحلُّ لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده. وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه. وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأن الحق معه لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون رضي الله عنهم، ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتدُّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين. أهـ. 1443 - * روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1):

_ 1443 - البخاري (7/ 3) 62 - كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-1 - باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... ومسلم (4/ 1464) 44 - كتاب فضائل الصحابة-52 - باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. =

"خيرُ أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه: قرنين أو ثلاثة؟ - "ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يُسْتَشْهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السمنُ". زاد في رواية (1): "ويحلفون ولا يُستحلفون". وللترمذي (2) أيضاً قال: "خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنُون، ويُحبون السمن، يُعطون الشهادة قبل أن يُسألوها". وفي رواية أبي داود (3) قال: "خيرُ أمتي القرنُ الذي بُعثتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- والله أعلم: أذكر الثالث، أم لا؟ - "ثم يظهر قوم يشهدون ولا يُستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون ويفشو فيهم السمنُ". 1444 - * روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (4) قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. 1445 - * روى مسلم ن عُتبة بن غزوان رضي الهل عنه قال: لقد رأيتني سابع سبعةٍ

_ = القرنُ: قد ذُكر، وأراد به أصحابه صلى الله عليه وسلم. ويظهر فيهم السمنُ: يحتمل أنه أراد: أنهم يحبون التوسع في المأكل والمشارب، وهي أسباب السمنن وقيل: المعنى: انهم يريدون الاستكثار من الأموال، ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويفخرون بما ليس فيهم من الخير، كأنه استعار السمن إلى الأحوال عن السمن في الأبدان. فشا: الشيء يفشو: إذا ظهر وانتشر. (1) لمسلم في نفس الموضع السابق. (2) الترمذي (4/ 500) 34 - كتاب الفتن -45 - باب ما جاء في القرن الثالث. (3) أبو داود (4/ 214) كتاب السنة، باب في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 1444 - الحاكم (2/ 394) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (4) آل عمران: 110. 1445 - مسلم (4/ 2279) 53 - كتاب الزهد والرقائق، حديث: 15. =

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما طعامُنا إلا ورقُ الحُبْلَةِ، حتى قرحتْ أشداقُنا. 1446 - * روى البخاري عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: كان عطاءُ البدريين خمسة آلافٍ، خمسة آلافٍ، وقال عمرُ: لأفضلنهُم على من بعدهم. 1447 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان فيغزو فئامٌ من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتحُ لهم، ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغز فئام من الناس، فيقالُ: فيكم من صاحب أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتحُ لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم". وفي رواية (1) بنحوه وزاد: "ثم يكونُ البعثُ الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجلُ فيفتح لهم به". 1448 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفهُ". 1449 - * روى مسلم عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي أمروا أن

_ = الحُبلة: شجر السمر، وقيل: هو ثمرة تشبه اللوبيانز قرحت أشداقنا، أي: طلعت فيها القروح كالجراح ونحوها. 1446 - البخاري (7/ 323) 63 - كتاب المغازي- باب: 12. 1447 - البخاري (7/ 2) 62 - كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -1 - باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1962) 44 - كتاب فضائل الصحابة-53 - باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. (1) لمسلم في نفس الموضع السابق. 1448 - البخاري (7/ 31) 62 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي "لو كنت متخذاً خليلاً". ومسلم (4/ 1967) 44 - كتاب فضائل الصحابة-54 - باب تحريم سب الصحابة. 1449 - مسلم (4/ 2317) 54 - كتاب التفسير، حديث: 15.

يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم. 1450 - * روى مسلم عن أبي موسى قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قُلنا: لو جلسنا حتى نُصلي معه العشاء! قال: فجلسنا. فخرج علينا. فقال: "ما زلتُمْ ههنا؟ " قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلسُ حتى نصلي معك العشاء. قال: "أحسنتُمْ أو أصبتُمْ" قال: فرفع رأسهُ إلى السماء وكان كثيراً مما يرفعُ رأسه إلى السماء. فقال: "النجُومُ أمنةٌ للسماء. فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ وأنا أمنةٌ لأصحابي. فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعدون. وأصحابي أمنةٌ لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعدون". 1451 - * روى أحمد وأبو داود عن رياح بن الحارث، قال: كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة فاستقبله فسبَّ وسبَّ، فقال سعيد: من يسبُّ هذا الرجل؟ قال: يسبُّ علياً، قال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَبُّون عندك ثم لا تنكر ولا تغير، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وإني لغنيٌّ أن أقول عليه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحةُ في الجنة، والزبير ابن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة" ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، قال: فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد، ثم قال: لمشهَدُ رجلٍ منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبرُّ فيه وجهه خيرٌ من عمل أحدكم عمره ولو عَمِّر عُمْرَ نوح. وفي رواية (1) فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدُك الله يا أبا

_ 1450 - مسلم (4/ 1961) 44 - كتاب فضائل الصحابة-51 - باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه ... 1451 - أحمد في مسنده (1/ 187). وأبو داود (4/ 212) كتاب السنة، باب في الخلفاء. (1) للترمذي (5/ 648) 50 - كتاب المناقب - 26 - باب مناقب عبد الرحمن بن عوف.

الأعورِ، من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة. 1452 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى أنه توضأ في بيته ثم خرج فقال، لألزمن النبي صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا، فجاء المسجد فسأل عنه، فقالوا خرج وجه ههنا، قال: فخرجتُ على أثره أسألُ عنه حتى دخل بئر أريسٍ، فجلستُ عند الباب وبابُها من جريد، حتى قضى صلى الله عليه وسلم حاجته، وتوضأ فقمتُ إليه، فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قُفًَّها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمتُ عليه ثم انصرفت فجلستُ عند الباب، فقلت: لأكونن بواب النبي ر اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال أبو بكر، فقلتُ على رسلك، ثم ذهبتُ فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال "ائذن له وبشره بالجنة" فأقبلتُ حتى قلت لأبي بكر ادخل والنبي صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل فجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم معهُ في القُفِّ ودلي رجليه في البئر كما صنع صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعتُ فجلستُ وقد تركتُ أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان - يعني أخاه - خيراً يأت به، فإذا إنسان يحركُ الباب فقلت: من هذا؟ قال: عمر، فقلت: على رسِلك، ثم جئت صلى الله عليه وسلم فسلمتُ عليه، وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: "ائذنْ له وبشره بالجنة" فجئتُ عمر فقلتُ ادخل ويبشرك بالجنة، فدخل عمر فجلس معه صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعتُ فجلستُ، فقلت: إن يُرد الله بفلانٍ خيراً - يعني أخاه - يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلتُ: من هذا؟ فقال عثمان، فقلتُ: على رسلك، وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ائذن له وبشرهُ بالجنة مع بلوى تصيبهُ" فجئتُ فقلت: (1) ادخل ويبشرُك النبيُّ

_ 1452 - البخاري (7/ 21) 63 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذاً خليلاً". ومسلم (4/ 1868) 44 - كتاب فضائل الصحابة-3 - باب من فضائل عثمان بن عفان. وجه: المشهور بتشديد الجيم وضبطه بعضهم بإسكانها، وحكى القاضي الوجهين ونقل الأول عن الجمهور ورجح الثاني لوجود خرج أي قصد هذه الجهة. جريد: جمع جريدة وهي سعف النخل. قُفها: القف: ما ارتفع من متن الأرض. وهنا جدار مبني مرتفع حول البئر كالدكتة يتمكن الجالس عليه من الجلوس. على رسلك: على هينتك وتأنيك.

صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلى تصيبُك، فدخل فوجد القُفَّ قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر. قال ابن المسيب فأولتُ ذلك قبورهم اجتمعت ههنا وانفرد عثمان عنهم. وفي رواية (1): وقلت لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني. وفي أخرى (2): أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط بنحوه وفيه أن عثمان قال حين بشره: اللهم صبراً، والله المستعان. وفيه أن كل واحد منهم قال حين بشره: الحمد لله، وأنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عثمان غطى ركبتيه. من فوائد الحديث: * في الحديث بيان فضل هؤلاء الثلاثة وأنهم من أهل الجنة. * جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب. * وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بقصة عثمان والبلوى التي سوف تصيبه وأن الثلاثة سيموتون على الإيمان والهدى. 1453 - * روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على حراءٍ هو وأبو بكرٍ وعثمان وعلي وطلحةُ والزبير فتحركت الصخرةُ، فقال صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديقٌ أو شهيد". وفي رواية (3): وسعد بن أبي وقاص. 1454 - * روى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم الجبلُ، فقال: "اسكن أُحد - أراه ضربه برجله - فإنما عليك نبي وصديقٌ وشهيدان".

_ (1) البخاري (13/ 48) 92 - كتاب الفتن -17 - باب الفتنة التي كموج البحر. (2) مسلم (4/ 1868) 44 - كتاب فضائل الصحابة-3 - باب من فضائل عثمان بن عفان. 1453 - مسلم (4/ 1880) 44 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب من فضائل طلحة والزبير. (3) لمسلم في نفس الموضع السابق. 1454 - البخاري (7/ 53) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 7 - باب مناقب عثمان بن عفان.

1455 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي، ومُعاذ بن جبل". 1456 - * روى الترمذي عن يزيد بن عميرة قال: لما حضر مُعاذ بن جبل الموتُ قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، قال: أجلسوني، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهطٍ، عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشرُ عشرةٍ في الجنة". 1457 - * روى الترمذي عن خيثمة بن أبي سبرة: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسر لي أبا هريرة فجلست إليه، فقلت له: إني سألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفةِ جئت ألتمسُ الخير وأطلبهُ، قال: أليس فيكم سعدُ بن مالك مجابُ الدعوة، وابن مسعود صاحبُ طهور النبي صلى الله عليه وسلم وبغلته وُحذيفةُ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارٌ الذي أجار هالله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلمان صاحب الكتابين؟ قال قتادة: والكتابان الإنجيل والقرآن. 1458 - * روى الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود" (1).

_ 1455 - البخاري (7/ 125) 63 - كتاب مناقب الأنصار -14 - باب مناقب معاذ بن جبل. ومسلم (4 م 1913) 44 - كتاب فضائل اصحابة 32 - باب من فضائل عبد الله بن مسعود. 1456 - الترمذي (5/ 671) 50 - كتاب المناقب - 37 - باب مناقب عبد الله بن سلام، وقال: هذا حديث صحيح غريب. 1457 - الترمذي (5/ 674) 50 - كتاب المناقب - 38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1458 - الترمذي (5/ 672) 50 - كتاب المناقب -38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود، وقال: هذا حديث حسن غريب.

1459 - * روى البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني أدخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعتُ خشفة، فقلتُ: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيتُ قصراً بفنائه جاريةً فقلت: لمن هذا؟ فقال لعمر: فأردتُ أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله. أعليك أغار؟ ". 1460 - * روى الترمذي عن أسامةق ال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء علي والعباس يستأذنان فقالا: يا أسامة استأذن لنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله عليٌّ والعباسُ يستأذنان، قال: "أتدري ما جاء بهما؟ " قلت: لا، قال: لكن أدري" فأذن لهما، فدخلا، فقالا: يا رسول الله إنا جئناك نسألك أيُّ أهلك أحبّ إليك؟ قال "فاطمة بنت محمد" قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك، قال: "أحبُّ أهلي إليَّ من أنعم لاله عليه وأنعمت عليه، أسامة بن يزد" قالا: ثم من؟ قال: "ثم عليُّ بن أبي طالب" فقال العباس: يا رسول الله جعلت عمك آخرهم؟ قال: "إن علياً سبقك بالهجرة". 1461 - * روى البخاري عن ابن عمر قال: كن زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدلُ بأبي بكر أحداً ثم عمر، ثم عثمان، ثمن نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نُفاضِلُ بينهم. 1462 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أُسيد بن حُضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماسٍ، نعم الرجل معاذُ بن جبل، نعم الرجل عمرو بن الجموح" (1).

_ 1459 - البخاري (7/ 40) 63 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. ومسلم (4/ 1862، 1863) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. خشفة: الصوت ليس بالعالي. وقيل: بسكون الشين: الصوت، وبتحريكها: الحركة. 1460 - الترمذي (5/ 678) 50 - كتاب المناقب -41 - باب مناقب أسامة بن زيد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1461 - البخاري (7/ 54) 62 - كتاب فضائل الصحابة-7 - باب مناقب عثمان بن عفان. 1462 - الترمذي (5/ 666، 667) 50 - كتاب المناقب - 33 - باب مناقب معذا بن جبل وزيد بن ثابت وأبي وأبي عبيدة بن الجراح، وقال هذا حديث حسن غريب.

1463 - * روى البخاري عن عمار قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسةُ أعبدٍ وامرأتان وأبو بكر. 1464 - * روى مسلم عن عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفرٍ فقالوا: والله ما أخذت سيوفُ الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر "لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي. 1465 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم. وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة، ومعه بلالٌ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعرابيٌّ. فقال: ألا تُنجز لي يا محمد! ما وعدتني؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر". فقال له الأعرابي: أكثرت عليِّ من أبشر، فأٌبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال، كهيئة الغضبان. فقال: "إن هذا قد رد البُشرى. فاقبلا أنتما" فقالا: قبلنا يا رسول الله! ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحٍ فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومجِّ فيه. ثم قال: "اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وأبشرا" فأخذا القدح. ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكُما مما في إنائكما، فأفضلا لها منهُ طائفةً. 1466 - * روى البخاري عن أنس أن رسجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمة ومعهما مثلُ المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحدٌ حتى أتى أهله (1).

_ 1463 - البخاري (7/ 18) 62 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله علي هوسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". 1464 - مسلم (4/ 1947) 44 - كتاب فضائل الصحابة-43 - باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال. 1465 - البخاري (8/ 46) 64 - كتاب المغازي -56 - باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، ومسلم (4/ 1943). 44 - كتاب فضائل الصحابة-38 - باب ومن فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين 1466 - البخاري (1/ 557) 8 - كتاب الصلاة، باب: 76.

وفي رواية (1): كان أُسيدُ بن حُضير وعبادُ بن بشر عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرجا في ليلة مظلمة. بنحوه. 1467 - * روى البخار يعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن عليِّ، فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيتهُ أوسطُ بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: لعل ذاك يسوؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد على جهدك. أقول: يبدو أن الرجل من الخوارج وكانوا يسبون عثمان وعلياً. 1468 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال: "بين رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلقْ هذا، إنما خُلقنا للحرث" فقال الناس: سبحان الله، بقرة تكلمُ؟ فقال: "فإني أومِنُ بهذا أنا وأبو بكر وعمر" وما هما ثم "وبينما رجلٌ في غنمه إذ عدا الذئبُ فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني، فمن لها يوم السبُع، يوم لا راعي لها غيري؟ " فقال الناس: سبحان الله، ذئبٌ يتكلم، قال: "فني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمرُ" وما هما ثَّم. قوله: (قال الذئب من لها يوم السبع يوم لا راع لها غيري) ذكر النووي عدداً من الأقوال في تفسيرها ثم قال: والأصحُ أنها عند الفتن حين تتركها الناسُ هملاً لا راعي لها نُهبةً للسباع، فجعل السبع لها راعياً أي منفرداً بها وتكون بضم الباء، والله أعلم أهـ.

_ (1) البخاري (7/ 125) 63 - كتاب مناقب الأنصار -13 - باب منقبة أسيد بن حضير وعياد بن بشر رضي الله عنهما. 1467 - البخاري (7/ 70) 62 - كتاب فضائل الصحابة-9 - باب مناقب علي بن أبي طالب. 1468 - البخاري (6/ 512) 60 - كتاب الأنبياء، باب: 54. ومسلم (4/ 1857) 44 - كتاب فضائل الصحابة-1 - باب من فضائل أبي بكر. ما هما ثم: أي وهما غئبان.

أقول: هذا من تأديبه عليه الصلاة والسلام المسلم على قبوله فكرة الخارقة إذا تعلقت مشيئة الله بها، والعبرة في هذه الأمور لصدق النقلة وعدالتهم وضبطهم فإذا جاءتنا الخارقة عن أمثال هؤلاء وصح السند واتصل وليس فيه علة قادحة فالأصل هو التسليم، وهذا هو الموقف السليم من الكرامات والمعونات ثم من الخوارق، مع ملاحظة أن الخارقة إذا وقعت فإنها تحتاج إلى تعليل شرعي، فالخوارق التي تظهر على يد الدجال هي من باب الاستدراج والامتحان. 1469 - * روى البخاري عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي: أيُّ الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيتُ أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. 1470 - * روى الطبراني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السباقُ أربعةٌ: سابقُ العربِ، وصهيبٌ سابقُ الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة". 1471 - * روى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ وعمار وأمه سمية وصهيبُ وبلال والمقدادُ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهُم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحدٍ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله واهن على قومه، فأخذوه وأعطوه الولدان (1)، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ويقولُ أحدٌ أحد.

_ 1469 - البخاري (7/ 30) 63 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم"لو كنت متخذاً خليلاً". 1470 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 305) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير عمارة بن زادان وهو ثقة، وفيه خلاف. 1471 - ابن ماجه (1/ 53) المقدمة -11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل سلمان وأبي ذر والمقداد. وقال في الزوائد: إسناده ثقات. والحاكم (3/ 284) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

1472 - * روى البزار والطبراني عن ابن عمر قال: كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة. 1473 - * روى الطبراني عن حذيفة قال: قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف الله أبا بكر ثم قُبض أبو بكر فاستخلف الله عمر ثم قبض عمر فاستخلف الله عثمان. أقول: كلمة حذيفة هذه تشير - وهو العارف ببواطن الكثير من الأمور - أن الخلافة في هؤلاء الثلاثة إرادة ربانية ماضية، وكلمته تتضمن أنها إرادةُ رضا. 1474 - * روى أبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يومٍ: "من رأى الليلة رؤيا؟ " فقال رجلٌ: أنا، رأيتُ كأن ميزاناً أُنزل من السماء، فوزنْتَ أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر، فرجح أبو بكر، ووزن عمر بعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزانُ، قال: فرأينا الكراهية في وجه النبي صلى الله عليه وسلم. 1475 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من ندفعُ صدقاتنا بعدك؟ قال: فسألته فقال: "إلى أبي بكر" فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألتُه فقال: "إلى عمر" فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بعمر حدثٌ فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: "إلى عثمان" فأتيتُهم فأخبرتُهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بعثمان حدثٌ فإلى من (1)؟

_ 1472 - البزار: كشف الأستار (2/ 224) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 177): رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح. 1472 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 179) وقال: رواه الطبراني في الوسط ورجاله ثقات. 1474 - أبو داود (4/ 308) كتاب السنة، باب في الخلفاء. والترمذي (4/ 540) 35 - كتاب الرؤيا -10 - باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1475 - المستدرك (3/ 77) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. =

فأتيته فسألتُه، فقال: "إن حدث بعثمان حدث فتباً لكم الدهر تباً". 1476 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أله الدرجات العُلى ليراهُم من تحتهم، كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما". 1477 - * روى أبو داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من أهل عليين ليُشرفُ على أهل الجنة، فتُضيءُ الجنةُ لوجهه، كأنه كوكبٌ دُريٌ" قال- وهكذا جاء في الحديث "دُريٌّ" مرفوع الدال لا يُهمز- "وإن أبا بكر وعمر لمنهُم، وأنعما". 1478 - * روى الطبراني عن ابن مسعود أن سعيد بن زيد قال: يا أبا عبد الرحمن قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو؟ قال: في الجنة، قال: تُوفي أبو بكر فأين هو؟ قال: ذاك الأواهُ عند كل خيرٍ يبتغي، قال: تُوفي عمر فأين هو؟ قال: إذا ذُكر الصالحون فحيهلا بعمر. 1479 - * روى ابن ماجه والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: سمعتُ ابن عباس يقول: لما وُضع عمر على سريره اكتنفه الناس يدعون ويصلون أو قال: يثْنُون ويُصلون عليه قبل أن يُرفع وأنا فيهم، فلم يرُعْني إلا رجلٌ قد زحمني وأخذ بمنكبي فالتفتُّ فإذا عليُّ ابن أ [ي طالب، فترحم على عمر ثم قال: ما خلفت أحداً أحبُّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله (1)

_ = فتباً لكم الدهر تباً: أي هلاكاً لكم طول الدهر هلاكاً. 1476 - الترمذي (5/ 607) 50 - كتاب المناقب -14 - باب مناقب أبي بكر، وقال: هذا حديث حسن روى من غير وجه عن عطية عن أبي سعيد. 1477 - أبو داود (4/ 34) كتاب الحروف والقراءات. الكوكب الدري: هو الكبير المضيء، كأنه نُسب إلى الدر، تشبيهاً بها. 1478 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1479 - ابن ماجه (1/ 37) المقدمة-11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل أبي بكر الصديق). والمستدرك (3/ 68) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. على سريره: أي بعد وفاته. اكتنفه الناس: أحاطوا به.

منك، وايم الله إنْ كنتُ لأظنُّ ليجعلنك الله عز وجل مع صاحبيك: وذلك أني كنتُ أكثر أن أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فكنتُ أظن ليجعلنك الله مع صاحبيك. 1480 - * روى أحمد عن عبد خير قال: قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر فعمل بعمله وسار بسيرته حتى قبضه على ذلك، ثم استُخلف عمر فعمل بعملهما وسار بسيرتهما حتى قبضه الله على ذلك. 1481 - * روى أحمد والطبراني عن علي قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنه أو أصابتنا فتنة يعفوا الل عمن يشاء، رواه أحمد، وقال ثم خبطتنا فتنة، يريد أن يتواضع بذلك. 1482 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذنُوباً أو ذَنُوبين، وفي نزعِه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالتْ غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزعُ نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناسُ بعطنٍ" (1).

_ 1480 - رواه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله ثقات. 1481 - أحمد في مسنده (1/ 112) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات. 1482 - البخاري (12/ 414) 91 - كتاب التعبير -29 - باب نزع الذنوب والذنوبين من البار بضعف. ومسلم (4/ 1860) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. القليب: البئر إذا لم تك مطوية. نزعتُ: الدلو من البئر: إذا جذبتها واستقيت الماء بها. الذنوب: بفتح الذال: الدلو العظيمة. الغرب: الدلو العظيمة. العبقري: الرجل القوي الشديد، وفلان عبقري القوم، أي: سيدهم وكبيرهم. العطن: الموضع الذي تُناخ فيه الإبل إذا رويت، يقال: عطنت الإبل، فهي عاطنة، وعواطن: إذا شربت فبركت عند الحوض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى، وأعطنتُها أنا، والمراد بقوله: "حتى ضرب الناسُ بعطن" حتى رَووا وأرووا إبلهم، فأبركوها وضربوا لها عطناً.

وللبخاري (1): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم رأيتُ أني على حوضي أسقي الناس، فأتاني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليُريحني، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، فأتى ابن الخطاب، فأخذه منه، فلم يزل ينزعُ حتى تولى الناس والحوض يتفجر"؟ وفي أخرى (2) لمسلم: قال: "بينا أنا نائم أريت أني أنزعُ على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليُروِّحني، فنزع دلوين، وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب فأخذ منه، فلم أر نزع رلٍ قط أقوى حتى تولى الناس والحوض ملآنُ يتفجر". 1483 - * روى الطبراني عن عائشة قالت قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدتِ العربُ واشرأبَّ النفاق فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها قالت فما اختلفوا في نقطةٍ إلا طار أبي بحطها وسنائها، ثم ذكرت عمر بن الخطاب فقالت: كان والله أحوذياً نسيج وحده قدْ أعدَّ للأمور أقرانها. قال الرياشيُّ يُقال للرجل البارع الذي لا يشبه به أحدٌ نسيجُ وحدِهُ. 1484 - * روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مشيتُ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلمإلى امرأةٍ فذبحت لنا شاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "ليدخلن رجلٌ من أهل الجنة" فدخل أبو بكر رضي الله عنه. ثم قال: "ليدخلنَّ رجلٌ من أهل الجنة" فدخل عمر رضي الله عنه ثم قال: "ليدخلنَّ رجلٌ من أهل الجنة اللهم إن شئت فاجعله علياً" قال: فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

_ (1) البخاري (12/ 415) 91 - كتاب التعبير -30 - باب الاستراحة في المنام. (2) مسلم (4/ 1861) 44 - كتاب فضائل الصحابة-3 - باب من فضائل عمر. 1483 - أورده الهيثمي في المجمع (9/ 50) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط من طرق ورجال أحدهما ثقات. هاضها: هاض العظم هيضاً: كسره بعد ما كاد ينجبر. أحوذياً: المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء. والسريع في كل ما أخذ فيه. والعالم بالأمر. فسيجُ وحده: وحده بكسر الدال ونسيج وحده إحدى ثلاث كلمات استثنتها العرب لا تنصب فيها وحده. 1484 - المستدرك (3/ 136) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

عطف: في المهاجرين والأنصار

1485 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن علي قال: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تُؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة وإنْ تؤمروا عمر تجدوهُ قوياً أميناً لا تأخذُه في الله لومة لائم. وإن تؤمروا علياً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذُ بكم الطريق المستقيم". قوله: "ولا أراكم فاعلين" أي أن تؤمروا علياً بعد عمر، وليس ذلك مطعناً في تأمير عثمان، بل هو إشارة إلى أن الأمر يكون أكثر استقامة، وقد تبين سر الحديث فيما بعد إذ حدثت الفتنة الكبرى في زمن عثمان والتي لا زال المسلمون يعانون من آثارها. * * * عطف: في المهاجرين والأنصار 1486 - * روى أحمد والطبراني والحاكم عن جرير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المُهاجرون والأنصارُ بعضهمْ أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة". 1487 - * روى البخاري عن غيلان بن جرير قال قلتُ لأنسٍ: أرأيت اسم الأنصار كنتم تُسمون به أم سماكم الله تعالى؟ قال: بل سمانا الله، وكنا ندخلُ على أنسٍ فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم، ويُقبلُ عليِّ أو على رجلٍ من الأزد فيقول: فعل قومُك يوم كذا وكذا كذا وكذا (1). (فعل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا) أي يجلي ما كان من مآثرهم في المغازي ونصر

_ 1485 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 176) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار ثقات. 1486 - أحمد في مسنده (4/ 363) والطبراني (2/ 309، 313) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 15): رواه أحمد والطبراني وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح وقد جوده رضي الله عنه فإنه رواه عن الأعمش عن موسى ابن عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال العبسي عن جرير على الصواب وقد وقع في المسند عن موسى بن عبد الله بن هلال العبسي عن جرير والله أعلم ورواه الحاكم (4/ 80 - 81) وصححه ووافقه الذهبي. 1487 - البخاري (7/ 110) 63 - كتاب مناقب الأنصار-1 - باب مناقب الأنصار.

الإسلام وقومك هم الأنصار - الأوس والخزرج-. والأوس ينسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج ينسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قيلة وهو اسم أمهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه أنساب الأزد. 1488 - * روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الأنصار لا يُحبهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافقُ، فمن أحبهم أحبهم الله، ومن أبغضهم أبغضه الله". 1489 - * روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية المنافق بغضُ الأنصار". 1490 - * روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين - قال: حسبتُ أنه قال من عُرس - فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ" قالها ثلاث مرارٍ يعني الأنصار. 1491 - * روى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار" زاد الترمذي (1): "ولنساء الأنصار". ولمسلم (2) عن أنس: "ولموالي الأنصار".

_ 1488 - البخاري (7/ 113) 63 - كتاب مناقب الأنصار-4 - باب حب الأنصار من الإيمان. ومسلم (1/ 85) 1 - كتاب الإيمان وعلاماته -33 - باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان. 1489 - البخاري ومسلم في الموضعين السابقين. فقام ممثلاً: أي انتصب قائماً. 1490 - البخاري (7/ 113) 63 - كتاب مناقب الأنصار-5 - باب قول النبي للأنصار أنتم أحب الناس إلي. ومسلم (4/ 1948) 44 - كتاب فضائل الصحابة-43 - باب من فضائل الأنصار. 1491 - البخاري (8/ 650) 65 - كتاب التفسير -63 - سورة المنافقين -6 - باب قول: (هم الذي يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الهل حتى ينفضوا). ومسلم (4/ 1948) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 43 - باب من فضائل الأنصار. (1) الترمذي (5/ 712) 50 - كتاب المناقب -66 - باب في فضل الأنصار وقريش، وقال: هذا حديث صحيح. (2) مسلم في نفس الموضع السابق.

1492 - * روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كَرِي وعيبتي، قد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". 1493 - * روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: قالت الأنصارُ يا نبي الله: لكل نبي أتباعُ وإنا قد اتبعناك فادعُ الله أن يجعل أتباعنا منا. فدعا به. 1494 - * روى البخاري عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يُقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: "إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيُصيبكم بعدي أثرة". وفي رواية (1): "حتى تلقوني على الحوض". 1495 - * روى البخاري عن قتادة قال: ما نعلم حياً من أحياء العرب أكثر شهيداً أغر يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحدٍ سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر معونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مُسيلمة الكذاب. 1496 - * روى البخاري عن أبي أُسيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيرُ دُور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو

_ 1492 - البخاري (7/ 121) 63 - كتاب مناقب الأنصار -11 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئهم". ومسلم (4/ 1949) 44 - كتاب فضائل الصحابة-43 - باب من فضائل الأنصار. كرشي وعيبتي: أي خاصتي وموضع سري. 1493 - البخاري (7/ 114) 63 - كتاب مناقب الأنصار -6 - باب أتباع الأنصار. 1494 - البخاري (7/ 117) 63 - كتاب مناقب الأنصار -8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". (1) للبخاري في نفس الموضع السابق. 1495 - البخاري (7/ 374) 64 - كتاب المغازي - 26 - باب من قتل من المسلمين يوم أحد. 1496 - البخاري (7/ 115) 63 - كتاب مناقب الأنصار -7 - باب فضل دور الأنصار.

ساعدة، وف يكل دُور الأنصار خير" فقال سعدٌ: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضلَ علينا، فقيل: قد فضلكم على كثير. وقال عبد الصمد: حدثنا شُعبة حدثنا قتادةُ سمعت أنساً قال أبو أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال (سعدُ بن عُبادة). 1497 - * روى البخاري عن أبي حميدٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير دورِ الأنصار دارُ بني النجار، ثم عبد الأشهل، ثم دارُ بني الحارث، ثم بني ساعدة، وفي كل دُور الأنصار خيرٌ" فلحقنا سعد بن عبادة، فقال أبا أسيد: ألم تر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خيرَ الأنصار فجعلنا أخيراً؟ فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خُيرَ دورُ الأنصار فجُعلنا آخراً، فقال: "أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ ". قال ابن حجر: وهذا يعارض رواية مسلم: فإن فيها أن سعداً رجع عن إرادة مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قال له ابن أخيه، ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة ولهذا قال له ابن أخيه في الأول "أترد على رسول الله أمره". قوله: "من الخيار" أي الأفاضل لأنهم بالنسبة إلى من دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك أهـ. 1498 - * روى ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض المدينة، فإذا هو بجوارٍ يضربن بدُفّهنِّ ويتغنين ويقلن: نحن جوارٍ من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال صلى الله عليه وسلم: "الله يعلم إني لأحبكن" (1).

_ 1497 - البخاري في نفس الموضع السابق. 1498 - ابن ماجه (1/ 612) -9 - كتاب النكاح -21 - باب الغناء والدف. قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

1499 - * روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن عيبتي التي آوي إليها: أهل بيتي، وإن كرشي الأنصارُ فاعفوا عن مسيئهم، واقبلوا من محسنهم. 1500 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شِعْباً لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار" فقال أبو هريرة: ما ظلم، بأبي وأمي، آووه ونصروه، أوكلمة أخرى. 1501 - * روى أحمدعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - وكان أبوه أحد الثلاثة الذين تيب عليهم - عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء الذين قُتلوا بأحدٍ ثم قال: "إنكم يا معشر المهاجرين تزيدون وإن الأنصار لا يزيدون وإن الأنصار عيبتي التي أويتُ إليها أكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم فإنهم قد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم". 1502 - * روى الطبراني عن أنس بن مالك قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن لكل نبي تركةً وصنيعةً وإن تركتي وصنيعتي الأنصارُ فاحفظوني فيهم". 1503 - * روى أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُبغضُ الأنصار رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر" (1).

_ 1499 - الترمذي (5/ 714) -5 - كتاب المناقب -66 - باب في فضل النصار وقريش وقال: هذا حديث حسن. 1500 - البخاري (7/ 112) 63 - كتاب مناقب الأنصار-2 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار". 1501 - أحمد في مسنده (5/ 224). وقال الهيثمي في مجمع الوائد (10/ 35): رجاله رجال الصحيح. 1502 - قال الهيثمي في مجمع الوائد (10/ 32): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. 1503 - أحمد في مسنده (3/ 45، 93) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 29) رواه أحمد بأسانيد ورجال أكثرها رجال الصحيح.

1504 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن محمد ومحمود ابني جابر بن عبد الله قالا: خرجنا يوم دخل حسنُ بن دلجة المدينة بعد الحَرَّةِ بعامٍ، فدخل المدينة حتى ظهر المنبر ففزع الناس فخرجنا بجابرٍ في الحرة وقد ذهب بصرهُ فنكبه الحجرُ فقال: أخاف الله من أخاف رسول صلى الله عليه وسلم فقالها مرتين أو ثلاثاً قبل أن نسأله فقلنا: يا أبتاه ومنْ أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أشهدُ لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخاف الأنصار فقد أخاف ما بين هذين" وفي رواية ووضع يديه على جنبيه. 1505 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: شق على الأنصار النواضحُ، فاجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم يسئلُونه أن يكري لهم نهراً سحا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحباً بالأنصار، مرحباً بالأنصار، مرحباً بالأنصار، لا تسئلوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه، ولا أسألُ الله لكم شيئاً إلا أعطانيه" فقال بعضهم لبعض: اغتنموها وسلوه المغفرة، قالوا: يا رسول الله ادعُ لنا بالمغفرة فقال: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار" وفي رواية: "ولأزواج الأنصارِ". 1506 - * روى البزار والطبراني عن ابن عباس قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار، فلما دنا من منزله سمعه يتكلمُ في الداخل فلما استأذن عليه دخل فلم ير أحداً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سمعتُك تكلمُ غيرك" فقال (1): يا رسول الله لقد دخلت الداخل اعتماماً

_ 1504 - أحمد في مسنده (3/ 293) والبزار: كشف الأستار (3/ 304). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 37) رواه الطبراني في الأوسط والبزار، وقال: من أخاف الأنصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير طالب بن حبيب وهو ثقة، وأحمد بنحوه إلا أنه قال: من أخاف أهل المدينة، ورجال أحمد رجال الصحيح. نكبه الحجر: أصابه وأدماه. 1505 - أحمد (3/ 139). والبزار (3/ 305) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 40): رواه أحمد والبزار بنحوه وقال: مرحباً بالأنصار ثلاثاً، والطبراني في الأوسط والصغير والكبير بنحوه، وأحد أسانيد أحمد ورجاله رجال الصحيح. النواضح: إبل السقي. يكري لهم نهرا سحاً: أن يدعو الله لهم فيرزقهم نهراً غزيراً. 1506 - البزار: كشف الأستار (3/ 307)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 41): رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط وأسانيدهم حسنة.

من كلام الناس مما بي من الحمى فدخل عليِّ رجل ما رأيتُ رجلاً بعدك أكرم مجلساً ولا أحسن حديثاً منه، قال: "ذاك جبريلُ وإن منكم لرجالاً لو أن أحدهُم أقسم على الله لأبرَّه". 1507 - * روى البخاري عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قالت الأنصارُ يا نبي الله، لكل نبي أتباع، وإنا قد اتبعناك، فادعُ الله أن يجعل أتباعنا منا، فدعا به. وفي رواية (1): فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلْ أتباعهم منهم". قال عمرو بن مُرة: فنميْتُ ذلك إلى ابن أبي ليلى، فقال: قد زعم ذلك زيدٌ. 1508 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصنٍ حصينٍ ومنعةٍ؟ (قال: حصنٌ كان لدوسٍ في الجاهلية)، فبى ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم للذي ذَخَرَ الله للأنصار، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطُّفيلُ بن عمرو، وهاجر معه رجلٌ من قومه، فاجتواُوا المدينة، فمرض فجزع جزعاً شديداً، فأخذ مشاقِصَ، فقطع بها براجمَهُ، فشخبَتْ يداه حتى مات، فرآه الطفيلُ بن عمرو في منامه في هيئةٍ حسنةٍ، ورآه مُغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربُّك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلأى نبيه، فقال: مالي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نُصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفرْ".

_ 1507 - البخاري (7/ 114) 63 - كتاب مناقب الأنصار-6 - باب أتباع الأنصار. أن يجعل أتباعنا منا: أن يكون لمواليهم ومن انتسب إليهم شرفهم وفضلهم. نميت: نميت الحديث أنميه: إذا نقلته وحدثت به. زعم: تأتي بلغة أهل الحجاز بمعنى قال ولا يراد بها الطعن. (1) البخاري في نفس الموضع السابق. 1508 - مسلم (1/ 108) 1 - كتاب الإيمان-49 - باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر. فاجتووا: الاجتواء: أن تستوخم المكان ولا يوافقك. مشاقص: جمع مشقص، وهو سهم له نصل عريض، وقيل: طويل. براجمه: البراجم: العُقد التي تكون في ظاهر الأصابع، وهي رؤوس السلاميات. شخبتْ: تشخب: سالت، بالخاء المعجمة.

قال النووي: في الحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئة. (هل لك في حصن حصين منعة): أي ألا تهاجر إلى اليمن ديار قبيلتي دوس فنحميك من قومك. وكان الطفيل سيد دوس. 1509 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفةً متعطفاً بها على منكبيه، وعليه عصابةٌ دسماءُ، حتى جلس على المنبر، فحمد لله أثنى عليه، ثم قال: "أما بعدُ، أيها الناسُ، فإن الناس يكثرون، وتقِلُّ الأنصارُ، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولى منكم أمراً يضُرُّ فيه أحدا أو ينفعه، فليقبلْ من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم". وفي رواية (1) مثله، وفيه: بملحفة وقد عصب رأسه بعصابة دهماء ... وذكره، وقال: "فمن ولي منكم شيئاً يضرُّ فيه قوماً، وينفعُ فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم" فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم. 1510 - * روى الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال. قال رسولُ صلى الله عليه وسلم: "للا الهجرةُ لكنتُ امرءاً من الأنصار". وفي رواية (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سلك الناسُ وادياً أو شعباً لكنتُ مع الأنصار". 1511 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك. قال: خرجتُ مع جرير بن عبدِ

_ 1509 - البخاري (7/ 121) 63 - كتاب مناقب الأنصار- 11 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". دسماء: الدُّسمة من الألوان: مما يضرب إلى السواد، أراد: عصابة سوداء، وقيل: أراد أنها قد اغبر لونها من الوسخ. (1) البخاري (2/ 404) 11 - كتاب الجمعة-39 - باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد. 1510 - الترمذي (5/ 712) 50 - كتاب المناقب -66 - باب في فضل الأنصار وقريش. (2) الترمذي في نفس الموضع السابق وقال: هذا حديث حسن. 1511 - البخاري (6/ 83) 56 - كتاب الجهاد-71 - باب فضل الخدمة في الغزو. ومسلم (4/ 1951) 44 - كتاب فضائل الصحابة-45 - باب في حسن صحبة الأنصار.

عطف: في أصحاب الصفة

الله البجلي في سفرٍ. فكان يخدمُني. فقلتُ له: لا تفعلْ. فقال: إني قدْ رأيتُ الأنصارَ تصنعُ برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، آليت أنْ لا أصحبَ أحداً منهم إلا خدمتُهُ. * * * عطف: في أصحاب الصفة 1512 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رأيتُ سبعين من أهل الصُّفِّةِ، ما منهم رجلٌ عليه رداءٌ، إما إزارُ، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعُه بيده، كراهيةَ أن تُرى عورتُه. 1513 - * روى الترمي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى يخرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحابُ الصُّفَّة، حتى يقول الأعرابُ: مجانينُ - أو مجانُون - فإذا صلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: "لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً". قال فضالة: وأنا يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1514 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنه أصابهم جوع، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة تمرةً (1). * * *

_ (1) فضائل الصحابة-45 - باب في حسن صحبة الأنصار. 1512 - البخاري (1/ 536) 8 - كتاب الصلاة-58 - باب نوم الرجال في المسجد. 1513 - الترمذي (4/ 583) 37 - كتاب الزهد 39 - باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث صحيح. الخصاصة: الحاجة والفقر إلى الشيء. مجانون: المجنون: جمعه جمع الصحة: مجنونون، وجمع التكسير: مجانين، فأما مجانُون فشاذ. 1514 - الترمذي (4/ 646) 38 - كتاب صفة القيامة-باب: 3. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الوصل الثاني في خلفائه الراشدين

الوصل الثاني في خُلفائه الراشدين

المقدمة

المقدمة الكلام عن خلفائه الراشدين عليه الصلاة والسلام كالكلام عنه من أكثر من حيثية: أولاً: لأنهم يعتبرون امتداداً له عليه الصلاة والسلام. ثانياً: لأننا مأمورون أن نقتدي بسنتهم وهداهم، ومن ثم يأخذ الحديث عمن يعتبرون خلفاء راشدين مسرى معيناً، فكل ما فعله خليفة راشد يعتبر سابقة دستورية لهذه الأمة تستطيع أن تقتدي بها، أما الحكام الذين لم تسلم لهم الأمة أنهم خلفاء راشدون فأفعالهم وأقوالهم تخضع للبحث، فإن كانوا من الصحابة دخلت أفعالهم وأقوالهم في حيز فعل الصحابي وقوله، ما لم تكن نصوص الكتاب والسنة واضحة في هذا القول وفي هذا الفعل، ومن سواهم تخضع أقوالهم وأفعالهم لتمحيص أئمة الاجتهاد والفتوى، فما أجازوه منها جاز وما حرموه منها حرم، على أنهم إن كانوا مسلمين مؤمنين فلأقوالهم وأفعالهم الجائزين حكم الإلزام بالنسبة لمن ولاهم الله عليهم إذا توافرت شروط معينة. وعلى هذا فما لم تكن خلافة راشدة فالحكم الحقيقي للمجتهد ولأهل الفتوى ومن ههنا فسر ابن عباس {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) بأنهم العلماء الفقهاء. والسنة النبوية تشير إلى بعض من يعتبرون خلفاء راشدين ففي حديث سفينة الحسن الصحيح: "الخلافةُ بعدي ثلاثون ثم تكونُ مُلكاً عاضاً" (2)، وعلى هذا فالخلفاء الراشدون المعنيون بهذا الحديث هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن الذي دامت خلافته ستة أشهر رضي الله عن الجميع. * * *

_ (1) النساء: 59 (2) رواه أحمد في مسنده (5/ 220، 221). وأبو داود (4/ 211) كتاب السنة، باب في الخلفاء. والترمذي (4/ 503) 34 - كتاب الفتن- 48 - باب ما جاء في الخلافة. وقال: هذا حديث حسن.

وقد اعتبر أهل العلم عمر بن عبد العزيز خليفة راشداً يقتدى به وليس من الصحابة بل هو تابعي، ولذلك فلن نذكره ههنا، وسيأتي كلام عنه في كتاب (الوجيز في التاريخ الإسلامي) إن شاء الله تعالى وهناك أمراء وسلاطين وخلفاء قاربوا أن يكونوا خلفاء راشدين، والسنة الصحيحة تشير إلى أن الخلافة الراشدة ستعود مرة أخرى، وسأل الله أن يجعلنا ممن يحيونها ويمهدون لذلك. * * * ولقد قام بعض الصحابة بأكثر منمحاولة لإعادة الخلافة الراشدة، منها محاولة الحسين رضي الله عنه، ومنها محاولة عبد الله بن الزبير، ومنها محاولة عبد الله بن حنظلة وقد انتهت المحاولات كلها بمآس كبيرة ضخمة، فقد استشهد الحسين واستشهد ابن الزبير واستشهد ابن حنظلة وانتهكت حرمتا مكة والمدينة. والمحققون من العلماء يعتبرون عبد الله بن الزبير هو الخليفة الشرعي في مرحلة من حياته، ولذلك فسنتحدث ههنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن الزبير، أما الحسن والحسين فقد مر حديث عنهما في فصل سابق. * * * ومن كلام علماء أهل السنة والجماعة في الصحابة: وخيرهم من ولي الخلافة ... وأمرهم في الفضل كالخلافة أي وخير الصحابة من ولي الخلافة منهم، والمقصود بذلك الخلفاء الراشدون الأربعة لأن تتمة العشرة أفضل من غيرهم من الصحابة، وترتيب الفضل بين الأربعة كترتيبهم في خلافتهم. قال الشيخ الباجوري رحمه الله في شرحه لهذا البيت: والنفر هم الخلفاء الأربعة، فلقد تولاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وتولاها عمر رضي الله عنه عشرة سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وتولاها عثمان رضي الله عنه إحدى عشرة سنة

وأحد عشر شهراً وتسعة أيام، وتولاها علي رضي الله عنه كرم وجهه أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، فالمجموع تسعة وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة أيام، وبأيام الحسن بن علي رضي الله عنهما تكمل المدة التي قدرها النبي صلى الله عليه وسلم، كذا حرره السيوطي. وأمرهم في الفضل كالخلافة: أي وشأن الخلفاء الأربعة في ترتيبهم في الفضل - بمعنى كثرة الثواب - على حسب ترتيبهم في الخلافة عند أهل السنة، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. وقد قال السعد: على هذا وجدنا السلف والخلف، وقال أبو منصور البغدادي من أكابر أئمة الشافعية: أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة أبو بكر فعمر فعثمان فعلي، فبقية العشرة المبشرة بالجنة، فأهل بدر، فباقي أهل أُحد، فباقي أهل بيعة الرضوان، فباقي الصحابة رضي الله عنهم، والظاهر أنه لو لم يكن لهم دليل على ذلك لما حكموا به. أهـ. * * *

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

أبو بكر الصديق رضي الله عنه (1) اسم أبي بكر رضي الله عنه ونسبه: هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، كان يسمى في الجاهلية عبد الكعبة، وقيل عبد اللات، وقيل عبد العزى، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. وكان يلقب بالعتيق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله تعالى أعتقه من النار، ولقب بالصديق لسبقه ومبادرته إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يقول ولا سيما صبيحة الإسراء. مولده رضي الله عنه: ولد أبو بكر رضي الله عنه في مكة بعد الفيل بعامين. ونشأ في مكة وشب فيها وكان محبوباً بين أقرانه، أثيراً لديهم منذ نعومة أظفاره. صفاته وسجاياه: كان أبو بكر رضي الله عنه في الجاهلية من سراة قريش وأشرافها وأهل مشورتها وكانت تساق إليه الديات والمغارم التي يقوم بها من يتقرب بها إلى العشيرة، لم يشرب الخمر التي كانت فاشية في الجاهلية، وكان عالماً بأنساب العرب وأخبارها، وكان تاجراً مرموقاً. وهو رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال، وتجشم منأجل ذلك المشقات والأهوال، وجند نفسه لخدمة دين الله عز وجل والدعوة إليه، فأسلم على يديه خلق كثير، منهم كبار الصحابة: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم. كان رضي الله عنه أحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله، فقد كان رفيق صباه وصاحبه عندما اصطفاه الله للرسالة، وبقي معه كظله لا ينفك عنه. عرف أبو بكر رضي الله عنه بالشجاعة والإقدام والحزم في الخطوب، شهد المشاهد كلها

_ (1) شارك في تحضير مقدمة هذه الترجمة أحد الإخوة فجزاه الله خيراً.

مبايعته بالخلافة

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من النفر الذين ثبتوا يوم أُحد وحنين فلم يجبنوا ولم يفروا، كان رضي الله عنه كريماً جواداً أنفق ماله كله في سبيل الله، الزهد دثاره والتواضع شعاره، وعرف بغزارة العلم وسعة الأففق وسداد الحجة، وصدق الفراسة، ودقة الفهم. مبايعته بالخلافة: انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه ولم يوص لأحد بالخلافة، بل ترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يرونه أهلاً لهذه المسئولية الجسيمة، وعلى أثر وفاته صلى الله عليه وسلم اجتمع نفر من الأنصار في سقيفة بني ساعدة في المدينة، ورادوا أن يبايعوا سعد بن عبادة سيد الخزرج خليفة للمسلمين فقد كره المسلمون أن يعيشوا دون إمام يجتمع عليه أمرهم ويستقيم به شأنهم، وجرت مشادة بين نفر من الأنصار والمهاجرين حول هذا الأمر، وحضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقام خطيباً في الحاضرين بين بالحجة والدليل أن هذا لأمر، لا يستقيم إلا في قريش نظراً لمكانتها وشرفها، وعرض الصديق على المسلمين في السقيفة أن يبايعوا عمر ابن الخطاب، أو أبا عبيدة بن الجراح. فقام عمر رضي الله عنه وبايع أبا بكر بالخلافة لسابقته وفضله فهو خير من طلعت عليه الشمس بعد النبيين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وباذل ماله في سبيل الله، وأحب الصحابة إلى رسول الله، وقد أمره أن يصلي بالناس أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم، وبايع الأنصار أبا بكر كأنما دعاهم من السماء داع وغرب الخلاف مع غروب شمس ذلك اليوم، وسميت هذه البيعة بالبيعة الخاصة وكانت البيعة العامة في المسجد في اليوم التالي، وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق. أعماله رضي الله عنه أثناء فترة خلافته: كانت خلافة أبي بكر رضي الله عنه حافلة بعظائم الأمور وجلائل الأعمال، وقد كتب له القدر أني تولى أمور المسلمين استجابة لتبعات إيمانه ومسؤوليات دينه ليواجه أحداثاً جساماً، وأموراً عظاماً: أولاً: إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه لقتال الروم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشاً تحت إمرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما وجهته الشام

لقتال الروم، وعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كان هذا الجيش يعسكر على بعد ثلاثة أميال من المدينة يتهيأ للسير، وأرجأت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم زحفه، وتباينت الآراء واختلفت وجهات النظر بشأنه. فقد رأى فريق من الصحابة فيهم عمر بن الخطاب أن إنفاذ جيش أسامة ينطوي على مخاطرة رهيبة ومغامرة عجيبةن لأن المدينة المنورة عاصمة الإسلام مهددة بغزو المرتدين فالمسلمون محتاجون لهذا الجيش في قمع الردة واستئصال شأفة المرتدين، فقد ارتد كثير من العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وخالطت الردة كل مكان تقريباً سوى مكة والمدينة والطائف وجواني - وهي مدينة قرب الهفوف الآن في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية - وغدا الخطر الماحق يهددُ مستقبل الدعوة الإسلامية ومصيرها وكان أسامة بن زيد قائد الجيش من أنصار هذا الرأي ومؤيديه. ورأى الخليفة رضي الله عنه إنفاذ هذا الجيش، لأن خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح وقال رضي الله عنه: (والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة). فقد رأى الصديق ببصيرته النفاذة، وفراسته الصادقة، وعقله الراجح أن المصلحة كل المصلحة في بعث جيش أسامة، لما في ذلك من إظهار قوة المسلمين ومنعتهم، فقد عادت كثير من القبائل التي مر بها هذا الجيش وهو في طريقه إلى الشام إلى صوابها ورشدها، وقالت: لو كانت المدينة تعاني من الضعف والوهن والخلاف لما أرسل هذا الجيش لقتال الروم، لقد ثبط هذا الجيش كثيراً من القبائل التي كانت فتنة الردة توشك أن تتسلل إليها، وأظهر قوة المسلمين العسكرية في هذا الوقت العصيب، وعاد جيش أسامة من غزوته تلك سالماً غانماً منصوراً، وقد رأى أبو بكر رضي الله عنه أن قضية بعث جيش أسامة ليست مما يعرض للشورى بعد أن أعطى الرسول أمره والشورى لا تكون فيما ورد فيه الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنت لأرد قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأى بعض المسلمين أن يكون على الجيش قائد غير أسامة لأنه كان صغير السن، غض الإهاب، قليل الخبرة، ضئيل التجربة وفي الجيش سادات الصحابة وأجلاؤهم، ولكن

ثانيا: قتال المرتدين

أبا بكر رضي الله عنه أبي أشد الإباء أن يخلع رجلاً ولاه الرسول وهو حي فقال: أيوليه الرسول وتأمرني بعزله. ثانياً: قتال المرتدين: وقد استشرت الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ونجم النفاق، وأشرأبت اليهودية والنصرانية وانشقت الأرض عن أنبياء كذبة، وحاقدين موتورين متربصين سحروا أعين الناس واسترهبوهم وقادوهم ببراعة الإفك المبين. فقد وقف طليحة الأسدي يعلن نبوة كاذبة وآزره كثير من قبائل أسد وغطفان وطيء وعبس وذبيان وامتد سعار الردة إلى بني عامر، وهوازن، وتأججت نار الردة وأوارها في بني تميم إذ جاءت لهم سجاح تعلن نبؤتها الكاذبة، ونجم مسيلمة الكذاب في اليمامة وأصبح المسلمون يواجهون جيوشاً جرارة كثيرة العدد والعُدد، قوامها عشرات الآلاف من المقاتلين، وسرت عدوى الردة إلى البحرين وعُمان ومهرة اليمن وغدا الإسلام في خطر داهم. وثبت أهل مكة والمدينة والطائف على إسلامهم ولم تؤثر فيهم تلك الفتنة العمياء التي رفعت رأسها في شبه جزيرة العرب. لقد دفعت العصبية العمياء، وشهوة الاستعلاء بعض القبائل العربية إلى انتحال النبوة فتنبأ رجال قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها. قتال مسيلمة الكذاب: (معركة اليمامة في شهر ربيع الأول سنة 12 هـ): لقد كان مسيلمة الكذاب أشد المرتدين خطراً، وقد انضم إليه الرَّحال بن عنفوة بن نهشل وهو من أكبر من أضل أهل اليمامة، فقد كان وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ سورة البقرة، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة، ومما تجدر الإشارة إليه أن مسيلمة الكذاب قد اتصل بسجاح التميمية التي ادعت النبوة وتزوجها فانضمت بأتباعها إليه. وقد زعم مسيلمة أنه نبي مرسل وأنه أشرك مع النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى النبي يطلب منه أن يشركه في النبوة فكتب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى أما

قتال طليحة الأسدي

بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ............ . وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أشخص الصديق رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل لقتال مسيلمة وقفي على آثاره بشرحبيل بن حسنة فعجل عكرمة بلقاء مسيلمة قبل مجيء شرحبيل فنكب، فأرسل الصديق خالد بن الوليد على رأس جيش ردء لعكرمة على مقدمته شرحبيل ابن حسنة، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد حشد أهل اليمامة، ودار قتال ضار لم يعهد له مثل، وصبر الصحابة وصابروا وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين يحصدونهم حصداً، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت وانقض البراء بن مالك على الباب كالصاعقة بعد أن احتمله الصحابة بالرماح فوق الجحف - أي التروس - وألأقوه من فوق سورها وفتح الباب، حلت بالمرتدين قاصمة الظهور، وخر مسيلمة صريعاً يخور كما يخور الثور بعد أن طعنه وحشي بالحربة، وعلاه سِمَاك بن خرَشَة بالسيف ففلق رأسه. ويروى أن الذي قتله عبد الله بن زيد بن عاصم، وقتل ف يالمعركة عشرة آلاف من المرتدين، وقضى نحبه من المسلمين خمسمائة فيهم عدد كبير من سادات الصحابة وأعيان الناس، فمن سادات الصحابة الذين شرفهم الله بالشهادة: ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلى الله عليه وسلم وحامل لواء الأنصار، وضرية بن أبي وهب وولداه عبد الرحمن، ووهب وزيد بن الخطاب حامل لواء المهاجرين، وأبو دجانة سِماك بن خرشة الذي عل مسيلمة بالسيف بعد أن رماه وحشي بالحربة، وشجاع بن وهب والطفيل بن عمرو بن طريف، وعباد بن بشر بن وقش الأنصاري، وسالم مولى أبي حذيفة. وهكذا قضى المسلمون على فتنة عاصفة مدمرة رفعت رأسها في شبه جزيرة العرب. قتال طليحة الأسدي: ارتد طليحة الأسدي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه بنو أسد وطيء وخلق كثير، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمؤازرته عيينة بن حصن بن بدر، وقد سيّر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد لقتال طليحة وانم إليه مائة وخمسون فارساً من طيء وجديلة بعد أن رجعوا إلى رشدهم وصوابهم بعد إقناع عدي بن حتم لهم بذلك، والتقى خالد بطليحة في مكان يقال له بُزاخة ودارت الدائرة على طليحة المتنبئ الكذاب وأشياعه فأخذوا وقتلوا

ارتداد أهل البحرين وعودتهم إلى الإسلام

تقتيلاً، وأسر عيينة بن حصن وكان ردءاً لطليحة في سبعمائة من بني فزارة واقتيد إلى المدينة يداه مغلولتان إلى عنقه فاستتابه الصديق وعفا عنه وحسن إسلامه، وأما طليحة فقد هرب بامرأته إلى الشام ونزل على بني كلب، ولكنه رجع إلى الإسلام بعد ذلك، واعتمر أيام الصديق واستحيا أن يواجهه. اجتمعت فلول المنهزمين يوم بُزاخة إلى امرأة من سيدات العرب يقال لها أم زَمِل كانت مضرب المثل لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وشايعها أخلاط من بني سُليم وطيء وهوازن وأسد فاستفحل أمرها، فسار إليهم خالد بن الوليد وقاتلهم واستمر القتل في أتباع أم زمل وعقر جملها وقتلت. ارتداد أهل البحرين وعودتهم إلى الإسلام: ارتد أهل البحرين على أدبارهم بعد وفاة ملكهم المنذر بن ساوي، ولم يبق في البحرين بلدة على الإسلام سوى قرية يقال لها جواثا، وأحاط الحُطم بن ضبيعة ومن حطب في حيلة من بني بكر بالمسلمين وحاصروهم، فأرسل الصديق العلاء بن الحضرمي لقتل المرتدين، وكان العلاء من سادات الصحابة العلماء العبّاد مجاب الدعوة، ولما دنا من البحرين انضم إليه ثُمامةُ بن أُثال في محفل كبير، ونزل العلاء بالقرب من جيوش المرتدين، ولما كان الليل آنس منهم غرة وعلم عن طريق عيونه أن القوم سكارى فباغتهم وأعمل السيف في رقابهم واستولى على جميع أموالهم ومحاصيلهم وأثقالهم وقتل الحُطُم بن ضبيعة زعيم المرتدين وعادت البحرين إلى حوزة الإسلام من جديد، وكلمة البحرين كانت تطلق قديماً على قطر والكويت وجزر البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية في عصرنا. ردّة أهل عمان ومهرَة اليمن: ارتد أهل عمان ومهرة اليم على أدبارهم وخعلوا ربقة الإسلام من أعناقهم، فقد نجم في عُمان لقيط بن مالك الأزدي - ذو التاج - فادعى النبوة، وتابعه الجهلة من أهل عُمان، فدانت له عُمان وألجأ عمال الخليفة إلى أطرافها. أرسل الصديق رضي الله عنه أميرين هما حذيفة بن مِحْصَن الحِمْيري، وعرْفجة البارقي

من الأزد ولحق بهما عكرمة بن أبي جهل بأمر من الصديق، والتقى المسلمون بالمرتدين، وكان قتال شديد ضار، وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا مدبرين لولا أن الله من عليهم بالمدد في الساعة الحاسمة من بني ناجية وعبد القيس فكان النصر المبين، وفر المرتدون لا يلوون على شيء، وقتل منهم عشرة آلاف مقاتل، وغنم المسلمون الذراري والأموال. ومضى المسلمون نحو مَهْرة اليمن بقيادة عكرمة وكان فيها أميران المصبح المحاربي وشخريت، وقد دبت بينهما عقارب العداوة والشحناء فاستمال عكرمة شخريتا فانضم إليه وأصر المصبح على عناده وطغيانه مغتراً بكثرة عدده وعُدده، فهزمه المسلمون شر هزيمة وقتل خلق كثير من قومه وغنم المسلمون أموالهم. ولقد كانت فتنة الردة ضخمة، وكان أبو بكر لها بالمرصاد، قطع دابرها، وطهر الأرض من أرجاسها وأدناسها، ووطد دعائم الدولة الإسلامية وواجهها بالحزم والعزم والثبات، وقد عقد الألوية لأحد عشر قائداً في وقت واحد: 1 - خلد بن الوليد ووجهته طليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة في البطاح. 2 - عكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة. 3 - المهاجر بن أبي أمية: اليمن. 4 - عمرو بن العاص ووجهته قضاعة ووديعة والحارث. 5 - سعيد بن العاص ووجهته مشارف الشام. 6 - حذيفة بن محصن الغلفائي وأمره بأهل دبا بعمان. 7 - عرفجة بن هرثمة ووجهته مهرة اليمن. 8 - شُرحْبيل بن حسنة، بعثه الصديق في إثر عكرمة لقتال مسيلمة الكذاب، وأمره باللحاق بعمرو بن العاص عند الفراغ من قتال مسيلمة.

ثالثا: الفتوح

9 - طرفة بن حاجز ووجهته بنو سليم ومن معهم من هوازن. 10 - سويد بن مُقرن ووجهته تهامة اليمن. 11 - العلاء بن الحضرمي ووجهته تهامة البحرين. وعادت هذه الجيوش ظافرة منصورة، بعد أن هزمت المرتدين وأخضعتهم، ومما تجدر الإشارة إليه أن هؤلاء المرتدين قد أقروا بالصلاة وامتنعوا عن أداء الزكاة ومنهم من امتنع عن دفعها إلى الصديق رضي الله عنه محتجاً بالآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) وقالوا لن ندفع زكاتنا إلا لمن صلاته سكن لنا. وقد رأى فريق من الصحابة أن يذر الصديق المرتدين وما هم عليه من الامتناع عن دفع الزكاة ويتألفهم حتى يتعمق الإيمان في قلوبهم ثم هم يزكون بعد ذلك، ولكن الصديق رضي الله عنه أبى أشد الإباء وقال: والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه. إن الزكاة حق المال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. ثالثاً: الفتوح: وجّه الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد بعد الفراغ من اليمامة إلى العراق، وأن يدعو أهلها إلى الله عز وجل فإن أبوا أخذ منهم الجزية فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وشرع الصديق رضي الله عنه في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمداداً لخالد رضي الله عنه. سار خالد رضي الله عنه حتى نزل ببعض قرى السواد (بانقيا وباروسما) فصالحه أهلها، ثم نزل الحيرة فصالح أهلها على الجزية ثم مضى خالد إلى الأبلة وهي من أمنع حصون فارس وأشدها شوكة وكانت معركة ذات السلاسل، فهزم المسلمون الفرس شر هزيمة واستحوذوا على

_ (1) التوبة: 103.

فتوح الشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه

أمتعتهم وأسلحتهم فبلغت وِقْر ألف بعير، وقتل هرمز قائد الفرس فيها، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس كيال يفروا، وهزم خالد الفرس في وقعة المذار في صفر في السنة الثانية عشرة للهجرة وأعمل السيف في رقابهم وغنم الأموال وسبى الذراري، ثم كانت وقعة الولجة ووقعة أُلْيس في صفر في السنة نفسها وقد دارت فيهما الدائرة على الفرس ومن شايعهم من بكر بن ائل من نصارى العرب، وقد قتل المسلمون في وقعة أليس وحدها من الفرس ما يربو على سبعين ألفاً، واستحوذ المسلمون على الحيرة وصالح خالد أهلها على الجزية كما تقدم. ثم ركب إلى الأنبار وفتحها وصالح أهلها، وسميت هذه الغزوة ذات العيون لكثرة ما فقأ المسلمون فيها من عيون الفرس لما رشقوهم بالنبال، ولما استقل خالد بالأنبار استناب عليها الزبرقان بن بدر وقصد عين التمر وبها يومئذ مهران بن بهرام في جمع عظيم من العرب، وحولهم من الأعراب طوائف من النمر وتغلب وإياد عليهم عقة بن أبي عقة، فأسر خالد عقة فانهزم جيشه وهرب مهران بن بهرام، وضرب خالد عنق عقة ومن أسر معه وغنم الحصن وقتل من فيه وسبى الذراري ونفل الأموال. ولما فرغ خالد من عين التمر قصد إلى دُومة الجَنْدَل، فلما سمع أهلها بمسيرة خالد إليهم، بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وتنوخ والضجاعم والتقى بهم خالد فهزمهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً واقتحم الحصن وقتل من فيه من المقاتلة وغنم أموالهم وسبى ذراريهم. ثم سار خالد ومن معه إلى الفراض- وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة-، فأقام هناك شهر رمضان مفطراً لشغله بالأعداء، ولما علم الروم بقرب خالد من بلادهم جمعوا جموعاً كثيرة واستمدوا تغلب وإياد والتمر، وعبروا نهر الفرات لمناجزة المسلمين فهزم الله جموع الروم وقتل منهم في هذه المعركة مائة ألف وقفل المسلمون منصورين غانمين. فتوح الشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه: جمع الصديق رضي الله عنه الناس لغزو الشام، وعقد اللواء لأربعة من الأمراء هم: 1 - أبو عبيدة بن الجراح ووجهته حمص، ومركز القيادة الجابية، في حوران.

وقعة اليرموك

2 - يزيد بن أبي سفيان، وجعل وجهته دمشق 3 - عمرو بن العاص، وجعل وجهته فلسطين. 4 - شرحبيل بن حسنة ووجهته وادي الأردن. وأمر الصديق كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر لما في ذلك من المصالح. وجعل الصديق رضي الله عنه يمدهم بالجيوش، وأمرهم أن يعاون بعضهم بعضاً وأن يكونوا جميعاً تحت إمرة أبي عبيدة، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل العرما من أرض الشام. ونزل يزيدبن أبي سفيان البلقاء. ونزل شرحبيل بن حسنة بالأردن ونزل أبو عبيدة بالجابية. وقعة اليرموك: لما توجهت جيوش المسلمين نحو الشام أفزع ذلك الروم، وخافوا خوفاً شديداً وكتبوا إلى هرقل يعلمونه بالأمر، فأمر هرقل بخروج الجيوش الرومية ليكون في مقابلة كل أمير من المسلمين جيش عرمرم جرّر، فكتب الأمراء إلى الصديق يعلمونه بما وقع من الأمر، فكتب إليهم أن يجتعوا ويكونوا جنداً واحداً للقاء جنود الروم، وكتب الصديق إلى خالد بن الويد أن يستنيب على العراقوأن يقفل بمن جاء معه إلى العراق من اليمامة والحجاز إلى الشام لمساعدة المسلمين وأن يكون الأمير عليهم، فاستناب خالد المثني بن حارثة على العراق وسار في تسعة آلاف وخمسمائة يجتاب البراري والقفار، ترفعه نجاد، وتحطه وهاد حتى وصل في خمسة أيام فخرج على الروم من ناحية تدمر، فصالحه أهلها، وخرج من شرقي دمشق، وسار حتى وصل إلى قناة بصرى فوجد الصحابة يحاربون أهلها، فصالحه صاحبها وسلمها لخالد فكانت أول مدينة فتحت من الشام. وقد نزلت الروم في الواقوصة فيما بين دير أيوب واليرموك، ونزل المسلمون من وراء النهر من الجانب الآخر وأذرعات (درعاً) خلفهم ليصل إليهم المدد من المدينة، وتكامل جيش الروم أربعين ومائتي ألف، وتكامل جيش المسلمين ستة وثلاثين ألفاً إلى الأربعين، وكانت الروم تحت إمرة باهان وهو قائد أرمني عرف فيه هرقل الشجاعة والإقدام، ورتب

خالد الجيش في كراديس وجعل أبا عبيدة في القلب، وعمرو بن العاص على الميمنة، ويزيد ابن أبي سفيان على الميسرةن ودارت رحى حرب ضروس، وأبلى المسلمون بلاء حسناً، وهُزم الروم هزيمة منكرة، وهوى من الروم مائة وعشرون ألفاً في وادي اليرموك، وشاركت النساء المسلمات في المعركة لصد هجمات الروم بعد أن اضطر المسلمون إلى التقهقر عدة مرات، وكن يعدن المنهزمين من المسلمين إلى حومة الوغى يلقين في قلوبهن الشجاعة والحمية. وكان نصر المسلمين في اليرموك مؤزراً مبيناً، وبينما كان المسلمون يقاتلون الروم جاء البريد من الحجز، فدفع إلى خالد وفيه وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستخلاف عمر الفاروق رضي الله عنه واستنابة أبي عبيدة على الجيوش في اليرموك، فكتم خالد الأمر لئلا يحصل وهو ضعف في نفوس المسلمين، وقد عزى خالد المسلمين بوفاة الصديق وسلم قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح وغدا ندياً يقاتل تحت إمرته حرصاً على وحدة المسلمين وقوتهم حتى يستمروا في مسيرتهم الجهادية المظفرة المباركة. وشرع أبو عبيدة رضي الله عنه في جمع الغنيمة وتخميسها، وبعث بالفتح والخمس إلى الحجاز وسار نحودمشق حتى نزل مرج الصفر، فأقام أبو عبيدة حتى جاءه كتاب الفاروق يأمره بفتحها. ومما تجدر الإشارة إليه أن معركة حامية الوطيس دارت بين المسلمين والفرس في العراق بعد رحيل خالد إلى الشام، فقد اغتنم الفرس غيبة خالد فبعثوا إلى نائبه المثنى بن حارثة جيشاً عرمرماً نحواً من عشرة آلاف مقاتل عليهم هرمز بن جاذويه، فسار المثنى إلى بابل والتقى بالفرس بمنكان عند العراق الأول، فاقتتلوا قتالاً شديداً فأرسل الفرس فيلاً ليفرق خيل المسلمين، فحملعليه المثنى فقتله واستمر القتل في الفرس، ودارت عليهم الدائرة، وفروا حتى انتهوا إلى المدائن، وغنم المسلمون منهم مالاً عظيماً. وقد أوصى الصديق وهو على فراش المرض عمر بن الخطاب أن يندب الناس لقتال أهل العراق مع المثنى وأن يرد أصحاب خالد إلى العراق بعد فتح الشام لأنهم أعلم بحربه. قال ابن كثير في البداية والنهاية: كانت وفاة الصديق رضي الله عنه في يوم الإثنين عشية، وقيل بعد المغرب ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث

عشرة بعد مرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا، فكانت خلافة الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وكان عمره يوم توفي ثلاثاً وستين سنة، للسن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله بينهما في التربة، كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه. أهـ. وقد ترجم ابن حجر في الإصابة ترجمة مختصرة ومما قاله في ترجمته: صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج في الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة تسع، واستقر خليفة في الأرض بعده ولقبه المسلمون خليفة رسول الله، وقد أسلمأبوه، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عمرو وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومعقل بن يسار وأنس وأبو هريرة وأبو أمامة وأبو برزة وأبو موسى وابنتاه عائشة واسماء وغيرهم من الصحابة. وروى عنه من كبار التابعين الصنابحي ومرة بن شراحيل الطبيب وواسط البجلي وقيس بن أبي حازم وسويد بن غفلة وآخرون. وفي المعرفة لابن منده:: كان أبيض نحيفاً خفيف العاضين معروق الوجه ناتئ الجبهة يخضب بالحناء والكتم. وقال ابن إسحاق: كان أنسب العرب، وقال البجلي: كان أعلم قريش بأنسابها، وقال ابن إسحق في السيرة الكبرى: كان أبو بكر رجلاً مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر، وكان تاجراً ذا خلق ومعروف وكنوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به فأسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ... وأخرج أبو داود في لازهد بسند صحيح عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم قال عروة وأخبرتني عائشة أنه مات وما ترك ديناراً ولا

درهماً. وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا هشام عن أبيه أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها في سبيل الله وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله أعتق بلالاً وعامر بن فُهيرة وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية بني المؤمل وأم عُبيس. ومناقب أبي بكر رضي الله عنه كثيرة جداً، وقد أفرده جماعة بالتصنيف وترجمته في تاريخ ابن عساكر قدر مجلد، ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع. وثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر وهما في الغار "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في هذه المنقبة غيره، وعند أحمد من طريق شهر بن حوشب عن أبي تميم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعما في مشورة ما خالفتكما" وأخرج الطبراني من طريق الوضين بن عطاء عن قتادة بن نسي عن عبد الرحمن بن تميم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يرسل معاذاً إلى اليمن استشار فقال: كل برأيه فقال: إن الله يكره فوق سمائه أن يُخطأ أبو بكر، وعند أبي يعلي من طريق أبي صالح الحيي عن علي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ولأبي بكر: مع أحدكما جبرائيل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، وفي الصحيح عن عمرو بن العاص قتلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ فذكر رجالاً، وأخرج الترمذي والبغوي والبزار جميعاً عن أبي سعيد الأشج عن عقبة بن خالد عن شعبة الجريري عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال أبو بكر في السقيفة ألست أول من أسلم؟ ألست أحق بهذا الأمر؟ ألست كذا ألست كذا؟ رجاله ثقات. وأخرج البغوي بسند جيد عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن عبد الله بن جعفر

_ (1) التوبة: 40.

قال: ولينا أبو بكر - فخير خليفة أرحم بنا وأحناه علينا وقال إبراهيم النخعي: كان يسمى الأواهُ لرأفته. ومن أعظم مناقب أبي بكر أن ابن الدغنة سيد القارة لما رد إلي جواره بمكة وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث فتواردا فيها على نعت واحد من غير أن يتواطأ على ذلك وهذا غاية في مدحه لأن صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ نشأ كانت أكمل الصفات. أهـ. 1515 - * روى الطبراني عن عروة بن الزبير قال: أبو بكر الصديق اسمهُ عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرة بن لؤيٍ، شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم أبي بكرٍ أمُّ الخير سلمى بنتُ صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالكٍ، وأم أمِّ الخير دلافٌ وهي أميمةُ بنتُ عبيد ابن الناقد الخزاعي، وجدةُ أبي بكرٍ أمُّ أبي قُحافة أمينة بنت عبد العُزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عُويج بن عدي بن كعبٍ. 1516 - * روى الطبراني عن الليث بن سعد قال: إنما سُمي أبو بكر عتيقاً لعتاقة وجهه وكان اسمه عبد الله بن عثمان. 1517 - * روى الطبراني عن أبي حفصٍ عمرو بن علي أنه كان يقول: كان أبو بكر معروق الوجه، وإنما سثمي عتيقاً لعتاقة وجهه وكان اسمه عبد الله بن عثمان، وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه عتيقاً من النار (1).

_ 1515 - المعجم الكبير (1/ 51) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 40) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. وفي الفتح (7/ 9) سلمى بنت صخر بن مالك بن عامر إلخ وأما أن إسناده حسن فلا لأن ابن لهيعة ضعيف في رواية غير العبادلة عنه وهذه الرواية ليست من رواية العبادلة عنه وهم عب دالله بن المبارك وعبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقري فالسند ضعيف. وسيتكرر هذا الإسناد كثيراً. 1516 - المعجم الكبير (1/ 52) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 41): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1517 - المعجم الكبير (1/ 53) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 41): رواه الطبراني وإسناده جيد حسن. لعتاقة وجهه: لجماله.

1518 - * روى الطبراني عن حكيم بن سعد قال: سمعت علياً يحلفُ: لله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق. 1519 - * روى البزار والطبراني عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: "هذا عتيقُ الله من النار" فمن يومئذ سمى عتيقاً، وكان قبل ذلك اسمه عبد الله بن عثمان. 1520 - * روى أحمد والترمذي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: أولُ من أسلم عليّ. قال عمر بن مرة: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعي، فأنكرهُ، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديقُ. ولا وجه للإنكار، فإن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وإن علياً أول من أسلم من الصبيان. 1521 - * روى الطبراني عن معاوية قال: دخلتُ مع أبي على أبي بكر الصديق فرأيتُ أسماء قائمة على رأسه بيضاء، ورأيتُ أبا بكر أبيض نحيفاً، فحملني وأبي على فرسين، ثم عرضنا عليه وأجازنا. 1522 - * روى الطبراني عن رافع بن عمرو قال: مر بي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو أو حج فتأملتُهم فلم أر منهم أحسن هيئةً من أبي بكر قد جُلل عليه كساءٌ من الحرِّ والبرد (1).

_ 1518 - المعجم الكبير (1/ 55) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 41): رواه الطبراني ورجاله ثقات، وقال في الفتح (7/ 9) رجاله ثقات. 1519 - روى البزار: كشف الأستار (3/ 163)، والمعجم الكبير (1/ 53). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 40): رواه البزار والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات. 1520 - أحمد في مسنده (4/ 368). والترمذي (5/ 642) 50 - كتاب المناقب باب: 21 وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1521 - المعجم الكبير (1/ 57) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 42): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1532 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 42) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

1523 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في أصحابه أشمطُ غير أبي بكر فغلفها بالحناء والكتم. 1524 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمْ أعْقِلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأيتنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بُكرةً وعشيةً، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حت إذا بلغ برْك الغِمادِ، لقيه ابن الدغنةِ - وهو سيدُ القارة- فقال: اين تريدُ يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريدُ أن أسيحَ في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدُّغُنةِ: فإن مثلكَ يا أبا بكر لا يخرجُ ولا يُخْرَجُ، إنك تكْسِبُ المعدوم، وتصلُ الرحم، وتحملُ الكل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جارٌ، ارجعْ واعبدْ ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدُّغُنَّة، فطاف ابن الدغنة عشيةً في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكرٍ لا يخرج مثله ولا يُخْرَج، أتُخْرِجُون رجلاً يكسبُ المعدوم، ويصلُ الرحم، ويحملُ الكل، ويقري الضيف، ويعينُ على نوائب الحق؟ فلم تُكَذِّبْ قريش بجوار ابن الدٌّغنة- وقالوا لابن الدُّغُنة: مُرْ أبا بكر فليعبدْ ربهُ في داره، فليُصلِّ فيها (1)،

_ 1523 - البخاري (7/ 256) 63 - كتاب مناقب الأنصار -45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. أشمط: رجل أشمط: قد شاب بعض شعره. غلفها: أي خضبها، والمراد اللحية وإن لم يقع لها ذكر. الكتم: نبت يختضب به مخلوطاً مع غيره. 1524 - البخاري (7/ 230 وما بعدها) 62 - كتاب مناقب الأنصار -45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. الدين: الطاعة. برك الغماد: بفتح الباء وكسر الغين، ويروي بضمها: اسم موضع جنوب مكة، بينه وبين مكة خمس ليالٍ مما يلي ساحل البحر، وقيل: هو بلد يمانٍ. القارة: بتخفي الراء: قبيلة، سُمي أبوهم بذلك حيث قال: دعونا قارة، لا تنفرونا ... فنُجفِل مثل إجفال الظليم تكسب المعدوم: يصف إحسانه وكرمه وعموم فضله، يقال: كسبتُ مالاً، وكسبت فلاناً مالاً، وأكسبته مالاً، الكل: ما يثقل حمله، من صلات الأرحام، والقيام بالعيال، وقري الأضياف، ونحو ذلك، ولهذا قرن هذه الأشياء بقوله: تكسب المعدوم. نوائب الحق: النوائب: ما ينوب الإنسان من المغارم، وقضاء الحقوق لمني قصده ويؤمله. فأنا لك جارُ: أي: حام وناصر ومُدافعَ. =

وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدُّغُنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبُدُ ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير دره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذفُ عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء، لا يملكُ عينيه إذا قرأ القرآن؛ فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدُّغُنة، فقَدِمَ عليهم، فقالوا: إنا كُنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانههُ؛ فإن أحبَّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعلن بذلك، فسله أن يرُد إليك ذمتك، قإنا قد كرهنا أن نُخفِرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدتُ لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني قد أُخفرتُ ذمتي في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني ردُّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله - والنبي صلى الله لعيه وسلم يومئذ بمكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "إني أُريتُ دار هجرتكم ذات نخلٍ، بين لابتين"- وهما الحرَّتان فهاجر من هاجر قِبَل المدينة، ورجع عامةُ من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يُؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجوذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمُر- وهو الخبط - أربعة أشهر (1).

_ تقذف: الناس عليه، أي: ازدحموا. الذمة: العهد والأمان. أخفرتُ الرجل: إذا نقضت عهده. السبخ من الأرض: الموضع الذي لا يكاد يُنبت لملوحته، وقلما يوافق إلا للنخيل، وأرض سبخة: أي ذات ملح ونز. اللاية: الحرة، والحرة: الأرض ذات الحجارة السود. على رسلك: بكسر الراء: على هِينَتِكَ. الراحلة: البعير القويُّ على الأحمال والسيرِ.

قال ابن شهاب (1): قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جُلوسٌ في بيت أبي بكر في نحرِ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - مُنَقنِّعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر - فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فذِن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك - بأبي أنت يا رسول الله - فاقل: "فإني قد أُذن لي في الخروج" قال أبو بكر: الصحابة، بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال أبو بكر: فخُذ بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" قالت عائشة: فجهزناهما أحثَّ الجهاز، ووضعنا لهما سُفرةً في جرابٍ، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثورٍ، فكمنا فيه لاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلامٌ شابٌ ثقِفٌ لقِنٌ، فيُدْلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاهُ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعلى عليهما عامر بن فهُيرة - مولى أبي بكر - منحةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةٌ من العشاء، فيبيتان في رسلٍ -وهو لبنُ منحتهما،

_ (1) أخرجه البخاري هكذا تعليقاً في (7/ 331). الظهيرة: أشدُّ الحرّ. ونحمرْها: أوائلها. النطاق: أن تشد المرأة وسطها بحبل أو نحوه، وترفع ثوبها من تحته، فتعطف طرفاً من أعلاه على أسفله، لئلا ينال الأرض. ثقف: حاذق فطن. لقِنِّ: اللقِنُ: سريع الفهم. أدلج: يدلج: إذا سار من أول الليل، وأدلج يدلج - بتشديد الدال -: إذا سار من آخره. كدت: الرجل أكيده: إذا طلبت له الفوائل ومكرت به. منحة: الأصل في المنحة: أن يجعل الرجل لبن ناقته أو شاته لآخر وقتاً ما، ثم يقع ذلك في كل ما يرزقه المرء ويعطاه، والمنحة والمنيحة واحد، يقال: "ناقة منوح": إذا بقى لبنها بعدما تذهب ألبان الإبل. فكأنها أعطت أصحابها اللبن ومنحتهم إياه. فيريحها: الرَّواح: ذهاب العشي، وهو من زوال الشمس إلى الليل. في رِسْل: الرَّسل، بكسر الراء وسكون السين: اللبن. =

ورضيفُهما- حتى ينعِق بها عامر بن فُهيرة بغلسٍ، يفعل ذلك في كل ليلةٍ من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل- وهو من بني عبد بن عديِّ - هادياً خريتاً- والخريتُ: الماهر بالهداية- قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كُفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فأتاهما صُبح ثلاث، فارتحلا وانطلق معهما ابن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل. وفي رواية: طريق الساحل. قال ابن شهاب تلعيقاً: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المُدلجيُّ- وهو ابن أخي سُراقة ابن جُعشم - أن أباه أخبره: أنه سمع سُراقة بن جُعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ديةَ كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالسٌ في مجلس من مجالس قومي بني مُدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيتُ آنفاً أسوده بالساحل، أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمتُ فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها عليِّ، وأخذتُ رُمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزُجِّهِ الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تُقرب بي، حتى دونتُ منهم، فعثرتْ بي فرسي، فخررتُ عنها (1)، فقمت فأهويتُ بيدي إلى كنانتي فاستخرجتُ

_ الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي جعل فيه الرضفة، وهي الحجارة المحماة. نعق الراعي بالغنم: دعاها لترجع إليه. بغلس: الغلس: ظلام آخر الليل. غمس: فلان حلفاً في آل فلان، أي: أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم، والحِلْف: التحالف. أسودة: جمع سواد، وهو الشخص. الأكمة: الرابية المرتفعة عن الأرض من جميع جوانبها. قرَّبَ: الفرسُ يقرب تقريباً: إذا عدا عدْواً دون الإسراع، وله تقريبان أدنى وأعلى. الكنانة: كالخريطة المستطيلة من جلود تجعل فيها السهام، وهي الجعبة.

منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضُرُّهم، أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي - وعصيتُ الأزلام - تُقرب بي، حتىإذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثر الالتفات: ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ، فلم تكد تُخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمتُ بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتُهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي - حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبس عنهم - أن سيظهر أمر رسول الله ر، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية -وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم - وعرضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني شيئاً، ولم يسألاني، إلا أن قال: "أخف عنا ما استطعت" فسألته أن يكتب لي كتاب أمنٍ، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رُقعةٍ من أدمٍ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاب ابن شهاب (1): فأخبرني عروة بن الزبير أن رسل الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى

_ = الأزلام: القداح، واحدها: زُلم، وزَلم- بفتح الزاي وضمها، وفتح اللام فيهما - والقِدْحُ: السهم الذي لا نصل له ولا ريش، وكان لهم في الجاهلية هذه الأزلام، مكتوب عليها الأمر والنهي، وكان الرجل منهم يضعها في كنانته أو في وعائه، ثم يخرج منها عند عزيمته على أمر ما اتفق له من غير قصد، فإن خرج الآمرُ مضي على عزمه، وإن خرج الناهي انصرف. الاستقسام: أصل الاستقسام: طلب ما قسم الله له من الأقسام، "والقَسَّم": النصيب المغيب عنه عند طلبه، وذلك محمود إذا طلب من جهته سبحانه، وكان أهل الجاهلية يطلبون ما غيب عنهم من ذلك من جهة الأزلام، فما دلتهم عليه فعلوه. ساخت: قوائم الدابة في الأرض: غاصت فيها. عثان: العثان: الغبار، وأصله الدخان. الساطع: المرتفع في الجو منتشراً. ما رزأت فلاناً شيئاً: أي: ما أصبت منه شيئاً، والمراد أنهما لم يأخذا منه شيئاً. (1) رواه البخاري تعليقاً (7/ 239). قافلين: القافل: الراجع من سفره.

بيوتهم أوفى رجلٌ من يهود على أطمٍ من آطامهم لأمرٍ ينظر إليه، فبصُرَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيضين، يزولُ بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون، قال: فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفِقَ من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف النسا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أُسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس، حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينةن وهو يصلي فيه يومئذ رجالٌ من المسلمين، وكان مربداً للتمر، لسهل وسهيل - غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زُرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بَركتْ راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل" ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبُه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبةً حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِنَ في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمالُ لاحمالُ خيبرْ ... هذا أبرُّ ربنا وأطهرْ يقول (1):

_ = أوفي: أشرف واطلع. آطامهم: الأطُم: بناء مرتفع. مبيضين: بكسر الياء، ذوو ثياب بيض. يزول بهم: زوال بهم السراب، أي: ظهرت حركتهم فيه للعين. جدتم: بفتح الجيم، أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعون. المربد: البيدر الذي يوضع فيه التمر. الحِمال: بكسر الحاء: من الحمل والذي يحمل من خيبر هو التمر، ولعله عني: أن هذا في الآخرة أفضل من ذلك ثواباً وأحسن عاقبة.

اللهم إنالأجر أجرُ الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة فتمثل بشعر رجل من المهاجرين، لم يسمِّ لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت تامٍّ غير هذه الأبيات. قال ابن حجر عن المعلق الأول: قوله (قال ابن شهاب) هو موصول بإسند حديث عائشة، وقد أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن إسحق "حدثني محمد بن مسلم هو الزهري به" وكذلك أورده الإسماعيلي منفرداً من طريق معمر والمعافي في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري. وقال عن المعلق الثاني: قوله (قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب) هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولاً، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيى بن بكير بالإسناد المذكور، ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلاً وصورته مرسل، لكنه وصله الحاكم أيضاً م طريق معمر عن الزهري قال "أخبرني عروة أنه سمع الزبير" به، وأفاد أن قوله "وسمع المسلمون إلخ" من بقية الحديث المذكور. وأخرجه موسى بن عقبة عن ابن شهاب به وأتم منه وزاد "قال: ويقال لما دنا من المدينة كان طلحة قدم من الشام، فخرج عائاً إلى مكة إما متلقياً وإما معتمراً، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو كبر" انتهى، وهذا إن كان محفوظاً احتمل أن يكون كل من طلحة والزبير أهدى لهما من الثياب. والذي في السير هـ والثاني، ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، والأولى الجمع بينهما وإلا فما في الصحيح أصح، لأن الرواية التي فيها طلحة من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، والتي في الصحيح من طريق عقيل عن الزهري عن عروة. ثم وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود، وعند ابن

عائذ في المغازي من حديث ابن عباس "خرج عمرو والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن أبي ربيعة نحو المدينة، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام" فتعين تصحيح القولين، أهـ. 1525 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب - يعني الجنة - يا عبد الله هذا خيرٌ. فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهادن ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومنْ كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام وباب الريان". فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة. وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر". 1526 - * روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إن عبداً خيرهُ الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده" فقال أبو بكر: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الحياة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان صلى الله عليه وسلم هو المخير، وأبو بكر أعلمنا به، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن من من الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر، ولكنْ أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخةُ أبي بكر". 1527 - * روى مسلم عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، قال (1):

_ 1535 - البخاري (7/ 19) 62 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". زوجين: صنفين من ماله في سبيل الله. 1536 - البخاري (7/ 12) 62 - كتاب فضائل الصحابة-3 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر. ومسلم (4/ 1854) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 44 - باب من فضائل أبي بكر. والترمذي (5/ 608) 50 - كتاب المناقب - 15 - باب. الخوخة: النافذة في الجدار. 1527 - مسلم (1/ 313) 4 - كتاب الصلاة-31 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر وغيرهما من يصلي بالناس.

"مُروا أبا بكرٍ فليُصل بالناس" قالت فقلت: يا رسو الله! إن أبا بكر رجلٌ رقيقٌ. إذا قرأ القرآن لا يملك دمعهُ. فلو أمرت غير أبي بكر! قالت: والله! ما بي إلا كراهيةُ أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت فراجعته مرتين أو ثلاثاً. فقال: "ليُصل بالناس أبو بكر. فإنكن صواحبُ يوسف". 1528 - * روى البخاي ومسلم عن عائشة قالت: لقد راجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لمي قع في قلبي أن يُحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً. وإلا أني كنتُ أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به. فأردتُ أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر. 1529 - * روى البزار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دُعي الإنسانُ بأكثر عمله فإن كانت الصلاة أفضل دُعي بها وإن كان صيامه دعي به، وإن كان الجهاد دُعي به، ثم يأتي باباً من أبواب الجنة يُقال له الريانُ يدعى منه الصائمون" قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله أثم أحدٌ يُدعى بعملين قال: "نعم أنت". 1530 - * روى الحاكم عن عمر رضي الله عنه قال: كان أبو بكرٍ سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الهل صلى الله عليه وآله وسلم. 1531 - * روى عبد الله بن أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار سُدُّوا كل خوخةٍ، في المسجد غير خوخةِ أبي بكرٍ" (1).

_ 1528 - البخاري (8/ 140) 64 - كتاب المغازي- 83 - باب مرضي النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ومسلم في نفس الموضع السابق. 1529 - البزار: كشف الأستار (4/ 173)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/ 398): رواه البزار، وإسناده حسن. 1530 - المستدرك (3/ 66) وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1531 - أورده الهيثيمي في مجمع الزوائد (9/ 42) وقال: رواه عبد الله ورجاله ثقات.

1532 - * روى أحمد والطبراني عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلمفأعطانا أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلةٍ، فقال أبو بكر: هي في حدي، وقلت أنا: هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكرٍ كلامٌ: فقال أبو بكر كلمةٌ كرهتُها وندم فقال لي: يا ربيعة رُدَّ علي مثلها حتى تكون قصاصاً، فقلت: لا أفعل. فقال أبو بكر: لتفعلن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله لعيه وسلم: فقلتُ: ما أنا بفاعل ورفض الأرض، فانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه فجاء أناسٌ من أسلم فقالوا: يرحمُ الله أبا بكر، في أي شيءٍ يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ قلتُ: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، وهو ثاني اثنين وهو ذو شيبة المسلمين، فإياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضبُ لغضبه فيغضبُ الله لغضبهما فتهلك ربيعة قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، فانطلق أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته وحدي وجعلت أتلوهُ حتى أتى رسول اله صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليَّ رأسه فقال: "يا ربيعة مالك وللصديق؟ " قلت يا رسول الله كان كذا، كان كذا، قال لي كلمة كرهتُها فقال لي قل كما قلت حتى يكون قصاصاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجلْ فلا تردنَّ عليه، ولكنْ قل غفر الله لك يا أبا بكر" فولى أبوب بكر وهو يبكي. 1533 - * روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنتُ جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبُكم فقد غامر" فسلم، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعتُ إليه، ثم ندمتُ فسألته أن يغفر لي، فأبى عليِّ، فأقبلت إليك، فقال (1): "يغفرُ الله لك

_ 1532 - أحمد في مسنده (4/ 58). والمعجم الكبير (5/ 58) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 45): رواه الطبراني وأحمد بنحوه في حديث طويل وفيه مبارك بن فضالة وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. عذق نخلة: العذقُ: النخلة بحملها. والعِذقُ: العرجون بما فيه من الشماريخ والجمع عِذاق. 1533 - البخاري (7/ 18) 62 - كتاب فضائل الصحابة-5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذاً خليلاً". غامر: أي: خاصم. أسرعت إليه: آذيته بالقول.

يا أبا بكرٍ" - ثلاثاً- ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ، فقال: أثم أبو بكرٍ؟ قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكرٍ، فجثا على ركبتيه، وقال: يا رسول الله والله أنا كنتُ أظلمَ - مرتين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ " - مرتين- فما أوذي بعدها. وفي أخرى (1) قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورةٌ، فأغضب أبو بكر عم، فانصرف عمر مُغضباً، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو الدرداء: ونحن عندهُ -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم هذا فقد غامر" قال: وندم عمرُ على ما كان منه، فأقبل حتى سلم، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنتُ أظلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل أنتمُ تاركون لي صاحبي؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ إني قلتُ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت". 1534 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكرٍ غلامٌ يُخرجُ له الخراجن وكان أبو بكر يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تُكهنت لإنسان في الجهالية: وما أُحسنُ الكهانة، إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه (2).

_ = التمعر: تغير اللون من الغضب. (1) البخاري (8/ 303) 65 - كتاب التفسير -3 - باب (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً). 1534 - البخاري (7/ 149) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 26 - باب أيام الجاهلية. يخرج له الخراج: أي يأتيه بما يكسبه وهو ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. تكهنتُ: التكهُّنُ: فعلُ الكاهن، وهو إخباره لمن يسأله عماي سأله عنه من المغيبات. (2).

1535 - * روى الحاكم عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لما بعث الجيوش نحو الشام يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشُرحبيل بن حسنة مشى معهم حتى بلغ ثنية الوداع، فقالوا: يا خليفة رسول الله تمشي ونحنُ رُكبان؟ 1536 - * روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال أبو بكر الصديق: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: "فمنْ أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في رجل إلا دخل النة"؟ 1537 - * روى أبو يعلي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعنا مالُ أحدٍ ما نفعنا مالُ أبي بكرٍ". 1538 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مالأحدٍ عندنا يد إلا وقد كافأناهُ، ما خلا أبا بكر، فإن له ندنا يداً يكافئهُ الله به يوم القيامة، وما نفعني مالُ أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنتُ متخذاً خليلاً من الناس لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليلُ الله". (لو كنت متخذاً خليلاص لاتخذت أبا بكر خليلاً) قد ذكرنا معنى الخلة وأنها من المودة، وقيل: هو من تخللها القلب، أي دخولها فيه، والمقصود من الحديث: أن الخلة تلزم فضل مراعاة للخليل، وقيام بحقه، واشتغال القلب بأمره، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه ليس عنده فضل مع خلة الحق للخلق، لاشتغال قلبه بمحبة الله سبحانه، فلا يحتمل ميلاً إلى غيره (1).

_ 1535 - المستدرك (3/ 80) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي: مرسل. 1536 - مسلم (4/ 1857) 44 - كتاب فضائل الصحابة-1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق. 1537 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 51) وقال: رواه أبو يعلي، ورجاله رجال الصحيح، غير إسحاق بن إسرائيل وهو ثقة مأمون. 1538 - الترمذي (5/ 609) 50 - كتاب المناقب، باب: 15، وهو حسن بشواهده.

1539 - * روى أبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً، فقلتُ: اليوم أسبِقُ أبا بكر - إن سبقته - يوماً، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكرٍ، ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله وروسله، قلتُ: لا أسبقه إلى شيءٍ أبداً. 1540 - * روى الطبراني عن عروة قال: أعتق أبو بكر سبعة ممن كان يعذب في الله منهم: بلال وعامر بن فهيرة. 1541 - * روى البخاري ومسلم عن جبير بن مُطعمٍ رضي الله عنه قال: أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - كأنها تقول: الموت- قال: "إن لم تجديني فائتي أبا بكرٍ". قال الحافظ في "الفتح": وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كان على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها 1542 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قدْ جاءنا مالُ البحرين لقد أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا" وقال بيديه جميعاً. فقُبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيء مال البحرين. فقدم على أبي بكر بعده. فأمر منادياً فنادى: من كانت له على النبي صلى الله عليه وسلم عدةٌ أودينٌ فليأتِ. فقمتُ فقلتُ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" فحثى أبو بكرٍ مرة. ثم قال لي: عُدها. فعددتُها فإذ هي خمسمائة. فقال: خذْ مثليها (1).

_ 1539 - أبو داود (3/ 129) كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك. والترمذي (5/ 614) 50 - كتاب المناقب - 16 - باب في مناقب أبي بكر وعمر. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1540 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 50) وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى عروة رجال الصحيح وهو مرسل. 1541 - البخاري (7/ 17) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". ومسلم (4/ 1856) 44 - كتاب فضائل الصحابة-1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق. 1543 - مسلم (4/ 1807) 43 - كتاب الفضائل -14 - باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه.

1543 - * روى أحمد والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فقال: يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث رجلاً منكم قرنه برجلٍ منا فنحن نرى أن يلي هذا الأمر رجلان رجلٌ منا ورجلٌ منكم. فقام زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وكنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحنُ أنصارُ من يقومُ مقامه فقال أبو بكر: جزاكم الله خيراً من حي يا معشر الأنصار وثبت قائلكم. والله لو قلتم غير ذلك ما صالحناكم. 1544 - * روى الطبراني عن سالم بن عبيدٍ وكان من أصحاب الصُّفة قال: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأفاق فقال: "حضرت الصلاة؟ " قلنا: نعنم قال: "مُروا بلالاً فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبي رجل أسيفُ فلو أمرت غيره فليصل بالناس. ثم أغمى عليه فأفاق فقال: "هل حضرت الصلاة؟ " قلت: نعم. قال: "مروا باللاً فليؤذنْ ومروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبي رجلٌ أسيفٌ فلو أمرت غيره فليصل بالناس. ثم أغمي عليه فأفاق فقال: "أقيمت الصلاة؟ " قلنا: نعم. قال: "ائتوني بإنسان أعتمدُ عليه" فجاءه بُريدة وإنسان آخر فاعتمد عليهما فأتى المسجد فدخله وأبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس فذهب أبو بكر يتنحى فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلس إلى جنب أبي بكر حتى فرغ من صلاته. فقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: لا أسمع أحداً يقول مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بالسيف؛ فأخذ أبو بكر بذراعي فاعتمد عليِّ وقام يمشي حتى جئنا فقال: أوسعوا فأوسعوا له، فأكب عليه ومسَّه قال: إنك ميت وإنهم ميتون، قالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فعلموا أنه كما قال. قالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، يدخل قومٌ فيكبرون ويدعون ويصلون ثم ينصرفون، ويجيء آخرون حتى يغرُغوا. قالوا (1): يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1543 - أحمد في مسنده (5/ 186) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 183) وقال: رواه الطبراني وأحمد ورجاله رجال الصحيح. 1544 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 182) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. أسيف: أي سريع البكاء والحزن، وقيل هو الرقيق.

أيُدفنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالوا: وأين يدفنُ؟ قال: حيثُ قُبضَ، فإن الله تبارك وتعالى لم يقبضه إلا في بقعةٍ طيبةٍ. فعلموا أنه كما قال. ثم قام فقال: عندكم صاحبُكم، فأمرهم يغسلونه، ثم خرج واجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار فإن لهم في هذا الأمر نصيباً، فانطلقوا. فقال رجلٌ من الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فأخذ عمر بيد أبي بكر رضي الله عنهما فقال: أخبروني من له هذه الثلاث: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي} من هما؟ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} من صاحبه؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فضرب عليها وقال للناس: بايعوه. فبايعوه بيعةً حسنة جميلة. 1545 - * روى أحمد عن بُريدة قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مروا أبا بكر يصلي بالناس " فقال عائشةُ: يا رسول الله إن أبي رجل رقيقٌ، فقال: "مروا أبا بكر يصلي فإنكن صواحبات يوسف" فأم أبو بكر الناس والنبي صلى الله عليه وسلم حي. 1546 - * روى الحاكم عن عبد الله قال: ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعاً أنْ يستخلفُوا أبا بكرٍ رضي الله عنه. 1547 - * روى الحاكمعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: ولينا أبو بكر فكان خيرَ خليفةِ الله وأرحمهُ بنا وأحناهُ علينا. 1548 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: تذاكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ميالدهما عندي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثٍ وستين، لسنتين ونصف التي عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أبا بكر (1).

_ 1545 - أحمد في مسنده (5/ 361) ورجاله رجال الصحيح. 1546 - المستدرك (3/ 78) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 1547 - المستدرك (3/ 71) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 1548 - المعجم الكبير (1/ 58)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 60) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

أقول: المراد من النص أن أبا بكر توفي في السن نفسه الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم 1549 - * روى الطبراني عن سعيد بن المسيب قال: تُوفي أبو بكر الصديقُ وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة، وولي سنتين، ودُفن ليلاً وصلى عليه عمر. 1550 - * روى الطبراني عن عائشة قالت: تُوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء ودُفن ليلاً. 1551 - * روى الطبراني عن الهيثم بن عمران قال: سمعت جدي يقول: توفي أبو بكر الصديق وبه طرف من السل وولي سنتين ونصفاً. 1552 - * روى الطبراني عن يحيى بن بكير قال: استُخلف أبو بكرٍ في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُوفي في جُمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. 1553 - * روى الطبراني عن الحسن بن علي قال: لما احتُضر أبو بكرٍ قال: يا عائشة انظري اللقحة اليت كنا نشربُ من لبنها والجفنة التي كنا نصطبحُ فيها والقطيفة التي كنا نلبسُها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين فإذا متُّ فاردُديه إلى عمر فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى عمر فقال عمر: رضي الله عنك يا أبا بكر لقد أتبعت من جاء بعدك (1). * * *

_ 1549 - المعجم الكبير (1/ 59) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 60) رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1550 - المعجم الكبير (1/ 61) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 60) رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1551 - المعجم الكبير (1/ 61) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 60) رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1552 - المعجم الكبير (1/ 61) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 60) رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه قال: عن الزبير بن بكار. 1553 - المعجم الكبير (1/ 60) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 231) رواه الطبراني ورجاله ثقات.

تعليقات

تعليقات * نستطيع أن نقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان امتداداً لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظهر ذلك في أنه تابع عملية الجهاد على الأرض العربية وخارجها وتلك التي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسها العملية ونزل القرآن آمراً بها، ومن خلال الرؤية الشاملة لمواقف الصحابة رضوان الله عليهم نجد أنه لولا أبو بكر لما سارت الأمور بالشكل الذي سارت فيه، ومن ثم فإن الفتوحات الإسلامية والانطلاقة التي دثت في عهد عمر رضي الله عنه ومن جاء بعده، كل ذلك في صحيفة أبي بكر، وهي وهو في صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ههنا نقول: إنه لا أفضل من أبي بكر ولا أثقل منه في نميزان الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * * وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤسس فإن المجدد الأول لهذا الدين هو أبو بكر، فالردةُ كانت شاملة تقريباً، ولقد كادت أن تعصف بكل شيء، فالمستقبل السياسي للإسلام أصبح في خطر، وأحكام الإسلام أصبحت في خطر، وكادت دولة الإسلام أن تنتهي، ولولا مواقف أبي بكر لم تعد الأمور إلى نصابها، ولم يقم الإسلام من جديد، فكان بحق المجدد الأول للإسلام، لكنه تجديد ليس له مثيل ولا عديل، فغيره من المجددين جاؤوا والإسلام في الأرض مكين وتجربته ممتدة، أما تجديده هو فكان في مرحلة عاصفة ونبت الإسلام غض. * ومع الفهم السديد للإسلام ومع هذا العزم والحزم فقد امتلك أبو بكر قوة المبادرة التي قذفت بالمسلمين إلى عوالم جديدة، فلما تسلم الراية عمر رضي الله عنه كانت نقاط الانطلاق محددة فسار بها بحزم وعزم ومبادرات مكافئة، ولكن لأبي بكر فضيلة السبق وشق الطريق، فمن يدعي بعد ذلك أن هناك أثقل من أبي بكر في الميزان؟ * ويرى بعض الباحثين أن موقف أبي بكر من بعث أسامة وموقفه من المرتدين دليل على أن الشورى في حق أمير المؤمنين معلمة لا ملزمة بدليل أن أبا بكر خالف الناس في ذلك والأمر عندنا أن في هاتين القضيتين نصوصاً، وحيثما كانت النصوص فلا محل للشورى، فالرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو يوصي بإنفاذ جيش أسامة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أمرت

أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ... " ولذلك فإنني لا أرى في هاتين الحادثتين دليلاً على عدم إلزامية الشورى والذي أراه لعصرنا أن المسلمين على شروطهم فحيثما تعاقدوا على حدود للشورى فإنها تلزم المتعاقدين. * * * * ولقد سن أبو بكر سنناً، واجتهد اجتهادات، ولقد خالفه بعد ذلك في بعض اجتهاداته عمر وغيره، ومن ههنا نقول: إن كل تصرفات الخلفاء الراشدين هي من باب السوابق الدستورية لهذه الأمة، وهذه الأمة تستطيع أن تبني على أي سنة من سننهم إذا رأت في ذلك مصلحة وكان ذلك من خلال الشورى. * * * * ومن أهم ميزات أبي بكر رضي الله عنه حسن اختياره للرجال وإعطائهم الفرص لإطلاق طاقاتهم ومعرفته بنفسية رعيته يظهر ذلك من قولة عمر: "رحم الله أبا بكر فلقد كان أعرف مني بالرجال، ومن إطلاقه العنان لخالد في التصرفات ومن تحريكه العرب إلى فتح الشام والعراق مباشرة بعد ما أنهى، ولولا ذلك لأهلك العرب بعضهم بعضاً. * * *

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) ميلاده ووفاته: ولد عمر بن الخطاب بمكة قبل حرب الفِجار بنحو أربع سنوات على ما يرويه الطبري. ونشأ نشأة عالية كريمة، فكان فصيحاً بليغاً جريئاً في الحق. وهو من الرهط الذين انتهى إليهم الشرف في الجاهلية، وكانت إليه السفارة في قريش. أسلم في السنة الخامسة للبعثة وأعز الله به الإسلام، كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمرته رحمة، وقضى نحبه شهيداً بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين رضي الله عنه. بيعته في الخلافة: بويع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة للهجرة بعد وفاة الصديق رضي الله عنه، واستمرت خلافته حتى سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين كلها عدل ورحمة وبر وجهاد. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب حرصاً منه على وحدة المسلمين، وجمع شملهم، وقطعاً لدابر الخلاف بينهم، وقد وقع اختيار الصديق على عمر رضي الله عنه لأنه أهل لتحمل أعباء الخلافة والاضطلاع بمسؤولياتها، فعمر رجل شديد في غير عنف، ولين في غير ضعف، وكان الصديق رضي الله عنه في مرضه الأخير يستشير الصحابة في عمر فيثنون عليه خيراً ويشهدون له بالفضل ويقرون له بالجميل، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الذي كتب عهد الصديق إلى عمر بالخلافة، فلما قرئ العهد على المسلمين أقروا به وسمعوا له وأطاعوا. سيرته قبل الخلافة: وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حياته بعد أن أسلم على نصرة الإسلام والذود عن

_ (1) شارك في إعداد مقدمة هذه الترجمة أحد الإخوة فجزاه الله خيراً.

سيرته أثناء الخلافة

حياضه، فقد صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته وبالغ في نصرته، كان من أشد الناس على الكفر وأهله، وشهد الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلمن فكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان وخيبر والفتح وغيرها، كان يشير على الرسول بالأمر فينزل الوحي موافقاً لما أشار به، وكان الصديق رضي الله عنه يستشيره في معضلات الأمور، ومشكل القضايا، وكان الساعد الأيمن للصديق في حرب المرتدين، وهو صاحب الفضل في حمل الصديق على جمع القرآن الكريم وتدوينه. سيرته أثناء الخلافة: كانت حياة الفاروق رضي الله عن حافلة بجلائل الأعمال، فقد قوض الله على يديه أعظم إمبراطوريتين في ذلك العصر: الروم وفارس. وتمت في عهده فتوحات واسعة، تسير جيوشه مكللة بأكاليل النصر والظفر، لا تنكس لها راية، ولا يطوى لها لواء، ناشرة عقيدة التوحيد أينما ألقت عصا التسيار، حاملة مبادئ الخير والعدل والرحمة إل كل الأقطار والأمصار، أهم هذه الفتوحات فتوح الشام، وهذه أهم معاركها في عهد عمر. 1 - فتح دمشق: آلت قيادة الجيش بعد وفاة الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح بعد عزل خالد رضي الله عنه من قبل الفاروق، وارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجيش على مرج الصُّفّر وهو عازم على حصار دمشق فقد نُمي إليه أن هرقل قد تحصن في حمص، وأن جموعاً كبيرة من الروم قد اجتمعت بفحْلٍ من أرض فلسطين، وقد كتب أبو عبيدة إلى الفاروق يستشيره ماذا يصنع؟ فأشار إليه أن يبدأ بفتح دمشق فإنها حصن الروم وبيت مملكتهم، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون تلقاءهم فإن فتح الله عليه دمشق سار إلى فِحْل، فإن فتحها الله له سار وخالد إلى حمص وترك عمرو بن العاص وشرحبيل على الأردن وفلسطين. وكان أبو عبيدة قائداً أريباً نجيباً فقد بعث جيشاً ليكون بين دمشق وفلسطين، وأرسل جيشاً آخر يكون بين دمشق وحمص ليقطع عن دمشق كل مدد يأتيها من قبل الروم. ومضى أبو عبيدة لحصار دمشق معه كبار قادته، فنزل خالد بن الوليد على الباب

2 - فتح الأردن

الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية الصغير، وشرحبيل بن حسنة على بقية أبواب البلد وحاصروا دمشق حصاراً شديداً، فأبلس أهلها وضعفوا، وقوي المسلمون واشتد حصارهم، وآنس خالد من الروم غِرَّة فقد ولد لبطريقهم - وهو القائد عند الروم تعادل اليوم رتبة جنرال- ولد فأكلوا وشربوا وناموا عن مواقعهم، فنهز خالد وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقربٍ في أعناقهم ونصبوا السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات وصعدوا فيها، فلما استووا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير وانحدروا إلى البوابين فصرعوهم وفتحوا الباب عنوة، ودخل الجيش من الباب الشرقي وشرع يقتل كل من وجد منأصحاب هذا الباب، وسأل أهل دمشق أمراء المسلمين على بقية الأبواب الصلح فأجابوهم دون أن يعلموا ما صنع خالد، واستقر أمر دمشق على الصلح. 2 - فتح الأردن: فتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة، وبعث أبو عبيدة خالداً فغلب على البقاع وصالحه أهل بعلبك على أنصاف منازلهم وكنائسهم ووضع الخراج. 3 - وقعة فِحل: خلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق وسار إلى فِحل وهي بلدة بالغور وعلى مقدمة الجيش خالد بن الوليد، وعلى ميمنته أبو عبيدة، وعمرو بن العاص على الميسرة، ولما علم أهل فحل بخروج المسلمين إليهم انحازوا إلى بيسان، وأرسلوا المياه على الأراضي تفصل بينهم وبين المسلمين فكانت مكيدة عظيمة، وظن الروم أن المسلمين على غرة فركبوا إليهم وهجموا عليهم، وكان المسلمون على أهبة الاستعداد، فقاموا إليهم وأعملوا السيوف في رقابهم، ففر الروم لا يلوون على شيء، وغرقوا في الوحل الذي كادوا به المسلمين، وقتل منهم ما يقارب الثمانين ألفاً وغنموا منهم مالاً جزيلاً، ومضى أبو عبيدة وخالد نحو حمص عملاً بوصية الخليفة الفاروق. واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل ابن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص فحاصر بيسان فخرجوا إليه فقتل منهم خلقاً كثيراً، ثم صالحه أهلها فضرب عليهم الجزية والخراج على أراضيهم.

فتوح العراق

فتوح العراق: لما كان الصديق في مرضه الأخير أوصى عمر بن الخطاب أن يندب الناس لقتال أهل العراق ومناجزتهم، ومن أحرص من ابن الخطاب على تنفيذ وصية الصديق؟ فلما مات الصديق رضي الله عنه طفق عمر يحث الناس على قتال أهل العراق، ويرغبهم في الأجر والثواب، فكان أبو بعيد بن مسعود الثقفي أول من لبّى، وتتابع الناس في الإجابة، وأمر الفاروق أبا عبيد على الجميع وأشخصه إلى العراق ومعه سبعة آلاف رجل، وكتب الفاروق إلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى أرض العراق، فجهز عشرة آلاف مقاتل ولوا وجوههم شطر العراق. 1 - وقعة الجسر: تذامرت الفرس بينهم بعد الهزيمة التي حاقت بهم أمام الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيد، فأرسل رُستم جيشاً جراراً بقيادة ذا الحاجب - بهمن جاذويه - فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر، فطلبوا من المسلمين أن يعبروا النهر فأجابهم أبو عبيد، ودار قتال شديد وبدأت خيول المسلمين تفرّ من الفيلة التي جاءت بها الفرس وعليها الجلاجل، فاحتوشها المسلمون وقتلوها سوى فيل أبيض عظيم حمل عليه أبو عبيد فقطع ذلومه، فهاج الفيل وتخبط أبا عبيد برجليه فصرعه وصرع سبعة من الأمراء الذي نص عليهم أبو عبيد، فوهن المسلمون وولوا مدبرين وقتل منهم خلق كثير. 2 - وقعة البويب: التقى المسلمون بقيادة المثنى بن حارثة مع الجيش الفارسي الذي يقوده مهران بمكان يقال له (البويب) قريب من الكوفة وبينهما الفرات، فعبرت الفرس إلى المسلمين واقتتلوا اقتتالاً شديداً، فصُرع مهران وهرب الفرس وركب المسلمون أكتافهم وذلت لهذه الواقعة رقاب الفرس وقتل منهم وغرق ما يقارب مائة ألف، وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام. وانتظم شمل الفرس، واجتمع أمرهم على يزدجرد الذي أقاموه من بيت الملك، ونبذ

3 - غزوة القادسية

أهل الذمة في العراق المواثيق التي أخذها المسلمون الفاتحون عليهم، ونكثوا عهودهم وآذوا المسلمين وأخرجوا عمال الخليفة من بين أظهرهم، فعزم الفاروق رضي الله عنه على غزو العراق بنفسه، ولكن عبد الرحمن بن عوف ثناه عن ذلك، واستصوب الصحابة رأي ابن عوف، وأشار عليه أن يؤمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الناس لقتال الفرس فاستجاد الفاروق رأيه وأمر سعداً على العراق. وسار سعد إلى العراق فلما بلغ العذيب اعترض المسلمين جيشٌ للفرس مع شيرذاد أراذويه فهزمه المسلمون وغنموا أموالهم وأمتعتهم وفرح المسلمون وتفاءلوا. 3 - غزوة القادسية: أمر الفاروق سعد بن أبي وقاص أن يقصد القادسية فيَّمم سعد وجهه شطرها وكانت القادسية باب العراق، فالتقى برستم في جيش لجب يربو على مائة وعشرين ألفاً، وكان المسلمون يتراوح عددهم بين سبعة آلاف وثمانية آلاف مقاتل. أرسل سعد رضي الله عنه طائفة من أصحابه إلى كسرى (يزدجرد) يدعونه إلى الله تعالى فاستأذنوا فأذن لهم، وكان كسرى متكبراً، فضلاً عن أنه لم يستوعب الموقف الجديد، فرد رسل سعد على تساؤلات يزدجردت ودعوه إلى الإسلام فإن أبى فالجزية فإن امتنع فالسيف الذي يفصل بينهم وبينه، فاستشاط غضباً وورم أنفه، وقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم لا شيء لكم عندي، وقابل وفد آخر من المسلمين رستم قائد الجيش الفارسي، وقالوا له ما قالوا لكسرى، فأعجب رستم بقوة حجتهم وسديد إجابتهم وأيقن أن المسلمين سيملكون سرير ملكه. وتواجه الفريقان واقتتلوا قتالاً شديداً دام أياماً، ثم هزم الله الفرس، وقُتل رستم عدد كبير من جنده وهرب الباقون، وغنم المسلمون أموالاً كثيرة، ثم طاردهم سعد إلى جلُولاء أوقع بهم وأسر إحدى بنات كسرى وعدداً كبيراً من الفرس، وكتب سعد إلى الفاروق يبشره بالفتح المبين، فقرأ الفاروق هذه البشارة على الناس من فوق المنبر، وقد ردت القادسية كثيراً من أهل العراق إلى صوابهم، فقد كانت بلاد العراق التي فتحها خالد نكثت العهود والذمم والمواثيق التي أعطوها خالداً، ثم آب الجميع إلى رشدهم بعد النصر المؤزر الذي

4 - فتح المدائن

أحرزه المسلمون في القادسية، وكانوا قد زعموا أن الفرس قسروهم على نقض العهود وأخذوا منهم الخراج، فصدقهم المسلمون تألفاً لقلوبهم. 4 - فتح المدائن: ثم توغّل سعد في بلاد العراق واستولى على المدائن، وغنم المسلمون منها غنائم كثيرة، من بينها بساط كسرى، ولاذ يزدجرد بالفرار يجر أذيال الخيبة، حاملاً معه أمواله وما خف حمله من المتاع: وقصة ذلك أن سعداً أُخْبِرَ أن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان وإن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر، فعند ذلك خطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة وحثهم على إخلاص النيات لله والاعتصام به تعالى، وندب الناس إلى العبور للقاء الفرس وانتدب عاصم بن عمرو وقريب من ستمائة ليجوزوا النهر لحماية ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى، فقبل عاصم وفقأ عيون خيول الفرس التي جاءت لقتالهم بالرماح، واستطاعوا أن ينفوا الفرس عن الجانب الآخر، وعبر المسلمون النهر بقيادة سعد لم يتخلف منهم أحد دون أن يمسهم سوء، واستحوذ المسلمون على ما في المدائن أجمع، وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مكلل بالجواهر النفيسة التي تحير الأبصار ومنطقته وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وقد استوهب سعد المسلمين أربعة أخماس البساط ولبس كسرى من المسلمين وأرسله إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فلما نظر عمر إلى ذلك قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال له علي كرم الله وجهه: إنك عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا، وألبس عمر سراقة بن مالك سواري كسرى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لسراقة وقد نظر إلى ذراعيه: "كأني بك وقد ألبست سواري كسرى". 5 - وقعة جلولاء: لما نكل يزدجرد من المدائن هارباً لا يلوي على شيء، اجتمع إليه في أثناء الطريق جند وأعوان وخلق كثير وشايعة من الفرس جمع غفير، وأمر كسرى عليهم مهران الرازي وسار إلى حلوان، فأقام الجمع الذي جعه في جلولاء واحتفروا حولها خندقاً سحيقاً، فأرسل سعد بأمر الخليفة جيشاً كثيفاً يقارب اثني عشر ألفاً من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار بقيادة ابن أخيه هاشم بن عتبةن وجعل على مقدمة الجيش القعقاع بن عمرو،

6 - فتح حلوان

فحاصرهم المسلمون وحمي القتال واشتد النزال وحمل القعقاع في جماعة من الفرسان الشجعان على الفرس فملك باب الخندق وكان الظلام أرخى سدوله ففر المجوس وهربوا كل مهرب، فأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذصلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فسميت جلولاء، وولى مهران قائد الجيش الأدبار فأدركه القعقاع بن عمرو فقتله، وأسر المسلمون سبايا كثيرة وأموالاً وفيرة قريباً مما غنموا من المدائن قبلها. 6 - فتح حلوان: لما علم كسرى بقتل قائده مهران الرازي وهزيمة جيشه، فر من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميراً يقال له خسروشنوم، فتقدم إليه القعقاع بن عمرو وهزمه هزيمة منكرة ودخل حلوان ففتحها وأقام بها وضرب الجزية على من حولها من الكور والأقاليم عندما أبوا الدخول في الإسلام. 7 - فتح تكريت والموصل: اجتمع أهل الموصل بتركيت على رجل من الكفرة يقال له الأنطاق، فأمر الفاروق بقتالهم، فنهد المسلمون لحربهم بقيادة عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف مقاتل، فسار عبد الله حتى نزل بتكريت على الأنطاق وهزم أهلها وقتل منهم خلقاً كثيراً ولم يسلم من سيوف المسلمين إلا من أعلن إسلامه ودخل في دين الله، ثم سار المسلمون بقيادة ربعي بن الأفكل إلى الموصل سريعاً فاستسلم أهلها وأجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الجزية. ثم فتحت ماسيذان ووقرقيسيا والجزيرة والأهواز ورامهرمز والسوس وتُستَر ونهاوند وخراسان وأصبهان وأذربيجان والري والباب وتوج وفسا وداربجر وكرمان وسجستان ومكران، وبذلك سقطت مملكة فارس بيد المسلمين نهائياً. وفي عهد عمر تم فتح بلاد الشام جميعها، تم فتح مصر وكل ذلك في مدة لا تزيد عن عشر سنوات، وفتحت فارس كلها ووقف المسلمون منجهة الشرق على نهر السند ونهر جيحون.

ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث

وهذا ملخص لما حدث في كل سنة من سني حكمه عليه ضوان الله نأخذه من البداية والنهاية: قال ابن كثير: ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث: فيها ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة منها، فولي قضاء المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعزل عنها خالد بن الوليد المخزومي، وأبقاه على شورى الحرب، وفيها فتحت بصرى صلحاً وهي أول مدينة فتحت من الشام، وفيها فتحت دمشق في قول سيف وغيره كما قدمنا، واستنيب فيها يزيد بن أبي سفيان فهو أول من وليها من أمراء المسلمين رضي الله عنهم، وفيها كانت وقعة فحل من أرض الغور وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم. وفيها كانت وقعة جسر أبي عبيد فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين منهم أميرهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر وكانت امرأة صالحة رحمها الله، ووالد المختار بن أبي عبيد كذاب ثقيف وقد كان نائباً على العراق في بعض وقعات العراق كما سيأتي، وفيها توفي المثنى بن حارثة في قول ابن إسحاق، وقد ان نائباً على العراق استخلفه خالد بن الوليد حين سار إلى الشام، وقد شهد مواقف مشهورة وله أيام مذكورة ولا سيما يوم البويب بعد جسر أبي عبيد قتل فيه من الفرس وغرق بالفرات قريب من مائة ألف، الذي عليه الجمهور أنه بقي إلى سنة أربع عشرة كما سيأتي بيانه، وفيها حج بالناس عمر بن الخطاب على قول بعضهم وقيل بل حج عبدالرحمن ابن عوف، وفيها استنفر عمر قبائل العرب لغزو العراق والشام فأقبلوا من كل النواحي فرمى بهم الشام والعراق، وفيها كانت وقعة أجنادين في قول ابن إسحق يوم السبت لثلاث من جمادي الأولى منها، وكذا عند الواقدي فيما بين الرملة وبين جسرين، على الروم القيقلان وأمير المسلمين عمروبن العاص، وهو في عشرين ألفاً في قل فقتل القيقلان وانهزمت الروم وقتل منهم خلق كثير.

سنة أربع عشرة من الهجرة

سنة أربع عشرة من الهجرة: استهلت هذه السنة والخليفة عمر بن الخطاب يحث الناس ويحرضهم على جهاد أهل العراق، وذلك لما بلغه من قتل أبي عبيد يوم الجسر، وانظام شمل الفرس، واجتماع أمرهم على يزدجرد الذي أقاموه من بيت الملك، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم، وآذوا المسلمين وأخرجوا لعمال من بين أظهرهم. وقد كتب عمر على من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد. قال ابن جرير رحمه الله: وركب عمر رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صِرار - اسم موضع-، فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة. ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه، ونودي أن الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق، إلاعبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة، فارتاح عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق؟ فقال: قد وجدته. قال: ومن هو؟ قال: الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري - ابن أبي وقاص -فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد فأمره على العراق. ثم سار سعد إلى العراق، ورجع عمر بمن معه من المسلمين إلى المدينة، ولما انتهى سعد إلى نهر زرود، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع بالمثنى بن حارثة إلا اليسير، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه، انتقض جرح المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر فمات رحمه الله ورضي الله عنه، واستخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعداً موته ترحم عليه وتزوج زوجته سلمى، ولما وصل سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتهان ولم يبق بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحت أمره، وأمده عمر بإمداد أخر حتى اجتمع معه يوم القادسية ثلاثون ألفاً، وقيل ستة وثلاثون. وقال عمر: والله لأرمين ملوك العجم

ثم دخلت سنة خمس عشرة

بملوك العرب، وكتب إلى سعد أن يجعل الأمراء على القبائل، والعرفاء على كل عشرة عريفاً على اليوش، وأن يواعدهم إلى القادسية، ففعل ذلك سعد، عرف العرفاء، وأمر على القبائل، وولى على الطلائع، والمقدمات، والمجنبات والساقات، والرُّجالة، والركبان، كما أمر أمير المؤمنين عمر. قال ابن جرير والواقدي: في سنة أربع عشرة جمع عمر بن الخطاب الناس على أبي بن كعب في التراويح وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إلى سائر الأمصار يأمرهم بالاجتماع في قيام شهر رمضان قال ابن جرير: وفيها بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة وأمره أن ينزل فيها بمن معه من المسلمين، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني. ثم دخلت سنة خمس عشرة: قال ابن جرير قال بعضهم: فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة دلهم عليها ابن بقيلة قال لسعد أدلك على أرض ارتفعت عن البق وانحدرت عن الفلاة؟ فدلهم على موضع الكوفة اليوم، قال: وفيها - في سنة سخمس عشرة - كانت وقعة مرج الروم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالد من وقعه فِحْل قاصدين إلى حمص حسب ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما تقدم في رواية سيف بن عمر، فسارا حتى نزلا على ذي الكلاع، فبعث هرقل بطريقاً يقال له توذرا في جيش معه فنزل بمرج دمشق وغربها، وقد هجم الشتاء فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم، وجاء أمير آخر من الروم يقال له شنس وعسكر معه كثيف، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يزيد بن أبي سفيان، فاتبعه خالد بن الوليد وبرز إليه يزيد بن أبي سفيان من دمشق، فاقتتلوا واجء خالد وهم في المعركة فجعل يقتلهم من ورائهم ويزيد يفصلُ - أي: يفتك - فيهم من أمامهم، حتى أناموهم ولم يفلت منهم إل الشارد، وقتل خالد توذرا وأخذوا من الروم أموالاً عظيمة فاقتسماها ورجع يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة فوجده قد واقع شنس بمرج الروم فقاتلهم فيه مقاتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم، وقتل أبو عبيدة شنس وركبوا أكتافهم إلى حمص فنزل عليها يحاصرها.

ثم دخلت سنة ست عشرة

ثم دخلت سنة ست عشرة: استهلت هذه السنة وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهر شير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها. وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه، فلم يجدوا واحداً من الجند، بل جمعوا من الفلاحين مائة ألف فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم، فكتب إليه عمر: إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به. فأطلقهم سعد بعدما دعاهم إلى الإسلام فأبوا إلا الجزية. ولم يبق من غربي دجلة إلى أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج. قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه. قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها، أم التي بعدها؟ ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم. فيقال: إنهم أراد بعضهم ان يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك. ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً. وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الهل صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون من مبعثه عليه السلام، وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد فنه أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرخوا من أول تلك السنة من مُحرمها. ثم دخلت سنة سبع عشرة: في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم، وضعفت أبانهم، لكثرة ذبابها وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب عمر: إن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلاً مناسباً يصلح لإقامتهم. فمرا على أرض

ثم دخلت سنة ثماني عشرة

الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء، فأعجبتهما ووجد هنالك ديرات ثلاث دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة، فنزلا فصليا هنالك، ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في اول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد، وأمر سعد رجلاً رامياً شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصراً تلقاء محراب المسجد للإمارة وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد، وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل فقدموا عليه، فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها بان يعمرو ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعاً - أي نحوعشرين متراً - ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعاً، وللأزقة سبعة أذرع. وبُني لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغء الناس تمنع سعداً من الحديث، فكان يغلق بابه ويقول: سكن الصويت، فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخاب بث محمد بن مسلمة، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطباً ويحرق باب القصر ثم يرجع من فوره. فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعداً أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحداً يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد وعرض على محمد بن مسلمة شيئاً من المال فامتنع من قبوله، ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر، من غير عجز ولا خيانة. وذكر ابن جرير أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم كما أشار عليه بذلك الأحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدهاز ثم دخلت سنة ثماني عشرة: قال ابن إسحاق، وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عمواس وعام الرمادة، فتفانى فيهما الناس. قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعاً شديداً، وسميت عام الرمادة لأن الرض اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيهاً

بالرماد. وقيل: لأنها تسفي الريح تراباً كالرماد، ويمكن أن تكون سميت لكل منهما والله أعلم، وقد أجدبت الناس في هذه السنة بأرض الحجاز، وجفلت الأحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده، وألزم نفسه أن لا يأكل سمناً ولا سميناً حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب يبث له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت. وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف، واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم. قال الشافعي: بلغني أن رجلاً من العرب قال لعمر حين ترحلت الأحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك ولإنك لابن حرة. أي واسيت الناس وأنصفتهم واحسنت إليهم. قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام - وكان ملصقاً بجدار الكعبة- فأخره إلى حيث هو الآن لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين. قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة. قال: وفيها استقضى عمر شريحاً على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة قال: وفيها حج مر بالناس وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية، وفيها فتحت الرقة والرُّها وحران على يدي عياض بن غَنْم. قال: وفتحت رأس عين الوردة على يدي بن سعد بن أبي وقاص. وقال غيره خلاف ذلك. وقال شيخنا الحافظ الذهبي في تاريخه: وفيها - يعني هذه السنة - افتتح أبوموسى الأِعري الرها وشمشاط عنوة، وفي أوائلها وجه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة فوافق أبا موسى فافتتحا حران ونُصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل صلحاً. وفيها سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة. وفيها بنى سعد جامع الكوفة. وقال الواقدي: وفيها اكن طاعون عمواس فمات فيه خمسة وعشرون ألفاً. قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها عمواس - وهي بين القدس والرملة- لأنها كان أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال الواقدي توفى في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفاً. وقال غيره: ثلاثون ألفاً.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين: وكانت وقعة نهاوند وهي وقعة عظيمة جداً لها شأن رفيع ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح. وفي هذه السنة افتتح المسلمون أيضاً بعد نهاوند مدينة جي - وهي مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح وفر منهم ثلاثون نفراً إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين. وقيل: إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن وأنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات وانهزم أصحابه. والصحيح أن الذي فتح أصبهان عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة - وفيها افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان. ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين: وفيها كانت فتوحات كثيرة منها فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وفيها وفاة عمر بن الخطاب: قال الواقدي وأبو معشر: فيها كان فتح اصطخر وهمذان. وقال سيف: كان فتحها بعد فتح توِّج الآخرة. ثم ذكر أن الذي افتتح توج مجاشع بن مسعود، بعد ما قتل من الفرس مقتلة عظيمة وغنم منهم غنائم جمة، ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال ابن جرير: وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه. قال: وفي هذه السنة كانت وفاته. أهـ من البداية والنهاية. وقال ابن كثير في ترجمته وهو عمر بن الخطاب بن فنيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مصر بن نزار بن معد بن عدنان

القرشي، أبو حفص العدوي: الملقب بالفاروق، قيل لقبه بذلك أهل الكتاب. وأمه حَنْتَمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام، أسلم عمر وعمره سبع وعشرون سنة، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع النبي صلى الله علي وسلم، وخرج في عدة سرايا، وكان أميراً على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس على التراويح، وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد فيالخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصر الأمصار، وجند الأجناد. ووضع الخراج، ودون الدواوين، وعرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكوَّرالكور، مثل السواد والأهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة والموصل وميافارقين، وآمد، ومات وعساكره على بلاد الري. فتح من الشام: اليرموك وبُصرى ودمشق والأردن، وبيسان، وطبرية، والجابية، وفلسطين، والرملةن وعسقلان، وغزة، والسواحل، والقدس، وفتح مصر، وإسكندرية، وطرابلس الغرب، وبرقة، ومن مدن الشام: بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وأنطاكية وفتح الزيرة وحران والرها والرقة ونُصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها. وبالعراق: القادسية والحيرة ونهر سينوساباط، ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأُبلة والبصرة والهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقُومس - وهو صقع كبير من خراسان وبلاد الجبل - وخراسان واصطخر وأصبهان والسوس ومرو ونيسابور وجرجان وأذربيجان وغير ذلك، وقطعت جيوشه النهر مراراً. وكان متواضعاً في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفيه، مع عظم هيبته، ويركب الحمار عرياً، والبعير مخطوماً بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحداً، وكان نفش خاتمه: كفى بالموت واعظاً يا عمر. ولما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالأبطح دعا الله عز وجل وشكا إليه أن قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصي، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأني من عليه بالشهادة في بلد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء،

وجمع له بين هذين الأمرين الشهادة في المدينة النبوية وهذا عزيز جداً، ولكن الله لطيف بما يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب، صلاة الصبح من يوم الأربعاء، لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات، وقيل ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت الصفاق - وهو ما بين الجلد والمصران أو جلد البطن كله - فخر من قامته نواستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فألىق عليه عبد الله بن عوف بُرنساً - وهو ثوب له رأس ملتصق به - فانتحر نفسه لعنه الله، وحمل عمر إل ى منزله والدم يسيل من جرحه- وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق ويقول: نعم، ولاحظ في الإسلام لمن تركها، ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو؟ فقالوا له: هو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. فقال: الحمد الله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الإيمان ولم يسجد لله سجدة. ثم قال: قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفاً - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاش حداد فزاد في خراجه إل مائة في كل شهر - وقال له: لقد بغلني أنك تحسن أن تعمل رحا تدور بالهواء فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملن لك رحا يتحدث عنه الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة. وأوصى عمر أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعى في الإمارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيراً على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن في يوم الأحد مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين، بالحجرة النبوية، إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي لك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

صفته رضي الله عنه

صفته رضي الله عنه: كان رجلاً طوالاً أصلع أعسر أيسر- أي يعمل بيديه جميعاً - أحور العينين، آدم اللون، وقيل كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة. قال النووي في التهذيب: وإنما صار في لونه سمرة في عام الرمادة لأنه أكثر أكل الزيت وترك السمن للغلاء الذي وقع بالناس. أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء. واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتاه - عشرة: وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال: توفي وهو ابن ستين سنة، قال الواقدي: وهذا أثبت الأقاويل عندنا. قلت: فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولداً، وهم زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط، قال الزبير بن بكار وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة، رضي الله عنهم. ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام من طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن جميلة بنت عاصم بن ثابت بن الأقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحاث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي مليكة بنت جرول. وكانت له أمان له منهما أولاد، وهما فكيهة ولهية، وقد اختلف في لهية هذه فقال بعضهم: كانت أم ولد، وقال بعضهم: كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فالله أعلم. أهـ من البداية والنهاية. 1554 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحبِّ هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال (1):

_ 1554 - الترمذي (5/ 617) 50 - كتاب المناقب -18 - باب في مناقب عمر بن الخطاب، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وإسناده حسن وله شواهد.

وكان أحبهما إليه عمر. 1555 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" فجعل الله دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فبنى عليه الإسلام، وهدم به الأوثان. 1556 - * روى الطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول: "اللهم أخرجْ ما في صدر عمر من غل وأبدله إيماناً" يقول ذلك ثلاث مرات. 1557 - * روى الطبراني عن ابن عباس قال: أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب. 1558 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره، وقالوا صبأ عمر، وأنا غلام فوق ظهر بيتي، فجاء رجل عليه قباء ديباج، فقال: قد صبأ عمر فما ذاك فأنا له جار فرأيت الناس تصدعوا عنه، فقلت من هذا؟ قالوا: العاص بن وائل. 1559 - * روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. 1560 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: ركب عمر بن الخطاب فرساً فركصه فانكشف فخذه، فرأى أهل نجران على فخذه شامة سوداء قالوا: هذا الذي نجدُ في كتابنا أنه يُخرجنا من أرضنا (1).

_ 1555 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه وقال: أيد الإسلام، ورجال الكبير رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثق. 1556 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 65) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. 1557 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 63) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1558 - البخاري (7/ 177) 63 - كتاب مناقب الأنصار -35 - باب إسلام عمر بن الخطاب. 1559 - البخاري (في نفس الموضع السابق). 1560 - المعجم الكبير (1/ 66) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

1561 - * روى الطبراني عن زر بن حبيش قال: كنتُ بالمدينة فإذا رجل آدمُ أعسر أيسرُ ضخم إذا أشرف على الناس كأنه على دبة، فإذا هو عمر. 1562 - * روى الطبراني عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر أصلع شديد الصلع. 1563 - * روى الطبراني عن عبد الله بن هلال قال: رأيت عمر رجلاً ضخماً كأنه من رجال سدوس. ٍ 1564 - * روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: لو أن عِلَم عمر وُضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم قال وكيعٌ: قال الأعمش: فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له فقال: وما أنكرت من ذلك فوالله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال: إني لحسبُ تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر. 1565 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم أوتيتُ بقدح لبنٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الري يخرجُ من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولتهُ يا رسول الله؟ قال: "والعلم".؟ قال محقق الجامع: المراد بالعلم هنا: العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختص عمر بذلك لطول مدته واتفاق الناس على طاعته. 1566 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الل عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حبشية تزفِنُ (1)، والصبيانُ

_ 1561 - المعجم الكبير (1/ 67) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61): وإسناده حسن. 1563 - المعجم الكبير (1/ 65) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1563 - المعجم الكبير (1/ 67) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1564 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 69) وقال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة. 1565 - البخاري (1/ 180) 3 - كتاب العلم -22 - باب فضل العلم. ومسلم (4/ 1859) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. 1566 - الترمذي (5/ 621) 50 - كتاب المناقب -18 - باب في مناقب عمر بن الخطاب. اللفظ: الأصوات المختلفة والضجة. الزفن: الرقص، ورجل زفان: رقاص.

حولها، فقال: "يا عائشة، تعالي فانظري" فجئتُ فوضعتُ لحي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلتُ أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: "أما شبعت؟ أما شبعت؟ " قالت: فجعلتُ أقولُ: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر، قالت: فارفضّ الناسُ عنها، قالت: فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "إني لأنظرُ إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر" قالت: فرجعتُ. 1567 - * روى الطبراني عن الحسن أن عثمانبنأبي العاص تزوج امرأة من نساء عمر ابن الخطاب فاقل: والله ما نكحتُها حين نكحتُها رغبةً في مال ولا ولد ولكن أحببتُ أن تُخبرني عن ليل عمر رضي الله عنه فسألها كيف كانت صلاة عمر بالليل؟ قالت: كان يصلي العتمة ثم يأمر أن نضع رأسه توراً من ماء نُغطيه ويتعارُ من اللي فيضعْ يده في الماء، فيمسح وجهه، ويديه ثم يذكر الله ما شاء أن يذكر ثم يتعارِّ مراراً حتى يأتي على الساعة التي يقوم في لصلاته. 1568 - * روى أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت عمر وبيده عسيبُ نخل وهو يجلس الناس يقول: اسمعوا لقول خليفة سول الله صلى الله عليه وسلم فجاء مولى لأبي بكر يقال له شديد بصحيفة فقرأها على الناس فقال يقول أبو بكر: اسمعوا وأطيعوا لمن في هذه الصحيفة فوالله ما ألوتُكم. قال قيس: فرأيتُ عمر رضي الله عنه بعد ذلك على المنبر. 1569 - * روى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال لرجلٍ: (1) ما اسمُك؟

_ = ارفض: القوم: أي تفرقوا. 1567 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 73) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. تور: التورُ إناء يشرب فيه. يتعار: التعار: السهر والتقلب على الفراش ليلاً مع كلام. 1568 - أحمد في مسنده (1/ 37). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 184): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ما ألوتكم: ما قصرت في الخيرة لكم. 1569 - الموطأ (3/ 973) 54 - كتاب الاستئذان -9 - باب ما يكره من الأسماء. قال ابن عبد البر: منقطع، وصله أبو القاسم بن بشران في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر.

قال: جمرةُ، قال: ابنُ من؟ قال: ابنُ شهابٍ، قال: ممن؟ قال: من الحُرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار؟ قال: بأيها؟ قال: بذات لظى؟ قال عمر: أدرِكْأهلك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر. 1570 - * روى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جازية سوداءُ، فقالت: إني كنتُ نذرتُ إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها: "إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا" فقالت: نذرتُ، وجعلت تضربُ فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٍّ وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضربُ، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت إستها وقعدت عليه، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخافُ منك يا عمر إني كنت جالساً وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٍّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقتِ الدُّفَّ". 1571 - * روى الطبراني عن أسلم مولى عمر قال: دعا عمر بن الخطاب عليِّ بن أبي طالب فساره ثم قام عليِّ فجاء الصُّفة فوجد العباس وعقيلاً والحسين فشاورهم في تزويج عمر أم كلثوم، فغضب عقيل وقال: يا عليُّ ما تزيدك الأيام والشهور والسنون إلا العمى في أمرك؟ والله لنئ فعلت ليكونن وليكونن لأشياء عددها، ومضى يجر ثوبه. فقال علي للعباس: ووالله ما ذلك منه نصيحةٌ ولكن درة عمر أحرجته إلى ما ترى. أما والله ما ذاك رغبةً فيك يا عقيل، ولكن أخبرني عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سببٍ ونسبٍ. منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي" فضحك عمر وقال: ويح عقيل سفيه أحمق. 1572 - * روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر ابن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوةٌ من قريش يكلمنه ويستكثرنه (1)، عاليةً

_ 1570 - الترمذي (5/ 620) 50 - كتاب المناقب- 18 - باب في مناقب عمر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1571 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 271) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. أحرجته: هنا بمعنى خوفته. 1572 - البخاري (7/ 41) 62 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. ومسلم (4/ 1863) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 3 - باب من فضائل عمر.

أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسوله صلى الله عليه وسلم يضحك؛ فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبتُ من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت أحقُّ أن يهبن يا رسول الله. ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم، أنت أفظُّ وأغلظُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيهاً يا ابن الخطاب،، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قطُّ إلا سلك فجا غير فجك". (أضحك الله سنك): قال الحافظ في "الفتح"، لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه وهو السرور، أو نفي ضد لازمه وهو الحزن. (والمراد بالفظاظة والغلظة هنا الشدة عند عمر التي يقابلها اللين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم). 1573 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتُ الناس يُعرضون وعليهم قُمصٌ، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغُ دون ذلك، وعُرض عليِّ ابن الخطاب وعليه قميص اجتره" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدينُ". 1574 - * روى البزار عن ابن عباس قال: لما فُتحتِ المدائنُ أقبل الناسُ على الدنيا وأقبلتُ على عمر. فكان عامةُ حديثه عن عمر. 1575 - * روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ عُيينةُ بن حصن بن حذيفة بن بدرٍ (1)، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس بن حصن وكان من النفر

_ 1973 - البخاري (7/ 43) 63 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر. ومسلم (4/ 1859) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - من فضائل عمر. 1574 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 161) وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. 1575 - البخاري (13/ 250) 96 - كتاب الاعتصام -2 - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى (واجعلنا للمتقين إماماً). =

الذين يُدْنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشورته، كهولاً كانوا أو شُباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا المير، فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم بأن يقع به، فقال الحُر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1). وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاهاعليه كان وقافاً عند كتاب الله تعالى. 1576 - * روى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال عمر رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فتحتُ قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. أقول: لا يعتبر هذا القول من عمر إلغاءاً لاجتهاده السابق، فإن الأمر يحتمل أن عمر شعر بأن ما وقفه على المسلمين كافٍ لتحقيق ما أراده من توسعة على حاضر الأمة ومستقبلها، فقرر أنه منذ العام اللاحق أن يغير سنته في الأراضي المفتوحة ولعله أراد أن يبين أن هذه القضية للاجتهاد فيها محل، ولذلك نرى أن أئمة المذاهب الأربعة لم يكونوا على رأي واحد في هذه القضية. 1577 - * روى البخاري ومسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلتُ الجنة فرأيتُ فيها دراً أو قصراً. فقلتُ: لمن هذا؟ فقالوال: لعمر بن الخطاب. فأردتُ أن أدخل. فذكرتُ غيرتك" فبكى عمر وقال: أي رسول الله! أو عليك يُغارُ؟.

_ = ما تعطينا الجزل: العطاء الجزل: الكثير. (1) الأعراف: 199. 1576 - البخاري (6/ 334) 57 - كتاب فرض الخمس-9 - باب الغنيمة لمن شهد الوقعة. 1577 - البخاري (7/ 40) 44 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. ومسلم (4/ 1863) 44 - كتاب فضائل الصحابة-3 - باب من فضائل عمر بن الخطاب.

1578 - * روى أحمد عن عائشة قالت: كنت أدخلُ بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي فلما دُفن عمرُ معهم فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة على ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه. 1579 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: "إن شئت حبستَ أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر أنه لا يُباع ولا يثوهب ولا يورث. وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، ولا جُناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطعم غير متمول. قال فحدثتُ به ابن سيرين فقال: "غير متأثِلٍ مالاً". وعن عمرو (1) بن دينار قال في صدقة عمر: ليس على الولي جُناحٌ أن يأكل ويؤكل صديقاً له غير متأثل فكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر ويُهدي لناسٍ من أهل مكة كان ينزل عليهم. وفي الحديث من الفقه أمن من وقف شيئاً على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه. 1580 - * روى الحاكم عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة نب الجراح فأتوا على مخاضةٍ وعمرُ على ناقةٍ له، فنزل عنها وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا تخلعُ خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذُ بزمام ناقتك،

_ 1578 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 371) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 1579 - لبخاري (5/ 354) 54 - كتاب الشروط -19 - باب الشروط في القف. ومسلم (3/ 1355) 35 - كتاب الوصية-4 - باب الوقف. متأثل: تأثل فلان: ادخر مالاً ليستثمره. (1) البخاري (4/ 491) 40 - كتاب الوكالة-12 - باب الوكالة في الوقف ونفقته وأن يطعم صديقاً له ويأكل بالمعروف. 1580 - المستدرك (1/ 62) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وتخوضُ بها المخاضة ما يسُرني أن أهل البلد استشرفُوك، فقال عمر أوهُ لو يقول ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنا كناأذلُّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلبُ العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. 1581 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت: يا رسول الله، لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى. وقلت: يا رسول الله، يدخُلُ عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهاتِ المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبةُ النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلتُ عليهن قلت: إن انتهيتُنَّ أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه قالت: يا عمر، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظُ نساءهُ حتى تعظهنَّ أنت؟ فأنزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} (1) الآية. وفي رواية (2) لابن عمر قال: قال عمر: وافقتُ ربي في ثلاثٍ: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أساري بدرٍ. 1582 - * روى الطبراني عن عمر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب أرسل إلى كعب الأحبار فقال: يا كعبُ كيف تجدُ نعتي؟ قال: أجدُ نعتك قرنٌ من حديد قال: وما قرن من حديدٍ؟ قال أميرٌ شديدٌ لا تأخذه في الله لومة لائم قال: ثم مه قال: ثم يكون من بعدك خليفة تقتُله فئة ظالمةٌ. ثم قال: مه: قال: ثم يكونُ البلاء. 1583 - * روى الطبراني عن ابن مسعودٍ قال: ما كنا نُبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر.

_ 1581 - البخاري (8/ 168) 65 - كتاب التفسير-9 - باب قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى). (1) التحريم: 5. (2) مسلم (4/ 1865) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. 1582 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 65) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1583 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 67) وقال رواه الطبراني وإسناده حسن. السكينة: الوقار والسكون، وقيل: الرحمة، وقيل: أثر إلقاء الملك.

1584 - * روى الطبراني عن عليٍّ قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، ما كنا نُبعدُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن السكينة تنطقُ على لسان عمر. 1585 - * روى الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: مر فتى على عمر فقال عمر: نعم الفتى. قال, فتبعه أبو ذر فقال: يا فتى استغفر لي، فقال: يا أبا ذر أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: استغفر لي، قال: لا أو تخبرني فقال: إنك مررت على عمر رضي الله عنه فقال: نعم الفتى وإني سمعتُ رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". 1586 - * روى البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى الأِعري قال: قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلتُ: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتنا معه، وجهادنا معه، وعملمنا كله معه برد لنا، وأن كل عملٍ عملنا بعدهُ: نجونا منه كفافاً، رأساً برأس؟ فقال أبوك لأبي: لا والله، قد اهدنا بعد رسول الله صلى لاله عليه وسلم، وصلينا، وصمنا، وعملنا خيراً كثيراً، وأسلم على أيدينا بشركثير، وإنا لنرجو ذاك، قال أبي: لكني أنا، والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعدهُ نجونا منهُ كفافاً رأساً برأس، فقلت: إن أباك والله كان خيراً من أبي. 1587 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب؛ أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلمٌ ويهوديٌ. فرأى عمرُ أن الحق لليهودي فقضى له. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق. فضربه عمر بن الخطاب بالدرة. ثم قال: وما يدريك؟ فقال له اليهوديُّ (1): إنا نجد أنه ليس قاضٍ يقضي بالحق، إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يُسددانه

_ 1584 - أورده الهيثمي في مجمع لزوائد (9/ 67) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. 1585 - المستدرك (3/ 87) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الذهبي: على شرط مسلم. 1586 - البخاري (7/ 254) 63 - كتاب مناقب الأنصار-45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. برد لنا: سلم لنا أجره. 1587 - الموطأ (2/ 719) 361 - كتاب الأقضية-1 - باب الترغيب في القضاء بالحق.

ويوفقانه للحق. ما دام مع الحق. فإذا ترك الحق. عرجا وتركاهُ. 1588 - * روى مالك عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت عمر وهو يومئذ أميرُ المؤمنين، وقد وقع بين كتفيه برقاع ثلاثٍ، لبد بعضها بعض. 1589 - * روى الطبراني عن ابن شهاب قال عمر بن عبد العزيز لأبي بكر بن سليمان ابن أبي حثمة: من أول من كتب من عند أمير المؤمنين؟ فقال: أخبرتني الشفاء بنت عبد الله وكانت من المهاجرات الأول أن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما المدينة فأتيا المسجد فوجدا عمرو بن العاص فقالا: يا ابن العاص استأذن لنا على أمير المؤمنين. فقال: أنتما والله أصبتما اسمه فهو الأميرُ ونحن المؤمنون. فدخل عمر على عمرو فقال: السلامُ عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: انت الأمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من يومئذ. 1590 - * روى الطبراني عن عبد الله قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر إن إسلام عمر كان نصراً وإن إمارته كانت فتحاً، وايمُ الله ما أعلمُ على وجه الأرض أحداً إلا وجد فقد عمر، حتى العصاة، وإيم الله إني لأحسبُ بين عينيه ملكاً يسددهُ، وايمُ الله إني لأحسبُ الشيطانُ يفرقُ منه أن يحدث في الإسلام حدثاً فيرد عليه عمر، وايم الله لو أعلم كلباً يحبُّ عمر لأحببته. وفي رواية: لقد أحببت عمر حتى لقد خفت الله، وودتُ أني كنت خادماً لعمر حتى أموت. وفي رواية: لو أن عمر أحب كلباً كان أحب الكلاب إليَّ، وفي روايةٍ: لقد خشيتُ الله في حبي عمر. 1591 - * روى الطبراني عن زيد بن وهب قال: أتى عبد الله بن مسعود رجلان وأنا (1):

_ 1588 - الموطأ (2/ 918) 48 - كتاب اللباس -8 - باب ما جاء في لبس الثياب، وإسناده صحيح. 1589 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 61) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1590 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78) وقال: رواه الطبراني من طرق وفي بعضها عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث، وبقية رجالهما رجال الصحيح وبعضها منقطع الإسناد، ورجالهما ثقات. يفرَقُ: يخاف. 1591 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 77) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.

عنده فقالا: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذه الآية؟ فقرأها عليه عبد الله، فقال الرجل: إن أبا حكيم أقرأنيها كذا وكذا، وقرأ الآخر فقال: من أقرأكما فقال: عمرُ. فقال عبد اللهك اقرأ كما أقرأك عمر، ثم بكى عبد الله حتى رأيتُ دموعه تحدُرُ في الحصى، ثم قال إن عمر كان حصنناً حصيناً على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، وإن الحِصن أصبح قد أسلم فالناس يخرجون منه ولا يدخلون، وزاد في روايةٍ، قال عبد الله: ما أظنُّ أهل بيتٍ من المسلمين لم يدخل عليه حزنٌ يوم أُصيب عمر إل أهل بيت سوءٍ إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله، فوالله فهي أبين من طريق السيلحين. وفي روايةٍ: وكان يعني عمر إذا سلك طريقاً وجدناهُ سهلاً فإذا ذُكر الصالحون فحيهلا بعمر كان فضل ما بين الزيادة والنقصان والله لوددتُ أني أخدم مثله حتى أموت. 1592 - * روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس مُحدثون، فإن يكُ في أمتي أحدٌ فإنه عمر" زاد زكريا بن أبي زائدة عن سعدٍ عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكنْ في أمتي منهم أحدٌ فعمر". وفي رواية (1) مسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحدثون. فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ، فإن عمر بن الخطاب منهم". قال ابن وهبٍ: تفسيرُ محدثون مُلهمون.

_ 1592 - البخاري (7/ 42) 62 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. (1) مسلم (4/ 1864) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. محدثون: أراد بقوله: محدثون أقواماً يصيبون إذا ظنوا وحدسوا فكأنهم قد حدثوه بما قالوا، وقد جاء في الحديث تفسيره، أنهم ملهمون، والملهم: الذي يُلقي في نفسه الشيء، فيخبر به حدثاً وظناً وفراسة، وهو نوع يختص الله به من يشاء من عباده الذين اصطفى، مثل عمر رضي الله عنه.

1593 - * روى الحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الإسلام في زمان عمر كالرجل المقبلِ لا يزدادُ إلا قُرباً، فلما قُتل عمرُ كان كالرجل المدبر لا يزدادُ إلا بعداً. 1594 - * روى مالك عن سعيد بن المسيب رحمهُ الله قال: لما صدر عمر ب الخطاب من منىأناخ بالأبطح، ثم كوم كومةً من بطحاء، ثم طرح عليها رداءهُ، ثم استلقى، ومد يديه إلى السماء، فقال: اللهم كبرتْ سني وضعفت قوتي، وانتشرتْ رعيتي، فاقبضني إليك غير مُضيع ولا مُفرطٍ ثم قدم المدينة في عقب ذي الحجة، فخطب الناس فقال: أيها الناس، قد سُنت لكم السننُ، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، وضُرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجمِ، أن يقول قائل: لا نجدُ حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس: زاد ابن الخطاب ف يكتاب الله لكتبتها (الشيخ والشيخةُ فارجموهما ألبتمة) فإنا قد قرأناها. قال ابن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتل عمر. رحمه الله. قال مالك: قوله: (الشيخُ والشيخةُ) يعني: الثيبُ والثيبةُ". 1595 - * روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خطب يوم الجمعة فذكرني الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، ثم قال: إني رأيتُ كأن ديكاً نقرني ثلاث نقراتٍ، وإني لا أراهُ إلا لحُضور أجلي، وإن أقواماً يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينهُ ولا خلافتهُ، ولا الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم (1)، فإن عجل بي أمر فالخلافةُ شُورى بينَ هؤلاء

_ 1593 - المستدرك (3/ 84) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 1594 - الموطا (3/ 824) 41 - كتاب الحدود-1 - باب ما جاء في الرجم وإسناده صحيح. قوله: لولا أن يقول الناس: زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبتها (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة): مراد عمر رضي الله عنه: المبالغة والحث على العمل بالرجم، لأن معنى الآية باق وإن نسخ لفظها، إذ لا يسع مثل عمر رضي الله عنه مع مزيد فقهه تجويز كتبها مع نسخ لفظها. قوله: (فإنا قد قرأناها): ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم رجم ورجم الصحابة بعده ولم ينكر عليهم أحد. (الثيب والثيبة): أي المحصن والمحصنة وإن كانا شابين. 1595 - مسلم (1/ 396) 5 - كتاب مواضع الصلاة-17 - باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوهما.

الستةِ الذين تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، وإني قد علمتُ أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلام، فغن فعلوا ذلك، فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال، ثم إني لا أدعُ بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة، ما راجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، فقال: "يا عمر، ألا تكفيك آيهُ الصيفِ، التي في آخر سورة النساء؟ " وإني إن أعشْ أقْض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن، ثم قال: اللهم إني أُشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلُوا عليهم وليعلمُوا الناس دينهم، وسُنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمرهم، ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها من الرجُل في المسجد أمر به فأخُرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليُمتهما طبخاً. وفي حديث جويرية (1): فما كانت إلا جمعةٌ أخرى حتى طُعن عمرُ، قال: فأذن للمهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذِنَ للأنصار، ثم أذن لأهل المدينة، ثم أذن لأهل الشام، ثم أذن لأهل العراق، فكنا آخر من دخل عليه، قال: فإذا هو قد عصب جُرحه ببُرْدٍ أسودَ، والدم يسيلُ عليه، قال: فقلنا: أوْصنا ولم يسأله الوصية أحد غيرنا، قال: أوصيكم بكتاب الله، فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه، قال: وأوصيكم بالمهاجرين، فإن الناس يكثرون ويقلون، وأوصيكم بالأنصار، فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وأوصيكم بالأعراب، فإنهم أصلكم ومادتكُم - وفي روايةٍ: فإنهم إخوانكُمْ وعدُو عدوكُم- وأوصيكم بأهل الذمة، فإنهم ذمة نبيكُمْ، ورزقُ عيالكم، قوموا عني. المقصود بآية الصيف: أنزل الله تعالى في الكلالة آيتين، إحداهما: التي في أول سورة النساء، وكان نزولها في الشتاء، والثانية: التي في آخر سورة النساء وكان نزولها في

_ (1) أخرجه البخاري، وفيها زيادات للحميدي. الكلالة: في الميراث: أن لا يرث الميت ولد ولا والد ويرثه أقاربه. فيئهم: الفيء: ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار عن غير حرب وقتال.

الصيف، فسميتْ آية الصيف. وأما الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض فهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ولم يدخل عمر رضي الله عنه معهم سعيد بن زيد لأنه من أقاربه، فتورع عن إدخاله، كما تورع عن إدخال ابنه عبد الله رضي الله عنه. قوله: (تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم): قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: ويلحق بالبصل والثوم والكراث، كل ما له رائحة كريهة، من المأكولات وغيرها، وقال النووي: قال القاضي: ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشأ، قال: وقال ابن المرابط: ويلحق به من بخر في فيه، أو به جرح له رائحة. قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد، كمصلي العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها، ولا يلحق بها الأسواق ونحوها. 1596 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال لما طُعن عمر أرسلوا إلى طبيب فجاء رجل من الأنصار فسقاه لبناً فخرج اللبنُ من الطعنة التي تحت السرة فقال له الطبيب: اعهد عهدك فلا أراك تمسي، فقال: صدقتني. 1597 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: وُضع عمر ابن الخطاب على سريره. فتكنفهُ الناس يدعون ويثنون ويُصلون عليه. قبل أن يُرفع. وأنا فيهم. قال: فلم يرُعني إلا برجلٍ قد أخذ بمنكبي من ورائي (1). فالتفتُّ إليه فإذا هو

_ 1596 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1597 - البخاري (7/ 41) 63 - كتاب فضائل الصحابة-6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. ومسلم (4/ 1858) 44 - كتاب فضائل الصحابة-2 - باب من فضائل عمر. فنتكنفه: تكنفتُ فلاناً: إذا أحطت به وصرت حولهز لم يرعني: إلا وفلان قائم: أي لم أشعر، وإن لم يكن من لفظه، والرَّوْع: الفزع، فكأنه فاجأه بغتة من غير موعِدٍ ولا معرفة، فراعه ذلك وأفزعه.

عليٌّ. فترحم على عمر وقال: ما خلفُتَ أحداً أحبَّ إليَّ، أن ألقى الله بمثل عمله، منك. وايم الله! إن كنتُ لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك. وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكرٍ وعمرُ. ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمرُ. وخرجتُ أنا وأبو بكر عمرُ". فإن كنت لأرجو، أو لأظنُّ، أن يجعلك الله معهما. 1598 - * روى البخاري عن حفصة وأسلم رضي الله عنهما أن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. 1599 - * روى البخاري عن المسور بن محرمة قال: لما طُعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس - وكأنه يُجزعهُ-: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقته لتفارقنهم وهمعنك راضون. قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله تعالى منَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه. 1600 - * روى مسلم عن عبد الله بن نعمر رضي الله عنهما قال: دخلتُ على حفصة فقالت: أعلمت أن أباك غيرُ مُستخلفٍ؟ قلت: ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعلٌ، قال: فحلفتُ أن أكلمهُ في ذلك فسكتُّ حتى غدوت ولم أكلمه قال: فكنت كأنما (1) أحمِلُ بيميني

_ 1598 - البخاري (4/ 100) 29 - كتاب فضائل المدين، باب: 12. 1599 - البخاري (7/ 43) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. جزعت الرجل: أي نسبته إلى الجزع، ويجوز أن يكون: أذهبتُ عنه الجزع بما تسليه. جزعي: أي خوفي بسبب ما حملت من عبء الخلافة. طِلاعُ الأرض: ملؤها: كأنه قد ملأها حتى تطلع، وتسيل. 1600 - مسلم (3/ 1455) 33 - كتاب الإامرة-2 - باب الاستخلاف.

جبلاً حتى رجعتُ، فدخلتُ عليه، فسألني عن حال الناس، وأنا أخبره، قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليتُ أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلفٍ، وإنه لو كان لك راعي إبل، أو راعي غنمٍ، ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع، فرعاية الناس أشدُّ؟ قال: فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة، ثم رفعه إليَّ، فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلفْ، وإن أستخلفْ فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله، ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله علي هوسلم وأبا بكر، فعلمتُ أن لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وأنه غير مُستخلفٍ. وفي رواية (1) بمعناه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لعمر ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه فقال: راغب وراهب، وددت أني نجوت منها كفافاً لا ليَّ ولا علي، لا أتحملها حياً وميتاً. (راغبٌ وراهبٌ) الراغبُ: الطالب، والراهب: الخائف، والمراد: أنكم في قولكم لي هذا القول، إما راغبٌ فيما عندي، أو راهب مني، وقيل: أراد: انني راغبٌ فيما عند الله، وراهبٌ من عقابه، فلا تعويل عندي على ما قلتم لي من الوصف والإطراء. 1601 - * روى البخاري عن مرو بن ميمونٍ قال: "رأيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يُصاب بأيام بالمدينة ووقف على حُذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيفٍ قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حملتما الأرض مالا تطيقُ؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقةٌ، ما فيها كبيرُ فضل. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض مالا تطيقُ. قالا: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبداً. قال فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن

_ (1) البخاري (13/ 305) 93 - كتاب الأحكام- 51 - باب الاستخلاف. 1601 - البخاري (7/ 59) 63 - كتاب فضائل الصحابة-8 - باب قصة البيعة. أرامل: جمع أرملة، هي التي مات زوجها، والرجل إذا ماتت امرأته: أرمل، وقيل: أراد بالأرامل: المساكين من الرجال والنساء. =

عباسٍ غداة أصيب- وكان إذا مرَّ بين الصفين قال: استوُوا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدمَ فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس - فما هو إلا أن كبر فسمعتهُ يقول: قتلني - أو أكلني-الكلبُن حين طعنه، فطار العِلجُ بسكينٍ ذات طرفين، لا يمر على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إلا طعنهن حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرنساً، فلما ظنَّ العِلجُ أنه مأخوذ نحر نفسه. وتناول مرُ يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله. فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني. فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلامُ المغيرة. قال: الصِّنَع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تُحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً. فقال: إن شئت فعلتُ- أي إن شئت قتلنا. قال: كذبت، بعد ما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجِّكم. فاحتُمِل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تُصبهم مُصيبة قبل يومئذٍ: فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه. فأُتي بنبيذٍ فشربه، فخرج من جوفه. ثم أتى بلبن فشربه، فخرج من جُرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يُثنون عليه. وجاء رجل شابٌّ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببُشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفافٌ لا عليَّ ولا لي. فلما أدبر إذا إزارُه يمسُّ الأرض، قال: ردوا عليَّ الغلام. قال: يا ابن أخي، ارفعْ ثوبك، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك. يا عبد الله بن عمر، انظر ما عليَّ من الدين. فحسبوه فوجدوهُ ستة وثمانين ألفاً أو نحوه. قال: إن وفى له مالُ آل عمر فأدِّهِ من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب (1)، فإن لم

_ = العلج: العجميُّ في ذلك الوقت. برنساً البرنس: هو كل ثوب رأسه منه. رقيقاً: الرقيق: اسم لجميع العبيد والإماء. فأتى بنبيذ فشربه: المراد بالنبيذ: تمرات نبذت في ماء، أي نقعت فيه، كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء. كفافاً: يقال: خرجتُ من هذا الأمر كفافاً، أي: لا لي ولا عليَّ. =

تَفِ أموالُهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال. انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام - ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً - وقل: يستأذنُ عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يُدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تُحب يا أمير المؤمنين، أذنتْ. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم من ذلك، فإذا أنا قضيتُ فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذنُ عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسيرُ معها، فلما رأيناها قمنا، فولجتْ عليه فبكتْ عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، واستخلف. قال: ما أجدُ أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر - أو الرهط - الين تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجزٍ ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم. وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يُقبل من مُحسنهم، وأن يثعفى عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء الإسلم، وجُباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم. وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصلُ العرب، ومادة الإسلام، أن يُؤخذ من حواشي أموالهم، ويُرد على فقرائهم. وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يُوفى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل من ورائهم، ولا يُكلفوا إلا طاقتهم. فلما قُبضَ خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبدُ الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب (1). قالت

_ = تبوؤوا: تبوأت المنزل: إذا اتخذته منزلاً. ردء: الردء: العون. وأن يقاتل من ورائهم: أي: إن قصدهم عدوهم ودفع عنهم مضرتهم.

أدخِلوه، فأُدخِل، فوضِعَ هنالك مع صاحبيه. فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهطُ، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثةٍ منك. فقال الزبير: قد جعلتُ أمري إلى عليِّ. فقال طلحة: قد علتُ أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظران أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان. فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم؟ قال: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلموالقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتُك لتعدلن، ولئن أمرتُ عثمان لتسمعن ولتطيعنَّ. ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له عليّ، وولج أهلُ الدار فبايعوه. قوله: (كذتَ): قال الحافظ: هو على ما ألف من شدة عمر في الدين، لأنه فهم من ابن عباس من قوله: إن شئت فعلنا، أي قتلناهم، فأجابه بذلك، وأهل الحجاز يقولون: كذبت في موضع أخطأت، وإنما قال له بعد أن صلوا، لعلمه أن المسلم لا يحل قتله، ولعل ابن عباس إنما أراد قتل من لم يسلم منهم. قوله: (يا عبد الله انظر ما علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه): قال الحافظ: في حديث جابر: ثم قال: يا عبد الله أقسمت عليك بحق الله وحق عمر إذا مت فدفنتني أن لا تغسل رأسك حتى تبيع من رباع آل عمر بثمانين ألفاً فتضعها في بيت مال المسلمين، فسأله عبد الرحمن بن عوف، فقال: أنفقتها في حجج حججتها، وفي نوائب كانت تنوبني، وعرف بهذا جهة دين عمر. قال الحافظ في الفتح: وفي قصة عمر هذه من الفوائد، شفقته على المسلمين ونصيحته لهم، وإقامة السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه، وأن النهي عن المدح في الوجه مخصوص بما إذا كان غلو مفرط أو كذب ظاهر، ومن ثم لم ينه عمر الشاب عن مدحه له مع كونه أمره بتشمير إزاره، والوصية بأداء الدين.

والاعتناء بالدفن عند أهل الخير، والمشورة في نصب الإمام، وتقديم الأفضل، وأن الإمامة تنعقد بالبيعة، وغير ذلك مما هو ظاهر بالتأمل، والله الموفق، وقال ابن بطال: فيه دليل على جواز تولية المفضول على الأفضل، منه، لأن ذلك لو لم يجز لم يجعل الأمر شورى إلى سنة أنفس مع علمه أن بعضهم أفضل من بعض، قال: ويدل على ذلك أيضاً قول أبي بكر: قد رضيت لكم أحد الرجلين: عمر وأبي عبيدة، مع علمه بأن أفضل منهما، وقد ستشكل جعل عمر الخلافة في ستة، ووكل ذلك إلى اجتهادهم، ولم يصنع ما صنع أبو بكر في اجتهاده فيه، لأنه إن كان لا يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل، فصنيعه يدل على أن من عدا الستة كان عنده مفضولاً بالنبة إليهم، وإذا عرف ذلك فلم يخف عليه أفضلية بعض الستة على بعض وإن كان يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل، فمن ولاه منهم أو غيرهم كان ممكناً، والجواب عن الأول يدخل فيه الجواب الثاني، وهو أنه إذا تعارض عنده صنيع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يصرح باستخلاف شخص بعينه، وصنيع أبي بكر حيث صرح فتلك طريق تجمع التنصيص وعدم التعيين، وإن شئت قل: تجمع الاستخلاف وترك تعيين الخليفة، وقد أشار بذلك إلى قوله: لا أتقلدها حيثاً وميتاً، لأن الذي يقع ممن يستخلف بهذه الكيفية إنما ينسب إليه بطريق الإجمال، لا بطريق التفصيل، فعينهم ومكنهم من المشاورة في ذلك، والمناظرة فيه لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة، وكمل من كان ساكناً مع غيرهم في بلد غيرها، كان تبعاً لهم فيما يتفقون عليه. أهـ. 1602 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمر قال: لما طعن أبو لؤلؤة عمر طعنه طعنتين، فظن عمر أن له ذنباً في الناس لا يعلمه، فدعا ابن عباس وكان يحبه، ويدنيه ويسمع من، فقال: أحب أن نعلم عن ملأ من الناس كان هذا فخرج ابن عباس فكان لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فرجع إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين ما مررت على ملاء إلا رأيتهم يبكون كأنهم فقدوا اليوم أبكار أولادهم فقال: من قتلني؟ فقال: أبو لؤلؤة المجوسي عبد المغيرة بن شعبة، قال ابن عباس: فرأيت البشر في وجهه فقال (1): الحمدُ

_ 1602 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 74) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. =

لله الذي لم يبتلني أحدٌ بحاجتي يقول لا إله إلا الله، أما إني قد كنتُ نهيتكُمْ أن تجلبوا إلينا من العلوج أحداً فعصيتموني، ثم قال: ادعو إلى إخواني قالواك ومنْ؟ قال: عثمان وعلي وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص فأرسل إلأيهم، ثم وضع رأسه في حجري. فلما جاءوا قلت هؤلاء قد حضروا قال: نعم، نظرت في أمر المسلمين فوجدتكم أيها السة رؤوس الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيك ما استقمتم يستقم أمر الناس وإن يكن اختلاف يكنْ فيكم، فلما سمعته ذكر الاختلاف والشقاق، وإن يكن ظننت أنه كائن، لأنه قلما قال شيئاً إلا رأيته، ثم نزفه الدم فهمسوا بينهم حتى خشيتُ أن يبايعوا رجلاً منهم فقلت: إن أمير المؤمنين حي بعدُ، ولا يكون خليفتان ينظرُ أحدهما إلى الآخر، فقال: احملُوني فحملناهُ. فقال: تشاوروا ثلاثاً ويُصلي بالناس صهيبٌ قالوا: من نشاور يا أمير المؤمنين؟ قال: شاوروا المهاجرين والأنصار وسراة من هنا من الأجناد، ثم دعا بشربة من لبن فشرب، فخرج بياض اللبن من الجرحين فعرف أنه الموت فقال: الآن لو أن لي الدنيا كلها لافتديت به من هول المطلع، وما ذاك والحمد لله أن أكون رأيت إلا خيراً. فقال ابن عباس، وإن قلت فجزاك الله خيراً أليس قد عدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعز الله بك الدين والمسلمين إذ تخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامُك عزاً وظهر بك الإسلامُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاجرت إلى المدينة فكانتْ هجرتك فتحاً ثم لم تغبْ عن مشهدٍ شهدهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين من يوم كذا ويوم كذا، ثم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ فوازرتَ الخليفة بعده على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت بمن أقبل على من أدبر حتى دخل الناس في الإسلام طوعاً وكرهاً، ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس مَصَّرَ الله بك الأمصار وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم وتوسعتهم في أرزاقهم ثم ختم لك بالشهادة فهنيئاً لك: فقال: والله إن المغرور من تغرونه، ثم قال: أتشهدُ لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم، فقال: اللهم لك الحمد، ألصق خدي بالأرض يا عبد لله بن عمر (1). فوضعته من فخذي علي

_ = العلوج: جمع علج: وهو كل شديد غليظ من الرجال وكانت تطلق على كفار العجم. غرة: غر الرجل غرارة وغرة: جهل الأمور وغفل عنها.

ساقي فقال: ألصق خدي بالأرض فترك لحيتهُ وخده، حتى وقع بالأرض فقال: ويلك وويل أمك يا عمر إن لم يغفر الله لك يا عمر. ثم قُبض رحمه الله: فلما قُبض أرسلوا إلى عبد الله بن عمر فقال: لا آتيكم إنْ لم تفعلوا ما أمركم به من مشاورة المهاجرين والأنصار وسراة من هنا من الأجناد قال الحسن، وذُكر له فعمل عمر عند موته وخشيته من ربه فقال: هكذا المؤمن جمع إحساناً وشفقة، والمنافق جمع إساءة وغرةً، والله ما وجدتُ فيما مضى ولا فيما بقى عبداً ازداد إحساناً إلا ازداد مخافة وشفقة منه، ولا وجدت فيما مضى ولا فيما بقى عبداً ازداد إساءة إلا ازداد غر. 1603 - * روى البخار يعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم، ففزعوا، وظنوا أنها قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله، ما هي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا قدم عمر. قال الحافظ في الفتح: والسبب في ذلك ما رواه أبو بكر الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه أحدن فلما دم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز، وروى الآجري من طريق مالك بن المغول عن رجاء بن حيوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية المسجد ثم أمر بهدمها، فم رأيته باكياً أكثر من يومئذ، ثم بناه كما أراد، فلما أن بنى البيت على القبر، وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة، وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز، وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلاً أن يصلحها، ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم- يعني مولاه-: قم فأصلحها (1).

_ 1603 - البخاري (3/ 255) 23 - كتاب الجنائز-96 - باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم

1604 - * روى الطبراني عن المسور بن مخرمة قال: ولي عمر عشر سنين ثم توفي. 1605 - * روى الطبراني عن الليث بن سعد قال: قُتل أمير المؤمنين عمر مصدر الحاج وذلك في سنة ثلاث وعشرين. 1606 - * روى الطبراني عن ابن شهاب قال: مات عمر وهو على رأس خمس وخمسين. 1607 - * روى الطبراني عن سالم بن عبد الله أن عمر قُبض وهو ابن خمس وخمسين. 1608 - *روى الطبراني عن ابن عمر قال: مات عمر وهو ابن خمس وخمسين وقال: أسرع إلى الشيبُ من قبل أخوالي بني المغيرة. 1609 - * روى الطبراني عن قتادة قال قتل عمر وهو ابن إحدى وستين. 1610 - * روى الطبراني عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب مات وهو ابن ست وستين سنة. وقد ذكرنا الروايات المتعددة في تقدير عُمْرِ عُمَرَ يوم وفاته للإشعار بأن الأمر فيه خلاف. 1611 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال: احفظ عني ثلاثاً، فإني أخاف أن لا يدركني الناس: أما أنا فلم أقض في الكلالة قضاء، ولم استخلف على الناس خليفة وكل مملوكٍ لي عتيق (1). * * * تعليقات

_ 1604 - المعجم الكبير (1/ 68) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني وإسناده حسن. 1605 - المعجم الكبير (1/ 70) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1606 - المعجم الكبير (1/ 69) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1607 - المعجم الكبير (1/ 69) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1608 - المعجم الكبير (1/ 69) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 79)؛ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1609 - المعجم الكبير (1/ 69) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني وإسناده حسن. 1610 - المعجم الكبير (1/ 68) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 78)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1611 - المعجم الكبير (1/ 46) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 347)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات.

تعليقات

تعليقات لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الأمير الأنموذج عند أهل الدنيا وأهل الآخرة، فلقد انطبعت هذه الحقيقة في الأذهان حتى غدت بدهية، فما يكاد يكون حديث عن تصرفات نموذجية لأمير إلا وتقفز مباشرة إلى الأذهان صورة عمر رضي الله عنه. لقد كان جسمه كاملاً بين الأجسام وهو شيء مهم في الإمرة النموذجية، كما أن له سابقته وفضله في المجتمع الذي قاده، وساسه، وذلك محل إجماع، وكذلك هذه شيء مهم في الإمرة النموذجية. وكان على غاية من الجدية في حياته الخاصة والعامة، وهذا شرط الإمرة النموذجية لأنه بذلك تستمر هيبة الأمير وتتنامى. وكان لا يميز أهله ولا نفسه عن العامة بشيء، وبذلك أبعد نفسه عن أي مظنة تهمة، وهذا مه في شخصية الأمير النموذجي. وكان أرحم الناس بالعامة وأرفقهم بهم وأكثرهم لهم رعاية، فلا يضيع أحد في سلطانه، ويستشعر كل فر بحنانه، وهذا شرط في الأمير النموذجي. وكان يترك اجتهاده لاجتهاد غيره إذا أحس أن الأمر سيدخل بعض الناس في زوايا حادة كما فعل في أراضي السواد إذ أخر تنفيذ اجتهاده حتى انتهت المعارضة، وهذا شرط في الأمير النموذجي. مع ملاحظة أن اجتاد عمر ألا تقسم الأراضي المفتوحة على الفاتحين وأن تبقى وقفاً على جميع المسلمين إلى قيام الساعة. كان اجتهاداً وافقه عليه أكثر الصحابة، واستدل له عمر بنصوص قرآنية وكان هذا وحده هو الذي يسع حاضر الأمة الإسالمية ومستقبلها، وكان فيه البركة ولا زلنا نرى بركة تصرفه حتى أننا في عصرنا نعتبر فعله حجة للإسلام على المذاهب التي تتحدث عن خطورة تركيز رؤوس الأموال بأيد قليلة. ومع قوة هذا الاجتهاد ووقوف أكثر الصحابة معه فقد جمد عمر هذه القضية لأن بعض الصحابة كانت له شبهة، فخشي أن يؤثر تنفيذ اجتهاده على وحدة الصف فجمد القضية ومن هاهنا ندرك أن الحزم عند عمر هو والحكمة توأمان.

وكان يعرف أقدار الناس ويعرف ويعرف لأهل الفضل فضلهم ولأهل السبق سبقهم وهذا شرط لاستقرار أي نظام. وكان مستشرفاً استشرافاً كاملاص لساحة المعركة التي يخوضها ولوازمها واحتياجاتها، وهذا شرط من شروط نجاح الأمير في أي معركةز وكان يحسن اختيارالرجال للمهمات المنوطة بهم، وهذا شرط لنجاحات الأمير أي أمير. وكان كل فرد حوله يحس أنه أكمل منه في خصوصياته، فالعبادة والعلم وحسن التدبير وسداد الرأي كل ذلك كان متفوقاً فيه على من حوله، وهذا شرط في نجاحات المير، فمتى أحسن من حول الأمير بتفوقهم عليه هان عليهم وذلك مقدمة الفشل. وكان قوي المبادرة، كثير المشاورة، دراكاً للفكرة الصائبة، وتلك شروط في نجاحات الأمير. وكان يؤدي لكل ذي حق حقه ويعرف لكل ذي فضل فضله، ولذلك أعطاه الجميع حقوقه كاملة، وكما كان لا يتساهل في حقوقه كا يعرف الحدود التي يحاسب بها الأمير على حقوقهز ومهما قيل فيه فهو قليل: لقد أتعب أبو بكر من جاء بعده ما قال عمر، ولقد اتعب أبو بكر وعمر من جاء بعدهما إلى قيام الساعة، فمن الذي يستطيع ما استطاعا، ولكن من تهيأ له ما تهيأ لهما لقد تهيأ لهما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جنودهما، ومن كان هؤلاء جنده وحاشيته وبطانته فإنه قد توافر له ما لا يتوافر لأحد بعده، ولعل هذا أحد الأسباب الرئيسية لانتقاض الأمر في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلقد أصبح أكثر جيل الصحابة الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر في عداد الشهداء. * * *

رقم الإيداع: 2872/ 89 الترقيم الدولي: 4 - 24 - 1471 - 977

عثمان بن عفان رضي الله عنه

عثمان بن عفان رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أمير للمؤمنين أبو عبد الله وأبو عمرو، وأمه أروى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حبيب أبن عبد شمس، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان ربعة حسن الوجه رقيق عظيم اللحية بعيد ما بين المنكبين. أسلم قديماً قال ابن إسحاق: كان أبو بكر مؤلفاً لقومه فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به فأسلم على يده فيما بلغني الزبير وطلحة وعثمان وزوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته رقية وماتت عنده أيام بدر، فزوجه بعدها أختها أم كلثوم فلذلك كان يلقب ذا النورين. وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشره بالجنة وعده من أهل الجنة وشهد له بالشهادة. وجاء من طرق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان لما أن حصروه انتشد الصحابة في أشياء منها تجهيزه جيش العسرة، ومنها مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند تحت الشجرة لما أرسله إلى مكة، ومنها شراؤه بئر رومة وغير ذلك. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر، روى عنه الواده: عمر وأبان وسعيد وابن عمه مروان بن الحكم بن أبي العاص، ومن الصحابة: ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وأبو هريرة وغيرهم، ومن التابعين: الأحنف وعبد الرحمن بن أبي ضمرة وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن المسيب وأبو وائل وأبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن الحنفية وآخرون. وهو أول من هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته رقية وتخلف عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسهمه وأجره وتخلف عن بيعه الرضوان لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بعثه إلى مكة فأشيع أنها قتلوه فكان ذلك سبب البيعة فضرب إحدى

يديه على الأخرى وقال: هذه عن عثمان وقال ابن مسعود: لما بويع بايعنا خيرنا ولم نأل. وقال علي: كان عثمان أوصلنا للرحم وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: قتلوه وإنه لأوصلهم للرحمن وأتقاهم للرب. وقال ابن المبارك في الزهد أنبأنا الزبير بن عبد الله أن جدته أخبرته وكانت خادماً لعثمان وقالت: كان عثمان لا يوقظ نائماً من أهله إلا أن يجده يقظاناً فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر. وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية وبالبصرة سعيد بن العاص وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان من حج منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة كثير الإحسان والحلم وكان يستبدل ببعض أمرائه فيرضيهم ثم يعيده بعد، إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح فعزله وكتب لهم كتاباً بتولية محمد بن أبي بكر الصديق فرضوا بذلك فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكباً على راحلة فاستخبروه فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به فحلف أنه ما كتب ولا أذن فقالوا سلمنا كاتبك فخشي عليه منهم القتل وكان كاتبه مروان بن الحكم وهو ابن عمه فغضبوا وحصروه في داره واجتمع جماعة يحمونه منهم فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار فدخلوا عليه فقتلوه فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم وانفتح باب الفتنة فكان ما كان وبالله المستعان. وروى البخاري في قصة قتل عمر أنه عهد إلى ستة وأمرهم أن يختاروا رجلاً فجعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف فاختار عثمان فبايعوه ويقال كان ذلك يوم السبت غرة المحرم سنة أربعة وعشرين، وقال ابن إسحاق: قتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً من خلافته فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وقال غيره: قتل لسبع عشرة وقيل: لثمان عشرة رواه أحمد عن إسحاق بن الطباع عن أبي معشر، وقال الزبير بن بكار: بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر ودفن ليلة

السبت بين المغرب والعشاء في حُشّ كوكب كان عثمان اشتراه فوسع به البقيع، وقتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور وقيل دون ذلك، وزعم أبو محمد ابن حزم أنه لم يبلغ الثمانين. أهـ. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هو عثمان بن عفان، ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشوري، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور بإتباعهم والاقتداء بهم. أسلم عثمان رضي الله عنه قديماً على يدي أبي بكر الصديق وهاجر إلى الحبشة أول الناس معه زوجته رقية بت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه منها وأجره فيها، فهو معدود فيمن شهدها، فلما توفيت زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضاً في صحبته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان" وشهد أحداً وفر يومئذ فيمن تولي، وقد نص الله على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبة، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوزان والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة، وتقدم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذ بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة أنه جاء يومئذ بألف دينار قصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم "ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين" وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راض، وصح أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راض، وصحب عمر فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض. ونص عليه في أهل الشورى الستة فكان خيرهم.

قصة استخلافه

الكّراديس (1)، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه، وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعاً، أصلع، أرْوَح (2) يخضب بالصفرة، وكان شد أسنانه بالذهب، وقد كسي ذراعية الشعر. وقال سيف عن خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلفون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس يعني في أعطياتهم - مائة، ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك. وقصة استخلافه: أنه في أول يوم من سنة أربع وعشرين دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه. كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر وهم عثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرّج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين، وقال: لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه خشي أن يراعي فيولي لكونه ابن عمه، فلذلك تركه - ولعله خشي أن يفتح باباً بأن يجعل الخلافة وراثية في بني عدى، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه أنه استثناه من بينهم، وقال: لست مدخله فيهم، وقال لأهل الشورى يحضركم عبد الله - يعني ابنه- وليس إليه من الأمر شيء - يعني بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولى شيئاً- وأوصى أن يصلى بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلاً من

_ (1) الكراديس: جمع كردوس: وهو كل عصم نام ضخم، وكل عظمين التقيا في مفصل نحو المنكبين والركبتين والوركين. (2) أروح الرجلين: أي في رجليه اتساع دون الفحج، والفحج: الانفراج.

المسلمين وجعل عليهم مستحثاً أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي، وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه. والمقصود أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم، فكثر القول، وعلت الأصوات وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله عليّ والإسلام أن اجتهد فأولّي أولاكما بالحق، قالا: نعم! ثم خاط بكل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعين، فقال كل منهما: نعم ثم تفرقوا، ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن يجتهد للمسلمين أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به علي؟ قال: عثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب، والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وقوداهم جميعاً وأشتاتاً، مثني وفرادي، ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الوالدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد أثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد إنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره، فسعي في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءاً واستخارة، وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يد أحداً يعدل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر

صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن اخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور؟ والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، أذهب فادع إلي علياً وعثمان قال المسور: فقلت بأيهما أبداً؟ فقال بأيهما شئت، قال فذهبت إلى علي فقلت أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحداً؟ قلت: نعم! قال: من؟ قلت: عثمان ابن عفان، قال: بأيبنا بدأ؟ قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال أدعو لي أيهما شئت أولاً، فجئت إليك قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس علي حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي على سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان فقال: إني قد سألت الناس عنكما فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عّممه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه - ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوق وقوفاً طويلاً، ودعا دعاء طويلاً، لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إلىٌ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال فأرسل يده وقال: قم إلى يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال اللهم أسمع وأشهد، اللهم أسمع وأشهد، اللهم أسمع وأشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، قال وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه إلى بن أبي طالب أولاً.

فولى الخلافة بعده فتح الله على يديه كثيراً من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالي: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (1)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} (2). وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم عزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفاً لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقي على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواماً ويدع آخرين، يعطي أقواماً خشية أن يكبه الله على وجوهم في النار، وبكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدي والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار. أقول: إن استعانة أمير المؤمنين ببعض أقاربه قد يكون فيه مصالح منها الضبط ومنها قوة الولاء ومنها الجرأة على المصارحة بواقع الحال، ولكن الناس ألفوا سنة عمر الذي كان يستبعد أن يولي أحداً من أقاربه فلم يسلم بعضهم لعثمان بهذا الاجتهاد، وهو على كل حال من الأحوال اجتهاد خلية راشد يشكل سابقة من سوابق الحكم في الأمة الإسلامية، وعلى أمراء المؤمنين أن يجاهدوا أنفسهم فلا يميلوا مع الهوى ويتخيروا من سنن الخلفاء الراشدين ما هو الأنسب للصالح العام. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه: قال البخاري في التاريخ: ثنا موسي بن إسماعيل ثنا مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيراً، يقال لهم: يا معشر المسلمين أعدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم

_ (1) النور: 55. (2) التوبة: 33.

يقال لهم: أغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقي وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمناًن ومن لقيه هو أخوه، بمعني أن الإخاء وافر بين المسلمين- قال الحسن: فلو أنهم صبروا لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما ناصبرها: فو الله ما نصابرها: فوالله ما وردا - أي ما حققوا الدنيا وخيرها - وما سلموا، والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام فسلّوه على أنسهم، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، وأيمن الله إني لأراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيامة. وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم ي ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه، ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (1) قال: هو عثمان بن عفان، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) قال: هو عثمان: وقال حسان: ضحّوا بأشمطَ عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا وقال سفيان بن عبينة: ثنا إسرائيل بن موسى سمعت الحسن يقول قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي على يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه نم كثرة ما يديم النظر يه، وقال أنس ومحمد بن سيرين: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فو الله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة، وقال غير واحد: إنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظان، وكان يصوم الدهر، وكان يعاتب فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟ فيقول: لا الليل لهم يستريحون فيه، وكان إذا اغتسل لا يرع. المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيداً من شدة حيائه رضي الله عنه.

_ (1) الزمر: 9. (2) النحل: 76.

ومن مناقبه الكبار وحسناته العظيمة أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على العرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بين اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة احرف، يفضّل قراءته على قراءة غيره، وربما خطاً الآخر أو كفره، فأدي ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأي أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأي في ذلك من مصلحة كف المنازعة، ودع الاختلاف، فاستدعي بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعي بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شييء أن يكتبوه بلغة قريش، كتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً، ويقال لهذه المصاحف الأئمة، وليست كلها بخط عثمان، بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمره وزمانه، وإمارته، كما يقال دينار هرقلي، أي ضرب في زمانه ودولته. قال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب - وكان قد اشتراه وزاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.

ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام: الذين قتلوه أو ألبوا عليه قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان الملك بعده في نائبه معاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان وثمانية من ذريته، استطالوا حياته وملّوه مع فضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعاً وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير، وهذا لظه بحروفه. ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم: تزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولد له منها عبد الله، وبه كان يكني، بعد ما كان يكني في الجاهلية بأبي عمرو، ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم، ثم توفيت فتزوج بفاخته بنت غزوان بن جابر، فولد له منها عبيد الله الأصغر، وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الأزدية، فولدت له عمراً، وخالداً، وأبانا، وعمر، ومريم، وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد وسعيداً، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال وعتبة، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي فولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو، بنات عثمان، وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم، ويقال وعنبة، وقتل رضي الله عنه وعنده أربع: نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاخته، ويقال إنه طلق أم البنين وهو محصور أهـ، أبن كثير. ومما قاله ابن كثير وهو يؤرّخ لسني عهد عثمان رضي الله عنه: قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني سنة أربعة وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف، وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها: أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية، حين نقضوا العهد فوطيء بالدهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبي وأخذ أموالاً جزيلة فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم

ثم دخلت سنة خمس وعشرين

في كل سنة فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالماً غانماً إلى الكوفة، فمر بالموصل وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم، قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خا أهل الشام وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة، أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلاً أميناً كريماً شجاعاً في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى أخوانكم بالشام، فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيباً حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمره به أمير المؤمنين وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمرّ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام وعلى جند المسلمين حيب بن مسلم الفهري، لما اجتمع الجيشان شنوا الفارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئاً كثيراً وفتحوا حصوناً كثيرة ولله الحمد. ثم دخلت سنة خمس وعشرين: وفيها نقض أهل الإسكندرية العهد، وذلك أن ملك الروم بعث إليهم معويل الخصي في مراكب من البحر فطمعوا في النصرة ونقضوا ذمتهم، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول، فافتتح الأرض عنوة وافتتح المدينة صلحاً. وفيها وجه عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سرح في غزو إفريقية فأذن له. ثم دخلت سنة ست وعشرين: وفيها افتتح عثمان بن أبي العاص سابور صلحاً على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف. ثم دخلت سنة سبع وعشرين: أمر عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يغزو بلاد إفريقية إذا افتتحها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة نقلاً - فسار إليها في عشرة آلاف فافتتحها سهلها وجبلها، وقتل خلقاً كثيراً من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام، وحسن إسلامهم، وأخذ عبد الله ابن سعد خمس الخمس من الغنيمة وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة

غزوة الأندلس

بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار. غزوة الأندلس: لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن ناع بن عبد قيس وعبد الله بن ناع بن الحصين الفهريين من فورها إلى الأندلس فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس أنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان واللام، قال فساروا إليها فافتتحوها ولله الحمد والمنة. أقول: وكان فتح الأندلس فيما بعد عثمان في زمن بني أمية، ولكن الأمر بالفتح كان في زمن عثمان، وكلام عثمان يدل على ما يسمي في اصطلاحات عصرنا ببعد النظر الاستراتيجي، إذا يد كلامه على أنه كان دراكاً ما يترتب على كل خطوة في الفتح من آفاق جديدة. وقعة جرير والبربر مع المسلمين: لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفاً إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل في مائتي ألف، فلما تراءي الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه، قال عبد الله بن الزبير، فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان، قال فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه - وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك - لما اقتربت منه أحس مني الشر قر علي برذوته، لحقته فطعنته برمحي، وذففت عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت، فلما رأي ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالاً كثيرة، وسبياً عظيماً، وذلك ببلد يقال

فتح قبرص

له سبيطله - على يومين من القيروان - فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه وأصحابهما أجمعين. قال الواقدي: وفي هذه السنة افتتحت اصطخر ثانية على يدي عثمان بن أبي العاص، وفيها غزا معاوية قنسرين، وفيها حج بالناس عثمان بن عفان، قال ابن جرير قال بعضهم وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص. فتح قبرص: ذكر ابن جرير فتح قبرص تبعاً للواقدي وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليهم في جيش كثيف من المسلمين ومع عباده بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان التي تقدم حديثهما في ذلك حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ثم استيقظ يضحك فقالت: ما أضحكك يا رسول الله فقال: "ناس من أمتي عرضوا علي يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة". فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "أنتم منهم" ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "أنت من الأولين" فكانت في هذه الغزوة وماتت بها وكانت الثانية عبارة عن غزوة قسطنطينية بعد هذا. ثم دخلت سنة تسع وعشرين: وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن عامر فارس ي قول الواقدي وأبي معشر زعم سيف أنه كان قبل هذه السنة فالله أعلم. وفيها وسع عثمان بن عفان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبناه بالقضة - وهي الكلس- كان يؤتى به من بطن نخلة والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارة مرصعة، وسقفه بالساج (1)، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبواب ستة، على ما كانت عليه في زمان عمر بن الخطاب، ابتداء بناءه في ربيع الأول منها.

_ (1) الساج: نوع من الشجر.

ثم دخلت سنة ثلاثين من الهجرة النبوية

ثم دخلت سنة ثلاثين من الهجرة النبوية: فيها افتتح سعيد بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال: هو أول من غزاها. ثم خلت سنة إحدى وثلاثين: ففيها كانت غزوة الصواري، وغزوة الأساودة في البحر فيما ذكره الواقدي وقال أبو معشر: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين. وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي وسيف وغيرها أن الشام كان قد جمعها لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غاية الحفظ وحمي حوزته، ومع هذا له في كل سنة غزوة في بلاد الروم، في زمن الصيف، ولهذا يسمون هذه الغزوة الصائفة - فيقتلون خلقاً، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصوناً ويغنمون أموالاً ويرعبون الأعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والأندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم ير مثله منذ كان الإسلام، خرجوا في خمسمائة مركب، وقصدوا عبد الله بن أبي سرح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب، فلما تراءى الجمعان بات الروم يقسقسون (1) ويصلبون، وبات المسلمون يقرؤون ويصلون، فلما أصبحوا صف عبد الله بن سعد أصحابه صفوفاً في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن قال بعض من حضر ذلك: فأقبلوا إلينا في أمر لم ير مثله من كثرة المراكب، وعقدوا صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا، فأرسينا ثم سكنت الريح عنا، فقلنا لهم: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر فمات الأعجل منا ومنكم، قال: فنخروا نخرة رجل واحد وقالوا: الماء الماء، قال: فدنونا منهم وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف، يثب الرجال على الرجال بالسيوف والخناجر، وضربت الأمواج في عيون تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل وألقت الأمواج جثث الرجال إلى الساحل حتى صارت مثل الجبل

_ (1) يقفون: أي يغلطون ويرفعون أصواتهم.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين

العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبراً لم يعهد مثله قط، وقتل منهم بشر كثير، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فهرب قسطنطين وجيشه- وقد قلّوا جداً- وبه جراحات شديدة مكينة مكث حيناً يداوي منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أياماً، ثم رجع مؤيداً منصوراً مظفراً. وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحاً، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف ومائتي ألف، وقيل على ستة آلاف ألف ومائتي ألف. ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين: وفيها غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويها استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزوا الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، سار حتى بلغ بلنجر (1) فحصروها ونصبت عليها المجانيق والعرادات. ثم إن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالاً شديداً - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين، ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن ابن ربيعة - وكان يقال له ذو النون - وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزر، وفرقة سلكوا ناحية جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة وسلمان الفارسي، وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة - وكان من سادات المسلمين وشجعانهم - فدفنوه في بلادهم فهم يستقسون عنده إلى اليوم، وفيها فتح ابن عامر مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين: وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية، حين نقض أهلها العهد.

_ (1) بلنجر: هي بلد بالخزر خلف باب الأبواب.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين: قال الواقدي فيما رواه عن عبد الله بن محمد عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان: إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم؟ فجوابه من وجوه (أحدها) أن كثيراً منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عيناً، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة، وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم. (الثاني) أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية (الثالث) أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لم اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم (الرابع) أن هؤلاء الخوارج كانوا قريباً من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، ويضعه على حبوته إذا احبتي، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجيء الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان

رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يوجد لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم. وقد أطال ابن كثير في البداية والنهاية الكلام عن مقتل عثمان وذكر الروايات الكثيرة في ذلك، وها نحن ننقل مختارات من كلامه، قال رحمه الله: ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان: وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر ولى عليها عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، وكان سبب ذلك أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو ابن العاص، مقهورين معه، لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير، فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم ويولي عليهم من هو ألين منه، فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمراً عن الحزب وتركه على الصلاة، وولّى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما: حتى كان بينهما كلام قبيح، فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها [وحربها] وصلاتها، وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام عند من يكرهك، أقدم إلي، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير فكمله فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه، قال له عثمان: دع هذا فإنه من أمر الجاهلية، وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان، وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزلة جماعة من عليه الصحابة وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية وكره أهل مصر عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية، ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حرية والإنكار عليه، وكان عظم ذلك مسنداً إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، حتى استنفروا نحواً من ستمائة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان فساروا إليها تحت أربع رفاق، وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس العلوي، وكنانة بن بشر

التجيبي، وسودان بن حمران الكوني، وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء، وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة معتمرين، لما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة. فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمير بسببه وتحتجون عليه به، ويقال إنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمي الحمى، وأنه حرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة وأنه ولى الأحداث الولايات وترك الصحابة الأكابر وأعطى بني أمية أكثر من الناس فأجاب علي عن ذلك: أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه وقد حماه عمر من قبله، وأما المصاحف إنما حرّق ما وقع يه اختلاف، وأبقى لهم المتفق عليه، كما ثب في العرضة الأخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة، فإنه كان قد تأهل بها ونوى الإقامة فأتمها، وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلاً سوياً عدلاً، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة، وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالإمارة وإما إيثاره قومه بني أمية فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر قريشاً على الناس، ويقال: إنهم عتبوا عليه في عمار ومحمد بن أبي بكر، فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما، وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف ثم رده، ثم نفاه إليها، قال قد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رده، وروي أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما شهادة له، ويروى أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الأعذار وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم فصح عنهم، رضي الله عنه، وردّهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئاً مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان، فأخبره برجوعهم عنه، وسماعهم منه، وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة

ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية في مصر

يعتذر إليهم يها مما كان وقع من الأثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه قد تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها، كما كان الأمر أولاً في مدة ست سنين الأول، استمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس، رفع يديه في أثناء الخطبة، وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينية بالبكاء بكي المسلمون أجمعون، وحصل الناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه، لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس ثم دخل منزله وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال، لا يمنع أحد من ذلك مدة. ثم ذكر ابن كثير: أن مروان بن الحكم لم يرق له أن يظهر عثمان بهذا الضعف، وأنه - أي مروان - تصرف تصرفات أغضبت علياً رضي الله عنه لدرجة أنه قرر ألا يتدخّل مرّة أخرى، ولما تسامعت أحزاب الفتنة بذلك ادّعوا دعوي وعادوا إلى المدينة. ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية في مصر: وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغصب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا، وروت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم، وذكر سيف بن عمر التميمي عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضاً، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء، المقلل لهم يقول ستمائة، والمكثر يقول: ألف، على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة الكوني وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، وخرجوا فيما يظهرون حجاجاً، ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذمياً فأظهر الإسلام وأحدث بدعاً قولية وفعلية، قبحة الله- وخرج

أهل الكوفة في عدتهم في أربع رفاق أيضاً، وأمراؤهم: زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وزياد بن النصر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وعلى الجميع عمرو بن الأصم. وخرج أهل البصرة في عدتهم أيضاً في أربع رايات مع حكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي، وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة، لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، شهر شوال نزل طائقة منهم بذي خشب، وطائفة بالأعوص، والجمهور بذي المروة، وهم على وجل من أهل المدينة، فبعثوا قصاداً وعيوناً بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاءوا للحجج لا لغيرة، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول، فكل الناس أبي دخولهم ونهي عنه، تجاسروا واقتربوا من المدينة، وجاءت طائفة من المصريين إلى علي وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أقواف (1)، معتم بشقيقة حمار يمانية، متقلداً السيف وليس عليه قميص وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه فسلم عليه المصريون صاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فارجعوا لا صبحكم الله، قالوا: نعم! وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنيه إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لأهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة، فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياماً راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة، ما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان، وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياماً، هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلى بالناس،

_ (1) حلة أقواف: أي ذات وبر أو شعر.

ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان

فيصلى وراءه أهل المدينة وأولئك الآخرون، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم، حتى قال على لأهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيه فقالوا: وجدنا مع بريد كتاباً بقتلنا، وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير، وقال أهل كل مصر: إنما جئنا لننصر أصحابنا، قال لهم الصحابة: كيف علمتهم بذلك من أصحابكم، وقد افترقتم وصار بينكم مراحل؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه، فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون أنه إن نزل عن الخلافة تركوه أمناً - وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريداً يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إداوة كتاباً على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جملة، فلما رجعوا جاءوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس أمير المؤمنين في ذلك، فقال: بينة على بذلك وإلا فو لله لا كتبت ولا أمليت، ولا دريت بشيء من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون، ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنهم أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر، وآخرين معه فرجعوا وقد حنقوا عليه حنقاً شديداً، وطافوا بالكتاب على الناس، دخل ذلك في أذهان كثير من الناس. واستمر عثمان يصلى بالناس في تلك الأيام كلها، وهم أحقر في عينيه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر، وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ. ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان: لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشياً عليه، واحتمل إلى داره وتفاقم الأمر، وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، وألجأوه إلى داره وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة

بيوتهم، وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة، عن أمر أبائهم، منهم الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير- وكان أمير الدار- وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أوي سلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلط أحد أن القتل كان في نفس الخارجين، وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلاً في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلى بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب، وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل أربعين يوماً، حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيداً رضي الله عنه. كان الحصار مستمراً من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة، فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار- وكانوا قريباً من سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير، وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر، فبرد القتال من داخل، وحمي من خارج، وأشتد الأمر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأي في المنام رؤيا دلّت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكون خير ابني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (1). وروي أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج، الحسن ابن علي وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم. ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحدى سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران وفزع عثمان إلى الصلاة وافتتح سورة طه، وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته

_ (1) المائدة: 29.

وجلس وبين يديه المصحف، وجعل يتلو هذه الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1)، كان أول من دخل عليه رجل يقال له الموت الأسود فخنقه خنقاً شديداً حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه، فتركه وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ندم وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه، فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ثم جاء آخر شاهراً سيفه فاستقبتله نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها، ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان. أهـ من البداية والنهاية. 1612 - *روى أحمد عن الحسن وذكر عثمان وشده حيائه قال إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء أن يقيم صلبه. 1613 - * روى مسلم عن سعيد بن العاص رضي الله عنه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه أن أبا بكر الصديق استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضي إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على تلك الحال، فضي إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" قال: فقضيت إليه حاجتي، ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟ فقال: "إن عثمان رجل حبي، وإن خشيت

_ (1) آل عمران: 172. 1612 - أحمد في مسنده (1/ 74) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 82) رواه أحمد ورجاله ثقات. 1613 - مسلم (4/ 1866) 44 - كتاب فضائل الصحابة -3 - باب من فضائل عثمان. المرط: الكساء من الخز والصوف يؤتزر به. فزعت: لمجيء فلان: أي تأهُبتُ له متحولاً من حال إلى حال، يقال: فزع من نومه: إذا استيقظ، فانتقل من حال النوم إلى حال اليقظة.

إن أذنتُ له على تلك الحال: أن لا يبلغ إلى في حاجته". 1614 - * روي أحمد والطبراني وأبو يعلى عن حفصة بنت عمر قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوضع ثوبه بين فخذيه فجاء أبو بكر فاستأذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم على هيئته وجاء ناس من أصحابه، فأذن لهم وجاء علي فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم على هيأته، ثم جاء عثمان بن عفان، فاستأذن فتجلل ثوبه فأذن له فتحدثوا ساعة ثم خرجوا، فقتل: يا رسول الله دخل أبو بكر وعمر وعلي وناس من أصحابك وأنت على هيأتك لم تحرك، فلما دخل عثمان تخللت ثوبك، قال "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" 1615 - * روى الطبراني عن عب الرحمن بن عثمان القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته وهي تغسل رأس عثمان فقال: "يا بنية أحسني إلى أبي عبد الله فإنه أشبه أصحابي بي خلقاً". 1616 - * روى الطبراني عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: رأيت عثمان بن عفان يوم الجمعة على المنبر عليه إزار عدني غليظ، ثمنه أربعة دراهم، أو خمسة، وربطه كوفية ممشقة، ضرب اللحم طويل اللحية حسن الوجه. 1617 - * روى الترمذي والنسائي عن عثمان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم

_ 1614 - أحمد في مسنده (1/ 74) والمعجم الكبير (23/ 205)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 84): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلي باختصار كثير وإسناده حسن. 1615 - المعجم الكبير (1/ 76) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 81): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1616 - المعجم الكبير (1/ 75)، وقال الهيثمي فيمجمع الزوائد (9/ 80) رواه الطبراني وإسناده حسن. الرطبة: الملاءة، الثوب اللين الرقيق. ممشقة: مصبوغة بالمغرة والمغرة مسحوق أحمر. ضرب اللحم: خفيف اللحم ممشوق مستدق. 1617 - الترمذي (5/ 627) 5 - كتاب المناقب- 18 - باب في مناقب عثمان بن عفان، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (6/ 235) كتاب الأحباس، باب وقف المساجد.

المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: "من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي. وفي الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه العام. 1618 - * روى الطبراني عن الحسن بن علي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام متعلقاً بالعرش ورأيت أبا بكر آخذاً بحقوي النبي صلى الله عليه وسلم ورايت عمر آخذاً بحقوي أبي بكر ورأيت عثمان آخذاً بحقوي عمر ورأيت الدم ينصب من السماء إلى الأرض، فحدث الحسن بهذا، وعنده قوم من الشيعة، فقالوا: وما رأيت علياً، فقال الحسن: ما كان أحد أحب إلى أن أراه آخذاً بحقوي رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي، ولكنها رؤيا رأيتها، فقال أبو مسعود: إنكم لتحدثون عن الحسن بن علي في رؤيا رآها، وقد كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصاب الناس جهد حتى رأيت الكآبه في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق" فعلم عثمان أن الله ورسوله سيصدقان، فاشترى عثمان أربع عشرة راحلة بما عليها من الطعام، فوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها بتسعة، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذا" قالوا: أهدي إليك عثمان، قال: فعرف الفرح في وجه المسلمين والكآبه في وجوه المنافقين، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يدعو لعثمان دعاء ما سمعته دعا لأحد قبله: "اللهم أعط عثمان اللهم افعل لعثمان". 1619 - * روى البزار عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى لحماً، فقال: "من بعث بهذا؟ " قلت: عثمان، قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان.

_ 1618 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 95) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وإسناده حسن. الحقوا: معقد الإزار، ويسمي به الإزار للمجاورة، ويقال أيضاً أخذ بحقو فلان إذا استجار به. 1619 - البزار: كشف الأستار (3/ 177)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 85): رواه البزار وإسناده حسن.

1620 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصافحه، فلم ينزع النبي صلى الله عليه وسلم يده من يد الرجل حتى انتزع الرجل يده ثم قال له: يا رسول الله جاء عثمان قال: "امرؤ من أهل الجنة". 1621 - * روى عبد الله بن أحمد عن أم موسى قالت: كان عثمان من أجمل الناس. 1622 - * روى الطبراني عن أم عياش قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زوجت عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء". 1632 - * روى الطبراني عن أم موسي قالت: ولدت رقية لعثمان غلاماً فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وكني عثمان بأبي عبد الله. 1624 - * روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة: قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره، فرأيته صلى الله عليه وسلم يقبلها في حجرة ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين" 1625 - * روى البخاري عن عبد الرحمن أن المسور بن محرمة أخبره: أن الرهط الذين ولا هم عمر اجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنفاسكم على هذا، ولكنكم إن شئتم اخترتم لكم منكم، فجعوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة

_ 1620 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 87): رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده حسن. 1621 - رواه عبد الله في زياداته على المسند (1/ 72)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 80). وقال: رواه عبد الله ورجاله رجال الصحيح غير أم موسي وهي ثقة. 1622 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 83) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده حسن، لما تقمه من الشواهد. 1623 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 83): رواه الطبراني بإسناد الذي قبله. 1624 - الترمذي (5/ 626) 50 - كتاب المناقب - 19 - باب مناقب عثمان. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1625 - البخاري (13/ 193) 93 - كتاب الأحكام -43 - باب كيف يبايع الإمام الناس.=

التي أصبحنا منهما فبايعنا عثمان - قال السور - طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً، فو الله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علياً، فدعوته، فنجاه حتى إبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشي من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فنجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد - وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر - فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده: فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. 1626 - * روى الحاكم عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم: "تهجمون على رجل معتجر ببردة يباع الناس من أهل الجنة" فهجمت على عثمان رضي الله عنه وهو معتجر ببرد حبرة يباع الناس. 1627 - * روى الطبراني عن الحسن قال: أدركت عثمان وأنا يومئذ قد أرهقت الحلم فسمعته وهو يخطب وشهدته وهو يقول: يا أيها الناس ما تنقمون علي؟ قال: وما من يوم إلا وهم يقسمون فيه خيراً كثيراً يقول: يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، ثم يقال يا أيها الناس اغدوا على كسوتكم فيجاء بالحلل فتنقسم بينهم، قال الحسن: والعدو متقى، والعطيات دارة، وذات البين حسن، والخير كثير، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمناً، من لقي من الأحياء فهو أخوة ومؤدته ونصرته والفتنة إن سل عليه سيفاً.

_ = هجع: مضي هجع من اللي، أي طائفة منه. إبهار: الليل: إذا مضي نصفه، وبهره كل شيء: ويبسطه، وقيل: معظمه، والبهر: الضوء. 1626 - المستدرك (3/ 98) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. معتجر: اعتجر فلان بالعمامة: لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه. 1627 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 93) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

1628 - * روى أحمد والطبراني عند عبد الله بن حوالة قال: أتيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل دومة وعنده كات بيملي عليه فقال: "ألا نكتبك يا ابن حوالة" قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، فأعرض عني وقال إسماعيل مرة فأكب يملي عليه ثم قال: "ألا نكتبك يا ابن حوالة" قلت: ما أدري ما خار الله لي ورسوله، فأعرض عني وأكب على كاتبه يملي عليه قال: فنظرت فإذا في الكتاب عمر، فعرفت أن عمر لا يكتب إلا في خير ثم قال: "أنكتبك يا ابن حوالة" قلت: نعم. قال "ابن حواة، كيف تفعل في فتن تخرج من أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟ " قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، قال: "اتبعوا هذا" ورجل مقف حينئذ، فانطلقت فسعيت فأخذت بمنكبه، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت هذا؟ قال: "نعم" فإذا هو عثمان بن عفان. 1629 - * روى الحاكم عن أبي حبيبة أنه دخل الدار وعثمان رضي الله عنه محصور فيها وإنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله تعالي وأثني عليه، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ستلقون بعدي فتنة واختلافاً، أم قال: اختلافاً وفتنة" فقال له قائل: يا رسول الله بم تأمرنا؟ قال: "عليكم بالأمير وأصحابه" وهو يشير بذلك إلى عثمان رضي الله عنه 1630 - * روى أحمد عن أبي عون الأنصاري أن عثمان بن عفان قال لابن مسعود هل أنت منته عما بلغني عنك؟ فاعتذر عليه بعض العذر فقال عثمان: ويحك إني قد حفظت

_ 1628 - أحمد في مسنده (4/ 109)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 88): رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح. الدومة: شجرة عظيمة، وقيل شجرة المقل. صياصبي يقر: أي قرونها، واحدتها صيصة، شبه الفتنة بها لشدتها وصعوبة الأمر فيها، وكل شيء امتنع به وتحصن به فهو صيصة. رجل مقف: أي مول ذاهب. 1629 - المستدرك (4/ 432) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1630 - أحمد في مسنده (1/ 66)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 227) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات. =

وسمعت وليس كما سمعت، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه سيقتل أمير وينتزي منتز" وإني أنا المقتول وليس عمر إنما قتل عمر واحد وإنه يجتمع علي. 1631 - * روى الحاكم عن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر فتنة فقربها، فمر به رجل مقنع في ثوب فقال: "هذا يومئذ على الهدى" فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقبلت إليه بوجهه فقلت هو هذا. قال: "نعم". 1632 - * وروى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أدعوا لي - أو- ليت عندي رجلاً من أصحابي" قالت: قلت أبو بكر؟ قال: "لا" قلت: عمر. قال: "لا" قلت أبن عمك علي. قال: "لا" قلت فعثمان. قال: "نعم" قالت: فجاء عثمان فقال: "قومي" قال فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير. قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلى أمراً فأنا صابر نفسي عليه 1633 - *روى أحمد وأبو يعلي والبزار والطبراني عن شقيق قالك لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد مالي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان قال: أبلغه عن أني لم أفر يوم عينين - قال عاصم يوم أحد - ولم أتخف عن بدر ولم أترك سنة عمر قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان قال: فقال أما قوله إني لم أفر يوم عينين فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقبة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ومن ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد وأما قوله: إني لم أترك سنة عمر فإني لا أطيقها أنا

_ = ينتز منتز: الانتزاء، والتنزي: تسرع الإنسان إلى الشر. 1631 - المستدرك (3/ 102) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجا وأقره الذهبي. 1632 - المستدرك (3/ 99) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. 1633 - أحمد في مسنده (1 - 76) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 83): رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني باختصار والبزار بطوله بنحوه، وفيه عاصم بن بهدلة وهو حسن الحديث رجاله ثقات.

ولا هو فائتة فحدثه بذلك. 1634 - * روى البزار عن سعيد بن المسيب قال: رفع عثمان صوته على عبد الرحمن ابن عوف فقال له: لأي شيء ترفع صوتك على وقد شهدت بدراً ولم تشهد وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تبايع وفررت يوم احد ولم أفر فقال له عثمان: أما قولك أنك شهدت بدراً ولم أشهد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني على ابنته وضرب لي بسهم وأعطاني أجري وأما قولك بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أبايع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى أناس من المشركين وقد علمت ذلك فلما احتبست ضرب بيمينه على شماله فقال هذ لعثمان بن عفان فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يميني وأما قولك فررت يوم التقي الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} فلم تعيروني بذنب قد عفا الله عنه. أقولك هاتان الروايتان مهمتان في تعليل مجريات الأمور زمن عثمان رضي الله عنه، فعبد الرحمن بن عوف هو الذي قدم عثمان وبايعه على سنة أبي بكر وعمر، وتراه في هاتين الروايتين وهو عائب ناقد، مما يشير إلى أن كبار الصحابة لم يكونوا مرتاحين لسياسة عثمان وهذا الذي أعطي الفتنة وأهلها الفرصة أن يشوشوا، وفي ذلك درس للأمراء أن يلحظوا آراء كبار الناس يهم، وأن يعدلوا سياستهم على ضوء الصالح منها (1) مع ملاحظة أن ما فعله عثمان لا يخرج عن كونه مباحاً، ولكن ألفوا سياسية عمر التي تأخذ في العزائم وتبتعد عن الرخص فلم يعودوا يرضون بسياسة أقل من ذلك، وهذا تصديق لما توقعه علي أن سياسة عمر ستتعب كل من سيأتي بعده. 1635 - * روى النسائي عن الأحنف بن قيس قال خرجنا حجاجاً فقدمنا المدينة ونحن نريد الحجج، فبينا نحن في منازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت، فقال: إن الناس قد اجتمعوا في المسجد وفزعوا فانطلقنا، فإذا الناس مجتمعون على نفر في وسط المسجد وإذا

_ 1634 - البزار: كشف الأستار (3/ 178)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 84): رواه البزار وإسناده حسن. 1635 - النسائي (6/ 334) كتاب الأحباس، باب وقف المساجد.=

علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، فإنا لكذلك إذا جاء عثمان بن عفان عليه ملاءمة صفراء قد قنع بها رأسه فقال: أههنا علي، أههنا طلحة، أههنا الزبير، أههنا سعد، قالوا: نعم. قال: فإني أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له" فابعتثه بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "أجعلها في مسجدنا وأجره لك" قالوا: اللهم نعم، قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يبتاع بئر رومة غفر الله له"فابتعته بكذا وكذا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قد ابتعتها بكذا وكذا قال: "أجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك" قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم فقال: "من جهز هؤلاء غفر الله له" يعني جيش العسرة، فجهزتهم حتى ما يفقدون عقالاً ولا خطاماً قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم أشهد اللهم أشهد. 1636 - * روى الترمذي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن عثمان بن عفان اشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرؤ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زناً بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق، فيقتل به؟ "فو الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلونني؟ وفي رواية النسائي (1) عن أبي أمامة بن سهل، وعبد لله بن عامر بن ربيعة قال: كنا مع عثمان وهو محصور، وكنا إذا دخلنا مدخلاً نسمع كلام من بالبلاط، فدخل عثمان يوماً،

_ = الملاءة: الإزار يرتدي به، ويتشح به. المرتد: موقف الإبل. أنشدكم: أي أسألكم وأقسم عليكم. 1636 - الترمذي (4/ 460) 34 - كتاب الفتن -1 - باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث. وقال: هذا حديث حسن حسن. البلاط: ضرب من الحجارة تفرش به الأرض ثم سمي المكان بلاطاً اتساعاً. (1) النسائي (7/ 92) كتاب تحريم الدم، باب ذكر ما يحل به دم المسلم.

ثم خرج فقال: اللهم إنهم ليتواعدوني بالقتل، قلنا: يكفيكهم الله، قال: ولم يقتلونني؟ سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: ... وذكر الحديث بنحوه. 1637 - * روى البخاري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره: أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، قال: يا أيها المرء منك، قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك- فأنصرفت فرجعت إليهما، إذا جاء رسول عثمان: فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هدية، وقد أكثر الناس في شأن الوليد، قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: لا، ولكن خلص إلى من علمه ما يخلص إلى العذارء في سترها. قال: أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وأمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين - كما قلت- وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فو الله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي هم؟ قلت: بلي قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله، ثم دعا علياً فأمره أن يجلد، فجلده ثمانين (1) قوله: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ كأنهم كانوا يتكلمون في سبب تأخيره في إقامة الحد عليه، قال الحافظ في "الفتح" وإنما أخر إقامة الحد عليه ليكشف عن حال من شهد عليه بذلك، فلما وضح الأمر أمر بإقامة الحد عليه.

_ 1637 - روى البخاري (7/ 53) - كتاب فضائل الصحابة -7 - باب مناقب عثمان بن عفان. الهجرة: فراق الرجل وطنه إلى بلد آخر فراراً بدينه من الكفر، والهجرتان: هما: الهجرة الأولى، وهي هجرة المسلمين في صدر الإسلام إلى الحبشة، فراراً من أذي قريش، وهجرة ثانية، هي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قبله ومعه وبعده إلى المدينة، فكان عثمان رضي الله عنه ممن هاجر الهجرتين. الهدي: السمت والطريقة والسيرة. العذراء: البكر المخدرة التي لم تتزوج بعد.

قوله: فجلده ثمانين: قال الحافظ في "الفتح" في رواية معمر" فجلد الوليد أربعين جلدة، وهذه الرواية أصح من رواية يونس، والوهم فيه من الراوي عن شيب بن سعيد، ويرجح رواية معمر ما أخرجه مسلم من طريق أبي ساسان قال: شهدت عثمان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم فشهد رجلان أحدهما حمران يعني مولى عثمان أنه. قد شرب الخمر، فقال عثمان: يا علي فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: امسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، فقال: امسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي، والمعني وجلد أربعين أحب إلى من الثمانين 1638 - * روى الترمذي عن ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائتنوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي قال: فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: "من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي؟ فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر، قالوا: اللهم. نعم قال: أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بقعة أل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة؟ " فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلى فيها ركعتين قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العشرة من مالي؟ قال: اللهم نعم، ثم قال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1638 - الترمذي (5/ 627) 50 - كتاب المناقب -19 - باب في مناقب عثمان بن عفان، وقال: هذا حديث حسن. وإسناده ضعيف وله شواهد بمعناه. ألبت: عليه الناس: أي: جمعتهم عليه، وحملتهم على قصده، وصار القوم على فلان ألبا واحداً، أي: اجتمعوا عليه يقصدونه. استعذب الماء: أي: وجد عذباً وهو الماء المشروب الحلو الطيب.=

كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال: فركضعه برجله وقال: "اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان؟ " قالوا: اللهم نعم قال: الله أكبر، شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثاً. 1639 - * روى البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب رحمه الله قال: جاء رجل من أهل مصر وحج البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر: قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أن تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم. قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر قال ابن عمر: تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد برداً وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان" فقال له ابن عمر: أذهب بها الآن معك 1640 - * روى أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وأنا أعرض عليك خصالاً ثلاثاً فاختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عدداً وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق لك باباً سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن

_ = الحشيش: ضد الأموج، وهو أسفل كل عال، كما أن الأوج: أعلاه. 1639 - البخاري (7/ 54) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 7 - باب مناقب عثمان بن عفان. 1640 - أحمد في سنده (1/ 67) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 229): رواه أحمد ورجاله ثقات إلى أن محمد ابن عبد الملك بن مروان لم أجد له سماعاً من المغيرة، ولهذا الحديث طرق في فضل مكة في الحج.

أخرج فأقاتلهم فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم"، فلن أكون أنا إياه وأما أن الحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1641 - * روى الطبراني عن النعمان بن بشير قال مات رجل منا يقال له زيد بن خارجة فسجيناه بثوب وقمت أصلى إذا سمعت ضوضاء، فانصرفت فإذا أنا به يتحرك فقال: أجلد القوم أوسطهم عبد الله عمر أمير المؤمنين القوى في أمره القوي في أمر الله عز وجل عثمان بن عفان أمير المؤمنين العفيف المتعفف الذي يعفو عن ذنوب كثيرة، خلت ليلتان وبقيت أربع واختلف الناس ولا نظام لهم. يا أيها الناس أقبلوا على إمامكم وأسمعوا وأطيعوا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة ثم قال وما فعل خارجة؟ يعني أباه (وكان قد استشهد في أحد) ثم قال أخذت بئر أرس ظلماً ثم هدأ الصوت. 1642 - * البزار عن أبي سعيد مولى أبي أسيد، قال: بلغ عثمان، أن وفد أهل مصر، قد أقبلوا فتلقاهم في قرية له، خارجاً من المدينة، وكره أن يدخلوا عليه، أو كما قال، فلما علموا بمكانه، أقبلوا إليه، فقال: ادع لنا بالمصحف، فدعي، يعني به فقال. افتح، فقرأ حتى انتهي إلى هذه الآية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (1) فقالوا: أحمى الله أذن لك به أم على الله تفتر، فقال: امض، نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى، فإن عمر حمى الحمى لإبل الصدقة، فلما وليست، فعلت الذي فعل، وما زدت على ما زاد،

_ 1641 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 230): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. سجيناه: غطيناه. زيد بن خارجة: هو ابن أبي زهير الأنصاري، صحابي بدري، توفي في خلافة عثمان، وهو الذي تكلم بعد موته. 1642 - البزار: كشف الأستار (4/ 89). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 228): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو ثقة. ماء البحر: أي ماء ملحاً كماء البحر. (1) يونس: 59.

قال: ولا أراه إلا قال: وأنا يومئذ ابن كذا سنة، قال: ثم سألوه عن أشياء، جعل يقول: أمضه، نزلت في كذا وكذا، ثم سألوه عن أشياء، عرفها، لم يكن عنه فيها مخرج، فقال: استغفر الله، ثم قال: ما تريدون؟ قال: نريد أن لا يأخذ أهل المدينة العطاء، فإن هذا المال، للذي قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد قال: فرضي ورضوا، قال: وأخذوا عليه، قال: وكتبوا عليه كتاباً، وأخذ عليهم أن لا يشقوا غصاً، ولا يفارقوا جماعة، قال: فرضي ورضوا، فأقبلوا معه إلى المدينة، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: إني والله ما رأيت وفداً هم خير من هذا الوفد، ألا من كان له زرع، فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع، فليحتلبه، ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال، لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد، قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بنى أمية، ورجع الوفد، راضون، فلما كان ببعض الطريق، إذا راكب، يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ويعود إليهم، ويسبهم، فأخذوه، فقالوا: ما شأنك؟ إن لك لشأنا، قال: أنا رسول أمير المؤمنين، إلى عامله بمصر، ففتشوه، فإذا معه كتاب، على لسان عثمان، عليه خاتمه، أن يصلبهم، أو يضرب أعناقهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، قال: فرجعوا وقالوا: قد نقض العهد، وأحل الله ذمة، فقدموا المدينة، فأتوا علياً، فقالوا: ألم تر؟ إلى عدو الله، كتب فينا بكذا وكذا، قم معنا إليه، فقال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا، قال: والله ما كتبت إليكم كتاباً قط، فنظر بعضهم على بعض، ثم بعضهم: ألهذا تقاتلون أم لهذا تغضبون؟ وخرج علي، فنزل قرية خارجاً من المدينة، فأتوا عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، قال: إنما هما اثنتان، أن تقيموا شاهدين، أو يمين بالله ما كتبت، ولا أمليت، ولا علمت، وقد تعلمون الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم، قال: فحصروه، فأشرف عليهم ذات يوم، فقال: السلام عليكم فما أسمع أحداً على الخاتم، قال: فحصروه، فأشرف عليهم ذات يوم، فقال: السلام عليكم فما أسمع أحداً رد عليه، إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال، أنشدكم بالله، أعلمتم أني اشتريت رومة من مالي، استعذب بها، فجعلت رثائي فيها كرشاء رجل من المسلمين؟ قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني أشرب من مائها، حتى أفطر على ماء البحر؟ قال: نشدتكم بالله، علمتم أني اشتريت كذا وكذا، من مالي، فزدته في المسجد، قالوا: نعم، قال: فهل علمتم أن أحداً منع فيه الصلاة قبلي، ثم ذكر أشياء،

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأراه ذكر كتاباته المفصل بيده، قال ففشا النهي، وقيل: مهلاً عن أمير المؤمنين. 1643 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة، فقال: "يقتل فيها هذا مظلوماً" لعثمان. 1644 - * روى أحمد والطبراني عن قتادة أن عثمان قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة. 1645 - *روى الطبراني عن الزبير بن بكار قال: قتل عثمان بن عفان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وكان يومه صائماً. 1646 - * روى عن عبد الله بن أحمد وأبو يعلي عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان بن عفان أعتق عشرين عبداً مملوكاً، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام وأبا بكر وعمر فقالوا لي أصبر فإنك تفطر عندنا القابلة ثم دعا بمصحف فنشره بينيديه فقتل وهو بين يده 1647 - * روى الطبراني عن يزيد بن أبي حبيب: أن عامة الركب الذين ساروا إلى عثمان جنوا. يحتمل النص أن من سار إلى عثمان كان في حالة جنونية من السفه، لأن المعروف أن

_ 1643 - الترمذي (5/ 630) 50 - كتاب المناقب -19 - باب في مناقب عثمان بن عفان. وقال: هذا حدث حسن غريب. 1644 - أحمد في مسنده (1/ 74). والمعجم الكبير (1/ 78)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 19): رواه أحمد والطبراني ورجاله إلى قتاده ثقات، إلا أن قتادة لم يدرك عثمان. 1645 - المعجم الكبير (1/ 77). 1646 - عبد الله في زيادته على المسند (1/ 72)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 96)، رواه عبد الله وأبو يعلي في الكبير ورجالهما ثقات. 1647 - المعجم الكبير 1/ 88) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 94): رواه الطبراني وإسناده حسن.

بعض الذين ساروا إلى عثمان ولوحقوا فيما بعد قتلوا وهم في حالة عادية من العقل. 1648 - *روى الحاكم عن عمير بن سعيد قال أراد علي أن يسير إلى الشام إلى صفين، واجتمعت النخع حتى دخلوا على الأشتر بيته فقال: هل في البيت إلا نخعي قالوا: لا قال: إن هذه الأمة عمدت إلى خير أهلها فقتلوه، يعني عثمان، وإنا قاتلنا أهل البصرة بيعه تأولنا عنه وإنكم، تسيرون إلى قوم ليس لنا عليهم بيعة، فيلنظر كل امرئ أين يضع سيفه. 1649 - * روى الحاكم عن قيس بن عباد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا استحي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس فسألوني البيعة، فقلت اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى 1650 - *روى الطبراني عن عبد الله بن سلام أنه قال حين هاج الناس في أمر عثمان: أيها الناس لا تقتلوا هذا الشيخ، واستعتبوه فإنه لن تقتل أمة نبيها فيصلح أمرهم حتى يهراق دماء سبعين ألفاً منهم، ولن تقتل أمة خليفتها فيصلح أمرهم حتى يهراق دماء أربعين ألفاً منهم، فلم ينظروا فيما قال: وقتلوه فجلس لعلي في الطريق فقال: أين تريد؟ فقال: أريد أرض العراق، قال: لا تأت العراق وعليك بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبت به (أي عليه) أناس من أصحاب علي وهموا به، فقال علي: دعوه فإنه مننا أهل

_ 1648 - المستدرك (3/ 107) وقال: هذا حديث وإن لم يكن له سند، فإنه معقد صحيح الإسناد في هذا الموضع، وقال الذهبي: صحيح على شرط مسلم. 1649 - المستدرك (3/ 95) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاء واقره الذهبي. 1650 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 93): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

البيت، فلما قتل علي قال عبد الله بن معقل: لهذه رأس الأربعين وسيكون على رأسها صلح ولن تقتل أمة نبيها إلا قتل به سبعون ألفاً، ولن تقتل أمة خليفتها إلا قتل به أربعون ألفاص. 1651 - * روى الطبراني عن مالك بن أنس: قال قتل عثمان فأقام مطروحاً على كناسة بني فلان ثلاثاً، وأتاه أثنا عشر رجلاً منهم جدي مالك بن أبي عامر وحويطب ابن عبد العزي وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت عثمان معهم مصباح في حق، فحملوه على باب وإن رأسه تقول على الباب طق، طق، حتى أتوا به البقيع فاختلفوا في الصلاة عليه فصلى عليه حكيم بن حزام أو حويطب بن عبد العزي- شك عبد الرحمن - ثم أرادوا دفنه فقام رجل من بني مازن، فقال: لئن دفنتموه مع المسلمين لأخبرن الناس غداً، فحملوه حتى أتوا به حش كوكب، فلما دلوه في قبره صاحت عائشة بنت عثمان فقال لها ابن الزبير: اسكتي فوالله لئن عدت لأضربن الذي فيه عينك، فلما دفنوه وسوا عليه التراب قال لها أبن الزبير: صيحي ما بدا لك، أن تصيحي قال مالك: وكان عثمان قبل ذلك يمر بحش كوكب فيقول: ليدفنن هاهنا رجل صالح. 1653 - * روى الطبراني عن أبي الأسود الديلي قال: سمعت أبا بكرة يقول: لأن أخر من السماء فأنقطع، أحب إلى من أكون شركت في دم عثمان. 1653 - * روى الطبراني عن جبير بن نفير قال: بينا نحن معسكرون مع معاوية بعد قتل عثمان، فقام مرة بن كعب البهزي فقال: أنا والله لولا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت هذا المقام، فلما سمع معاوية ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس الناس قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذا مر بنا عثمان بن عفان مترجلاً معنقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1651 - المعجم الكبير (1/ 78) وقال الهيثمي في جمع الزوائد (9/ 95) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. مصباح في حق: أي في وعاء من زجاج. حش كوكب: بستان بظاهر المدينة خارج البقيع، وكوكب أسم رجل. 1652 - المعجم الكبير (1/ 68) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 93) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1653 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 89): رواه الطبراني ورجاله وثقوا. معنقا: مسرعاً.

"لتخرجن فتنة من تحت رجلي أو من تحت قدمي هذا، ومن اتبعه يومئذ على الهدي" فقمت حتى أخذت بمنكبي عثمان حتى بينته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: "نعم هذا، ومن اتبعه يومئذ على الهدي" فقام عبد الله بن حوالة الأزدي من عند المنبر فقال: إنك لصاحب هذا، قال: نعم، قال: أما والله إني حاضر ذلك المجلس ولو كنت أعلم أن لي في الجيش مصدقاً لكنت أول من تكلم به. أقول: في هذه الرواية صورة عن الأمور التي كانت تثبت المطالبين بدم عثمان فتجعلهم قلباً واحداً، كما أن أمثال هذه الروايات -مما سيمر معنا نموذج عنها - هي التي جعلت بعض المؤمنين بحق علي في الخلافة لا يتحمسون للخروج والقتال معه، ومن ههنا نفهم أن القتال بين الطرفين كانت له مسوغاته عند كل واحد منهم. 1654 - * روى البخاري عن يزيد بن أبي عبيد رضي الله عنه قال: لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاً، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها. 1655 - * روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عبيد: أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، ارتددت على عقبيك، تعزبت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو. وفي رواية (3) النسائي إلى قوله: عقبيك قال: وذكر كلمة معناها "وبديت" وذكر باقية. قال ابن الأثير: (تعزبت) تعزب: بعد، تقول: عزب الشيء يعزب، ويعزبك إذا بعد، والمراد: بعدت عن الجماعات والجمعات بالتزامك سكني البادية، هكذا شرحه الحميدي في كتابه، وقال الأزهري: تعرب الرجل - بالراء المهملة- إذا عاد إلى الأعراب بعد الهجرة،

_ 1654 - البخاري (13/ 40) 92 - كتاب الفتن- 14 - باب التعريب في الفتنة. 1655 - البخاري في نفس الموضع السابق. ومسلم (3/ 1486) 33 - كتاب الإمارة 19 - باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه. (1) النسائي (7/ 151) كتاب البيعة، باب المرتد أعرابياً بعد الهجرة.

وأقام بالبادية، والذي جاء في كتاب مسلم الذي قرأناه: تعربت ـ بالراء المهملة-. (وبديت) البدو: الخروج إلى البادية تقول: بدوت أبدو، وقد جاء في هذا الحديث "بديت" بالياء، ولعله سهو من الراوي، أو الكاتب، والأصل ما ذكرناه، أهـ كلام ابن الأثير. أقول: في هذا الحديث إشارة إلى أن سلمة راي الفتنة بدأت بمقتل عثمان فاعتزل الناس. 1656 - * روى الطبراني عن حميد بن هلال قال: لما هاجت الفتنة قال عمران بن حصين لحجير بن الربيع العدوي: اذهب إلى قومك فإنهم عن الفتنة قال: إني لمغموز فيهم وما أطاع قال: فأبلغهم عني وإنهم عنها. قال وسمعت عمران يقسم بالله لأن أكون عبداً حبشياً أسود في أعنز حصبات في رأس جبل ارعاهن حتى يدركني أجلي أحب إلى أن أرمي أحد الصفين بسهم أخطأت أم أصبت. 1657 - * روى الطبراني عن زهدم الجرمي قال: خطبنا ابن عباس فقال: لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء. 1658 - * روى الطبراني عن طليق بن خشاف يقول: وفدنا إلى المدينة لننظر فيم قتل عثمان؟ فلما قدمنا مر منا بعض إلى علي وبعض إلى الحسينبن علي رضي الله عنهما وبعض إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فانطلقت حتى أتيت عائشة فسلمت عليها فردت السلام، فقالت: ومن الرجل؟ قلت: من أهل البصرة، فقالت: من أي أهل البصرة؟ قلت: من بكر بن وائل، قالت: من أي بكر بن وائل؟ قلت: من بني قيس بن ثعلبة، قالت: أمن أهل فلان؟ فقلت لها: يا أم المؤمنين فيم قتل عثمان أمير المؤمنين رضي الله

_ 1656 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. أعاز حصبات: حصبات: جمع حصبة وهي العازة العجفاء كالحجارة. 1657 - المعجم الكبير (1/ 84) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 97) رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجال الكبير رجال الصحيح. 1958 - المعجم الكبير (1/ 88) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 97) ورجاله رجال الصحيح غير طلق وهو ثقة. وعنده طلق وليس طليق.

عنه؟ قالت: قتل والله مظلوماً، لعن الله قتلته أقاد الله ابن أبي بكر به وساق الله إلى أعين بني تميم هواناً في بيته واهراق الله دماء بني بديل على ضلالة وساق الله إلى الأشتر سهماً من سهامه، فو الله ما من القوم رجل إلا أصابته دعوتها. 1659 - * روى الطبراني عن عدي بن حاتم قال: قال رجل لما قتل عثمان: لا ينتطح فيها عنزان: قلت: بلى وتفقاً فيها عيون كثيرة. 1660 - * روى الطبراني عن عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام استأذن على الحجاج بن يوسف، فأذن له، فدخل وسلم وأمر رجلين مما يلي السرير أن يوسعا له فأوسعا له فجلس فقال له الحجج: لله أبوك، أتعلم حديثاً حدثه أبوك عبد الملك ابن مروان عند جدك عبد الله بن سلام قال: فأي حديث رحمك الله؟ فرب حديث، قال: حديث المصريين حين حصروا عثمان محصور فانطلق فدخل عليه فوسعوا له، حتى دخل فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين. فقال: وعليك السلام، ما جاء بك يا عبد الله بن سلام؟ قال: جئت لأثبت حتى أستشهد أو يفتح الله لك، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قاتليك فإن يقتلوك فذاك خير لك وشر لهم. فقال عثمان: أسألك بالذي لي عليك من الحق لما خرجت إليهم، خير يسوقه الله بك وشر يدفعه بك الله، فسمع وأطاع فخرج عليهم فلما رأوه اجتمعوا وظنوا أنه قد جاءهم ببعض ما يسرون به، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً يبشر بالجنة من أطاعه وينذر بالنار من عصاه وأظهر من اتبعه على الدين كله ولو كره المشركون، ثم اختار له المساكن فاختار له المدينة فجعلها دار الهجرة وجعلها دار الإيمان، فو الله ما زلت الملائكة حافين بالمدينة منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وما زال سيف الله مغموداً عنكم منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ثم قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق فمن اهتدى فإنما يهتدي بهدي الله ومن ضل فإنما

_ =ابن أبي بكر: هو أخوها محمد وكان هو والآخرون من المشاركين في قتل عثمان. 1659 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 95): رواه الطبراني وإسناده حسن. لا ينتطح فيها عنزان: أي لن يختلف الناس بسبب ذلك. 1660 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 92): رواه الطبراني ورجاله ثقات.=

يضل بعد البيان والحجة، وإنه لم يقتل نبي فيما مضي إلى قتل به سبعون ألف مقاتل كلهم يقتل به، ولا قتل خليفة قط إلا قتل به خمسة وثلاثون ألف مقاتل، كلهم يقتل به، فلا تعجلوا على هذا الشيخ بقتل، فو الله لا يقتله رجل منكم إلا ولهذا الشيخ عليكم مثله قال فقاموا فقالوا: كذبت اليهود كذبت اليهود فقال: كذبتم والله وأنتم آثمون ما أنا يهودي وإني لأحد المسلمين يعلم الله بذلك ورسوله والمؤمنون، وقد أنزل الله في القرآن {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (1)، وقد أنزل الآية الأخرى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (2) قال: فقاموا فدخلوا على عثمان فذبحوه كما يذبح الحلان قال شعيب: فقلت لعبد الملك بن عمير: ما الحلان؟ قال: الحمل، قال: وقد قال عثمان لكثير من الصلت: يا كثير أنا والله مقتول غداً، قال: بل يعلي الله كعبك ويكبت عدوك، قال: ثم أعادها الثالثة فقال مثل ذلك، قال: عم تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر فقال لي: "يا عثمان أنت عندنا غداً وأنت مقتول غداً" فأنا والمقتول قال: فقتل فخرج عبد الله بن سلام إلى القوم قبل أن يتفرقوا فقال: يا أهل مصر يا قتلة عثمان قتلتم أمير المؤمنين أما والله لا يزال عهد منكوث ودم مسفوح ومال مقسوم لا سقيتم. 1661 - * روى الطبراني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لما ضرب الرجل يد عثمان ال: إنها لأول يد خطت المفصل. 1662 - * روى أحمد عن أبي عبد الله الجسري قال: دخلت على عائشة وعندها حفصة بنت عمر فقالت لي: هذه حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليها فقالت: أنشدك الله

_ = الحلان: أو الحلام، الجدي أو الحمل والمقصود أن دمه أبطل كما يبطل دم الحلان. (1) الرعد: 43. (2) الأحقاف: 10. 1661 - المعجم الكبير (1/ 84) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 14): رواه الطبراني وإسناده حسن. 1662 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 90): رواه أحمد كله.

أن تصدقيني بكذب أو تكذبيني بصدق، تعلمين أني كنت أنا وأنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمي عليه فقلت لك: أترينه قد قبض؟ قلت: لا أدري، ثم أفاق قال: "افتحوا له الباب" ثم أغمي عليه، فقلت لك: أترينه قد قبض؟ قلت: لا أدري. ثم أفاق قال: "افتحوا له الباب" ثم أغمي عليه، فقلت لك: أترينه قد قبض؟ لا أدري، ثم أفاق قال: "أفتحوا له الباب" فقلت لك: أبي أو أبوك؟ قلت: لا أدري، ففتحنا له الباب فإذا عثمان ابن عفان فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادنه" فأكبعليه فساره شيء لا أدري أنا وأنت ما هو، ثم فع رأسه فقال: "أفهمت ما قلت لك؟ " قال: نعم، قال: "ادنه" فأكب عليه أخرى مثلها فساره بشيء لا ندري ما هو ثم رفع رأسه فقال: "أفهمت ما قلت لك؟ " قال: نعم قال: "ادنه" فأكب عليه إكباباً شديداً فساره شيء ثم رفع رأسه فقال: "فهمت ما قلت لك؟ "قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقال له: "أخرج" قال: فقالت حفصة: اللهم نعم، أو قالت: اللهم صدق. وفي رواية (1) للطبراني في الأوسط بنحوه وزاد: فقال: "يا عثمان عسي أن يقمصك الله قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه" ثلاث مرات فقال لها النعمان ابن بشير: يا أم المؤمنين أين كنت عن هذا الحديث؟ فقالت: نسيته ورب الكعبة حتى قتل الرجل. وفي رواية عند الطبراني (2) أيضاً: فما فجأني إلا وعثمان جاث على ركبتيه قائلاً أظلما وعدوانًا يا رسول الله؟ فحسبت أنه أخبره بقتله. * * *

_ (1) (2) عزاهما الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 90) إلى الطبراني وقال: أحد إسنادي الطبراني حسن.

تعليقات

تعليقات هؤلاء الذين ثاروا على عثمان أرادوا أن يتعجلوا انتهاء أمره فماذا حدث: كانت الأمة الإسلامية بخير وكانت في توسع مستمر وكانت الخيرات تنصب عليها من كل مكان، فانتقلت من هذه الحال فوقفت الفتوحات وأصبح بأس الأمة فيما بينها شديداً، تعجلوا أمر عثمان لأنه قرب أقرباءه فأل الأمر نتيجة لاستعجالهم إلى أن استقر في بني أمية وانتهت الخلافة الراشدة وجاء الملك العضوض، هذه عاقبة فعل أهل الشؤم هؤلاء. إن عثمان خليفة راشد يقتدي به وأفعاله تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج عن تقريب الأقربين، فإن عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين، فإن عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا أهل كفاءة، ومن تتبع سير ولاة عثمان لا يشك في كفاءتهم الإدارية، وكل ما أنكر على عثمان لا يخرج عن دائرة المباح فكيف ترتكب من أجل ذلك الجريمة الكبرى قتل عثمان رضي الله عنه؟ ومع إيماننا أن كل ما فعله عثمان هو محل القدوة وأنه قتل مظلوماً، ومع براءتنا إلى الله من دمه فإنه قد يكون من المناسب أن نأخذ دروساً مما حدث: إن عثمان خليفة راشد وهو أفضل خلق الله أثناء خلافته وله من القدم والسابقة الكثير الكبير، ثم هو الخليفة الشرعي للمسلمين وقتذاك بإجماع، ومع ذلك فقد حدث عليه تمرد وقامت فتنة انتهت بقتله عليه رضوان الله، وهذا يعطينا درساً هو أن الشرعية النظامية وحدها ليست كافية لاستقرار الحكم، هذا مع أن هذه الشرعية كان يرافقها رخاء عريض. هذا كله أمام قضية تحتاج إلى تحليل: لماذا انتفض الأمر على عثمان رضي الله عنه؟ لقد انتقض الأمر على عثمان رضي الله عنه لأسباب كثيرة أجملها بما يلي: بظهور الورع الجاهل، وتفتح الحاقدين على طرق للتآمر، وطموح الطامعين، والعفوية في التعامل مع المرحلة، وعدم مراعاة الرأي العام ونفسية المحكومين، أذكر ذلك ليأخذ المسلمون دروسها فيعرفوا أن الحكم هو الحكم، وأن الصلاح والسبق والقدم والوفاء كل ذلك إذا لم يرافقه قيام بشأن الحكم فإن الحكم يتعرض للتصدع والأمة تتعرض للهلاك، وهذا

شرح مختصر لأسباب الفتنة في اجتهادي

شرح مختصر لأسباب الفتنة في اجتهادي: 1 - ظهور الورع الجاهل: الورع في الشريعة طيب وهو أن يترك الإنسان ما لا بأس به مخافة مما فيه بأس، وهو في الأصل ترفع عن المباحات في الله ولله، والورع شيء شخصي يصح للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين، ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراماً أو مفروضاً، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة، ومن قبلهم وقع فيه أصحاب السامري، لقد أتي السامري قومه من فكرة الورع الجاهل هذه فقال لقوم موسي: إن هذا الذهب الذي أخذتموه من قوم فرعون ما كان يجوز لكم أن تأخذوه فهاتوه لنصنع به عجلاً، جاءهم من فكرة الورع مستغلاً جهلهم بأن ما فعله موسي مباح، لأن هذا مال حربيين، وهؤلاء أصحاب الفتنة أتوا إلى أفعال مباحة فعلها عثمان رضي الله عنه وكان من قبله يتحرج من أمثالها فجعلوا المباح حراماً، فاستغلوا الورع الجاهل عند أصناف من الناس فكانت الفتنة والمأساة. 2 - تآمر الحاقدين: لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد والذكاء والدهاء ما استطاعوا أن يستوعبوا الساحة النفسية للمجتمع الإسلامي وقتذاك، وأن يدركوا نقاط الضعف التي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا في المجتمع آذاناً صاغية تصغي لهم فكان من آثار ذلك ما كان. 3 - طموح الطامحين: وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة من يعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أن الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متي وجد الطامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفساً، فإنهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية. 4 - العفوية: أصبح في المجتمع الإسلامي مستجدات كثيرة نتيجة لتوسع رقعة الأرض الإسلامية ونتيجة

5 - عدم مراعاة الرأي العام السائد

لقلة جيل الصحابة بالنسبة لمجموع من دخل في الإسلام من جديد، ونتيجة لتفرق الصحابة في الأمصار، وكانت هذه المستجدات تحتاج إلى مبادرات تكافئها وإجراءات تتناسب معه، ولم يكن التركيب النفسي للمسلمين يسمع بهذه المبادرات، ولذلك بقيت العفوية هي التي تحكم الوضع الجديد مما أتاح للمتآمرين فرص الانقضاض. 5 - عدم مراعاة الرأي العام السائد: لقد كانت سياسة أبي بكر وعمر تقوم على الحذر والبعد عن أي مظنة تهمة، وألف المسلمون هذه السياسة حتى اعتبروها بدهية، وكان جزء من هذه السياسة عدم تقريب الأقارب وعدم استعمالهم على الولايات، فلما جاء عثمان كان الرأي العام السائد وقتذاك أن هذه الأمور يجب أن تراعي، فلما أحس الناس أن بني أمية قد أصبحت الأمور بيدهم وموقفهم من الإسلام قريب لم ينس بعد، ورأي الناس أن الذين ضحوا وبذلوا وجاهدوا وسبقوا لهم من الأمر شيء، دخلوا في دائرة التذمر أو اللامبالاة، ومتي وجد التذمر عند بعض الناس واللامبالاة عند الآخرين فالانفجار حاصل، وقد كان. ... هذه المعاني كلها توصلنا إلى الدرس التالي: إن الشرعية الدستورية وحدها ليست كافية لاستقرار الحكم إذا لم يرافقها تلاحم في الصف الأول وحرص عند هذا الصف على النظام، وإذا لم يرافقها قوة مبادرة تسبق المشكلة أو تحلها سريعاً وإذا لم يرافقها رؤية واضحة للواقع وحسن تعامل معه، ومع هذا كله لا بد من استشراف للتركيب النفسي للأمة وحسن تأت لتوجيه الوجهة الصالحة وجعله متفاعلاً مع النظام. ولا نريد بهذا الكلام أن نوجه نقداً لعثمان فقد كان يسير بسياسة يستقبلها الصديقون بالتسليم وكان يتعامل مع الناس ويعاملهم بروح الصديقين، ولكن المجتمع الإسلامي طرأت عليه طوارئ ومستجدات تجعلها نحاول أخذ العبرة، ونبرأ إلى الله عز وجل من كل من يظن سوءاً بعثمان أو ينتقصه.

على بن أبي طالب رضي الله عنه

على بن أبي طالب رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: على بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القوضي الهاشمي أبو الحسن .. أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح فربي في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه وشهد معه المشاهد إلى غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، وزوجة ابنته فاطمة وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد ولما أخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه قال له: أنت أخي، ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي، وقال غيره: وكان سبب ذلك بغض بني أمية له، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشاراً وقد ولد له الرافضة مناقب موضوعة هو غني عنها وتتبع النسائي ما خص به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد. يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه من الصحابة: ولده الحسن والحسين وابن مسعود وأبو موسي وابن عباس وأبو رافع وابن عمر وأبو سعيد وصهيب وزيد بن أرقم وجرير وأبو أمامة وأبو جحيفة والبراء بن عازب وأبو الطفيل وآخرون، ومن التابعين من المخضرمين أومن له رؤية: عبد الله بن شداد بن الهاد وطارق بن شهاب وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الحارث بن نوفل ومسعود بن الحكم ومروان بن الحكم وآخرون، ومن بقية التابعية عدد كثير من أجلهم أولاده محمد وعمر والعباس وكان قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام. وكان أحد الشورى الذين نص عليهم عمر فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف وشرط عليه شروطاً امتنع من بعضها، فعدل عنه إلى عثمان فقبلها، فولاه وسلم علي وبايع عثمان ولم يزل بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم متصدياً لنصر العلم والفتيا، فلما قتل عثمان بايعه الناس ثم كان من قيام جماعة من الصحابة منهم طلحة والزبير وعائشة في طلب دم عثمان، فكان من وقعة الجمل ما اشتهر ثم قام معاوية في أهل الشام وكان أميرها لعثمان ولعمر من

قبله فدعا إلى الطلب بدم عثمان فكان من وقعة صفين ما كان، وكان رأي على أنهم يدخلون في الطاعة ثم يقوم ولي دم عثمان فيدعي به عنده ثم يعمل معه ما يوجبه حكم الشريعة المطهرة وكان من خالفه يقول له: تتبعهم واقتلهم فيري أن القصاص بغير دعوي ولا إقامة بينه لا يتجه وكل من الفريقين مجتهد، وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شيء من القتال، وظهر بقتل عمار أن الصواب كان من علي واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القيدم، ولله الحمد. وقال يحيي بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن وقال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقول: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به، وقال وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل: كان علي يقول: سلوني سلوني وسلوني عن كتاب الله تعالي فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار. وأخرج الترمذي - وأصله في مسلم - من علي قال: لقد عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن, لا يبغضك إلا منافق وأخرج الترمذي بإسناده قوي عن عمران ابن حصين في قصة قال فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تريدون علي؟ إن علياً مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي" وفي مسند أحمد بسند جيد عن علي قال قيل: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا علياً وما أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم"وكان قتل علي في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر لأنه بويع بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وكانت وقعة الجمل في جمادي سنة ست وثلاثين ووقعة صفين في سنة سبع وثلاثين ووقعة النهروان مع الخوارج في سنة وثلاثين ثم أقام سنتين يحرض على قتال البغاة فلم يتهيأ لك إلى أن مات أهـ كلام الحافظ. وقال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الإمام على رضي الله عنه: أبو الحسن والحسين، ويكني بأبي تراب، وأبي القيم الهاشمي، ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته

فاطمة الزهراء، وأمة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ويقال إنها أو هاشمية ولدت هاشمياً، وكان له من الإخوة طالب، وعقيل، وجعفر، وكانوا أكبر منه، بين كل واحد منهم ويبين الآخر عشر سنين، وله أختان، أم هانئ وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت، كان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنهم وكان رابع الخلفاء الراشدين وكان رجلاً آدم شديد الأمة أشكل العينين (1)، عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى القصر أقرب، وكان عظيم اللحية، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض، أسلم علي قديماً، ويقال إنه أول من أسلم، والصحيح أنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار، وكان سبب إسلام على صغير أنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قد أصابتهم سنة مجاعة فأخذه من أبيه، فكان عنده، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي. وقد شهد علي بدراً وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذ فغلب وظهر، وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيده بن الحارث وخصومهم الثلاثة- عتبة وشيبة الوليد بن عتبة - نزل قوله تعالي: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (2) الآية، وقال الحكم وغيره عن مقسم عن ابن عباس قال: دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم بدر إلى علي وهو ابن عشرين سنة، وشهد على أحداً وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الأنصاري، وحمزة بن عبد المطلب على القلب، وعلى الرجالة الزبير بن العوام، وقيل المقداد بن الأسود، وقد قاتل على يوم أحد قاتلاً شديداً، وقتل خلقاً كثيراً من المشركين، وغسل عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير، عمرو بن

_ (1) أشكل العينين: في بياضهما شيء من حمرة، وهو محمود محبوب. (2) الحج: 19.

عبد ود العامري، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، وشهد علي عمرة القضاء وفيها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني، وأنا منك". وشهد الفتح وحنيناً والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالاً كثيراً، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي".وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً وحاكماً على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع إلى مكة، وساق معه هدياً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه. ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له العباس: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن الأمر بعده؟ فقال: والله لا أسأله، فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبداً، والأحاديث الصحيحة دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جداً إليه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه. ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد وكان بيدي يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يري طاعته فرضاً عليه، وأحب الأشياء إليه، ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر - وكانت قد تغضبت بعض الشيء على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه الصلاة والسلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فأبي ذلك عليها، فبقي في نفسها شيء كما قدمنا، واحتاج علي أن يداريها بعض المدارة- فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاروه في الأمور، ويقال إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام، وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الأمر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا، فقدم عثمان علي علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان

عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على المشهور عدل الناس إلى علي فبايعوه قبل أن يدفن عثمان، وقيل بعد دفنه وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب. وذكر سيف بن عمر عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر. والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم لا نولي أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد ابن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس، وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه النخعي وذلك يوم الخميس الرابع والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة الناس لهم في ذلك، وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد على المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون (1)، ثم الزبير، ثم قال الزبير: إنما بايعت عليًا واللج (2) على عنقي والسلام، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمسة بقين من ذي الحجة اهـ. ابن كثير. قال ابن حجرة: أخرج عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة من طريق المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: قال الأشتر: رأيت طلحة والزبير يبايعا غير مكرهين. وأخرج من طريق أبي نضرة، قال: كان طلحة يقول إنه بايع وهو مكره. ومن طريق ابن شهاب قال: ... ثم أرسل -أي علي- إلى طلحة والزبير فبايعاه ا. هـ

_ (1) وكأنه تشاءم من هذه البيعة، وأن الخلافة لن تستقر لعلي. (2) اللج: هو السيف بلغة طيء، وقيل هو اسم سمي به السيف.

من فتح الباري. وقال ابن كثير: وكان على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة، وعلى الحرب القعقاع ابن عمرو، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية ابن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب ابن مسلمة، وعلى الأردن أبو الأعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى قيسارية مالك بن حبيب، وعلى همذان جبيش. هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذين توفي وهم نواب الأمصار، وكان على بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت، ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها، فقطعت مع بعض الطف فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، ويحث بعضهم بعضًا على الأخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج: منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن ابن غنم، وغيرهم من التابعين. ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان: فاعتذر إليهم بأن هؤلاء مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة، ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه، فقال لهما: مهلاً علي، حتى أنظر في هذا الأمر. ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك

ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة

فقال له: إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس فقال: لقد نصحك بالأمس وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة فقال: نعم نصحته فلما لم يقبل غششته ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم طلحة والزبير: وكانوا قد استأذنوا عليًا في الاعتمار فأذن لهم، ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد، إلى أن يتمكن الأمر، وأن يقر معاوية خصوصًا على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أ، يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني أرى هذا ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس لعلي: إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده، فقال عليك والله إن هذا مالا يكون أبدًا، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم ونهى ابن عباس عليًا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار. وهذا موجز لما حدث في سني عهده رضي الله عنه: ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة: استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولى عى الأمصار نوابًا، فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية، فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية، فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام، فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك، وإن كان غيره فارجع. فقال: أو ما سمعتم الذي كان؟ قالوا: بى، فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميرًا على

الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضبًا لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره، وانتشرت الفتنة وتفاقم الأمر، واختلفت الكلمة، وكتب أبو موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتبًا كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طومارًا (1) مع رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد، وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة: وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصدًا إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله. أقول: وهو خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم عليه مطالبين بقتل قتلة عثمان، ومسيرهم إلى البصرة، وما جرى هنالك من وقائع مما ألجأ عليًا رضي الله عنه إلى المسير إلى البصرة، وكانت موقعة الجمل التي انتهت بانتصار علي رضي الله عنه. وقال ابن كثير: بعد أن ذكر مجريات الأمور حتى نهاية المعركة وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثًا صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشًا بصلاة من بينهم، ثم جمع ما

_ (1) طومارًا: جمعها طوامير، وهي الصحيفة.

وجد لأصحاب عائشة في المعسكر وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة. فمن عرف شيئًا هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحًا كان في الخزائن عليه سمة السلطان، وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي عليًا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليهم، فطعن فيه السبأية وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟ فبلغ ذلك عليًا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبأية أيضًا ونالوا منه من وراء وراء. أقول: ثم إن عليًا رضي الله عنه نهد إلى أهل الشام فالتقوا في أواخر السنة السادسة والثلاثين وكان قتال ودخلت سنة سبع وثلاثين والقتال مستمر. وقال ابن كثير: استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، والمقصود أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم. أقول: ولكن القتال استمر بعد ذلك فترة طويلة حتى إذا تضايق أهل الشام رفعوا المصاحف وتم الاتفاق على التحكيم، وكان قد قتل خلال ذلك عمار بن ياسر فعرف أن الحق بجانب علي رضي الله عنه، وقد ذكر ابن كثير مختصرًا لهذه الأيام فقال: وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تقانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير. كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم

يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفًا. خمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق. قاله غير واحد منهم ابن سيرين وسيف وغيره، وزاد أبو الحسن بن البراء -وكان في أهل العراق- خمسة وعشرون بدريًا، قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفًا واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر. وقال أبو الحسن بن البراء مائة وعشرة أيام. قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وسبعون يومًا فالله أعلم، وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسًا. هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم. ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين -على ومعاوية- رجلاً من جهته. ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة للمسلمين. فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس -وليته فعل- ولكنه منعه القراء وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري. ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يوخرا ذلك على تراض منهما، وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافى علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح. وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل الكوفة سمع رجلاً يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول: أخوك الذي إن أحرجتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لبثك راحما

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

وليس أخوك بالذي غن تشعبت ... عليك أمور ظل يلحاك لائما ثم مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الإمارة من الكوفة. ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من -اثنى عشر ألفًا- وهم الخوارج، وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له: حروراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها، فبعث إليهم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه. أقول: ولم ينبثق عن التحكيم شيء وزادت شرة الخوارج فقاتلهم الإمام علي وقتلهم والراجح أن ذلك كان في السنة الثامنة والثلاثين. وفي هذه السنة خرجت مصر من يد أمير المؤمنين علي وأصبحت في يد معاوية وانتفض على الإمام علي أمره. قال ابن كثير: قال الشعبي: لما قتل علي أهل النهر خالفه قوم كثير، وانتقضت أطرافه وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي إلى البصرة، وانتفض أهل الجبال، وطمع أهل الخراج في كسره وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس -وكان عاملاً عليها- فأشار عليه ابن عباس بزياد بن أبيه أن يوليه إياها فولاه إياها فسار إليها في السنة الآتية في جمع كثير، فوطئهم حتى أدوا الخراج. قال ابن جرير وغيره: وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس، نائب علي على مكة، وأخوه عبيد الله بن عباس نائب اليمن، وأخوهما عبد الله نائب البصرة، وأخوهم تمام ابن عباس نائب المدينة، وعلى خراسان خالد بن قرة اليربوعي وقيل ابن أبزى، وأما مصر فقد استقرت بيد معاوية فاستناب عليها عمرو بن العاص. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين: فيها جهز معاوية بن أبي سفيان جيوشًا كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي، أن ولايته وقعت الموقع، فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده، ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره، فلا يحصل بمباشرته المقصود

ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

من الإمارة والحالة هذه، فهو يزعم أنه أولى منه إذ كان الأمر كذلك. أقول: ثم دخلت سنة أربعين وقد بقي الحبل فيها مضطربًا والإمام علي يحاول لملمة الأمر وكاد أن يصل إلى هدنة مع معاوية ثم استشهد رحمه الله في هذه السنة. قال ابن كثير: قال جرير: وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها على وضع الحرب بينهما، وأن يكون ملك العراق لعلي ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجبيش ولا غارة ولا عزوة. ثم ذكر عن زياد عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه أن معاوية كتب إلى علي أما بعد فإن الأمة قد قتل بعضها بعضًا يعني فلك العراق ولي الشام، فأقر بذلك علي رضي الله عنه، وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر، وبعث الجيوش إلى بلاده، واستقر الأمر على ذلك. ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد تنغضت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا يمينًا وشمالاً، زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليًا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها؟ أي ما ينتظر؟ ماله لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه ويشير إلى لحيته من هذه ويشير إلى هامته. صفة مقتله رضي الله عنه: ذكر ابن جرير وغير واحد من علماء التاريخ والسير وأيام الناس: أن ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري ثم الكندي حليف بني حنيفة من كندة المصري، وكان أسمر حسن الوجه أبلح شعره مع شحمة أذنيه وفي وجهه أثر

السجود. والبرك بن عبد الله التميمي وعمرو بن بكر التميمي أيضًا -اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا؟ فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب. وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه فأما بان ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال لها قطام بنت الشجنة، قد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة به، وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه، فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسي حاجته التي جاء لها، وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادمًا وقينة؛ وأن يقتل لها علي بن أبي طالب. قال: فهو لك، والله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي، فتزوجها ودخل بها، ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجلاً من قومها، من تيم الرباب يقال له وردان، ليكون معه ردءًا، واستمال عبد الرحمن بن ملجم رجلاً آخر يقال له شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري. ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت، وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة -وهم ابن ملجم، ووردان، وشبيب- وهم مشتملون على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة، ويقول: الصلاة الصلاة فثار إليه شبيب بالسيف فضربه به فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه، ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ

مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (1) ونادى علي: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، ومسك ابن ملجم وقدم علي جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحمل علي إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف -قبحه الله- فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى. قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحًا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال له علي: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال: إن مت فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به، فقال جندب ابن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ بغيرها. وقد قيل إن آخر ما تكلم به {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2). وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر، والتعاهد بالقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش، ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرًا دونهما وكتب ذلك كله في كتاب وصيته رضي الله عنه وأرضاه. وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات. وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي يحيى قال: لما ضرب ابن ملجم عليًا قال لهم: افعلوا به كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله فقال: "اقتلوه ثم حرقوه". وروى ابن جرير قال: حدثني الحارث ثنا ابن سعد عن محمد بن عمر قال: ضرب علي يوم الجمعة فمكث يوم الجمعة ويوم السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة. ولما مات علي ولي غسله ودفنه أهله، وصلى عليه ابنه الحسن وكبر أربعًا، وقيل أكثر

_ (1) البقرة: 207. (2) الزلزلة: 7، 8.

من ذلك. ودفن علي بدار الخلافة بالكوفة وقيل تجاه الجامع من القبلة في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة، بحذاء باب الوراقين وقيل بظاهر الكوفة، وقيل بالكناسة، وقيل دفن بالبرية. وقال شريك القاضي وأبو نعيم الفضل بن دكين: نقله الحسن بن علي بعد صلحه مع معاوية من الكوفة فدفنه بالمدينة بالبقيع إلى جانب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عيسى بن دآب: بل لما تحملوا به حملوه في صندوق على بعير، فلما مروا به ببلاد طيء أضلوا ذلك البعير فأخذته طيء تحسب فيه مالاً، فلما وجدوا بالصندوق ميتًا دفنوه في بلادهم فلا يعرف قبره إلى الآن، والمشهور أن قبره إلى الآن بالكوفة كما ذكر عبد الملك ابن عمران أن خالد بن عبد الله القسري -نائب بني أمية في زمان هشام- لما هدم دورًا ليبنيها وجد قبرًا فيه شيخ أبيض الرأس واللحية فإذا هو علي، فأراد أن يحرقه بالنار فقيل له: أيها الأمير إن بني أمية لا يريدون منك هذا كله، فلفه في قباطي ودفنه هناك. قالوا: فلا يقدر أحد أن يسكن تلك الدار التي هو فيها إلا ارتحل منها. رواه ابن عساكر. ا. هـ ابن كثير. وقال الطبراني: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك يكنى أبا الحسن شهد بدرًا، قال وحدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: بلغني بنو هاشم أن أبا طالب اسمه بعد مناف بن عبد المطلب، وعبد المطلب اسمه شيبة بن هاشم، وهاشم اسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي، وقصي اسمه زيد، وقال الزبير بن بكار: أم علي بن أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد منافٍ بن قصي، ويقال إنها أول هاشمية ولدت لهاشمي، وقد أسلمت وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وماتت ودفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر بن لؤي (1). 1663 - * روى الحاكم عن زيد بان أرقم رضي الله عنه قال: إن أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

_ (1) رواها الطبراني في المعجم الكبير (1/ 92) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 100): وهو صحيح. 1663 - المستدرك (3/ 126) وقال هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

قال الحاكم: وإنما الخلاف في هذا الحرف أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أول الرجال البالغين إسلامًا، وعلي بن أبي طالب تقدم إسلامه قبل البلوغ. 1664 - * روى الطبراني عن الشعبي قال رأيت عليًا على المنبر أبيض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه، زاد يحيى بن سعيد في حديثه: على رأسه زغيبات. 1665 - * روى الطبراني عن شعبة قال: سألت أبا إسحاق: أنت أكبر من الشعبي؟ قال: الشعبي أكبر مني بسنةٍ أو سنتين. قال: ورأى أبو إسحاق عليًا وكان يصفه لنا: عظيم البطن أجلح، قال شعبة وكان أبو إسحاق أكبر من أبي البختري ولم يدرك أبو البختري عليًا ولم يره. 1666 - * روى الطبراني عن أبي رجاء العطاردي قال: رأيت عليًا سمتًا أصلع الشعر كأن بجانبه إهاب شاة. 1667 - * روى الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: خرج علينا علي بن أبي طالبٍ في الحر الشديد وعليه ثياب الشتاء، وخرج علينا في الشتاء وعليه ثياب الصيف، ثم دعا بما نشد به ثم مسح العرق عن جبهته ثم رجع إلى بيته فقتل لأبي: يا أبتاه أما رأيت ما صنع أمير المؤمنين، خرج علينا في الشتاء عليه ثياب الصيف وخرج علينا في الصيف وعليه ثياب الشتاء فقال أبو ليلى: ما فطنت. فأخذ بيد ابنه فأتى عليًا فقال له الذي صنع. فقال له علي: إن رسول الله صلى الله عليه سلم كان بعثني وأنا أرمد فبزق في عيني، ثم قال: "افتح عينيك" ففتحتهما فما اشتكيتهما حتى الساعة ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد" فما وجدت حرًا ولا بردًا حتى يومي هذا.

_ 1664 - المعجم الكبير (1/ 94) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 101): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1665 - المعجم الكبير (1/ 94) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 100): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. أجلح: الجلح: ذهاب الشعر من مقدم الرأس، يقال هو أجلح وهي جلحاء. 1666 - المعجم الكبير (1/ 95) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 100): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. سمتًا: حسن الهيئة. 1667 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

1668 - * روى النسائي عن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها صغيرة" فخطبها علي، فزوجها منه. 1669 - * روى الطبراني عن سلمان قال: أول هذه الأمة ورودًا على نبيها صلى الله عليه وسلم أولها إسلامًا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 1670 - * روى البزار والطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه نبي بعدي". وفي رواية الطبراني: "أنت مني بمنزلة هارون". 1671 - * روى الطبراني عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك". 1672 - * روى الترمذي عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بعث النبي صلى الله جيشًأ فيهم علي، قالت: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو رافع يديه: "اللهم لا تمتني حتى تريني عليًا". 1673 - * روى البزار عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي من فارقني فارق الله، ومن فارقك يا علي فارقني". 1674 - * روى الطبراني عن ابن عباس أن عليًا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن

_ 1668 - النسائي (6/ 62) كتاب النكاح، باب تزوج المرأة مثلها في السن، وإسناده حسن. 1669 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 102): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1670 - البزار: كشف الأستار (3/ 185) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 109). رواه البزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح غير أبي بلج الكبير وهو ثقة. 1671 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 203): رواه الطبراني وإسناده حسن. 1672 - الترمذي (5/ 643) 50 - كتاب للناقب- 21 - مناقب علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1673 - البزار: كشف الأستار (3/ 201) وقال الهيثمي مجمع الزوائد (9/ 135): رواه البزار ورجاله ثقات. 1674 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

الله عز وجل يقول: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. والله ني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني. 1675 - * روى البخاري ومسلم عن محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أن علي بن الحسين ابن علي حدثهم: أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مقتل الحسين بن علي لقيه المسور، فقال له: هل لك إلي حاجة تأمرني بها؟ قال فقلت له: لا، فقال: هل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه؟ وايم الله، لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبدًا، حتى تبلغ نفسي، إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره هذا -وأنا يومئذ محتلم- فقال: "إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها" قال: ثم ذكر صهرًا له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال: "حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حرامًا، ولكن والله، لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكانًا واحدًا أبدًا". وفي رواية علي بن الحسين: أن المسور بن مخرمة قال: إن عليًا خطب بنت أبي جهلٍ، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكحًا ابنة أبي جهلٍ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه حين تشهد يقول: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بضعة مني، وأنا أكره أ، يسوؤوها" -وفي رواية أن يفتنوها- "والله، لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحدٍ أبدًا". فترك على الخطبة.

_ 1675 - البخاري (7/ 85) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 16 - باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو العاص بن الربيع. ومسلم (4/ 1903) 44 - كتاب فضائل الصحابة -15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم. للبخاري ومسلم في الموضعين السابقين.

وفي أخرى (1) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: "إني بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". وفي رواية (2) مختصرًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني". وفي أخرى (3): "إن فاطمة بضعة منين يؤذيني ما آذاها". 1676 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن عبد الله بن الرقيم الكناني قال: خرجنا إلى المدينة زمن الجمل فلقينا سعد بن مالكٍ بها فقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي. وزاد الطبراني في الأوسط: قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، قال: "ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها". أقول: لا منافاة بين هذا الحديث وبين سد الخوخات إلا خوخة أبي بكر فالخوخة في الاصطلاح غير الباب، وهناك احتمال أن يكون الأمر بسد خوخات الناس من غير بيت آل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير خوخة أبي بكر. 1677 - * روى أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر قال كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن

_ (1) البخاري (9/ 337) 67 - كتاب النكاح- 19 - باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف. ومسلم (4/ 1903) 44 - كتاب فضائل الصحابة -15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم. (2) البخاري (7/ 105) 62 - كتاب فضائل الصحابة 29 - باب مناقب فاطمة. (3) مسلم (4/ 1902) 44 - كتاب فضائل الصحابة -15 - باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم. 1676 - أحمد في مسنده (1/ 175)، البزار: كشف الأستار (3/ 195)، وقال الهيثي في مجمع الزوائد (9/ 114): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وإسناد أحمد حسن. 1677 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 130) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي، ورجالهما رجال الصحيح. الترمذي (5/ 639) 50 - كتاب المناقب -21 - باب مناقب علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث حسن غريب لانعرفه إلا من حيدث الأجلح، وقد رواه غير ابن فضيل عن الأجلح.

يكون لي واحدة منهم أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. 1678 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما انتجيته، ولكن الله انتجاه". 1679 - * روى الطبراني عن شراحيل بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "أبشر يا علي حياتك معي وموتك معي". 1680 - * روى الطبراني عن أبي إسحاق قال: خرجت مع أبي إلى الجمعة وأنا غلام فلما خرج علي فصعد المنبر قال لي أبي: قم أي عمرو فانظر إلى أمير المؤمنين. فقمت فإذا هو قائم على المنبر فإذا هو أبيض اللحية والرأس، عليه إزار ورداء ليس عليه قميص قال فما رأيته جلس على المنبر حتى نزل عنه قلت لأبي إسحاق: هل قنت؟ قال: لا، وفي رواية لم أره خضب لحيته ضخم الرأس. 1681 - * روى الطبراني عن أبي الطفيل قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه نائم في التراب فقال: إن أحق أسمائك أبو ترابٍ، أنت أبو ترابٍ". 1682 - * روى أحمد والبزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى عليًا رضي الله عنه بأبي ترابٍ فكانت من أحب كناه إليه.

_ 1678 - الترمذي (5/ 639) 50 - كتاب المناقب -21 - باب مناقب علي بن أبي طالب، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الأجلح وقد رواه غير ابن فضيل عن الأجلح. 1679 - المعجم الكبير (7/ 308). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 1139): رواه الطبراني وإسناده حسن. حياتك معي وموتك معي: أي أنت معي في الدنيا والآخرة. 1680 - المعجم الكبير (1/ 939). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 100): رواه الطبراني بأسانيد ورجاله رجال الصحيح. فما رأيته جلس على المنبر حتى نزل عنه: يعني كانت خطبة الجمعة قصيرة. 1681 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 1019) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله رجال الصحيح. 1682 - البزار: كشف الأستار (3/ 199)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 101): رواه البزار ورواه أحمد وغيره ورجال أحمد ثقات.

1683 - * روى الترمذي عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طعلي منين وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي". 1684 - * روى الطبراني عن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر قالت صفية: يا رسول الله لكل امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم وإنك أجليت أهلي، فإن حدث حدث فإلى من؟ قال: "إلى علي بن أبي طالب". 1685 - * روى الطبراني عن أم سلمة قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب عليًا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله من أبغض عليًا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله". 1686 - * روى أحمد والبزار والطبراني عن عمرو بن شاس الأسلمي وكان من أصحاب الحديبية قال: خرجت مع علي رضي الله عنه إلى اليمن فجفاني في سفري ذلك، حتى وجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد حتى سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت المسجد ذات غداةٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناسٍ من أصحابه فلما رآني أبدلي عينيه (يقول حدد إلي النظر) حتى إذا جلست قال: "يا عمرو والله لقد آذيتني" قلت: أعوذ بالله من أذاك يا رسول الله قال: "بلى من آذى عليًا فقد آذاني". 1687 - * روى البزار عن سعد بن أبي وقاصٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي فقال: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ من كنت وليه فعلى وليه". 1688 - * روى عبد الله بن أحمد والبزار عن زيد بن يثيع: قال نشد علي رضي الله

_ 1683 - الترمذي (5/ 636) 50 - كتاب المناقب -21 - باب مناقب علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1684 - المعجم الكبير (4/ 230) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 112) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1685 - المعجم الكبير (3/ 280) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (23/ 122) رواه الطبراني وإسناده حسن. 1686 - أحمد (3/ 483)، والبزار: كشف الأستار (3/ 200) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 129) وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار والبزار أخصر منه ورجال أحمد ثقات. 1687 - البزار: كشف الأستار (3/ 187) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 107): رواه البزار ورجال ثقات. 1688 - عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (1/ 118)، والبزار: كشف الأستار (3/ 190) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 107): رواه عبد الله والبزار وإسنادهما حسن.=

عنه الناس في الرحبة من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم لما قام: قال فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد سبعة فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم لعلي: "أليس أنا أولى بالمؤمنين؟ " قالوا: بلى قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". 1689 - * روى أحمد عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال: وزاد الراوون بعد وال من والاه وعاد من عاداه. 1690 - * روى عبد الله بن أحمد وأبو يعلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: شهدت عليًا في الرحبة يناشد الناس: أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" لما قام فشهد. قال عبد الرحمن فقال اثنا عشر بدريًا كأني أنظر إلى أحدهم عليه سراويل. فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غير خم: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم" قلنا: بلى يا رسول الله قال: "فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". 1691 - * روى الطبراني عن زيد بن أرقم قال: نشد علي الناس: أنشد الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فقال اثنا عشر بدريًا فشهدوا بذلك. وكنت فيمن كتم فذهب بصري. 1692 - * روى البزار عن عمرو بن ذي مر وسعيد بن وهب وعن زيد بن يثيع:

_ = الزوئد (9/ 107): رواه عبد الله والبزار وإسنادهما حسن. 1689 - رواه عبد الله بن أحمد في زياداته على السند (1/ 153) وقال الهيثمي في مجمع الزوئد (9/ 107): رواه أحمد ورواته ثقات. 1690 - أحمد في مسنده (1/ 119) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 105) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا وعبد الله بن أحمد. 1691 - المعجم الكبير (5/ 175) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 106): رواه الطبراني في الكبير، والأوسط خاليًا من ذهاب البصر والكتمان ودعاء علي وفي رواية عنده "وكان علي دعا على من كتم" ورجاله الأوسط ثقات. 1692 - البزار: كشف الأستار (3/ 191) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 105) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة.

قالوا: سمعنا عليًا يقول: نشدت الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم لما قام، فقال ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم" قالوا بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بيد علي فقال: طمن كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من يبغضه وانصر من نصره واخذ من خذله". 1693 - * روى أحمد عن سعيد بن وهب قال: نشد علي رضي الله عنه الناس فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". 1694 - * روى أحمد عن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس في الرحبة ثم قال لهم: أنشد بالله كل امرئٍ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام فقام إليه ثلاثون من الناس، قال أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده فقال: "أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" قال فخرجت كأن في نفسي شيئًا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليًا يقول كذا وكذا قال: فما تنكر قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. 1695 - * روى أحمد عن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة قالوا السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب، قالوا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول: "من كنت مولاه فهذا مولاه" قال رباح فلما مضوا تبعتهم فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري. وفي رواية للطبراني قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعلي

_ 1693 - أحمد في مسنده (5/ 366) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 104): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 1694 - أحمد في مسنده (4/ 370) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 104): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة. 1695 - أحمد في مسنده (5/ 419) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات.

مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" وهذا أبو أيوب بيننا فحسر أبو أيوب العمامة عن وجهه ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". أقول: بنى الشيعة على حديث غدير خم مذهبهم كله في أن الخلافة محصورة في علي وذريته، ونحن أكثرنا من روايات غدير خم ليعرف أن أهل السنة لم ينكروا الحديث ولكنهم لم يبنوا عليه ما بنى الشيعة، وأنت ترى من الروايات صحة ما ذهب إليه أهل السنة في فهم الحديث، ولاشك أن قضية الخلافة قضية حساسة جداً، ولاشك أنه إذا تساوى اثنان في كل شيء وكان أحدهما من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كل مسلم يرى بفطرته أن يقدم من كان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1696 - * روى الطبراني عن صهيب مولى العباس قال: أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه فأتيناه فإذا هو يغدي الناس، فدعوته فأتاه فقال: أفلح الوجه أبا الفضل قال: ووجهك أمير المؤمنين. قال: ما زدت على أن أتاني رسولك وأنا أغدي الناي فغديتهم ثم أتيتك فقال العباس: أذكرك الله في علي فإنه ابن عمك وأخوك في دسنك وصاحبك مع نبيك صلى الله عليه وسلم وصهرك، وأنه قد بلغني أنك تريد أن تقوم بعلي وأصحابه فاعفني من ذلك يا أمير المؤمنين. فقال عثمان: إن أول ما أجيبك أني قد شفعتك في علي إن عليا لو شاء ما كان أحد دونه ولكنه أبى ألا رأيه. ثم بعث إلى علي فقال: أذكرك الله في ابن عمك وابن عمتك وأخيك في دسنك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي بيعتك فقال: والله لو أمرني أن أخرج عن داري لخرجت. أقول: الظاهر أن شيئاً ما وقع بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، وأراد عثمان أن يعاقب علياً، فتشفع العباس لعلي ونصح في الوقت نفسه علياً، فكان جواب الاثنين ما يقتضيه مقامهما. ومن هنا نأخذ درساً أنه مهما علت الرتبة فقد يقع شيء ما بين أصحاب ذلك، وعلى

_ 1696 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

أهل الفضل أن يتدخلوا فيشفعوا. 1697 - * روى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري قال: كنا عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من المهاجرين والأنصار، فقال: "ألا أخبركم بخياركم؟ " قالوا: بلى قال: "الموفون المطيبون إن الله يحب الحفي التقي" قال ومر علي بن أبي طالب فقال: "الحق مع ذا الحق مع ذا". 1698 - * روى أبو يعلى والبزار عن علي قال: أتاني عبد الله بن سلام وقد وضعت قدمي في الغرز فقال لي: لا تقدم العراق، فإني أخشى أن يصيبك بها ذباب السيف. قال علي: وايم الله لقد أخبرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود: فما رأيت كاليوم قط محارباً يخبر بذا عن نفسه. 1699 - * روى أحمد عن أبي سعيد قال: كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علينا من بعض بيوت نسائه قال فقمنا معه فانقطعت نعله فتخلف عليها علي يخصفها، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه. ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: "إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله" فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل" قال: فجئنا نبشره: فكأنه قد سمعه. 1700 - * روى البخاري عن شفيق بن عبد الله قال: دخل أبو موسى وأبو مسعود على

_ 1697 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. المطيبون: المطهرون. الحفى: المبالغ في الإكرام. والعالم يتعلم باستقصاء. 1698 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 128): رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير إسحاق بن أبي إسرائيل وهو ثقة مأمون. الغرز: أي الركاب. والغرز يكون للإبل. ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به. بذاعين نفسه: بخضوعها وإقرارها. يقال أذعن وذعن. 1699 - أحمد في مسنده (3/ 82) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة. 1700 - البخاري (13/ 53) 92 - كتاب الفتن، باب: 180.

عمار حيث أتى الكوفة ليستنفر الناس، فقالا: ما رأينا منك أمراً منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر؟ فقال: ما رأيت منكما أمراً منذ أسلمتما أكرة عندي من إبطائكما عن هذا الأمر، قال: ثم كساهما حلة. وفي أخرى قال: كنت جالساً مع أبي موسى وأبي مسعود وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك من أحد إلا لو شئت لقلت فيه، غيرك، وما رأيت منك شيئاً منذ صبحت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا؟ فقال عمار: يا أبا مسعود، وما رأيت منك ولا صاحبك هذا شيئاً منذ صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر، فقال أبو مسعود- وكان موسراً-: يا غلام! هات حلتين، فأعطي إحداهما أبا موسى، والأخرى عماراً، وقال: روحا فيهما إلى الجمعة. 1701 - * روى البخاري عن أبي مريم عبد الله بن زياد الأسدي قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه، فسمعت عماراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي؟ وفي أخرى (1) له عن أبي وائل: قام عمار على منبر الكوفة فذكر عائشة وذكر مسيرها وقال: إنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكنها مما ابتليتم. 1702 - * روى البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال: لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل. لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملكوا ابنه كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". 1703 - * روى الترمذي عن أبي بكرة قال: عصمني الله عز وجل بشيء سمعته من

_ 1701 - البخاري (13/ 53) 92 - كتاب الفتن باب: 18 (1) البخاري في نفس الموضع السابق 1702 - البخاري في نفس الموضع السابق 1703 - الترمذي (4/ 527) 34 - كتاب الفتن، باب: 75.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما هلك كسرى قال: "من استخلفوا؟ " قالوا: ابنته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فلما قدمت عائشة- يعني: البصرة- ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمني الله به. 1704 - * روى الطبراني عن جري بن سمرة قال: لما كان من أهل البصرة الذي كان بينهم وبين علي بن أبي طالب انطلقت حتى أتيت المدينة فأتيت ميمونة بنت الحارث وهي من بنى هلال، فسلمت عليها فقالت ممن الرجل؟ قلت: من أهل العراق. قالت: من أي أهل العراق؟ قلت: من أهل الكوفة. قالت: من أي أهل الكوفة؟ قلت: من بني عامر. قالت: مرحباً، قرباً على قرب ورحباً على رحب. فمجيء ما جاء بك؟ قلت: كان بين علي وطلحة الذي كان، فأقبلت فبايعت علياً. قالت: فالحق به فوالله ما ضل ولا ضل به حتى قالتها ثلاثاً. 1705 - * روى الحاكم عن قيس بن عباد قال: دخلت أنا والاشتر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الجمل، فقلت: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم عهداً دون العامة؟ فقال: لا إلا هذا. وأخرج من قراب سيفه فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده. 1706 - * روى الحاكم عن يزيد بن ضبيعة العبسي قال: نادى منادي عمار يوم الجمل وقد ولى الناس: ألا لا يذاف على جريح، ولا يقتل مول ومن ألقى السلاح فهو آمن. فشق ذلك علينا.

_ 1704 - المعجم الكبير (24/ 9) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 135) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير جزي ابن سمرة وهو ثقة. 1705 - المستدرك (2/ 141) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 1706 - المستدرك (2/ 155) وسكت عنه وصححه الذهبي. نادى منادي عمار ... : في ابن كثير: ونادي منادي علي: إنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ولا يدخلوا الدور. الناس: جيش طلحة والزبير. يذاف على جريح: يجهز عليه.

أقول: ومن هذا النص وأمثاله أخذ العلماء أحكام قتال الخوارج والبغاة وهي كلها مما سنه علي رضي الله عنه، وأما قوله فشق ذلك على الناس فمعناه: أن الناس كانوا يطمعون بأن يفعلوا بمن قاتلوه أكثر مما فعلوا، وأن يسبوا وأن يأسروا. فلما جاءهم أمر علي حال بينهم وبين هذه الرغبات. 1707 - * روى الحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ولا يقتلون مولياً ولا يسلبون قتيلاً. 1708 - * روى البزار عن شقيق قال: قيل لعلي ألا تستخلف؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف عليكم، وإن يرد الله تبارك وتعالى بالناس خيراً فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم. 1709 - * روى أبو يعلى عن عبد الله بن سبيع: قال: قيل لعلي ألا تستخلف؟ قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1710 - * روى الطبراني عن أبي بكر أبي شيبة قال: قتل علي سنة أربعين، وكانت خلافته خمس سنين وستة أشهر. 1711 - * روى الطبراني عن يحيى بن بكير قال: قتل علي بن أبي طالب يوم الجمعة يوم سبع عشرة من شهر رمضان سنة أربعين. 1712 - * روى الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين قال: توفي علي وهو ابن ثمان وخمسين.

_ 1707 - المستدرك (2/ 155) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي .. 1708 - قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن أبي الحارث وهو ثقة. 1709 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 197): رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. 1710 - المعجم الكبير (1/ 106)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 146): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1711 - المعجم الكبير (1/ 95)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 145): رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1712 - المعجم الكبير (1/ 96)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 146): رجاله رجال الصحيح.

1713 - * روى أحمد عن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟! قلت: معاذ الله، أو سبحان الله أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منسب عليا فقد سبني". 1714 - * روى عبد الله بن أحمد عن عاصم بن بهدلة قال: قلت للحسن بن علي: الشيعة يزعمون أن عليا يرجع. قال: كذب، أولئك الكذابون، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه ولا قسمنا ميراثه. قوله: "الشيعة يزعمون أن علياً يرجع): الذي زعم ذلك عبد الله بن سبأ من غلاتهم. 1715 - * روى الترمذي عن ابن عمر: لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه جاء علي تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني وبين أحد، فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "أنت أخي في الدنيا والأخرة". 1716 - * روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن معاوية قال له: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعته صلى الله عليه وسلم يقول له وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنهلا نبوة بعدي" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فتطاولنا لها، فقال: "ارعوا لي عليا" فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: (ندع أبناءنا وأبنائكم) (5) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً

_ 1713 - أحمد في مسنده (6/ 323) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 130) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الحدلي وهو ثقة. 1714 - قال الهيثمي في المجمع: رواه عبد الله بن أحمد وإسناده جيد. 1715 - الترمذي (5/ 636) 50 - كتاب المناقب، باب 21، وقال هذا حديث حسن غريب. 1716 - مسلم (4/ 1871) 44 - كتاب فضائل الصحابة -4 - باب من فضائل علي بن أبي طالب. آل عمران: 61

وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي". 1717 - * روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته استأذنت إن وجدته يصلى فتنحنح دخلت وإن وجدته فارغا أذن لي. وفي رواية (2): كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار فكنت إذا دخلت بالليل تنحنح لي. 1718 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: "لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي" فدعا علياً، فأعطاه إياها. 1719 - * روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً، فبينا أبو بكر ببعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أبو بكر فزعا فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علياً أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا، فحجا، فقام على أيان التشريق ينادي: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بعد اليوم عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، قال: فكان علي ينادي بهؤلاء الكلمات، فإذا

_ 1717 - النسائي (3/ 12) كتاب السهو، باب التنحنح في الصلاة. (1) النسائي في نفس الموضع السابق. 1718 - الترمذي (5/ 275) 48 - كتاب تفسير القرآن -10 - باب ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أنس بن مالك. 1719 - الترمذي (5/ 275) 48 - كتاب تفسير القرآن -10 - باب ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس. (4) الرغاء: صوت البعير. القصواء: بالمد: لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن قصواء، فإن القصواء: هي المشقوقة الأذن من النوق. ذمة الله: الذمة: العهد والأمان. ساح: في الأرض: إذا ذهب منها حيث أراد.

عيي قام أبو بكر، فنادى بها. 1720 - * روى أبو يعلى عن أبي بكر بن خالد بن عرفطة أنه أتى سعد بن مالك بن أبي وقاص فقال: بلغني أنكم تعرضون عن سب علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: معاذ الله، والذي نفس سعد بيده لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في علي شيئاً لو وضع المنشار على مفرقي ما سببته أبداً. 1721 - * روى الطبراني عن قيس بن عباد قال: شهدت علياً يوم الجمل يقول لابنه حسن: يا حسن وددت أني مت منذ عشرين سنة. 1722 - * روى البخاري عن محمد بن علي رحمه الله أن حرملة -مولى أسامة- أخبره قال: أرسلني أسامة إلى علي ليعطيني، وقال: إنه سيسألك الآن، فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره، فلم يعطني شيئاً، فذهبت إلى حسن وحسين وابن جعفر، فأوقروا لي راحلتي. 1723 - * روى الطبراني عن أبي سنان الدؤلي أنه عاد عليا في شكوى اشتكاها، فقال له: لقد تخوفنا عليك في شكواك هذه فقال: لكني والله ما تخوفت على نفسي منه لأني سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك ستضرب ضربة هنا وضربة هاهنا" وأشار إلى صدغه "فيسيل دمها حتى تخصب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود".

_ 1720 - مجمع الزوائد (9/ 130). وقال: رواه أبو يعلي وإسناده حسن. 1721 - المعجم الكبير (1/ 114). مجمع الزوائد (9/ 150). وقال: رواه الطبراني وإسناده جيد. 1722 - البخاري (3/ 61) 92 - كتاب الفتن - 20 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي "إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". فأوقروا لي راحلتي: الوقر: الحمل والثقل، والراحلة: البعير القوي على الأسفار والأعمال. 1723 - المعجم الكبير 01/ 106). مجمع الزوائد (9/ 137). وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

1724 - * روى الطبراني عن طلحة بن مصرف أن علياً انتهى إلى طلحة بن عبيد الله وقد مات، فنزل عن دابته وأجلسه فجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه وهو يقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. 1725 - * روى الطبراني عن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص ألا تقاتل إنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد. 1726 - * روى البزار عن زيد بن وهب قال: بينا نحن حول حذيفة إذ قال: كيف أنتم وقد خرج أهل بين نبيكم صلى الله عليه وسلم فرقتين يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف؟ فقلنا: يا أبا عبد الله وإن ذلك لكائن فقال بعض أصحابه يا أبا عبد الله فكيف نصنع إن أدركنا ذلك الزمان؟ قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها، فإنها على الهدى. 1727 - * روى أحمد والبزار عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر" قال: أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: أنا من بين أصحابي؟ قال: "نعم" قال: أنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها". 1728 - * روى أحمد وأبو يعلى والبزار عن قيس بن أبي حازم: أن عائشة لما نزلت على الحوأب سمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا "أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟ " فقال لها الزبير: لا ترجعي عسى الله أن يصلح بك بين الناس

_ 1724 - مجمع الزوائد (9/ 150). وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1725 - المعجم الكبير (1/ 144). مجمع الزوائد (7/ 299). وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1726 - البزار: كشف الأستار (4/ 97)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 236): رواه البزار ورجاله ثقات. 1727 - أحمد في مسنده 06/ 393)، والبزار: كشف الأستار (4/ 93)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 234): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات. 1728 - أحمد في مسنده (6/ 97)، والبزار: كشف الأستار (4/ 94)، وقال الهيثمي. في مجمع الزوائد (7/ 234): رواه أحمد وأبو يعلي والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح.

1729 - * روى البزار عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: "ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيراً، ثم تنجو بعد ما كادت". 1730 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: لم أجدني آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. أقول: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً، ولذا عبر ابن عمر عن تخلفه بأنه بأسى بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء. 1731 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لرجلين يختصمان في رأس عمار: يقول كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد الله: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "تقتله الفئة الباغية" فقال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه" فأنا معكم ولست أقاتل. 1732 - * روى البخاري ومسلم عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا أحنف ارجع فإني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" فقلت أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان قد أراد قتل صاحبه".

_ 1729 - البزار: كشف الأستار (4/ 93)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 234): رواه البزار ورجاله ثقات. الأدبب: الكثير وبر الوجه. 1730 - قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير بأسانيد، وأحدها رجاله رجال الصحيح. 1731 - أحمد في مسنده (2/ 164). 1732 - البخاري (13/ 31) 92 - كتاب الفتن - 10 - باب إذا التقى المسلمان بسيفهما. ومسلم (4/ 2213) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة - 4 - باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما.

تعليقات

أقول: إن القتال مع علي كان حقاً وصواباً ومن قتل معه فهو شهيد وله أجران، ولكن أبا بكرة حمل حديثاً ورد في غير الحالة قاتل فيها علي على حالة قتال الباغين وهو فهم منه رضي الله عنه ولكنه فهم في غير محله. ومن هذه الرواية ندرك أن عقبات متعددة واجهت علياً رضي الله عنه في معركته مع الآخرين منها أمثال هذه الفتاوى التي هي أثر عن روح أكثر منها أثر عن فتوى تصيب محلها. * * * تعليقات ورث الإمام علي رضي الله عنه الحكم، والفتنة قائمة فلم يستطع السيطرة الكاملة على دفة الأمور رغم العلم والحزم والشجاعة والبطولة والفضل وذلك في رأيي يرجع إلى أمور: 1 - عدم مراعاة المستجدات التي طرأت على النفسية الإسلامية وعلى المجتمع الإسلامي، فلقد تلبست النفسية المسلمة في الدنيا فكان لابد أن تساس من خلال دين ودنيا، ولم يكن أبو الحسن عنده استعداد لذلك. 2 - عدم استعمال الدهاء اعتماداً على صولة الحق وحده في مخاطبة المسلمين، بينما حدث وضع جديد يخالف الوضع الذي كان عليه الحال في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان وراءه المجتمع الإسلامي كله، والحرب كانت مع الكافرين، فالخدعة كانت تنصب عليهم لكن ههنا مجتمع انقسم على نفسه، فههنا كان لابد للدهاء أن يعمل عمله. 3 - اختلط حق بخطأ في موافق كل الأطراف ولذلك كان من الصعب جداً أن يتخلى كل طرف عن قناعاته، فالمطالبة بدم عثمان كانت لا تحتمل عند أصحابها جدلاً، وكون علي هو الخليفة الشرعي وهو الأحق بالخلافة كانت لا تحتمل جدلاً، وفي جو كهذا كان لابد من سلب دعاوى الشرعية من الخصوم، ولم يكن أبو الحسن في وضع يسمح له بذلك. 4 - كان التآمر جديداً على الأمة الإسلامية وكانت التصورات تحول دون التدبير المكافئ لهذا التآمر. لذلك استطاع التآمر أن يعمل عمله دون أن يستطيع أحد السيطرة عليه.

5 - كان اعتماد أبي الحسن على رأيه وعزمه أكثر من اعتماده على من حوله، وكان الرجال الذين هم على مستوى المرحلة أقل من المطلوب، ولذلك كانت التعبئة النفسية أقل من اللازم، وكانت الأمور تنتقص واحدا بعد واحد. 6 - وأهم من هذا كله أن الحماس المتأجج للصراع ضد الكافرين لم يكن هو نفسه عند أهل الحق في الصراع ضد المسلمين، وكان المفروض أن يكون رصيد الإمام هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الكثيرين من هؤلاء تهيبوا سفك الدم المسلم. 7 - ومع ذلك فأبو الحسن هو الخليفة الراشد القدوة المهدى وقد سن لنا سنناً، سن لنا كيف نتعامل مع البغاة، وسن لنا القتال من أجل الوحدة الإسلامية وإذا كانت هذه الوحدة لا تتم إلا بفناء المسلمين فقد سن لنا التسليم بتعدد الأقطار والحكام، ولقد كان عليه الرضوان امتداداً لعصر النبوة في تفكيره وتصرفاته ولكن الناس تغيروا، وما نحب أن نتغير، ولكن لابد أن نأخذ العبرة فنتعامل مع الزمان والمكان على حسب ما تجيزه الفتوى وتقتضيه المصلحة. إن هذه الفتن الهائلة التي حدثت بين علي من جهة وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى وبين علي من جهة وبين معاوية من جهة أخرى، كان فيها علي على الحق والصواب وكان الآخرون متأولين وكانوا مخطئين، ولكن ثقتهم بصواب ما ذهبوا إليه كانت كبيرة جداً، لذلك استرخصوا دماءهم في سبيلها، فلقد كانوا مقتنعين أن عثمان قد قتل ظلماً وأن قتلته يجب أن يحاسبوا وأن علياً لم يجاسبهم بل أصبحوا جزءا من جنده، فكانوا يرون أن علياً ظالم بحمايته لهؤلاء الناس، وكان علي رضي الله عنه يعتبر نفسه وهو على حق في ذلك الخليفة الراشد وأن من يطيعه ومن بايعه وأخلص له هو الذي تتمثل به جماعة المسلمين، ولو أنه حاسب هؤلاء لفرط عقد جماعة المسلمين فتأول في ألا يبدأ في محاسبتهم، وهو الأعلم بالأحكام وصاحب الترجيح في كل قضية خلافية بحكم أنه إمام، وهكذا حدث الصراع المفجع وكل من الأطراف لاشك أنه على حق وهم خير الخلق بشهادة النصوص، فلذلك فنحن نعتقد أن المخلصين ممن كان مع علي على حق وصواب وهم مأجورون مرتين، وأن المخلصين ممن كان ضده مخطئون في اجتهادهم ولهم أجر واحد، وفي هؤلاء وهؤلاء من نكل أمرهم إلى

الله عز وجل ممن لم تكن لهم نية صادقة أو كان عندهم مطامع شخصية أو عندهم سوء نية أو لم يكونوا مخلصين في إسلامهم وهكذا. * * *

عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق .. ولد عام الهجرة وحفظ عن النبي صلى الله عليه وآلة وسلم وهو صغير، وحدث عنه بجملة من الحديث وعن أبيه وعن أبي بكر وعمر وعثمان وخالته عائشة وسفيان بن أبي زهير وغيرهم، وهو أحد العبادلة وأحد الشجعان من الصحابة وأحد من ولي الخلافة منهم، يكنى أبا بكر ثم قيل له أبو خبيب بولد، روى عنه أخوه عروة وابناه عامر وعباد وابن أخيه محمد بن عروة وأبو ذبيان خليفة بن كعب وعبيدة بن عمرو السلماني وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار ووهب بن كيسان وابن أبي مليكة وسماك بن حرب وأبو الزبير وثابت البناني وآخرون، وبويع بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة وحنكه النبي صلى الله عليه وآلة وسلم وسماه باسم جده وكناه بكنيته. وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي قال: سمعت أصحابنا يقولون: ولد سنة الهجرة وأتاه النبي صلى الله عليه وآلة وسلم في اليوم الذي ولد فيه يمشي وكانت أسماء مع أبيها بالسنح فأتي به فنحنكه قال الزبير: والثبت عندنا أنه ولد بقبا، وإنما سكن أبوه السنح لما تزوج مليكة بنت خارجة بن زيد. ووقع في الصحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة ونزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق النبي صلى الله عليه وآلة وسلم ثم حنكه بالتمرة ثم دعا وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام. وقد وقع في بعض طرق الحديث أن عبد الله بن الزبير جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبايعه وهو ابن سبع سنين أو ثمان كما أخرجه ابن منده، أمره بذلك الزبير فتبسم

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه وبايعه وكان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وكانت يهود تقول قد أخذناهم فلا يولد لهم بالمدينة ولد فكبر الصحابة حين ولد. وفي الرسالة للشافعي أن عبد الله بن الزبير كان له عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين وقد حفظ عنه. وقال الدينوري في المجالسة [بسنده] قال عبد الله بن الزبير: هاجرت وأنا في بطن أمي. وأخرج الزبير من طريق مسلم بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلم في غلمة من قريش ترعرعوا عبد الله ابن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمرو بن أبي سلمة فقيل لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر فأتي بهم إليه فكأنهم تكعكعوا (1) فاقتحم عبد الله بن الزبير أولهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إنه ابن أبيه، ومن طريق عبد الله بن مصعب كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع أبناء المهاجرين والأنصار الذين ولدوا في الإسلام حتى ترعرعوا فوقفوا بين يديه فبايعهم وجلس لهم فجمع منهم ابن الزبير وأخرج البخاري في ترجمة عبد الله بن معاوية عن عاصم بن الزبير أنه روى عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير قال لابنه عبد الله: أنت أشبه الناس بأبي بكر وأخرج أبو يعلى والبيهقي في الدلائل من طريق هنيد بن القاسم سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحتجم فلما فرغ قال: يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يدرك أحد فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمد إلى الدم فشربه. فلما رجع قال: يا عبد الله ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس قال: لعلك شربته: قال: نعم قال: ولم شربت الدم؟ الويل للناس منك، وويل لك من الناس. قال أبو موسى قال أبو عاصم: فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم وله شاهد من طريق كيسان مولى ابن الزبير عن سلمان الفارسي رويناه في جزء الغطريف، وزاد في آخره لا تمسك النار إلا تحلة القسم. وأخرج عن أسماء بنت أبي بكر في معجم البغوي وفي البخاري عن ابن عباس أنه وصف ابن الزبير فقال: عفيف الإسلام قارئ القرآن أبوه حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمة بنت الصديق وجدته

_ (1) أي أحجموا وتأخروا.

صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمة أبيه خديجة بنت خويلد وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الرنجي بن خالد عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصلياً أحسن صلاة من ابن الزبير. وأخرج أبو نعيم بسند صحيح عن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود وقال ابن سعد حدثنا روح حدثنا حسين الشهيد عن ابن أبي مليكة كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ثم يصبح اليوم الثامن وهو أليثنا (1) وأخرج البغوي من طريق ميمون بن مهران رأيت ابن الزبير واصل من الجمعة إلى الجمعة وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق ليث عن مجاهد ما كان باب من العبادة إلا تكلف ابن الزبير، ولقد جاء سيل بالبيت فرأيت ابن الزبير يطوف سياحة وشهد ابن الزبير وشهد فتح إفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان، ذكره الزبير وابن عائذ واقتص الزبير قصة الفتح وأن الفتح كان على يده وشهد الدار، وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة، وكان على الرجالة. قال الزبير: حدثني يحيى بن معين عن هشام بن يوسف عن معمر أخبرني هشام بن عروة قال: أخذ عبد الله بن الزبير من وسط القتلى يوم الجمل وفيه بضع وأربعون جراحة فأعطيت عائشة البشير الذي بشرها بأنه لم يمت عشرة آلاف، ثم اعتزل ابن الزبير حروب علي ومعاوية ثم بايع لمعاوية فلما أراد أن يبايع ليزيد امتنع وتحول إلى مكة وعاذ بالحرم. فأرسل إليه يزيد سليمان أن يبايع له فأبى، ولقب نفسه عائذ الله، فلما كانت وقعة الحرة وفتك أهل الشام بأهل المدينة ثم تحولوا إلى مكة فقاتلوا ابن الزبير، واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار ففجعهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فتوادعوا، ورجع أهل الشام وبايع الناس عبد الله بن الزبير بالخلافة وأرسل إلى أهل الأمصار يبايعهم إلا بعض أهل الشام فسار مروان فغلب على بقية الشام ثم علي مصر ثم مات، فقام عبد الملك بن مروان فغلب على العراق وقتل مصعب بن الزبير ثم جهز الحجاج إلى ابن الزبير فقاتله إلى أن قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وهذا هو المحفوظ وهو قول الجمهور. اهـ. ولقد سرد الحاكم عدداً من الروايات تشرح دقائق في حياة ابن الزبير، وها نحن ننقل

_ (1) أليثنا: أي شدنا وأجلدنا.

بعضها كتتمة لترجمة ابن حجر وكجزء من ترجمة أكثر منها روايات حديثية: روى الحاكم (1) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: محا ابن الزبير نفسه من الديوان حين قتل عثمان رضي الله عنهما. بمعنى أنه لم يعد يأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين لإيمانه أن أمر بيت المال قد انتقض فتورع عن أن يأخذ شيئاً. روى الحاكم (2) عن عمر بن قيس قال: كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغة أخرى فكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته. وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا الرجل لم يرد الله طرفة عين وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت هذا الرجل لم يرد الدنيا طرفة عين. روى الحاكم (3) عن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام فيصبح يوم الثامن وهو أليثنا. أقول: صيام الوصال مكروه عند الفقهاء لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأولوا ما فعله عبد الله بن الزبير على أنه كان يفعله رياضة. روى الحاكم (4) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما مات معاوية رضي الله عنه تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة يزيد بن معاوية وأظهر شتمه، فبلغ ذلك يزيد فأرسل أن يؤتى به، فقيل لابن الزبير: يصنع لك أغلالاً من ذهب فتسدل عليها الثوب وتبر قسمه والصلح أجمل فقال: لا أبر الله قسمه ثم قال: ولا ألين لغير الحق أنملة حتى يلين لضرس الماضغ الحجر ثم قال: والله لضربة بسيف في عز أحب إلى من ضربة بسوط في ذل. ثم دعا إلى

_ (1) المستدرك (3/ 549). (2) المستدرك (3/ 549). (3) المستدرك (3/ 549). (4) المستدرك (3/ 550).

نفسه وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية فوجه إليه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى مكة، وقال: فدخل مسلم بن عقبة المدينة وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعبث فيها وأسرف في القتل، ثم خرج منها، فلما كان في بعض الطريق إلى مكة مات واستخلف حصين بن نمير الكندي وقال له: يا برذعة الحمار احذر خدائع قريش ولا تعاملهم إلا بالنفاق ثم القطاف، فمضى حصين حتى ورد مكة فقاتل بها ابن الزبير أياماً. روى الحاكم (1) عن عروة بن الزبير قال: أرسل ابن الزبير إلى الحصين بن نمير يدعوه إلى البزار فقال الحصين: لا يمنعني من لقائك جبن، ولست أدري لمن يكون الظفر، فإن كان لك كنت قد ضيعت من وراءي، وإن كان لي كنت قد اخطأت التدبير وضرب ابن الزبير فسطاطاً في المسجد فكان فيه نساء يسقين الجرحى ويداوينهم ويطعمن الجائع فقال حصين: ما يزال يخرج علينا من ذلك الفسطاط أسد كأنما يخرج من عينه فمن يكفينيه؟ فقال رجل من أهل الشام: أنا، فلما جن عليه الليل وضع شمعة في طرف رمحه ثم ضرب فرسه ثم طعن الفسطاط فالتهب ناراً والكعبة يومئذ مؤزرة في الطنافس، فطارت الريح باللهب على الكعبة حتى احترقت واحترق فيها يومئذ قرنا الكبش الذي فدي به .. ذكرت الرواية أن المفدي هنا إسحاق وهذا خلاف صحيح، ولذلك لم نثبت كلمة إسحاق حتى لا يتوهم متوهم أن لهذا الرواية قيمة في كتب أهل العلم. قال محمد بن عمر: ومات يزيد بن معاوية فهرب حصين بن نمير، فلما مات بن معاوية دعا مروان بن الحكم إلى نفسه فأجابه أهل حمص وأهل الأردن وفلسطين، فوجه إليه ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري في مائة ألف فالتقوا بمرج راهط ومروان يومئذ في خمسة آلاف من بني أمية ومواليهم وأتباعهم من أهل الشام فقال مروان لمولى له: احمل على أي الطرفين شئت. فقال: كيف نحمل على هؤلاء مع كثرتهم؟ فقال: هم بين مكره ومستأجر، احمل عليهم لا أم لك فيكفيك الطعان الناجع الجيد وهم يكفونك بأنفسهم، إنما هؤلاء عبيد الدينار والدرهم، فحمل عليهم فهزمهم وأقبل الضحاك بن قيس وانصدع الجيش.

_ (1) المستدرك (3/ 550).

قال: ثم مات مروان فدعا عبد الملك إلى نفسه وقام فأجابه أهل الشام فخطب على المنبر وقال: من لابن الزبير؟ فقال الحجاج: أنا يا أمير المؤمنين فأسكته ثم عاد فأسكته ثم عاد فأسكته ثم عاد فقال: أنا له يا أمير المؤمنين فإني رأيت في النوم كأني انتزعت جنة فلبستها فعقد له ووجهه في الجيش إلى مكة حرسها الله تعالى حتى وردها على ابن الزبير، فقاتله بها فقال ابن الزبير لأهل مكة: احفظوا هذين الجبلين فإنكم لن تزالوا بخير أعزة ما لم يظهروا عليهما قال: فلم يلبثوا أن ظهر الحجاج ومن معه في المسجد، فلما كان الغداة التي قتل فيها ابن الزبير دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي يومئذ بنت مائة سنة لم يسقط لها سن ولم يفسد لها بصر ولا سمع فقالت لابنها يا عبد الله ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا قال وضحك ابن الزبير قال: إن في الموت لراحة فقالت: يا بني لعلك تمنيته لي، ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك إما أن تظفر فتقر بذلك عيني وإمام أن تقتل فأحتسبك. قال: ثم ودعها فقالت له: يا بني إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل؟ وخرج عنها فدخل المسجد وقد جعل مصراعين على الحجر الأسود يتقي أن يصاب بالمنجنيق وأتى ابن الزبير آت وهو جالس عند زمزم فقال له: ألا نفتح لك الكعبة فتصعد فيها، فنظر إليه عبد الله ثم قال له: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من أجله وهل للكعبة حرمة ليست لهذا المكان؟ والله لو وجدوكم معلقين بأستار الكعبة لقتلوكم فقيل له: ألا تكلمهم في الصلح فقال: أوحين صلح هذا؟ والله لو وجدوكم في جوفها لذبحوكم جميعا ثم أنشأ يقول. ولست بمتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ليكن أحدكم سيفه كما يكن وجهه لا ينكس سيفه فيدفع عن نفسه بيده كأنه امرأة والله ما لقيت زحفا قط إلا في الرعيل الأول، ولا ألمت جرحاً قط إلا ألم الدواء قال: فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم ومعه سبعون فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله فقال له الأسود: آه يا ابن الزانية فقال له ابن الزبير: اخسأ يا ابن حام أسماء زانية؟ أي أم عبد الله بن الزبير وحاشاها ثم أخرجهم من المسجد، فانصرف فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني سهم فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أهل الأردن

فحمل عليهم وهو يقول: لا عهد لي بغارة مثل السيل ... لا ينجلي غبارها حتى الليل قال: فأخرجهم من المسجد ثم رجع فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم فحمل عليهم وهو يقول: لو كان قرني واحداً كفيته ... أوردته الموت وذكيته قال: وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوه بالآجر وغيره فحمل عليهم فأصابته آجرة في مفرقه حتى حلقت رأسه فوقف قائماً وهو يقول ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدا منا تقطر الدماء قال: ثم وقع فأكب عليه موليان له وهما يقولان: العبد يحمي ربه ويحتمي. قال: ثم سير إليه. فخر رأسه رضي الله عنه. اهـ روايات الحاكم. 1733 - * روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة. قالت: فخرجت وأنا متم. فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره. ثم دعا بتمرة فمضغها. ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه: ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له. وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام. زاد في رواية (1): ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم،

_ 1733 - البخاري (9/ 587) 71 - كتاب العقيقة -1 - باب تسمية المولود غداة يولد لمن يعق عنه وتحنيكه. ومسلم (3/ 1691) 38 - كتاب الآداب - 5 - باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته .... متم: امرأة: إذا كانت حاملاً، وقد دنا ولادها. بقباء: قباء - بالمد - موضع بالمدينة معروف، يصرف ولا يصرف. تفل: التف لان يبصق أقل شيء، وهو فوق النفث. حنكه: التحنيك: أن يدلك بالتمر حنك الصبي. وبرك عليه: التبريك على الولد: أن يدعو له بالبركة. (1) للبخاري في نفس الموضع السابق.

فلا يولد لكم. 1734 - * روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيت الزبير مصباحاً، فقال: "يا عائشة، ما أرى أسماء إلا قد نفست، فلا تسموه حتى أسميه" فسماه عبد الله، وحنكه بتمرة. 1735 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول مولود في الإسلام: عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فلاكها، ثم أدخلها في فيه، فأول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1736 - * روى مسلم عن عروة وفاطمة بنت المنذر قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، فقدمت قباء، فنفست بعبد الله بقباء، ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة. قال: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها -يعني تمرة- قبل أن نجدها، فمضغها ثم بصقها في فيه، فأول شيء دخل بطنه لريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت أسماء: ثم مسحه، وصلى عليه، وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع -أو ثمان- ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً إلية ثم بايعه. وفي رواية (2) قالت: جئنا بعبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة، فعز علينا طلبها. 1737 - * روى البخاري عن ابن أبي مليكة رحمه الله قال: كان بين ابن عباس وابن

_ 1734 - الترمذي (5/ 680) 50 - كتاب المناقب - 45 - باب مناقب عبد الله بن الزبير، وقال هذا حديث حسن غريب. 1735 - البخاري (7/ 248) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. 1736 - مسلم (3/ 1690) 38 - كتاب الآداب - 5 - باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته ... نفست المرأة: بضم النون وفتحها: إذا ولدت. (1) مسلم (3/ 1690) 38 - كتاب الآداب - 5 - باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته. 1737 - البخاري (8/ 326) 65 - كتاب التفسير -9 - باب {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.=

الزبير شيء، فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل ما حرم الله؟ فقال: معاذ الله. إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية محلين، وإني والله لا أحله أبداً. قال: قال الناس: بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه، أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم -يريد الزبير- وأما جده فصاحب الغار -يريد أبا بكر- وأما أمه فذات النطاق -يريد أسماء- وأما خالته فأم المؤمنين -يريد عائشة- وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم -يريد خديجة- وأما عمه النبي صلى الله عليه وسلم فجدته -يريد صفية- ثم عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن. والله إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربوني أكفاء كرام. فآثر على التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد: بني تويت وبني أسامة ومن أسد. إن ابن أبي العاص برز يمشي القدمية، يعني عبد المالك بن مروان. وإنه لوى ذنبه -يعني ابن الزبير-. (القدمية) الذي جاء في الحديث فيما رواه البخاري "القدمية" ومعناها: أنه يقدم في الشرف والفضل على أصحابه، وقد جاء في كتب غير الحديث "مشي التقدمية واليقدمية" بالتاء والياء، والقدمية، والكل بمعنى واحد، قال الميداني صاحب كتاب الأمثال: إن اليقدمية بالياء المعجمة من تحت وهو التقدم بهمته وأفعاله، يقال: مشى فلان التقدمية، واليقدمية: إذا تقدم في الشرف والفضل ولم يتأخر عن غيره في الإفضال عن الناس، وقال: قال أبو عمرو: معناه: التبختر، ولم يرد المشي بعينه. وفي رواية (1): أن ابن عباس قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير: قلت: أبوه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدته صفية. وفي أخرى (1) قال: دخلنا على ابن عباس، فقال: ألا تعجبون لابن الزبير، قام في أمره هذا؟ فقلت: لأحاسبن نفسى له ما حاسبتها لأبي بكر ولا لعمر، ولهما كانا أولى بكل خير منه، فقلت ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وابن الزبير، وابن بنت أبي بكر، وابن أخي

_ = ربوني: أي كانوا لي أرباباً، يعني رؤوساً وأصحاباً مقدمين. أكفاء: الأكفاء النظراء والأمثال. (1) البخاري في نفس الموضع السابق.

خديجة، وابن أخت عائشة، فإذا هو يتعلى عنى، ولا يريد ذلك، فقلت: ما كنت أظن أني أعرض هذا من نفسي فيدعه، وما أراه يريد خيراً، وإن كان لابد أن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم. 1738 - * روى البخاري عن نافع -مولى ابن عمر- رحمه الله: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي. فقالا. ألم يقل الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) (2)؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. 1739 - * * روى البخاري عن أبي المنهال قال: لما كان ابن زياد ومروان بالشام، وثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظل علية له من قصب فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث فقال: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء سمعته تكلم به: إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتي بلغ ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. إن ذلك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على دنيا، إن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على دنيا، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا. وزاد في راوية للبخاري (4): أنه سمع أبا برزة قال: إن الله نعشكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم.

_ 1738 - البخاري (8/ 183) 65 - كتاب التفسير - 20 - باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}. (2) البقرة: 193. 1739 - البخاري (13/ 68) 93 - كتاب الفتن- 21 - باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه. استطعمته الحديث: إذا جاريته فيه وجذبته إليك ليحدثك. (4) البخاري (13/ 245) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، في الترجمة.

1740 - * روى مسلم عن أبي نوفل قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة، فجعلت قريش تمر عليه والناس، حتى مر عليه عبد الله بن عمر، فوقف عليه عبد الله، فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً، قواماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير، ثم نفذ عبد الله بن عمر، فبلغ الحجاب موقف عبد الله وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: لتأتيني، أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت، وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبني بقروني، قال: فقال: أروني سبني، فأخذ نعليه، ثم انطلق يتوذف، حتى دخل عليها، قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما: فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر: فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه، وأما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: أن في تثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب: فرأيناه، وأما المبير: فلا إخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها. * * *

_ 1740 - مسلم (4/ 1971) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 58 - باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها. قرون: المرأة: ضفائرها، واحدها: قرن. سبتي: السبتيان: النعلان، وأصله من السبت، وهي جلود البقر المدبوغة بالقرظ تعمل منها النعال، كأنها نسبت غليها، وقيل: هو من السبت: خلق الشعر، لأن شعر الجلود يرمى عنها، ثم يعمل منها النعال. يتوذف: مشى يتوذف، أي: يتبختر، وقيل: يسرع وهو المقصود هنا. المبير: المهلك الذي يسرف في إهلاك الناس.

تعليقات

تعليقات كانت محاولة ابن الزبير أقوى محاولة لإعادة الخلافة الراشدة بعد الملك العضوض، ولقد كادت هذه المحاولة أن تنجح، بل كان ابن الزبير هو الخليفة الشرعي للمسلمين في المدة التي أخذ فيها البيعة لنفسه، وها أنت ترى أن الأكثرية المطلقة من المسلمين قد بايعته ثم قتل بعد ذلك، وعاد الأمر إلى بني أمية وإلى الشام، ولعل السر في ذلك يكمن في أن الشام وقتذاك هي ذات الجند الأقوى وهي الأكثر قدرة على الحركة فمن غلب عليها فقد غلب. كانت المناطق التي تصلح أن تكون قواعد للحكم ثلاثة: العراق والشام والحجاز فهذه من الإمة الإسلامية في القلب، ولقد دخلت العراق أكثر من حرب خاسرة مع بني أمية فلم تربح الجولة لا مع علي رضي الله عنه ولا مع الحسن رضي الله عنه، وقد خذلت الحسين رضي الله عنه وكانت الشام لبن أمية خالصة فلم يبق إلا الحجاز، وقد ثارت الحجاز ثورتين: ثورة في المدينة، وانتهت نهاية مأساوية، والثورة الثانية في مكة وكان على رأسها ابن الزبير رضي الله عنه وانتهت نهاية مأساوية. ولقد ثارت العراق مرة أخرى بزعامة عبد الرحمن بن الأشعث فلم تفلح. كان انتزاع السلطة من بني أمية يحتاج إلى قوة أخرى، ولقد استطاع العباسيون أن يدخلوا هذه القوة في الميدان فأزالوا سلطان بني أمية. من بعض الروايات التي مرت معنا ندرك سبباً من أسباب تغلب بني أمية وهو أن رؤوس المسلمين لم يكونوا متحمسين لاستخلاص الحكم من بني أمية لأنهم كانوا يرون أن الصراع ضدهم صراع دنيوي، فلم يكن أهل الآخرة متحمسين، وكان أهل الشام يصارعون بعقلية الجندي. * * *

الوصل الثالث في نماذج من أصحابه

الوصل الثالث في نماذج من أصحابه

تمهيد

تمهيد ذكرنا من قبل عددا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عنهم، فذكرنا أزواجه وهن من أصحابه، وذكرنا عددا من اهل بيته الذين يعتبرون من أصحابه، وذكرنا الخلفاء الراشدين وهم من أصحابه، ونحن في هذا الوصل سنخص بالذكر عدداً من أصحابه ما بين رجل وامرأة بأكثر ما يكون الاختصار، وقد نكتفي عند ذكر بعضهم ببعض وما ورد فيهم ليأخذ القارئ صورة عن هذه النماذج الرفيعة وإلا فالأمر أوسع من أن يسعه هذا الكتاب، فقد ترجم ابن حجر العسقلاني في الإصابة الحوالي (12279) من الصحابة، وهؤلاء إنما دخلوا في دائرة الترجمة عند المحدثين لأن لهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فعدد الصحابة أكثر بكثير، فقد ذكر كتاب السير أن الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بلغوا تسعين ألفاً ويعتبرون هؤلاء جميعاً من أصحابه ولم يحج كل المسلمين، فعدد الصحابة أكبر من ذلك. {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ ..} (1). ولنبدأ ذكر الصحابة مبتدئين بذكر ما سوى الخلفاء الراشدين من العسرة المبشرين بالجنة، مبتدئين بأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مقلدين في ذلك الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، وقد تخيرنا ثلاثة كتب ننقل عنها شذرات لبعض التراجم هي: البداية والنهاية، والإصابة، وسير أعلام النبلاء، وذلك لأن أصحاب هذه الكتب ممن استقر في ضمير هذه الأمة حبهم والثقة بهم، ثم هم من المتأخرين الذين استوعبوا ما كتب قبلهم، وكانوا من المحققين الذين محصوا الروايات والمرويات فكانوا أئمة في هذا الشأن، وقد استفدنا في هذا المقام وغيره من تحقيقات الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله على كتاب الذهبي * * *

_ (1) الفتح: 29.

1 - أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

1 - أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال ابن كثير في البداية والنهاية: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي أبو عبيدة بن الجراح الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد، وهم عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح أسلموا على يدي الصديق. ولما هاجروا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ وقيل بين محمد بن مسلمة. وقد شهد بدراً وما بعدها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح" ثبت ذلك في الصحيحين. وثبت في الصحيحين أيضاً أن الصديق قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوه -يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة- وبعثه الصديق أميراً على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالداً من العراق كان أميراً على أبي عبيدة وغيره لعلمه بالحروب. فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالداً وولى أبا عبيدة ابن الجراح، وأمره أن يستشير خالدا، فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد. قال ابن عساكر: هو أول من سمي أمير الأمراء بالشام .... توفي بالطاعون عام عمواس والصحيح أن عمواس كانت في سنة ثماني عشرة- بقرية فحل، وقيل بالجابية. وقد اشتهر في هذه الإعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه والله أعلم. وعمره يوم مات ثمان وخمسون سنة. اهـ وقال ابن حجر العسقلاني: كان فتح أكثر الشام على يده. وقال الذهبي: "يجتمع هو والنبي صلى الله عليه وسلم في فهر، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه أمين الأمة، ومناقبه شهيرة جمة، روى أحاديث معدودة وغزا غزوات مشهودة. هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وهو صاحب غزوة سيف البحر المشهورة بقصة حوت العنبر، وقد أمد به رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وهو ممن جمع القرآن، واجتمع له حسن الخلق والحلم الزائد والتواضع، وقد ولي

لأبي بكر بيت المال ثم وجهه إلى الشام وولاه ربعا من الأرباع، ثم جعله عمر أمير الأمراء في الشام وكان هو الأمير يوم فتح دمشق. كان رجلاً نحيفا معروق الوجه (قليل اللحم) خفيف اللحية طوالاً أجنى (ينعطف كاهله نحو صدره) أهتم (منزوع الثنتين بسبب نزعه حلقتي المغفر من وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد) وكان من أجمل الناس صورة. قال الذهبي في ترجمته: ولما تفرع الصديق من حرب أهل الردة، وحرب مسيلمة الكذاب، جهز أمراء الأجناد لفتح الشام. فبعث أبا عبيدة، وزيد ابن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنه، فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة، ونصر الله المؤمنين، فجاءت البشرى، والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فحل ووقعة مرج الصفر، وكان قد سير أبوبكر خالداً لغزو العراق، ثم بعث إليه لينجد من بالشام، فقطع المفاوز على برية السماوة، فأمره الصديق على الأمراء كلهم، وحاصروا دمشق، وتوفي أبوبكر. فبادر عمر بعزل خالد، واستعمل على الكل أبا عبيدة، فجاءة التقليد، فكتمه مدة، وكل هذا من دينه ولينه وحلمه، فكان فتح دمشق على يده، فعند ذلك أظهر التقليد، ليعقد الصالح للروم، ففتحوا له باب الجابية صلحاً، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي، فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح. فمن المغيرة: أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقتل منهم خلق عظيم. اهـ. قال الزبير بن بكار: قد انقرض نسل أبي عبيدة وولد إخوته جميعاً. وفيه نزل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} (1) فقد أخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن شوذب قال: جعل

_ (1) المجادلة: 23.

والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر فيحيد عنه فلما أكثر قصده فقتله فنزلت. وقد مر معنا اسمه في أكثر من مكان من قبل في غزوة ذات السلاسل وفي الأحاديث الواردة في فضل الصحابة. ولأهمية ما حدث في غزوة ذات السلاسل في باب القدوة فإننا ننقل ما ذكره ابن الحجر: قال موسى بن عقبة في المغازي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذلت السلاسل وهي من مشارف الشام في بلي ونحوهم من قضاعة، فخشي عمر فبعث يستمد فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس من المهاجرين الأولين فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مدداً لعمر بن العاص فلما قدموا عليه قال أنا أميركم فقال المهاجرين بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين فقال إنما أنتم مددي فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان حسن الخلق متبعا لأمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعهده فقال تعلم يا عمرو أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لي: "إن قدمت على صاحبك فتطاوعا"، وإنك إن عصيتني أطعتك. وفي فؤاد ابن أخي سمى بسند صحيح إلى الشعبي قال: قال المغير بن شعبة لأبي عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمرك علينا وإن ابن النابغة ليس لك معه أمر يعني عمرو بن العاص فقال أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمرنا أن نتطاوع فأنا اطيعه لقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. اهـ ومما ورد فيه: 1741 - * روى البخاري ومسلم عن حذيفة: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، والله إن كان نبياً فلاعننا لا نفلح أبدا نحن ولا عقبنا بعدنا، قال: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا

_ 1741 - البخاري (7/ 93) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 21 - باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. ومسلم (4/ 1882) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 7 - باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. العاقب: الذي يلي السيد. يلاعناه: يباهلاه من قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

أميناً، فقال: "لأبعثن معكما رجلاً أميناً حق أمين حق أمين" فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة" فلما قام قال صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة". 1742 - * روى البخاري ومسلم عن أنس رفعه: "إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح". وفي رواية (2): إن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة". 1743 - * روى أبو نعيم والحاكم عن عمر بن الخطاب، قال لأصحابه: تمنوا فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله فقال: تمنوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبا فأنفقه في سبيل الله. قال: تمنوا قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جواهراً أو نحوه، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر. تمنوا فقالوا: ما تمنينا بعد هذا. قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجلاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله قال: ثم بعث بمال إلى حذيفة قال: انظر ما يصنع، قال: فلما أتاه قسمه، ثم بعث بمال إلى معاذ بن جبل فقسمه، ثم بعث بمال -يعني إلى أبي عبيدة- قال: انظر ما يصنع. فقال عمر: قد قلت لكم. أو كما قال .. أقول: المراد أن أبا عبيدة قسمه ووزعه وأنه بذلك تحققت فراسة عمر رضي الله عنه فيما سيصنع هؤلاء جميعاً. 1744 - * روى أحمد عن عمر قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن

_ 1742 - البخاري (8/ 93) 64 - كتاب فضائل الصحابة - 72 - باب قصة أهل نجران. ومسلم (4/ 1881) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 7 - باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. (2) مسلم: الموضع السابق. 1743 - الحلية (1/ 102)، والمستدرك (3/ 262)، مختصراً وسكت عنه الحاكم وكذلك الذهبي. وأورده البخاري في تاريخه الصغير. 1744 - أحمد في مسنده (1/ 18) مطولاً. وهو مرسل ورجاله ثقات.

قال الله لم استخلفته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلت إني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل نبي أمين، وأميني أبو عبيدة". 1745 - * روى الحاكم عن ثابت بن حجاج قال: قال عمر بن الخطاب: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت. فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله صلى الله عليه وسلم. عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: بلغ عمر أن أبا عبيدة حصر الشام، ونال منه العدو، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة، إلا جعل الله بعدها فرجا، وإنه لا يغلب عسر يسرين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}، الآية (2) قال فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد، فإن الله يقول: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، إلى قوله: {مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3) قال: فخرج عمر بكتابه، فقرأه على المنبر فقال: يا أهل المدينة: إنما يعرض بكم أبو عبيدة أو بي ارغبوا في الجهاد. 1746 - * روى الحاكم عن طارق بن شهاب قال أتانا كتاب عمر لما وقع الوباء بالشام، فكتب عمر إلى أبي عبيدة إنه قد عرضت لي إليك حاجة لا غنى لي بك عنها، فقال أبو عبيدة يرحم الله أمير المؤمنين يريد بقاء قوم ليسوا بباقين قال: ثم كتب إليه أبو عبيدة إني في جيش من جيوش المسلمين لست أرغب بنفسي عن الذي أصابهم فلما قرأ الكتاب استرجع فقال الناس مات أبو عبيدة؟ قال: لا وكان كتب إليه بالعزيمة فاظهر من أرض الأردن فإنها عميقة وبية إلى أرض الجابية فإنها نزهة ندية فلما أتاه الكتاب بالعزيمة أمر مناديه أذن في الناس بالرحيل. فلما قدم إلية بعيره ليركبه وضع رجله في الغرز ثني رجله فقال ما أرى داءكم إلا قد أصابني قال ومات أبو عبيدة، ورجع الوباء عن الناس.

_ 1745 - المستدرك (3/ 268)، وسكت عنه الحاكم والذهبي. (2) آل عمران: 200. (3) الحديد: 20. (4) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، وعزاه لابن المبارك في "الجهاد". وقال محقق السير: إسناده قوي ورجاله ثقات. 1746 - المستدرك (3/ 263). وقال: رواه هذا الحديث كلهم ثقات وقال الذهبي: وهو على شرط البخاري ومسلم.

1747 - * روى الحاكم والطبراني عن الحارث بن عميرة الحارثي قال: أخذ معاذ بن جبل يرسل الحارث بن عميرة إلى أبي عبيدة بن الجراح يسأله كيف هو؟ وقد طعن فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت من كفه فكأنه شانها وفرق منها حين رآها فأقسم أبو عبيدة له بالله ما يحب أن له مكانها حمر النعم.

_ 1747 - المستدرك (3/ 263). وسكت عنه الحاكم والذهبي. والمعجم الكبير (1/ 155).

2 - طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

2 - طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال ابن كثير في البداية والنهاية: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو محمد القرشي التيمي، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض لكرمه ولكثرة جوده. أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تيم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان، وقد هاجر وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدراً -فإنه كان بالشام لتجارة- وقيل في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره من بدر، وكانت له يوم أحد اليد البيضاء وشلت يده يوم أحد، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت كذلك إلى أن مات، وكان الصديق إذا حدث عن يوم أحد يقول: ذاك يوم كان كله لطلحه. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن صحبته حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما كان قضية عثمان اعتزل عنه فنسبه بعض الناس إلى تحامل فيه، فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به على فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف. ا. هـ. وكان قد بايع علياً من قبل، وقد قتله مروان بن الحكم كما سنرى. قال الذهبي: "قاتل طلحة في الوزر كقاتل علي" ولنعد إلى ابن كثير: وكان (قتله) يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلأ وكان عمره ستين سنة، وقيل بضعاً وستين سنة، وكان آدم، وقيل أبيض، حسن الوجه كثير الشعر إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم. وقال ابن حجر في ترجمته: أحد العشرة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشوري.

ومما ورد فيه: 1748 - * روى أحمد والترمذي عن الزبير كان على النبي صلى الله عليه وسلم درعان يوم أحد، فنهض إلى صخرة فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته وصعد حتى استوى على الصخرة فسمعته يقول: "أوجب طلحة". 1749 - * روى الترمذي وابن ماجه عن موسى بن طلحة، وأخيه عيسى عن أبيهما: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن {قَضَى نَحْبَهُ} (3) من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، وكانوا يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي، فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، قال طلحة: ثم طلعت من باب المسجد وعلى ثياب خضر، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عمن قضى نحبه؟ " قال الأعرابي: أنا يا رسول الله، فقال: "هذا ممن قضى نحبه" 1750 - * روى البخاري عن قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شلت. 1751 - * روى البخاري ومسلم عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في

_ 1748 - أحمد في مسنده (1/ 165). والترمذي (5/ 643، 644) 50 - كتاب المناقب - 22 - باب مناقب طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1749 - الترمذي 05/ 645) 50 - كتاب المناقب - 22 - باب مناقب طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وابن ماجة (1/ 46) مختصراً في المقدمة -11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه). النحب: النذر، وقيل: الموت، وذلك أن طلحة بن عبيد الله ألزم نفسه إذا لقي العدو، أن يصدقه القتال ففعل. الاجتراء: الإقدام على الأمر، والخسارة عليه. (3) الأحزاب: 23. 1750 - البخاري (7/ 359) 64 - كتاب المغازي - 17 - باب غزوة أحد. 1751 - البخاري (7/ 82) 62 - كتاب فضائل الصحابة - 14 - باب ذكر طلحة بن عبيد الله. ومسلم (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة -6 - باب فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما. عن حديثهما: أي هما حدثاني بذلك.

تلك الأيام التي قاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما. 1752 - * روى الطبراني عن قبيصة: ما رأيت رجلا قط أعطى الجزيل من المال غير مسألة من طلحة بن عبيد الله، وكان أهله يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفياض. 1753 - * روى الطبراني عن طلحة بن يحي عن جدته سعدي قالت: دخل علي يوماً طلحة فرأيت منه فعلا فقلت له مالك؟ لعله رابك مناشئ فيعمك قال: لا، ولنعم حليلة المرء المسلم أنت ولا كبر، ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به؟ قالت: وما يغمك منه! ادع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام علي قومي. فسألت الخازن كم قسم؟ قال أربعمائة ألف. 1754 - * روى النسائي عن جابر قال: لما كان يوم أحد، وولى الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية في اثني عشر رجلاً، منهم طلحة، فأدركهم المشركون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من للقوم؟ " قال طلحة: أنا، قال: "كما أنت" فقال رجل: أنا، قال: "أنت" فقاتل حتى قتل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: "من لهم؟ " قال طلحة: أنا. قال: "كما أنت" فقال رجل من الأنصار: أنا، قال: "أنت" فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحة، فقال: "من للقوم؟ " قال طلحة: أنا، فقاتل طلحة، قتال الأحد عشر حتى قطعت أصابعه، فقال: حس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوقلت: باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون" ثم رد الله المشركين. 1755 - * روى الحاكم عن علقمة بن وقاص قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة

_ 1752 - المعجم الكبير (1/ 111، 112). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 147). وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1753 - المعجم الكبير (1/ 112). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 148). وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. رأيت منه فعلاً: أي رأت منه فعلاً يدل على انزعاج. 1754 - النسائي (6/ 29، 30) كتاب الجهاد، باب ما يقول من يطعن العدو. ورواته ثقات. 1755 - المستدرك (3/ 118) وقال: الذهبي: إسناده جيد.

لطلب دم عثمان رضي الله عنهم عرضوا من معهم بذات عرق فاستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فردوهما قال: ورأيته وأحب المجالس إليه أخلاها أو هو ضارب بلحيته على زوره. فقلت له. يا أبا محمد إني أراك وأحب المجالس إليك أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك. إن تكره هذا اليوم فدعه، فليس يكرهك عليه أحد قال: يا علقيه بن وقاص لا تلمني، كنا يدا واحدة على من سوانا فأصبحوا اليوم جبلين يزحف أحدنا إلى صاحبه ولكنه كان مني في أمر عثمان رضي الله عنه ما لا أرى كفارته إلا أن يسفك دمي في طلب دمه. قلت: فمحمد بن طلحة لم تخرجه ولك ولد صغار دعه فإن كان أمرا خلفك في تركتك قال هو أعلم أكره أن أرى أحدا له في هذا الأمر نية فأراده فكلمت محمد بن طلحة في التخلف فقال: أكره أن أسأل الرجال عن أبي. 1756 - * روى الترمذي عن مالك بن أبي عامر، قال: جاء رجل إلى طلحة فقال: أرأيتك هذا اليماني هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم -يعني أبا هريرة- نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، قال: أما إن قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، فلا أشك، وسأخبرك: إنا كنا أهل بيوت، وكنا إنما نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة وعشية، وكان مسكينا لا مال له، إنما هو على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أشك إنه قد سمع ما لم نسمع، وهل تجد أحدا فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؟ 1757 - * روى الطبراني عن يحي بن بكير قتل طلحة يوم الجمل في جمادى سنة ست وثلاثين، وسنة ثنتان وخمسون أو أربع وخمسون سنة. 1758 - * روى الطبراني عن قيس بن حازم قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى

_ = ضارب بلحيته على زوره: أي مطرق، والزور: الصدر. 1756 - الترمذي (5/ 683، 684) 50 - كتاب المناقب - 47 - باب مناقب لأبي هريرة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1757 - المعجم الكبير (1/ 113). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 150). وقال: رواه الطبراني عن يحيى هكذا ورجاله رجال الصحيح. 1758 - المعجم الكبير (1/ 113). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 150). وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

طلحة بسهم فوقع في عين ركبته، فمازال يسيح إلى أن مات. 1759 - * روى الطبراني عن طلحة بن مصرف: أن عليا انتهى إلى طلحة بن عبيد الله وقد مات فنزل عن دابته وأجلسه فجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه ويبكي ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. * * *

_ 1759 - المعجم الكبير (1/ 113، 114). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 150). وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

3 - الزبير بن العوام رضي الله عنه

3 - الزبير بن العوام رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الأسدي، وامه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديما وعمره خمس عشرة سنة وقيل أقل وقيل أكثر هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة ابن وقش، وقد شهد المشاهد كلها. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة، وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمه العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى أخرهم، وكان من جمله من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الأحنف بن قيس -وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين- فقال قائل له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته؟ من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم، فيقال إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه، ويقال: بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: أن لى إليك حاجة فقال: ادن! فقال مولى الزبير، واسمه عطية، إن معه سلاحا فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة فقال له الزبير: الصلاة فقال: الصلاة فتقدم الزبير ليصلى بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله، ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله، وهذا القول هو الأشهر. وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد

ذلك ثلث ماله الذي أوصى به ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف والثلث الموصي به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف والدين المخرج فبل ذلك ألفا الف ومائتا ألف. وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والمآثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد من خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل أنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الأيام بخرجهم كلهم رضي الله عنه وارضاه، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخر سنة ست وثلاثين وقد نيف على الستين بست أو سبع. ا. هـ. 1760 - * روى الطبراني عن أبي الأسود: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشر، وكان عمه يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول لا أكفر أبدا. وكانت أمه صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حازمة في تأديبه صغيرا فنشأ غلى الفتوة والقوة والصبر والجلد، وهو من جملة من أسلم على يد أبي بكر وكان هو وطلحة وعلى أترابا (في سن واحد)، وكان أسمر طويلا إذا ركب خطب رجلاه الأرض، خفيف اللحية والعارضين. قال الذهبي: وعن الثوري قال: هؤلاء الثلاثة نجدة الصحابة حمزة وعلي والزبير، وكان إذ جعله بعض الصحابة وصيا على ذرية أنفق عليهم من ماله وحفظ أموالهم. وقال الذهبي في عثمان وعلي وطلحة والزبير: من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن البدريين، ومن أهل بيعة الرضوان، ومن السابقين الأولين الذين أخبر الله تعالى أنه رضي

_ 1760 - المعجم الكبير (1/ 122). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 151). وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.

عنهم ورضوا عنه، ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا الشهادة فنحن محبون لهم مبغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة. وهذه بعض روايات في مناقبة وقد مرت روايات من قبل تشمله: 1761 - * روى البخاري ومسلم عن جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخير القوم؟ " فقال الزبير أنا، ثم قال: "من يأتين بخير القوم؟ " فقال الزبير أنا، ثم قال في الثلاثة: "إن لكل نبي حواريا وأن حواري الزبير". 1762 - * روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمرو بن أبي سلمة مع النساء يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم في أطم حسان بن ثابت، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة، فلما رجع قلت: يا أبت رأيتك تختلف، قال وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يأتي بني قريظة فيأتني بخبرهم؟ " فانطلقت فلما رجعت جمع لي صلى الله عليه وسلم أبويه قال: "فداك أبي وأمي". 1763 - * روى الترمذي عن عروة أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحه يوم الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذلك مني إلى الفرج. 1764 - * روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: أصاب عثمان رعاف شديد سنة الرغاف حتى حبسه عن الحج، وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش فقال: استخلف، فقال عثمان: أو قالوه؟ قال: نعم، قال: ومن هو؟ فسكب، قال فلعلهم قالوا الزبير؟

_ 1761 - البخاري (6/ 52) 56 - كتاب الجهاد - 40 - باب فضل الطليعة. ومسلم (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة -6 - باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما. 1762 - البخاري (7/ 80) 62 - كتاب فضائل الصحابة -13 - باب مناقب الزبير بن العوام. ومسلم (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة -6 - باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما 1763 - الترمذي (5/ 647) 50 - كتاب المناقب -25 - باب مناقب الزبير بن العوام رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1764 - البخاري (7/ 79) 62 - كتاب فضائل الصحابة -13 - باب مناقب الزبير بن العوام.

قال: نعم، قال أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1765 - * روى البخاري عن عروة: كان في الزبير ثلاث ضربات: إحداهن في عاتقه إن كنت لأدخل أصابعي فيها ألعب بها وأنا صغير، قال له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فقل: إن شددت كذبتم، قالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلا فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين بينهما ضربه ضربها يوم بدر. وكان معه عبد الله يومئذ (أي يوم يرموك) وهو ابن عشر سنين [وقيل اثني أو ثلاث عشر، عاما] فحمله على فرسه فوكل به رجلا. 1766 - * روى البخاري عن عروة، قال لي عبد الملك بن مروان حين قتل عبد الله: يا عروة هل تعرف سيف الزبير؟ قلت: نعم، قال: فما فيه؟ قلت فيه فلة فلها يوم بدر، وقال صدقت بهن فلول من قراع الكتائب، ثم رده على عروة، قال هشام: فأقمناه بثلاثة آلاف فأخذه بعضنا، ووددت أني كنت أخذته وكان على بعضه. 1767 - * روى البخاري عن الزبير بن العوام القرشي رضي الله عنه قال: لقيت يوم بدر عبيدة- ويقال: عبيدة- بن سعيد بن العاص، وهو مدجح، لا يرى منه ألا عيناه، وكان يكنى أبا ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه، فمات، قال هشام بن عروة: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطيت فكان الجهد: أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم طلبها ابو بكر، فأعطها إياها، فلما قبض أبو بكر أخذها، ثم سألها عمر، فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان

_ 1765 - البخاري (7/ 299) 64 - كتاب المغازي - 8 - باب قتل أبي جهل. 1766 - البخاري (7/ 299) 64 - كتاب المغازي - 8 - باب قتل أبي جهل. 1767 - البخاري (7/ 314) 64 - كتاب المغازي - 12 - باب حدثني خليفة. مدجج: غائص في سلاحه. الجهد: بضم الجيم: الوسع والطاقة، وبفتحها: المشقة، وقيل: هما لغتان في المشقة. العنزة: شبه العكازة، في رأسها سنان كسنان الرمح.

منه، فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت إلى آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل. 1768 - * روى البزار عن ابن عمر أن الزبير استأذن عمر في الجهاد فقال: اجلس فقد جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1769 - * روى البزار عن نافع قال: سمع ابن عمر رجلا يقول: يا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن كنت من أهل الزبير وإلا فلا. 1770 - * روى الحاكم عن زر بن حبيش قال: كنت جالسا عند علي فأتى برأس الزبير ومعه قاتله، فقال علي للآذن بشر قاتل ابن صفية بالنار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يقول: "لكل نبي حواري وأن حواري الزبير". 1771 - * روى البخاري ومسلم عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: "من يأتينا بخبر بني قريظة؟ " فقال لزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم. ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لكل بني حوراي، وحواري الزبير". 1772 - * روى أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي". 1773 - * روى الحاكم عن الزبير قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "لكل بني

_ 1768 - البزار: كشف الأستار (3/ 212). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 152): رواه البزار وإسناده حسن. 1769 - البزار: كشف الأستار (3/ 211، 212). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 151): رواه البزار ورجاله ثقات. قال: إن كنت: أي قال ابن عمر للمخاطب. 1770 - المستدرك (6/ 367). وصححه ووافقه الذهبي، وإسناده حسن. 1771 - البخاري (6/ 52) 56 - كتاب الجهاد -4 - باب فضل الطليعة. ومسلم (4/ 1879) 44 - كتاب فضائل الصحابة -6 - باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما. 1772 - أحمد في مسنده (3/ 314) وإسناده صحيح. 1774 - المستدرك (3/ 362) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة. ووافقه الذهبي.

حواري وحواري الزبير وابن عمتي". 1774 - * روى الحاكم عن عروة قال: لما كان يوم الجمل دعا الزبير ابنه عبد الله فأوصى إليه فقال: يا بني إن هذا يوم ليقتلن فيه ظالم أو مظلوم والله لئن قتلت لأقتلن مظلوماً، والله ما فعلت ولا فعلت انظر يا بني ديني فأني لا أدع شيئاً أهم إلي منه، وهو ألف ألف ومائتا ألف. وقصة وصاته لابنة عبد الله في دينه وتركته مذكورة في البخاري تفصيلاً. 1775 - * روى الحاكم عن عروة قال قال عبد الله بن الزبير لأبيه يا أت حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم حتى أحدث عنك، فإن كل أبناء الصحابة يحدث عن أبيه. فقال: يا بني ما من أحد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصحبة إلا وقد صحبته بمثلها أو أفضل منها ولقد علمت بأن أمك أسماء ابنة أبي بكر كانت تحتي وأن خالتك عائشة بنت أبي بكر ولقد علمت أن أمي صفية بنت عبد المطلب وأن أخوالي حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وعباس وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن خالي ولقد علمت أن عمتي خديجة بنت خويلد كانت تحته، وأن ابنتها فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد علمت أن خديجة أم أمها حبيبة بنت أسد بن عبد العزى ولقد علمت أن أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. ولقد صحبته بأحسن صحبة والحمد لله، ولقد سمعته يقول: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار". 1776 - * روى الطبراني عن عروة قال: كانت على الزبير يوم يدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سماء الزبير.

_ 1774 - المستدرك (3/ 365) ورواته ثقات. 1775 - المستدرك (3/ 361، 362). وفي معناه روايات كثيرة والقسم الأخير منه معناه متواتر، وبعض روايات الحديث حسنة السند مرسلة، والقسم الأول من الرواية المراد منه: أن نسب الزبير مرتبط بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتباطاً وثيقاً. 1776 - المعجم الكبير (1/ 120). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 84): وهو مرسل صحيح الإسناد.

1777 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (2) قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر. لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير. 1778 - * روى الحاكم عن عروة قال: كانت نفحة من الشيطان أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ فسمع بذلك الزبير وهو ابن إحدى عشرة سنة فخرج بالسيف مسلولا حتى وقف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال "ما شأنك؟ " فقال: أردت أن أضرب من أخذك فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولسيفه وكان أول سيف سل في سبيل الله عز وجل. 1779 - * روى أحمد (عن مطرف) قال: قلت للزبير: ما جاء بكم؟ ضيعتهم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ قال: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (5)، لم نكن نحسب أنا أهلها، حتى وقعت منا حيث وقعت. 1780 - * روى ابن سعد عن ابن عباس أنه أتى الزبير فقال: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب؟ قال: فرجع الزبير فلقيه ابن جرموز فقتله، فأتى ابن عباس عليا فقال: إلى أين قاتل ابن صفية؟ قال علي: إلى النار.

_ 1777 - البخاري (7/ 373) 64 - كتاب المغازي 25 - باب {الذين استجابوا لله والرسول}. (2) آل عمرن: 172. 1778 - المستدرك (3/ 360، 361). رجاله ثقات لكنه مرسل، وسكت عنه الذهبي. نفحت نفحة من الشيطان: المراد ظهرت شائعة. 1779 - أحمد في مسنده (1/ 165) وإسناده حسن. (5) الأنفال: 25. 1780 - الطبقات الكبرى (3/ 110) ورجاله ثقات. وقال الحافظ في الإصابة: سنده صحيح.

1781 - * روى ابن سعد عن (جون بن قتادة) قال: كنت مع الزبير يوم الجمل، وكانوا يسلمون عليه بالإمرة، إلى أن قال: فطعنه ابن جرموز ثانيا، فأثبته، فوقع، ودفن بوادي السباع، وجلس علي رضي الله عنه يبكي عليه هو وأصحابه. 1782 - * روى الطبراني عهن (يحيى بن بكير): قتل الزبير يوم الجمل لا أدري الأولى، أو الآخرة سنة ست وثلاثين، وأسلم وهو ابن ثمان سنين، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، فهو يوم قتل ابن سبع وخمسين، وإن أقام عشر سنين فالزبير ابن أربع وخمسين. 1783 - * روى البخاري عن عبدالله بن الزبير قال: لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال: يا بني لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني، أفترى ببقي ديننا من مالنا شيئاً فقال: يا بني، بع مالنا، فاقض ديني وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه- يعني بني عبد الله بن الزبير، يقول: ثلث الثلت- فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدين فثلثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير -خبيب وعباد- وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة من موالك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه. فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع ديناراً ولا درهماً، إلا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط ولا جباية خراج ولا شيئاً إلا أن

_ 1781 - الطبقات الكبرى (3/ 111، 112) ورجاله ثقات. 1782 - المعجم الكبير (1/ 122). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 153) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 1783 - البخاري (6/ 227، 228) 57 - كتاب فرض الخمس - 13 - باب بركة الغازي في ماله حياً وميتاً مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر.

يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. قال عبد الله ابن الزبير فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن أخي: كم على أخي من الدين؟ فكتمه. فقال: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أرايتك إن كانت ألفى ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي: قال: وكان الزير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف. فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف: ثم قام فقال: من كان له على الزبير حق فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر- وكان له على الزبير أربعمائة ألف- فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم. فقال عبد الله: لا. قال قال: فاقطعوا لي قطعة. قال عبد الله: لك من ها هنا إلى ها هنا. قال فباع منها فقضى دينه فأوفاه. وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية- وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير، وابن زمعة- فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف. قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهماً بمائة ألفة. وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية كم بقي؟ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف. فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه: قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم. فلما مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان الزبير أربع نسوة، ورفع الثلث فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. * * *

4 - عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه

4 - عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري، أسلم قديماً على يدي أبي بكر، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدراً وما بعدها، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب وارخى له عذبة بين كتفيه، لتكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا. ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وهو في الصحيح. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى. ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقى من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة- فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زنقها (كدرها) وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير، حتى كانت عائشة تقول سقاه الله من السلسبيل. وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع، وكان نساؤه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة. وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، رقيق البشرة، أعين أهدب الأشفار، أقنى، له جمة، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه. ا. هـ.

وقال ابن حجر في ترجمته: وأسلم قديماً قبل دخول دار الأرقم وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وسائر المشاهد .. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع ... وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل وأذن له أن يتزوج بنت ملكهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي ففتح عليه فتزوجها وهي تماضر أم ابنة أبي سلمة ... وهو الذي رجع عمر بحديثه من سرع (موضع قرب الشام بين المغيثة وتبوك)، ولم يدخل الشام بسبب الطاعون ... ورجع إليه عمر في أخذ الجزية من المجوس كما في صحيح البخاري ... ويقال إنه جرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة ... وعاش اثنين وسبعين سنة ... ا. هـ. وقال الذهبي في ترجمته: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محاببا فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص. عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثاً. عن ابن المسيب قال: كان بين طلحة وابن عوف تباعد، فمرض طلحة، فجاء عبد الرحمن يعوده، فقال طلحة أنت والله يا أخي خير مني. قال: لا تفعل يا أخي، قال: بلى والله، لأنك لو مرضت ما عدتك. عن سعد بن الحسن قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيدة. ا. هـ. أقول: لقد كان عقل عبد الرحمن بن عوف من أثقب العقول في الحكم والسياسية والاقتصاد، فكثير من معضلات السياسة والحكم والاقتصاد كان له رأي سديد في حلها وهذه بعض الروايات فيه وفي مناقبه.

1784 - * روى ابن ماجه عن المغيرة بن شعبة قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانتهينا إلى القوم وقد صلى بهم عبد الرحمن بن عوف ركعة فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر، فأوما إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتم الصلاة، قال: "وقد أحسنت كذلك فافعل". 1785 - * روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان اسمي في الجاهلية عبد عمرو، فسماني رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم عبد الرحمن. 1786 - * روى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء، فصبرنا، ثم ابتلينا بعده بالسراء فلم نصبر. 1787 - * روى الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لنسائه: "إن أمركن مما يهمني من بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون الصديقون" قال عائشة: يعني المتصدقين- ثم قالت عائشة لأبي لسمة بن عبد الرحمن: سقى الله أباك من السلسبيل الجنة، وكان ابن عوف قد تصدق على أمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعين ألفاً. 1788 - * روى الترمذي والحاكم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف.

_ 1784 - ابن ماجة (1/ 392) 5 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - 143 - باب ما جاء في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف رجل من أمته. 1785 - المستدرك (3/ 306). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم خرجاه. ووافقه الذهبي. 1786 - الترمذي (4/ 642) 38 - كتاب صفة القيامة - 30 - باب حدثنا قتيبة ... وقال: هذا حديث صحيح. 1987 - الترمذي (5/ 648) 50 - كتاب المناقب - 26 - باب مناقب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حن صحيح غريب. والمستدرك (3/ 311، 312). وقال: فقد صح الحديث عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. ووافقه الذهبي. سلسبيل: السلسبيل: اسم عين في الجنة، ويقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل: إذا كان سائغاً سلسًا في الحلق: وهو صفة لما كان في غاية السلاسة. الحديقة: البستان عليه حائط أحدق به. 1788 - الترمذي (5/ 649) 50 - كتاب المناقب - 26 - باب مناقب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حن صحيح غريب.=

1789 - * روى الحاكم وابن سعد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية فظنوا أنها قد فاضت نفسه فيها حتى قاموا من عنده وجللوا ثوبا وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين فيما أمرت به من الصبر والصلاة، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق فكان أول ما تكلم به أن كبر فكبر أهل البيت ومن يليهم ثم قال لهم: غشي علي آنفا قالوا: نعم. فقال: صدقتم. فقال: إنه انطلق بي في غشيتي رجلان، أحدهما فيه شدة وفظاظة فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز العليم. فقال: ارجعاه فإنه من الذين كتب الله لهم السعادة والمغفرة في بطون أمهاتهم وإنه سيتمتع به بنوة إلى ما شاء الله، فعاش بعد ذلك شهرا ثم توفي رضي الله عنه. 1790 - * روى الحاكم وابن سعد عن إبراهيم بن سعد قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول لعبد الرحمن بن عوف يوم مات: أذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها. عن سعيد بن المسيب أن سعد بن أبي وقاص أرسل إلى عبد الرحمن رجلا وهو قائم يخطب: أن ارفع رأسك إلى أمر الناس. أي ادع إلى نفسك. فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك! إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عمر إلا لامه الناس (3). عن (ابن عمر) قال: استخلف عمر عبد الرحمن بن عوف على الحج سنة ولي الخلافة، ثم حج عمر في بقية عمره (4). 1791 - * روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما قدمنا المدينة

_ = والمستدرك (3/ 312) بنحوه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. 1789 - المستدرك (3/ 307). وسكت عنه الذهبي. والطبقات الكبرى (3/ 134، 135) وأسانيده صحيحة. 1790 - المستدرك (3/ 308). وإسناده صحيح. والطبقات الكبرى (3/ 135، 136). رنقها: الرنق الكدر. (3) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 87). وقال محققه: رجاله ثقات. (4) ذكره الحافظ في الإصابة (4/ 177) عن خليفة بسند قوي. 1791 - البخاري (6/ 288) 34 - كتاب البيوع -1 - باب ما جاء في قول الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.

آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع. فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي. وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها. قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك. هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن. قال: ثم تابع الغدو. فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت؟ " قال: نعم. قال: "من؟ " قال: امرأة من الأنصار. قال: "كم سقت؟ " قال: زنة نواة من ذهب -أو نواة من ذهب- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة". أخرجه البخاري. قال الذهبي: ثم آل أمره في التجارة إلى ما آل. قال أبو عمر بن عب البر: كان مجدوداً في التجارة خلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس، وكان يوزع بالجرف على عشرين ناضحاً. أقول: هذا على كثرة إنفاقه في سبيل الله، قال الذهبي: هذا هو الغني الشاكر، وأويس فقير صابر، وأبو ذر أو أبو عبيدة زاهد عفيف. * * *

5 - سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

5 - سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: سعد بن أبي وقاص واسمه (أبو وقاص) مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أبو اسحاق القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أسلم قديماً: وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام سابع سبعة، وهو الذي كوف الكوفة (جعلها مدينة) ونفي عنها الأعاجم، وكان مجاب الدعوة، وهاجر وشهد بدراً وما بعدها، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه على الكوفة، وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جلولاء. وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك. وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى، ثم ولاه عثمان بعدها ثم عزله عنها. وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال فصلى عليه مروان، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات، ودفن بالبقيع. وكان ذلك في هذه السنة -سنة خمس وخمسين- على المشهور الذي عليه الأكثرون، وقد جاوز الثمانين على الصحيح. قالوا كان قصيراً غليظاً شثن الكفين أفطس أشعر الجسد، يخضب بالسواد، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا [من الدراهم] ا. هـ. وقد وصفه النووي في تهذيب الأسماء والصفات: وكان آدم [اسمر] طوالاً ذا هامة. ومن كلام ابن حجر في ترجمته: وكان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك ... ولما قتل عثمان لزم بيته واعتزل الفتنة ... وكان من أحد الناس بصراً، وكان سعد أول من رمى بسهم في سبيل الله [وذلك في جيش عبيدة بن الحارث حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رابغ يلقي غير

قريش] عن أبي إسحاق قال: أشد الصحابة [أقواهم جسماً] أربعة: عمر وعلي والزبير وسعد أ. هـ. قال الذهبي: ومن مناقب سعد أن فتح العراق كان على يدي سعد، وهو كان مقدم الجيوش يوم وقعة القادسية، ونصر الله دينه. ونزل سعد بالمدائن، ثم كان أمير الناس يوم جلولاء فكان النصر على يده، واستأصل الله الأكاسرة. وقع له في مسند بقي بن مخلد مئتان وسبعون حديثاً، فمن ذلك في الصحيح ثمانية وثلاثون حديثاً. أ. هـ. ومما ورد فيه وفي مناقبه: 1792 - * روى البخاري ومسلم عن علي: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد ارم فداك أبي وأمي". 1793 - * روى البخاري عند سعد: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام. قوله: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه): قال ابن حجر: هذا بحسب طلاعه أو يحمل قوله على الأحرار البالغين ا. هـ، ويشتمل قول سعد على ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله، لكن وردت بدون "إلا" ولا إشكال فيها وعلى هذه الرواية تحمل "حسب اطلاعه" والله اعلم. 1794 - * روى مسلم عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. ولا تأكل ولا تشرب., قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك. وأنا أمك. وأنا آمرك بهذا.

_ 1792 - البخاري (7/ 358) 64 - كتاب المغازي -18 - باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا ... الآية}. ومسلم (4/ 1876) 44 - كتاب فضائل الصحابة -5 - باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 1793 - البخاري (7/ 83) 62 - كتاب فضائل الصحابة -15 - باب فضل سعد بن أبي وقاص الزهري. 1794 - مسلم (4/ 1877) 44 - كتاب فضائل الصحابة -15 - باب فضل سعد بن أبي وقاص الزهري

قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد. فقام ابن لها يقال له عمارة. فسقاها. فجعلت تدعو على سعد. فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} (1) وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2). قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة. فإذا فيها سيفا فأخذته. فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم. فقلت: نفلني هذا السيف. فأنا من قد علمت حاله. فقال "رده من حيث أخذته" فانطلقت. حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه. فقلت: أعطنيه. قال فشد لي صوته "رده من حيث أخذته" قال فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (3). قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال فأبى. قلت: فالنصف. قال فأبى. قلت: فالثلث. قال فسكت. فكان، بعد، الثلث جائزا. قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين. فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا. وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال فأتيتهم في حش -والحش البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم، ورزق من خمر. قال فأكلت وشربت معهم. قال فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم. فقلت: المهاجرين خير من الأنصار. قال فأخذ رجل أحد لحيى الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فأنزل الله عز وجل في -يعني نفسه- شأن الخمر- {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (4).

_ (1) العنكبوت: 8. (2) لقمان: 15. القبض: هو الموضع الذي يجمع فيه الغنائم. (3) الأنفال: 1. (4) المائدة: 90.

1795 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر مقدمه المدينة ليلة، فقال: "ليت رجلاً من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة" فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة سلاح، فقال "من هذا؟ " قال: أنا سعد، قال له "ما جاء بك؟ " قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له ثم نام. 1796 - * روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك". وقال: وقد روي هذا الحديث عن قيس بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" وهذا أصح. 1797 - * روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله". وقال: كان سعد من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "هذا خالي". 1798 - * روى البخاري عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر بن الخطاب، فعزله، واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن

_ 1795 - البخاري (6/ 81) 56 - كتاب الجهاد -70 - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. ومسلم (4/ 1875) 44 - كتاب فضائل الصحابة -5 - باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 1796 - الترمذي (5/ 649) 50 - كتاب المناقب-27 - باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال حديث صحيح الإسناد. والمستدرك (3/ 499). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. 1797 - الترمذي (5/ 649) 50 - كتاب المناقب-27 - باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال هذا حديث حسم غريب. والمستدرك (3/ 498). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي .. 1798 - البخاري (2/ 236) 10 - كتاب الأذان -95 - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت.=

يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال: أما أنا فوالله إني كنت أصلى بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أخرم عنها: أصلى صلاتي العشي، فأركد في الأوليين، وأخفف في الأخريين، قال: فإن ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً -أو رجالاً- إلى الكوفة، يسأل عنه أهل الكوفة، فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه؟ ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة -يكنى أبا سعدة- فقال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله، لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن. فكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابني دعوة سعد. قال عبد الملك بن عمير -الراوي عن جابر بن سمرة- فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق، فيغمزهن. 1799 - * روى البزار عن سعد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أستخبر له خبرا، فذهبت وأنا أسعى حتى صرت إلى القوم، ثم جئت وأنا أمشي على هينتي حتى صرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته، فقال "ذهبت شديداً ثم جئت على هينتك" أو كما قال. فقلت: يا رسول الله إني كرهت أن أسعى فيظن بي القوم أني قد فرقت فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن سعدا لمجرب".

_ = لا أخرم عنها: ما خرمت منه شيئاً، أي: ما نقصت. صلاتي العشي: صلاتا العشي ها هنا: هما صلاة الظهر والعصر، فإن العشي: هو من لدن زوال الشمس إلى آخر النهار، وقيل: إلى طلوع الفجر. الركود: كناية عن السكون والثبات. لا يسير بالسرية: لا يسير بالسرية، أي لا يحرج بنفسه معها في الغزو، ويجوز أن يريد: لا يسر فينا بالقضية السرية، أي: النفيسة. رياء وسمعة: يقال: فعل فلان كذا وكذا رياء وسمعة، أي ليرى فعلة ويسمع عنه ذلك. 1799 - البزار: كشف الأستار (3/ 207). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 155): رواه البزار وإسناده حسن. أسعى: أعدو.

1800 - * روى البخاري ومسلم والترمذي عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: إني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله ورأيتنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا الحبلة وورق السمر، وإن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعززني على الإسلام، لقد خبت إذا وضل عملي. وكانوا وشوا به إلى عمر، وقالوا: لا يحسن يصلي. 1801 - * روى البخاري عن قبيصة بن جابر قال ابن عم لنا يوم القادسية: ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد أمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم فبلغ سعدا قوله فقال عيي لسانه ويده فجاءت نشابة فأصابت فاه فخرس ثم قطعت يده في القتال فقال [سعد] احملوني على باب، فخرج به محمولا ثم كشف عن ظهره وفيه قروح فأخبر الناس بعذره فعذروه، وكان سعد لا يجبن. وفي رواية يقاتل حتى ينزل الله نصره وقال: وقطعت يده وقتل.

_ 1800 - البخاري (9/ 549) 70 - كتاب الأطعمة -23 - باب ما كان على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون. مسلم (4/ 2278) 53 - كتاب الزهد والرقائق حديث 12. الترمذي (4/ 582) 37 - كتاب الزهد - 39 - باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: حديث حسن صحيح غريب. الحبلة: ثم العضاه. والسمر: شجر معروف من شجر البادية وأشجار الشوك. يضع كما تضع الشاة: أرد أن نجوهم يخرج بعراً، ليبسه وعدم الغذاء المألوف. ماله خلط: أي: لا يختلط بعضه ببعض، لجفافه ويبسه. تعززني: على الإسلام: أي: توقفني وتوبخني على التقصير فيه، وقيل: معناه يعلمونني الفقه. 1801 - المعجم الكبير (1/ 141، 142). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 154). وقال: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات. معتصم: معصم لم يغادره، بمعنى أنه لم يشارك في القتال، وكان سعد وقتذاك مريضاً وإلا فهو سيد الشجعان والمتفق عليه في عصرنا ان القائد لا يصح أن يكون في الصف الأول لأنه إذا حدث له شيء اختل توازن المعركة. أبنا: رجعنا. أمت: ترملت.

1802 - * روى البزار عن عبد الله يعني ابنُ مسعود قال: كانً سعدُ يُقاتلُ مَع رَسُولِ الله صّلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ قِتَال الفَارس والرَاجلِ. 1803 - * روى الطبراني عن عامر بن سعد قال: بينما سعد يمشي إذ مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة والزبير فقال له سعد: إنك تشتم أقواماً قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفن عن شتمهم أو لأدعون الله عز وجل عليك قال: يخوفني كأنه نبي فقال سعد: اللهم إن كان يشتم أقواماً قد سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالاً فجاءت بختية فأفرج الناس لها فتخبطته فرأيت الناس يتبعون سعداً يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق. 1804 - * روى الطبراني عن عامر الشعبي قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أحبت الدعوة؟ قال: يوم بدر كنت أرمي بين النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم استجب لسعد". قال الهيثمي: السهام التي رمي بها يومئذ] يوم أحد [ألف سهم. 1805 - * روى الطبراني عن سعيد بن المسيب قال: خرجت جارية لسعد يقال لها زيراء وعليها قميص حرير فكشفها الريح، فشد عليها بالدرة وجاء سعد ليمنعه فتناوله بالدرة: فذهب سعد يدعو على عمر، فناوله عمر الدرة وقال: اقتص فعفا عن عمر.

_ 1802 - البراز: كشف الأستار (2/ 315). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 82): رواه البراز بإسنادين أحدهما متصل والأخر مرسل ورجالهما ثقات. 1803 - المعجم الكبير (1/ 140). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 154) وقال: رواه الطبراني ورجاله الصحيح. البختية: الأنثى من الجمال الخراسانية. 1804 - المعجم الكبير (1/ 143). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 153). وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. 1805 - المعجم الكبير (1/ 141). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 153، 154). وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

1806 - * روى الحاكم عن حسين بن خارجة الأشجعي قال: لما قُتل عثمان، أشكلت علىّ الفتنة، فقلتُ: اللهم أرني من الحق أمراً أتمسك به، فرأيت في النوم الدنيا والآخرة بينهما حائط، فهبطتُ الحائط فإذا بنفر، فقالوا: نحن الملائكة، قلتُ: فأين الشهداء؟ قالوا: اصعد الدرجات، فصعدتُ درجة ثم أخرى، فإذا محمد وإبراهيم، صلى الله عليهما، وإذا محمد يقول لإبراهيم: استغفر لأمتي، قال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم أراقوا دماءهم، وقتلوا إمامهم، ألا فعلوا كما فعل خليلي سعد؟ قال: قلتُ: لقد رأيتُ رؤيا، فأتيت سعداً، فققصتها عليه، فما أكثر فرحاً، وقال: قد خاب من لم يكن إبراهيم عليه السلام خليله، قلتُ: مع أَيّ الطائفتين أَنتَ؟ قال: ما أنا مع واحد منهما، قلتُ: فما تأمرني؟ قال: هل لك من غَنَم؟ قلتُ: لا، قال: فاشتر غنماً، فكن فيها حتى تنجلي. 1807 - * روى البراز عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: "اللهم استجب له إذا دعاك". 1808 - * روى الطبراني وابن سعد عن ابن عُليّة: حدثنا أَيوب، عن محمد قال: نبّتُ أَنّ سعداً قال: ما أَزعم أَني بقميصي هذا أَحقُ مني بالخلافة، جاهدتُ وأَنا أَعترفُ بالجهاد، ولا أبخَعُ نفسي إن كان رجلاً خيراً مني، لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسانُ، فيقول هُذا مؤمن وهذا كافر؟. 1809 - * روى الطبراني عن سعد أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تلقي أحداً هو أنصح لك مني، إذا أردْت أن تُصلى فأحسن وِضُوءك ثم صل صلاةً لا تري أنك تصلي

_ 1806 - المستدرك (3/ 501، 502). وسكت عنه الذهبي. وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 120). وقال محققه: ورجاله ثقات. 1807 - البراز: كشف الأستار (3/ 207). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 153) رواه البراز ورجاله رجال الصحيح. 1808 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 299) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. والطبقات الكبرى (3/ 143). 1809 - المعجم الكبير (1/ 143). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 221). وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.=

بعدها، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك بالإياس فإنه الغني وإياك وما يعتذر إليه من العمل والقول واعمل مابدا لك. 1810 - * روى مسلم عن سعد {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (1) قال: نزلت في ستة أَنا وابنُ مسعود منهم. 1811 - * روى مسلم وأحمد عن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله. فجاءه ابنه عمر. فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فنزل. فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي". 1812 - * روى أحمد عن سعد قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضحك يوم الخندق حتى بدت نواجذه. كان رجل] من المشركين [معه ترس، وكان سعدُ رامياً، فجعل يقول كذا يُحوّي بالترُّس، ويغطي جبهته. فنزع له سعد بسهمِ، فلما رفع رأسه، رماه فلم، يُخطِ هذه منه، يعني جبهته، فانقلب، وأشال برجله، فضحك رسول الله من فعله، حتى بدت نواجذه. 1813 - * روى البخاري ومسلم عن سعد قال: رأيتُ رجلين عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويساره يوم أحد، عليهما ثيابّ بيضّ، يُقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. ...

_ = عليك بالإياس: يعني بالزهد والقناعة فيما في أيدي الناس. 1810 - مسلم (4/ 1878) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 5 - باب فضل سعد أبي وقاص رضي الله عنه. (1) الأنعام: 52. 1811 - مسلم (4/ 2377) 53 - كتاب فضائل الصحابة- 5 - باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 1812 - أحمد في مسنده (1/ 186). وهو حسن لشواهده. يُحّوي: يقبض ويحوَي: تجمع واستدار. نزع: نزع في القوس: مدّها. 1813 - البخاري (7/ 358) 64 - كتاب المغازي- 18 - باب (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون). ومسلم (4/ 1802) 43 - كتاب الفضائل- 10 - باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

6 - سعيد بن زيد رضي الله عنه

6 - سعيد بن زيد رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قبل عمر هو وزوجه فاطمة، وأخته عاتكة زوجة عمر، وأخت عمر فاطمة زوجة سعيد، أسلم قبل عمرو هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة. قال عروة والزهري وموسي بن عقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدراً لأنه قد كان بعثه رسول الله هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش فلم يرجعا حتى فرغ من بدر، فضرب لهما رسول الله بسهمهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابي بسبب قرابته من عمر فيولي فتركه لذلك، وإلا فهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في جملة العشرة، كما صحت بذلك الأحاديث المتعددة الصحيحة. مات بالكوفة، وقيل بالمدينة وهو الأصح، قال الفلاس وغيره: سنة إحدى وخمسين وقيل سنة سنتين وخمسين والله وأعلم. وكان رجلاً طوالاً أشعر، وقد غسله سعد، وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة، وكان عمره يومئذ بضعاً وسبعين سنة أ. هـ. قال شّبَاب العُصْفري وهو خليفة بن خيّاط المؤرخ: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح ابن عدي بن كعب، وأمه فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد من خزاعة. وقال ابن حجر في ترجمته: أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وهاجر وشهد أحداً والمشاهد كلها ... وقد شهد سعيد بن زيد اليرموك وفتح دمشق، وقال سعيد بن حبيب: كان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف مع النبي صّلى الله عليه وسلم واحداً كانوا أمامه في القتال وخلفه في الصلاة.

وقال الذهبي في السير: شهد المشاهد مع رسول الله صّلى الله عليه وسلم وشهد حصار دمشق وفتحها فولاة عليها أبو عبيدة بن الجراح فهو أول من عمل نيابة دمشق من هذه الأمة، كان والده زيد بن عمرو بن نفيل ممن فر إلى الله من عبادة الأصنام، رأي النبي صّلى الله عليه وسلم ولم يعش حتى بعث ... وهو ابن عم الأمام عمر بن الخطاب وامرأته هي ابنة عمه فاطمة أخت عمر بن الخطاب وكان لإسلامه وإسلام زوجته دخل في إسلام عمر رضي الله عن الجميع. قال الذهبي: "لم يكن سعيد متأخرأ عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة وإنما تركه عمر رضي الله عنه لئلا يبقي له في شائبة حظ لأنه ختنه وابن عمه ... فأخرج منها ولده وعصبته فكذلك فليكن العمل لله. ا. هـ. وقد تقدّمت عدّة أحاديث أنه من أهل الجنة، ثم هو من الشهداء فقد مات مبطوناً، فَمَعِدته لم تعد تهضم طعاماً وكان يكْني أبا الأعور. 1814 - * روى البخاري عن قيس بن حازم سمعت سعيد بن زيد في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتّني وإن عمَر لموثقي على الإسلام أنا وأخْتَه قبل أن يسلَم عُمر، ولو أن أحداً انقضً للذي صنعتم بعثمان، لكَان محقوقاً أن ينقص. 1815 - * روى أحمد ومسلم عن أبي بكر بن حزم قال: جاءت أروى بنت أوَيْس إلى محمد بن عمرو بن حزم فقالت: إن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قد بني ضَفِيرة في حقي، فائته، فكلمه، فوالله لئن لم يفعل، لأصيحنّ به في مسجد رسول الله صّلى الله عليه وسلم، فقال لها: لا تُؤذي صاحب رسول الله! ما كان ليظلمك، ما كان ليأخذ لك حقاً. فخرجت، فجاءت عُمارة بن عمرو وعبدَ الله بن سلمة، فقالت لهما: ائتيا سعيد بن زيد، فإنه قد

_ 1814 - البخاري (7/ 176) 63 - كتاب مناقب الأنصار 34 - باب إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه. انقض: انقصم ظهره وانهد جسمه. 1815 - مسند أحمد (1/ 188). مسلم (3/ 1230) 22 - كتاب المساقاة 30 - باب تحريم الظلم وغضب الأرض وغيرها. المعجم الكبير (1/ 150/149).

ظلمني، وبني ضفيرة في حقي، فو الله لئن لم ينزع، لأصيحنَّ به في مسجد رسول الله صّلى الله عليه وسلم، فخرجا حتى أتياه في أرضه بالعقيق، فقال لهما: ما أتي بكما؟ قالا: جاء بنا أروي، زعمتْ أنك بنيتُ ضفيرة في حقها، وحلفتْ بالله لئن لم تنزع لتصيحنَّ بكَ في مسجد رسول الله صّلى الله عليه وسلم، فأحببنا أن نأتيك، ونذكرك بذلك. فقال: سمعتُ رسولَ الله صّلى الله عليه وسلم، يقول "من أخذ شبراً من الأرض بغير حق، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين "لتأتين، فلتأخذ ما كان لها من حق، اللهم إن كانت كذبت علي، فلا تمتها حتى تُعمي بصرها، وتجعل منيَّها فيها. ارجعوا فأخبروها بذلك، فجاءت، فهدمت الضفيرة، وبنت بيتاً، فلم تمكث إلا قليلاً حتى عميت، وكانت تقوم الليل، ومعها جارية تقودها، فقامت ليلة، ولم توقظ الجارية، فسقطت في البئر، فماتت. 1816 - * روى الحاكم عن ابن عمر أنه استُصْرخَ في جنازة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو خارج من المدينة يوم الجمعة فخرج إليه ولم يشهد الجمعة. 1817 - * روى أحمد وأبو داود عن رباح بن الحارث، أَنُّ المغيرة كان في المسجد الأكبر، وعنده أهل الكوفة فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرةُ، فسبَّ وسبَّ، فقال سعيدُ بن زيد: من يسبُّ هذا يا مغيرة؟ قال: يسبُّ علىَّ بنَ أَبي طالب، قال: يا مغير بن شُعَيب، يا مغير بن شُعيب! أَلا تسمعُ أصحاب رسول الله صّلى الله عليه وسلم، يُسبُّون عندك، ولا تُنكِر ولا تُغَيِّر؟ فأنا أَشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما سمعت أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله صّلى الله عليه وسلم، فإني لم أَكن أَروي عنه كذباَ، إنه قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلىُّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة"، وتاسع المؤمنين في الجنة، ولو شئتُ أَن أُسمّيَهُ، فضجَّ أَهل المسجد يُناشدونه: يا صاحبَ رسول الله! من التاسِعُ؟

_ 1816 - المستدرك (3/ 38). وسكت عنه الذهبي. 1817 - أحمد في مسنده (1/ 187). وإسناده صحيح. وأبو داود (4/ 213) كتاب السنة، باب في الخلفاء.

قال: ناشدتموني بالله والله عظيمُ، أَنا هو، والعاشر رسول الله صّلى الله عليه وسلم، والله لمشهدُ شهده رجلُ مع رسول الله صّلى الله عليه وسلم، أَفضلُ من عمل أَحدكم، ولو عُمِّر ما عُمِّر نوح. ***

7 - زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه رضي الله عنه

7 - زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله صّلى الله عليه وسلم ومولاه رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن أمريء القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي مولى رسول الله صّلى الله عليه وسلم. وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد. وقيل اشتراه رسول الله صّلى الله عليه وسلم لها فوهبته من رسول الله صّلى الله عليه وسلم قبل النبوة فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صّلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فكان يقال له زيد بن محمد، وكان رسول الله صّلى عليه وسلم يحبه حباً شديداَ، وكان أول من أسلم من الموالي، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} (1) وقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3) وقوله {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (4) الآية أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعني أنعم الله عليه أي بالإسلام، وأنعمت عليه أي بالعتق، وقد تكلمنا عليها في التفسير. والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحداُ من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى الإسلام وأعتقه رسول الله صّلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له الحِب بن الحِب، ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش وآخي بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه. أ. هـ

_ (1) الأحزاب: 4. (2) الأحزاب: 5. (3) الأحزاب: 40. (4) الأحزاب: 37.

وقال الحافظ ابن حجر: شهد زيد بن حارثة بدراً وما بعدها وقتل في غزوة مؤتة وهو أمير واستخلفه النبي صّلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره على المدينة أ. هـ. قال الذهبي: وكانت مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان وهو ابن خمس وخمسين سنة اهـ. 1818 - * روى الترمذي والحاكم عن جَبَلة بن حارثة، قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله ابعث معي أخي زيداً، قال: هو ذاك انطلق إليه، فإن ذهب معك لم أمنعه، فجاء زيد فقال يا رسول الله: أو أختار عليك أحداً؟ قال جبلة: فأقمت أنا مع أخي، ورأيت رأي أخي أفضل من رأيي. 1819 - * روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وكان لمن أحب الناس إلَّي، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده". قال الحافظ: أخرج ابن أبي شيبة بإسناد قوي عن عائشة: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم ولو بقي لاستخلفه. أ. هـ. أقول: هذا يشير إلى أن مذهب عائشة رضي الله عنها أنه يجوز استخلاف غير القرشي.

_ 1818 - الترمذي (5/ 676) 50 - كتاب المناقب- باب مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. والمستدرك (3/ 214). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. 1819 - البخاري (7/ 498) 64 - كتاب المغازي- 42 - باب غزوة زيد بن حارثة. ومسلم (4/ 1884) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 10 - باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضي الله عنهما. والترمذي (5/ 677، 676) 50 - كتاب المناقب- 40 - باب مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. خليق: فلان خليق بهذا الأمر: إذا كان أهلاً له، وأَنِّ ذلك مِنُ خُلُقِه وهو به حقيق.

1820 - * روى أحمد وابن سعد عن أسامة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "يا زيد أنت مولايَ وإليّ". 1821 - * روى البخاري عن سلمةَ بن الأكُوَع اللهُ عنه قال: غزوتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم تِسعَ غزوات، وغزوتُ مع ابن حارثْةَ استعملَهُ علينا. 1822 - * روى ابن سعد عن عمرو بن شرحبيل الهمداني التابعي قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل زيد وجعفر وابن رواحه قام صلى الله عليه وسلم فذكر شأنهم فبدأ بزيد فقال: "اُلُلهم اغفر لزيد اللهم اغفر لزيد ثلاثاً". وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فاستقبلني جارية شابة فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا لزيد بن حارثة" (1). 1832 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً، تَبُرقُ أسارير وجهه، فقال: "ألم ترى أن مجززاً المدلجي؟ نظر آنفاً إلى زيدِ بن حارثة، وأُسامة بن زيد، فقال: إِن هذه الأقدام بعضها من بعض".

_ 1820 - مسند أحمد (5/ 204) مطولاً والطبقات الكبرى (3/ 44). وقال الحافظ: إسناده حسن. 1821 - البخاري (7/ 517) 64 - كتاب المغازي- 45 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة. 1822 - الطبقات الكبرى (3/ 46). وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 229). وقال محققه: رواته ثقات إلا أنه مرسل. (1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وقال: أخرجه الروياني والضياء عن بريدة ورمز إلى حسنه صاحب فيض القدير (3/ 521). 1823 - البخاري (12/ 56) 85 - كتاب الفرائض- 31 - باب القائف. ومسلم (2/ 1081، 1082) 17 - كتاب الرضاع- 11 - باب العمل بإلحاق القائف الولد. تبُرق أسارير وجهه: الأسارير: التّكاسير التي تكون في لجبين، وبريقُها: ما يَعرض لها من البشاشة عند الفرح والاستبشار بالشيء السَّارُّ. القافة: جمع قائف، وهو الذي يعرف الآثار، تقول قُفْتُ أثره، أي: اتَّبعتُه، وهم قوم معَّرفون من العرب يعرفون الناس بالشُبَه، فيُلْحقُون إنساناً بإنسان، لما يدركون من الشَّبه الذي يَرَونه بينهما مما بخفي على غيرهم، وكلام القافة يستأنس به للإثبات لا للنفي.

وفي رواية "ألم تسمعي ما قال المدلجيُّ لزيدٍ وأُسامةَ، ورأي أقدامَها: إن بعض هذه الأَقدام لَمِنْ بعض". وفي أخرى قال: إن عائشة قالت: دخل قائف والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد، وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسُرَّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأعْجَبَهُ، وأخبر به عائشة. وفي آخري "أَلَمْ تَرَيْ أن مُجزِّزاُ المدلجيَّ دخل عليَّ، فرأي أَسامة وزيداً، وعليهما قطيفةُ، قد غَطَّيا رؤوسَهما، وبَدَتْ أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؟ " وفي رواية: وكان مُجزِّزُ قائفاً. وقال أبو داود: قال أحمد بن صالح: كان أُسامة بنُ زيد أسودَ شديد السواد، مثل القار، وكان زيدُ أبيضَ من القطن (1). * * *

_ (1) أبو داود (2/ 280) كتاب الطلاق، باب في القافة.

8 - أسامة بن زيد الحب بن الحب رضي الله عنه

8 - أسامة بن زيد الحِبُّ بن الحِبُّ رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: الحب بن الحب يكني أبا محمد ويقال أبو زيد أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. قال ابن سعد ولد أسامة في الإسلام ومات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وله عشرون سنة وقال ابن أبي خيثمة ثماني عشرة، وكان أمرَّه على جيش عظيم فمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتوجه فأنفذه أبو بكر وكان عمر يجله ويكرمه وفضَّله في العطاء على ولده عبد الله بن عمر واعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزه من عمل دمشق ثم رجع فسكن وادي القرى ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجرف، وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة أربع وخمسين وقد روى عن أسامة من الصحابة أبو هريرة وابن عباس ومن كبار التابعين أبو عثمان وأبو وائل وآخرون وفضائله كثيرة وأحاديثه شهيرة. أ. هـ. قال الذهبي: وكان شديد السواد خفيف الروح شاطراً شجاعاً رباه صلى الله عليه وسلم وأحبه كثيراً. وقالت عائشة (تصف ما قالته قريش) في شأن المخزومية التي سرقت: من يجترئ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه فيها إلا أسامة حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وقال وكيع: سلم من الفتنة من المعروفين سعد وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إليّ أسامة ما حاشا فاطمة ولا غيرها" (2) أ. هـ.

_ (1) البخاري (12/ 87) 86 - كتاب الحدود-12 - باب الكراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان. (2) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 286). وقال: هو في الصحيح باختصار ورواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.

1824 - * روى ابن سعد عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أَخَّر الإضافةَ مِنّ عرفة من أجل أسامة ينتظِرُه، فجاء غلامّ أسودُ أفطسُ. فقال أهلّ اليمن: إنما جلسنا لهذا! فلذلك ارتدُّوا يعني أيامَ الردُّة. 1825 - * روى أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت: عثر أسامة بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أميطي عنه الأذى" فتقذرته، فجعل يمص عنه الدم ويمجه عن وجهه ثم قال: "لو كاَن أسامة جاريةَّ لّحليته وكسَوتُه حتى أُنَقّه". 1826 - * روى الترمذي عن عائشة: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة: دعني حتى أنا أفعله، قال يا عائشة: "أحبيه فإني أحبه". 1827 - * روى الترمذي عن ابن عمر أن عمر فرض لأسامة في ثلاثة الآلف وخمسمائة، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف، فقال ابن عمر: لم فضلت أسامة عليَّ؟ فو الله ما سبقني إلى مشهد قال: لأن زيداً كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبيك، وأسامة أحب إليه منك، فآثرت حبه صلى الله عليه وسلم على حبي. 1828 - * روى البخاري عن ابن عمر وقد نظر وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد، فقال انظروا من هذا؟ فقيل له: هذا محمد بن أسامة، فطأطأ ابن عمر رأسه ثم قال: لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لأحبه. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُجلس الحسن على فخذه ويجلس أسامة

_ 1824 - الطبقات الكبرى (4/ 63). وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 500). وقال محققه: رجاله ثقات. 1825 - أحمد في مسنده (6/ 222، 139). وابن ماجه (1/ 635) 9 - كتاب النكاح- 49 - باب الشفاعة في التزويج. 1826 - الترمذي (5/ 677) 50 - كتاب المناقب- 41 - باب مناقب أسامة بن زيد رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1827 - الترمذي (5/ 676، 675) 50 - كتاب المناقُب- 40 - باب مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1828 - البخاري (7/ 88) 62 - كتاب فضائل الصحابة-18 - باب ذكر أسامة بن زيد.

على فخده الأخرى ويقول "اللهم إني أرحمهما فارحمهما" (1). 1829 - * روى أحمد عن عائشة قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة". لقي عليُّ أُسامةَ بنَ زيد، فقال: ما كنا نعدُّك إلا من أنفسنا يا أسامةُ، فلم لا تدخلُ معنا؟ قال: يا أبا حسن، إنَّك والله لو أَخذْتَ بمشفر الأسد، لأَخذت بمشفره الآخر معك، حتى نهلك جميعاً، أو نحيا جميعاً، فأما هذا الأمر الذي أنتَ فيه، فو الله لا أدخلُ فيه أبداُ (2). 1830 - * روى البخاري عن حرملة مولي أسامة قال: أرسَلني أسامة إلى علي وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خّلَّفَ صاحَبكَ؟ فقل له: يقول لك لو كنتَ في شِدقِ الأسدِ لأحَببتُ أن أكون معكَ فيه، ولكنُّ هذا أمرّ لم أَرَه. فلم يعُطني شيئاً، فذهبت وحسين وابن جعفر فأوقَرُوا لي راحلتي. 1831 - * روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد، قَالَ: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة. فأدركت رجلاً. فقال: لا إله إلا الله. فطعنته فوقع في نفسي من ذلك. فكرته للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: "أفلا شققت

_ (1) البخاري (10/ 434) 78 - كتاب الأدب- 22 - باب وضع الصبي على الفخذ. 1829 - أحمد في مسنده (6/ 157، 156). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 286). وقال: رواه أحمد ورجاله رجال صحيح. (2) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 504). 1820 - البخاري (13/ 62، 61) 92 - كتاب الفتن- 20 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: "إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". 1831 - البخاري (7/ 517) 64 - كتاب المغازي- 45 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة. ومسلم (1/ 96) 1 - كتاب الإيمان_ 45 - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله. فصبحنا الحرقات: أي أتيناهم صباحاً. والحرقات موضع ببلاد جهينة. والتسمية به كالتسمية بعرفات وأذرعات وفي رائه الضم والفتح، والحاء مضمومة في الوجهين. أفلا شققت عن قلبه: معناه إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان. وأما القلب ليس لك طريق إلى =

عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا". فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. قال فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة. قال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة. وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. 1832 - * روى الطبراني وابن حبان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: رأَيتُ بنَ زيد مُضطَجِعاً عند باب حجرة عائشة رافعاً عقيرته يتغنِّي، ورأيتُه يُصلى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمَّر به مروان، فقال: أَتُصلى عند قبر! وقال له قولاً قبيحاً. فقال: يا مروانُ، إنِّك فاحش مُتَفحِّشّ، وإني سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنَّ اللهَ يُبِغضُ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ". 1833 - * روى مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، قال: دَخلتُ على فاطمةَ بنتِ قيس، وقد طلّقها زوجُها- .... الحديث- فلما حَلّتّ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هل ذكرك أحد"؟ قَالتْ: نعم، معاوية وأبو الَجْهم. فقال: "أَمَّا أبو الجهم فَشديدُ الخُلُق، وأَمَّا مُعاويةُ فَصعْلوك، لا مالَ له. ولكن أُنكِحُكِ أسامة"؟ فقلتُ: أسامة! - تهاوناُ بأمر أسامة- ثم قلتُ سمعاً وطاعةْ لله ولرسوله.

_ = معرفة ما فيه. فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان. وقال: أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها، وكانت فيه أم لم تكن فيه، بل جرت على اللسان فحسبُ. 1832 - المعجم الكبير (1/ 166). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 64) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوساط بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله ثقات. الإحسان بترتيب ابن حبان (7/ 481) - كتاب الحظر والإباحة- باب الاستماع المكروه .. وصححه ابن حبان. وانظر- مسند أحمد (5/ 202). 1833 - مسلم (2/ 1119) 18 - كتاب الطلاق- 6 - باب المطلق ثلاثاً لا نفقة لها. أبو زيد: هي كنية أسامة.

فزوجنيه، فكرِّمني الله بأبي زيد، وشرَّفني اللهُ ورفعني به. 1834 - (1) روي الطبراني عن الزُهَّري قال: كان أسامة بن زيد يدعى بالأمير حتى مات يقولون بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينزعه حتى مات. * * *

_ 1834 - المعجم الكبير (1/ 151). أورده الهيثمى في مجمع الزوائد (9/ 286). وقال: رواه الطبراني مرسلا ورجاله رجال الصحيح.

9 - عمار بن ياسر رضي الله عنه

9 - عمار بن ياسر رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوديم من بني ثعلبة ابن عوف بن حارثة بن عامر بن يام بن عَنْس بنون ساكنة ابن مالك العنسي أبو اليقظان حليف بني مخزوم وأمه سمية مولاة لهم .. كان من السابقين الأولين هو وأبوه وكانوا ممن يعذب في الله فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهم فيقول "صبَّرا آل ياسر موعدكم الجنة" واختلف في هجرته إلى الحبشة وهاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها ثم شهد اليمامة فقطعت أذنه بها، ثم استعمله عمر على الكوفة وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمد. قال عاصم عن زر عن عبد الله أن أول من أظهر إسلامه سبعة فذكر منهم عمارأ أخرجه ابن ماجه وعن وبره عن همام عن عمار قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية وأجمعوا على أنه قتل مع علي بصفين سنة سبع وثمانين في ربيع وله ثلاث وتسعون واتفقوا على أنه نزل فيه {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. أهـ. وقال ابن كثير: وكان آدم اللون، طويلاً، بعيد ما بين المنكبين، أشهل العينين، رجلاً لا يغيرُه شيبه. وقال الذهبي: له عدة أحاديث ففي مسند بقي له اثنان وستون حديثاً ومنها في الصحيحين خمسة ... وروى منصور عن مجاهد: أول من أظهر إسلامه سبعة فذكرهم، زاد فجاء أبو جهل يشتم سمية وجعل يطعن بحربته في قلبها حتى قتلها فكانت أول شهيدة في الإسلام ... قال الشعبي: سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: فدعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم.

قال عبد الله بن أبي الهذيل: رأيت عماراً اشتري قتّاً (1) بدرهم وحمله على ظهره وهو أمير الكوفة. عن الشعبي قال عمر لعمار: أساءك عزلنا إياك: قال. لئن قلت ذاك: لقد ساءني حين استعملتني وساءني حين عذلتني قال أبو عاصم: عاش عمار ثلاثأ وتسعين سنة وكان لا يركب على سرح ويركب راحلته] قتل في صفين [وكانت صفين في صفر وبعض ربيع الأول من سنة سبع وثلاثين قالت عائشة: وقد كان عمار ينكر على عثمان أموراً لو كف عنها لأحسن، فرضي الله عنهما. ا. هـ. 1835 - (2) روي الترمذي عن علي: جاء عمار بن ياسر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ائذنوا له، مرحباً بالطيب المطيب". 1836 - * روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "أبشر تقتلك الفئة الباغية". 1837 - * روى البخاري عن أبي سعيد رفعه: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". 1838 - * روى الترمذي عن عائشة رفعته: "ما خُيِّرَ عمارّ بين أمرينِ إلا اختار أرشدهما". 1839 - * روي البراز عن بلال بن يحي: لما قتل عمار قيل لحذيفة هذا الرجل

_ (1) القت: الفِصِفِعة من علف الدواب. 1835 - الترمذي (5/ 668) 50 - كتاب المناقب- 35 - باب مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1836 - الترمذي (5/ 669) 50 - كتاب المناقب- 35 - باب مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1837 - البخاري (1/ 541) 8 - كتاب الصلاة- 63 - باب التعاون في بناء المسجد. 1838 - الترمذي (5/ 668) 50 - كتاب المناقب- 35 - باب مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. 1839 - البزار: كشف الأستار (3/ 253). وقال الهثيمي في مجمع الزوائد (9/ 295): رواه البزار والطبراني في الأوسط=

وقد اختلف الناس فما تقول؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أبو اليقظان على الفِطرة لا يدَعُها حتى يموت أو يَمَسه الَهَرم". 1840 - * روى أحمد عن عثمان: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم نتمشى في البَطحاء حتى أتى على عمار وأبيه وأمه يعذبون، فقال أبو عمار يا رسول الله: الدَّهر هكذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم "اصبر، اللهم اغفر لآل ياسر وقد فَعَلْتَ". 1841 - * روى الطبراني عن خالد بن الوليد رفعه: "من يحقِر عمارأ يحقِره الله، ومن يسبه يسُبه الله، ومن ينتقِصه ينتقِصه الله". وفي رواية: "ومن يُعَادِ عمارأ يُعادِه الله". 1842 - * روى الطبراني عن عمرو بن العاص وقد أتاه رجلان يختصمان في دم عمار وسلبه، فقال عمرو: خّلِّيَا عنه، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قاتِلّ عمار وسالِبُه في النار". 1843 - * روى أحمد والطبراني عن عبد الله بن الحارث أن عمرو بن العاص قال لمعاوية يا أمير المؤمنين: أما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين كان يبني المسجد لعمار: "إنكَ لَحرِيصّ على الجهاد، وإنك لَمِن أهل الجنة، ولَتَقْتُلنك الفئة الباغية؟ " قال: بلي. قال: فلم قتلتُموه؟ قال: واللهِ ما تزالُ تَدْحَضُ في بَوْلك أنحن قتلناه؟ إنما قتلهُ الذي جاء به. قال محقق السير: وهذه مغالطة من معاوية، غفر الله له، وقد رد عليه علي، رضي

_ = باختصار ورجالهما ثقات. 1840 - أحمد في مسنده (1/ 62). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 293): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 1841 - المعجم الكبير (4/ 113، 112) مطولاً. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 294): رواه الطبراني مطولا ومختصرا بأسانيد منها ما وافق أحمد ورجاله ثقات، ومنها ما هو مرسل. كما أخرج نحوه أحمد في مسنده (4/ 90). 1842 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 297)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 1843 - أحمد في مسنده (4/ 199). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 297): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

الله عنه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم، إذاً قتل حمزة حين أخرجه. قال ابن دحيه: هذا من على إلزام مفحم لاجواب عنه، وحجة لا اعترض عليها، ونقل المناوي في فيض القدير قول عبد القاهر الجرجاني في كتاب "الإمامة": أجمع فقهاء الحجاز، والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك، الشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أن عليأ مصيب في قتاله لأهل صفين. كما هو مصيب في أهل الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، ولكن لا يكفرون ببغيهم. وقال القرطبي ص: (6138): ... فتقرر عند علماء المسلمين، وثبت بدليل الدين، أن عليأ رضي الله عنه كان إماماً، وأَن كل من خرج عليه باغ، وأن قتاله- يعني الخارج- واجب حتى يفيء إلى الحق، وينقاد إلى الصلح. 1844 - * روى ابن سعد والحاكم عن عبد الله قال: أولُ من أَظهر إسلامه سَبعةّ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأَمه سُميّة، وصهيبّ، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فألبسهم المشركون أذراع الحديد، وصفِّدوهم في الشمس، وما فيهم أَحد إلا وقد وَاتّاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسُه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدانَ يطوفون به في شِعاب مكةَ وهو يقولُ: أَحد أَحد. 1845 - * روى ابن سعد والحاكم عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أَخذ المشركون عماراً، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فلما أَتي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما وراءك؟ " قال: شّر يا رسول الله. والله ماتُركْتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير، قال: "فكيف تَجدُ قلبك؟ " قال: مطمئن بالإيمان. قال: "فإن عادُوا فعُد".

_ 1844 - الطبقات الكبرى (3/ 247). والمستدرك (3/ 284)، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الذهبي في السير (1/ 347) وقال محقق السير: سنده حسن. 1845 - الطبقات الكبرى (3/ 249) والمستدرك (2/ 357) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

1846 - * روى أحمد والترمذي والحاكم عن حذيفة، مرفوعاً: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر اهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد". 1847 - * روى مسلم وأحمد وابن سعد، عن أبي سعيد قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فجعلنا ننقل لبنَةَّ لَبِنَةّ، وعمارّ ينقل لبنتين لبنتين، فَتَرِبَ رأسُه، فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله أنه جعل يّنفْضُ رأسه ويقول "ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية". قال الحافظ في "الفتح": روى حديث عمار (تقتل عمار الفئة الباغية) جماعة من الصحابة. منهم قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمه عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان، وحذيفة وأبو أيوب، وأبو رافع، وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليسر، وعمار نفسه. وكلها عند الطبراني وغيره. وغالب طرقها صحيحة أو حسنة. وفيه عن جماعة آخرين يطول ذكرهم أ. هـ. 1848 - * روى ابن سعد وعبد الرزاق عن طارِق بن شهاب: إن أهلَ البصرة غزوا نهاوند، فأمدهم أهل الكوفة وعليهم عمار، فظفِروا، أهلّ البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة شيئاً. فقال رجل تميميّ: أيها الأجدعّ! تُريد أن تشاركنا في غنائمنا؟ فقال: خيرَ

_ 1846 - أحمد في مسنده (5/ 385). والترمذي (5/ 673) 50 - كتاب المناقب- 38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. وقال: هذا حديث حسن غريب. والمستدرك (3/ 75). وصححه ووافقه الذهبي. 1847 - مسلم (4/ 2235) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة- 18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمني أن يكون مكان الميت من البلاء. وأحمد في مسنده (3/ 5). الطبقات الكبرى (3/ 252). 1848 - الطبقات الكبرى (3/ 254). والمصنف (5/ 303). وأورده الذهبي في السير (1/ 422). وقال محققه: إسناده صحيح.

أذنَّي سببتُ، فإنها أُصيبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: إن الغنيمةّ لمن شَهدَ الوقعة. 1849 - * روى أحمد عن عمار قال: إنَّ أمَّنا- يعني عائشة- قد مضت لسبيلها، وإنها لزوجتُه في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليِعلم إياهُ نُطيع أو إياها. 1850 - * روى البخاري عن عمار، قال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها. 1851 - * روى أحمد وابن سعد والحاكم عن أبي البَحتري قال: عِّمار يومّ صفِّين: ائتوني بشربة لبن، قال: فشرب، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن" ثم تقدم فقتل. 1852 - * روى البخاري عن عمار أنه قال: ثلاثة مَنْ كُنّ فيه، فقد استكمل الإيمان، أو قال: من كمال الإيمان: الإنفاقُ من الإقتار، والإنصافُ من نفسك، وبذلُ السلام للعالَمِ. 1853 - * روى الحاكم عن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود مُعلما ووزيراً، وهما من النُجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فأسمعوا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت ما لكم فأسمعوا فتعلموا منهما واقتدوا بهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي. 1854 - * روى الترمذي والحاكم عن خيثمة بن أبي سبره الجعفي قال: أتيتّ المدينة

_ 1849 - أحمد في المسند (4/ 265). وأورده الذهبي في السير (1/ 424). 1850 - البخاري (7/ 106) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 30 - باب فضل عائشة. 1851 - أحمد في مسنده (4/ 319)، والطبقات الكبرى (3/ 257)، والمستدرك (3/ 389). وصححه ووافقه الذهبي. 1852 - علقه البخاري ووصله غير واحد، منهم الإمام أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. 1853 - المستدرك (3/ 388) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 1854 - الترمذي (5/ 674) 50 - كتاب المناقب- 38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود.

فسألتُ الله أن يُيسر لي جَليساً صالحاً فيِّسر لي أبا هريرة فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أرض الكوفة جئت ألتمس العلم والخير، فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مُجاب الدعوة، وعبد الله بن مسعود صاحب ظَهور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعليه، حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمار بن ياسر الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسلمان صاحب الكتابين؟ قال قتادة والكتابان الإنجيل والفرقان. 1855 - * روى ابن سعد والحاكم عن عبد الله بن سلمه قال: رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخاً طِوالا الَحربة بيده ويّده ترعد فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثَ مرات وهذه الرابعة ثم قال: والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سَعَفات هَجَر لعرفتُ أنَا على الحق وهم على الباطل. 1856 - * روى الطبراني وعبد الله بن أحمد عن كلثوم بن جبر قال: كنت بواسط القصب عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي في منزل عنبسة بن سعيد إذ جاء رجل فقال: إن قاتل عمار بالباب فتأذنون له فيدخل، فكره بعض القوم وقال بعض: أدخلوه، فدخل فإذا رجلّ عليه مقطَّعات له. فقال: لقد أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا أنفع أهلي فأرد عليهم الغنم، فقال رجل من القوم: أبا العادية كيف كان أمر عمار؟ قال: كنا نعد عماراً من خيارنا حتى سمعته يوماً في مسجد قباء يقع في عثمان فلو خلصت إليه لوطئته برجلي فما صليت بعد ذلك صلاة إلا قلت: اللهم لقني عمارا، فلما كان يوم صفين استقبلني رجل بسوق الكتيبة فاختلفت أنا وهو ضربتين فبدرته فضربته فكبا لوجهه.

_ وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. والمستدرك (3/ 392). وصححه ووافقه الذهبي. 1855 - الطبقات الكبرى (3/ 257). والمستدرك (3/ 392). وصححه الحاكم وسكت عنه الذهبي. 1856 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 298): رواه كله الطبراني وعبد الله باختصار ورجال أحد إسنادي الطبراني رجال الصحيح. وذكره الذهبي في السير (1/ 425). وقال محققه: رجاله ثقات. مقطعّات: برود عليها وشّي مقطّعّ.=

ثم قتلته. وفي رواية قال عبد الأعلى أدخلوه، فأُدخل عليه مقطعات له، فإذا رجل طوال ضَرْب من الرجال كأنه ليس من هذه الأمة- قلت فذكر نحوه حتى قال: فلما كان يوم صفين أقبل يمشي أول الكتيبة راجلاً حتى كان بين الصفين طعن رجلاً في ركبته بالرمح فصرعه فانكفأ المغفر عنه فأضربه فإذا رأس عمار بن ياسر. قال له يقول له مولى: لنا أي يده كفتاه فلم أر رجلاً أبين ضلالة منه .. 1857 - * روى الترمذي عن عمرو بن غالب رحمة الله، أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقال: أغرب مقبوحاً منبوحاً، أتوذي حبِّيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. 1858 - * روى البزار والطبراني عن بلال بن يحي قال: لما قُتل عثمانُ رضي الله عنهُ أُتِيَ حذيفةُ فقِيل له: يا أبا عبِد الله قُتل هذا الرجلُ وقد اختلف الناسَ فما تقول؟ قال: أسندوني- وقد كان مريضاً- فأسندوه إلى ظهرِ رجلٍ فقال: سمعَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول "أبو اليقظان على الفِطرة لا يدعها حتى يموت أو يمسه الهرم". 1859 - * روى أبو يعلى والبزار والطبراني عن مولاة لعمار بن ياسر قالت: اشتكي عمار ابن ياسر شكوى بعل منها فُغُشيَ عليه فأفاق ونحن نبكي حوله، فقال: ما يبكيكم أتحسبون أني مت على فراشي، أخبرني حبيبي صلى الله عليه وسلم أنه تقتلني الفئةُ الباغيةُ وأنَ آخر زادي مذّقَةُ من لبنٍ.

_ =الضَّرب: البطل الخفيف اللحم ممشوق القَدِّ. 1857 - الترمذي (5/ 707) 50 - كتاب المناقب- 63 - باب فضل عائشة. وقال هذا حديث حسن. غرب: أُغُرُبّ: بمعني أبعد، كأنه أمره بالغروب والاختفاء. مقبوحاً: المقبوح: الذي يردّ ويطرد، ويقال: قبحُّه الله، أي: أبعده. منبوحا: المنبوح: الذي يضرب له مثل الكلب. 1858 - رواه البزار: كشف الأستار (3/ 252) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 295): رواه البزار والطبراني في الأوسط باختصار ورجالهما ثقات. 1859 - البزار: كشف الأستار (3/ 252). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 295): رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه ورواه البزار باختصار وإسناده حسن. بعل منها: ضعف منها. مذقة: شربة

1860 - * روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء عمارّ بنَ ياسر، يَستْأذنُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ائذنوا له، مرحباً بالطيِّب الُطيِّب". 1861 - * روى الطبراني عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرِّ بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله عز وجل فقال "أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة". 1862 - * روى أحمد والترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خُيِّرَ عَمَّار بين أمرين إلا اختار أسدهما". 1863 - * روى النسائي والحاكم والبزار عن عمرو بن شرحبيل رحمه الله عن رجل من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ملئ عمار إيماناً إلى مشاشة". 1864 - * روى أحمد عن حنظله بن خويلد العنبري قال: بينا أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد الله بن عَمْرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقتله الفئة الباغية" فقال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه". فأنا معكم ولست أقاتل. ...

_ 1860 - الترمذي (5/ 668) 50 - كتاب المناقب-35 - باب مناقب عمار بن ياسر. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1861 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 293): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال صحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة. 1862 - أحمد في مسنده (6/ 113). والترمذي (5/ 668) 50 - كتاب المناقب-35 - باب مناقب عمار بن ياسر. وقال: حديث حسن غريب. ... والمستدرك (3/ 388). 1863 - النسائي (8/ 111) كتاب الإيمان وشرائعه، باب تفاضل أهل الإيمان. والمستدرك (3/ 392). وصححه ووافقه الذهبي. والبزار: كشف الأستار (3/ 252). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 295): رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. مشاشه: المشاش: جمع مشاشة: وهي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. 1864 - أحمد في مسنده (2/ 164).

10 - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

10 - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ابن حجر: عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة، احد السَابقين الأوّلين أسلم قديماً وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها ولازم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه، من أخباره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه شهد فتوح الشّام وسيّره عمر إلى الكوفة ليعلمهم أمور دينهم. وقال ابن كثير: وقد شهد ابن مسعود بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها وكان قدم العراق حاجَّا، فمر بالرِّبَذّة- موضع قرب المدينة نحو الشرق فشهد وفاة أبي ذر ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها فجاءه عثمان بن عفان عائداً، ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة. وقال الذهبي في ترجمته: الإمام الَحّبر فقيه الأمّة، كان من السّابقين الأوّلين ومن النّجباء العالمين ومناقبه غزيرة روى علماً كثيراً، وروى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي وعُبَيْد بن نَضْلَة وطائفة، اتفقا له في الصحيحين على أربعة وستين وانفرد له البخاري بإخراج أحد وعشرين حديثاً ومسلم بإخراج خمسة وثلاثين حديثاً وله عند بَقي بالمكرر ثماني مِأئة وأربعون حديثاً، كان معدوداً في أذكياء العلماء، وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كان عبد الله لطيفاً فطناً .... وعن عبيد الله بن عبد الله قال: مات ابن مسعود بالمدينة ودفن بالبقيع سنة اثنتين وثلاثين وكان نحيفاً قصيراً الأدمة. أ. هـ. أقول: اجتمع له رضي الله عنه السبق والجهاد ومخالطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته والعبادة الكثير والعلم الواسع والتعليم العريض، ويكفي أنه إمام أهل الكوفة في الفقه، وعن مدرسته انبثقت مدرسة الحنفية أوسع المدارس الفقهية وأكثرها انتشاراً وأبعدها تأثيراً في تاريخ القضاء والفتيا، وكان له اجتهاد يخالف اجتهاد عثمان في إبقاء القراءات المأثور على غير حرف قريش الذي كتب به مصحف عثمان ولذلك لم يحرق مصحفه.

1865 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسي قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً ولا ندري إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم عليه ولزومهم به. 1866 - * روى ابن ماجة عن ابن مسعود قال: إن أبا بكر وعمر بشراه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يقرأ القرآن غضأ كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". 1867 - * روى البزار والطبراني والحاكم عن ابن مسعود قال: لقد رأيتني وإني لسادس ستة ما على الأرض مسلماً غيرنا. 1868 - * روى أحمد بن ابن مسعود قال: كنت أرعي غنماً لعُقبةَ بن أبي مُعَيّط، فمُّر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: "يا غلام! هل من لبن؟ " قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: "فهل من شَاة لم ينُز عليها الفحل؟ " فأتيتُه بشاة، فمسح ضِرُعَها، فنزل لبنّ، فحلب في إناء، فشرب، وسقي أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقلُصْ" فقلص. زاد أحمد قال: ثم أتيته بعد هذا، ثم اتفقا- فقلت: يا رسول الله! عَلّمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: "يرحمك الله إنك غُلَيَّمّ معلَّم". وفي رواية لأحمد (1) زاد: فأتيتُه بصخرة منقعرة، فحلب فيها، قال: فأسلمتُ وأتيتُه. 1869 - * روى البخاري عن شقيق بن سلمه، قال: خطبنا عبد الله بن مسعود،

_ 1865 - البخاري (7/ 102) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 27 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. ومسلم (4/ 1911) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 22 - باب من فضائل عبد الله بن مسعود. 1866 - ابن ماجة (1/ 49) المقدمة- 11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل عبد الله بن مسعود. ورجاله رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة، صدوق له أوهام. 1867 - البزار: كشف الأستار (3/ 248). والمعجم الكبير (9/ 58). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 287): رواه الطبراني والبزار ورجالهما رجال الصحيح. والمستدرك (3/ 313) وصححه ووافقه الذهبي. 1868 - أحمد في مسنده (1/ 379). وذكره الذهبي في السير (1/ 465). وقال محققه: حديث حسن. (1) أحمد في مسنده (1/ 462). 1869 - البخاري (9/ 46) 66 - كتاب فضائل القرآن-8 - باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بضعاً وسبعين سورة. والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أني من أعلمهم لكتاب الله، وما أنا بخيرهم. قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون. فما سمعت راداً يقول غير ذلك. وذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة عن عروة بن الزبير عن أبيه قال: أول من جهرَ بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بنُ مسعود. 1870 - * روى الحاكم عن أنس: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وابن مسعود. 1871 - * روى مسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، إذنك علي أن ترفع الحجاب، وتسمعَ سِوادي حتى أنهاك". 1872 - * روى مسلم، عن أبي الأحوض قال: أتيت أبا موسي وعنده عبد الله وأبو مسعود الأنصاري وهم ينظرون إلى مصحف، فحدثنا ساعة، ثم خرج عبد الله، وذهب، فقال أبو مسعود: والله مَا أعَلَمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ترك أحداً أعلَم بكتاب الله من هذا القائم. 1873 - * روى الحاكم أحمد والترمذي والحاكم عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدْي عمار، وتمسَّكوا بعهد ابن أم عبد". 1874 - * روى الحاكم عن جعفر بن عمرو بن حريث: عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قد رضيتّ لكم ما رضي لكم ابن أُم عبد".

_ 1870 - المستدرك (3/ 214). وصححه ووافقه الذهبي. 1871 - مسلم (4/ 1708) 39 - كتاب السلام- 6 - باب جواز جعل الإذن رفع حجاب أو نحوه من العلامات. السوّاد: الِّسرار والمحادثة. 1872 - مسلم (4/ 1912) 44 - كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه. 1873 - أحمد في مسنده (5/ 385). والترمذي (5/ 672) 50 - كتاب المناقب- 38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. قال: وهذا حديث حسن غريب. والمستدرك (2/ 75). وصححه ووافقه الذهبي. 1874 - المستدرك (3/ 319). وصححه ووافقه الذهبي.

1875 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ" قلت: يا رسول الله أقرأُ عليكَ أُنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". فقرأتُ النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (1) قال لي: كف أو أمسك. فرأيت عينيه تذرفان. 1876 - * روى ابن سعد والحاكم عن حارثة بن مضرب قال: كتب عمرُ بن الخطاب إلى أهل الكوفة: إنني قد بعثت إليكم عمارأ أميراً، وابنَ مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدُوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي. وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (2) عن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالمجيء إلى المدينة، اجتمع إليه الناسُ، فقالوا، أقم فلا تخرج، ونحن نمنعك أنْ يضلَ إليك شيء تكرهه. فقال: إنَّ له علي طاعة، وإنها ستكون أمور وفتنُ لا أحب أن أكون أولَ من فتحها. فردَّ الناس وخرج إليه. وذكر الذهبي في السير (3) عن أبي وائل أن ابن مسعود رأي رجلاً قد أسبل، فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إنَّ بساقِّي حموشة وأنا أؤم الناس فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول: أتردّ على ابن مسعود؟ وذكر الذهبي أيضاً (4) عن مسروق قال: شاعت أصحابَ محمد، صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ علمهم انتهي إلى ستة: عليِّ، وعُمَر، وعبد الله، وزيد، وأبي الدرداء، وأبيّ. ثم شاعتُ الستة،

_ 1875 - البخاري (9/ 98) 66 - كتاب فضائل القرآن- 35 - باب البكاء عند قراءة القرآن. ومسلم (1/ 551) 6 - صلاة المسافرين وقصرها- 40 - باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر. (1) النساء: 40. 1876 - الطبقات الكبرى (3/ 225). والمستدرك (2/ 388). وصححه ووافقه الذهبي. (2) السير (1/ 489). وقال محققه: رجاله ثقات وذكره الحافظ في الفتح (6/ 217) ونسبه إلى ابن سعد. (3) السير (1/ 492). وقال محققه: رجاله ثقات وقد ذكره ابن حجر في الإصابة ونسبه إلى البغوي. (4) السير (1/ 493). وقال محققه رجاله ثقات.

فوجدتُ علمهم انتهي إلى علي وعبد الله. 1877 - * روى البخاري عن علقمة قال: جلستُ إلى أبي الدرداء، فقال: ممن أنتَ؟ قلتُ: من الكوفة. فقال: أو ليسَ عندكم ابنّ أمِّ عبد، صاحب النعلين، والوساد والمِطهرة، وفيكم صاحبُ السرِّ، وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيِّه. وذكر الذهبي في السير (1) عن عبد الله قال: من أراد الآخرة أضرَّ بالدُّنيا، ومن أراد الدنيا، أضرَّ بالآخرة، يا قوم فأضِرُّوا بالفاني للباقي. 1878 - * روى ابن سعد عن قيس قال: دخل الزبير على عثمان رضي الله عنه بعد وفاة عبد الله فقال: أعطني عطاءّ عبد الله، فعيالُ عبد الله أحقُّ به من بيت المال. فأعطاه خمسة عشر ألفاً. 1879 - * روى الحاكم بن زيد بن وَهّب قال: كنت جالساً عند عمر إذ جاءه رجل نحيف فجعل ينظر إليه ويتهلل وجهه ثم قال: كُنَيْفّ مّلِيء علماً. يعني عبد الله بن مسعود. 1880 - * روى الحاكم عن عمرو بن ميمون قال: كان عبد الله يأتي عليه السنة لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحدث ذات يوم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحديث فعلته كآبه وجعل العرق يتحادر على جبهته ويقول: نحو هذا أو قريباً من هذا. 1881 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم

_ 1877 - البخاري (7/ 102) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 27 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. (1) السير (1/ 496). وقال محققه: رجاله ثقات. 1878 - الطبقات الكبير (3/ 160)، وذكره الذهبي في السير (1/ 498). وقال محققه: رجاله ثقات. 1879 - المستدرك (3/ 318). وصححه ووافقه الذهبي. الكُنّيّف: تصغير كنْف: وهو الوعاء، والتصغير هنا تصغير تعظيم. 1880 - المستدرك (3/ 314). وصححه ووافقه الذهبي. 1881 - المستدرك (3/ 317). وصححه ووافقه الذهبي.

وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه وما شاء الله من أصحابه فمررنا بعبد الله بن مسعود وهو يصلى فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من هذا؟ " فقيل: عبد الله بن مسعود. فقال: "إن عبد الله يقرأ القرآن غضا كما أنزل". فأثني عبد الله علي ربه وحمده فأحسن في حمده على ربه ثم سأله فأجْمّلّ المسالةَ وسأله كأحسن مسألة سألها عبدُ رَبَّه ثم قال: اللهم إني أسألك إيمانا لا يَرْتَدّ، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أعلي عليين في جنانك جنان الخلد. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سل تعط سل تعط". مرتين. فانطلقت لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني وكان سباقاً بالخير. 1882 - (1) روي البخاري والترمذي عبد الرحمن بن يزيد قال: أتينا على حذيفة فقلنا: حدثنا من أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً ودلا فنأخذ عنه ونسمع منه؟ قال: كان أقرب الناس هدياً وذلا وسمتاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود حتى يتوارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد هو أقربهم إلى الله زلفى. 1883 - * روى أبو يعلى عن قيس بن مروان قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين جئت من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل فقال: ويحك من هو؟ فقال: عبد الله بن مسعود. فما زال عمر يطفئ ويسري عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها. فقال: ويحك والله ما أعلمه بَقيَ أحد من الناس هو أحق بذلك منه،

_ 1882 - البخاري مختصراً (7/ 103) 62 - كتاب فضائل الصحابة- 27 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. والترمذي (5/ 673) 50 - كتاب المناقب- 38 - باب مناقب عبد الله بن مسعود. السّمت: والذل والَهدْيُ: متقاربات، وهي بمعني السيرة والحالة. حتى يتوارى: احتراز من الشهادة على الباطل المستور. لقد علم المحفوظون: يعني: الذين حفظهم الله من تخريف في قول أو فعل. 1883 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 287) رواه أبو يعلى بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، غير قيس بن مروان وهو ثقة. انتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل: تعبير عربي شائع كناية عن شدة الغضب.

وسأحدثك عن ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يَسّمُرُ عند أبي بكر الليلة كذلك لأمر من أمر المسلمين وإنه سَمَرَ عنده ذات ليلة وأنا معه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ونحن نمشي معه فإذا رجل قائم يصلى في المسجد فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قرآنه فلما كدنا نعرف الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطّبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". قال: ثم جلسَ الرجلُ يدعو فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم "سلْ تعطَهُ"". قال عمر فقلت: والله لأعودن إليه فلأبشرنه. قال: فعدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني فبشره، فلا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه. وفي رواية: فأتي عمر عبد الله ليبشره فوجد أبا بكر خارجاً فقال: إن فعلت إنك لسباق بالخير. 1884 - * روى أحمد والبزار عن مجاهد عن ابن عباس قال: أي القراءتين كانت آخر، قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟ قال: قلنا قراءة زيد. قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكان آخر القراءة قراءة عبد الله. 1885 - * روى أحمد وأبو يعلى والطبراني عن علي قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فصعد شجرة فأمره أن يأتيه منها بشيء فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله حين صعد فضحكوا من حموشة ساقية النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تضحكون؟ لَرِجْل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد". 1886 - * روى الطبراني والبزار والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: لقد رأيتني وإني

_ 1884 - أحمد في مسنده (1/ 325). والبزار: كشف الأستار (3/ 351). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 288): رواه والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. 1885 - أحمد في مسنده (1/ 114)، والمعجم الكبير (9/ 97)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 288): رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني ورجالهم رجال الصحيح. حموشة: دقَّة. 1886 - الزار: كشف الأستار (3/ 248)، والمعجم الكبير (9/ 58) , وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 287): رواه البزار والطبراني ورجالهما رجال الصحيح، والمستدرك (3/ 313)، وصححه ووافقه الذهبي.

لسادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا. 1887 - * روى أحمد والطبراني عن الحسن قال: قال رجل لعمرو بن العاص: أرأيت رجلاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه أليس رجلاً صالحاً؟ قال: قلت بلي. قال: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك وقد استعملك. قال: قد استعملني فوالله ما أدري حبُّا كان لي منه أو استعانة بي ولكن سأحدثك برجلين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راض عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر. 1888 - * روى الطبراني عن حارثة بن مُضَرّب قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة قد بعثت عمارّا أميًرا وعبد الله بن مسعود وزيًرا وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما وقد آثرتكم بعد الله علي نفسي. 1889 - * روى الحاكم عن علقمة قال: قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً. فلقيت قوماً فجلست فإذا بواحد جاء حتى جلس إلى جنبي، فقلت: من ذا؟ قال: أبو الدرداء. فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فَيُسِّرَ لي. فقال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة والمطهرة، وفيكم صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يعلمه غيره. 1890 - * روى الحاكم عن علي رضي الله عنه قيل له: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عن أيهم؟ قال: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود قال: عَلِمَ

_ 1887 - أحمد في مسنده (4/ 203). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 290): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح. 1888 - المعجم الكبير (1/ 85). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 291): رواه الطبراني ورجاله رجاله الصحيح غير حارثة وهو ثقة. 1889 - المستدرك (3/ 316). وصححه ووافقه الذهبي. 1890 - المستدرك (3/ 128). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

الكتابَ والسنةَ ثم انتهي وكفى به. وذكر باقي الحديث. 1891 - * روى مسلم عن أبي الأحوص عوف بن مالك رحمه الله قال: شهدتُ أبا موسي وأبا مسعود الأنصاري رضي الله عنهما حين مات ابن مسعود، فقال أحدهما لصحابه: أتّراه ترك بعده مثله؟ فقال: إن قلت ذَلك إن ليؤذَنُ له إذا حُجِبْنا، ويشهدّ إذا غبِنْا. وفي رواية (1) قال: كنَّا في دار أبي موسي مع نَفَرٍ من أصحاب عبد الله وهم ينظرون في مُصحفٍ، فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسي: أما لئن قلتّ ذلك لقد كان يؤذَنُ له إذا حُجبِنا، ويشهدُ إذا غِبنْا. وفي رواية (2): قال زيد بن وهب الجهني: كنتُ جالساً مع حذيفة وأبي موسي .. وساق الحديث. 1892 - * روى مسلم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نَزلَتْ هذه الآية {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ...} (3) إلى آخر الآية قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي: أنتّ منهم". وفي رواية الترمذي (4) قال عبد الله بن مسعود: لما نَزلَتْ- وقرأ الآية- قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ منهم". * * *

_ 1891 - مسلم (4/ 1911) 44 - كتاب فضائل الصحابة-32 - باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه. (1) مسلم (4/ 1912) الموضع السابق. (2) مسلم (4/ 1912) الموضع السابق. 1892 - مسلم (4/ 1910) الموضع السابق. (3) النساء: 93. (4) الترمذي (5/ 355) 48 - كتاب تفسير القرآن- 6 - باب ومن سورة المائدة.

11 - أبو ذر الغفاري رضي الله عنه

11 - أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال ابن كثير في ترجمته: أبو ذر الغفاري واسمه جُنْدُبُ بن جُنَادة على المشهور، أسلم قديماً بمكة فكان رابع أربعة أو خامس خمسة وهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه، فكان هناك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهاجر بعد الخندق ثم لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً، وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الرَّبذةَ (1) فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله. أ. هـ. وقال ابن حجر في ترجمته: الزّاهد المشهور الصّادق اللهجة .... ويقال: إن إسلامه كان بعد أربعة وانصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ومضت بّدْرّ وأُحد ولم تتهيأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلاً أسمر اللون نحيفاً، وكان يوازي ابن مسعود في العلم، وكانت وفاته بالربذة سنة إحدى وثلاثين وقيل التي بعدها، وعليه الأكثر. وقال الذهبي في ترجمته: وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ... وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لوم لائم، على حدَة فيه، وله مائتا حديث وواحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على اثني عشر حديثاً، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر

_ الربذة: موضع قريب من المدينة نحو الشرق.

ومما ورد فيه: 1893 - * روى مسلم عن عبد الله بن الصامت، قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار. وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبة فجعل يبكي. فانطلقتا حتى نزلنا بحضرة ملكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخير أنيساً، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. قلت: لمن؟ قال: لله. فقلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلى عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس. قال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث علي، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله. فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء.

_ 1893 - مسلم (4/ 1919) 44 - كتاب فضائل الصحاب- 28 - باب من فضائل أبي ذر. فنثا: أي أشاعه وأفشاه. صِرمتنا: الصرمة هي القطعة من الإبل. وتطلق أيضاً على القطعة من الغنم. فنافر: قال أبو عبيد وغيره في شرح هذا: المنافرة المفاخرة والمحاكمة. فيفخر كل واحد من الرجلين على الآخر ثم يتحاكمان إلى رجل ليحكم أيهما خير وأعز نفرا. وكانت هذه المفاخرة في الشعر أيهما أشعر. عن صرمتنا وعن مثلها: معناه تراهن هو وآخر أيهما أفضل. وكان الرهن صرمه ذا وصرمة ذاك. فأيهما كان أفضل أخذ الصارمتين. فتحاكما إلى الكاهن. فحكم بأن أنيسا أفضل. وهو معني قوله فخيّر أنيسا. أي جعله الخيار والأفضل. خفاء: هو الكساء. وجمعه أخفية. ككساء وأكسية. فراث: عليَ: أي أبطا.=

قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر: قال: فأتيت مكة، فتضعفت رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلى، فقال الصابئ. فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم. حتى خررت مغشياً علي. قال فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر. فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، ولقد لبثت، يا ابن أخي ثلاثين، بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينما أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، إذ ضرب على أسمختهم، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة. قال فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى. قال فما تناهتا عن قولهما. قال: فأتتا علي. فقلت: هن مثل

_ = أقراء الشعر: أي طرقة وأنواعه. فتضعفت: نظرت إلى أضعفهم فسألته. لأن الضعيف مأمون الغائلة دائماً. الصابئ: منصوب على الإغراء. أي انظروا وخذوا هذا الصابئ. نصب أحمر: يعني من كثرة الدماء التي سالت مني بضربهم. والنصّب النصّب الصنم والحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده، فيحمر بالدم. وجمعه أنصاب. ومنه قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. عكن بطني: جمع عكنة، وهو الطيَ في البطن من السمن: معني تكسرت أي انثنت وانطوت طاقات لحم بطنه. سُخُفة جوع: بفتح السين وضمها. هي رقة الجوع وضعفه وهزاله. قمراء: مقمرة. إضحيان: مضيئة، منورة. يقال: ليلة إضحان وإضحيانة. وضحياء ويوم أضحيان. أسمختهم: هكذا هو في جميع النسخ. وهو جمع سماخ، وهو الخرق الذي في الأذن يقضي إلى الرأس. يقال صماخ وسماخ. والصاد أفصح وأشهر. والمراد بأسمختهم هنا: آذانهم. أي ناموا، قال الله تعالي: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}. أي أنمناهم. وامرأتين: هكذا هو في معظم النسخ بالياء. وفي بعضها: وامرأتان، بالألف، والأول منصوب بفعل محذوف أي ورأيت امرأتين. فما تناهتا: أي ما انتهتا. هنّ مثل الخشبة: الهن والهنة، بتخفيف نونهما، هو كناية عن كل شيء. وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر. فقال لها أو مثل الخشبة في الفرج. وأراد بذلك سب أساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك.

الخشبة. غير أني لا أكني. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وهما هابطان، فقال: "ما لكما؟ " قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: " ما قال لكما؟ " قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر. وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته (قال أبو ذر): فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فقال: "وعليك ورحمة الله". ثم قال: "من أنت؟ "، قال قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته. فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده، فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني. ثم رفع رأسه، ثم قال: "متى كنت ههنا؟ " قال قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين، بين ليلة ويوم، قال: "فمن كان يطعمك؟ " قال قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع. فقال: "إنها مباركة. إنها طعام طعم". فقال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي في طعامه الليلة. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها. ثم غبرت ما غبرت. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد وجهت لي ارض ذات نخل. لا أراها إلا يثرب. فهل أنت مبلغ عني

_ = تولولان: الولولة الدعاء بالويل. أنفارنا: الأنفار جمع نفر أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة. تملأ الفم: أي عظيمة لا شيء أقبح منها، كالشيء ولا يسع غيره. وقيل معناه لا يمكن ذكرها وحكايتها. كأنها تسدّ فم حاكيها وتملؤها لاستعظامها. فقدعني: أي كفني. يقال: قدعه وأقدعه، إذا كفه ومنعه. طعام طعم: أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام. غبرت ما غبرت: أي بقيت ما بقيت. وجهت لي أرض: أي أريت جهتها. أراها: ضبطوه أراها بضم الهمزة وفتحها. يارب: هذا كان قبل تسمية المدينة طابة وطيبة. وقد جاء بعد ذلك حديث في النهي عن تسميتها يثرب.=

قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم". فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت قال: ما بي رغبة عن دينك، فأني قد أسلمت وصدقت .. فأتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فأني قد أسلمت وصدقت. فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم. وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نسلم على الذي أسلموا. عليه. فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله". 1894 - * روى مسلم عن ابن عباس قال لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود وحمل شنة له، فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه. وكره أن يسأل عنه. حتى أدركه- يعني الليل- فاضطجع فرآه علي فعرف أنه غريب. فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد. فظل ذلك اليوم، ولا يرى

_ = ما بي رغبة عن دينكا: أي لا أكرهه، بل أدخل فيه. فاحتملنا: يعني حملنا أنفسنا ومتاعنا على إبلنا، وسرنا. إياه: الهمزة في أوله مكسورة، على المشهور- وحكى القاضي فتحها أيضاً، وأشار إلى ترجيحه، وليس براجح. 1894 - مسلم (4/ 1923) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 28 - باب فضائل أبي ذر. ما شفيتني فيما: كذا في جميع نسخ مسلم: فيما. بالفاء وفي رواية البخاري: مما، بالميم، وهو أجود. أي ما بلغتني غرضي، وأزلت عني هَم كشف الأمر. شنة: هي القربة البالية. قريبته: على التصغير: وفي بعض النسخ: قربته، بالتكبير، وهي الشنة المذكورة قبله.=

النبي صلى الله عليه وسلم. حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه. فمر به علي. فقال: ما أنى للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه. فذهب به معه. ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك. فأقامه علي معه، ثم قال له: ألا تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني، فعلت. ففعل. فأخبره. فقال فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء. فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله. وأسلم مكانه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري". فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد. فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه. فأتى العباس فأكب عليه. فقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم. فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها. وثاروا إليه فضربوه. فأكب عليه العباس فأنقذه. 1895 - * روى الطبراني عن أبي ذرٌ قال: لقد رأيتني ربع الإسلام، لم يسلم قبلي إلا النٌبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال. 1896 - * روى أحمد والبزار عن إبراهيم بن الأشتر أن أبا ذر حضره الموت بالرٌبذَة، فبكت امرأته فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي، إنه لا يد لي بنفسك وليس عندي ثوب.

_ (1) = ما أني: وفي بعض النسخ: أن. وهما لغتان. أي ما حان. وفي بعض النسخ: أما بزيادة ألف الاستفهام، وهي مراده في الرواية الأولى، ولكن حذفت، وهو جائز. يقفوه: أي يتبعه. لأصرخن بها: أي لأرفعنٌ صوتي بها. بين ظهرانيهم: أي بينهم. وهو بفتح النون. ويقال: بين ظهريهم. 1895 - المعجم الكبير (2/ 148) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 327): رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما متصل الإسناد ورجاله ثقات. 1896 - أحمد في مسنده (5/ 166)، و (5/ 155). البزار: كشف الأستار (3/ 264)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 231): رواه أحمد من طريقين ورجال الأولى رجال الصحيح ورواه الزار بنحوه باختصار.=

يسعك كفناً. فقال: لا تبكي، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض من يشهده عصابة من المؤمنين». فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ولم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول، فإني ما كذبت ولا كذبت. فبينما هي كذلك إذا بقوم تخب بهم رواحلهم حتى وقفوا عليها، فقالوا: مالك؟ قالت: امرؤ من المسلمين تكفنوه وتؤجروا. قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم فابتدروه، فقال: أبشروا فأنتم النفر الذي قال فيكم النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فأنشدكم بالله لا يكفنني رجل منكم كان عريفا أو أميراً أو بريداً. فكل القوم قد نال من ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار، قال: عندي ثوبان في غيبتي من غزل أمي. قال: أنت صاحبي. أقول: وإنما لم يرد أن يكفنه أحد من هؤلاء لأن الأمير والعريف يحتمل أن يخالط أعمالها شيء من جور، وأما البريد فلأنه قد يحمل رسالة في زور أو جور. وذكر الذهبي في السير (1) عن زيد بن خالد الجهني قال: كنت عند عثمان، إذ جاء أبو ذر، فلما رأه عثمان قال: مرحباً وأهلاً بأخي. فقال أبو ذر: مرحباً وأهلاً بأخي، لقد أغلظت علينا في العزيمة، والله لو عزمت علي أن أحبو لحبوت ما استطعت، إني خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو حائط بني فلان، فقال لي: «ويحك بعدي»! فبكيت، فقلت: يا رسول الله، وإني لباق بعدك؟ قال: «نعم، فإذا رأيت البناء على سلع (2)، فالحق بالمغرب، أرض قضاعة». قال عثمان: أحببت أن أجعلك مع أصحابك وخفت عليك جهال الناس.

_ = عريفا: من كان له أسرة دون إمرة الأمير الأعلى. بريداً: الذي يحمل البريد. عيبتي: العيبة وعاء من أدم ونحوه يكون فيه المتاع. (1) السير (2/ 70). وقال محققه: رجاله ثقات. (2) سلع: جبل من جبال المدينة.

1897 - * روى أحمد عن أبي أسماء أنه دخل على أبي ذر بالربذة، وعنده امرأة له سوداء مشعثة، ليس عليها أثر المجاسد والخلوق. فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيتها مالوا علي بدنياهم، وإن خليلي عهد إلي: «إن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة». وإن أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير. 1898 - * روى ابن سعد عن ابن بريدة قال: لما قدم أبو موسى لقي أبا ذر فجعل أبو موسى يكرمه - وكان أبو موسى قصيراً خفيف اللحم، وكان أبو ذر رجلاً أسود كث الشعر - فيقول أبو ذر: إليك عني! ويقول أبو موسى: مرحباً بأخي! فيقول: لست بأخيك! إنما كنت أخاك قبل أن تلي. 1899 - * روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». قال الذهبي: فهذا محمول على ضعف الرأي [في أمر الدنيا]: فإنه لو ولي مال يتيم، لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيراً، فقد كان لا يستجيز ادخار النقدين. والذي يتأمر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر رضي الله عنه كانت فيه حدة فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم. أهـ. 1900 - * روى ابن سعد عن أبي عثمان النهدي قال: رأيت أبا ذر يميد على راحلته، وهو مستقبل مطلع الشمس، فظننته نائماً، فدنوت وقلت: أنائم أنت يا أبا ذر؟ قال:

_ 1897 - أحمد في مسنده (5/ 195). وأورده الذهبي في السير (2/ 73). وقال محققه: رجاله ثقات. المجاسد: جمع مجسد وهو المصبوغ المشبع بالجسد. والجسد: الزعفران أو العصفر. 1898 - الطبقات الكبرى (4/ 230) مطولاً، وأورد الذهبي في السير (3/ 74). وقال محققه: رجاله ثقات. 1899 - مسلم (3/ 1458) 33 - كتاب الإمارة -4 - بابا كراهة الإمارة بغير ضرورة. 1900 - الطبقات الكبرى (4/ 236). وذكره الذهبي في السير (2/ 78). وقال محققه: رجاله ثقات.

لا، بل كنت أصلي. 1901 - * روى البزار عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر رأيت كأني وزنت بأربعين أنت فيهم فوزنتهم». 1902 - * روى أبو داود عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبا ذر!» قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله، وأنا فداؤك. 1903 - * روى البخاري عن زيد بن وهب رحمه الله قال: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1). فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن اقدم المدينة. فقدمتها فكثر علي الناس، حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي جبشياً لسمعت وأطعت. قال الحافظ في «الفتح»: وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ذر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب، وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه، حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر، مع كونه كان مخالفاً له في تأويله، وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر، وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى إلى

_ 1901 - البزار: كشف الأستار (2/ 265). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 230): رواه البزار ورجاله ثقات. 1902 - أبو داود (4/ 101) - كتاب الفتن والملاحم - باب في النهي عن السعي في الفتن. 1903 - البخاري (3/ 271) 24 - كتاب الزكاة - 4 - باب ما أدى زكاته فليس بكنز. يكنزون: الكنز: الادخار والجمع: مصدر كنز المال يكنزه كنزا. (1) التوبة: 24.

فراق الوطن، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة، مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه، لأن كلا منهما كان مجتهداً. اهـ. وقال ابن كثير رحمه الله: وكان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. اهـ. 1904 - * روى الترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، سبه عيسى بن مريم». فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله أفنعرف ذلك له؟ قال: «نعم فاعرفوه». 1905 - * روى مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدي الذي عليها فيها». وفي رواية (1) قال له: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب

_ 1904 - الترمذي (5/ 669) 50 - كتاب المناقب - 36 - باب مناقب أبي ذر. وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث، فقال: أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام. الحاسد: هنا حسد غبطة وهو حسد محمود. 11905 - مسلم (3/ 1457) 33 - كتاب الإمارة - 4 - باب كراهة الإمارة بغير ضرورة. (1) وأبو داود (3/ 114) - كتاب الوصايا - باب ما جاء في الدخول في الوصايا.

لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». 1906 - * روى أحمد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أوصاني بخمس: أرحم المساكين وأجالسهم، وانظر إلى من تحتي ولا أنظر إلى من فوقي، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. 1907 - * روى ابن سعد عن عبد الله بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذر في رهط غفار على عثمان من باب لا يدخل عليه منه - قال: وتخوفنا عثمان عليه - فانتهى إليه، فسلم، ما بدأه بشيء إلا أن قال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركهم. ثم استأذنه إلى الربذة. 1908 - * روى ابن سعد عن ابن سيرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها». ونحا بيده نحو الشام، «ولا أرى أمراءك يدعونك»! قال: أولا أقاتل من يحول بيني وبين أمرك؟ قال: «لا». قال: فما تأمرني؟ قال: «اسمع وأطع، ولو لعبد حبشي». فلما كان ذلك، خرج إلى الشام. فكتب معاوية: إنه قد أفسد الشام. فطلب عثمان؛ ثم بعثوا إلى أهله من بعده، فوجدوا عندهم كيساً أو شيئاً؛ فظنوه دراهم، فقالوا: ما شاء الله! فإذا هي فلوس. قال عثمان: كن عندي. قال: لا حاجة لي في دنياكم، ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة. فأذن له، فخرج إليها، وعليها عبد حبشي لعثمان، فتأخر وقت الصلاة لما رأى أبا ذر - فقال أبو ذر: تقدم فصل، فقد أمرت أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي، فأنت عبد حبشي.

_ 1906 - أحمد في مسنده (5/ 159، 173). وسنده حسن. 1907 - الطبقات الكبرى (4/ 232). ورجاله ثقات. تخوفنا عثمان عليه: أي خفنا على عثمان منه. أحسبتني منهم: أي من الذين سيخرجون عليك. 1908 - الطبقات الكبرى (4/ 226) ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.

1909 - * روى أحمد وابن سعد عن أبي ذر قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وعليه برذعة، أو قطيفة. 1910 - * روى البخاري ومسلم عن الأحنف، قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمي عليه في نار جهنم، فيوضع على حملة ثدي أحدهم، حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتجلجل. قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع أليه شيئاً. فأدبر، فتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً، إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فقال: «يا أبا ذر». فأجبته. فقال: «ترى أحداً؟» فنظرت ما علي من الشمس - وأنا أظنه يبعثني في حاجة - فقلت: أراه فقال: «ما يسرني أن لي مثله ذهباً، أنفقه كله، إلا ثلاثة دنانير». ثم هؤلاء يجمعون الدنيا، لا يعقلون شيئاً. فقلت: مالك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: لا وربك، ما أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.

_ 1909 - أحمد في مسنده (5/ 164). والطبقات الكبرى (4/ 228) وإسناده صحيح. 1910 - البخاري (3/ 271) 24 - كتاب الزكاة - 4 - باب ما أدى زكاته فليس بكنز. ومسلم (2/ 689) 12 - كتاب الزكاة - 10 - باب في الكنازين للأموال والتغليظ عليهم. والرصف: الحجارة الحماة، الواحدة رضفة، مثل: تمر وتمرة، والنغض: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف. أو على أعلى الكتف، وأصل النغض: الحركة، فسمي ذلك الموضع نفضا لأنه يتحرك بحركة الإنسان. ويتجلجل: يغوص، ورواية البخاري ومسلم «يتزلزل»: أي يضطرب ويتحرك. لا تعتريهم: لا تزورهم أو تقصدهم. تصيب منهم: تأخذ من عطياتهم.

1911 - * روى الطبراني عن محمد بن سرين قال: بلغ الحارث - رجل كان بالشام من قريش - أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه بثلثمائة دينار. فقال: ما وجد عبد الله من هو أهون عليه مني؟ سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: «من سأل وله أربعون فقد ألحف» ولأبي ذر أربعون درهماً وأربعون شاة وماهنان. قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين. * * *

_ 1911 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 231): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله ابن يونس وهو ثقة.

12 - حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما

12 - حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال ابن حجر: حذيفة بن اليمان العبسي .. من كبار الصحابة، كان أبوه قد أصاب دما فهرب إلى المدينة فحالف بني غبد الأشهل فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية، وتزوج والدة حذيفة فولد له بالمدينة، وأسلم حذيفة وأبوه وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، وشهدا أحداً فاستشهد اليمان بها، وروى حديث شهوده أحداً واستشهاده بها البخاري، وشهد حذيفة الخندق له بها ذكر حسن وما بعدها. وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثير وعن عمر، قال العجلي: استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان وبعد بيعة علي بأربعين يوماً قلت وذلك في سنة ست وثلاثين، وروى علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، عن حذيفة: خيرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة. فاخترت النصرة وفي الصحيحين أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة. وشهد حذيفة فتوح العراق وله بها آثار شهيرة. اهـ. وقال الذهبي في ترجمته: وله في الصحيحين اثنا عشر حديثاً، وفي البخاري ثمانية، وفي مسلم سبعة عشر حديثاً .. وحذيفة هو الذي ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو، وعلى يده فتح الدينور عنوة ومناقبه تطول. وكان له مذهب في المداراة ذكره الذهبي في السير: من ذلك عن حذيفة قال: ما كلام أتكلم به، يرد عني عشرين سوطاً، إلا كنت متكلما به. وعن حذيفة، قال: إني لأشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله. وعن بلال بن يحيي، قال: بلغني أن حذيفة كان يقول: ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا: وأنت؟ قال: وأنا والله، إني لأدخل على أحدهم - وليس أحد إلا فيه محاسن ومساوئ - فأذكر من محاسنه، وأعرض عما سوى ذلك، وربما دعاني أحدهم إلى الغداء، فأقول: إني صائم. ولست بصائم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عن الفتن الكائنة في الأمة. وقد ناشده عمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك. اهـ. وذكر الذهبي (1) أيضاً عن زادان: أن عليا سئل عن حذيفة. فقال: علم المنافقين وسأل عن المعضلات؛ فإن تسألوه تجدوه بها عالماً. 1912 - * روى مسلم عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا إني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً! فقلنا: ما نريد إلا المدينة. فأخذوا العهد علينا: لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «نفي بعهدهم، ونستعين بالله عليهم». 1913 - * روى مسلم عن حذيفة قال: أخبرني صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسله ما يخرج أهل المدينة من المدينة. 1914 - * روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل هذا بعد هذا الشر من خير؟ فال: «قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت: فإن لم يكن لهم جماعة

_ (1) السير (2/ 362). وقال محققه: رجال ثقات. 1912 - مسلم (3/ 1414) 32 - كتاب الجهاد والسير - 35 - باب الوفاء بالعهد. 1913 - مسلم (4/ 2217) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة - 6 - باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة. 1914 - البخاري (6/ 615) 61 - كتاب المناقب - 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. ومسلم (2/ 1475) 33 - كتاب الإمارة - 13 - باب وجول ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال. الدخن: فاسد واختلاف في النفوس.

ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». 1915 - * روى البخاري ومسلم، عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، فقد علمه أصحابي هؤلاء. وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. قال الذهبي: قد كان صلى الله عليه وسلم يرتل كلامه ويفسره: فلعله قال في مجلسه ذلك ما يكتب في جزء؛ فذكر أكبر الكوائن، ولو ذكر أكثر ما هو كائن في الوجود، لما تهيأ أن يقول في سنة، بل ولا في أعوام، ففكر في هذا. 1916 - * روى مسلم عن حذيفة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «أحصوا لي كم يلفظ الإسلام». قال: فقلنا: يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مائة؟ قال: «إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا». قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا. 1917 - * روى الحاكم عن بلال بن يحيي قال: لما حضر حذيفة الموت وكان قد عاش بعد عثمان أربعين ليلة قال لنا: أوصيكم بتقوى الله والطاعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب. 1918 - * روى الطبراني عن الزهري أن حذيفة كان أحد بني عبس وكان عداده في الأنصار.

_ 1915 - البخاري (11/ 494) 82 - كتاب القدر - 4 - باب (وكان أمر الله قدر مقدورا). ومسلم (4/ 2317) 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة - 6 - باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة. 1916 - مسلم (1/ 131) 1 - كتاب الإيمان - 67 - باب الاستسرار بالإيمان للخائف. 1917 - المستدرك (3/ 380). 1918 - المعجم الكبير (3/ 162).

1919 - * روى الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سألتني أمي: متى عهدك برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما لي به عهد منذ كذا وكذا. فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصلي معه المغرب، وأسأله أن يستغفر لي ولك. فأتيته، فصليت معه المغرب، ثم قام فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل، فتبعته، فسمع صوتي، فقال: «من هذا، حذيفة؟» قلت: نعم. فقال: «ما حاجتك؟ غفر الله لك ولأمك». قال: «إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة سيده نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

_ 1919 - الترمذي (5/ 660) 50 - كتاب المناقب - 31 - باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام. وقال: هذا حديث حسن غريب.

13 - سعد بن معاذ رضي الله عنه

13 - سعد بن معاذ رضي الله عنه هو في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين. قال ابن حجر في الإصابة: سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي سيد الأوس. وأمه كبشة بنت رافع لها صحبة. ويكنى أبا عمرو .. شهد بدراً باتفاق، ورمي بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهراً حتى حكم في بني قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، ثم انتقض جرحه فمات أخرج ذلك البخاري وذلك سنة خمس، وقال المنافقون لما خرجت جنازته: ما أخفها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الملائكة حملته». في الصحيحين وغيرهما من طرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ». وروى يحيي بن عباد بين عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر. وذكر ابن إسحاق أنه لما أسلم علي يد مصعب بن عمير قال لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا. فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام. وروى ابن إسحاق في قصة الخندق عن عائشة قالت: كنت في حصن بني حارثة وأم سعد بن معاذ معي فمر سعد بن معاذ وهو يقول: لبث قليلاً يلحق الهيجاجل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل فقالت له أمه: الحق يا بني فقد تأخرت. فقلت: يا أم سعد لوددت أن ردع سعد أسبغ مما هي. قال: فأصابه السهم حيث خافت عليه. وقال الذي رماه: خذها وأنا ابن العرقة. فقال: عرق الله وجهك في النار. اهـ. وقال ابن كثير: كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم، فأقاموا قريباً من شهر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة فأقام عليهم خمساً وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من سنة خمس ولله أعلم. اهـ.

وقال الذهبي: قيل كان سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة ابني خالة. وقال ابن إسحاق: أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجراح، وقيل آخي بينه وبين سعد ابن أبي وقاص. اهـ. قال الذهبي في السير: نقل ابن الكلبي أن قريشاً سمعت هاتفاً على أبي قبيس يقول: فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخسى خلاف المخالف فقال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر، سعد تميم؟ فسمعوا في الليل الهاتف يقول: أيا سعد الأوس كن أنت ناصراً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف فقال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير. فقال ابن إسحاق: لما أسلم وقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا فضلاً، وأيمننا نقيبةً. قال: فإن كلامكم علي حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا. أبو إسحاق: عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود قال: انطلق سعد بن معاذ معتمراً، فنزل على أمية بن خلف وكان أمية إذا انطلق إلى الشام يمر بالمدينة، فينزل عليه، فقال أمية له: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس طفت. فبينا سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل، فقال: من الذي يطوف آمنا؟ قال: أنا سعد. فقال: أتطوف آمناً وقد أويتم محمداً وأصحابه؟ قال: نعم. فتلاحيا. فقال أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. فقال سعد: والله لو منعتني، لقطعت عليك متجرك بالشام. قال: فجعل أمية يقول: لا ترفع صوتك. فغضب وقال: دعنا منك، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: يزعم أنه قاتلك. قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد فكاد

يحدث (1)، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ زعم أنه سمع محمداً يزعم أنه قاتلي. قالت: والله ما يكذب محمد. فلما خرجوا لبدر قالت امرأته: ما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ فأراد أن لا يخرج. فقال له أبو جهل: إنك من أشراف أهل الوادي، فسر معنا يوماً أو يومين. فسار معهم، فقتله الله. قال ابن شهاب: وشهد بدراً سعد بن معاذ، ورمي يوم الخندق، فعاش شهراً، ثم انتقض جرحه فمات. ابن إسحاق: حدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل أن عائشة كانت في حصن بن حارثة يوم الخندق وأم سعد معها، فعبر سعد عليه درع مقلصه قد خرجت منه ذراعة كلها وفي يده حربة يرفل بها [يمشي بقوة وجد] ويقول: لبث قليلاً يشهد الهيجا جمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل يعني: حمل بن بدر. فقالت له أمه: أي بني! قد أخرت. فقلت لها: يا أم سعد، لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل، رماه ابن العرقة، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة. فقال: عرق الله وجهك في النار. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه. اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة (2). أ. هـ. 1920 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيب سعد يوم

_ (1) كاد يحدث: من الحدث. وهو خروج خارج من أحد السبيلين، والضمير لأمية. أي أنه كاد أن يخرج من شيء لشدة فزعه. وهذه رواية البيهقي. أما رواية البخاري: «والله ما يكذب محمد إذا حدث». من التحديث. وعد الحافظ رواية البيهقي تصحيفاً. (2) قال محقق السير: رجاله ثقات، وهو في سيرة ابن هشام (2/ 226). وأخرجه أحمد (6/ 141). 1920 - البخاري (7/ 411) 64 - كتاب المغازي - 30 - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة. ومسلم (2/ 1389) 32 - كتاب الجهاد والسير - 22 - باب جواز قتال من نقض العهد.=

الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، اخرج إليهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم. قال هشام: فأخبرني أبي عن عائشة أن سعداً قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قومٍ كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها. فانفجرت من لبته، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً. فمات منها رضي الله عنه. 1912 - * روى أحمد عن عائشة فقالت: حضر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، سعد بن معاذ، وهو يموت في القبة التي ضربها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد قالت: والذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وإني لفي حجرتي، فكانا كما قال الله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (1). قال علقمة فقلت: أي أمه! كيف كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصنع؟ قالت: كان لا تدمع عينه على أحد، ولكنه كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته. 1922 - * روى ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: لما أصيب أكحل سعد، فثقل؛

_ = الأكحل: عرق في وسط الذراع. اللبة: النحر. يغدو: يسيل. 1921 - أحمد في مسنده (6/ 141). وإسناده حسن. (1) الفتح: 29. 1922 - الطبقات الكبرى (3/ 427). وإسناده حسن.

حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة تداوي الجرحى. فكان، صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: «كيف أمسيت، وكيف أصبحت؟» فيخبره حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها وثقل، فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله، فقيل: انطلقوا به. فخرج وخرجنا معه، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالنا، وسقطعت أرديتنا، فشكا ذلك إليه أصحابه، فقال: «إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غلست حنظلة». فانتهى إلى البيت، وهو يغسل، وأمه تبكيه وتقول: ويل أن سعدٍ سعدا ... حزامةً وجداً فقال: «كل باكية تكذب إلا أم سعد». ثم خرج به. قال: يقول له القوم: ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخف علينا منه. قال: «ما يمنعه أن يخف وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم». 1923 - * روى ابن سعد عن شعبة: عن سماك، سمع عبد الله بن شداد يقول: دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على سعد وهو يكيد بنفسه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم، «جزاك الله خيراً من سيد قومٍ، فقد أنجزت ما وعدته. ولينجزنك الله ما وعدك»؟ 1924 - * روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريباً من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «قوموا إلى سيدكم»، أو: «خيركم». ثم قال: «إن هؤلاء نزلوا على حكمك». قال: تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذريتهم. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قضيت بحكم الله». 1925 - * روى ابن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: لما حكم سعد في بني قريظة

_ 1923 - الطبقات الكبرى (3/ 427). وإسناده حسن. يكيد بنفسه: يجوز بها وهو يتوفى. 1924 - البخاري (7/ 411) 64 - كتاب المغازي - 30 - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة. ومسلم (3/ 1388) 32 - كتاب الجهاد - 22 - باب جواز قتال من نقض العهد. 1925 - الطبقات الكبرى (3/ 426). وإسناده حسن.=

أن يقتل من جرت عليه المواسي قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لقد حكم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات». 1926 - * روى ابن سعد عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال: أخذ إنسان قبضة من تراب قبر سعد، فذهب بها، ثم نظر فإذا هي مسك. ورواها محمد بن عمرو بن علقمة، عن ابن المنكدر. ذكر الذهبي في السير (2) عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، عن عائشة قالت: ما كان أحد أشد فقداً على المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد بن معاذ. 1927 - * روى الحاكم عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: لما توفي سعد بن معاذ صاحت أمه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «ليرقأ دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك أول من ضحك الله إليه واهتز له العرش». 1928 - * روى أحمد والحاكم والطبراني عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: لما أخرج بجنازة سعد بن معاذ صاحت أمه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليرقأ دمعك ويذهب حزنك». والباقي بنحوه.

_ = المواسي: جمع موسى وهي الآلة التي يحلق بها. والمراد هنا من بلغ الحلم وطالت سعرته، وصار بحلقها. يفسر ذلك حديث عطية القرظي قال: عرضنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيله. أخرجه أبو داود، والترمذي وسنده حسن. 1926 - الطبقات الكبرى (3/ 431). وإسناده حسن. (2) السير (1/ 295) وقال محققه: إسناده حسن. 1927 - المستدرك (3/ 206). وصححه ووافقه الذهبي. 1928 - أحمد في مسنده (6/ 456). والمستدرك (3/ 306). وصححه ووافقه الذهبي. والمعجم الكبير (6/ 13)، (24/ 47). وقال الهيثمي في مجمع الزوائج (9/ 309): رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح. ليرقأ: لينقطع.

1929 - * روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما حملت جنازة سعد ابن معاذ قال المنافقون: ما أخف ما كانت جنازته - يعني لحكمه في بني قريظة - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن الملائكة كانت تحمله». 1930 - * روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ». فقال رجل لجابر: إن البراء يقول: اهتز السرير؟ فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ». وفي رواية لمسلم (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم-: «اهتز لها عرش الرحمن عز وجل». 1931 - * روى ابن سعد عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعداً. قال: إنما يعني السرير. وقرأ {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (2) قال: إنما تفسحت أعواده. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره، فاحتبس، فلما خرج، قيل يا رسول الله! ما حبستك؟ قال: «ضم سعد في القبر ضمة، فدعوت الله أن يكشف عنه». قال الذهبي: تفسيره بالسرير ما أدري أهو من قول ابن عمر، أو من قول مجاهد. وهذا تأويل لا يفيد، فقد جاءنا ثابتاً عرش الرحمن وعرش الله، والعرش خلق لله مسخر إذا شاء أن يهتز اهتز بمشيئة الله، وجعل فيه شعوراً لحب سعد، كما جعل تعالى شعورا في جبل أحد

_ 1929 - الترمذي (5/ 690) 50 - كتاب المناقب - 51 - باب مناقب سعد بن معاذ. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 1930 - البخاري (7/ 123) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 12 - باب مناقب سعد بن معاذ. اهتزاز العرش: كناية عن ارتياحه بروحه حين صعد بها لكرامته على ربه، وكل من خف لأمر وارتاح له، فقد اهتز له. والمعنى: فرح أهل العرش بقدومه على الله لما رأوا من منزلته وكرامته وفضله. ضغائن: الضغائن: الأحقاد والعداوات، واحدتها: ضغينة. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. 1931 - الطبقات الكبرى (3/ 433) (2) يوسف: 100.

بحبه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} (1). وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ} (2) ثم عمم فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (2). وهذا حق. وفي صحيح البخاري قول ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وهذا باب واسع سبيله الإيمان. اهـ. 1932 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس - وكان ينهي عن الحرير - فعجب الناس منها، فقال: «والذي نفس محمد بيده، إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا». وفي رواية الترمذي والنسائي (4) عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: قدم أنس ابن مالك فأتيته، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: فبكى، وقال: إنك لشبيه بسعد، وإن سعداً كان من أعظم الناس وأطولهم، وإنه بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من ديباج، منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، فقام - أو قعد - فجعل الناس يلمسونها، فقالوا: ما رأينا كاليوم ثوبا قط. فقال: «أتعجبون من هذا؟ لمناديل سعد في الجنة خير مما ترون» (3). 1933 - * روى البزار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد نزل لسعد بن معاذ رضي الله عنه سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها». وقال حين دفن: «سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد».

_ (1) سبأ: 10. (2) الإسراء: 44. 1932 - البخاري (6/ 319) 59 - كتاب بدء الخلق - 8 - باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. ومسلم (4/ 1916) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 24 - باب من فضائل سعد بن معاذ. السندسي: الحرير وما رق من الإبرسيم. (4) الترمذي (4/ 318) 35 - كتاب اللباس 3 - باب حدثنا أبو عمار .. وقاله: هذا حديث صحيح. والنسائي (8/ 199) - 48 - كتاب الزينة - 88 - باب ليس الديباج المنسوج بالذهب. 1933 - البزار: كشف الستار (3/ 256) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 308): رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

قال الذهبي: هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك فهذه الأراجيف كلها قد تنال البعد وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه. قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (1). وقال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} (2). فنسأله الله تعالى العفو واللطف الخفي. ومع هذه المزات، فسعد ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء، رضي الله عنه. كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم، ولا خوف. سل ربك العافية، وأن يحسرنا في زمرة سعد. اهـ. * * *

_ (1) مريم: 29. (2) غافر: 18.

14 - عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

14 - عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال ابن كثير في ترجمته: عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي. أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني، أسلم قديماً مع أبيه ولم يبلغ الحلم وهاجرا وعمره عشر سنين، وقد استصغر يوم أحد، فلما كان يوم الخندق أجازه وهو ابن خمس عشرة سنة فشهدها وما بعدها، وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين، أمهما زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وكان عبد الله بن عمر ربعة من الرجال آدم له جمة تضرب إلى منكبيه جسيما يخضب بالصفرة ويحفى شاربه، وكان يتوضأ لكل صلاة ويدخل الماء في أصول عينيه، وقد أراده عثمان على القضاء فأبى ذلك، وكذلك أبوه، وشهد اليرموك والقادسية وجلولاء وما بينهما من وقائع الفرس، وشهد فتح مصر، واختلط بها داراً، وقدم البصرة وشهد غزو فارس وورد المدائن مرارا وكان عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين سنة، وكان إذا أعجبه شيء من ماله يقرب إلى الله عز وجل وكان في مدة الفتنة لا يأتي أمير إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله، وكان أعلم الناس بمناسك الحج، وكان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي فيها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت الشجرة وكان ابن عمر يتعاهدها ويصب في أصلها الماء، وكان إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا تلك الليلة، وكان يقوم أكثر الليل، وقيل إنه مات وهو في الفضل مثل أبيه، وكان يوم مات خير من بقي، ومكث سنة يفتي الناس من سائر البلاد. اهـ. وقال ابن حجر: وقال الزبير بن بكار: وكان ابن عمر يتحفظ ما سمع من رسول الله ويسأل من حضر عن قوله وفعله وكان يتبع آثاره في كل مسجد. وقد ذكر الذهبي بعض من أخذ عنهم العلم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد منهم خمسة عشر، وذكر مئتين وسبعة وعشرين ممن أخذوا عنه العلم ورووا عنه، وقال: ولابن عمر في مسند بقي ألفان وست مائة وثلاثون حديثاً بالمكرر، واتفقا له على مئة وثمانين وستين حديثاً، وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثاً، ومسلم بأحد وثلاثين، وتكلم الذهبي عن يوم التحكيم بين علي ومعاوية فقال: كاد أن تنعقد البيعة له [لابن عمر] يومئذ مع وجود

الإمام علي وسعد بن أبي وقاص ولو بويع لما اختلف عليه اثنان ولكن الله حماه وخار له، والظاهر أنه توفي في آخر سنة ثلاث وسبعين. وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعاً وثمانين سنة، ورجح الذهبي أنه عمر خمساً وثمانين سنة ودفن في فخ من مكة (وفخ: حي الزاهر) في مقبرة المهاجرين. اهـ. قال الذهبي: وأولاده من صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي: أبو بكر، وواقد، وعبد الله، وأبو عبيدة، وعمر، وحفصة، وسودة. ومن أم علقمة المحاربية: عبد الرحمن وبه يكنى. ومن سُريةٍ له: سالم، وعبيد الله، وحمزة. ومن سُريةٍ أخرى: زيد، وعائشة. ومن أخرى: أبو سلمة، وقلابة. ومن أخرى: بلال، فالجملة ستة عشر. اهـ. قال الحافظ في الإصابة: وأخرج أبو سعيد بن الأعرابي بسند صحيح وهو في الغيلانيات والحامليات عن سالم بن أبي الجعد عن جابر: ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال غير عبد الله بن عمر. وفي تاريخ أبي العباس السراج بسند حسن عن السدي: رأيت نفراً من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحد فيهم على الحالة التي فارق عليها النبي صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر. وفي الشعب للبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل. ومن وجه آخر عن أبي سلمة: كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس له فيه نظير. وفي معجم البغوي بسند حسن عن سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحد من أهل الجنة لشهدت لابن عمر. ومن وجه صحيح: كان ابن عمر حين مات خير من بقي. اهـ.

قال الذهبي: قال ابن حزم في كتاب (الإحكام) في الباب الثامن والعشرين: المكثرون في الفتيا من الصحابة؛ عمر وابنه عبد الله، علي، عائشة، ابن مسعود، ابن عباس، زيد بن ثابت، فهم سبعة فقط يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم. وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا ابن عباس في عشرين كتاباً. وأبو بكر هذا أحد أئمة الإسلام. 1934 - * روى ابن سعد عن سليمان بن بلال: عن زيد بن أسلم: أن بن عمر كان يصفر حتى يملأ ثيابه منها، فقيل له: تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها. 1935 - * روى ابن سعد عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء». قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وذكر الذهبي في السير (1) عن نافع: أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعة، أحيا بقية ليلته. وذكر أيضاً (2) أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء، فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش، فيغفي إغفاءة الطائر، ثم يقوم، فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمساً. وذكر أيضاً (2) عن عطاء مولى ابن سباع، قال: أقرضت ابن عمر ألفي درهم، فوفانيها بزائد مئتي درهم.

_ 1934 - الطبقات الكبرى (4/ 179) وسنده صحيح. 1935 - انظر: سير أعلام النبلاء. للذهبي (3/ 213). وقال محققه: رجاله ثقات. الباب: يعني أحد أبواب المسجد النبوي. (1) السير (3/ 213). وقال محققه. رجاله ثقات. السير (3/ 235). وقال محققه: رجال ثقات. المهراس: حجر منقور ويتوضأ منه. (2) السير (3/ 215) وقال محققه رجاله ثقات.

قال محقق السير: وإنما تحل له الزيادة فيما إذا لم يكن ذلك على شرط منهما أو عادة، أما إذا شرط في القرض أن يرد أكثر أو أفضل، فهو حرام لا خير فيه وفعل ابن عمر هذا له سند من السنة، ففي الموطأ ومسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: «أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء». وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وذكر أيضا (1)، عن عاصم، أن مروان قال لابن عمر - يعني بعد موت يزيد-: هلم يدك نبايعك، فإنك سيد العرب وابن سيدها. قال: كيف أصنع بأهل المشرق؟ قال: نضربهم حتى يبايعوا. قال: والله ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة، وأنه قتل في سيفي رجل واحد. قال: يقول مروان: إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وذكر أيضاً (2) عن بن محمد بن زيد، عن أبيه: أن ابن عمر كاتب غلاماً له بأربعين ألفاً، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حمر له، حتى أدى خمسة عشر ألفاً، فجاءه إنسان، فقال: أمجنون أنت؟ أنت ها هنا تعذب نفسك. وابن عمر يشتري الرقيق يميناً وشمالاً، ثم يعتقهم؛ ارجع إليه، فقل: عجزت. فجاء إليه بصحيفة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! قد عجزت، وهذه صحيفتي، فامحها. فقال: لا، ولكن امحها أنت إن شئت. فمحاها، ففاضت عينا عبد الله، وقال: اذهب فأنت حر. قال: أصلحك الله، أحسن إلى ابني. قال: هما حران. قال: أصلحك الله، أحسن إلى أمي ولدي. قال: هما حرتان.

_ (1) السير (3/ 316). وقال: محققه إسناده حسن. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 169). (2) السير (3/ 217) وقال محققه رجاله ثقات. المكاتبة: أن يكتب السيد لمولاه وثيقة يتعهد له فيها بالعتق إذا أعطاه يسميه من المال، فإذا جمعه العبد، ودفعه لسيده، أصبح حرا.

وذكر أيضا (1) عن عاصم بن محمد العمري: عن أبيه، قال: أعطى عبد الله بن جعفر ابن عمر بنافع عشرة آلاف، فدخل على صفية امرأته، فحدثها، قالت: فما تنتظر؟ قال: فهلا ما هو خير من ذلك، هو حر لوجه الله: فكان يخيل إلي أنه كان ينوي قول الله {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2). وقال ابن شهاب: أراد ابن عمر أن يلعن خادماً، فقال: الهمم الع، فلم يقها، وقال: ما أحب أن أقول هذه الكلمة. وعن سالم، قال: ما لعن ابن عمر خادماً له قط إلا واحداً، فأعتقه (3). وذكر الذهبي في السير (4) عن عمر بن محمد العمري، عن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو زاد. وذكر أيضاً (5): عن نافع، قال: بعث معاوية إلى ابن عمر بمئة ألف، فما حال عليه الحول وعنده منها شيء. وذكر أيضا (6) عن حمزة بن عبد الله، قال: لو أن طعاماً كثيراً عند أبي ما شبع منه بعد أن يجد له آكلاً، فعاده ابن مطيع، فرآه قد نحل جسمه، فكلمه، فقال: إنه ليأتي علي ثمان سنين، ما أشبع فيها شبعة واحدة - أو قال؟: إلا شبعة - فالآن تريد أن أشبع حتى لم يبق من عمري إلا ظم حمار. 1936 - * روى الطبراني عن مطعم بن المقدام قال: كتب الحجاج إلى ابن عمر: بلغني أنك طلبت الخلافة وأنها لا تصلح لعي ولا بخيل ولا غيور. فكتب إليه: أما ما ذكرت من

_ (1) السير (3/ 217). وقال محققه: إسناده صحيح. (2) آل عمران: 93. (3) رواه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 413) وإسناده صحيح. (4) السير (3/ 218). وقال محققه: إسناده صحيح. (5) السير (3/ 219). قال محققه: إسناده صحيح. (6) السير (3/ 218). وعبد الرازق في مصنفه (11/ 312). وقال محقق السير: إسناده صحيح. ظمء حمار: أي شيء يسير وخص الحمار لأنه أقل الدواب صبراً على الماء. 1936 - المعجم الكبير (12/ 262).=

الخلافة فما طلبتها، وما هي من بالي، وأما ما ذكرت من العي، فمن جمع كتاب الله، فليس بعيي. ومن أدى زكاته، فليس ببخيل. ومن أدى زكاته، فليس ببخيل. وإن أحق ما غرت فيه ولدي أن يشركني فيه غيري. وذكر الذهبي في السير (1) عن نافع: أن المختار بن أبي عبيد كان يرسل إلى ابن عمر بالمال، فيقبله، ويقول: لا أسأل أحداً شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله. وذكر أيضاً (2) عن الثوري: عن أبي الوازع: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. فغضب، وقال: إني لأحسبك عراقياً، وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه. 1937 - (3) وروى ابن سعد عن نافع، أن ابن عمر كان يقبض على لحيته، ويأخذ ما جاوز القبضة. 1938 - * روى البخاري عن نافع قال: وكان ابن عمر إذا اعتمر، قبض على لحيته، فما فضل أخذه. وذكر الذهبي في السبر: (3) عن ابن سيرين أن رجلاً قال لابن عمر: أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟ قال: شيء إذا كظك الطعام، فأصبت منه، سهل. فقال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذاك أن لا أكون له واجداً، ولكني عهدت قوماً يشبعون مرة، ويجوعون مرة.

_ = قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 347): رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، فإن المطعم لم يسمع من ابن عمر. (1) السير (3/ 220) وقاله محققه: إسناده صحيح. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 150). (2) السير (3/ 220). وقال محققه: إسناده حسن. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 161). 1937 - الطبقات الكبرى (4/ 178). 1938 - البخاري (10/ 349) 77 - كتاب اللباس - 64 - باب تقليم الأظفار. (3) السير (3/ 222). وقال محققه: أخرجه أبو نعيم (1/ 300) ورجاله ثقات. جوارش: نوع من الأدوية المركبة يقوي المعدة ويهضم الطعام وليست اللفظة عربية. إذا كظك الطعام: إذا امتلأت منه وأثقلك.

وذكر أيضاً: (1) عن ابن عمر: قال بعث إلي علي، يا أبا عبد الرحمن! إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم. فقلت: أذكرك الله، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني. فأبى علي، فاستعنت عليه بحفصة، فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة، فقيل له: إنك قد خرج إلى الشام. فبعث في أثري، فجعل الرجل يأتي المربد، فيخضم بعيره بعمامته ليدركني. قال: فأرسلت حفصة: إنه لم يخرج إلى الشام، إنما خرج إلى مكة. فسكن. وذكر أيضا: (2) عن ابن عمر قال دومة جندل: جاء معاوية على بختي عظيم. طويل، فقال: ومن الذي يطمع في هذا الأمر ويمد إليه عنقه؟ فما حدثت نفسي بالدنيا إلا يومئذ، هممت أن أقول: يطمع فيه من طربك وأباك عليه، ثم ذكرت الجنة ونعيمها، فأعرضت عنه. وذكر أيضاً: (3)، عن نافع؛ أن معاوية بعث إلى ابن عمر بمئة ألف، فلما أراد أن يبايع ليزيد، قال: أرى ذاك أراد، إن ديني عندي إذا لرخيص. وذكر أيضاً: (4) قال: حلف معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلن ابن عمر، يعني وكان ابن عمر بمكة. فجاء إليه [أي إلى ابن عمر] عبد الله بن صفوان، فدخلا بيتاً، وكنت على الباب، فجعل ابن صفوان يقول: أفتتركه حتى يقتلك؟! والله لو لم يكن إلا أن وأهل بيتي، لقاتلته دونك فقال: ألا أصير في حرم الله؟ وسمعت نحيبه مرتين، فلما دنا معاوية تلقاه ابن صفوان، فقال: إيها جئت لتقتل ابن عمر. قال: والله لا أقتله. 1939 - * روى ابن سعد عن ميمون بن مهران قال: دس معاوية عمراً وهو يريد أن

_ (1) السير (3/ 224). وقال محققه: رجاله ثقات. (2) السير (3/ 334). وقال محققه: رجاله ثقات. (3) السير (3/ 225). وقال محققه: إسناده صحيح. (4) السير (3/ 335). وقال محققه: إسناده صحيح. إيها: اسم فعل لأمر بمعنى اسكت وكف. 1939 - الطبقات الكبرى (4/ 164) وسنده صحيح.

يعلم ما في نفس ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر. فقال: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم، إلا نفر يسير. قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج يهجر لم يكن لي فيها حاجة. قال: فعلم أنه لا يريد القتال. فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين والأموال؟ فقال: أف لك! اخرج من عندي، إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية. 1940 - * روى ابن سعد عن نافع، قال: كان ابن عمر يسلم على الخشبية والخوارج وهم يقتتلون وقال: من قال (حي على الصلاة) أجبته، ومن قال (حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله) فلا. 1941 - * روى ابن سعد عن نافع، قال: أصابت ابن عمر عارضة محمل بين أصبعيه عند الجمعة، فمرض فدخل عليه الحجاج، فلما رآه ابن عمر، غمض عينيه، فكلمه الحجاج، فلم يكلمه، فغضب، وقال: إن هذا يقول إني على الضرب الأول. وذكر الذهبي في السير: (1) عن ابن عمر، أنه قام إلى الحجاج، وهو يخطب فقال: يا عدو الله! أستحل حرم الله، وخرب بيت الله. فقال: يا شيخنا قد خرف. فلما صدر الناس، أمر الحجاج بعد مسودته، فأخذ حربة مسمومة، وضرب بها رجل ابن عمر، فمرض، ومات منها ودخل عليه الحجاج عائداً، فسلم فلم يرد عليه، وكلمه، فلم يجبه. 1942 - * روى البخاري عن سعيد بن عمرو، قال: دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده، فقال: كيف هو؟ فقال: صالح. قال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا تحل فيه حمله. يعني الحجاج.

_ 1940 - الطبقات الكبرى (4/ 196) وإسناده حسن. الخشبية: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. 1941 - الطبقات الكبرى (4/ 186) وإسناده صحيح. (1) السير (3/ 230) 1942 - البخاري (2/ 55) 13 - كتاب العيدين - 9 - باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم.

1943 - * روى ابن سعد عن سعيد بن جبير، قال: لما احتضر ابن عمر، قال: ما آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث؛ طمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا. يعني الحجاج. وذكر الذهبي (1) في السير: عن نافع أو غيره، أن رجلاً قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابن خير الناس. فقال: ما أنا بخير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه. 1944 - * روى ابن سعد عن عروة قال: خطبت إلى ابن عمر ابنته، ونحن في الطواف، فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت: لو رضي، لأجابني، والله لا أراجعه بكلمة. فقدر له أنه صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت، فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، وأديت إليه حقه، فرحب بي، وقال: متى قدمت؟ قلت: الآن. فقال: كنت ذكرت لي سودة ونحن في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا، وكنت قادرا أن تلقاني في غير ذلك المواطن. فقلت: كان أمراً قدر. قال: فما رأيك اليوم؟ قلت: أحرص ما كنت عليه قط. فدعا ابنتيه سالماً وعبد الله. وزوجني. 1945 - * روى ابن سعد عن ابن عمر، قال: إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك، حتى جلا الله عنها، فأبصرنا طريقنا الأول. فعرفناه، فأخذنا فيه. إنما هؤلاء فتيان قريش يقتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن لا يكون لي ما يقتل عليه بعضهم بعضاً بنعلي هاتين الجرداوين. 1946 - * روى ابن سعد عن أبي جعفر القارئ: خرجت مع ابن عمر من مكة، وكان

_ 1943 - الطبقات الكبرى (4/ 185). وذكره الذهبي في السير (3/ 232) وقال: محققه إسناده صحيح. (1) السير (3/ 236). وقال محققه: سنده صحيح. 1944 - الطبقات الكبرى (4/ 171). وذكره الذهبي في السير (3/ 237). وقال محققه: رجاله ثقات. 1945 - الطبقات الكبرى (4/ 171). وذكره الذهبي في السير (3/ 237). وقال محققه: إسناده صحيح. 1946 - الطبقات الكبرى (4/ 148). وذكره الذهبي في السير (3/ 239). وقال محققه: إسناده حسن.=

له جفنة من ثريد يجتمع عليها بنوه، وأصحابه، وكل من جاء حتى يأكل بعضهم قائماً، ومعه بعير له، عليه مزادتان، فيهما نبيذ وماء، فكان لكل رجل قدح من سويق بذلك النبيذ. 1947 - * روى ابن سعد عن عبد الله بن دينار قال: لما اجتمعوا على عبد الملك كتب إليه ابن عمر: أما بعد: فإني قد بايعت لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وإن نبي قد أقروا بذلك. 1948 - * روى البزار عن ابن عمر أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. 1949 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: لم أجدني آسى على شيء إلا إني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. 1950 - * روى الطبراني عن نافع قال: إن كان ابن عمر ليقسم في المجلس ثلاثين ألفاً ثم يأتي عليه شهر ما يأكل فيه مزعة لحم. قال برد: قلت لنافع هل كان يأكل اللحم؟ قال: كان إذا صام أو سافر فإنه أكثر طعامه. 1951 - * روى الطبراني عن زيد بن أسلم قال: مر ابن عمر براعي غنم فقال: يا راعى الغنم هل من جزرة؟ قال: ما ههنا ربها. قال: تقول أكلها الذئب؟ فرفع الراعي رأسه

_ = النبيذ: يعمل في الأشربة من التمر والزبيب ولا يسكر. 1947 - الطبقات الكبرى (4/ 183). وذكره الذهبي في السير (3/ 231). وقال محققه إسناده قوي. 1948 - رواه البزار ورجاله موثقون. 1949 - رواه الطبراني بأسانيد وأحدها رجاله رجال صحيح. 1950 - المعجم الكبير (12، 260، 261). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 347): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير برد من سنان وهو ثقة. مزعة لحم: قطعة لحم؟ 1951 - المعجم الكبير (12/ 263). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 347): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن الحارث الحاطبي وهو ثقة. جزرة: جمل للذبح.

إلى السماء ثم قال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول فأين الله. فاشترى ابن عمر واشترى الغنم فأعتقه وأعطاه الغنم. أقول: كان فعل ابن عمر امتحانًا للراعي. 1952 - * روى الطبراني عن مكحول قال: بينا أنا مع ابن عمر وهو يمشي إذ مر به رجل أسود معه رمح فوضع زج الرمح بين السبابة والإبهام من قدم ابن عمر، فحمل الشيخ فأدخل، فورمت ساقه، فأتاه الحجاج يعوده فقال: يا أبا عبد الرحمن من أصابك بهذا حتى آخذ لك منه؟ قال: الله ليأخذن منه؟ الله ليأخذن منه؟ قال: ما بال حرم الله وأمنه يحمل فيه السلاح؟ قال: فمات فيه. أقول: في الحديث إشارة إلى أن القاتل الحقيقي هو الحجاج الذي سمح بإدخال السلاح إلى حرم الله. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: في الزهد للبيهقي بسند صحيح عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر: سعت أبي يقول: ما ذكر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بكى، ولا مر على ربعهم إلا غمض عينيه. وأخرجه الدارمي من هذا الوجه في تاريخ أبي العباس بسند جيد عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} يبكي حتى يفنيه البكاء. وعند ابن سعد بسند صحيح، قيل لنافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة والمصحف فيما بينهما. وعند الطبراني وهو في الحليلة بسند جيد عن نافع؛ أن ابن عمر كان يحيى الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا. فيقول: لا. فيعاود فإذا قال: نعم. قعد يستغفر الله حتى يصبح اهـ. والمقصود بربعهم: دار الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ 1952 - المعجم الكبير (12/ 259). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 247): رواه الطبراني بإسنادين ورجال هذا ثقات. الزج: حربة الرمح.

1953 - * روى ابن سعد عن نافع أن ابن عمر كان لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر. 1954 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلامًا شابًا عزبًا، أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل". قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. وللبخاري (3) أيضًا، أن ابن عمر قال: رأيت في النوم: كأن في كفي سرقة من حرير، لا أهوى بها إلى مكانٍ في الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أخاك رجل صالح". أو قال: "إن عبد الله رجل صالح". وفي أخرى (4) له قال: إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وأنا غلام حديث السن، بيتي المسجد قبل أن أنكح، فقلت في نفسي: لو كان فيك

_ 1953 - الطبقات الكبرى (4/ 148) وسنده جيد. 1954 - البخاري (3/ 6) 19 - كتاب التهجد -2 - باب فضل قيام الليل. مسلم (4/ 1927) 44 - كتاب فضائل الصحابة -31 - باب فضائل عبد الله بن عمر. (1) البخاري (12/ 403) 11 - كتاب التعمير -25 - باب الاستبراق ودخول الجنة في المنام. سرقة: السرقة بفتحتين: الحرير، وجمعها: سرق. أفرى: بيده إلى الشيء: مدها إليه ليأخذه. (2) البخاري (13/ 418) 91 - كتاب التعبير -35 - باب الأمن وذهاب الروع في المنام.=

خير، لرأيت ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعت ليلة قلت: اللهم إن كنت تعلم في خيرًا، فأرني رؤيا. فبينا أنا كذلك إذ جاءني ملكان، في يد كل واحدٍ منهما مقمعة حديد، فحملاني إلى جهنم، وأنا بينهما أدعو الله: اللهم إني أعوذ بك من جهنم، ثم أراني لقيني ملك في يده مقمعة من حديدٍ، فقال: لم ترع، نعم الرجل أنت، لو تكثر الصلاة. فانطلقوا بي، حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، ولها قرون كقرون البئر بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبد الله رجل صالح". قال نافع: فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة. وفي رواية لمسلم (1): رأيت في المنام كأن في يدي قطعة استبرق، وليس مكان من الجنة أريد إلا طارت بي إليه، فقصصته على حفصة، فقصته على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى عبد الله رجلاً صالحًا". (لو كان يصلي من الليل) هي هنا للتمني، لا للشرط، ولذلك لم يذكر الجواب. قال المهلب: إنما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا في قيام الليل من أجل قول الملك. "لم ترع". أي لم تعرض عليك النار، لأنك مستحقها، وإنما ذكرت بها، ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحواله، فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيدني من النار، وعلم مبيته في المسجد، فعبر ذلك بأن تنبيه له على قيام الليل فيه. 1955 - * روى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمس مائة، فقلت له: يا أبت لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة

_ =لم ترع: أي لم تفزع. مقمعة: واحدة المقامع، وهي سياط تعمل من حديد رؤوسها معوجة. شفير جهنم: شفير الوادي: جانبه وحرفة. (1) مسلم (4/ 1927) 44 - كتاب فضائل الصحابة -31 - باب من فضائل عبد الله بن عمر. استبرق: الاستبرق: ما غلظ من الديباج. 1955 - المستدرك (2/ 559). وصححه ووافقه الذهبي.

آلاف وتفرض لي ألفين وخمس مائة؟ والله ما شهد أسامة مشهدًا غبت عنه، ولا شهد أبوه مشهدًا غاب عنه أبي. قال: صدقت يا بني، ولكني أشهد: لأبوه كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبيك، ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك. قال الحاكم: فإن توهم متوهم أن هذه الفضيلة لأسامة فليعلم أني إنما خرجت هذا الحديث لأمرين: أحدهما شهادة عمر لابنه أنه لم يشهد أسامة مشهدًا إلا شهدته، وهذه من أجل فضائل ابن عمر، والثاني أن الشيخين رضي الله عنهما قد خرجا أكثر ما روي من فضائل ابن عمر على شرطهما من المسانيد فأنا أجتهد في تحصيل خبر مسند صحيح لم يخرجاه.

15 - بلال بن رباح رضي الله عنه

15 - بلال بن رباح رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وهو بلال بن حمامة وهي أمه .. اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، ثم خرج بلال بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجاهدًا إلى أن مات بالشام. قال أبو نعيم: كان ترب أبي بكر وكان خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو إسحاق الجوزجاني في تاريخه من طريق منصور عن مجاهد قال: قال عمار كل قد قال ما أرادوا -يعني المشركين- غير بلال. ومناقبه كثيرة مشهورة قال ابن إسحاق: كان لبعض بني جمح. مولد من مولديهم واسم أمه حمامة، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد. فيقول وهو في ذلك أحد أحد. فمر به أبو بكر فاشتراه منه بعبد له أسود جلد. قال البخاري: ومات بالشام زمن عمر. وقال ابن بكير: مات في طاعون عمواس. وقال عمرو بن علي: مات سنة عشرين. وقال ابن زبر: مات بداريا. وفي المعرفة لابن منده أنه دفن بحلب. اهـ. وقال ابن كثير: ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أم مكتوم يتناوبون، تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال ندي الصوت حسنه، فصحًا ... وأذن يوم الفتح على ظهر الكعبة .. قالوا: وكان بلال آدم شديد الأدمة طويلاً نحيفًا كثير الشعر خفيف العارضين. قال ابن بكير: توفي بدمشق في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وقال محمد بن إسحاق وغير واحد: توفي سنة عشرين. قال الواقدي: ودفن بباب الصغير، وله بضع وستون

سنة. ا. هـ. ومما ورد فيه: 1956 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال صلاة الغداة: "حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة". قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. 1957 - * روى البخاري عن جابر قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا. يعني بلالاً. 1958 - * روى الحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: أول من أظهر إسلامه سبعة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمة سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فمنعهما الله بقومهما، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. ذكر الذهبي في السير (1) عن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أواق ذهبًا، فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناكه. قال: لو أبيتم إلا مئة أوقية لأخذته.

_ 1956 - البخاري (2/ 34) 19 - كتاب التهجد -17 - باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار. (1) ومسلم (4/ 1910) 44 - كتاب فضائل الصحابة -21 - باب من فضائل بلال. 1957 - البخاري (7/ 99) 62 - كتاب فضائل الصحابة 23 - باب مناقب بلال بن رباح. 1985 - المستدرك (2/ 284). وصححه ووافقه الذهبي. السير (1/ 352) وقال محققه: إسناده قوي.

1959 - * روى مسلم عن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك فلا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل وآخران، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (2). 1960 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئٍ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل الله ألعن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم صححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة". قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. قالت: وكان نطحان يجري نجلاً. يعني ماء آجنا.

_ 1959 - مسلم (4/ 1878) 44 - كتاب فضائل الصحابة -5 - باب في فضل سعد بن أبي وقاص. (2) الأنعام: 52. 1960 - البخاري (7/ 262) 62 - كتاب مناقب الأنصار -46 - باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة. ومسلم (2/ 1003) 15 - كتاب الحج -86 - باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها. وعك: أصيب بالوعك وهو الحمى. مصبح: أي مصاب بالموت صباحًا. يرفع عقيرته: يرفع صوته. مجنة: موضع على ستة أميال من مكة وكان فيه سوق. شامة وطفيل: جبلان بأرض مكة وقيل هما عينان لا جبلان. اذخر وجليل: نبات. النجل: الماء القليل الذي ياز نزا وهو كالرشح. أجن: يأجن الماء فهو أجن: إذا تغير لونه وطعمه وريحه.

1961 - * روى الحاكم عن عمرو بن ميمون: أن أخًا لبلال كان ينتمي إلى العرب ويزعم أنه منهم فخطب امرأة من العرب فقالوا: إن حضر بلال زوجناك. قال: فحضر بلال فقال: أنا بلال بن رباح وهذا أخي وهو امرؤ سيء الخلق والدين فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه وإن شئتم أن تدعوا فدعوا. فقالوا: من تكن أخاه نزوجه. فزوجوه. قال الحاكم: أخو بلال هذا له رواية. 1962 - * روى الحاكم عن عائشة، قالت: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله عز وجل منهم بلال وعامر بن فهيرة. 1963 - * روى الطبراني: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل بلال مثل النخلة غدت تأكل من الحلو والمر، ثم هو حلو كله". * * *

1961 - المستدرك (2/ 282) وصححه ووافقه الذهبي. 1962 - المستدرك (2/ 284) وصححه ووافقه الذهبي. 1963 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 300): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

16 - أبي بن كعب رضي الله عنه

16 - أبي بن كعب رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري أبو المنذر وأبو الطفيل سيد القراء .. كان من أصحاب العقبة الثانية وشهد بدرًا والمشاهد كلها، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ليهنك العلم أبا المنذر". وقال له: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك". وكان عمر يسميه سيد المسلمين، ويقول اقرأ: يا أبي. ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا. وأخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم. وعده مسروق في الستة من أصحاب الفتيا. قال الواقدي: وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وكان ربعة أبيض اللحية لا يغير شيبه. وممن روى عنه من الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، وأبو أيوب وعبادة بن الصامت وسهل بن سعد وأبو موسى وابن عباس وأبو هريرة وأنس وسليمان بن صرد وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى ابن معين يقول: مات أبي بن كعب سنة عشرين أو تسع عشرة. وقال الواقدي: ورأيت آل أبي وأصحابنا يقولون مات سنة اثنين وعشرين، فقال عمر: اليوم مات سيد المسلمين. قال: وقد سمعت من يقول مات من خلافة عثمان سنة ثلاثين. وهو أثبت الأقاويل. وقال ابن عبد البر: الأكثر على أنه في خلافة عمر. قلت: وصحح أبو نعيم أنه مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين، واحتج له بأن زر بن حبيش لقيه في خلافة عثمان. وروى البخاري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبزي قال: قلت لأبي لما وقع الناس في أمر عثمان فذكر القصة، وروى البغوي عن الحسن في قصته له: أنه مات قبل قتل عثمان بجمعة. وقال ابن حبان: مات سنة ثنتين وعشرين في خلافة عمر وقد قيل إنه بقى إلى خلافة عثمان. وثبت عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من المسلمين قال: يا رسول الله أرأيت هذه

الأمراض التي تصيبنا مالنا فيها؟ قال: "كفارات". فقال أبي بن كعب: يا رسول الله وإن قلت؟ "وإن شوكة. فما فوقها". فدعا أبي أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صلاة مكتوبة في جماعة. قال: فما مس إنسان جسده إلا وجد حره حتى مات. رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وصححه ابن حبان ورواه الطبراني من حديث أبي بن كعب بمعناه وإسناده حسن ا. هـ. وقال ابن كثير في ترجمته: كان سيدًا جليل القدر. وهو أحد القراء الأربعة الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لعمر يوما: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل وهو رطب. وفي المسند والنسائي وابن ماجة من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعًا: "أقرأ أمتي أبي بن كعب". وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن". قال: وسماني لك؟ قال: "نعم". فذرفت عيناه ... قال الهيثم ابن عدي: توفي أبي سنة تسع عشرة. وقال يحيى بن معين: سنة سبع عشرة أو عشرين. وقال الواقدي عن غير واحد: توفى سنة ثنتين وعشرين. وبه قال أبو عبيد وابن غير وجماعة. وقال الفلاس وخليفة: توفى في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ا. هـ. قال الذهبي: شهد العقبة، وبدرًا، وجمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض على النبي، عليه السلام، وحفظ عنه علمًا مباركًا، وكان رأسًا في العلم والعمل، رضي الله عنه .. وكان أبي نحيفًا، قصيرًا، أبيض الرأس واللحية ا. هـ. ومما ورد فيه: 1964 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: "إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال: وسماني؟ قال: "نعم" فبكى. وفي رواية (1) مثله، ولم يسم سورة، وفيه قال: الله سماني لك؟ قال: "الله سماك

_ 1664 - البخاري (7/ 127) 63 - كتاب مناقب الأنصار -16 - باب مناقب أبي بن كعب. ومسلم (4/ 6915) 44 - كتاب فضائل الصحابة -22 - باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار. (1) مسلم في نفس الوضع السابق.

لي". قال: فجعل أبي يبكي. وللبخاري (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرئك القرآن". قال: الله سماني؟ قال: "نعم". قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: "نعم". فذرفت عيناه. قال الحافظ في الفتح: ويؤخذ من هذا الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونه. وقال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر، لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء، وذكر الصلاة والزكاة، والمعاد وبيان أهل الجنة والنار مع وجازتها. 1965 - * روى أحمد والنسائي عن قيس بن عباد قال: أتيت المدينة للقاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلي من أبي، فأقيمت الصلاة، وخرج عمر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم، فعرفهم غيري، فنحاني، وقام في مقامي، فما عقلت صلاتي. فلما صلى، قال: يا بني! لا يسؤوك الله، فإني لم آت الذي أتيت بجهالة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "كونوا في الصف الذي يليني" وإني نظرت في وجوه القوم، فعرفتهم غيرك. وإذا هو أبي رضي الله عنه. 1966 - * روى البخاري عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "استقرئوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي، ومعاذ، وسالم مولى أبي حذيفة". 1967 - * روى أبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فلبس عليه، فلما

_ (1) البخاري (8/ 735) -65 - كتاب التفسير 98 - سورة: {لَمْ يَكُنِ}. 1965 - أحمد في مسنده (5/ 140). والنسائي (2/ 88) كتاب الإمامة -23 - باب من يلي الإمام ثم الذي يليه: وإسناده صحيح. 1966 - البخاري (7/ 101) 62 - كتاب فضائل الصحابة -26 - باب مناقب مولى أبي حذيفة. 1967 - أبو داود (1/ 239) كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام في الصلاة.

انصرف، قال لأبي: "أصليت معنا؟ " قال: نعم. قال: "فما منعك". قال الخطابي: أراد: ما منعك أن تفتح علي إذ رأيتين قد لبس علي؟ وفيه دليل على جواز تلقين الإمام. 1968 - * روى الترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وغن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح". 1969 - * روى أحمد عن أبي سعيد قال: قال أبي: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جزاء الحمى؟ قال: "تجري الحسنات على صاحبها". فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجًا في سبيلك. فلم يمس أبي قط إلا وبه الحمى. قال الذهبي: ملازمة الحمى له حرفت خلقه يسيرًا، ومن ثم يقول زر بن حبيش: كان أبي فيه شراسة. 1970 - * روى مسلم عن أبي بن كعبٍ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر! أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ " قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر! أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ ". قال قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: فضرب في صدري وقال: "والله! ليهنك العلم أبا المنذر".

_ 1968 - الترمذي (5/ 665) 50 - كتاب المناقب -23 - باب مناقب معاذ بن جبل. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة (1/ 55) المقدمة -11 - باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1969 - أحمد في مسنده (3/ 23). 1970 - مسلم (1/ 556) 6 - كتاب صلاة المسافرين -44 - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. ليهنك العلم: ليكن العلم هنيئًا لك.

1971 - * روى البخاري ومسلم عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: جمع القرآن، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة، كلهم من الأنصار: معاذ بن جبلٍ، وأبي بن كعبٍ، وزيد بن ثابتٍ، وأبو زيدٍ. قال قتادة: قلت لأنسٍ: من أبو زيدٍ؟ قال: أحد عمومتي. 1972 - * روى أحمد عن ابن عباس قال: قال أبي لعمر بن الخطاب: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل عليه السلام وهو رطب. 1973 - * روى البخاري عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي. وإنا لندع من قول أبي، وذاك أن أبيًا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1). 1974 - * روى ابن سعد عن عتي بن ضمرة قال: رأيت أهل المدينة يموجون في سككهم. فقلت: ما شأن هؤلاء؟ فقال بعضهم: ما أنت من أهل البلد؟ قلت: لا. قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب. 1975 - * روى ابن سعد عن أبي قال: إنا لنقرؤه في ثمان ليالٍ. يعني القرآن.

_ 1971 - البخاري (9/ 47) 66 - كتاب فضائل القرآن -8 - باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1914) 44 - كتاب فضائل الصحابة -23 - باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار. 1972 - أحمد في مسنده (5/ 117). 1973 - البخاري (8/ 167) 65 - كتاب التفسير -7 - باب قوله: م (ما ننسخ من آية أو ننسها). وقوله: ننسها: من النسيان. وهي قراءة ما سوى ابن كثير، وأبي عمرو من السبعة: وفي رواية البخاري "أو ننسأها" أي: نؤخرها. وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. (1) البقرة: 106. 1974 - الطبقات الكبرى (3/ 501) ورجاله ثقات. وانظر السير (1/ 239). 1975 - الطبقات الكبرى (3/ 501) وإسناده صحيح.

17 - أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه

17 - أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عمرو بن مالك بن عدي ابن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو طلحة .. مشهور بكنيته، ووهم عن سماه سهل بن زيد وهو قول ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة في تسمية من شهد العقبة، وقد قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى أخبرنا أبو طلحة من ولد أبي طلحة قال: اسم أبي طلحة زيد. وهو القائل: أنا أبو طحة واسمي زيد ... وكل يوم في سلاحي صيد كان من فضلاء الصحابة وهو زوج أم سليم. ا. هـ. وقال الذهبي: وكان قد سرد الصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. وذكر عروة وموسى بن عقبة وابن إسحاق: أن أبا طلحة ممن شهد العقبة وبدرًا .. عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم نيفًا وعشرين سنة ... وكان جلدًا صيتًا آدم مربوعًا لا يغير شيبه .. مات سنة أربع وثلاثين .. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم نيفًا وعشرين حديثًا منها في الصحيحين حديثان وتفرد البخاري بحديث ومسلم بحديث. صلى الله عليه وسلم. ومما ورد فيه: 1967 - * روى الطبراني عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم قبل أن يسلم، فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره. فأسلم أبو طلحة وتزوجها. قال ثابت البناني: فما سمعنا بمهر كان قط أكرم من مهر أم سليم: الإسلام.

_ 1976 - المعجم الكبير (5/ 91) وإسناده صحيح.

1977 - * روى أبو داود والحاكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه". فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم. 1978 - * روى مسلم عن أنس بن مالكٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق شقه الأيمن فقسمه فيمن يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر". فقال: "أين أبو طلحة؟ " فأعطاه إياه. 1979 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالكٍ، يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (4) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وإن أحب أموالي إلي بيرحى، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله، حيث شئت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بخ! ذلك مال رابح. ذلك مال رابح. قد سمعت ما قلت فيها".

_ 1977 - أبو داود (3/ 71) -كتاب الجهاد، باب في السلب. والمستدرك (3/ 353). وصححه ووافقه الذهبي. 1978 - مسلم (2/ 947) -كتاب الحج- 56 - باب بيان أن السنة يوم النحر. 1979 - البخاري (3/ 325) 24 - كتاب الزكاة -44 - باب الزكاة على الأقارب. ومسلم (2/ 693) 12 - كتاب الزكاة -14 - باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين. بيرحى: اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه. قال القاضي رحمه الله: روينا هذه اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع الكسر الباء. وبفتح الباء والراء. وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة قبلي المسجد. وهو حائط يسمى بهذا الاسم. ومعنى الحائط، هنا، البستان. وقال في الفائق: إنها فيعلى، من البراح، وهي الأرض المنكشفة الظاهرة. أرجو برها وذخرها: يعني لا أريد ثمرتها العاجلة الدنيوية الفانية، بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية. بخ: قال أهل اللغة: بخ، بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيه. (1) آل عمران: 92.

1980 - * روى أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة". وفي رواية "لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة". 1981 - * روى مسلم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك. حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء. فقال: "من يضيف هذا، الليلة، رحمة الله". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا. يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا. إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيءٍ. فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذ أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة". وفي رواية للبخاري (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

_ 1980 - أحمد في مسنده (3/ 112، 249). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 312): رواه أحمد وأبو يعلى ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح. 1981 - مسلم (2/ 1634) 36 - كتاب الأشربة -32 - باب إكرام الضيف وفضل إيثاره. مجهود: رجل مجهود: مهزول جائع. فعلليهم: تعليل الطفل: وعده وتسويفه وتمنيته، وشغله عما يراد صرفه عنه. (1) البخاري (8/ 631) 65 - كتاب التغير -59 - سورة الحشر -6 - باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. نطوي بطوننا الليلة: أي نبيت بغير عشاء. ... =

"لقد عجب الله عز وجل -أوضحك- من فلانٍ وفلانة". فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1). وفي رواية الترمذي (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك. فنزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. 1982 - * روى الحاكم عن أنس: أن أبا طلحة قال: لا أتأمر على اثنين ولا أذمهما. 1983 - * روى الحاكم أخبرنا حماد بن سلمة عن أنس بن مالك أن أبا طلحة قرأ هذه الآية {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. فقال: استنفرنا الله وأمرنا الله واستنفرنا شيوخًا وشبابا جهزوني. فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن. فغزا البحر فمات. فطلبوا جزيرة يدفنونه فيها فلم يقدروا عليه إلا بعد سبعة أيام وما تغير. 1984 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع ظهره من خلفه لينظر أين يقع نبله فيتطاول أبو طلحة بصدره يقي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا: يا نبي الله جعلني الله فداك نحري دون حراك. * * *

_ = خصاصة: الخصاصة: الحاجة والقافة. (1) الحشر: 9. (2) الترمذي (5/ 409) 48 - كتاب تفسير القرآن -60 - باب ومن سورة الحشر. وقال: هذا حديث حسن صحيح. 1982 - المستدرك (3/ 353). وصححه ووافقه الذهبي. 1983 - المستدرك (3/ 353). وصححه وسكت عنه الذهبي. قال ابن حجر: أخرجه القسوي في تاريخه، وأبو يعلى وإسناده صحيح. 1984 - المستدرك (3/ 353). وصححه وسكت عن الذهبي. وقال في الإصابة: صحيح الإسناد.

18 - المقداد بن عمرو (المشهور بابن الأسود) رضي الله عنه

18 - المقداد بن عمرو (المشهور بابن الأسود) رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: المقداد بن الأسود الكندي هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود البهراني وقيل الحضرمي .. قال ابن الكلبي كان عمرو بن ثعلبة أصاب دما في قومه فلحق بحضرموت فحالف كندة فكان يقال له الكندي، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري، وكتب إلى أبيه فقدم عليه، فتبنى الأسود المقداد فصار يقال له المقداد بن الأسود، وغلبت عليه واشتهر بذلك، فلما نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}. قيل له المقداد بن عمرو، واشتهرت شهرته بابن الأسود وكان المقداد يكنى أبا الأسود، وقيل كنيته أبو عمرو، وقيل أبو سعيد، وأسلم قديمًا وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، وكان فارسًا يوم بدر حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. وقال زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة. فذكره فيهم. وقال مخارق بن طارق عن ابن مسعود: شهدت مع المقداد مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به. وذكر البغوي من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر: أول من قاتل على فرس في سبيل الله المقداد بن الأسود. ومن طريق موسى بن يعقوب الزمعي عن عمته قريبة عن عمتها كريمة بنت المقداد عن أبيها: شهدت بدرًا على فرس لي يقال لها سبحة. ومن طريق يعقوب بن سلمان عن ثابت البناني قال: كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسين فقال له: مالك لا تتزوج؟ قال: زوجني ابنتك. فغضب عبد الرحمن وأغلظ له، وفشكا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "أنا أزوجك". فزوجه بنت عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. وعن المدايني قال: كان المقداد طويلاً آدم كثير الشعر أعين مقرونًا يصفر لحيته. وأخرج يعقوب بن سفيان وابن شاهين من طريقه بسنده إلى كريمة زوج المقداد: كان المقداد عظيم البطن، وكان له غلام رومي فقال له: أشق بطنك، فأخرج من شحمه حتى تلطف. فشق بطنه ثم خاطه، فمات المقداد وهرب الغلام. وقال

أبو ربيعة الإيادي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم علي والمقداد وأبو ذر وسلمان". وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وسنده حسن. وروي المقداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، روي عنه علي وأنس وعبيد الله بن عدي بن الخيار وهمام بن الحارث وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. اتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، قيل وهو ابن سبعين سنة ا. هـ. وقال الذهبي: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد السابقين الأولين ... القضاعي الكندي البهراني شهد بدرًا والمشاهد .... له جماعة أحاديث ... حديث في الستة، له حديث في الصحيحين، وانفرد له مسلم بأربعة أحاديث ا. هـ. 1985 - * روى الحاكم عن المقداد بن الأسود قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبعثًا فلما رجعت قال لي: "كيف تجد نفسك؟ " قلت: ما زلت حتى ظننت أنه من معي خولي، وايم الله لا أعلم على رجلين بعدها. 1986 - * روى مسلم عن المقداد بن عمرو -وهو ابن الأسود- رضي الله عنه قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنزٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتلبوا هذا اللبن بيننا". قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه ونرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه. قال: فيجيء من الليل، فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا ويسمع القيظان. قال: ثم يأتي إلى المسجد فيصلي. قال: ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل، ندمني الشيطان، فقال: ويحك،

_ 1985 - المستدرك (3/ 350). وصححه ووافقه الذهبي. 1986 - مسلم (3/ 1635) 36 - كتاب الأشربة -32 - باب إكرام الضيف. الجهد: المشقة. فيتحفونه: التحفة: الهدية والبر. وغلت: وغل الرجل يغل: إذا دخل في السحر (قبيل الفجر) استعار الوغول لدخول اللبن البطن.=

ما صنعت؟ أشربت شراب محمد، فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ وعلي شملة إذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي، فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه، فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو علي فأهلك. فقال: "اللهم أطعم من أطعمني، واسسق من سقاني". قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، وأخذت الشفرة، فانطلقت إلى الأعنز، أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه، حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أشربتم شرابكم الليلة؟ " قلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب ثم ناولني. فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى، وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إحدى سوآتك يا مقداد". فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه إلا رحمة من الله. أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها". قال فقلت: والذي بعثك بالحق! ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من الناس. 1987 - (1) روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قومٍ كفار فأظهر إيمانه، فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل". قال الحافظ: وهذا التعليق وصله البزار والدارقطني في (الأفراد) والطبراني في الكبير من رواية أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم والد محمد بن أبي بكر المقدمي عن حبيب،

_ = شملة: الشملة: كل ما زر من مآزر الأعراب. حافل: ضرع حافل: ممتلئ لبنا والجمع حفل. إحدى سوءاتك: أي أنك فعلت سوأة من الفعلات فما هي. ما هذه إلا رحمة من الله: أي إحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته، وإن الجميع من فضل الله. 1987 - البخاري (12/ 187) 87 - كتاب الديات -1 - باب قول الله تعالى (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم). تعليقًا.

وفي أوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوهم وجدوهم وتفرقوا، وفيهم رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله ... الحديث وفيه: فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا مقداد قتلت رجلاً قال: لا إله إلا الله، فكيف لك بـ لا إله إلا الله" فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (1) الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجلاً مؤمنًا يخفي إيمانه". * * *

_ (1) النساء: 94.

19 - أبو قتادة الأنصاري السلمي رضي الله عنه

19 - أبو قتادة الأنصاري السلمي رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: أبو قتادة بن ربعي الأنصاري، المشهور أن اسمه الحارث .. وجزم الواقدي وابن القداح وابن الكبي بأن اسمه النعمان وقيل اسمه عمرو. وأبوه ربعي هو ابن بلدهة بن خناس بضم المعجمة وتخفيف النون وآخره مهملة ابن عبيد بن غنم بن سلمة الأنصاري الخزرجي السلمي، وأمه كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غنم، اختلف في شهوده بدرًا فلم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق واتفقوا على أنه شهد أحدًا وما بعدها وكان يقال له فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت ذلك في صحيح مسلم في حديث سلمة بن الأكوع الطويل الذي فيه قصة ذي قرد وغيرها. وكانت وفاة أبي قتادة بالكوفة في خلافة علي، ويقال إنه كبر عليه ستا وقال: إنه بدري. وقال الحسن بن عثمان: مات سنة أربعين وكان شهد مع علي مشاهده: وقال خليفة: ولاه على مكة ثم ولاها قثم بن العباس. اهـ. ومما ورد فيه: 1988 - * روى الطبراني عن سلمة بن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع". 1989 - * روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة. قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا وجلا

_ 1988 - المعجم الكبير (3/ 239). وإسناده حسن. 1989 - البخاري (6/ 247) 57 - كتاب فرض الخمس -18 - باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه. ومسلم (3/ 1370) 32 - كتاب الجهاد والسير -13 - باب استحقاق القاتل سلب القتيل. جولة: أي انهزام وخيفة ذهبوا فيها: وهذا إنما كان في بعض الجيش. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه فلم يولوا. والأحاديث الصحيحة بذلك مشهورة. وسيأتي بيانها في مواضعها. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال انهزم النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرو أحد قط أنه انهزم بنفسه صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن. بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن.=

من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه، فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني، فلحقت عمر ابن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل قتيلاً، له عليه بينة، فله سلبه". قال: فقمت، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال مثل ذلك. فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال ذلك، الثالثة. فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مالك؟ يا أبا قتادة! " فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق، يا رسول الله! سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه من حقه. وقال أبو بكر الصديق: لاها الله! إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطاه إياه". فأعطاني. قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة. فإنه لأول مالٍ تأثلته في الإسلام. وفي حديث الليث فقال أبو بكرٍ: كلا لا يعطيه أضيبع من قريشٍ ويدع أسدًا من أسد الله وفي حديث الليث: لأول مالٍ تأثلثه. ذكر الذهبي في السير (1) موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: صلى علي على أبي قتادة، فكبر عليه سبعًا. وذكر أيضًا: (2) أن عمر بعث أبا قتادة، فقتل ملك فارس بيده، وعليه منطقة قيمتها خمسة عشر ألفًا، فنفلها إياه عمر. 1990 - * روى أبو داود عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر له،

_ = على حبل عاتقه: حب العاتق: عصبه، والعائق: موضع الرداء من المنكب. المخرف: البستان: سمي بذلك لأنه يخترف من الثمر، أي: يجنني. وتأثلثه: أي اقتنيته وتأصلته، وأثلة كل شيء: أصله. وقوله: "لاها الله" أي: لا والله، فالهاء هنا بمنزلة الواو. (1) السير (2/ 456). ورجاله ثقات. (2) السير (2/ 452). ورجاله ثقات. 1990 - أبو داود (4/ 258) كتاب الأدب -باب في الرجل يقول للرجل: حفظ الله. وهو طرف من حديث طويل رواه مسلم.

فعشطوا، فانطلق سرعان الناس (1)، فلزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فقال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه". * * *

_ (1) سرعان الناس: أولهم ومقدموهم.

20 - سلمان الفارسي رضي الله عنه

20 - سلمان الفارسي رضي الله عنه قال ابن حجر: سلمان أبو عبد الله الفارسي .. ويقال له سلمان ابن الإسلام وسلمان الخير. وقال ابن حبان: من زعم أن سلمان الخير آخر فقد وهم، أصله من رام هرمز وقيل من أصبهان. وكان قد سمع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيبعث فخرج في طلب ذلك فأسر وبيع بالمدينة، فاشتغل بالرق حتى كان أول مشاهده الخندق وشهد بقية المشاهد وفتوح العراق وولى المدائن. وقال ابن عبد البر يقال: إنه شهد بدرًا وكان عالمًا زهدًا، روى عنه أنس وكعب بن عجرة وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: أبو عثمان النهدي وطارق ابن شهاب وسعيد بن وهب وآخرون بعدهم. كان اسمه ما به بكسر الموحدة ابن بود. قاله ابن منده بسنده وساق له نسبًا. وقيل اسمه بهبود. قال الذهبي: وجدت الأقوال فس سنه كلها دالة على أنه جاوز المائتين وخمسين والاختلاف إنما هو في الزائد. قال: ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين. قال أبو ربيعة الأيادي عن أبي بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله يحب من أصحابي أربعة". فذكره فيهم. وقال سلمان بن المغيرة عن حميد بن هلال: آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أبي الدرداء وسلمان. ونحوه في البخاري من حديث أبي جحيفة في قصته. ووقع في هذه القصة: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي الدرداء: "سلمان أفقه منك". مات سنة ست وثلاثين في قول أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة. وروى عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت. فهذا يدل على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث أو سنة اثنتين. وكان سلمان إذا خرج عطاؤه تصدق به وينسج الخوص ويأكل من كسب يده. اهـ.

وقال الذهبي: قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هو سلمان ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي، صلى الله عليه وسلم وخدمه وحدث عنه. وروى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وأبو عثمان النهدي، وشرحبيل ابن السمط، وأبو قرة سلمة بن معاوية الكندي، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وأبو عمرو زادان، وأبو ظبيان حصين بن جندب الجنبي، وقرثع الضبي الكوفيون. له في مسند بقي ستون حديثًا، وأخرج له البخاري أربعة أحاديث، ومسلم ثلاث أحاديث. وكان لبيبًا حازمًا، من عقلاء الرجال وعبادهم نبلائهم. اهـ. ومما ورد فيه: ما ذكره الذهبي أيضًا في السير (1): القاسم أبي عبد الرحمن قال: زارنا سلمان الفارسي فصلى الإمام الظهر، ثم خرج وخرج الناس، يتلقونه كما يتلقى الخليفة، فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر، وهو يمشي، فوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به، فقال: جعلت على نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشر بن سعد. فلما قدم، سأل عن أبي الدرداء، فقالوا: هو مرابط. فقال: أين مرابطكم؟ قالوا: بيروت. فتوجه قبله، قال: فقال سلمان: يا أهل بيروت! ألا أحدثكم حديثًا يذهب الله به عنكم عرض الرباط، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "رباط يومٍ وليلةٍ كصيام شهرٍ وقيامه، ومن مات مرابطًا أجير من فتنة القبر، وجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة". 1991 - * روى مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وبلال وصهيب في نفرٍ فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: "يا أبا بكر! لعلك

_ (1) السير (1/ 506) وإسناده حسن، ولكنه مرسل. 1991 - مسلم (4/ 1947) 44 - كتاب فضائل الصحابة -42 - باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال.

أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك". فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي. 1992 - * روى الطبراني عن أبي البختري قال: قيل لعلي: أخبرنا عن أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم. قال: عن أيهم تسألون؟ قيل: عن عبد الله. قال: علم القرآن والسنة، ثم انتهى وكفى به علمًا. قالوا: عمار؟ قال: مؤمن نسي فإن ذكرته ذكر. قالوا: أبو ذر؟ قال: وعى علمًا عجز عنه. قالوا: أبو موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة، ثم خرج منه. قالوا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين. قالواو: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول، والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: فأنت يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت. وذكر الذهبي في السير (1) عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، تلا هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (2). قال: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال: فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، لو كنا للدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس". 1993 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: كنا جلوسًا، عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}. قال: قلت من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا -وفينا سلمان الفارسي. وضع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يده على سلمان- ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء". 1994 - * روى الترمذي والحاكم عن يزيد بن عميرة قال: لما حضر معاذًا الموت قلنا:

_ 1992 - المعجم الكبير (6/ 213). ورجاله ثقات. (1) السير (1/ 542) وقال الذهبي: إسناده وسط. (2) الفتح: 38. 1993 - البخاري (8/ 641) 65 - كتاب التفسير -62 - سورة الجمعة. ومسلم (4/ 1973) 44 - كتاب فضائل الصحابة -59 - باب فضل فارس. 1994 - الترمذي (5/ 671) 50 - كتاب المناقب -37 - باب مناقب عبد الله بن سلام. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

أوصنا، قال: أجلسوني. ثم قال: إن الإيمان والعلم مكانهما، من ابتغاهما وجدهما. قالها ثلاثًا. فالتسموا العلم عند أربعة: أبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود، وعبد الله بن سلام الذي كان يهوديًا فأسلم. فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة". ذكر الذهبي في السير (1) عن عبيدة السلماني أن سلمان مر بحجر المدائن غازيًا وهو أمير الجيش وهو ردف رجل من كندة على بغلٍ موكوف، فقال أصحابه: أعطنا اللواء أيها الأمير نحمله، فيأبى حتى قضى غزاته ورجع وهو ردف الرجل. 1995 - * روى مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان: أن هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبًا، فإن كنت تبرئ، فنعما لك، وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا، فتدخل النار. فكان أبو الدارداء إذا قضى بين اثنين، ثم أدبرا عنه، نظر إليهما، وقال: ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما، متطبب والله. 1996 - * روى الطبراني عن أبي البختري قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله، فدخلا على سلمان في خص، فسلما وحيياه، ثم قالا: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدري. فارتابا. قال: إنما صاحب من دخل معه الجنة. قالا: جئنا من عند أبي الدارداء. قال: فأين هديته؟ قالا: ما معنا هدية. قال: اتقيا الله، وأديا الأمانة، ما أتاني أحد من عندي إلا بهدية. قالا: لا ترفع علينا هذا، إن لنا أموالاً فاحتكم. قال: ما أريد إلا الهدية. قالا: والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال: إن فيكم رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا به، لم يبغ غيره، فإذا أتيتماه، فأقرناه مني السلام. قال: فأي هدية كنت أريد منكما غير هذه؟ وأي هديةٍ أفضل منها.

_ = والمستدرك (3/ 416). وصححه ووافقه الذهبي. (1) السير (1/ 545) ورجاله ثقات. 1995 - الموطأ (2/ 769) 37 - كتاب الوصية -8 - باب جامع القضاء وكراهيته. 1996 - المعجم الكبير (6/ 219)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 41): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. غير يحيى بن إبراهيم المسعودي وهو ثقة.

1997 - * روى الطبراني عن أبي وائل قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف، لتكلفت لكم. فجاءنا بخبز وملح. فقال صاحبي: لو كان في ملحنا صعتر. فبعث سلمان بمطهرته، فرهنها فجاء بصعتر، فلما أكلنا، قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال سلمان: لو قنعت لم تكن مطهرتي مرهونة. 1998 - * روى ابن ماجة والطبراني عن أنس قال: دخل سعد وابن مسعد على سلمان عند الموت، فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحفظه. قال: "ليكن بلاغ أحدكم في الدنيا كزاد الراكب". وأما أنت يا سعد فاتق الله في حكمك إذا حكمت، وفي قسمك إذا قسمت، عند همك إذا هممت. قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهمًا نقيقة كانت عنه. قال الذهبي في السير: روى جعفر بن سليمان البناني وذلك في (العلل) لابن أبي حاتم، قال: لما مرض سلمان، خرج سعد من الكوفة يعوده، فقدم، فوافقه وهو في الموت يبكي، فسلم وجلس، وقال: ما يبكيك يا أخى؟ ألا تذكر صحبة رسول الله؟ ألا تذكر المشاهد الصالحة؟ قال: والله ما يبكيني واحدة من ثنتين: ما أكبي حبًا بالدنيا ولا كراهية للقاء الله. قال سعد: فما يبكيك بعد ثمانين؟ قال: يبكيني أن خليلي عهد إلي عهدًا، قال: "ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب". وإنا قد خشينا أنا قد تعدينا. 1999 - * روى البخاري عن ابن عثمان النهدي رضي الله عنه قال: سمعت سلمان

_ 1997 - المعجم الكبير (9/ 235)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 179): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة. 1998 - ابن ماجة (2/ 1374). 37 - كتاب الزهد -1 - الزهد في الدنيا. والمعجم الكبير (6/ 227) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 254): رجاله رجال الصحيح غير الحسن بن يحيى بن الجعد وهو ثقة. السير (1/ 556) وتخريجه كتخريج الحديث الذي قبله. 1999 - البخاري (7/ 277) 63 - كتاب مناقب الأنصار -53 - باب إسلام سلمان الفارسي.

يقول: أنا من رامهزمز. 2000 - * روى البخاري عن أبي عثمان النهدي رضي الله عنه: عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر، من رب إلى رب. 2001 - * روى أحمد وابن سعد والطبراني عن ابن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً فارسيًا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها جي، وكان أبي دهقانها، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني! إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها. وأمرني ببعض ما يريد، فخرجت، ثم قال: لا تحتبس علي، فإنك إن احتبست علي كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت إليهم انظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه. فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني! أين كنت؟ ألم أكن عهد إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبة! مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا والله!

_ 2000 - البخاري في نفس الموضع السابق. 2001 - أحمد في مسنده (5/ 441 - 444). والطبقات الكبرى (4/ 75 - 80). والمعجم الكبير (6/ 222)، وذكر الذهبي في السير (1/ 506). وقال محققه: رجاله ثقات. وإسناده قوي فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد وابن هشام وابن سعد، وأخرجه أحمد، وابن سعد والجزري في "أسد الغابة" وابن هشام والطبراني في "الكبير" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد". وقال الذهبي في السير بعد أن ساق رواية أوفى من هذه: هذا حديث جيد حكم الحاكم بصحته.

إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم. فقدم عليهم ركب من الشام. قال: فأخبروني بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة، فأخبروني. قال: ففعلوا. فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك. قال: فادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئاً، اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبعضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع. ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتم بها، كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين، وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً. فصلبوه ثم رموه بالحجارة. ثم جاؤوا برجل جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً -يعني لا يصلي الخمس -أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً، ما أعلمني أحببت شيئاً قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان! قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإني والله ما أحببت شيئاً قط حبك، فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ قال لي: يا بني والله ما أعلمه إلا بالموصل، فائته، فإنك ستجده على مثل حالي. فلما مات وغَيْبَ، لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد. فقلت له: إن فلانًا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك. قال: فأقم أي بني. فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة. فقلت له: إن فلانا أوصي بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلي من توصي بي؟ وما تأمرني به؟ قال: والله أعلم، أي بني، إلا رجلاً بنصيبين. فلما دفناه، لحقت بالآخر، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره الموت، فأوصى بي إلى رجل من أهل عمورية بالروم، فأتيته فوجدته على مثل حالهم، واكتسبت حتى كان لي غنيمة وبُقيرات.

ثم اختصر فكلمته إلى من يوصي بي؟ قال: أي بني! والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفي، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه. فلما واريناه، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم غنيمتي وبقراتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا جاؤوا بي وادي القرى، ظلموني، فباعوني عبداً من رجل يهودي بوادي القرى. فوالله لقد رأيت النخل، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي. وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة وادي القرى، فابتاعني من صاحبي، فخرج بي حتى قدمنا المدينة. فوالله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعتها. فأقمت في رقي، وبعث الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، بمكة لا يذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فوالله إني لفيها إذ جاءه ابن عم له، فقال: يا فلان! قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي. فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء -يقول الرعدة -حتى ظننت لأسقطن على صاحبي. ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟. فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبراً، فأحببت أن أعلمه. فلما أمسيت، وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد، فهاك هذا، فكل منه.

قال: فأمسك، وقال لأصحابه: "كلوا". فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي. ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاً كان عندي ثم جئته به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف. فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي. فقال لي: "تحول". فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان". فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة. أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أعينوا أخاكم". فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية (1)، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، حتى اجتمعت ثلاث مئة ودية، فقال: "اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي". ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها، جئته وأخبرته، فخرج معي إليها نقرب له الودي، ويضعه بيده. فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي علي المال. فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المغازي. فقال: "ما فعل الفارسي المكاتب؟ " فدعيت له، فقال: "خذها فأد بها ما عليك". قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك". فأخذتها فوزنت لهم أربعين أوقية، وأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حراً، ثم لم يفتني معه مشهد. * * *

21 - عبد الله بن قيس (المشهور بأبي موسى الأشعري) رضي الله عنه

21 - عبد الله بن قيس (المشهور بأبي موسى الأشعري) رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عدب بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، أبو موسى الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معاً. وأمه طيبة بنت وهب بن عك أسلمت وماتت بالمدينة، وكان هو سكن الرملة وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة، وقيل بل رجع إلى بلاد قومه ولم يهاجر إلى الحبشة، وهذا قول الأكثر، فإن موسى بن عقبة وابن إسحاق والواقدي لم يذكروه في مهاجرة الحبشة. وقدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينته سفينة جعفر بن أبي طالب فقدموا جمعاً. واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالهما. استعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح الأهواز ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين. وأخرج ابن سعد والطبري من طريق عبد الله بن بريدة أنه وصف أبا موسى فقال: كان خفيف الجسم قصيراً ثطا [قليل شعر اللحية]. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الخلفاء الأربعة ومعاذ وابن مسعود وأبى بن كعب وعمار، روى عنه أولاده موسى وإبراهيم وأبو بردة وأبو بكر وامرأته أم عبد الله. ومن الصحابة أبو سعيد وأنس وطارق بن شهاب، ومن كبار التابعين فمن بعدهم زيد بن وهب وأبو عبد الرحمن السلمي وعبيد بن عمير وقيس بن أبي خازم وأبو الأسود وسعيد بن المسيب وزر بن حبيش وأبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وربعي بن خراش وحطان الرقاشي وأبو وائل وصفوان ابن محرز وآخرون. قال مجاهد عن الشعبي: كتب عمر في وصيته لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين. وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الصحيح المرفوع: "لقد أوتى مزماراً من مزامير آل داود". وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا ناي أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن. وكان عمر إذا رآه قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى. وفي رواية: شوقنا إلى ربنا. فيقرأ عنده. وكان أبو موسى هو الذي فقه أهل البصرة

وأقرأهم. وقال الشعبي: انتهى العلم إلى ستة فذكره فيهم. وذكره البخاري من طريق الشعبي بلفظ العلماء، وقال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت. وأخرج البخاري من طريق أبي التياح عن الحسن قال: ما أتاها يعني البصرة راكب خير لأهلها منه يعني من أبي موسى. وقال البغوي: حدثنا علي عن مسلم، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: كان لأبي موسى سراويل يلبسه بالليل مخافة أن ينكشف. صحيح. وقال أصحاب الفتوح: كان عامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على زبيد وعدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وعدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وشهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغير، وهو الذي افتتح الأهواز وأصبهان، وأقره عثمان على عمله قليلاً ثم صرفه، واستعمل عبد الله بن عامر فسكن الكوفة وتفقه به أهلها حتى استعمله عثمان عليهم بعد عزل سعيد ابن العاص. قال البغوي: بلغني أن أبا موسى مات سنة اثنتين وقيل أربع وأربعين وهو ابن نيف وستين. قلت: بالأول جزم ابن نمير وغيره، وبالثاني أبو نعيم وغيره. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: عاش ثلاثاً وستين. وقال الهيثم وغيره: مات سنة خمسين. زاد خليفة ويقال سنة احدى. وقال المدايني: سنة ثلاث وخمسين، واختلفوا مات بالكوفة أو بمكة. اهـ وقال الذهبي: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، الإمام الكبير. صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المقرئ ... وهو معدود فيمن قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم. أقرأ أهل البصرة، وفقههم في الدين. قرأ عليه حطان بن عبد الله الرقاشي، وأبو رجاء العطاردي. ففي "الصحيحين" (1)، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً".

_ (1) البخاري (8/ 41) 64 - كتاب المغازي - 55 - باب غزاة أوطاس. ومسلم (4/ 1943) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 38 - باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين.

وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذاً على زبيد، وعدن. وولي إمرة الكوفة لعمر، وإمرة البصرة. وقدم (1) ليالي فتح خيبر، وغزا، وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل عنه علماً كثيراً. قال سعيد بن عبد العزيز: حدثني أبو يوسف، حاجب معاوية: أن أبا موسى الأشعري قدم على معاوية، فنزل في بعض الدور بدمشق، فخرج معاوية من الليل ليستمع قراءته. قال أبو عبيد: أم أبي موسى هي ظيبة بنت وهب؛ كانت أسلمت، وماتت بالمدينة. وقال ابن سعيد (2): حدثنا الهيثم بن عدي، قال: أسلم أبو موسى بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وأول مشاهده خيبر، ومات سنة اثنتين وأربعين. قال محقق السير: وكونه ممن شهد خيبر فيه نظر، فقد جاء في صحيح البخاري قول أبي موسى: فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر. وزاد في رواية: فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً! إلا لمن شهدها معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، فإنه قسم لهم معهم. قال أبو أحمد الحاكم: أسلم بمكة، ثم قدم مع أهل السفينتين بعد فتح خيبر بثلاث، فقسم لهم النبي صلى الله عليه وسلم. ولي البصرة لعمر وعثمان؛ وولي الكوفة، وبها مات. وقال ابن منده: افتتح أصبهان زمن عمر. وقال العجلي: بعثه عمر أميرًا على البصرة، فأقرأهم وفقههم، وهو فتح تستر [مدينة بخورستان]. ولم يكن في الصحابة أحد أحسن صوتاً منه. ابن بريدة قال: كان الأشعري قصيراً، أثط (3)، خفيف الجسم. اهـ.

_ (1) قدم: يرى قدومه من الحبشة مع من كان هاجر إليها. (2) الطبقات الكبرى (6/ 16). (3) الأثط: القليل شعر اللحية.

2002 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن. فخرجنا مهاجرين إليه. أنا وأخوان لي. أنا أصغرهما. أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم -إما قال بضعاً وإما قال ثلاثةً وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي -قال: فركبنا سفينة. فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة. فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا. فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً. قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا. أو قال: أعطانا منها. وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً. إلا لمن شهد معه. إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه. قسم لهم معهم. قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة -: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا، على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة. وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه. فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها. فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشة هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة. فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت. وقالت كلمة: كذبت. يا عمر! كلا. والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعط جاهلكم. وكنا في دار، أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة. وذلك في الله وفي رسوله. وايم الله! لا أطعم ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن كنا نؤذى ونخاف. وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله. ووالله! لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله! أن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس بأحق بي منكم. وله ولأصحابه هجرة واحدة. ولكم أنتم، أهل السفينة، هجرتان".

_ 2002 - البخاري (7/ 485) 64 - كتاب المغازي -38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (4/ 1946) 44 - كتاب فضائل الصحابة -41 - باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم.

قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً. يسألوني عن هذا الحديث. ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. 2003 - * روى أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقدم عليكم غداً قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم". فقدم الأشعريون، فلما دنوا جعلوا يرتجزون: غدًا نلقى الأحبه ... محمداً وحزبه فلما أن قدموا تصافحوا، فكانوا أول من أحدث المصافحة. 2004 - * روى ابن سعد والحاكم عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قومك يا أبا موسى، وأومأ إليه". 2005 - * روى البخاري ومسلم عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: لما فرغ النبي من حنين، بعثت أبا عامر على جيش إلى أوطاس. فلقي دريد بن الصمة. فقتل دريد وهزم الله أصحابه. فقال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر. قال: فرمي أبو عامر في ركبته. رماه رجل من بني جشم بسهم. فأثبته في ركبته. فانتهت إليه فقلت: يا عم! من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى أبي موسى. فقال: إن ذاك قاتلي. تراه ذلك الذي رماني. قال أبو موسى: فقصدت له فاعتمدته فلحقته، فلما رآني ولى عنى ذاهباً. فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكف. فالتقيت أنا

_ 2003 - أحمد في مسنده (3/ 155). وإسناده صحيح. 2004 - الطبقات الكبرى (4/ 107). والمستدرك (2/ 313). وصححه ووافقه الذهبي. (1) المائدة: 57. 2005 - البخاري (8/ 41) 64 - كتاب المغازي -55 - باب غزاة أوطاس. ومسلم (4/ 1943) 44 - كتاب فضائل الصحابة -38 - باب من فضائل أبى موسى وأبى عامر الأشعريين. أوطاس: واد ف ديار هوازن، وهو غير وادي حنين.

وهو. فاختلفنا أنا وهو ضربتين. فضربته بالسيف فقتلته. ثم رجعت إلى عامر فقلت: إن الله قد قتل صاحبك. قال: فانزع هذا السهم. فنزعته فنزا منه الماء. فقال: يا ابن أخي! انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام. وقل له: يقول لك أبو عامر: استغفر لي. قال: واستعملني أبو عامر على الناس. ومكث يسيراً ثم إنه مات. فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه، وهو في بيت على سرير مرمل، وعليه فراش، وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر. وقلت له: قال: قل له: يستغفر لي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء. فتوضأ منه. ثم رفع يديه. ثم قال "اللهم! اغفر لعبيد، أبي عامر". حتى رأيت بياض إبطيه. ثم قال "اللهم! اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس" فقلت: ولي. يا رسول الله! فاستغفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم! اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه. وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً". قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر. والأخرى لأبي موسى. 2006 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة. ومعه بلال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعرابي. فقال: ألا تنجز لي، يا محمد! ما وعدتني؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبشر". فقال له الأعرابي: أكثرت علي من "أبشر". فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال، كهيئة الغضبان. فقال "إن هذا قد رد البشرى. فأقبلا أنتما". فقالا: قبلنا. يا رسول الله! ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه. ومج فيه. ثم قال "اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما وأبشرا" فأخذا القدح. ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما. فأفضلا لها منه طائفة.

_ 2006 - البخاري (8/ 46) 64 - كتاب المغازي - 65 - باب غزوة الطائف. ومسلم (4/ 1943) 44 - كتاب فضائل الصحابة -38 - باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين. الجعرانة: بين مكة والطائف، وهي إلى مكة أقرب. وقال الفاكهي: بينها وبين مكة بريد. وقال الباجي: ثمانية عشر ميلاً.

2007 - * روى أحمد عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تراه مرائياً". فأسكت بريدة فإذا رجل يدعو فقال: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده أو قال والذي نفس محمد بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب". قال فلما كان من القابلة خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتقوله مراء". فقال بيدة: أتقوله مراء يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لابل مؤمن منيب لابل مؤمن منيب". فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الأشعري أو إن عبد الله بن قيس أعطي مزماراً من مزامير داود". فقلت: ألا أخبره يا رسول الله؟ قال: "بلى فأخبره". فأخبرته. فقال: أنت لي صديق أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث. وذكر الذهبي في السير عن الأسود بن يزيد قال: لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى. وذكر أيضاً عن مسروق قال: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، وأبي موسى. 2008 - * روى ابن سعد عن عمر قال: بالشام أربعون رجلاً، ما منهم رجل كان يلي أمر الأمة إلا أجزأه، فأرسل إليهم. فجاء رهط، فيهم أبو موسى، فقال: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشيطان بين أظهرهم. قال: فلا ترسلني. قال: إن بها جهاداً ورباطاً. فأرسله

_ 2007 - أحمد في مسنده (5/ 349) وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 358، 359). وقال: رواه الحمد، وفي الصحيح منه أن عبد الله بن قيس أعطي مزماراً من مزامير آل داود، وهنا: من مزامير داود، ورجال أحمد رجال الصحيح. (1) السير (2/ 388). (2) السير (2/ 388) وهو صحيح الإسناد. 2008 - الطبقات الكبرى (4/ 109). ورجاله ثقات.

إلى البصرة (1). وذكر الذهبي في السير عن أنس: بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن. فقال: أما إنه كيس! ولا يسمعها إياه. 2009 - * روى ابن سعد عن أبي سلمة: كان عمر إذا جلس عنده أبو موسى، ربما قال له: ذكرنا يا أبا موسى. فيقرأ. 2010 - * روى ابن سعد عن أبي موسى: أن معاوية كتب إليه: أما بعد: فإن عمرو ابن العاص قد بايعني على ما أريد، وأقسم بالله، لئن بايعتني على الذي بايعني، لأستعملن أحد ابنيك على الكوفة، والآخر على البصرة؛ ولا يغلق دونك باب، ولا تقضى دونك حاجة. وقد كتبت إليك بخطي، فاكتب إلي بخط يدك. فكتب إليه: أما بعد: فإنك كتبت إلي في جسيم أمر الأمة، فماذا أقول لربي إذا قدمت عليه، ليس لي فيما عرضت من حاجة، والسلام عليك. قال أبو بردة: فلما ولي معاوية أتيته، فما أغلق دوني باباً، ولا كانت لي حاجة إلا قضيت. قال الذهبي: قد كان أبو موسى صواماً قواماً ربانياً زاهداً عابداً، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيره الإمارة، ولا اغتر بالدنيا. 2011 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائباً. إنكم تدعون سميعاً قريباً. وهو معكم".

_ (1) السير (2/ 390) ورجاله ثقات. 2009 - الطبقات الكبرى (4/ 109). ورجاله ثقات. 2010 - الطبقات الكبرى (4/ 111). وإسناده صحيح. 2011 - البخاري (7/ 470) 64 - كتاب المغازي -38 - باب غزوة خيبر. ومسلم (4/ 2076) 48 - الذكر والدعاء -11 - باب استحباب خفض الصوت بالذكر.

قال: وأنا خلفه، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال: "يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ ". فقلت: بلى. يا رسول الله! قال: "قل: لا حول ولا قوة إلا بالله". قال الذهبي: وقد ذكرت ف طبقات القراء: توفى أبو موسى في ذي الحجة سنة أربع وأربعين، على الصحيح. 2012 - * روى ابن سعد عن أنس: أن أبا موسى كان حلو الصوت، فقام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقمن يستمعن. فلما أصبح، قيل له: إن النساء سمعنك. قال: لو علمت لحبرتكن تحبيراً، ولشوقتكن تشويقاً. 2013 - * روى ابن سعد عن أبي نضرة قال عمر لأبي موسى: شوقنا إلى ربنا. فقرأ. فقالوا: الصلاة. فقال: أو لسنا في صلاة. 2014 - * روى ابن سعد عن أبي لبيد قال: ما كنا نشبه كلام أبي موسى إلا بالحزار الذي ما يخطئ المفصل. 2015 - * روى ابن سعد عن أبي موسى قال: لأن يمتلئ منخري من ريح جيفة حب إلى من أن يمتلئ من ريح امرأة. 2016 - * روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن مولى أم برثن قال: قدم أبو موسى الأشعري وزياد على عمر رضي الله عنه، فرأى في يد زياد خاتماً من ذهب، فقال: اتخذتم حلق الذهب. فقال أبو موسى: أما أنا فخاتمي من حديد. فقال عمر: ذاك أنتن، أو أخبث، من كان متختماً فليتختم بخاتم من فضة.

_ 2012 - الطبقات الكبرى (4/ 108). وإسناده صحيح. 2013 - الطبقات الكبرى (4/ 109). وإسناده صحيح. 2014 - الطبقات الكبرى (4/ 111). وإسناده صحيح. 2015 - الطبقات الكبرى (4/ 114). ورجاله ثقات. 2016 - الطبقات الكبرى (4/ 114). ورجاله ثقات.

2017 - * روى ابن سعد عن أبي بردة عن أبيه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى أرض النجاشي، فبعثت قريش عمراً وعمارة بن الوليد، وجمعوا له هدية. ولم يذكر ابن عقبة، وابن إسحاق، وأبو معشر، فيمن هاجر إلى الحبشة. 2018 - * روى الترمذي عن أبي موسى قال: يا بني لو رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. قال الترمذي: ومعنى هذا الحديث: أنه كان ثيابهم الصوف، فإذا أصابهم المطر يجييء من ثيابهم ريح الضأن. 2019 - * روى ابن سعد عن أبي بردة قال: دخلت على معاوية حين أصابته قرحته، فقال: هلم يا ابن أخي، فنظرت، فإذا هو قد سبرت -يعني: قرحته -فقلت: ليس عليك بأس. إذ دخل ابنه يزيد، فقال له معاوية: إن وليت، فاستوص بهذا، فإن أباه كان أخاً لي، أو خليلاً، غير أني قد رأيت في القتال ما لم ير. روى ابن سعد (1) عن الحسن، قال: كان الحكمان: أبا موسى، وعمراً. وكان أحدهما يبتغي الدنيا، والآخر يبتغي الآخرة. روى ابن سعد (2) عن أبي موسى قال: أعمقوا لي قبري. 2020 - * روى أبو يعلي عن أنس قال: قعد أبو موسى في بيته واجتمع إليه ناس فأنشأ يقرأ عليهم القرآن. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ألا أعجبك من أبي

_ 2017 - الطبقات الكبرى (4/ 105). ورجاله ثقات. 2018 - الترمذي (4/ 650) 38 - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع -38 - باب حدثنا قتيبة ... وقال: هذا حديث صحيح. 2019 - والطبقات الكبرى (4/ 112). ورجاله ثقات. السبر: مصدر سبر الجرح يسبره ويسبره سبراً: نظر مقداره وقاسه ليعرف غوره. (1) الطبقات الكبرى (4/ 113). ورجاله ثقات. (2) الطبقات الكبرى (4/ 116). ورجاله ثقات. 2020 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 360). وقال: رواه أبو يعلى وإسناده حسن.

موسى قعد في بيت واجتمع إليه ناس فأنشأ يقرأ عليهم القرآن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتستطيع أن تقعدني حيث لا يراني أحد منهم؟ " قال: نعم. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأقعده الرجل حيث لا يراه منهم أحد فسمع قراءة أبي موسى، فقال: "إنه يقرأ على مزمار من مزامير آل داود". 2021 - * روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو رأيتني، وأنا أسمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود". قال ابن الأثير: قال الحميدي: زاد البرقاني. قلت: والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته لم تحبيراً. قال: وحكى أن مسلماً أخرجه. ولم أجد هذه الزيادة عندنا من كتاب مسلم، وليس عند البخاري والترمذي قوله: "لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة". وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مزماراً: المزمار: واحد المزامير، وهو من آلات الغناء، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المزمار مثلاً لحسن صوت داود عليه السلام وحلاوة نغمته، كأن في حلقه مزامير يزمر بها، والآل في قوله "آل داود" مقحمة، ومعناه: الشخص. * * *

_ 2021 - البخاري (9/ 92) 66 - كتاب فضائل القرآن -31 - باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن. ومسلم (1/ 546) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها -34 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن. لحبرته: التحبير: التحسين.

22 - عبد الله بن سلام رضي الله عنه

22 - عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال ابن حجر: عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف النبي عليه السلام، حليف القواقل من الخزرج، الإسرائيلي ثم الأنصاري. كان حليفاً لهم وكان من نبي قينقاع يقال كان اسمه الحصين فغيره النبي صلى الله عليه وسلم. وجزم بذلك الطبري. وقال ابن سعد: وأخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن أبي اليمان عن شعيب عن عبد العزيز قال: كان اسم عبد الله بن سلام الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله روى عنه ابناه يوسف ومحمد، ومن الصحابة فمن بعدهم أبو هريرة وعبد الله بن معقل وأنيس وعبد الله بن حنظلة، وحرشة بن الحر، وقيس بن عباد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وآخرون. أسلم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقيل تأخر إسلامه إلى سنة ثمان. قال قيس بن الربيع عن عاصم عن الشعبي قال: أسلم عبد الله بن سلام قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. أخرجه ابن البرقي. وهذا مرسل وقيس ضعيف. وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن من طريق زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كنت ممن انجفل فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: "أفشوا السلام وأطعموا الطعام" الحديث. وفي البخاري من طريق حميد عن أنس أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث خصال لا يعلمها إلا نبي الحديث. وفيه قصته مع اليهود وأنهم قوم بهت. ومن طريق عبد العزيز بن صهيب عن أن أنس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فاستشرفوا ينظرون إليه فسمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله فعجل، وجاء فسمع من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد إنك رسول الله حقاً وأنك جئت بحق ولقد علمت أني سيدهم وأعلمهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. الحديث. وفي الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي صل الله عليه وآله وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام. وفي التاريخ الصغير للبخاري بسند جيد عن يزيد بن عمير قال: حضرت معاذا الوفاة فقيل له أوصنا

فقال: التمسوا العلم عند أبي الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة". وأخرجه الترمذي عن معاذ مختصراً. وأخرج البغوي في المعجم بسند جيد عن عبد الله بن معقل قال: نهى عبد الله بن سلام عليا عن خروجه إلى العراق، وقال: الزم منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن تركته لا تراه أبداً. فقال علي: إنه رجل صالح منا وأخرج ابن عساكر بسند جيد عن أبي بردة بن أبي موسى: أتيت المدينة فإذا عبد الله بن سلام جالس في حلقة متخشعاً عليه سيما الخير. وروى الزبيدي من طريق ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال: جئت لأنصرك. فخرج عبد الله فقال: إنه كان اسمي في الجاهلية فلانا فسماني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ونزلت في آيات من كتاب الله ونزل في: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}. ونزل في: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}. قال الطبراني: مات في قول جميعهم بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. قلت: وفيها أرخه الهيثم بن عدي وابن سعد وأبو عبيدة والبغوي وأبو أحمد العسكري وآخرون أ. هـ وقال ابن كثير في ترجمته: عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي أحد أحبار اليهود، أسلم حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: "أيها الناس افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام تدخلوا الجنة بسلام". وهو ممن شهد له رسول الله بالجنة، وهو ممن يقطع له بدخولها. أ. هـ. وقال الذهبي في ترجمته: عبد الله بن سلام بن الحارث. الإمام الحبر، المشهود له بالجنة. أبو الحارث الإسرائيلي، حليف الأنصار. من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حدث عنه أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن معقل، وعبد الله بن حنظلة ابن الغسيل، وابناه: يوسف ومحمد، وبشر بن شغاف، وأبو سعيد المقرئ، وأبو بردة بن أبي موسى، وقيس بن عباد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، وزرارة بن أوفى، وآخرون. وله إسلام قديم بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو من أحبار اليهود. أ. هـ. 2022 - * روى أحمد والترمذي والحاكم عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس عليه، وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول شيء سمعته يقول: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". 2023 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف. قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا. فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أصرعه". فصرعة الفرس، ثم قامت تحمحم، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت. قال: "فقف مكانك، لا تتركن أحداً يلحق بنا". قال: فكان أول النهار جاهداً علي نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي

_ 2022 - أحمد في مسنده (5/ 451). والترمذي (4/ 652) 38 - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع -42 - باب حدثنا محمد بن بشار ... وقال: هذا حديث صحيح. والمستدرك (3/ 13). وصححه ووافقه الذهبي. انجفل الناس عليه: أي: ذهبوا مسرعين نحوه. 2023 - البخاري (7/ 249) 63 - كتاب مناقب الأنصار -45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

بكر فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله. فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب؟ " فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. قال: "فانطلق فهيئ لنا مقيلاً". قال: قوما على بركة الله. فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق. وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فأسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في. فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، فأسلموا". قالوا: ما نعلمه -قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار -قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ " قالوا: حاشا له ما كان ليسلم. قال: "يا ابن سلام اخرج عليهم". فخرج، فقال: "يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم". 2024 - * روى أحمد والحاكم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة من ثريد، فأكل، ففضل منه فضلة، فقال: "يدخل من هذا الفج رجل من أهل

_ 2024 - مسند أحمد (1/ 169). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 326): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه عاصم بن بهدلة وفيه خلاف، وبقية رجالهم رجال الصحيح. والمستدرك (3/ 419) وصححه ووافقه الذهبي.

الجنة، يأكل هذه الفضلة". قال سعد: وقد كنت تركت أخي عمير بن أبي وقاص يتهيأ لأن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فطمعت أن يكون هو، جاء عبد الله بن سلام، فأكلها. 2025 - * روى الترمذي والحاكم عن يزيد بن عميرة قال: لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا. قال: أجلسوني. فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما. يقول ذلك ثلاث مرات. والتمسوا العلم عند أربعة رهط، عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة". ذكر الذهبي في السير (1): عن أبي بردة بن أبي موسى قال: أتيت المدينة، فإذا عبد الله ابن سلام جالس في حلقة متخشعاً عليه سيماء الخير، فقال: يا أخي، جئت ونحن نريد القيام. فأذنت له، أو قلت: إذا شئت. فقام، فاتبعته، فقال: من أنت؟ قلت: أنا ابن أخيك؛ أنا أبو بردة بن أبي موسى. فرحب بي، وسألني، وسقاني سويقاً، ثم قال: إنكم بأرض الريف، وإنكم تسالفون الدهاقين فيهدون لكم حملان القت والدواخل، فلا تقربوها، فإنها نار. 2026 - * روى أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: أجلسني النبي صلى الله عليه وسلم في حجره ومسح على رأسي وسماني يوسف.

_ 2025 - الترمذي (5/ 671) 50 - كتاب المناقب -37 - مناقب عبد الله بن سلام. وقال: وهذا حديث حسن صحيح غريب. والحاكم (3/ 416). وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في الإصابة عن التاريخ الصغير للبخاري، وجود إسناده. (1) السير (2/ 424) ورجال إسناده ثقات ونسبه الحافظ ابن حجر إلى ابن عساكر، وأخرج البخاري نحوه. تسالفون: من السلف وهو القرض. حملان: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة. قت: علف الدواب. دواخل: جمع دوخلة: زبيل أوقفة من خوص يجعل فيه التمر والرطب. 2026 - مسند أحمد (4/ 35).

2027 - * روى البخاري عن قيس بن عباد رضي الله عنه قال: كنت جالساً في مسجد المدينة، في ناس فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة. فصلى ركعتين يتجوز فيهما، ثم خرج، فاتبعته فدخل منزله ودخلت فتحدثا، فلما استأنس قلت له: إنك لما دخلت قبل قال رجل كذا وكذا. قال: سبحان الله! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤياً على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم، فقصصتها عليه: رأيتني في روضة -ذكر سعتها وعشبها وخضرتها -ووسط الروضة عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارقه. فقلت له: لا أستطيع. فجاءني منصف -قال ابن عون، والمنصف: الخادم -فقال بثيابي من خلفي -وصف أنه رفعه من خلفه بيده -فرقيت حتى كنت في أعلى العمود، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك، فلقد استيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلك الروضة: الإسلام، وذلك العمود: عمود الإسلام، وتلك العروة: عروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت". والرجل: عبد الله بن سلام. ولمسلم (1) أيضاً من رواية خرشة بن الحر قال: كنت جالساً في حلقة في مسجد المدينة، قال: وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبد الله بن سلام. قال: فجعل يحدثهم حديثاً حسناً. قال: فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. قال: قلت: والله لأتبعنه، فلأعلمن مكان بيته. قال: فتبعته، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله. قال: فاستأذنت عليه. قال: فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا بن أخي؟ قال. فقلت له: سمعت القوم يقولون لك -لما

_ = وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 326، 327): رواه أحمد بأسانيد، ورجال إسنادين منهما ثقات، ورواه الطبراني بنحوه وقال: ودعا. 2027 - البخاري (7/ 129) 63 - كتاب مناقب الأنصار -19 - باب مناقب عبد الله بن سلام. ومسلم (4/ 1930) 44 - كتاب فضائل الصحابة -33 - باب من فضائل عبد الله بن سلام. تجوز: في صلاته: إذا اختصرها وقصرها. منصف -المنصف بكسر الميم: الخادم. مسلم (4/ 1931) 44 - كتاب فضائل الصحابة -33 - باب من فضائل عبد الله بن سلام. =

قمت-: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك. قال: الله أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك مم قالوا ذاك؟ إني بينا أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي: قم. فأخذ بيدي، فانطلقت معه، قال. فإذا أنا بجواد على شمالي. قال: فأخذت لآخذ فيها، فقال لي: لا تأخذ فيها، فإنها طرق أصحاب الشمال. وإذا جواد منهج على يميني، فقال لي: خذها هنا. قال: فأتى بي جبلاً، فقال لي: اصعد. قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على أستي. قال: حتى فعلت ذلك مرارًا. قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودًا، رأسه في السماء وأسفله في الأرض، في أعلاه حلقة، فقال لي: اصعد فوق هذا. قال: قلت: كيف أصعد هذا، ورأسه في السماء؟ قال: فأخذ بيدي. فرحل بي، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة. قال: ثم ضرب العمود فخر. قال: وبقيت منتعلقًا بالحلقة، حتى أصبحت. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فصصتها عليه، فقال: "أما الطرق التي رأيت عن يسارك: فهي طرق أصحاب الشمال، وأما الطرق التي رأيت عن يمينك: فهي طرق أصحاب اليمين: وأما الجبل: فهو منزل الشهداء، ولن تناله، وأما العمود، فهو عمود الإسلام، وأما العروة: فهي عروة الإسلام، ولن تزال متمسكًا بها حتى تموت". 2028 - * روى البخاري عن أنس قال: إن عبد الله بن سلامٍ بلغة مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني به جبريل آنفًا". قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعامٍ

_ = بجواد: الجواد جمع جادة، وهي الطريق. المنهج: الطريق الواضح المطروق. خررت: خر يخر: إذا وقع من فوق إلى أسفل. فزجل: زجلته وزجلت به: إذا دفعته ورميته. 2028 - البخاري (7/ 272) 63 - كتاب مناقب الأنصار -51 - باب حدثني حامد بن عمر .. الأشراط: العلامات، وأشراط الساعة: العلامات التي تتقدمها، مثل خروج الدجال، وطلوع الشمس من المغرب. ينزع الولد: إلى أبيه أو أمه: إذا جاء يشبه أحدهما.=

يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد". قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. فجاءت اليهود؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي رجل ٍ عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا. وتنقصوه. قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله. 2029 - * روى الحاكم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: "يا معشر اليهود أروني اثنى عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم". قال: فأسكتوا ما أجابه منهم أحد. ثم رد فلم يجبه منهم أحد فقال: "أبيتم فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى آمنتم أو كذبتم". ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمد. فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. فقالوا: كذبت. ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفًا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذا آمن فكذبتموه وقلتم فيه ما قلتم فلن يقبل قولكم". قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله تعالى فيه: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به) الآية.

_ =قوم بهت: بهت فلان فلانًا: إذا كذب عليه، فهو باهت، وقوم بهت. 2029 - المستدرك (3/ 415) وصححه ووافقه الذهبي.

2030 - * روى البخاري عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام فقال لي: انطلق إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصلي في مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت معه فأسقاني سويقًا أطعمني تمرًا وصليت في مسجده. وفي رواية للبخاري (2) أيضًا عن أبي بردة عن أبيه قال: أتيت المدينة فلقيت عبد الله ابن سلامٍ رضي الله عنه فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك في أرضٍ الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا. ولم يذكر النضر وأبو داود ووهب عن شعبة البيت. قال الحافظ في الفتح: يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نعم الورع تركه. 2031 - * روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحدٍ يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة. إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ...} الآية (4). قال الراوي: لا أدري، قال مالك: الآية، أو في الحديث؟ * * *

_ 2030 - البخاري (13/ 205) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة -16 - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم. (2) البخاري (7/ 129) 63 - كتاب مناقب الأنصار -19 - باب مناقب عبد الله بن سلام. إنك بأرض: يعني أرض العراق. فاش: منتشر. قلت: القت الفصفصة وهي التي يسميها الناس الرطبة من علف الدواب. 2031 - البخاري (7/ 128) 63 - كتاب مناقب الأنصار -19 - عبد الله بن سلام. ومسلم (4/ 1930) 44 - كتاب فضائل الصحابة 33 - باب من فضائل عبد الله بن سلام مختصرًا. (4) الأحقاف: 10.

23 - جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه

23 - جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال ابن حجر: جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضرة بن ثعلبة بن جشم بن عوف بن خزيمة ابن حرب بن علي البجلي الصحابي الشهير، يكنى أبا عمرو وقيل يكنى أبا عبد الله. اختلف في وقت إسلامه: ففي الطبراني الأوسط عن جرير قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتيته فقال: "ما جاء بك"؟ قلت: جئت لأسلم فألقى إلي كساءه، وقال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. حصين [أحد الرواة] فيه ضعف، ولو صح يحمل على المجاز، أي لما بلغنا خبر بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو على الحذف، أي لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم دعا إلى الله ثم قدم المدينة ثم حارب قريشًا وغيرهم ثم فتح مكة ثم وفدت عليه الوفود. وجزم ابن عبد البر عنه بأنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين يومًا وهو غلط، ففي الصحيحين عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "استنصت الناس في حجة الوداع". وجزم الواقدي بأنه وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان سنة عشر، وأن بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك، وأنه وافى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع من عامه. وفيه عندي نظر؛ لأن شريكًا حدث عن الشيباني عن الشعبي عن جرير قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أخاكم النجاشي قد مات". الحديث، أخرجه الطبراني. فهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر لأن النجاشي مات قبل ذلك؛ وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم أثر عظيم في فتح القادسية. ثم سكن جرير الكوفة، وأرسله علي رسولا إلى معاوية ثم اعتزل الفريقين وسكن قرقيسيا حتى مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها. ومن طريق إبراهيم بن إسماعيل الكهيلي قال: كان طول جرير ستة أذرع. وروى الطبراني من حديث علي مرفوعًا: جرير منا أهل البيت. وروى عنه من الصحابة أنس بن

مالك، قال: كان جرير يخدمني وهو أكبر مني. أخرجه الشيخان. ا. هـ. قال ابن كثير: فأما جرير بن عبد الله البجلي فأسلم بعد نزول المائدة، وكان إسلامه في رمضان سنة عشر، وكان قدومه ورسول الله يخطب، وكان قد قال في خطبته: "إنه يقدم عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه مسحة ملك". فلما دخل نظر الناس إليه فكان كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بذلك فحمد الله تعالى. ويروى أن رسول الله لما جالسه بسط له رداءه وقال: "إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه". وقد كان عاملاً لعثمان على همدان. ا. هـ. 2032 - * روى أحمد عن جرير بن عبد الله قال: لما دنوت من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي ثم لبست حلتي، دخلت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمري شيئًا؟ قال: نعم ذكرك بأحسن الذكر بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "إنه سيدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن، ألا وإن على وجهه مسحة ملك" قال: فحمدت الله على ما أبلاني. وقال الذهبي في السير: جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم بن عوف، الأمير النبيل الجميل. أبو عمرو -وقيل: أبو عبد الله- البجلي القسري. وقسر: من قحطان. ومن أعيان الصحابة.

_ 2032 - أحمد في مسنده (4/ 359، 364) وإسناده قوي. مجمع الزوائد (9/ 373)، وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنهما وأسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح. عيبتي: ما يوضع فيه المتاع.

حدث عنه: أنس، وقيس بن أبي حازم، وأبو وائل، والشعبي، وهمام بن الحارث، وأولاده الأربعة: المنذر، وعبيد الله، وإبراهيم -لم يدركه- وأيوب. وشهر بن حوشب، وزياد بن علاقة، وحفيده أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وأبو إسحاق السبيعي، وجماعة. وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. 2033 - * روى البخاري ومسلم عن همام قال: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا؛ لأن جريرًا من آخر من أسلم. أقول: يعجب علماء التابعين لأن تأخر إسلام جرير دل على أنه غير منسوخ. 2034 - * روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جرير! ألا تريحني من ذي الخلصة". بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية. قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس. وكنت لا أثبت على الخيل. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب يده في صدري فقال: "اللهم! ثبتة. واجعله هاديًا مهديًا". قال: فانطلق فحرقها بالنار. ثم بعث جرير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يبشره، يكنى أبا أرطاة، منا. فآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما جئتك حتى تر كناها كأنها جمل أجرب. فبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها، خمس مراتٍ. ومسند جرير نحو من مئة حديث، بالمكرر. اتفق له الشيخان على ثمانية أحاديث

_ 2033 - البخاري (1/ 494) 8 - كتاب الصلاة -25 - باب الصلاة في الخفاف. ومسلم (1/ 227) 2 - كتاب الطهارة -22 - باب المسح على الخفين. 2034 - البخاري (7/ 131) 63 - كتاب مناقب الأنصار -21 - باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي. ومسلم (4/ 1926) 44 - كتاب فضائل الصحابة -29 - باب من فضائل جرير بن عبد الله.

وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة. ذكر الذهبي في السير (1) عن جرير قال: كنت عند عمر، فتنفس رجل -يعني: أحدث- فقال عمر: عزمت على صاحب هذه، لما قام، فتوضأ. فقال جرير: اعزم علينا جميعًا. فقال: عزمت علي وعليكم، لما قمنا، فتوضأنا، ثم صلينا. وذكر أيضًا (2) عن إبراهيم بن جرير، أن عمر قال: جرير يوسف هذه الأمة. ورواه يحيى القطان، عن مجالد، عن الشعبي -وله طرق- وزاد بعضهم- فقال عمر: يرحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد كنت في الإسلام. وذكر أيضًا (3) عن جرير، قال: رآني عمر بن الخطاب متجردًا، فناداني: خذ رداءك، خذ رداءك. فأخذت ردائي؛ ثم أقبلت إلى القوم، فقلت: ماله؟ قالوا: لما رآك متجردًا، قال: ما أرى أحدًا من الناس صور صورة هذا، إلا ما ذكر من يوسف عليه السلام. وذكر أيضًا (4)، عن الشعبي: كان على ميمنة سعد بن أبي وقاص يوم القادسية جرير ابن عبد الله. * * *

_ (1) السير (2/ 535). ورجاله ثقات. (2) السير (2/ 535). ورجاله ثقات. (3) السير (2/ 534) ورجاله ثقات، ونسبه الحافظ في الإصابة إلى البغوي. متجردًا: أي بإزار يستر عورته دون رداء يستر صدره وظهره وأعلى بطنه. (4) السير (2/ 535).

24 - 25 - جابر بن عبد الله وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام

24 - 25 - جابر بن عبد الله وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام قال ابن حجر: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي .. يكنى أبا عبد الله وأبا عبد الرحمن وأبا محمد أقوال، أحد الكثيرين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة، وله ولأبيه، وفي الصحيح عنه أنه كان مع من شهد العقبة. ومن طريق حجاج بن الصواف حدثني أبو الزبير أن جابرًا حدثهم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه شهدت منها تسع عشرة غزوة، وأنكر الواقدي رواية أبي سفيان عن جابر المذكور، وروى مسلم من طريق زكريا بن إسحاق حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع عشرة غزوة. قال جابر: لم أشهد بدرًا واحدًا منعني أبي فلما قتل لم أتخلف. وفي مصنف وكيع عن هشام بن عروة قال: كان لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد يعني النبوي يؤخذ عنه العلم. وروى البغوي من طريق عاصم بن عمرو بن قتادة قال: جاءنا جابر بن عبد الله وقد أصيب بصره وقد مس رأسه ولحيته بشيء من صفرة. من طريق أبي هلال عن قتادة قال: كان آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موتا بالمدينة جابر. قال البغوي: هو وهم وآخرهم سهل بن سعد. قال يحيى بن بكير وغيره: مات جابر سنة ثمان وسبعين. وقال علي بن المديني: مات جابر بعد أن عمر فأوصى أن لا يصلي عليه الحجاج. قلت: وهذا موافق لقول الهيثم بن عدي إنه مات سنة أربع وسبعين. وفي الطبراني وتاريخ البخاري ما يشهد له وهو أن الحجاج شهد جنازته. ويقال مات سنة ثلاث ويقال سنة سبع ويقال إنه عاش أربعًا وتسعين سنة. وقال: عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي والد جابر ابن عبد الله الصحابي المشهور .. معدود في أهل العقبة وبدر، وكان من النقباء، واستشهد

بأحد، ثبت ذكره في الصحيحين من حديث ولده. قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دين كان على أبي فدفعت عليه الباب. الحديث بطوله. ومن حديثه أيضًا قال: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه. الحديث، وفيه: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها. وروى الترمذي من حديث جابر: لقيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا جابر مالي أراك منكسرًا؟ " فقلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينًا وعيالاً. فقال: "ألا أخبرك، ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا، قال: يا عبدي سلني أعطك". الحديث. وقال جابر: حولت أبي بعد ستة أشهر فما أنكرت منه شيئًا إلا شعرات من لحيته كانت مستها الأرض. وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام كانا قد حفر السيل عن قبرهما وكانا في قبر واحد مما يلي السيل فحفر عنهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وكان أحدهما وضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين الوقعتين ست وأربعون سنة. وروى أبو يعلى وابن السكن من طريق حبيب بن الشهيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جزى الله الأنصار عنا خيرًا لاسيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة. وأخرجه النسائي من هذا الوجه لكن لفظه لا سيما آل عمرو بن حرام ا. هـ. وقال الذهبي عن عبد الله بن حرام: الأنصاري السلمي، أبو جابر أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدرًا واستشهد يوم أحد. اهـ. 2035 - * روى مسلم عن جابر: لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه، وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهونني وهو لا ينهاني. وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه".

_ 2035 - مسلم (4/ 1918) 44 - كتاب فضائل الصحابة -36 - باب من فضائل عبد الله عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما.

2036 - * روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا القتلى إلى مضاجعهم. قال الذهبي في السير: قال مالك: كفن هو وعمرو بن الجموح في كفن واحد. وعن جابر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما خرج لدفن شهداء أحد، قال: "زملوهم بجراحهم، فأنا شهيد عليهم" وكفن أبي في نمرة. قال ابن سعد: قالوا: وكان عبد الله أول من قتل يوم أحد، وكان أحمر أصلع ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح طويلاً، فدفنا معًا عند السيل، فحفر السيل عنهما، وعليهما نمرة، وقد أصاب عبد الله جرح في وجهه فيده على جرحه، فأميطت يده، فانبعث الدم، فردت، فسكن الدم. قال جابر: فرأيت أبي في حفرته، كأنه نائم، وما تغير من حاله شيء، وبين ذلك ست وأربعون سنة، فحولا إلى مكان آخر، وأخرجوا رطابًا يتثنون. عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا، حين أجرى معاوية العين، فأخرجناهم لينة أجسادهم، تتثنى أطرافهم. عن عطاء، عن جابر قال: دفن رجل مع أبي، فلم تطب نفسي، حتى أخرجته، ودفنته وحده. ا. هـ. 2037 - * روى البخاري عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال:

_ 2036 - أحمد في مسنده (3/ 308). وأبو داود (3/ 303) كتاب الجنائز، باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض وكراهة ذلك. والترمذي (4/ 215) 24 - كتاب الجهاد -37 - باب ما جاء في دفن القتيل في مقتله. وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (4/ 79) كتاب الجنائز 82 - باب أين يدفن الشهيد. وابن ماجة (1/ 486) 6 - كتاب الجنائز -28 - باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم. وسنده قوي. 2037 - البخاري (3/ 214) 23 - كتاب الجنائز -77 - باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة.=

ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن علي دينًا، فاقض، واستوص بأخواتك خيرًا. فأصبحنا، فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبرٍ، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهرٍ، فإذا هو كيوم وضعته هنية، غير أذنه. 2038 - * روى البخاري عن جابر رضي الله عنه أن أباه توفى وعليه دين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبي ترك عليه دينًا، وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدرٍ من بيادر التمر فدعا، ثم آخر، ثم جلس عليه فقال: "انزعوه". فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم. 2039 - * روى الترمذي والحاكم عن جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لي: "يا جابر مالي أراك منكسرًا؟ " قلت: يا رسول استشهد أبي قتل يوم أحدٍن وترك عيالاً ودينًا. قال: "أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: "ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا. فقال: يا عبدي تمن علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني "أنهم إليها لا يرجعون". قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} (3) الآية. 2040 - * روى أحمد عن جابر أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول إذا ذكر أصحاب

_ = هنية: أي شيئًا يسيرًا، وهو تصغير "هنة" أي شيء، فصغره لكونه أثرًا يسيرًا. 2038 - البخاري (6/ 587) 61 - كتاب المناقب -25 - باب علامات النبوة في الإسلام. 2039 - الترمذي (5/ 230) 48 - كتاب تفسير القرآن -4 - باب "ومن سورة آل عمران". وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. والمستدرك (2/ 202). وصححه ووافقه الذهبي. كفاحًا: أي مواجهة ليس بينهما حجاب. (3) آل عمران: 169. 2040 - أحمد في مسنده (3/ 275) وإسناده قوي. فحص الجبل: سفحه وما انبسط منه.=

أحدٍ: "والله لوددت أني غودت مع أصحاب فحص الجبل". يقول: قتلت معهم صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي عن جابر عن عبد الله: الإمام الكبير، المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبيد الله، وأبو عبد الرحمن، الأنصاري الخزرجي السلمي المدني الفقيه. من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتًا. روى علمًا كثيرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعلي، وأبي بكر، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، والزبير، وطائفة. وكان مفتي المدينة في زمانه. عاش بعد ابن عمر أعوامًا وتفرد. شهد ليلة العقبة مع والده. وكان والده من النقباء البدريين، استشهد يوم أحد وأحياه الله تعالى، وكلمه كفاحًا. وقد انكشف عنه قبره إذ أجرى معاوية عينًا عند قبول شهداء أحد، فبادر جابر إلى أبيه بعد دهر، فوجده طريًا لم يبل. وكان جابر قد أطاع أباه يوم أحد وقعد لأجل أخواته، ثم شهد الخندق وبيعة الشجرة. وشاخ وذهب بصرة، وقارب التسعين ا. هـ. 2041 - * روى الترمذي عن جابرٍ قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة. قال الترمذي: ومعنى قوله ليلة البعيرك ما روي عن جابر من غير وجه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فباع بعيره من النبي صلى الله عليه وسلم واشترط ظهره إلى المدينة، يقول جابر ليلة بعت من النبي صلى الله عليه وسلم البعير استغفر لي خمسًا

_ =فحص الجبل: سفحه وما انبسط منه. 2041 - الترمذي (5/ 691) 50 - كتاب المناقب -53 - باب في مناقب جابر بن عبد الله. وقال: هذا حديث حسن غريب.

وعشرين مرة، وكان جابر قد قتل أبوه عبد الله بن عمرو بن حرامٍ يوم أحدٍ وترك بناتٍ، فكان جابر يعولهن وينفق عليهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبر جابرًا ويرحمه لسبب ذلك. هكذا روي في حديثٍ عن جابرٍ نحو هذا. وذكر الذهبي في السير، عن جابر قال: كنت أمتح [الماء] لأصحابي يوم بدر (1). قال الذهبي: قال ابن عيينة: لقي عطاء وعمرو وجابر بن عبد الله سنة جاور بمكة. وقيل: إنه عاش أربعًا وتسعين سنة، فعلى هذا، كان عمره يوم بدرٍ ثماني عشرة سنة. روي ابن عجلان، عن عبيد الله بن مقسم، قال: رحل جابر بن عبد الله في آخر عمره إلى مكة في أحاديث سمعها، ثم انصرف إلى المدينة. ويروى أن جابرًا رحل في حديث القصاص إلى مصر ليسمعه من عبد الله بن أنيس. ا. هـ. قال الشيخ شعيب محقق السير: الصواب: إلى الشام، فقد أخرج الإمام أحمد، والبخاري في (الأدب المفرد)، والخطيب البغدادي في "الرحلة" من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلا بهما". قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد -أحسبه قال- كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند

_ (1) صحح إسناده الحافظ في الإصابة.

أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهما؟ قال: "بالحسنات والسيئات". وحسنه الحافظ في "الفتح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. 2042 - * روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض". وكنا ألفًا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. تابعه الأعمش: سمع سالمًا سمع جابرًا ألفًا وأربعمائة. قال الذهبي: وروي عن جابر، قال: كنت في جيش خالدٍ في حصار دمشق. قال ابن سعد: شهد جابر العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم. قال جابر: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت. وقال زيد بن أسلم: كفء بصر جابر. قال الواقدي ويحيى بن بكير وطائفة: مات سنة ثمانٍ وسبعين. وقال أبو نعيم: سنة سبعٍ وسبعين. قيل: إنه عاش أربعًا وتسعين سنة: وأضر بأخرة. مسنده بلغ ألفًا وخمس مئة وأربعين حديثًا، اتفق له الشيخان على ثمانيةٍ وخمسين حديثًا، انفرد له البخاري بستة وعشرين حديثًا، ومسلم بمئة وستة وعشرين حديثًا. عن أبي نضرة قال: كان جابر بن عبد الله عريفًا، عرفه عمر. عن أبي بكر المدني قال: كان جابر لا يبلغ إزاره كعبه، وعليه عمامة بيضاء، رأيته قد أرسلها من ورائه. وقال عاصم بن عمر: أتانا جابر وعليه ملاءتان -وقد عمي- مصفرًا لحيته ورأسه بالورس، وفي يده قدح. ا. هـ.

_ 2042 - البخاري (7/ 443) 64 - كتاب المغازي -35 - باب غزوة الحديبية.

2043 - * روى البزار عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، قال: أمر أبي بحريرة، فصنعت، ثم أمرني فحملتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "ما هذا يا جبر؟ ألحم ذا؟ " قلت: لا يا رسول الله! ولكن أبي أمر بحريرة فصنعتها، ثم أمرني فحملتها إليك، فقال: "ضعها". فأتيت أبي، فقال لي: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: قال لي: ما هذا يا جابر! ألحم؟ قال أبي: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أحسب- يشتهي اللحم، فقام إلى داجن، فذبحها، ثم أمر بها، فشويت، ثم أمرني، فأتيت بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزاكم الله معشر الأنصار خيرًا، ولا سيما آل عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة". 2044 - * روى الطبراني عن أبي نعيم قال: مات جابر بن عبد الله سنة تسع وسبعين.

_ 2043 - كشف الأستار (3/ 260). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (/317): رواه البزار ورجاله ثقات. 2044 - المعجم الكبير (2/ 181). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 10): رجاله ثقات.

26 - البراء بن مالك رضي الله عنه

26 - البراء بن مالك رضي الله عنه قال ابن حجر: البراء بن مالك بن النضر الأنصاري أخو أنس. تقدم نسبه في ترجمة أنس، وهو أخو أنس لأبيه. قاله أبو حاتم. وقال ابن سعد: أخوه لأبيه وأمه أمهما أم سليم انتهى. وفيه نظر لأنه سيأتي في ترجمة شريك بن سحماء أنه أخو البراء بن مالك لأمه، أمهما سمحاء، أما أم أنس فهي أم سليم بلا خلاف. وتقدم في ترجمة أنجشة أن البراء كان حادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المستدرك من طريق ابن إسحاق عن عبد (عبيد) الله بن أنس سمعت أنس بن مالك يقول: كان البراء بن مالك حسن الصوت وكان يرجز لرسول الله صلى عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فقال له: "إياك والقوارير". فأمسك. وروى السراج من طريق حماد عن ثابت عن أنس قال: كان البراء حادي الرجال. وقد تقدم بأتم منه في أنجشة. وشهد البراء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشاهد إلا بدرًا، وله يوم اليمامة أخبار، واستشهد يوم حصن تستر في خلافة عمر سنة عشرين وقيل قبلها وقيل سنة ثلاث وعشرين. ذكر سيف أن الهرمزان هو الذي قتله، وروى عنه أخوه أ، س، وروى البغوي بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين عن أنس قال: دخلت على البراء بن مالك وهو يتغنى فقلت له: قد أبدلك الله ما هو خير منه. فقال: أترهب أن أموت على فراشي لا والله ما كان الله ليحرمني ذلك وقد قتلت مائة منفردًا سوى ما شاركت فيه. وقال بقي بن مخلد في مسنده عن أبي إسحاق قال: زحف المسلمون إلى المشركين يوم اليمامة حتى ألجؤوهم إلى حديثة فيه عدو الله مسيلمة، فقال البراء بن مالك يا معشر المسلمين ألقوني إليهم فاحتمل حتى إذا أشرف على الجدار اقتحم فقاتلهم على الحديقة حتى فتحها على المسلمين ودخل عليهم المسلمون فقتل الله مسيلمة. عن أنس قال: رمى البراء بنفسه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب وبه بضع وثمانون جراحة من بين رمية بسهم وضربة فحمل إلى رحله يداوى وأقام عليه خالد شهرًا. وفي تاريخ السراج من طريق يونس عن الحسن وعن ابن سيرين عن أنس أن خالد بن الوليد قال للبراء يوم اليمامة: قم يا براء. قال: فركب فرسه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

يا أهل المدينة لا مدينة لكم اليوم وإنما هو الله وحده والجنة. ثم حمل وحمل الناس معه فانهزم أهل اليمامة، فلقي البراء معكم اليمامة فضربه البراء وصرعه، فأخذ سيف محكم اليمامة فضرب به حتى انقطع. وروى البغوي عن البراء قال: لقيت يوم مسيلمة رجلاً يقال له حمار اليمامة رجلاً جسيمًا بيده السيف أبيض فضربت رجليه فكأنما أخطأته وانقعر فوقع على قفاه فأخذت سيفه وأغمدت سيفي، فما ضربت به ضربة حتى انقطع. وفي الطبراني من طريق إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة قال: بينما أنس بن مالك وأخوه عند حصن من حصون العدو يعني بالحريق (بالعراق) فكانوا يلقون كلاليب في سلاسل محماة فتعلق بالإنسان فيرفعونه إليهم، ففعلوا ذلك بأنس فأقبل البراء حتى تراءى في الجدار ثم قبض بيده على السلسلة فما برح حتى قطع الحبل ثم نظر إلى يده فإذا عظامها تلوح قد ذهب ما عليها من اللحم وأنجى الله أنس بن مالك بذلك. وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك". فلما كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس، فقال المسلمون: يا براء أقسم على ربك. فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك. فحمل وحمل الناس معه فقتل مرزبان الزاره من عظماء الفرس وأخذ سلبه فانهزم الفرس وقتل البراء. وفي المستدرك من طريق سلامة عن عقيل عن الزهري عن أنس نحوه. ا. هـ. وقال الذهبي: البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار، الأنصاري النجاري المدني. البطل الكرار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، أنس بن مالك، شهد أحدًا، وبايع تحت الشجرة. قيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الجيش: لا تستعملوا البراء على جيش، فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم. وبلغنا أن البراء يوم حرب مسيلمة الكذاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترس، على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة. فاقتحم إليهم، وشدد عليهم، وقاتل حتى افتتح باب

الحديقة. فجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحًا، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه. وقد اشتهر أن البراء قتل في حروبه مئة نفس من الشجعان مبارزة ا. هـ. 2045 - * روى الحاكم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه منهم البراء بن مالك". فإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين فقالوا: يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إنك لو أقسمت على الله لأبرك فأسقم على ربك. فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم. ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك. فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. 2046 - * روى الترمذي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره. منهم البراء بن مالك". 2047 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء وهو مستلق واضعًا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى فنهاه، فقال: أترهب أن أموت على فراشي وقد تفردت بقتل مائة من الكفار سوى من شركني فيه الناس. وفي رواية: يا أخي تتغنى بالشعر وقد أبدلك الله به القرآن؟

_ 2045 - المستدرك (3/ 291) وصححه ووافقه الذهبي. الطمر: الثوب الخلق. لأبره: لصدقه وجعله بارًا غير حانث. 2046 - الترمذي (5/ 693) 50 - كتاب المناقب -55 - باب مناقب البراء بن مالك. وقال: هذا حديث صحيح من هذا الوجه. الأشعث: البعيد العهد بالدهن والتسريح والغسل. لا يؤبه له: لا يعرف ولا يعلم به لقلة شأنه. 2047 - المستدرك (3/ 291) وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في الإصابة عن البغوي وقال: إسناده صحيح. ورواه أبو نعيم في الحلية.

2048 - * روى ابن سعد عن أنس قال: دخلت على البراء وهو يتغنى، ويرنم قوسه، فقلت: إلى متى هذا؟ قال: أتراني أموت على فراشي؟ والله لقد قتلت بضعًا وتسعين. قال الذهبي: ابن عون: عن محمد قال: بارز البراء مرزبان الزارة فطعنه، فصرعه، وأخذ سلبه. الزارة: لفظ المرة من الزار. وعين الزارة بالبحرين معروفة. والزارة قرية كبيرة بها. ومنها مرزبان الزارة وله ذكر في الفتوح. وقد فتحت الزارة سنة (12) للهجرة في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وصولحوا. استشهد يوم فتح تستر سنة عشرين ا. هـ. 2049 - * روى الحاكم عن أنس بن مالك قال: كان البراء بن مالك رجلاً حسن الصوت فكان يرجز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فبينما هو يرجز إذ قارب النساء فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياك والقوارير". قال فأمسك: قال محمد: كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسمع النساء صوته. 2050 - * روى الطبراني عن ابن سيرين قال: بارز البراء بن مالك أخو أنس بن مالك مرزبان الزار فقتله فأخذ سلبه فبلغ سلبه ثلاثين ألفًا. * * *

_ 2048 - الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 17) وإسناده صحيح. 2049 - المستدرك (3/ 291). وصححه ووافقه الذهبي. 2050 - المعجم الكبير (2/ 37). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 331): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

27 - أنس بن مالك رضي الله عنه

27 - أنس بن مالك رضي الله عنه قال ابن حجر: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي. خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه. عن أبي خلدة قلت لأبي العالية: أسمع أنس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خدمة عشر سنين ودعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين، وكان فيه ريحان ويجيء منه ريح المسك. وكانت إقامته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ثم شهد الفتوح ثم قطن البصرة ومات بها. قال علي بن المديني: كان آخر الصحابة موتا بالبصرة، وقال البخاري: حدثنا موسى حدثنا إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: ثمان غزوات. وروى ابن السكن من طريق صفوان بن هبيرة عن أبيه قال: قال ثابت البناني: قال لي أنس بن مالك: هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضعها تحت لساني، قال: فوضعها تحت لسانه فدفن وهي تحت لسانه. قال جرير بن حازم. قلت لشعيب بن الحبحاب: متى مات أنس؟ قال: سنة تسعين. أخرجه ابن شاهين. وقال سعيد بن عفير والهيثم بن عدي ومعتمر بن سليمان مات سنة إحدى وتسعين. وقال ابن شاهين: حدثنا عثمان بن أحمد حدثنا حنبل حدثنا معتمر ابن سليمان عن حميد مثله وزاد: وكان عمره مائة سنة إلا سنة. قال ابن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن زيد الهذلي أنه حضر أنس بن مالك سنة ثنتين وتسعين. وقال أبو نعيم الكوفي: مات سنة ثلاث وتسعين وفيها أرخه المدائني وخليفة وزاد: وله مائة وثلاث سنين. وحكى ابن شاهين عن يحيى بن بكير أنه مات وله مائة سنة وسنة، قال وقيل مائة وسبع سنين. ورواه البغوي عن عمر بن شبة عن محمد بن عبد الله الأنصاري كذلك. قال الطبراني عن أنس قال: قالت أم سليم: يا رسول الله ادع الله لأنس فقال: "اللهم أكثر ماله

وولده وبارك له فيه". قال أنس لقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين. عن أنس جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا غلام، فقالت: يا رسول الله أنس ادع الله له. فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة". قال قد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة. وروى الطبراني في الأوسط من طريق عبيد بن عمرو الأصبحي عن أبي هريرة أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يشير في الصلاة وقال. لا نعلم روى أبو هريرة عن أنس غير هذا الحديث. وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس أن أبا بكر لما استخلف بعث إلى أنس ليوجهه إلى البحرين على السعاية فدخل عليه عمر فاستشاره فقال: أبعثه فإنه لبيب كاتب. قال: فبعثه. ومناقب أنس وفضائله كثيرة جداً. ا. هـ. قال الذهبي في ترجمته: الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتاً. ا. هـ. 2051 - * روى مسلم عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثني على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل علينا دارنا، فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له من بئر في الدار، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر -وأبو بكر على شماله: يا رسول الله أعط أبا بكر، فأعطاه أعرابياً عن يمينه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيمن فالأيمن". قال الذهبي: فصحب أنس نبيه صلى الله عليه وسلم أتم الصحبة، ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.

_ 2051 - مسلم (3/ 1603) 36 - كتاب الأشربة -17 - باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ.

وقد روى محمد بن سعد في (طبقاته): حدثنا الأنصاري، عن أبيه، عن مولى لأنس، أنه قال لأنس: أشهدت بدراً؟ فقال: لا أم لك، وأين أغيب عن بدر. ثم قال الأنصاري: خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وهو غلام يخدمه. وقد رواه عمر بن شبة، عن الأنصاري (1)، عن أبيه، عن ثمامة، قال: قيل لأنس: ... فذكر نحوه. قلت: لم يعده أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيا ما قاتل، بل بقي في رحال الجيش. فهذا وجه الجمع. أ. هـ. 2052 - * روى مسلم عن أنس قال: جاءت بي أمي، أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه. فقالت: يا رسول الله! هذا أنيس، ابني، أتيتك به يخدمك. فادع الله له. فقال: "اللهم أكثر ماله وولده". قال أنس: فوالله! إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة، اليوم. 2053 - * روى البخاري ومسلم، عن أنس، أن أم سليم قالت: يا رسول الله! خادمك أنس، ادع الله له. فقال: "اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته". 2054 - * روى ابن سعد عن أنس، قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته". فالله أكثر مالي حتى إن كرماً لي لتحمل في السنة مرتين، وولد لصلبي مئة وستة.

_ (1) قال محقق السير: محمد بن عبد الله بن المثني الأنصاري ثقة، وأبوه عبد الله صدوق، خرج له البخاري إلا أنه كثير الغلط، ومولى أنس لا يعرف، لكن تابعه ثمامة في رواية عمر بن شبة، وهو صدوق. 2052 - مسلم (4/ 1929) 44 - كتاب تابعه ثمامة في رواية عمر بن شبة، وهو صدوق. 2053 - البخاري (11/ 144) 80 - كتاب الدعوات -26 - باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله. ومسلم (4/ 1928) 44 - كتاب فضائل الصحابة -32 - باب من فضائل أنس بن مالك. 2054 - الطبقات الكبرى (7/ 19) وسنده حسن.

2055 - * روى عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: "أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم". ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها. فقالت أم سليم: يا رسول الله إن لي خويصة، قال: "ما هي؟ قالت: خادمك أنس. فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به: "اللهم ارزقه مالاً وولداً، وبارك له". فإني لمن أكثر الأنصار مالا. وحدثني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة. 2056 - * روى الترمذي عن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك. 2057 - * روى ابن سعد عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحداً أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم. يعني أنساً. قال الذهبي: عن موسى بن أنس: أن أنساً غزا غزوات. وقال أنس بن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر. وروى الأنصاري عن أبيه، عن ثمامة، قال: كان أنس يصلي حتى تفطر قدماه دماً، مما يطيل القيام رضي الله عنه. ثابت البناني قال: جاء قيم أرض أنس، فقال: عطشت أرضوك. فتردي أنس، ثم خرج إلى البرية، ثم صلى، ودعا، فثارت سحابة، وغشيت أرضه ومطرت، حتى ملأت صهريجه وذلك في الصيف، فأرسل بعض أهله، فقال: انظر أين بلغت؟ فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيراً.

_ 2055 - البخاري (4/ 228) 30 - كتاب الصوم -61 - باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم. خويصة: تصغير خاصة وهي ما يخص به الإنسان. 2056 - الترمذي (5/ 683) 50 - كتاب المناقب -46 - باب مناقب لأنس بن مالك. وقال هذا حديث حسن. وأبو خلدة ثقة ورجاله ثقات. 2057 - الطبقات الكبرى (7/ 20). ورجاله ثقات.

روى نحوه الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة. قلت (أي الذهبي): هذه كرامة بينة ثبتت بإسنادين. قال همام بن يحيى: حدثني من صحب أنس بن مالك قال: لما أحرم أنس، لم أقدر أن أكلمه حتى حل من شدة إبقائه على إحرامه. ابن عون: عن موسى بن أنس؛ أن أبا بكر الصديق بعث إلى أنس ليوجهه على البحرين ساعياً، فدخل عليه عمر، فقال: إني أردت أن أبعث هذا على البحرين وهو فتي شاب. قال: ابعثه فإنه لبيب كاتب. فبعثه فلما قبض أبو بكر قدم أنس على عمر، فقال: هات ما جئت به. قال: يا أمير المؤمنين، البيعة أولاً، فبسط يده. عن أنس، قال: استعملني أبو بكر على الصدقة، فقدمت، وقد مات، فقال عمر: يا أنس أجئنا بظهر؟ قلت: نعم. قال: جئنا به، والمال لك. قلت: هو أكثر من ذلك. قال: وإن كان، فهو لك. وكان أربعة آلاف. روى ثابت، عن أنس، قال: صحبت جرير بن عبد الله، فكان يخدمني، وقال: إني رأيت الأنصار يصنعون برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، لا أرى أحداً منهم إلا خدمته. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس: "يا ذا الأذنين". وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصه ببعض العلم. فنقل أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه طاف على تسع نسوة في ضحوة بغسل واحد. قال خليفة بن خياط: كتب ابن الزبير بعد موت يزيد إلى أنس بن مالك، فصلى بالناس بالبصرة أربعين يوماً. وقد شهد أنس فتح تستر فقدم على عمر بصاحبها الهرمزان فأسلم، وحسن إسلامه رحمه الله. قال الأعمش: كتب أنس إلى عبد الملك بن مروان -يعني لما آذاه الحجاج -: إني خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا رجلاً خدم نبيهم، لأكرموه.

قال سلمة بن وردان: رأيت على أنس عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه. وقال أبو طالوت عبد السلام: رأيت على أنس عمامة. حماد بن سلمة: عن حميد، عن أنس: نهى عمر أن نكتب في الخواتيم عربياً. وكان في خاتم أنس ذئب أو ثعلب (1). وقال ابن سيرين: كان نقش خاتم أنس: أسد رابض (2). قال ثمامة بن عبد الله: كان كرم أنس يحمل في السنة مرتين. قال المثنى بن سعيد: سمعت أنساً يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي. ثم يبكي (3). عن أنس -وقيل له: ألا تحدثنا؟ -قال: يا نبي إنه من يكثر يهجر (4). عن أنس، أنه نقش في خاتمه: "محمد رسول الله". فكان إذا دخل الخلاء، نزعه (5). قال ابن عون: رأيت على أنس مطرف خز، وعمامة خز، وجبة خز (6). روى عبد الله بن سالم الأشعري، عن أزهر بن عبد الله، قال: كنت في الخيل الذين بيتوا أنس بن مالك، وكان فيمن يؤلب على الحجاج، وكان مع ابن الأشعث، فأتوا به الحجاج، فوسم في يده: عتيق الحجاج. عن أنس: يقولون: لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب. وقد جمع الله حبهما في قلوبنا.

_ (1) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 18). ورجاله ثقات. (2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 18). ورجاله ثقات. (3) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 20). ورجاله ثقات. (4) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 22). ورجاله ثقات. قال محقق السير: أن بني أنس بن مالك قالوا لأبيهم: يا أبانا ألا تحدثنا كما تحدث الغرباء؟ وقوله يهجر: ومن هجر في كلامه: إذا خلط فيه وإذا هذى. (5) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 22). (6) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 23). الخز: نوع من الثياب ينسج من صوف ونحوه.

قال أبو اليقظان: مات لأنس في طاعون الجارف ثمانون ابناً وقيل: سبعون. عن أيوب قال: ضعف أنس عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، ودعا ثلاثين مسكيناً، فأطعمهم (1). قلت [أي الذهبي]: ثبت مولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين. وأما موته فاختلفوا فيه، فروى معمر، عن حميد؛ أنه مات سنة إحدي وتسعين، وكذا أرخه قتادة، والهيثم بن عدي، وسعيد بن عفير، وأبو عبيد. وروى معن بن عيسى، عن ابن لأنس بن مالك: سنة اثنتين وتسعين. وتابعه الواقدي. وقال عدة -وهو الأصح -: مات سنة ثلاث وتسعين. قاله ابن علية وسعيد بن عامر، والمدائني، وأبو نعيم، وخليفة، والفلاس، وقعنب. فيكون عمره على هذا مئة وثلاث سنين. قال الأنصاري: اختلف علينا في سن أنس؛ فقال بعضهم: بلغ مئة وثلاث سنين. وقال بعضهم: بلغ مئة وسبع سنين. مسنده ألفان ومئتان وستة وثمانون، اتفق له البخاري ومسلم على مئة وثمانين حديثاً، وانفرد البخاري بثمانين حديثاً، ومسلم بتسعين. اهـ الذهبي.

_ (1) قال محقق السير: وكان طاعون الجارف بالبصرة سنة 69 هـ، قال المدائني: حدثني من أدرك ذلك، قال: كان ثلاثة أيام، فمات فيها نحو مئتي ألف نفس، وقال غيره: مات في طاعون الجارف لأنس من أولاده وأولادهم سبعون نفساً. وروى البخاري تعليقاً في (8/ 179) -65 - كتاب التفسير 2 - سورة البقرة -25 - باب (أياماً معدودات) فقال: فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاماً أو عامين كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر. وقال الحافظ: وروى عبد بن حميد من طريق النصر بن أنس، عن أنس أنه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكيناً كل يوم، ورويناه في فوائد محمد بن هشام بن ملاس، عن مروان، عن معاوية، عن حميد، قال: ضعف أنس عن الصوم عام توفي، فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا فلما عرف أنه لا يطيق القضاء، أمر بجفان من خبز ولحم، فأطعم العدة أو أكثر.

2058 - * روى مسلم والترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا بني". 2059 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لم يبق ممن صلى القبلتين غيري. يعني الصلاة إلى بيت المقدس وإلى الكعبة، وفي هذا إشارة إلى أن أنسا آخر من مات ممن صلى القبلتين، والظاهر أن أنساً قال ذلك وبعض الصحابة ممن تأخر إسلامه موجود، ثم تأخر أنس إلى أن كان آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله علي بن المديني والبزار وغيرهما، بل قال ابن عبد البر: هو آخر الصحابة موتاً مطلقاً، لم يبق بعده غير أبي الطفيل. كذا قال، وفيه نظر، فقد ثبت لجماعة ممن سكن البوادي من الصحابة تأخرهم عن أنس. وعن ثابت البناني رحمه الله: أن أنسا قال له: خذ عني فإنك لن تأخذ عن أحد أوثق مني، أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وأخذه جبريل عن الله عز وجل. 2060 - * روى الطبراني عن أنس قال: كانت لي ذؤابة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدها ويأخذ بها. 2061 - * روى الطبراني عن قتادة قال: لما مات أنس بن مالك قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم. فقيل وكيف ذاك يا أبا المغيرة؟ قال: كان رجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا له: تعال إلى من سمعه منه.

_ 2058 - مسلم (3/ 1693) 38 - كتاب الأدب -6 - باب جواز قوله لغير ابنه: يا بني. الترمذي (5/ 131) 44 - كتاب الأدب 62 - باب ما جاء في يا بني. وقال: هذا حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه. 2059 - البخاري (8/ 173) 65 - كتاب التفسير -15 - باب {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ -إلى- يَعْمَلُونَ}. 2060 - المعجم الكبير (1/ 249). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 325): إسناده جيد. 2061 - المعجم الكبير (1/ 250). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 325): ورجاله رجال الصحيح.

2062 - * روى مسلم عن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا. وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي. فقال: "قوموا فلأصلي بكم" (في غير وقت صلاة) فصلى بنا. فقال رجل لثابت: أين جعل أنساً منه؟ قال: جعله على يمينه. ثم دعا لنا، أهل البيت، بكل خير من خير الدنيا والآخرة. فقالت أمي: يا رسول الله! خويدمك. ادع الله له. قال: فدعا لي بكل خير. وكان في آخر ما دعا به أن قال: "اللهم! أكثر ماله وولده وبارك له فيه". * * *

_ 2062 - مسلم (1/ 457) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة -48 - باب جواز الجماعة في النافلة.

28 - ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطيب الأنصار

28 - ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطيب الأنصار قال ابن حجر: ثابت بن قيس بن شماس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي. لم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا أول مشاهده أحد وشهد ما بعدها وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في قصة شهيرة رواها موسى بن أنس عن أبيه أخرج أصل الحديث مسلم أ. هـ. قال الذهبي في ترجمته: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن. خطيب الأنصار. كان من نجباء أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، ولم يشهد بدراً، شهد أحداً، وبيعة الرضوان. وأمه هند الطائية، وقيل: بل كبشة بنت واقد بن الإطنابة. وإخوته لأمه عبد الله ابن رواحة، وعمرة بنت رواحة. وكان زوج جمييلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فولدت له محمداً. قال ابن إسحاق: قيل: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينه وبين عمار، وقيل: بل المؤاخاة بين عمار وحذيفة. وكان جهير الصوت، خطيباً، بليغاً. 2063 - * روى الحاكم عن أنس قال: خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: "الجنة". قالوا: رضينا.

_ 2063 - المستدرك (3/ 234). وصححه ووافقه الذهبي.

2064 - * روى الحاكم عن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله! إني أخشى أن أكون قد هلكت، ينهانا الله أن نحب أن نحمد بما لا نفعل، وأجدني أحب الحمد. وينهانا الله عن الخيلاء، وإني امرؤ أحب الجمال. وينهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك. وأنا رجل رفيع الصوت، فقال: "يا ثابت! أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة". اهـ. 2065 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت ابن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه. فأتاه، فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ قال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجع إليه المرة الأخيرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: "إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة". وفي رواية (1): أنه لما نزلت هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...} (2) جلس ثابت في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فقال: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟ " فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له شكوى. قال: فأتاه سعد، فذكر له قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "بل هو من أهل الجنة". هذا لفظ رواية حماد عن أنس.

_ 2064 - المستدرك (3/ 234). وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح (6/ 621): وهذا مرسل قوي الإسناد. 2065 - البخاري (8/ 590) 65 - كتاب التفسير -49 - سورة الحجرات. حبط عمله: إذا بطل أجره ولم يثب عليه. (1) مسلم (1/ 110) 1 - كتاب الإيمان -52 - باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله. (2) الحجرات: 2.

وفي رواية لمسلم (1) كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار، فلما نزلت هذه الآية -وذكر قول ثابت -زاد في حديث سليمان التيمي: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. 2066 - * روى أحمد عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}: وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبط عملي، أنا من أهل النار. وجلس في أهله حزينا، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر بالقول، حبط عملي وأنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال: "لا. بل هو من أهل الجنة". قال أنس: وكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاءنا ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل. 2067 - * روى البخاري عن موسى بن أنس قال: وذكر يوم اليمامة قال: أتى أنس بن مالك ثابت بن قيس وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنط فقال: يا عم ما يحبسك أن لا تجيء؟ قال: الآن يا ابن أخي. وجعل يتحنط -يعني من الحنوط -ثم جاء فجلس، فذكر في الحديث انكشافاً من الناس فقال: هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عودتم أقرانكم. 2068 - * روى الحاكم عن أنس: أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة، وقد تحنط، ولبس ثوبين أبيضين، فكفن فيهما، وقد انهزم القوم، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به

_ (1) مسلم (1/ 111) 1 - كتاب الإيمان -52 - باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله. 2066 - أحمد في مسنده (3/ 137). 2067 - البخاري (6/ 51) 56 - كتاب الجهاد -39 - باب التحنط عند القتال. 2068 - المستدرك (3/ 245). وصححه ووافقه الذهبي.

هؤلاء، وأعتذر من صنيع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم! خلوا بيننا وبينهم ساعة. فحمل، فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل في النوم، فقال له: إنها في قدر تحت إكاف، بمكان كذا وكذا. وأوصاه بوصايا، فنظرو فوجدوا الدرع كما قال، وأنفذوا وصاياه. 2069 - * روى الترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس". وذكر الذهبي في السير عن الزهري: أن وفد تميم قدموا، وافتخر خطيبهم بأمور، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس: "قم فأجب خطيبهم". فقام، فحمد الله وأبلغ، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بمقامه. 2070 - * روى البخاري عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة". قال أبو عبد الله: لا يتابع فيه عن ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر: قال ابن عبد البر: اختلف في امرأة ثابت بن قيس، فذكر البصريون أنها جميلة بنت أبي، وذكر المدنيون أنها حبيبة بنت سهل. قلت (القائل ابن حجر): والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين لشهرة الخبرين وصحة الطريقين، واختلاف السياقين. قال الذهبي: وقيل: ولدت محمداً بعد، فجعلته في لفيف وأرسلت به إلى ثابت. فأتى به

_ 2069 - الترمذي (5/ 667) 50 - كتاب المناقب -33 - باب مناقب معاذ. وقال هذا حديث حسن. والمستدرك (3/ 233). وصححه ووافقه الذهبي. 2070 - البخاري (9/ 385) 68 - كتاب الطلاق -12 - باب الخلع وكيف الطلاق فيه.

رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحنكه وسماه محمداً. فاتخذ له مرضعاً. قال الحاكم: كان ثابت على الأنصار يوم اليمامة. ثم روى في ترجمته أحاديث منها لعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة، فأتيت ابنة ثابت بن قيس، فذكرت قصة أبيها، قالت: لما نزلت {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} جلس أبي يبكى. فذكرت الحديث. وفيه: فلما استشهد، رآه رجل: فقال: إني لما قتلت، انتزع درعي رجل من المسلمين، وخبأه، فأكب عليه برمة، وجعل عليها رحلاً، فائت الأمير، فأخبره، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، وإذا أتيت المدينة، فقل لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن علي من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان عتيق، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه. فأتاه، فأخبره الخبر، فنفذ وصيته، فلا نعلم أحداً بعد ما مات أنفذت وصيته غير ثابت بن قيس رضي الله عنه (1). وقد قتل محمد، ويحيى، وعبد الله بنو ثابت بن قيس يوم الحرة. ا. هـ. * * *

_ (1) أخرجه الحاكم وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 321، 322) وقال: رواه الطبراني، وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح والظاهر أن بنت ثابت صحابية لأنها قالت: سمعت أبي. والله أعلم. قال محقق السير: وذكره الحافظ في المطالب العالية ونسبه إلى أبي يعلى، وقال البوصيري: أصله في صحيح البخاري ومسلم والترمذي من حديث أنس. والبرمة: قدر من الحجارة.

29 - أبو هريرة رضي الله عنه

29 - أبو هريرة رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: قال النووي في مواضع من كتبه: اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من ثلاثين قولا. وقال القطب الحلبي اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولاً مذكورة في الكنى للحاكم وفي الاستيعاب وفي تاريخ ابن عساكر. قلت: وجه تكثره أنه يجتمع في اسمه خاصة عشرة أقوال مثلا وفي اسم أبيه نحوها ثم تركبت ولكن لا يوجد جميع ذلك منقولاً. وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً وذكر أبو محمد بن حزم أن مسند بقي بن مخلد احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلثمائة حديث وكسر. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن عكرمة أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة يقول: أسبح بقدر ذنبي. وفي الحلية من تاريخ أبي العباس السراج بسند صحيح عن مضارب بن جزء: كنت أسير من الليل فإذا رجل يكبر فلحقته فقلت ما هذا؟ قال: أكثر شكر الله على أن كنت أجيراً لبسرة بنت غزوان لنفقة رحلي وطعام بطني فإذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم فزوجنيها الله فأنا أركب وإذا نزلت خدمت. وأخرجه ابن خزيمة من هذا الوجه وزاد: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت فقالت: لا أريم [لا أبرح] حتى تجعل لي عصيدة فها أنا ذا أتيت على نحو من مكانها، قلت: لا أريم حتى تجعل لي عصيدة. وأخرج ابن أبي الدنيا في المختصرين بسند صحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على أبي هريرة وهو شديد الوجع فاحتضنته، فقلت: اللهم اشف أبا هريرة. فقال: اللهم لا ترجعها. قالها مرتين، ثم قال: إن استطعت أن تموت فمت والله الذي نفس أبي هريرة بيدة ليأتين على الناس زمان يمر الرجل على قبر أخيه فيتمنى أنه صاحبه. قلت: وقد جاء هذا الحديث مرفوعاً عن أبي هريرة عن عمير بن هانئ قال: كان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصدغي معاوية اللهم لا تدركني سنة ستين. وأخرج أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: لا تضربوا علي

فسطاطاً ولا تتبعوني بمجمرة وأسرعوا بي. وكانت وفاته بقصره بالعقيق فحمل إلى المدينة. قال هشام بن عروة وخليفة وجماعة: توفي أبو هريرة سنة سبع وخمسين. وقال الهيثم بن عدي وأبو معشر وضمرة بن ربيعة: مات سنة ثمان وخمسين. وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: مات سنة تسع وخمسين. ا. هـ. وقال الذهبي: الإمام الفقيه المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو هريرة الدوسي اليماني. سيد الحفاظ الأثبات. اختلف في اسمه على أقوال جمة؛ أرجحها: عبد الرحمن بن صخر. وقيل: ابن غنم. والمشهور عنه أنه كني بأولاد هرة برية. قال: وجدتها، فأخذتها في كمي؛ فكنيت بذلك. قال الطبراني: وأمه رضي الله عنها، هي: ميمونة بنت صبيح. حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه -لم يلحق في كثرته -وعن أبي، وأبي بكر، وعمر، وأسامة، وعائشة، والفضل، وبصرة بن أبي بصرة، وكعب الحبر. حدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين؛ فقيل: بلغ عدد أصحابه ثمان مئة. ا. هـ. وذكر الذهبي في السير (1) عن أبي هريرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ممن أنت؟ " قلت: من دوس. قال: "ما كنت أرى أن في دوس أحداً فيه خير". وذكر أيضاً (2) عن أبي هريرة، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، وقدمت المدينة مهاجراً، فصليت الصبح خلف سباع بن عرفطة -كان استخلفه -فقرأ في السجدة الأولى بسورة مريم، وفي الآخرة: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.

_ (1) السير (2/ 588). ورجاله ثقات. (2) السير (2/ 589) وإسناده قوي.

فقلت: ويل لأبي! قل رجل كان بأرض الأزد، إلا وكان له مكيالان: مكيال لنفسه، وآخر يبخس به الناس. 2071 - * روى البخاري عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. 2072 - * روى البخاري عن مجاهد: أن أبا هريرة كان يقول: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رأني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "يا أبا هر". قلت: لبيك رسول الله. قال: "الحق". ومضى. فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل لبناً في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا: أهداه لك فلان -أو فلانة -قال: "أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي". قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوي بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعيطهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن. ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد على

_ 2071 - البخاري (13/ 303) 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة -16 - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم. 2072 - البخاري (11/ 281) 81 - كتاب الرقاق -17 - باب كيف عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.

القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه علي يده، فنظر إلي فتبسم فقال: "أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "بقيت أنا وأنت". قلت: صدقت يا رسول الله. قال: "اقعد فاشرب". فقعدت فشربت. فقال: "اشرب". فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أحد له مسلكاً. قال: "فأرني": فأعطيته القدح، فحمد الله وسمي وشرب الفضلة. 2073 - * روى مسلم عن أبي هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اهد أم أبي هريرة": فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما جئت فصرت إلى الباب. فإذا هو مجاف. فسمعت أمي خشف قدمي. فقالت: مكانك! يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء. قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها. ففتحت الباب. ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قال قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة. فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قال قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم! حبب عبيدك هذا -يعني أبا هريرة -وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين" فما خلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني. قال الذهبي: وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة.

_ 2073 - مسلم (4/ 1938) 44 - كتاب فضائل الصحابة -35 - باب من فضائل أبي هريرة الدوسي.

عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك"؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه، قال: "اجمعها فصرها إليك". فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني (1) ا. هـ. 2074 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر. والله الموعد. ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضيهم. وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. فأشهد إذا غابوا. وأحفظ إنا نسوا. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئاً سمعه". فبسطت بردة علي. حتى فرغ من حديثه. ثم جمعتها إلى صدري. فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثني به. ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئاً أبداً: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) (2) إلى آخر الآيتين. وفي رواية لمسلم (3) عن أبي هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله الموعد. كنت رجلاً مسكيناً، أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئاً سمعه مني". فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه. ثم ضمته إلي. فما نسيت شيئاً سمعته منه.

_ (1) السير (2/ 593). ورجاله ثقات. النمرة: شملة بها خطوط بيض وسود. 2074 - البخاري (4/ 287) 34 - كتاب البيوع -1 - باب ما جاء في قول الله عز وجل: (فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا). ومسلم (4/ 1940) 44 - كتاب فضائل الصحابة -35 - باب من فضائل أبي هريرة. الصفق بالأسواق: المقصود صوت وقع يد البائع على يد المشتري عند عقد التبايع في البيع والتجارة. (2) البقرة: 159، 160. (3) مسلم (4/ 1939) 44 - كتاب فضائل الصحابة -35 - باب من فضائل أبي هريرة.

2075 - * روى البخاري عن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما، فبثثته في الناس، وأما الآخر، فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال محقق السير: وقد حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه، ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم. كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستحباب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بقليل. وقال ابن المنير: جعل بعضهم هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهراً وباطناً، وذلك الباطل، إنما حاصله الانحلال من الدين، وإنما أراد أبو هريرة بقوله: قطع. أي: قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم، يؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها. قال الذهبي: هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول، أو الفروع؛ أو المدح والذم؛ أما حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه؛ فإنه من البينات والهدى. وفي "صحيح البخاري": قول الإمام علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وكذا لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء، لأوذي، بل لقتل. ولكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة، فله ما نوى وله أجر -وإن غلط -في اجتهاده. وقال الحافظ في "الفتح": وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود: ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم في مقدمة صحيحه.

_ 2075 - البخاري (1/ 216) 3 - كتاب العلم -42 - باب حفظ العلم.

2076 - * روى الحاكم عن سعيد بن أبي الحسن، قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً من أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن مروان -زمن إمرته على المدينة -أراد أن يكتب حديثه كله، فأبى، وقال: ارو كما روينا. فلما أبى عليه تغفله مروان، وأقعد له كاتباً ثقفاً ودعاه: فجعل أبو هريرة يحدثه، ويكتب ذاك الكتب، حتى استفرغ حديثه أجمع. ثم قال مروان: تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع؟ قال: وقد فعلت! قال: نعم. قال: فاقرؤوه علي، فقرؤوه. فقال أبو هريرة: أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعني، تمحه. قال: فمحاه. ثم قال مروان: تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع، قال: وقد فعلت! قال: نعم. قال: فاقرؤوه علي، فقرؤوه. فقال أبو هريرة: أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعني، تمحه. قال: فمحاه. 2077 - * روى البخاري عن وهب بن منبه، عن أخيه همام سمعت أبا هريرة يقول: ما أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً مني عنه إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، وكنت لا أكتب. قال محقق السير: وهذا الحديث يدل على أن أبا هريرة كان يجزم بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة. وقد قال العلماء: إن السبب فيه من جهات. أحدها: أن عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلت الرواية عنه. ثانيها: أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصدياً فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمان مئة نفس من التابعين. ثالثها: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يحدثه به.

_ 2076 - المستدرك (3/ 509). ورجاله ثقات. 2077 - البخاري (1/ 206) 3 - كتاب العلم -39 - باب كتابة العلم.

رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بجمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيه ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. ا. هـ. وذكر الذهبي في السير (1) عن السائب بن يزيد: سمع عمر يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس؛ وقال لكعب [الأحبار]: لتتركن الحديث، أو لألحقنك بأرض القردة. قال ابن كثير بعد أن أورد الخبر: وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك. قال الذهبي: كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره. فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر، كانوا يمنعون منه، مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غض لم يشب؛ فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، فبالحري أن نزجر القوم عنه، فياليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون -والله- الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع، والملاحم والزهد، نسأل الله العافية. فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغر المؤمنين، فهذا ظالم لنفسه جانٍ على السنن والآثار، يستتاب من ذلك؛ فإن أناب وأقصر، وإلا فهو فاسق؛ كفى به إثمًا أن يحدث بكل ما سمع. وإن هو لم يعلم، فليتورع، وليستعن بمن يعينه على تنقية مروياته. نسأل الله العافية؛ فلقد عم البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون؛ فلا عتبى على الفقهاء وأهل الكلام.

_ (1) السير (2/ 600). وإسناده صحيح.

أقول: الظاهر أن هذا كان من عمر قبل أن يتأكد من ضبط أبي هريرة بدليل أن أبا هريرة استمر بالتحديث، أما نهيه لكعب الأحبار فلأنه كان يتحدث عن الإسرائيليات مع صدقه لكن عمر خشي أن تؤثر هذه الإسرائيليات على فطرة الصحابة وتبعدهم عن الإقبال الكامل على القرآن. قال محقق السير: قال محدث الديار الشامية في عصره العلامة الشيخ بدر الدين الحسني رحمه اله ورضي عنه فيما نقله عنه الشيخ العلامة محمود ياسين في مجلة الهداية الإسلامية: لا يجوز إسناد حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا نص على صحة هذا الحديث حافظ من الحفاظ المعروفين، فمن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعلم صحة ذلك من طريق أحد الحفاظ يوشك أن يصدق عليه حديث: "من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار". فليحذر الخطباء والكتاب والمدرسون والوعاظ من إسناد حديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلموا صحته من طريق حافظ مشهور من حفاظ الحديث، وعليهم إذا لم يعلموا ذلك أن يذكروا الحديث معزوا إلى الكتاب الذي نقلوا منه، كالترمذي، والنسائي مثلاً، وبذلك يخرجون من العهدة، أما الذين يحملون بأيديهم الكتب التي لا قيمة لها عند علماء الحديث الشريف ككثير من كتب الأخلاق والوعظ المنتشرة بالأيدي، فلا يكفي عزو الحديث إليها، ولا يخرج القارئ من الوزر. 2078 - * روى أحمد عن عاصم بن كليب: حدثنا أبي: سمع أبا هريرة، وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وذكر الذهبي في السير (1) عن بسر بن سعيد، قال: اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة؛ فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 2078 - أحمد في مسنده (2/ 413). وإسناده قوي. (1) السير (2/ 606). وأورده ابن كثير وإسناده صحيح.

قال الذهبي: مسنده: خمسة آلاف وثلاث مئة وأربعة وسبعون حديثًا. المتفق في البخاري ومسلم منها ثلاث مئة وستة وعشرون. وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثًا، ومسلم بثمانية وتسعين حديثًا. 2079 - * روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أسمع منك أشياء فلا أحفظها، قال: "ابسط رداءك". فبسطته، فحدث حديثًا كثيرًا، فما نسيت شيئًا حدثني به. وللترمذي (1) في أخرى: قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسطت ثوبي عنده، ثم أخذه، فجمعه على قلبي، فما نسيت بعده. ذكر الذهبي في السير (2): محمد بن كناسة الأسدي، عن إسحاق بن سعيد، عن أبيه، قال: دخل أبو هريرة على عائشة، فقالت له: أكترث يا أبا هريرة عن رسول الله! قال: إي والله يا أماه، ما كانت تشغلني عنه المرآة، ولا المكحلة، ولا الدهن. قالت: لعله. 2080 - * روى الحاكم عن عائشة أنها دعت أبا هريرة، فقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟ قال: يا أماه، إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء.

_ 2079 - الترمذي (5/ 684) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب لأبي هريرة. وقال هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال. (1) الترمذي (5/ 682) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب لأبي هريرة. وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (2) السير (2/ 604). ورجاله ثقات. وذكره الحافظ في الغصابة ونسبه لابن سعد، وجود إسناده وهو في تاريخ ابن عساكر، وذكره ابن كثير في البداية عن سعيد. 2080 - المستدرك (3/ 509) وصححه ووافقه الذهبي.

2081 - * روى مالك عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري: أنه كان جالسًا مع ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن البكير، فسأل عن رجلٍ طلق ثلاثًا قبل الدخول. فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس -وكانا عند عائشة- فذهب، فسألهما. فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة؛ فقد جاءتك معضلة. فقال: الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها. وقال ابن عباس مثله. أقول: الظاهر أنهم اعتبروا أن الطلقة الواحدة تجلعها بائنة وذلك نص قرآني، والثلاث معًا تجعلها بائنة بينونة كبرى فلا تحل لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا من جملة الأدلة التي تعاضدت حتى استقر بالإجماع على أن الثلاثة دفعة واحدة توجب البينونة الكبرى على خلاف ما ذهب إليه ابن تيمية بعد قرون من انعقاد الإجماع. 2082 - * روى مسلم عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح (أصلي نافلة) فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. قول عائشة: ولو أدركته لرددت عليه. أي: لأنكرت عليه، وبينت له أن الترتيل في الحديث أولى من السرد. قال الحافظ: واعتذر عن أبي هريرة بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد اقتصر، فتزدحم القوافي على في. قال الذهبي: وأصح الأحاديث ما جاء عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

_ 2081 - الموطأ (2/ 571) 29 - كتاب الطلاق -15 - باب طلاق البكر. 2082 - مسلم (4/ 1940) 44 - كتاب فضائل الصحابة -35 - باب من فضائل أبي هريرة الدوسي.

وما جاء عن ابن عون، وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأين مثل أبي هريرة في حفظه وسعة علمه. وذكر الذهبي في السير (1) عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعًا؛ فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا: يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا. قلت: يا أبا هريرة، كيف تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثًا. 2083 - * روى مالك عن حميد بن مالك بن خثيمٍ، أنه قال: كنت جالسًا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق. فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب. فنزلوا عنده. قال حميد: فقال أبو هريرة: اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئًا. قال: فوضعت ثلاثة أقراص في صحفةٍ، وشيئًا من زيت وملحٍ، ثم وضعتها على رأسي، وحملتها إليهم. فلما وضعتها بين أيديهم، كبر أبو هريرة، وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر. فلم يصب القوم من الطعام شيئًا. فلما انصرفوا، قال: يا ابن أخي، أحسن إلى غنمك، وامسح الرعام عنها، وأطب مراحها، وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة. والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان. 2084 - * روى ابن سعد عن معمر، عن أيوب، عن محمد: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله، وعدو كتابه؟

_ (1) السير (2/ 609). ورجاله ثقات. وذكره الحافظ في الإصابة ونسبه لأحمد في الزهد وصحح إسناده. يعتقبون: يتناوبون. 2083 - الموطأ (2/ 933) 49 - كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم -10 - باب جامع ما جاء في الطعام والشراب. وسنده صحيح والبخاري في كتاب الأدب عن أبي أويس عن مالك ووثق النسائي حميدًا. الأقراص: الأرغفة. الرعام: مخاط رقيق يجري من أنوف الغنم. وأطب مراحها: نظفه. الثلة: جماعة الغنم، قليلة كانت أو كثيرة، وقيل: الثلة: الكثير منها. 2084 - الطبقات الكبرى (4/ 235). ورجاله ثقات.

فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نتجت، وغلة رقيقٍ لي، وأعطية تتابعت. فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليوليه، فأبى. فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرًا منك: يوسف عليه السلام! فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال: فهلا قلت: خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي. ذكر الذهبي في السير (1) عن محمد بن زياد قال كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة؛ فإذا غضب عليه، بعث مروان، وعزله، قال: فلم يلبث أن نزع مروان، وبعث أبا هريرة، فقال لغلامٍ أسود: قف على الباب، فلا تمنع إلا مروان. ففعل الغلام، ودخل الناس، ومنع مروان. ثم جاء نوبة، فدخل، وقال: حجبنا عنك. فقال: إن أحق من لا أنكر هذا لأنت. 2085 - * روى مسلم عن ابن أبي رافع، قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة. فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة. وذكر الذهبي في السير (2) عن أبي رافع قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب حمارًا ببرذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، فيسير، فيلقى الرجل، فيقول:

_ (1) السير (2/ 612). ورجاله ثقات. 2085 - مسلم (2/ 597) 7 - كتاب الجمعة -16 - باب ما يقرأ في صلاة الجمعة. (2) السير (2/ 614). ورجاله ثقات، وأبو رافع اسمه نفيع الصائغ المدني وهو ثقة ثبت. الخلبة: واحد الخلب: الحبل الرقيق الصلب من الليف والقطن وغيرهما.=

الطريق، قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان، وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، فلا يشعرون، حتى يلقي نفسه بينهم، ويضرب برجليه، فيفزع الصبيان، فيفرون. وربما دعاني إلى عشائه، فيقول: دع العراق للأمير. فأنظر، فإذا هو ثريدة بزيت. هذه بعض مداعبات أبي هريرة للناس وكان عنده مرح ودعابة رضي الله عنه. وذكر الذهبي في السير (1): ثعلبة بن أبي مالك القرطي قال: أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسع الطريق للأمير. 2086 - * روى الحاكم عن محمد بن قيس بن محرمة: أن رجلاً أتى زيد بن ثابت، فسأله عن شيء، فقال: عليك بأبي هريرة. فإني بينما أنا وهو وفلان في المسجد، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ندعو، ونذكر ربنا. فجلس إلينا، فسكتنا. فقال: "عودوا للذي كنتم فيه". فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة. فجعل رسول الله يؤمن. ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم، إني أسألك ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علمًا لا ينسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمين". فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علمًا لا ينسى! قال: "سبقكما الغلام الدوسي". 2087 - * روى أحمد والحاكم عن ابن عمر: أنه مر بأبي هريرة -وهو يحدث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تبع جنازة، فله قيراط". فقال: انظر ما تحدث عن رسول الله! فقام أبو هريرة، فأخذه بيده إلى عائش، فقال لها: أنشدك بالله، هل سمعت رسول الله يقول: "من تبع جنازة ... " -الحديث- فقالت: اللهم نعم.

_ = العراق: العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم. (1) السير (2/ 614). ورجاله ثقات. 2086 - المستدرك (3/ 508). وصححه، وقال الذهبي: حماد بن شعيب ضعيف. وقال محقق السير (2/ 616): لكنه لم ينفرد به فقد تابعه الفضل بن العلاء وهو صدوق. 2087 - أحمد في مسنده (2/ 2). والمستدرك (3/ 511). وصححه ووافقه الذهبي.=

فقال أبو هريرة: لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي، ولا صفق في الأسواق؛ وإنما كنت أطلب من رسول الله كلمة يعلمنيها: أو أكلة يطعمنيها. فقال ابن عمر: كنت ألزمنا لرسول الله، وأعلمنا بحديثه. 2088 - * روى الحاكم، عن عاصم بن محمد، عن أبيه: رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائمًا، ويقول: حدثنا القاسم صلى الله عليه وسلم الصادق الصدوق. فلا يزال يحدث حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمامة، فيجلس. ذكر الذهبي في السير (1) عن عمير بن هانئ العنسي: قال أبو هريرة: اللهم، لا تدركني سنة ستين. فتوفي فيها، أو قبلها بسنة. وقال محققه: وذكره الحافظ في "الفتح" في شرحه لحديث أبي هريرة المرفوع: "هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش". ونسبه لابن أبي شيبة بلفظ: إن أبا هريرة كان يمشي في السوق، ويقول: اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان. وقال: وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها، وبقي إلى سنة 64، فمات، ثم ولي ولده معاوية، ومات بعد أشهر. وأخرج ابن سعد (2) عن شعبة، عن محمد بن زياد: رأيت على أبي هريرة كساء خزم. قال الذهبي: قال ابن حزم في كتاب: "الإحكام في أصول الأحكام": المتوسطون فيما روي عنهم من الفتاوى: عثمان، أبو هريرة، عبد الله بن عمرو بن العاص، أم سلمة، أنس، أبو سعيد، أبو موسى، عبد الله بن الزبير، سعد بن أبي وقاص، سلمان، جابر، معاذ، أبو بكر الصديق.

_ = الودي: بفتح الواو، كسر الدال، وتشديد الياء: صغار النخل، الواحدة: ودية. الصفق: المرة من التصفيق، والمراد هنا: التبايع، لأن المتبايعين يضع أحدهما يده على يد الآخر، يريد أبو هريرة: أنه لم يشغله عن حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زرع ولا تجارة. 2088 - المستدرك (3/ 512). وصححه ووافقه الذهبي. (1) السير (2/ 626). ورجاله ثقات. (2) الطبقات الكبرى (4/ 333). وإسناده صحيح.

فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئٍ منهم جزء صغير. ويضاف إليهم: الزبير: طلحة، عبد الرحمن، عمران بن حصين، أبو بكرة الثقفي، عبادة بن الصامت، معاوية. ثم باقي الصحابة مقلون في الفتيا، لا يروى عن الواحد لا المسألة والمسألتان. ثم سرد ابن حزم عدة من الصحابة، منهم: أبو عبيدة، وأبو الدرداء، وأبو ذر، جرير، وحسان. 2089 - * روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمراتٍ، فقلت: يا رسول الله ادع الله فيهن بالبركة فضمهن ثم دعا لي فيهن بالبركة، فقال: "خذهن واجعلهن في مزودك هذا أو في هذا المزود، كلما أردت أن تأخذ منه شيئًا فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثرًا". فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسقٍ في سبيل الله، فكنا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوي حتى كان يوم قتل عثمان فإنه انقطع. 2090 - * روى الترمذي عن مالك بن أبي عامرٍ قال: جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله فقال: يا أبا محمد أرأيت هذا اليماني، يعني أبا هريرة، هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، نسمع منه مالا نسمع منكم، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. قال: أما أن يكون سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فلا أشك إلا أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وذاك أنه كان مسكينًا لا شيء له ضيفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يده مع يد رسول الله صلى الله

_ 2089 - أحمد في مسنده (2/ 352). والترمذي (5/ 685) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب لأبي هريرة. وقال: هذا حديث حسن غريب. الوسق: مكيلة معلومة عندهم، يقال: هو حمل بعير. وهو ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. الحقو: معقد الإزار. والمزود: ما يجعل فيه الزاد من شراب ونحوه. 2090 - الترمذي (5/ 684) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب لأبي هريرة. وقال: هذا حديث حسن غريب.

عليه وسلم وكنا نحن أهل بيوتاتٍ وغنى، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار. فلا نشك إلا أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نسمع، ولا نجد أحدًا فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. 2091 - * روى أحمد والحاكم عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جرئيًا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره. 2092 - * روى البزار عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي وإذا لم أرك لم تطب نفسي أو كلمة نحوها. 2093 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: كنت ألزم النبي صلى الله عليه وسلم لشبع بطي، حين لا آكل الخمر، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصباء؛ وأستقرئ الرجل الآية -وهي معي- كي ينقلب بي فيطعمني. وخير الناس للمساكين جعفر ابن أبي طالب، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شيء، فنشتقها، فنعلق ما فيها. وفي رواية الترمذي (1) قال: إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن، أنا أعلم بها منه، ما أسأله إلا ليطعمني شيئًا، وكنت إذا سألت جعفر

_ 2091 - أحمد في مسنده (5/ 139). والحاكم في المستدرك (3/ 510) وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 361) وقال: رواه عبد الله بن أحمد في المسند في حديث طويل في علامات النبوة ورجاله ثقات. 2092 - البزار: كشف الأستار (2/ 268). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 362): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أبي ميمونة الفارسي وهو ثقة. 2093 - البخاري (9/ 557) 70 - كتاب الأطعمة -32 - باب الحلوى والعسل. الخمير: الطعام المختبر. استقرأت: فلانًا آية كذا، أي: طلبت إليه أن يقرئنيها. العكة: ظرف السمن. اللعق: أخذ الطعام بالأصابع ولحسها، وذلك لقلة الشيء. (1) الترمذي (5/ 655) 50 - كتاب المناقب -30 - باب مناقب جعفر بن أبي طالب. وقال: هذا حديث غريب.

ابن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء أطعمينا شيئًا. فإذا أطعمتنا أجابني، وكان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين. 2094 - * روى الترمذي عن عبد الله بن رافع رضي الله عنه قال: قلت لأبي هريرة: لم كنيت بأبي هريرة؟ قال: أما تفرق مني؟ قلت: بلى، والله إني لأهابك. قال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار وسرحت الغنم ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. * * *

_ 2094 - الترمذي (5/ 686) 50 - كتاب المناقب -47 - باب مناقب لأبي هريرة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. تفرق: الفرق: الفزع والخوف. هريرة: الهريرة: تصغير الهرة.

30 - حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

30 - حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: حاطب بن أبي بلتعة بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها مثناة ثم مهملة مفتوحات ابن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزي ... يقال إنه حالف الزبير، وقيل كان مولى عبيد الله بن حميد بن زهير ابن الحارث بن أسد فكاتبه فأدى مكاتبته. اتفقوا على شهوده بدرًا، وثبت ذلك في الصحيحين من حديث علي في قصة كتابة حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فنزلت فيه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم) الآية فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: إنه شهد بدرًا. واعتذر حاطب بأنه لم يكن له في مكة عشيرة تدفع عن أهله فقبل عذره. وروى قصته ابن مردويه من حديث ابن عباس فذكر معنى حديث علي وفيه: فقال: "يا حاطب ما دعاك إلى ما صنعت؟ " فقال: يا رسول الله كان أهلي فيهم فكتبت كتابًا لا يضر الله ولا رسول. وروى ابن شاهين والباوردي والطبراني وسمويه من طريق الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: وحاطب رجل من أهل اليمن، وكان حليفًا للزبير، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شهد بدرًا، وكان بنوه وإخوته بمكة فكتب حاطب من المدينة إلى كبار قريش ينصح لهم فيه، فذكر الحديث نحو حديث علي، وفي آخره: فقال حاطب: والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكنني كنت أمرأ غريبا ولي بمكة بنون وإخوة الحديث، وزاد في آخره: فأنزل الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (1) الآيات. ورواه ابن مردويه من حديث أنس وفيه نزول الآية. ورواه ابن شاهين من حديث ابن عمر بإسناد قوي. وروى مسلم وغيره من طريق أبي الزبير عن جابر أن عبدًا لحاطب ابن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبًا فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. فقال: "لا فإنه شهد بدرًا والحديبية".

_ (1) الممتحنة: 1.

وروى ابن السكن من طريق محمد بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن حاطب: سممعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يزوج المؤمن في الجنة ثنتين وسبعين زوجة سبعين من نساء الجنة وثنتين من نساء الدنيا" وأغرب أبو عمر فقال: لا أسلم له غير حديث واحد: "من رآني بعد موتي". الحديث، قلت: وقد ظفرت بغيره كما ترى ثم وجدت له ثلاثة أحاديث غيرها. وروى مالك في الموطأ له قصة مع رفيقه في عهد عمر وقال المرزباني في معجم الشعراء: كان أحد فرسان قريش في الجاهلية وشعرائها. وقال ابن أبي خيثمة: قال المدائني: مات حاطب في سنة ثلاثين في خلافة عثمان وله خمس وستون سنة. وكذا رواه الطبراني عن يحيى ابن بكير. ا. هـ. قال الذهبي في ترجمته: من مشاهير المهاجرين؛ شهد بدرًا والمشاهد. وكان رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، صاحب مصر. وكان تاجرًا في الطعام، له عبيد. وكان من الرماة الموصوفين. ذكره الحاكم في "مستدركه" فقال: كان حسن الجسم، خفيف اللحية، أجنى (1)، إلى القصر ما هو، شثن الأصابع (2). اهـ. 2095 - * روى مسلم عن جابر: أن عبدًا لحاطب شكا حاطبًا فقال: يا نبي الله، ليدخلن النار. قال: "كذبت، لا يدخلها فإنه قد شهد بدرًا والحديبية". 2096 - * روى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن أبي رافع -وهو كاتب علي- قال:

_ (1) أجنى: في كاهله انحناء على صدره ولم يبلغ الاحديداب. (2) شثن الأصابع: غليظها. 2095 - مسلم (4/ 1942) 44 - كتاب فضائل الصحابة -36 - باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب ابن أبي بلتعة. 2096 - البخاري (4/ 1941، 1942) 44 - كتاب فضائل الصحابة -36 - باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب ابن أبي بلتعة.=

سمعت عليًا رضي الله عنه وهو يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد. فقال: "ائتوا روضة خاجٍ. فإن بها ظعينة معها كتاب. فخذوه منها". فانطلقنا تعادى بنا خيلنا. فإذا نحن بالمرأة. فقلنا: اخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين، من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حاطب! ما هذا؟ " قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأ ملصقًا في قريش قال سفيان: (كان حليفًا لهم. ولم يكن من أنفسها) وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي. ولم أفعله كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني. ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق". فقال عمر: دعني. يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرًا. وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم. فقد غفرت لكم". فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (1). وقال الذهبي: وقد أتى بعض مواليه إلى عمر بن الخطاب يشكون منه من أجل النفقة عليهم، فلامه في ذلك. وعبد الرحمن ولده، ممن ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله رؤية. يروي عنه ولده الفقيه يحيى، وعروة بن الزبير، وغيرهما. توفي سنة ثمان وستين. ومات حاطب سنة ثلاثين. ا. هـ.

_ = روضة خاخ: هي بخاءين معجمتين. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء كافة من جميع الطوائف في جميع الروايات والكتب. وهي بين مكة والمدينة. بقرب المدينة. فإن بها ظعينة: الظعينة هنا الجارية. وأصلها الهودج. وسميت بها الجارية لأنها تكون فيه. تعادى: أي تجري. عقاصها: أي شعرها المضفور، جمع عقيصة. (1) الممتحنة: 1.

31 - جليبيب رضي الله عنه

31 - جليبيب رضي الله عنه قال ابن حجر: جليبيب غير منسوب .. وهو تصغير جلباب .. روى مسلم من حديث حماد عن ثابت عن كنانة بن نعيم عن أبي برزة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مغزى له فأفاء الله فقال: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: نفقد فلانًا وفلانًا قال: ولكني أفقد جليبيبًا فذكر الحديث. وأخرجه النسائي. وله ذكر في حديث أنس في تزويجه بالأنصارية وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لكنك عند الله لست بكاسد". وهو عند البرقاني في مستخرجه في حديث أبي برزة أيضًا، وقد أخرجه أحمد مطولاً، وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق. وحكى ابن عبد البر في ترجمته أنه نزل في قصته (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الآية. ولم أر ذلك في شيء من طرقه الموصولة من حديث أنس ومن حديث أبي برزة. ا. هـ. 2097 - * روى أحمد والبزار عن أنس قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له جليبيب في وجهه دمامة فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التزويج، قال: إذن تجدني كاسدًا. فقال: "غير أنك عند الله لست بكاسد". 2098 - * روى مسلم عن أبي برزة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: "هل تفقدون من أحدٍ؟ " قالوا: نعم. فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال: "هل تفقدون من أحدٍ؟ " قالوا: نعم. فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال: "هل تفقدون من أحدٍ؟ " قالوا: لا. قال: "لكني أفقد جليبيبا. فاطلبوه". فطلب في القتلى. فوجدوه إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم، ثن قتلوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: "قتل سبعة. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه". قال: فوضعه على ساعديه. ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فحفر له ووضع في قبره. ولم يذكر غسلاً.

_ 2097 - أحمد في مسنده: (3/ 161). وأخرجه نحوه البزار مطولاً: كشف الأستار (30/ 275، 276) كتاب علامات النبوة، باب مناقب جليبيب. وقال الهيثمي في المجمع (9/ 368): رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. 2098 - مسلم (4/ 1918) 44 - كتاب فضائل الصحابة -27 - باب من فضائل جليبيب رضى الله عنه.

2099 - * روى أحمد عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبًا كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا تدخلن عليكم جليبيبًا إن دخل عليكم لأفعلن ولأفعلن. قال: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: "زوجني ابنتك". قال: نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة عين. قال: "إني لست أريدها لنفسي". قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: "لجليبيب". قال: أشاور أمها. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك. قالت: نعم ونعمة عين. قال: إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجليبيب. قالت: لجليبيب انيه لجليبيب انيه لا لعمر الله لا نزوجه. فلما أن أراد ليقوم ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ادفعوني إليه فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم له. قال: فلما أفاء الله عز وجل عليه قال: "هل تفقدون من أحد؟ ". قالوا: لا. قال: "لكني أفقد جليبيبًا". قال: "فاطلبوه". فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه". مرتين أو ثلاثًا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره لم يذكر أنه غسله. قال ثابت: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتًا هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم صب عليها الخير صبًا ولا تجعل عيشها كدًا كدًا". قال: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها.

_ 2099 - أحمد في مسنده (4/ 422). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 367). وقال: رواه أحمد روجاله رجال الصحيح. أيم: الأيم: المرأة التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا. كدا: الكد الشدة والتعب.

32 - حارثة بن سراقة رضي الله عنه

32 - حارثة بن سراقة رضي الله عنه قال ابن حجر: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري النجاري، وأمه الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك .. استشهد يوم بدر. وروى أحمد والطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس والبخاري والنسائي من غير وجه عن حميد عن أنس والترمذي من طريق سعيد عن قتادة عن أنس فاتفقوا على أنه قتل يوم بدر. وهكذا ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأبو الأسود فيمن شهد بدرًا وقتل بها من المسلمين ولم يختلف أهل المغازي في ذلك، واعتمد ابن منده على ما وقع في رواية لحماد بن سلمة فقال: استشهد يوم أحد، وأنكر ذلك أبو نعيم فبالغ كعادته، ووقع في رواية للطبراني من طريق حماد، والبغوي من طريق حميد أنه قتل يوم أحد فالله أعلم والمعتمد الأول. ا. هـ. 2100 - * روى البخاري عن أنس أن أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله: ألا تحدثني عن حارثة؟ -وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أم حارثة: إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". * * *

_ 2100 - البخاري (6/ 25) 56 - كتاب الجهاد، باب: 14. سهم غرب: سهم بعيد من غير توقع.

33 - قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما

33 - قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال ابن كثير في ترجمته: قيس بن سعد بن عبادة الخرزجي صحابي جليل كأبيه، وله في الصحيحين حديث، وهو القيام للجنازة، وله في المسند حديث في صوم عاشوراء، وحديث غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم وغير ذلك، وخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر فأكلوا منها، وأقاموا عليها شهرًا حتى سمنوا، وكان قيس سيدًا مطاعًا كريمًا ممدحًا شجاعًا، ولاه على نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق، فاستخفه معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر. وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلة فأر بيتي، فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية!! املأوا بيتها خبزًا ولحمًا وسمنًا وتمرًا. وقال غيره: كانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان ينادي له مناد: هلموا إلى اللحم والثريد وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله، وقال عروة بن الزبير: باع قيس ابن سعد من معاوية أرضًا بتسعين ألفًا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفًا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده، فقال لزوجته -قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق- إني أرى قلة من عادني في مرضي هذا، وإني لأرى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم، وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد، وكان يقول: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال. وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفًا فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدًا شيئًا فنرجع فيه. وقال الهيثم بن عدي: اختلف ثلاثة

عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الآخر: قيس ابن سعد، وقال الآخر: عرابة الأوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة، فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان. فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز [ركاب الخيل] ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا ابن عمر رسول الله ابن سبيل ومنطقع به، قال: فأخرج رجله من الغرز وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدعن عن السيف فإنه من سيوف علي، فرجع لى أصحابه بناقة عظيمة وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف من خز وغير ذلك، وأجل ذلك سيف علي بن أبي طالب. ومضى صاحب قيس بن سعد إليه فوجده نائمًا، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه؟ قال: ابن سبيل ومنطقع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ لك ناقة وعبدًا، واذهب راشدًا. فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرًأ على صنيعها ذلك، وقال: هلا أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه أبدًا، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته. وذهب صاحب عرابة الأوسى إليه فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له -وكان قد كف بصره- فقال له: يا عرابة، فقال: قل، فقال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى على اليسرى، ثم قال: أوه أوه، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئًا، ولكن خذ هذين العبدين، قال: ما كنت لأفعل، فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده، قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه، قال فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجلها، وأن قيسًا أحد الأجواد حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرًا لها على ما فعلت، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي، لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل. وقال سفيان الثوري عن عمرو عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى

قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم مجال هذا الولد إذ كان حملاً، فاقسموا له معكم، فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد ولكن نصيبي له ... وقال ابن أبي خيثمة: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعًا أصبعه المسبحة -يعني يدعو- وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر وأخرج منها عبد الله بن أبي سرح، نائب عثمان بعد عمرو بن العاص، فأقره عليها علي مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص، فكاتباه ليكون معها على علي فامتنع وأظهر للناس مناصحته لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليًا فعزله وبعث إلى مصر الأشتر النخعي فمات الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر فخف أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأحرق في جيفة حمار. ثم سار قيس إلى المدينة، ثم سار إلى علي بن أبي طالب إلى العراق، فكان معه في حروبه حتى قتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فلما بايع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسًا ذلك وما أحبه، وامتنع من طاعة معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد من الأنصار فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده، فبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل في العرب، فقال معاوية: ما أرانا إلا قد احتجنا إلى سراويلك؟ -وكان قيس مديد القامة جدًا لا يصل أطول الرجال إلى صدره- فقام قيس فتنحى ثم خلع سراويله فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا، فأنشأ يقول عن ذلك: أردت بها كي يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادٍ ثمة وثمود وإني من الحي اليماني لسيد ... وما الناس إلا سيد ومسود فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم ... شديد وخلقي في الرجال مديد

وفضلني في الناس أصل ووالد ... وباع به أعلو الرجال مديد قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض، وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا، فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا، ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين. فلما حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي؟ فقالوا: ماله إلا أحد رجلين، إما محمد بن الحنفية، أو عبد الله بن الزبير، فجيء بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيم أرسلت إليك؟ قال: لا! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه، فقال للرومي: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي، فأينا قدر أن يقيم الآخر من مكانه غلبه، وإلا فقد غلب. فقال له: ماذا تريد؟ تجلس أو أجلس؟ فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلاً، فغلب الرومي: عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب، ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي: اجلس لي، فجلس وأعطى محمداً يده فما أمهله أن أقامه سريعاً، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض فسر بذلك معاوية سروراً عظيماً، ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض، فاعترف الرومي بالغلب، وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية، وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال ذلك الشعر المتقدم معتذراً به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم، وأقطع لما حاولوه. ورواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلاً ضخماً جسيماً صغير الرأس له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه بالأرض، وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية. وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك. اهـ.

وقال ابن حجر في الإصابة: قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي مختلف في كنيته فقيل أبو الفضل وأبو عبد الله وأبو عبد الملك، وذكر ابن حبان أن كنيته أبو القاسم وأمه بنت عم أبيه واسمها فكيهة بنت عبيد بن دليم وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار: كان قيس ضخماً حسناً طويلاً إذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض وقال الواقدي: كان سخياً كريماً داهية. وأخرج البغوي من طريق ابن شهاب قال: كان قيس حامل راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من ذوي الرأي من الناس. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر واختط بها داراً ثم كان أميرها لعلي، وذكر الزبير أنه كان سناطاً ليس في وجهة شعرة فقال: إن الأنصار كانوا يقولون وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا قال أبو عمر: وكذلك كان شريح وعبد الله بن الزبير لم يكن في وجوههم شعرة. وأخرج البخاري في التاريخ من طريق مريم بن أسعد قال: رأيت قيس بن سعد وقد خدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين. وقال أبو عمر: كان أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب من أهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والسخاء والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع وكان أبوه وجده كذلك. وفي الصحيح عن جابر في قصة جيش العسرة أنه كان في ذلك الجيش، وأنه كان ينحر ويطعم حتى استدان بسبب ذلك، ونهاه أمير الجيش وهو أبو عبيدة وفي بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجود من شيمة أهل ذلك البيت، رويناه في الغيلانيات وأخرجه ابن وهب من طريق بكر بن سوادة عن أبي حمزة ابن جابر، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشاهد وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح الراية من أبيه فدفعها له. روى قيس بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبيه روى عنه أنس وثعلبة ابن أبي مالك وأبو ميسرة وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعروة وآخرون، وصحب قيس علياً وشهد معه مشاهده وكان قد أمره على مصر فاحتال عليه معاوية فلم ينخدع له فاحتال على أصحاب علي حتى حسنوا له تولية محمد بن أبي بكر فولاه مصر، وارتحل قيس فشهد مع علي صفين ثم كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية فرجع قيس إلى المدينة فأقام بها. قال خليفة وغيره: مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة. قال ابن حبان: كان هرب

من معاوية ومات سنة خمس وثمانين في خلافة عبد الملك، قال وقيل مات في آخر خلافة معاوية: قلت: وقول خليفة ومن وافقه هو الصواب. اهـ. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، الأمير المجاهد، أبو عبد الله سيد الخزرج وابن سيدهم أبي ثابت، الأنصاري الخزرجي الساعدي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه. وفد على معاوية، فاحترمه، وأعطاه مالاً. قال أحمد بن البرقي: كان صاحب لواء النبي في بعض مغازيه. وكان بمصر والياً عليها لعلي. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، واختط بها داراً، ووليها لعلي سنة ست [وثلاثين]، وعزله عنها سنة سبع [وثلاثين]. الزهري: أخبرني ثعلبة بن أبي مالك: أن قيس بن سعد -وكان صاحب لواء النبي صلى الله عليه وسلم -أراد الحج، فرجل أحد شقي رأسه، فقام غلام له، فقلد هدية، فأهل وما رجل شقه رجل. أقول: لم يرجل لأنه دخل في الإحرام، وقد خشي أن يتساقط شيء من شعر رأسه بسبب ترجيله. وذكر عاصم بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل قيس بن سعد على الصدقة. قال مسعر: عن معبد بن خالد، قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعاً أصبعه المسبحة، يعني: يدعو. وجود قيس يضرب به المثل، وكذلك دهاؤه. روى الجراح بن مليح البهراني، عن أبي رافع، عن قيس بن سعد، قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر هذه الأمة (1).

_ (1) إسناده حسن والمكر والخديعة: اسمان لكل فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره، والمذموم من =

ابن عيينة: حدثني عمرو، قال: قال قيس: لولا الإسلام، لمكرت مكراً لا تطيقه العرب. وعن الزهري: كانوا يعدون قيساً من دهاة العرب، وكان من ذوي الرأي، وقالوا: دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو، وقيس، والمغيرة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي (1). وكان قيس وابن بديل مع علي، وكان عمرو بن العاص مع معاوية، وكان المغيرة معتزلاً بالطائف حتى حكم الحكمان. عوف عن محمد، قال: كان محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة من أشدهم على عثمان، فأمر علي قيس بن سعد على مصر، وكان حازماً. فنبئت أنه كان يقول لولا أن المكر فجور، لمكرت مكراً تضطرب منه أهل الشام بينهم، فكتب معاوية وعمرو إليه يدعوانه إلى مبايعتهما، فكتب إليهما كتاباً فيه غلظ، فكتبا إليه بكتاب فيه عنف، فكتب إليهما بكتاب فيه لين، فلما قرآه، علما أنهما لا يدان لهما بمكره، فأذاعا بالشام أنه قد تابعنا، فبلغ ذلك علياً، فقال له أصحابه: أدرك مصر فإن قيساً قد بايع معاوية، فبعث محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة إلى مصر، وأمر ابن أبي بكر، فلما قدما على قيس بنزعه، علم أن علياً قد خدع فقال لمحمد: يا أخي احذر -يعني أهل مصر - فإنهم سيسلمونكما، فتقتلان. فكان كما قال. وعن الزهري، قال: قدم قيس المدينة فتوامر (2) فيه الأسود بن أبي البختري، ومروان أن يبيتاه (3)، وبلغ ذلك قيساً، فقال: والله إن هذا لقبيح أن أفارق علياً وإن عزلني، والله لألحقن به. فلحق به، وحدثه بما كان يعتمد بمصر. فعرف علي أن قيساً كان يداري

_ = ذلك أن يقصد فاعلمه إنزال مكروه بالمخدوع، وإياه قصد المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ومعناه: يوديان بقاصدهما إلى النار. قاله الراغب. (1) عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي الصحابي الجليل، انتهت إليه رئاسة خزاعة، وكان فصيحاً لسناً، أسلم يوم الفتح، وشهد حنيناً وما بعدها، وقتل يوم صفين. (2) يتوامر: أي تآمر. (3) يبيتاه: يقتلاه ليلاً.

أمراً عظيماً بالمكيدة، فأطاع علي قيساً في الأمر كله، وجعله على مقدمة جيشه، فبعث معاوية يؤنب مروان والأسود، وقال: أمددتما علياً بقيس؟ والله لو أمددتماه بمائة ألف مقاتل، ما كان بأغيظ علي من إخراجكما قيساً إليه. هشام بن عروة: عن أبيه، كان قيس مع علي في مقدمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد ما مات علي، فلما دخل الحسن في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: إن شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً. فقالوا: خذ لنا، فأخذ لهم، ولم يأخذ لنفسه خاصة. فلما ارتحل نحو المدينة ومعه أصحابه، جعل ينحر لهم كل يوم جزوراً حتى بلغ صراراً (1). عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، قال: دخل قيس بن سعد في رهط من الأنصار على معاوية فقال: يا معشر الأنصار! بما تطلبون ما قبلي؟ فوالله لقد كنتم قليلاً معي، كثيراً علي، وأفللتم حدي يوم صفين، حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم، وهجوتموني حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله، قلت: ارع فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، هيهات يأبى الحقين العذرة (2)، فقال قيس: نطلب ما قلبك بالإسلام الكافي به الله ما سواه، لا بما تمت به إليك الأحزاب، فأما عداوتنا لك، فلو شئت، كففتها عنك، وأما الهجاء فقول يزول باطله، ويثبت حقه، وأما استقامة الأمر عليك فعلى كره منا، وأما فلنا حدك، فإنا كنا مع رجل نرى طاعته [طاعة] الله، وأما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا فمن آمن به رعاها. وأما قولك: يأبى الحقين العذرة، فليس دون الله يد تحجزك، فشأنك فقال معاوية: سوءة (3). ارفعوا حوائجكم. اهـ. الذهبي.

_ (1) صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. (2) العذرة: العذر وهو مثل يضرب للرجل يعتذر ولا عذر له، قال أبو عبيد: أصل ذلك أن رجلاً ضاف قوماً، فاستسقاهم لبناً، وعندهم لبن قد حقنوه في وطب، فاعتلوا عليه، واعتذروا فقال: أبى الحقين العذرة، أي: هذا الحقين يكذبكم. (3) السوءة: الفاحشة، وكل عمل وأمر شائن، تقال يشعر بها قائلها أنه قد ارتكب غلطة.

2101 - * روى البخاري والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان قيس ابن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير قال الأنصاري. يعني مما يلي من أموره. * * *

_ 2101 - البخاري (13/ 133) 93 - كتاب الأحكام -12 - باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه، ولكن دون قول الأنصاري. والترمذي (5/ 690) 50 - كتاب المناقب -52 - باب في مناقب قيس بن سعد بن عبادة. الشرط: أعوان السلطان المرتبون لتتبع أحوال الناس، سموا بذلك لأنهم كانوا يعلمون على أنفسهم بعلامات يعرفون بها، والأشراط: العلامات.

34 - خالد بن الوليد رضي الله عنه

34 - خالد بن الوليد رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي .. سيف الله أبو سليمان، أمه لبابة الصغرى بنت الحارث بن حرب الهلالية وهي أخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب وهما أختا ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية. كما ثبت في الصحيح أنه كان على خيل قريش طليعة ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر وقيل قبلها ووهم من زعم أنه أسلم سنة خمس. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس عن حبيب حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: أذهب والله أسلم فحتى متى قلت وما جئت إلا لأسلم فقدمنا جميعاً فتقدم خالد فأسلم وبايع ثم دنوت فبايعته ثم انصرفت، ثم شهد غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة فلما استشهد الأمير الثالث أخذ الراية فانحاز بالناس وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعلم الناس بذلك كما ثبت في الصحيح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة فأبلى فيها وجرى مع له بني جذيمة ما جرى، ثم شهد حنيناً والطائف وهدم العزى، وله رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما. روى عنه ابن عباس وجابر والمقدام بن معدي كرب وقيس بن أبي حازم وعلقمة بن قيس وآخرون وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزلاً فجعل الناس يمرون فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من هذا" فأقول فلان، حتى مر خالد فقال: "من هذا" قلت خالد بن الوليد فقال: "نعم عبد الله، هذا سيف من سيوف الله"، رجاله ثقات. وأرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أكيدر دومة فأسره، وعن أنس وعن عمرو بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالداً إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية، وأرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة فأبلى في قتالهم بلاء عظيماً، ثم ولاه حرب فارس والروم فأثر فيهم تأثيراً شديداً،

وافتتح دمشق. وروى يعقوب بن سفيان من طريق أبي الأسود عن عروة قال: لما فرغ خالد من اليمامة أمره أو بكر بالمسير إلى الشام فسلك عين النمر فسبى ابنة الجودي من دومة الجندل ومضى إلى الشام فهزم عدو الله واستخلفه أبو بكر على الشام إلى أن عزله عمر. وقال ابن أبي الدنيا عن قتادة قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى العزى فهدمها وقال أبو زرعة الدمشقي حدثني علي بن عباس حدثنا الوليد حدثني وحشي عن أبيه عن جده أن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار" وقال أحمد عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد فقال خالد: بعث عليكم أمين هذه الأمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، فقال أبو عبيدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة، وروى أبو يعلى من طريق الشعبي عن ابن أبي أوفي رفعه لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار. عن أبي هريرة في قصة الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالداً احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم عن خالد ابن الوليد قال: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية. وقال يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر: لما قدم خالد بن الوليد الحيرة أتى بسم فوضعه في راحته ثم سعى وشربه فلم يضره، رواه أبو يعلى ورواه ابن سعد من وجهين آخرين وروى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن خيثمة قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر فقال: اللهم اجعله عسلاً فصار عسلاً. وفي روايه له من هذا الوجه: مر رجل بخالد ومعه زق خمر فقال: ما هذا؟ قال: خل. قال: جعله الله خلاً فنظر فإذا هو خل وقد كان خمراً. وقال ابن سعد عن زياد مولى آل خالد قال: قال خالد عند موته ما كان في الأرض من ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو فعليكم بالجهاد وروى أبو يعلى من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: قال خالد: ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة

الجليد، فذكر نحوه ومن هذا الوجه عن خالد: لقد شغلني الجهاد عن تعلم كثير من القرآن وكان سبب عزل عمر خالداً ما ذكره الزبير بن بكار قال: كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله، وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد وكان أميراً عند أبي بكر بعثه إلى طليحة فهزم طليحة ومن معه ثم مضى إلى مسيلمة فقتل الله مسيلمة. قال الزبير: وحدثني محمد بن مسلم عن مسلم بن أنس قال: قال عمر لأبي بكر اكتب إلى خالد لا يعطي شيئاً إلا بأمرك فكتب إليه بذلك فأجابه خالد: إما أن تدعيني وعملي والإ فشأنك بعملك، فأشار عليه عمر بعزله فقال أبو بكر: فمن يجزئ عني إجزاء خالد، قال عمر: أنا. قال: فأنت، فتجهز عمر حتى أنييخ الظهر في الدار فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن عمر يخرج أنت محتاج إليه وما بالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟ قالوا: تعزم على عمر فيقيم وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله، ففعل، فلما قبل عمر [أي الخلافة] كتب إلى خالد أن لا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه فعزله، ثم كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء، فيأبى عمر. قال مالك: وكان عمر يشبه خالداً قال الزبير: ولما حضرت خالداً الوفاة أوصى عمر فتولى عمر وصيته وسمع راجزاً يذكر خالداً فقال: رحم الله خالداً فقال له طليحة ابن عبيد الله: لا أعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي فقال عمر: إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه (1) وما كان يصنع في المال. مات خالد بن الوليد بمدينة حمص سنة إحدى وعشرين وقيل توفي بالمدينة النبوية. اهـ ابن حجر.

_ (1) إلا في تقدمه: كان يتقدم الناس في الحرب وهو القائد، وتلك مخاطرة.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية: خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي أبو سليمان المخزومي، سيف الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يقهر في جاهلية ولا إسلام. وأمه عصماء بنت الحارث، أخت لبابة بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. قال الواقدي: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة وانتهت إليه الإمارة يومئذ عن غير إمرة، فقاتل يومئذ قتالاً شديداً لم ير مثله، اندقت في يده تسعة أسياف، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية. وقد روي أن خالداً سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحث في طلبها فعوتب في ذلك، فقال: إن فيها شيئاً من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها. وقد روينا في مسند أحمد (1) عن أبي بكر الصديق أنه لما أمر خالداً على حرب أهل الردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين". وفي الصحيح: (2) "وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله" وشهد الفتح وشهد حنيناً وغزا بني جذيمة أميراً في حياته عليه السلام، واختلف في شهوده خيبر وقد دخل مكة أميراً على طائفة من الجيش وقتل خلقاً كثيراً من قريش. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى -وكانت لهوازن -فكسر قمتها أولاً ثم دعثرها وجعل يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك. ثم حرقها وقد استعمله الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فشفى واشتفى، ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام فكانت له من المقامات ما ذكرناها مما تقر بها القلوب والعيون،

_ (1) أحمد في مسنده (1/ 8). (2) البخاري (3/ 331) 24 - كتاب الزكاة -49 - باب قول الله تعالى (التوبة: 60) (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله).

وتتشنف بها الأسماع، ثم عزله عمر عنها وولي أبا عبيدة وأبقاه مستشاراً في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه. وقد روى الواقدي قال: لما حضرت خالداً الوفاة بكى ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. عن أنس قال: لقي خالد عدواً له فولى عنه المسلمون منهزمين وثبت هو وأخوه البراء ابن مالك، وكنت بينهما واقفاً، قال: فنكس خالد رأسه ساعة إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ساعة -قال: وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا -ثم قال لأخي البراء: قم فركبا، واختطب خالد من معه من المسلمين وقال: ما هو إلا الجنة وما إلى المدينة سبيل، ثم حمل بهم فهزم المشركين. وقد روى البخاري في التاريخ وغيره عن ياسر بن سمي البرني، قال: سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، فأمرت أبا عبيدة. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت لواء رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفاً سله الله، ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم. فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن مغضب في ابن عمك. وعن خالد أنه طلق امرأة من نسائه وقال: إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي ولم يصبها شيء في بدنها ولا رأسها ولا في شيء من جسدها، وروى سيف وغيره: أن عمر قال حين عزل خالداً عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما وأن القوة لله جميعاً. وروى سيف أيضاً أن عمر قال حين عزل خالداً عن قنسرين وأخذ منه ما أخذ: إنك علي لكريم، وإنك عندي لعزيز، ولن يصل إليك مني أمر تكرهه بعد ذلك. قال عبد الله بن المبارك: ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد طلبت القتل

في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا أنا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله. فلما توفي خرج عمر على جنازته فذكر قوله: ما على آل نساء الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقع أو لقلقة (1). وقد علق البخاري في صحيحه (2) بعض هذا فقال: وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. وقال محمد بن سعد: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره، فأرسل إليهن فانهن، فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعاً أو لقلقة. ورواه البخاري في التاريخ من حديث الأعمش بنحوه. وقال إسحاق بن بشر وقال محمد: مات خالد بن الوليد بالمدينة فخرج عمر في جنازته وإذا أمه تندبه وتقول: أنت خير من ألف ألف من القو ... م إذا كبت وجوه الرجال فقال: صدقت والله إن كان لكذلك. وقال سيف بن عمر عن شيوخه عن سالم. قال: فأقام خالد في المدينة حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى خالد بعده وهو خارج من المدينة زائراً لأمه فقال لها: احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته، فلما ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاق على مسيرة ثلاث صادراً عن حجة فقال له عمر مهيم (أي مالك؟) فقال خالد بن الوليد: ثقيل لما به، فطوى عمر ثلاثاً في ليلة فأدركه حين قضى، فرق عليه واسترجع وجلس ببابه حتى جهز، وبكته البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمع؟ ألا تنهاهن؟ فقال: وما على نساء قريش

_ (1) نقع: نثر التراب على الرأس، لقلقة: صوت. (2) البخاري (3/ 160) 23 - كتاب الجنائز -23 - باب ما يكره من النياحة على الميت.

أن يبكين أبا سليمان؟ ما لم يكن نقع ولا لقلقة. فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محرمة تبكيه وتقول: أنت خير من ألف ألف من النا ... س إذا ما كبت وجوه الرجال أشجاع فأنت أشجع من ليث ... ضمر بن جهم أبي أشبال أجواد فأنت أجود من سيل ... دياس يسيل بين الجبال فقال عمر: من هذه؟ فقيل له: أمه. فقال: أمه وإلا له -ثلاثاً -وهل قامت النساء عن مثل خالد. قال: فكان عمر يتمثل في طيه تلك الثلاث في ليله وفي قدومه. تبكي ما وصلت، به الندامى ... ولا تبكي فوارس كالجبال تمنى بعدهم قوم مداهم ... فلم يدنوا لأسباب الكمال وفي رواية أن عمر قال لأم خالد: أخالداً أو أجره ترزئين؟ عزمت عليك أن لا تبيني (1) حتى تسود يداك من الخضاب، وهذا كله مما يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. ولكن المشهور عن الجمهور أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين. زاد الواقدي: وأوصى إلى عمر بن الخطاب. وقد روى محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا: قدم خالد المدينة بعد ما عزله عمر فاعتمر ثم رجع إلى الشام، فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين. لما مات خالد بن الوليد قال عمر: رحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أموراً ما كانت. وقال جويرية عن نافع قال: لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه. قال أبو علي الحرنازي: دخل هشام بن البحتري في ناس من بني مخزوم على عمر بن

_ (1) عزمت عليك أن لا تبيني: عزمت عليك بعد أن تفارقيني أن تخضبى يديك لأن المرأة لا يحل لها أن تظهر الحزن أكثر من ثلاثة أيام على أحد إلا على زوجها. تسود: أن تخضب يديها بالحناء إشارة إلى تركها الحزن على فقد خالد.

الخطاب فقال له: يا هشام أنشدني شعرك في خالد. فأنشده فقال: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله. ثم قال عمر: قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره: وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدي فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي ... ولا موت من قد مات بمخلدي ثم قال عمر: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه. ولقد مات سعيداً وعاش حميداً ولكن رأيت الدهر ليس بقائل (1). اهـ ابن كثير. وقال الذهبي في ترجمته: سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد، السيد الإمام الأمير الكبير، قائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي المخزومي المكي، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. هاجر مسلماً في صفر سنة ثمان، ثم سار غازياً، فشهد غزوة مؤتة واستشهد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة: مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وابن رواحة، وبقي الجيش بلا أمير، فتأمر عليهم في الحال خالد، وأخذ الراية، وحمل على العدو، فكان النصر، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم، سيف الله، فقال: "إن خالداً سيف سله الله على المشركين". وشهد الفتح وحنيناً، وتأمر في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله وحارب أهل الردة، ومسيلمة، وغزا العراق، واستظهر، ثم اخترق البرية السماوية بحيث إنه قطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، ومناقبة غزيرة، أمره الصديق على سائر أمراء الأجناد، وحاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة. اهـ الذهبي.

_ (1) رأيت الدهر ليس بقائل: من القيلولة، بمعنى أن الدهر لا يغفل عنه. أقول: إن عمر كان يعرف قدر خالد ومقامه وليس مثل عمر يجهل الرجال كما أنه فوق أن يحمله غرض نفسي على عزل خالد ولكنه خشي أن يستشهد خالد وهو أمير فتهن معنويات المسلمين وترتفع معنويات الكافرين، وحتى تبقى قلوب المسلمين تتعلق بالله وتثق أن النصر منه جل جلاله فلا يداخلها نوع من الاعتماد على غير الله.

2102 - * روى الطبراني والبزار عن عبد الله بن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر، فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله" فقال: يقعون في فأرد عليهم. فقال: "لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سويف الله صبه الله على الكفار". 2103 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب" -وعيناه تذرفان -"حتى أخذها سيف من سيوف الله. حتى فتح الله عليهم". 2104 - * روى البخاري عن قيس قال سمعت خالداً يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. 2105 - * روى أبو يعلى عن قيس بن أبي حازم قال: قال خالد بن الوليد: لقد منعني كثيراً من القراءة الجهاد في سبيل الله. قال الذهبي: عاش ستين سنة وقتل جماعة من الأبطال: ومات على فراشه، فلا قرت أعين الجبناء. توفي بحمص سنة إحدى وعشرين. ومشهده على باب حمص. الصحيح موته بحمص، وله مشهد يزار. ا. هـ. وذكر الذهبي في السير (1) عن أبي العالية: أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إن

_ 2102 - المعجم الصغير: الروض الداني (1/ 348). وكشف الأستار (3/ 266) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 349): رواه الطبراني في الصغير والكبير باختصار والبزار بنحوه ورجال الطبراني ثقات. 2103 - البخاري (7/ 100) 62 - كتاب فضائل الصحابة -25 - باب مناقب خالد بن الوليد. 2104 - البخاري (7/ 515) 64 - كتاب المغازي -44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام. 2105 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. (1) السير (1/ 368) ورجاله ثقات ولكنه مرسل. وأخرج أحمد الدعاء في مسنده (3/ 419) عن عبد الرحمن بن خنيس التميمي بإسناد صحيح.

كائداً من الجن يكيدني، قال: "قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر ما يعرج في السماء وما ينزل منها، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن" ففعلت فأذهبه الله عني. 2016 - * روى الطبراني عن عمرو بن العاص قال: ما عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بي وبخالد ابن الوليد أحداً منذ أسلمنا في حربه. 2107 - * روى أحمد عن الزهري قال: وكان عبد الرحمن بن الأزهر يحدث أن خالد ابن الوليد بن المغيرة خرج يومئذ وكان على الخيل خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأزهر: قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما هزم الله الكفار ورجع المسلمون إلى رحالهم يمشي في المسلمين ويقول: "من يدل على رحل خالد بن الوليد" قال: فمشيت أو قال فسعيت بين يديه وأنا محتلم أقول من يدل على رحل خالد حتى حللنا على رحله فإذا خالد بن الوليد مستند إلى مؤخرة رحله فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى جرحه. قال الزهري: وحسبت أنه قال: ونفث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2108 - * روى البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. ودفع إلى كل رجل منا أسيره. حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين. 2109 - * روى ابن سعد عن هشام بن عروة: عن أبيه قال: كان في بني سليم ردة، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر، ثم أحرقهم، فقال عمر

_ 2106 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350): رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات. 2107 - أحمد في مسنده (4/ 88) وإسناده صحيح. 2108 - البخاري (8/ 56) 64 - كتاب المغازي -58 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة. 2109 - الطبقات الكبرى: ورجاله ثقات، لكنه مرسل.

لأبي بكر: أتدع رجلاً: يعذب الله؟ قال: والله لا أشيم (1) سيفاً سله الله على عدوه، ثم أمره، فمضى إلى مسيلمة. * * *

_ (1) أشيم: أغمد.

35 - عمرو بن العاص رضي الله عنه

35 - عمرو بن العاص رضي الله عنه قال ابن كثير: عمرو بن العاص: بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي، أبو عبد الله، ويقال أبو محمد، أحد رؤساء قريش في الجاهلية، وهو الذي أ {سلوه إلى النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده فلم يجبهم إلى ذلك لعدله، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك، فيقال إنه أسلم على يديه والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبدري، وكان أحد أمراء الإسلام، وهو أمير ذات السلاسل، وأمده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدد عليهم أبو عبيدة ومعه الصديق وعمر الفاروق، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمان فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره عليها الصديق، ثم إن الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام فكان ممن شهد تلك الحروب، وكانت له الآراء السديدة، والمواقف الحميدة، والأحوال السعيدة، ثم بعثه عمر إلى مصر فافتتحها واستنابه عليها، وأقره عليها عثمان بن عفان أربع سنين ثم عزله، وقد كان معدوداً من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم وله أمثال حسنة وأشعار جيدة. وقد روي عنه أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل، ومن شعره: إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم ينبه قلباً غاوياً حيث يمما قضى وطراً منه وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملاً الفما ا. هـ. ابن كثير وقال ابن حجر في الإصابة: عمرو بن العاص من بني عنزة بفتح المهملة والنون .. أسلم قبل الفتح في صفر سنة ثمان وقيل بين الحديبية وخيبر وكان يقول أذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب. وقال داخر المعافري: رأيت عمراً على المنبر أدعج (1) أبلج (2) قصير القامة وذكر الزبير بن بكار والواقدي بسندين لهما أن إسلامه كان على يد النجاشي وهو بأرض الحبشة. وذكر الزبير بن بكار أن رجلاً قال لعمرو: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت

_ (1) أدعج: شديد سواد العين مع شدة بياض ما يحيط بالسواد. (2) أبلج: بعيد ما بين الحاجبين.

أنت في عقلك؟ قال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكروا عليه فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين فوقع في قلبي الإسلام فعرفت قريش ذلك مني من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك فقلت: أنشدك الله ربك ورب من قبلك ومن بعدك أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى. قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟ قال: هم قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا وهم أعظم منا فيها أمراً في كل شيء وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حق ولا خير في التمادي في الباطل. وأخرج البغوي بسند جيد عن عمرو بن إسحاق أحد التابعين قال: استأذن جعفر ابن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوجه إلى الحبشة فأذن له قال عمير: فحدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت مكانه قلت: والله لأستقلن (1) لهذا ولأصحابه فذكر قصتهم مع النجاشي قال: فلقيت جعفراً خالياً فأسلمت قال وبلغ ذلك أصحابي فغنموني وسلبوني كل شيء فذهبت إلى جعفر فذهب معي إلى النجاشي فردوا علي كل شيء أخذوه ولما أسلم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقربه ويدنيه لمعرفته وشجاعته وولاه غزاة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح ثم استعمله على عمان فمات وهو أميرها ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر وهو الذي افتتح قنسرين (2) وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية، وولاه عمر فلسطين أخرج ابن أبي خيثمة من طريق الليث قال: نظر عمر إلى عمرو يمشي فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً. وقال إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر: صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين قرآناً ولا أكرم خلقاً ولا أِبه سريرة بعلانية منه وقال محمد بن سلام الجمحي كان عمر إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه يقول أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وولي عمرو إمرة مصر في زمن عمر بن الخطاب وهو الذي

_ (1) لأستقلن: أي لأقللن من شأنهم عند النجاشي. (2) قتسرين: كورة بالشام.

افتتحها وأبقاه عثمان قليلاً ثم عزله وولى عبد الله بن أبي سرح وكان أخا عثمان من الرضاعة فآل أمر عثمان بسبب ذلك إلى ما اشتهر ثم لم يزل عمرو بغير إمرة إلى أن كانت الفتنة بين علي ومعاوية فلحق بمعاوية فكان معه يدبر أمره في الحرب إلى أن جرى أمر الحكمين ثم سار في جيش معاوية إلى مصر فوليها لمعاوية من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح الذي جزم به ابن يونس وغيره من المتقنين وقيل قبلها بسنة وقيل وبعدها ثم اختلفوا فقيل بست وقيل بثمان وقيل بأكثر من ذلك قال يحيى بن بكير: عاش نحو تسعين سنة. وذكر ابن البرقي عن يحيى بن بكير عن الليث توفي وهو ابن تسعين سنة. اهـ ابن حجر. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: عمرو بن العاص داهية قريش ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة، والدهاء، والحزم. هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في أوائل سنة ثمان، مرافقاً لخالد بن الوليد، وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم وإسلامهم، وأمر عمراً على بعض الجيش، وجهزه للغزو. له أحاديث. قال البخاري: ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل. نزل المدينة ثم سكن مصر، وبها مات. روى مجالد، عن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد، فأما معاوية فللأناة والحلم؛ وأما عمرو فللمعضلات؛ والمغيرة للمبادهة؛ وأما زياد فللصغير والكبير. وكان من رجال قريش رأياً، ودهاء، وحزماً، وكفاءة، وبصراً بالحروب، ومن أشراف ملوك العرب، ومن أعيان المهاجرين، والله يغفر له ويعفو عنه، ولولا حبه للدنيا [للإمرة] ودخوله في أمور، لصلح للخلافة، فإن له سابقة ليست لمعاوية. وقد تأمر على مثل أبي بكر وعمر، لبصره بالأمور ودهائه. اهـ.

2110 - * روى أحمد وابن سعد والحاكم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام". 2111 - * روى أحمد عن عمرو بن العاص قال: كان فزع بالمدينة فأتيت على سالم مولى أبي حذيفة وهو محتب بحمائل سيفه فأخذت سيفًا فاحتبيت بحمائله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله وإلى رسوله" ثم قال: "ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان". 2112 - * روى أحمد عن عقبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص". 2113 - * روى أحمد والحاكم عن موسى بن علي عن أبيه قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني" فأتيته وهو يتوضأ فصعد في النظر ثم طأطأه فقال: "إني أريد أن أبعثك على جيشٍ فسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة" قال قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح". 2114 - * روى البخاري ومسلم عن أبي عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"

_ 2110 - أحمد في مسنده (2/ 204)، والطبقات الكبرى (4/ 191)، والمستدرك (3/ 240) وصححه وسكت عنه الذهبي. 2111 - أحمد في مسنده (4/ 203). 2112 - أحمد في مسنده (4/ 155) وإسناده حسن. والترمذي (5/ 687) 50 - كتاب المناقب -49 - باب مناقب لعمرو بن العاص. 2113 - أحمد في مسنده (4/ 197) وسنده صحيح. والمستدرك (2/ 2) وصححه ووافقه الذهبي. 2114 - البخاري (8/ 74) 64 - كتاب المغازي -63 - باب غزوة ذات السلاسل. ومسلم (4/ 1856) 44 - كتاب فضائل الصحابة -1 - باب من فضائل أبي بكر الصديق.

قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" فعد رجالاً. فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم. 2115 - * روى أبو داود والحاكم عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت. ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب"؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا. قال الذهبي: ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرو على عمان، فأتاه كتاب أبي بكر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشهد عمرو يوم اليرموك، وأبلى يومئذ بلاءً حسنًا، وقيل: بعثه أبو عبيدة، فصالح أهل حلب وأنطاكية، وافتتح سائر قنسرين عنوة. وقال خليفة: ولى عمر عمرًا فلسطين والأردن، ثم كتب إليه عمر، فسار إلى مصر، وافتتحها، وبعث عمر الزبير مددًا له. قال الزهري: استخلف عثمان، فنزع عن مصر عمرًا، وأمر عليها عبد الله بن أبي سرج. ا. هـ. 2116 - * روى أحمد في مسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص كان يسرد الصوم وقلما كان يصيب من العشاء أو الليل أكثر ما كان يصيب من السحر قال: وسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فصلاً بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".

_ 2115 - أبو داود (1/ 92) كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أن يتيم. والحاكم بنحوه (1/ 177) وصححه وأقره الذهبي. وعلقه البخاري في صحيحه وقواه الحافظ وحسنه المنذري. (1) النساء: 29. 2116 - أحمد في مسنده (4/ 197) وروى مسلم بعضه (2/ 771) 13 - كتاب الصيام -9 - باب فضل السحور وتاكيد استحبابه.

2117 - * روى أحمد عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعًا شديدًا فلما رأى ذلك ابنه عبد الله بن عمرو قال: يا أبا عبد الله ما هذا الجزع وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟ قال: أي بني قد كان ذلك وسأخبرك عن ذلك إني والله ما أدري أحبًا ذلك كان أم تألفًا يتألفني ولكن أشهد على رجلين أنه قد فارق الدنيا وهو يحبهما ابن سمية وابن أم عبد فلما حدثه وضع يده موضع الغلال من ذقنه وقال: اللهم أمرتنا فتركنا ونهيتنا فركبنا ولا يسعنا إلا مغفرتك وكانت تلك هجيراه حتى مات. 2118 - * روى مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهدي رحمه الله قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. إني كنت على أطباقٍ ثلاثٍ: لقد رأيتني وما أحد أشهد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: "مالك يا عمرو؟ " قال: قلت: أردت أن اشترط، قال: "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهد ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني

_ 2117 - أحمد في مسنده (4/ 199) وإسناده صحيح. أخرجه الإمام أحمد وإسناده صحيح. هجيراه: أي لم يزل يرددها. ابن سمية وابن أم عبد: أبي عمار بن ياسر وابن مسعود. 2118 - مسلم (1/ 112) 1 - كتاب الإيمان -54 - باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والهجرة. سياقه الموت: وقت حضور الأجل، كأن روحه تساق لتخرج من جسده. أطباق: جمع طبق، وهو الحالة. شنآ: بالشين: الصب، وقيل بالسين: التفريق.=

منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء، ما أدري ما حالي فيها؟ فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنًا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي؟. 2119 - * روى الطبراني عن عمرو بن العاص قال: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم حتى نزلنا الإسكندرية فقال صاحبها أخرجوا إلي رجلاً منكم أكلمه ويكلمني، فقلت: لا يخرج إليه غيري فخرجت ومعي ترجمان ومعه ترجمان نتبعك ونقاتل من قاتلك فخرج إليهم وخرجنا إليه فقاتلناه فقتلنا وظهر علينا وغلبنا وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم، فلو يعلم من ورائي ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش. فضحك ثم قال: إن رسولكم قد صدق قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاءكم به رسولكم فكنا عليه حتى ظهر فينا ملوك فجعلوا يعملون فينا بأهوائهم ويتركون أمر الأنبياء فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه ولم يتناولكم أحد إلا ظهرتم عليه فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر الأنبياء وعملتهم مثل الذي عملوا بأهوائهم خلي بيننا وبينكم فلم تكونوا أكثر منا عددًا ولا أشد منا قوة قال عمرو بن العاص: فما كلمت رجلاً أذكر منه.

_ =شنا: بالشين: الصب، وقيل بالسين: التفريق. 2119 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 218): رواه الطبراني وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات. القرظ: ورق شجر يدبغ به. قشنفنا له: أعرضنا عنه. أذكر منه: أعرف منه.

قال الذهبي: كان أكبر من عمر بنحو خمس سنين. كان يقول: أذكر الليلة التي ولد فيها عمر، وقد عاش بعد عمر عشرين عامًا، فينتج هذا أن مجموع عمره بضع وثمانون سنة، ما بلغ التسعين رضي الله عنه. وخلف أموالاً كثيرة، وعبيدًا، وعقارًا، يقال: خلف من الذهب سبعين رقبة جمل مملوءة ذهبًا. اهـ. 2120 - * روى ابن سعد عن عبد الله بن عمرو أن أباه أوصاه قال: يا بني إذا مت فاغسلني غسلة بالماء، ثم جففني في ثوب، ثم اغلسني الثانية بماء قراح، ثم جففني في ثوب، ثم اغلسني الثالثة بماءٍ فيه شيء من كافور، ثم جففني في ثوب، ثم إذا ألبستني الثياب، فأزر علي، فإني مخاصم، ثم إذا أنت حلمتني على السرير، فامش بي مشيًا بين المشيتين، وكن خلف الجنازة، فإن مقدمها للملائكة، وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتني في القبر، فسن علي التراب سنًا. ثم قال: اللهم إنك أمرتنا فأضعنا، ونهيتنا فركبنا، فلا برئ فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله، ما زال يقولها حتى مات. * * *

_ 2120 - الطبقات الكبرى (4/ 260) وإسناده قوي.

36 - أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه

36 - أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سفيان القرشي الأموي مشهور باسمه وكنيته وكان يكنى أيضًا أبا حنظلة، وأمه صفية بنت حرب الهلالية عمة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنين وقيل غير ذلك بحسب الاختلاف في سنة موته وهو والد معاوية، أسلم عام الفتح وشهد حنينًا والطائف كان من المؤلفة وكان قبل ذلك رأس المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب ويقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على نجران ولا يثبت، قال الواقدي: أصحابنا ينكرون ذلك ويقولون كان أبو سفيان بمكة وقت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عاملها حينئذ عمرو بن حزم وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهه إلى مناة فهدمها وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته أم حبيبة قبل أن يسلم وكانت أسلمت قديمًا وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة فمات هناك. وقد روى أبو سفيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عنه ابن عباس وقيس بن حازم وابنه معاوية وعن ثابت البناني إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى بمكة دخل دار أبي سفيان، رواه ابن سعد وروى ابن سعد أيضًا بإسناد صحيح عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدى إلى أبي سفيان بن حرب تمر عجوة وكتب إليه يستهديه أدمًا (1) مع عمرو بن أمية فنزل عمرو على إحدى امرأتي أبي سفيان فقامت دونه وقبل أبو سفيان الهدية وأهدى إليه أدمًا. وروى ابن سعد من طريق أبي السفر قال: لما رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسده فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدره ثم قال: إذا يخزيك الله، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه والله ما تفوهت به إلا شيء حدثت به نفسي. ومن طريق أبي إسحاق السبيعي نحوه وقال: ما أيقنت أنك رسول الله حتى الساعة. ومن طريق

_ (1) أدمًا: جلودًا.

عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: قال أبو سفيان في نفسه: ما أدري بم يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال: بالله نغلبك فقال: أشهد أنك رسول الله. وروى الزبير بن بكار من طريق إسحاق بن يحيى عن أبي الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان بن حرب يمازح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت بنته أم حبيبة ويقول: والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب إن انتطحت فيك جماء (1) ولا ذات قرن، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك ويقول: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة. وروى الزبير من طريق سعيد بن عبيد الثقفي قال: رميت أبا سفيان يوم الطائف فأصبت عينه فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، قال: إن شئت دعوت فردت عليك وإن شئت فالجنة، قال: الجنة. وروى يعقوب بن سفيان وابن سعد بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل يقول: يا نصر الله اقترب، قال فنظرت فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يريد ويقال: فقئت عينه يومئذ. وروى البغوي بإسناد صحيح عن أنس أن أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي وغلامه يقوده. قال علي بن المديني: مات لست خلون من خلافة عثمان، وقال الهيثم: لتسع خلون، وقال الزبير: في آخر خلافة عثمان، وقال المدائني: مات سنة أربع وثلاثين، وقيل مات أبو سفيان سنة إحدى، وقيل اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وقيل مات سنة أربع وثلاثين. قيل عاش ثلاثًا وتسعين سنة، وقال الواقدي وهو ابن ثمان وثمانين وقيل غير ذلك. اهـ ابن حجر. وقال الذهبي عنه: رأس قريش وقائدهم يوم أحد ويوم الخندق. وله هنات وأمور صعبة، لكن تدراكه الله بالإسلام يوم الفتح فأسلم شبه مكره خائف. ثم بعد أيام صلح إسلامه. وكان من دهاة العرب ومن أهل الرأي والشرف فيهم، فشهد حنينًا وأعطاه صهره رسول

_ (1) جماء: الشاة لا قرون لها.

الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم مئة من الإبل، وأربعين أوقية من الدراهم يتألفه بذلك. ففرغ من عبادة "هبل" ومال إلى الإسلام. وشهد قتال الطائف، فقلعت عينه حينئذ، ثم قلعت الأخرى يوم اليرموك، وكان يومئذ قد حسن إن شاء الله إيمانه، فإنه كان يومئذ يحرض على الجهاد. وكان تحت راية ولده يزيد، فكان يصيح: يا نصر الله اقترب. وكان يقف على الكراديس (1) يذكر، ويقول: الله الله، إنكم أنصار الإسلام ودارة العرب (2)، وهؤلاء أنصار الشرك ودارة الروم؛ اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك. فإن صح هذا عنه، فإنه يغبط بذلك. ولا ريب أن حديثه عن هرقل وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على إيمانه، ولله الحمد. وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين. وعاش بعده عشرين سنة: وكان عمر يحترمه؛ وذلك لأنه كان كبير بني أمية. وكان حمو النبي صلى الله عليه وسلم. وما مات حتى رأى ولديه: يزيد، ثم معاوية أميرين على دمشق. وكان يحب الرياسة والذكر، وكان له سورة (3) كبيرة في خلافة ابن عمه عثمان. توفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين: وقيل: سنة اثنتين، وقيل: سنة ثلاث أو أربع وثلاثين، وله نحو التسعين. اهـ ذهبي. * * *

_ (1) الكراديس: كتائب الخيل. (2) دارة العرب: أي: أرضها الطيبة النبات. (3) سورة: منزلة.

37 - معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما

37 - معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال ابن حجر: معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين، ولد قبل البعثة بخمس سنين وقيل بسبع وقيل بثلاث عشرة والأول أشهر، وحكى الواقدي أنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح وأنه كان في عمرة القضاء مسلمًا، وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج فعلناها وهذا يومئذ كافر، ويحتمل إن ثبت الأول أن يكون سعد أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه، وقد أخرج أحمد من طريق محمد بن علي بن الحسين عن ابن عباس أن معاوية قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند المروة، وأصل الحديث في البخاري من طريق طاوس عن ابن عباس بلفظ: قصرت بمشقص ولم يذكر المروة، وذكر المروة يعين أنه كان معتمرًا لأنه كان في حجة الوداع حلق بمنى كما ثبت في الصحيحين عن أنس، وأخرج البغوي من طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر فقالت: قم لا رفعك الله، فقال لها أعرابي: لم تقولين له هذا والله إني لأراه ليسود قومه، فقالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه قال أبو نعيم: كان من الكتبة الحسبة الفصحاء حليمًا وقورًا. وعن خالد بن معدان: كان طويلاً أبيض أجلح، وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتب له. عن معاوية قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوء فلما توضأ نظر إلي فقال: "يا معاوية إن وليت أمرًا فاتق الله واعدل" فما زلت أظن أني مبتلي بعمل، سويد فيه مقال وقد أخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر. قال ابن عباس: ما رأيت أحدًا أحلى للملك من معاوية. وقال البغوي [بسنده]: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب، وذكر ابن سعد عن المدائني قال: نظر أبو سفيان إلى معاوية وهو غلام فقال: إن ابني هذا لعظيم الرأس وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة. وقال المدائني: كان زيد

ابن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بينه وبين العرب وفي مسند أحمد وأصله في مسلم عن ابن عباس قال قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ادع لي معاوية" وكان كاتبه. وقال ابن المبارك في كتاب الزهد عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبض الناس وأجملهم فخرج إلى الحج مع عمر بن الخطاب، وكان عمر ينظر إليه فيتعجب منه ثم يضع أصبعه على جبينه ثم يرفعها عن مثل الشراك فيقول: بخ بخ إذا نحن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك أنا بأرض الحمامات والريف ... فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصحبك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب، قال: حتى جئنا ذا طوى فأخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر منها ريحًا كأنه ريح طيب فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجًا تفلاً حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال له معاوية: إنما لبستهما لأدخل بهما على عشيرتي يا عمر: والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام فالله يعلم أن لقد عرفت الحياء في عمر فنزع معاوية الثوبين ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما وهذا سند قوي. وأخرج ابن سعد [بسنده] قال: دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابة فلما رأى ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضربًا بمعاوية ومعاوية يقول: الله الله يا أمير المؤمنين فيم فيم، فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه فقالوا له: لم ضربت الفتى وما في قومك مثله؟ فقال: ما رأيت إلى خيرًا وما بلغني إلا خير، ولكني رأيته وأشار بيده يعني إلى فوق فأردت أن أضع منه. وقال ابن أبي الدنيا: قال عمر إياكم والفرقة بعدي فإن فعلتم فاعلموا أن معاوية بالشام فإذا وكلتم إلي رأيكم كيف يستبزها منكم. مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح. وسنة بضع وسبعون إلى الثمانين اهـ. ابن حجر.

وقال ابن كثير: أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح. وقد روى عن معاوية أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان رئيسًا مطاعًا ذا مال جزيل، ولما أسلم قال: يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: "نعم" قال ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: "نعم" ثم سأل أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له. والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتاب الوحي رضي الله عنهم. ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلادًا أخرى، وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر. ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حنيف، فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع عليها عنها وقد قال: لا أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلومًا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1). وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال ما زلت موقنًا أن معاوية يلي الملك من هذه الآية فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما قدمنا ذكره، ثم آل الأمر إلى التحكيم. أقول: هناك روايات مشهورة فيما توصل إليه الحكمان والتحقيق أن هذه الروايات المشهورة لا تمثل الحقيقة. وعلى كل الأحوال فقد ترتب على هذا التحكيم ضعف وضع علي وقوة معاوية، فالتحقيق أنهما اتفقا على تولية غير علي ومعاوية ولكن الأمر لم يتم.

_ (1) الإسراء: 33.

ثم قال ابن كثير: واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان، ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام، فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح، فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة -أعني سنة إحدى وأربعين- ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس -واستوثقه له الممالك شرقًا وغربًا، وبعدًا وقربًا، وسمي هذا العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة، فولي معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخولاني، وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، اهـ. ابن كثير. قال الذهبي في ترجمته: أمير المؤمنين، ملك الإسلام، أبو عبيد الرحمن، القرشي الأموي المكي، وأمه هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. قيل: إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح، ذكر ابن أبي الدنيا وغيره أن معاوية كان طويلاً، أبيض، جميلاً إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب. وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربي أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كبير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب (1)، نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي رضي الله عنه، ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه، وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع، فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم، لا يكاد يشاهد فيه إلا غالبًا في

_ (1) النصب: عداوة أهل البيت النبوي الشريف.

الحب، مفرطًا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمانٍ قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحدٍ من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، استغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويلٍ سائع في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفورٍ، وقلنا كما علمنا الله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (1) وترضينا أيضًا عمن اعتزل الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وخلق. وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليًا، وكفروا الفريقين، فالخوارج كلاب النار، وقد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار، كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان. قلت: [الذهبي] حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان على إقليم -وهو ثغر- فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك. وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد، وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه، ورأيه. وله هنات وأمور، والله الموعد. وكان محببًا إلى رعيته. عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك. عن إسماعيل بن أمية: أن عمر أفرد معاوية بالشام، ورزقه في الشهر ثمانين دينارًا. والمحفوظ أن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان. وفي أول صفر شبت الحرب، وقتل خلق، وضجروا، فرفع أهل الشام المصاحف، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه، وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص،

_ (1) الحشر: 10.

فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا أذرح (1). ويحكموا حكمين. قال: فلم يقع اتفاق. ورجع علي إلى الكوفة بالدغل (2) من أصحابه والاختلاف، فخرج منهم الخوارج، وأنكروا تحكيمه، وقالوا: لا حكم إلا لله. ورجع معاوية بالألفة والاجتماع، وبايعه أهل الشام بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمانٍ وثلاثين. فكان يبعث الغارات، فيقتلون من كان في طاعة علي، أو من أعان على قتل عثمان، وبعث بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن يستعرض الناس، فقتل باليمن عبد الرحمن وقثما ولدي عبيد الله بن عباس، ثم استشهد علي في رمضان سنة أربعين. وصالح الحسن بن علي معاوية، وبايعه، وسمي عام الجماعة، فاستعمل معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى المدينة أخاه عتبة ثم مروان، وعلى مصر عمرو بن العاص، وحج بالناس سنة خمسين، وكان على قضائه بالشام فضالة بن عبيد. ثم اعتمر سنة ستٍ وخمسين في رجب، وكان بينه وبين الحسين، وابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر، كلام في بيعة العهد ليزيد، ثم قال: إني متكلم بكلام، فلا تردوا على أقتلكم، فخطب، وأظهر أنهم قد بايعوا، وسكتوا ولم ينكروا، ورحل على هذا وادعى زيادًا أنه أخوه، فولاه الكوفة بعد المغيرة، فكتب إليه في حجر بن عدي وأصحابه، وحملهم إليه، فقتلهم بمرج عذراء ثم ضم الكوفة والبصرة إلى زياد، فمات، فولاهما ابنه عبيد الله بن زياد. ا. هـ الذهبي. 2121 - * روى مسلم عن أبي عثمان: قال: لما ادعى زياد، لقيت أبا بكرة، فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه

_ (1) أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. (2) الدغل: الفساد. 2121 - مسلم (1/ 80) 1 - كتاب الإيمان 27 - باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم.

حرام"؛ فقال أبو بكر: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: والمراد بزياد الذي ادعي: زياد بن سمية وهي أمه، كانت أمة للحارث ابن كلدة وهو زوجها لمولاه عبيد، فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر، سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد عند عمر، وكان بليغًا فأعجبه، فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه، ولو شئت لسميته، ولكن أخاف من عمر، فلما ولي معاوية الخلافة، كان زياد على فارس من قبل علي، فأراد مدراراته، فأطعمه في أنه يلحقه بأبي سفيان، فأصغى زياد إلى ذلك، فجرت في ذلك خطوب إلى أن ادعاه معاوية، فأمره على البصرة، ثم على الكوفة، وأكرمه، وسار زياد سيرته المشهورة، وسياسته المذكورة، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث "الولد للفراش". وأما حديث حجر بن عدي فعن ابن سيرين أن زيادًا أطال الخطبة، فقال حجر بن عدي: الطلاق، فمضى في خطبته، فقال له: الصلاة وضرب بيده إلى الحصى، وضرب الناس بأيديهم إلى الحصى، فنزل، فصلى، ثم كتب فيه إلى معاوية، فكتب معاوية: أن سرح به إلي، فسرحه إليه، فلما قدم عليه، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: وأمير المؤمنين أنا؟ إني لا أقيلك ولا أستقيلك، فأمر بقتله، فلما انطلقوا به، طلب منهم أن يأذنوا له، فيصلي ركعتين، فأذنوا له. فصلى ركعتين، ثم قال: لا تطلقوا عني حديدًا ولا تغسلوا عني دمًا. وادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم، قال: فقتل (1). وذكر الذهبي في السير (2) عن يعلى بن عبيد عن أبيه، قال: جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع عليًا أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فائتوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له. فأتوا عليًا،

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (3/ 469) وذكره الطبري وابن الأثير وابن كثير وتاريخ الإسلام وتاريخ خليفة. (2) السير (3/ 140) ورجاله ثقات وذكره ابن كثير في البداية والنهائية (8/ 129).

فكلموه، فلم يدفعهم إليه. وذكر الذهبي في السير (1) عن أنس قال: تعاهد ثلاثة من أهل العراق على قتل معاوية، وعمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة. وأقبلوا بعد بيعة معاوية بالخلافة حتى قدموا إيلياء، فصلوا من السحر في المسجد، فلما خرج معاوية لصلاة الفجر، كبر، فلما سجد انبطح أحدهم على ظهر الحرسي الساجد بينه وبين معاوية حتى طعن معاوية في مأكمته فانصرف معاوية، وقال: أتموا صلاتكم، وأمسك الرجل، فقال الطبيب: إن لم يكن الخنجر مسمومًا، فلا بأس عليك. فأعد الطبيب عقاقيره، ثم لحس الخنجر، فلم يجده مسمومًا، فكبر، وكبر من عنده وقيل: ليس بأمير المؤمنين بأس. قال الذهبي: هذه المرة غير المرة التي جرح فيها وقتما قتل علي رضي الله عنه. فإن تلك فلق أليته وسقي أدوية خلصته من السم، لكن قطع نسله. قال الذهبي: قتل بين الفريقين [يعني في صفين] نحو من ستين ألفًا. وقيل: سبعون ألفًا وقتل عمار مع علي، وتبين للناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقتله الفئة الباغية" ا. هـ. 2122 - * روى البخاري عن عكرمة قال لي ابن عباسٍ ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيدٍ فاسمعا من حديثه. فانطلقنا، فإذا هو حائطٍ يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: "كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمارٍ تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. قال الشيخ شعيب: وهو حديث صحيح مشهور بل متواتر، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره، قال: إنما قتله الذين جاؤوا به، كما في [المسند] بسند صحيح، فأجابه علي رضي الله عنه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا منه رضي الله عنه إلزام

_ (1) السير (3/ 143) ورجاله ثقات. إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس. مأكمته: عجيزته. أليته: العجيزة. 2122 - البخاري (1/ 541) 8 - كتاب الصلاة -63 - باب التعاون في بناء المسجد.

مفحم لا جواب عنه. وحجة لا اعترض عليها. وما ذهب إليه الذهبي من كون طائفة معاوية هي الباغية هو مذهب فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي، وغيرهم كما قال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب "الإمامة". نقله عنه المناوي في "فيض القدير". قال الذهبي: وتسلم معاوية الخلافة في آخر ربيع الآخر، وسمي عام الجماعة لاجتماعهم على إمام، وهو عام أحد وأربعين. وقال ابن إسحاق: بويع معاوية بالخلافة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين لما دخل الكوفة. وقال أبو معشر: بايعه الحسن بأذرح في جمادى الأولى، وهو عام الجماعة. اهـ. ذكر الذهبي في السير (1) عن القاسم بن محمد؛ أن معاوية لما قدم المدينة حاجًا، دخل على عائشة، فلم يشهد كلامهما إلا ذكوان مولاها، فقالت له: أمنت أن أخبأ لك رجلاً يقتلك بأخي محمد؟ قال: صدقت. ثم وعظته، وحضته على الاتباع، فلما خرج، اتكأ على ذكوان، وقال: والله ما سمعت خطيبًا -ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبلغ من عائشة. 2123 - * روى أحمد عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة، فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلاً، فيقتلك؟ فقال؟: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الإيمان قيد الفتك".

_ (1) السير (3/ 147) ورجاله ثقات. 2123 - أحمد في مسنده (4/ 92) وللمرفوع منه شاهد من حديث الزبير عند أحمد وعبد الرزاق، وآخر من حديث أبي هريرة عند أبي داود فالحديث صحيح. قال أبو عبيد: الفتك: أن يأتي الرجل الرجل وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وقوله: "الإيمان قيد الفتك" أي أن الإيمان يمنع القتل كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدًا.

ذكر الذهبي في السير (1) عن عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي. قال مسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعد لنا يا مسور مانلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، أم تعد الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنبٍ أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه [ترحم عليه]. عن كريب مولى ابن عباس: أنه رأى معاوية صلى العشاء، ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد، فأخبر ابن عباس، فقال: أصاب. أي بني ليس أحد منا أعلم من معاوية. هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر (2). وذكر الذهبي في السير (3) عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما قتل عثمان، ووقع الاختلاف، لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية، فأغزاهم مراتٍ. ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج، وقاتوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل. قال الذهبي: قال الزبير بن بكار: كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم، وأمر بالنيروز والمهرجان، واتخذ المقاصير في الجامع، وأول من قتل مسلمًا صبرًا [يعني حجر بن عدي وأصحابه] وأول من قام على رأسه حرس، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول

_ (1) السير (3/ 150) ورجاله ثقات، وأخرجه عبد الرزاق بنحوه في مصنفه (11/ 344). (2) مسند الشافعي (1/ 108) ورجاله ثقات. (3) السير (3/ 150) وأخرجه أبو زرعة في تاريخ دمشق (1/ 188، 346).

من اتخذ الخدام الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، وكان يقول: أنا أول الملوك. قلت: نعم. فقد روى سفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم تكون ملكًا". فانقضت خلافة النبوة ثلاثين عامًا، وولي معاوية، فبالغ في التجمل والهيئة، وقل أن بلغ سلطان إلى رتبته، وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد، وترك الأمة من اختياره لهم. ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو برئ من الهنات، والله يعفو عنه. قال أبو مسهر: صلى الضحاك بن قيس الفهري على معاوية، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير فيما بلغني. اهـ. قال الشيخ شعيب: (دخل قبره اليوم في مقبرة الباب الصغير إحدى مقابر دمشق وهو ما زال معروفًا ثمة، وقد جدد بناؤه في السنوات الأخيرة). 2124 - * روى أحمد وأبو داود والترمذي عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا" قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشر، وعثمان ثنتي عشرة، وعلي ست. قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًا عليه السلام لم يكن بخليفة، قال: كذبت أستاه بني الزرقاء. يعني مروان. 2125 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع

_ 2124 - أحمد في مسنده (5/ 220) وأبو داود (4/ 311) كتاب السنة، باب في الخلفاء. والترمذي (4/ 503) 34 - كتاب الفتن -48 - باب ما جاء في الخلافة وقال: هذا حديث حسن وسنده حسن. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. 2125 - مسلم (4/ 2010) 45 - كتاب البر والصلة والآداب 25 - باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة.=

الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه سلم، فتواريت خلف بابٍ، قال: فجاء فحطاني خطاة، وقال: "اذهب، وادع لي معاوية" قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، ثم قال لي: "اذهب، فادع لي معاوية" قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، فقال: "لا أشبع الله بطنه" قال ابن المثنى: فقلت: لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدني قفدة". قال الإمام النووي في شرح حديث: اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة. وفي رواية إني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة، قال: هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم وهذه الرواية المذكورة آخرًا تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلاً للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلمًا وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة، فإن قيل كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان: أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك وهو صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله تربت يمينك وعقري حلقي وفي هذا الحديث لا كبرت سنك وفي حديث معاوية لا أشبع الله بطنه ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورًا وأجرًا وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا ولا لعانًا ولا منتقمًا لنفسه. اهـ.

_ = فحطأني: الحطء بالهمز: الدفع بوسط الكف بين الكتفين، وقد جاء في الحديث غير مهموز، وهو أن تحرك الشيء وتزعزعه. قعدني: القفد: صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا، تقول: قفدته قفدًا.

2126 - * روى الطبراني عن قيس يعني ابن أبي حازم -قال: قال معاوية لأخيه: ارتدف فأبى، فقال: بئس ما أدبت فقال أبو سفيان: دع أخاك ... 2127 - * روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو: أن معاوية كان يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2128 - * روى البخاري عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنظف، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء. قالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت. 2129 - * روى الطبراني عن إسحاق بن يسار قال: رأيت معاوية بالأبطح أبيض الرأس واللحية. 2130 - * روى الطبراني عن خالد بن معدان قال: كان معاوية طويلاً أبيض أجلح.

_ 2126 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 358): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 2127 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 357): رواه الطبراني وإسناده حسن. 2128 - البخاري (7/ 403) 64 - كتاب المغازي -29 - باب غزوة الخندق وهي الأحزاب. نوساتها تنظف: ذوائبها تقنطر ماء. 2129 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 355): رواه الطبراني وإسناده حسن. 2130 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 355): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير صالح بن صفوان وهو ثقة.

38 - عباد بن بشر رضي الله عنه

38 - عباد بن بشر رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل ... ذكره عقبة فيمن شهد بدرًا قال: واستشهد باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف وقال في ذلك شعرًا ... وفي الصحيح (1) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع صوت عباد بن بشر فقال: "اللهم ارحم عبادًا". الحديث وله ذكر في الصحيح (2) من حديث أنس أن عباد ابن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاءت عصا أحدهما فلما افترقا أضاءت عصا كل واحد منهما. اهـ. وقال الذهبي في ترجمته: الإمام أبو الربيع الأنصاري الأشهلي، أحد البدرين، كان من سادة الأوس، عاش خمسًا وأربعين سنة، وهو الذي أضاءت له عصاته ليلة انقلب إلى منزله من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسمل على يد مصعب بن عمير، وكان أحد من قتل كعب بن الأشرف اليهودي. ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، قال: قالت عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وعباد ابن بشر، وأسيد بن حضير (3). آخى النبي صلى الله عليه وسلم، بينه وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة. وري بإسناد ضعيف عن أبي سعيد الخدري: سمع عباد بن بشر يقول: رأيت الليلة كأن السماء فرجت لي، ثم أطبقت علي، فهي إن شاء الله الشهادة. عن عائشة قال: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عباد بن بشر، فقال:

_ (1) البخاري مطولاً (5/ 264) 52 - كتاب الشهادات -11 - باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته. (2) البخاري (7/ 125) 63 - كتاب مناقب الأنصار -13 - باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن شر. (3) المستدرك (3/ 229) وصححه ووافقه الذهبي.

"يا عائشة! هذا صوت عباد بن بشر" قلت: نعم. قال: "اللهم اغفر له" (1). عباد بن بشر بن قيظي الأشهلي قال ابن الأثير: وقع تخبيط في اسم جده. قال: وإنما هو عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث ابن الخزرج بن الأوس الأوسي. استشهد رضي الله عنه يوم اليمامة. أما عباد بن بشر بن قيظي، فهو أنصاري من بني حارثة، أم قومه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، له حديث في الاستدارة في الصلاة إلى الكعبة. والله أعلم. قال عباد بن عبد الله بن الزبير: ما سماني أبي عبادًا إلا به يعني بالأشهلي، ومن شعره: صرخت له فلم يعرض لصوتي ... ووافى طالعًا من رأس جذر فعدت له فقال من المنادي ... فقلت أخوك عباد بن بشر وهذي درعنا رهنًا فخذها ... لشهرٍ، إن وفى، أو نصف شهر فقال: معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغني من غير فقر فأقبل نحونا يهوي سريعًا ... وقال لنا لقد جئتم لأمر وفي أيماننا بيض حداد ... مجربة، بها الكفار نفري فعانقه ابن مسلمة المردي ... به الكفار كالليث الهزبر وشد بسيفه صلتًا عليه ... فقطره أبو عبسٍ بن جبر وكان الله سادسنا فأثنا ... بأنعم نعمةٍ وأغز نصر واستعمله النبي، صلى الله عليه وسلم، على صدقات مزينة، وبني سليم، وجعله على حرسه في غزوة تبوك، وكان كبير القدر رضي الله عنه، أبلى يوم اليمامة بلاءً حسنًا، وكان أحد الشجعان الموصوفين. نظر يوم اليمامة وهو يصيح: احطموا جفون السيوف. وقاتل حتى قتل بضربات في وجهه، رضي الله عنه. اهـ الذهبي. * * *

_ (1) البخاري تعليقًا (5/ 264) وقال الحافظ في الفتح: وصله أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد ابن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة لكن بلفظ "اللهم ارحم عبادًا".

39 - ضماد رضي الله عنه

39 - ضماد رضي الله عنه قال ابن حجر: ضماد بن ثعلبة الأزدي من أزد شنوءة. وله ذكر في حديث أخرجه مسلم. وروى مسدد في مسنده في أوله زيادة قال: وكان ضماد صديقًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يتطيب فخرج يطلب العلم، ثم جاء وقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره قال البغوي: لا أعلم لضماد غيره ووقع في الصحابة لابن حبان ضماد الأزدي كان صديقًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا رأيته بخط الحافظ أبي علي البكري وكذا قال ابن منده أنه يقال فيه ضماد وضمام. اهـ ابن حجر. 2131 - * روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن ضمادًا قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد" قال فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتٍ، قال فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، وقد بلغن ناعوس البحر، قال فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعلى قومك؟ " قال: وعلى قومي؟ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضمادٍ.

_ 2131 - مسلم (2/ 593) 7 - كتاب الجمعة -13 - باب تخفيف الصلاة والخطبة. من هذه الريح: المراد بالريح هنا: الجنون ومس الجن. ناعوس: وردت في النسخ قاموس والأولى أشهر ومعناه: وسطه. وقيل: لجتة وقيل: قعره الأقصى. مطهرة: الإدارة أو السطحية.

40 - عدي بن حاتم رضي الله عنه

40 - عدي بن حاتم رضي الله عنه قال ابن حجر: عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي الطائي ولد الجواد المشهور أبو طريف ... أسلم في سنة تسع وقيل سنة عشر وكان نصرانيًا قبل ذلك وثبت على إسلامه في الردة وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر وشهد فتح العراق ثم سكن الكوفة وشهد صفين مع علي ومات بعد الستين وقد أسن قال خليفة بلغ عشرين ومائة سنة وقال أبو حاتم السجستاني بلغ مائة وثمانين. قال عدي بن حاتم: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء .. وفي الصحيحين أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور تتعلق بالصيد وفيهما قصة في حمله قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1) على ظاهره وقوله له إنك لعريض الوسادة. وروى أحمد والترمذي من طريق عباد بن حبيش الكوفي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال الناس هذا عدي بن حاتم قال: وجئت بغير أمان ولا كتاب وكان قال قبل ذلك: إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي فقام فأخذ بيدي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى إلى داره فألقت إليه الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فقال: هل تعلم من إله سوى الله؟ قلت: لا. ثم قال: هل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ قلت: لا. قال: فإن اليهود مضغوب عليهم وإن النصارى ضالون. وذكر ابن المبارك في الزهد عن ابن عيينة أنه حدث عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها. وكان جوادًا وقد أخرج أحمد عن تميم بن طرفة قال: سأل رجل عدي بن حاتم مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم والله لا أعطيك: وسنده صحيح اهـ ابن حجر.

_ (1) البقرة: 187.

وقال الذهبي في ترجمته: الشريف، أبو وهب وأبو طريف الطائي، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولد حاتم طي الذي يضرب بجوده المثل. وفد عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في وسط سنة سبع، فأكرمه واحترمه. وكان أحد من قطع برية السماوة مع خالد بن الوليد إلى الشام، وقد وجهه خالد بالأخماس إلى الصديق ... نزل الكوفة مدة ثم قرقيسيا من الجزيرة. عن أبي عبيدة بن حذيفة، قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا أتيه، ثم أتيته فسألته، فقال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم فكرهته، ثم كنت بأرض الروم، فقلت: لو أتيت هذا الرجل، فإن كان صادقًا، تبعته، فلما قدمت المدينة، استشرفني الناس، فقال لي: يا عدي! أسلم تسلم، قلت: إن لي دينًا، قال: أنا أعلم بدينك منك، ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى قال: ألست ركوسيًا (1) تأكل المرباع؟ (2) قلت: بلى. قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك. فتضعضعت لذلك. ثم قال: يا عدي! أسلم تسلم. فأظن ما يمنعك أن تسلم خصاصة تراها بمن حولي، وأنك ترى الناس علينا إلبًا واحدًا. هل أتيت الحيرة؟ قلت: لم آتها، وقد علمت مكانها. قال: توشك الظعينة أن ترتحل من الحيرة بغير جوارٍ حتى تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسرى. قلت: كسرى بن هرمز! قال: كسرى بن هرمز، وليفيض المال حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة. قال عدي: فلقد رأيت اثنتين، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة، يعني فيض المال (3). قال أبو عبيدة: كان عدي بن حاتم على طيء يوم صفين مع علي. وروى سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين، قال: لما قتل عثمان، قال عدي: لا

_ (1) ركوسيًا: دين بين النصارى والصابئين. (2) المرباع وهو ربع الغنيمة الذي يأخذه الرئيس خالصًا دون أصحابه وذلك حينما تغزو قبيلة الأخرى وتغنم. (3) رواه أحمد في مسنده (4/ 278) وإسناده قوي.

ينتطح فيها عنزان (1) ففقئت عينه يوم صفين، فقيل له: أما قلت: لا ينتطح فيها عنزان، قال: بلى وتفقأ عيون كثيرة وقيل: قتل ولده يومئذ. قال أبو إسحاق: رأيت عديًا رجلاً جسيمًا أعور، يسجد على جدارٍ ارتفاعه نحو ذراع. جرير عن مغيرة قال: خرج عدي، وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا قرقيسيا (2)، وقالوا: لا تقيم ببلدٍ يشتم فيه عثمان اهـ. 2132 - * روى البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتينا عمر في وفدٍ، فجعل يدعو رجلاً رجلاً، ويسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عدي: فلا أبالي إذاً. وفي رواية أحمد (2) قال: أتيت عمر بن الخطاب في أناسٍ من قومي، فجعل يفرض للرجل من طيء في ألفين، ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه، فأعرض عني، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أتعرفني؟ قال: فضحك، ثم قال: نعم، والله إني لأعرفك آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة

_ (1) لا ينتطح فيها عنزان، لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز، فكان عدي. يظن بعد مقتل عثمان أو الناس سيجتمعون على علي دون نزاع ولكن جرى خلاف ما ظن. (2) قرقيسيا: بلد في الشام على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ، وعندها مصب الخابور في الفرات، فهي في مثلث بين الخابور والفرات. 2132 - البخاري (8/ 102) 64 - كتاب المغازي -76 - باب قصة وفد طيء. (2) أحمد في مسنده (1/ 45) مسلم بعضه (4/ 1957) 44 - كتاب فضائل الصحابة -47 - باب من فضائل غفار وأسلم. يفرض في ألفين: أي يوجب له هذا المقدار من المال في العطاء. حيال الشيء: تلقاؤه وما يواجهه. أجحفت: به الحاجة، إذا أفقرته وأذهبت ماله، وجعلته محتاجًا إلى غيره، والفاقة، الفقر والحاجة.=

عشائرهم، لما ينوبهم من الحقوق، فقال عدي: فلا أبالي إذاً. قال الذهبي: قال ابن الكلبي: مات عدي سنة سبعٍ وستين، وله مئة وعشرون سنة. وقال ابن سعد: سنة ثمان وستين، وقيل: سنة ست وستين. اهـ. * * *

_ = ينويهم: نابهم الأمر: أي طرقهم وعرض لهم، والمراد به: ما يتجدد من الحوادث التي يحتاجون أن ينفقوا فيها.

41 - ثمامة بن أثال رضي الله عنه

41 - ثمامة بن أثال رضي الله عنه قال ابن حجر: ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة بن عتيبة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة الحنفي أبو أمامة اليمامي .. حديثه في البخاري من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج النبي صلى الله عليه آله وسلم فقال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأخرجه أيضًا مطولاً ورواه ابن إسحاق في المغازي عن سعيد المقبري مطولاً وأوله أن ثمامة كان عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد قتله فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه أن يمكنه منه فلما أسلم قدم مكة معتمرًا فقال: والذي نفسي بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف أهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورواه الحميدي عن سفيان عن ابن عجلان عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وذكر أيضًا ابن إسحاق أن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء ابن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفر واشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم فرآها عليه ناس من بني قيس بن ثعلبة فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وروى ابن منده من طريق علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة ومنعه عن قريش الميرة ونزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (1) وإسناده حسن وذكر وثيمة له مقامًا حسنًا في الردة وأنشد له في الإنكار على بني حنيفة أبياتًا منها: أهم بترك القول ثم يردني ... إلى القول إنعام النبي محمد شكرت له فكي من الغل بعدما ... رأيت خيالاً من حسام مهند اهـ. ابن حجر.

_ (1) المؤمنون: 76.

2133 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجدٍ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثالٍ. سيد أهل اليمامة، فربطوه بساريةٍ من سواري المسجد. فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ماذا عندك؟ يا ثمامة! " فقال: عندي، يا محمد! خير. إن تقتل تقتل ذا دمٍ. وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد. فقال: "ما عندك؟ يا ثمامة! " قال: ما قلت لك. إن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد. فقال: "ماذا عندك؟ يا ثمامة! " فقال: عندي ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر. وإن تقتل تقتل ذا دمٍ. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد. فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله! ما كان من دينٍ أبغض إلي من دينك. فأصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله! ما كان من بلدٍ أبغض إلي من بلدك. فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة. فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: أصوت؟ فقال: لا. ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا، والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطةٍ حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج النسائي (1) منه طرفًا في غسل الكافر إذا أراد أن يسلم، وهذا لفظه. قال أبو هريرة: إن ثمامة بن أثال الحنفي انطلق إلى نخلٍ قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله،

_ 2133 - البخاري (8/ 82) 64 - كتاب المغازي -70 - وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال. ومسلم (2/ 1286) 32 - كتاب الجهاد والسير -19 - باب ربط الأسير وحبه، وجواز المن عليه. إن تقتل تقتل ذا دم: إن تقتل تقتل صاحب دم، لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله، ويدرك قاتله به ثأره، أي لرياسته وفضيلته وقيل: تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. (1) النسائي (1/ 109) كتاب الطهارة، باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم.

يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. * * *

42 - عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه

42 - عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال ابن حجر: عمرو بن عبسة بن خالد بن عامر بن غاضرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهتة بن سليم .. وقيل ابن عبسة بن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خالد بن مازن ابن مالك بن ثعلبة بن بهثة. كذا ساق نسبه ابن سعد وتبعه ابن عساكر والأول أصح، وهو الذي قاله خليفة وأبو أحمد الحاكم وغيرهما، السلمي أو نجيح ويقال أبو شعيب قال الواقدي: أسلم قديماً بمكة ثم رجع إلى بلاده فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها قال الواقدي، وزعم أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي في ذكر من نزل حمص من الصحابة عمرو بن عبسة من المهاجرين الأولين شهد بدراً كذا قال وتبعه عبد الصمد بن سعيد: قال أحمد وذكر بقية أنه نزلها أربعمائة من الصحابة منهم عمرو بن عبسة أو نحيج، قال ابن عساكر كذا قالا ولم يتابعا على شهوده بدراً ويقال إنه كان أخا أبي ذر لأمه قاله خليفة واسما رملة بنت الوقيعة. أخرج مسلم في صحيحه قصة إسلامه وسؤاله عن أشياء من أمور الصلاة وغيرها، وقد روى عنه ابن مسعود مع تقدمه وأبو أمامة الباهلي وسهل بن سعد ومن التابعين شرحبيل بن السبط وسعدان بن أبي طلحة وسليم بن عامر وعبد الرحمن ابن عامر وجبير بن نفير وأبو سلام وآخرون. قال ابن سعد: كان قبل أن يسلم اعتزل عبادة الأوثان، وأخرج أبو يعلى من طريق لقمان بن عامر عن أبي أمامة من طريق ابن عبسة لقد رأيتني وإني لرابع الإسلام، وفي رواية أبي أحمد الحاكم من هذا الوجه وإني لربع الإسلام. وأخرج أبو نعيم عن مولى لكعب قال: انطلقنا مع المقداد بن الأسود وعمرو بن عبسة وشافع بن حبيب الهذلي فخرج عمرو بن عبسة يوماً للرعية فانطلقت نصف النهار لأراه فإذا سحابة قد أظلته ما فيها عنه مفصل فيقظته فقال: إن هذا شيء إن علمت أنك أخبرت به أحداً لا يكون بيني وبينك خير، قال: فوالله ما أخبرت به حتى مات. وقال الحاكم أبو احمد: قد سكن عمرو بن عبسة الشام ويقال إنه مات بحمص. وأظنه مات في أواخر خلافة عثمان فإنني لم أر له ذكراً في الفتنة ولا في خلافة معاوية. اهـ. قال الذهبي: عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة، الإمام الأمير، أبو نجيح السلمي

البجلي، أحد السابقين، ومن كان يقال هو ربع الإسلام. وبنو بجيلة رهط من سليم وكان من أمراء الجيش يوم وقعة اليرموك. نزل عمرو حمص باتفاق. ويقال: شهد بدراً، وما تباع أحد عبد الصمد بن سعيد، وأحمد بن محمد بن عيسى على ذا (1) اهـ. ذكر ابن سعد (2) عن بن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بعكاظ، فقلت: من معك؟ قال: «أبو بكر وبلال» فأسلمت. فلقد رأيتني ربع الإسلام. وذكر الذهبي في السير (3) عن عمرو بن عبسة، قال: أسلمت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «الحق بقومك» ثم أتينه قبل الفتح. 2134 - * روى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً، حراء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبي» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله» فقلت: فبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء» قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد» قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت

_ (1) أي على كونه شهد بدراً، ولفظ الإصابة: وزعم أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي في ذكر من نزل حمص من الصحابة عمرو بن عبسة من المهاجرين الأولين شهد بدراً. كذا قال، وتبعه عبد الصمد بن سعيد ... قال ابن عساكر: كذا قالا، ولم يتابعا على شهوده بدراً. (2) الطبقات الكبرى (4/ 215) ونسبه ابن حجر للطبراني وإسناده حسن. (3) السير (2/ 459) وإسناده حسن. 2134 - مسلم (1/ 569) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 52 - باب إسلام عمرو بن عنبسة. ما أنت: هكذا هو في الأصول ما أنت ولم يقل: من أنت، لأنه سأله عن صفته، ولا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل.

فائتني» فال: ذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخير الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه؛ فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: «نعم، أنت الذي لقيتني بمكة؟» قال: فقلت: بلى. فقلت: يا رسول الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة؟ قال: «صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالمرح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهم، فإذا فاء الفي فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار». قال فقلت: يا نبي الله فالوضوء؟ حدثني عنه. قال: «ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه، كما أمره الله تعالى، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خَرّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من

= مشهودة: تشهدها الملائكة ويحضرونها. يستقل الظل بالرمح: استقلال الظل بالرمح: كناية عن وقت الظهر، وهو أن يصير الظل مثل ذي الظل. تسجر: سجرت النار، إذا أوقدنها. قرني شيطان: قرنا الشيطان: كناية عن جني رأسه، وقيل: هو مثل: معناه: أنه في هذا الوقت يتحرك الشيطان فيتسلط، وقيل: القرن: القوة. فاء: الفيء: أي رجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. مجدة: التمجيد: التعظيم، والمجيد: الكريم الشريف.

خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه». فحدث عمرو بت عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول. في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا إمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسوله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً - حتى عد سبع مرات - ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك. قال الذهبي: لم يؤرخوا موته، لعله مات بعد سنة ستين. فالله أعلم. * * *

43 - خباب بن الأرت رضي الله عنه

43 - خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال ابن حجر: خباث بن الأرت بتشديد المثناه بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي ويقال الخزاعي أبو عبد الله .. سبي في الجاهلية فبيع بمكة مولى أم أنمار الخزاعية وقيل غير ذلك، ثم حالف بني زهرة، وكان من السابقين الأولين. قال ابن سعد: بيع بمكة ثم حالف بني زهرة وأسلم قديماً وكان من المستضعفين. وروى البارودي أنه أسلم سادس ستة وهو أول من أظهر إسلامه وعذب عذاباً شديداً لأجل ذلك. وقال الطبري: إنما انتسب في بني زهرة لأن آل سباع حلفاء عمرو بن عوف بن الحارث بن زهرة وآل سباع منهم سباع بن أم أنمار الخزاعية ثم شهد المشاهد كلها، آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين حبر بن عتيك. روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى الطبراني من طريق زيد بن وهب قال: لما رجع علي من صفين مر بقبر خباب فقال: رحم الله خباباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجره وشهد خباب بدراً وما بعدها ونزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين، زاد ابن حبان منصرف على من صفين وصلى عليه علي، وقال مات سنة تسع عشرة والأول أصح وكان يعمل السيوف في الجاهلية ثبت ذلك في الصحيحين وثبت فيهما أيضا أنه تمول وأنه مرض مرضاً شديداً حتى كاد أن يتمنى الموت روى مسلم من طريق قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب وقد اكتوى فقال: لولا أن رسول الله عليه وآله وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ويقال إنه أول من دفن بظهر الكوفة ذلك الطبري بسند له إلى علقمة بن قيس النخعي عن ابن البخاب قال وعاش ثلاثاً وستين سنة. اهـ. قال الذهبي في ترجمته: من نجباء السابقين. له عدة أحاديث. وقيل: كنيته أبو عبد الله، شهد بدراً، والمشاهد. قال منصور، عن مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وخباب، وبلال، وصهيب، وعمار.

وأما ابن إسحاق، فذكر إسلام خباب بعد تسعة عشر إنساناً، وأنه كمل العشرين. اهـ. 2135 - * روى ابن ماجه وابن سعد عن أبي ليلى الكندي، قال: قال عمر لخباب: ادنه، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار. قال: فجعل يريه بظهره شيئاً يعني من آثار تعذيب قريش له. 213 - * روى البخاري وابن سعد عن خباب، قال: كنت فيناً بمكة، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حق تكفر بمحمد. فقلت: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث. فقال: إذا بعثت كان لي مال، فسوف أقضيك. فقلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزلت: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) (1). قال الذهبي: لخباب - بالمكرر - اثنان وثلاثون حديثاً ومنها: ثلاثة في الصحيحين وانفرد له البخاري بحديثين ومسلم بحديث. اهـ الذهبي. 2137 - * روى البخاري عن علقمة بن قيس النخعي رحمه الله قال: كنا جلوساً مع ابن مسعود، فجاء خباب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك، قال: أجل، قال: اقرأ يا علقمة، فقال زيد بن حدير - أخو زياد بن حدير -: أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ فقال: أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قومك وقومه، فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: كيف ترى؟ قال: قد أحسن، قال عبد الله: ما أقرأ شيئاً إلا وهو يقرؤه، ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب، فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال: أما إنك لن تراه علي بعد اليوم، فألقاه.

_ 2135 - ابن ماجه (1/ 54) المقدمة - 11 - باب من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فضائل خباب وقال في الزوائد: إسناده صحيح. والطبقات الكبرى (3/ 165). 2136 - البخاري بنحوه (8/ 429) 65 - كتاب التفسير - 10 - باب (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً). الطبقات الكبرى (2/ 324). (1) مريم: 78. 2137 - البخاري (8/ 100) 64 - كتاب المغازي - 74 - باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن.

قال الذهبي: قيل: مات في خلافة عمر، وصلى عليه عمر. وليس هذا بشيء، بل مات بالكوفة سنة سبع وثلاثين، وصلى عليه علي. وقيل: عاش ثلاثاً وسبعين سنة. نعم، الذي مات سنة تسع عشرة وصلى عليه عمر: هو خباب مولى عتبة بن غزوان، صحابي مهاجري أيضاً. اهـ. * * *

44 - سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما

44 - سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما قال ابن حجر في الإصابة: سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شمس .. أحد السابقين الأولين قال البخاري: مولاته امرأة من الأنصار وقال ابن حبان يقال لها ليلى ويقال ثبيتة بنت يعار وكانت امرأة أبي حذيفة وبهذا جزم ابن سعد، وقال ابن شاهين: سمعت ابن أبي داود يقول: هو سالم بن معقل وكان مولى امرأة من الأنصار يقال لها فاطنة بنت يعار أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة وسيأتي في ترجمته وديعة أن اسمها سلمى وزعم ابن منده أنه سالم بن عبيد بن ربيعة وتعقبه أبو نعيم فأجاد وإنما هو مولى أبي حذيفة ابن عتبة ابن ربيعة فوقع فيع سقط وتصحيف وكان أبو حذيفة قد تبناه كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة فكان أبو حذيفة يرى أن ابنه فانكحه أبنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة فأما أنزل الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} رد كل أحد تبنى ابناً من أولئك إلى أبيه ومن لم يعرف أبوه رد إلى مواليه، أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة بهذا وفيه قصة إرضاعه. وروى البخاري من حديث ابن عمر كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر أخرجه الطبراني من طريق هشام بن عروة عن نافع وزاد وكان أكثرهم قرآنا، وفي الرضاع مشهورة فعند مسلم من طريق القاسم عن عائشة أن سالما كان مع أبي حذيفة فأتت سهلة بنت سهيل بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع أبي حذيفة فأتت سهلة بنت سهيل بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت إن سالماً بلغ ما يبلغ الرجال وإنه يدخل غلي وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً فقال: أرضعيه تحرمي عليه الحديث، ومن طريق الزهري عن أبي عبيد الله بن عبد الله بن زمعة عن أمه زينب بنت أم سلمة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسالم، وقال مالك في الموطأ عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أبا حذيفة فذكر الحديث قال جاءت سهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة فقال: يا رسول الله إنا كنا نرى سالماً ولداً وكان يدخل علي وأنا فضل [أي استقبله دون تكلف وكأني أمه لا أتستر منه تستر الأجنبية عنه] فماذا ترى فيه فذكره. ووصله عبد الرازق عن مالك فقال عن عروة عن عائشة وأخرجه البخاري من طريق الليث عن الزهري موصولاً وروى البخاري ومسلم

والنسائي والترمذي من طريق مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رفعه خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل. وروى ابن المبارك في كتاب الجهاد أو لواء المهاجرين كان مع سالم فقيل له في ذلك. فقال: بئس حامل القرآن أنا - يعني إن فرتت - فقطعت يمينه فأخذه بيساره فقطعت فاعتنقه إلى أن صرع، فقال لأصحابه ما فعل أبو حذيفة يعني مولاه قيل قتل قال فأضجعوني بجنبه فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثبيتة فقال: إنما أعتقته سائبة فجعله في بيت المال وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه فقال كليه. اهـ ابن حجر. وقال الذهبي في ترجمته: من السابقين الأولين البدريين المقربين العالمين. قال موسى بن عقبة: هو سالم بن معقل. أصله ك إصطخر. وإلى أبا حذيفة. وإنما الذي أعتقه هي ثبيتة بنت يعار الأنصارية، زوجة أبي حذيفة بن عتبة وتبناه أبو حذيفة، كذا قال. وعن ابن عمر، قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الذين قدموا من مكة، حتى قدم المدينة، لأنه كان أقرأهم. أهـ. 2138 - * روى ابن سعد، عن القاسم بن محمد أن سهلة بنت سهيل أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي امرأة أبي حذيفة فقالت: يا رسول الله! إن سالما معي، وقد أدرك ما يدرك الرجال، فقال: «أرضعيه، فإذا أرضعيه فقد حرم عليك ما يحرم من ذي المحرم». قالت أم سلمة: أبي أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد عليهن بهذا الرضاع، وقلن: إنما هي رخصة لسالم خاصة. 2139 - * روى أحمد والحاكم عن عائشة قالت: استبطأني رسول الله ذات ليلة، فقال: ما حسبك؟ قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتاً بالقرآن، فأخذ رداءه، وخرج

_ 2138 - الطبقات الكبرى (2/ 87) ورجاله ثقات، لكنه مرسل. وروى مسلم بنحوه (2/ 1077) 17 - كتاب الرضاع - 7 - باب رضاعة الكبير. 2139 - أحمد في مسنده (6/ 165)، والمستدرك (3/ 226) وصححه ووافقه الذهبي.

يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك». 2140 - * روى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قراناً. قال الذهبي: وروى عبيد بن أبي الجعد، عن عبد الله بن الهاد أن سالماً باع ميراثه عمر ابن الخطاب فبلغ مئتي درهم، فأعطاها أمه، فقال: كليها. وقيل: إن سالماً وجد هو مولاه أبو حذيفة، رأس أحدهما عن رجلي الآخر صريعين، رضي الله عنهما. ومن مناقب سالم: عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب قال: من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو من مال الله. فقال سعيد بن زيد: أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين، لائتمنك الناس، وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق، وائتمنه الناس، فقال: قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة. ثم قال: لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت إليه الأمر لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح (1). فإن صح هذا، فهو دال على جلالة هذين في نفس عمر، وذلك على أنه يجوز الإمامة في غير القرشي، والله أعلم. اهـ الذهبي. 2141 - * روى أحمد عن عمرو بن العاص قال: كان فزع بالمدينة فأتيت على سالم مولى أبي حذيفة وهو محتب بحمائل سيفه فأخذت سيفي فاحتبيت بحمائله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله». قال: «ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان». * * *

_ 2140 - ابلخاري (2/! 84) 10 - كتاب الأذان - 54 - باب إمامة العبد والمولى. (1) أحمد في مسنده (1/ 20). 2141 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 200) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

45 - عامر بن ربيعة رضي الله عنه

45 - عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال ابن حجر: عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن سعد بن عبد الله بن الحارث بن رفيدة بن عنز بن وائل العنزي وقيل في نسبه غير ذلك، وعنز بسكون النون أخو بكر بن وائل، أبو عبد الله حليف بني عدي ثم، الخطاب والد عمر ومنهم من ينسبه إلى مذحج وأستخلفه عثمان على المدينة لما حج. وقال ابن سعد: كان الخطاب قد تبنى عامراً فكان يقال عامر بن الخطاب حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (1) قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قام عامر بن ربيعة يصلي من الليل وذلك حين نشب الناس في الطعن فنام فأتاه آت فقال له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة فقام فصلى ثم اشتكى فما خرج بعد إلا بجنازته أخرجه مالك في الموطأ. قال مصعب الزبيري: مات سنة اثنتين وثلاثين كذا قال أبو عبيدة ثم ذكره في سنة سبع وثلاثين وقال: أظن هذا أثبت وقال الواقدي كان موته بعد قتل عثمان بأيام وقيل في وفاته غير ذلك. اهـ. وقال الذهبي في ترجمته: من السابقين الأولين. أسلم قبل عمر، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً. قال ابن إسحاق: أو من قدم المدينة مهاجراً: أبو سلمة بن عبد الأسد، وبعده، عامر ابن ربيعة. وكان الخطاب قد تبناه. وكان معه لواء عمر لما قدم الجايبة (2). عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن أباه رئي في المنام حين طعنوا على عثمان، فقيل له: قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة.

_ (1) الأحزاب: 5. (2) والجايبة: قرية في الشام من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي إذا وقف الإنسان في الصفين، واستقبل الشمال، ظهرت له، وتظهر من نوى أيضاً. وفيها خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خطبته المشهورة لما قدم الشام، وباب الجايبة الذي بدمشق منسوب إليها.

توفي عامر سنة خمس وثلاثين، قبل مقتل عثمان ييسير. اهـ. 2142 - * روى الطبراني عن الزهري قال: حدثني ابن عامر بن ربيعة وكان من كبراء بن عدي وكان أبوه شهد بدراً. * * *

_ 2142 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 201): رواه الطبراني وإسناده حسن.

46 - عبد الله بن جحش رضي الله عنه

46 - عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: عبد الله بن جحش بن رياب براء وتحتانية وآخره موحدة ابن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس. أحد السابقين. قال ابن حبان: له صحبة، وقال ابن إسحاق هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً وروى البغوي من طريق إبراهيم عن مسلم بن محمد الأنصاري عن رجل من قومه قال آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت ومن طريق زياد بن علاقة عن سعد بن أبي وقاص قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية وقال: لأبعثن عليكم رجلاً أصبركم على الجوع والعطش فبعث علينا عبد الله ابن جحش فكان أول أمير في الإسلام. وروى السراج من طريق زر بن حبيش قال: أول راية عقدت في الإسلام لعبد الله بن جحش عن عروة قال: بعث النبي صلى الله علية وآله وسلم عبد الله بن جحش إلى نخلة فذكر القصة بطولها. وروى الطبراني من طريق أبي السوار عن جندب بن عبد الله البجلي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش على سرية فذكر الحديث بطوله وقال ابن أبي حاتم له صحبة، دعا الله يوم أحد أن يرزقه الشهادة فقتل بها، وروى عنه سعد بن أبس وقاص حدثني أبي عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي فندعو؟ قال: فخلونا في ناحية فدعا سعد فقال: يارب إذا التقينا اليوم غدا قلقني رجلاً شديداً حرده أقاتله فيك ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه قال: فأمن عبد الله بن جحش ثم قال عبد الله: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده أقاتله فيك حتى يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك قلت هذا فيك وفي رسولك فتقول صدقت. قال سعد: فكانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط وأخرجه ابن شاهين من وجه آخر عن سعيد بن المسيب أن رجلاً سمع عبد الله بن جحش فذكر نحوه وهذا أخرجه ابن المبارك في الجهاد مرسلاً وقال الزبير كان يقال له المجدع في الله، وكان سيفه انقطع يوم أحد فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرجونا فصار في يد سيفاً فكان يسمى العرجون قال وقد بقي هذا السيف حتى

بيع من بغاء التركي بمائتي دينار. وروى زكريا الساجي من حديث أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبي قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش في أسارى بدر فذكر القصة وأخرجه أحمد وكان قاتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ودفن هو وحمزة في قبر واحد وكان له بوم قتل نيف وأربعون. اهـ. * * *

47 - صهيب بن سنان رضي الله عنه

47 - صهيب بن سنان رضي الله عنه قال ابن حجر: صهيب بن سنان بن مالك .. ويقال خالد بن عمرو بن عقيل ويقال طفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بم جذيم بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر بن قاسط أبو يحيى، وأمه من بني مالك بن عمرو بن تميم وهو الرومي قيل له ذلك لأن الروم سبوه صغيراُ؛ قال ابن سعد: وكان أبوه على الأبلة (1) من جهاز كسرى وكانت منازلهم على دجلة من جهة الموصل فنشأ صهيب بالروم فصار ألكن (2) ثم اشتراه رجل من كلب فباعه بمكة فاشتراه عبد الله بن جدعان التميمي فأعتقه ويقال بل هرب من الروم فقدم مكة فحالف ابن جدعان. وروى ابن سعد أنه أسلم هو وعمار ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم، ونقل الوزير أبو القاسم المغربي أنه كان اسمه عميرة فسماه الروم صهيباً قال: وكانت أخته أميمة تنشده في المواسم وكذلك عماه لبيد وزحر ابنا مالك وزعم عمارة بن وثيمة أن اسمه عبد الملك، ونقل البغوي أنه كان أحمر شديد الصهوبة تشوبها حمرة وكان كثير شعر الرأس يخضب بالحناء، وكان من المستضعفين ممن يعذب في الله وهاجر إلى المدينة مع علي بن أبي طالب في آخر من هاجر في تلك السنة فقدما في نصف ربيع الأول وشهد بدراً والمشاهد بعدها. وروى ابن عدي بن صهيب قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبعث، وروى ابن عدي من حديث أنس والطبراني من حديث أم هانيء، ومن حديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: السباق أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس، وروى ابن ابن عيينة في تفسيره وابن سعد من طريق منصور عن مجاهد أول من أظهر إسلامه سبعة فذكرة فيهم، وروى ابن سعد من طريق عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول وكذا صهيب وأبو فائد وعامر بن فهيرة وقوم وفيهم نزلت هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ

_ (1) الأبلة: بلدة بالعراق تبعد البصرة أربعة فراسخ وهي أقدم من البصرة. (2) ألكن: هو الذي لا يقيم العربية من عجمة في لسانه.

هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} (1). وروى البغوي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه خرجت مع عمر حتى دخلت على صهيب بالعالية فلما رآه صهيب قال: يا ناس يا ناس فقال عمر: ماله يدعو الناس. قلت: إنما يدعو غلامه يحنس. فقال: له يا صهيب: ما فيك شيء أعيبه إلا ثلاث خصال أراك تنتسب عربياً ولسانك أعجمي وتكنى باسم نبي [كان يكنى بأبي يحيى] وتبذر مالك، قال: أما تبذيري ما لي فما أنفقه إلا في حق، وأما كنيتي فكنانيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما انتمائي إلى العرب فإن الروم سبتني صغيراً فأخذت لسانهم، ولما مات عمر أوصى أن يصلى عليه صهيب وأن يصلي بالناس إلى أن يجتمع المسلمون على إمام رواه البخاري في تاريخه. وروى الحميدي والطبراني من حديث صهيب من طريق الستة عنه قال: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهداً قط إلا كنت حاضره. ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيني وبين العدو قط حتى توفي. ومات صهيب سنة ثمان وثلاثين وقيل سنة تسع. اهـ. قال الذهبي في ترجمته: أبو يحيي النمري. من النمر بن قاسط. ويعرف بالرومي، كان من كبار السابقين البدريين. قال الحافظ ابن عساكر: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر، أبو يحيي - ويقال: أبو غسان - النمري الرومي البدري المهاجرس. عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: كناني النبي صلى الله عليه وسلم: أبا يحيى (2). عن صيفي بن صهيب عن أبيه، قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه (3).

_ (1) النحل: 110. (2) الطبقات الكبرى (2/ 227). (3) المستدرك (3/ 400) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وبلال، وخباب، وصهيب ... مختصر. عن أبي عثمان: أن صهيباً حين أراد الهجرة، قال له أهل مكة: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فتغير حالك! قال: أرأيتم إن تركت مالي، أمخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فخلع لهم ماله. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ربح صهيب! ربح صهيب» (1). يعقوب بن محمد الزهري: حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي حدثنا أبي وعمومتي، عن سعيد بن المسيب، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة! فإما أن تكون هحر، أو يثرب» (2). قال [صهيب]: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد كنت هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكياً - فناموا، فذهبت، فلحقني ناس منهم على بريد، فقلت لهم: أعطيكم أوافي من ذهب وتخلوني؟ ففعلوا، فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب (3) تجدوها، وخذوا من فلانة الحلتين. وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء فلما رآني، قال: «يا أبا يحيى، ربح البيع»! ثلاثاً. فقلت: ما أخبرك إلا جبريل. قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، وقد رمدت في الطريق وجعت، وبين يديه رطب، فوقعت فيه. فقال عمر: يا رسول الله: ألا ترى صهيبا يأكل الرطب وهو أرمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لي ذلك. قلت: إنما آكل على شق عيني الصحيحة. فتبسم (4). عن عائذ بن عمرو أن سلمان، وصهيباً، وبلالاً، كانوا قعوداً، فمر بهم أبو سفيان،

_ (1) الطبقات الكبرى (3/ 227) ورجاله ثقات. (2) ذكره الحافظ في "الفتح" ونسبه إلى البيهقي، وسكت عليه، وأخرج البخاري: من حديث أببى موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت في المنام إني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب]. (3) أسكفه الباب: هي خشبة الباب التي يوطأ عليها. (4) الطبقات الكبرى: (3/ 228) وأخرج بنحوه ابن ماجه (2/ 1139) 31 - كتاب الطب - 3 - باب الحمية. وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها بعد. فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ قال: فأخبر بذلك النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: «يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك». فرجع إليهم، فقال: أي إخواننا لعلكم غضبتم؟ قالوا: لا يا أبا بكر، يغفر الله لك (1). قال الواقدي: مات صهيب بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين عن سبعة سنة. وكذلك قال المدائني وغيره في وفاته. قال المدائني: عاش ثلاثاً وسبعين سنة. وقال الفسوي: عاش أربعاً وثمانين سنة. رضي الله عنه. اهـ الذهبي. * * *

_ (1) مسلم (4/ 1947) - 44 - كتاب من فضائل سلمان وصهيب وبلال.

48 - عثمان بن مظعون رضي الله عنه

48 - عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال ابن حجر: عثمان بن مظعون بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح للجحمي .. قال ابم إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر إلى الحبشة هو وابنه السائب الهجرة الأولى في جماعة فلما بلغه أن قريشاً أسلمت رجعوا فدخل عثمان في جوار الوليد بن النغيرة ثم ذكر رده جواره ورضاه بما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قصته مع لبيد بن ربيعة حين أنشد: ألا كل شيء ما حلا الله باطل، فقال عثمان بن مظعون، صدقت، فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال عثمان: كذبت نعيم الجنة لا سزول، فقام سفيه منهم إلى عثمان فلطم عينه فاخضرت. وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص، قال: رد النبي صلى الله عليه وآله وسل على عثمان بن مظعةن التبتل ولو أذن له لاختصينا، وروى ابن شاهين والبيهقي في الشعب من طريق قدامة بن إبراهيم الجمحي عن عمر بن حسين عن عائشة بنت قدامة عن أبيها عن عمها قال قلت: يا رسول الله، إني رجل تشق على العزبة في المغزي فتأذن لي في الخصي فأختصى، فقال: لا ولكن عليه يا ابن مظعون بالصوم، وروى البزار من طريق قدامة بن موسى عن أبيه عن جده قدامة بن مظعون حديثا وقال: لا أعلم له غيره، وفي الصحيحين عن أم العلاء قالت: لما مات عثمان ابن مظعون قلت شهادتي عليك أبا السائب لقد أكرمك الله، توفي بعد شهوده بدراً في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن بالبقيع منهم وروى الترمذي من طريق القاسم ع عائشة قالت: قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان، ولما توفي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وقالت امرأة ترثيه: يا عين جودي بدمع غير ممنون ... على رزية عثمان بن مظعون اهـ. ابن حجر. قال الذهبي في ترجمته: من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين الذين فازوا بوفاتهم في حياة نبيه فصلى عليهم، وكان أبو السائب رضي الله عنه أول من دفع بالبقيع.

روى كثير بن زيد المدني: عن المطَّلب بن عبد الله قال: لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، قال لرجل: هلم تلك الصخرة، فجعلها عند قبر أخي، أعرفه بها، أدفن إليه من دفنت من أهلي، فقام الرجل فلم يُطقها، فقال- يعني الذي حدثه: - فلكأني أنظر إلى بياض ساعدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين احتملها، حتى وضعها عند قبره هذا مرسل (1) وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية. اهـ. 2143 - * روى عبد الرازق وابن سعد عن عائشة قالت: دخلت امرأة عثمان بن مظعون- واسمها خولة بنت حكيم- على عائشة، وهي باذة الهيئة. فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له عائشة، فلقي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك فيَّ أسوة؟ فوالله إن أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده لأنا". قال الذهبي: وعن عبيد الله بن عتبة قال: خطَّ رسول الله صلى الله عليه والسلام لآل مظعون موضع دراهم اليوم بالمدينة. ومات في شعبان سنة ثلاث. وعن عائشة بنت قدامة قالت: كان بنو مظعون متقاربين في الشبه. كان عثمان شديد الأدمة، كبير اللحية. رضي الله عنه اهـ. 2144 - * روى الترمذي والحاكم عن عائشة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، ودموعه تسيل على خدِّ عثمان بن مظعون.

_ (1) رواه أبو داود (13/ 212) كتاب الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر والقبر يُعلَّم، وسنده حين مرسل. وابن ماجة بنحوه مختصراً عن أنس (1/ 498) 6 - كتاب الجنائز- 42 - باب ما جاء في العلامة في القبر. وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد حسن. 2143 - المصنف (6/ 167)، والطبقات الكبرى (3/ 395) عن أبي بردة. 2144 - أبو داود (3/ 201) كتاب الجنائز، باب تقبيل الميت. والترمذي (3/ 305) 8 - كتاب الجنائز- 14 - باب ما جاء في تقبيل الميت. وقال: هذا حديث حسن صحيح. والمستدرك (3/ 190) وصححه الذهبي.

2145 - * روى الإمام مالك عن أبي النَّظْر قال: لما مُرَّ بجنازة عثمان بن مظعون قال رسولُ الله: "ذهبت ولم تلبس منها بشيء". 2146 - * روى البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العُلاء- امرأَةً من نسائهم بايعت النبي، صلى الله عليه وسلم- أخبرتْهُ أن عثمان بن مَظعونِ طارَ لهم في السُّكنى حين اقترعت الأنصار على سُكنى المهاجرين. قالت أمُّ العلاء: فاشتكى عثمانُ عندنا، فمرضته حتى توفي، وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يُدريك أن الله أكرمهُ؟ " قالت: قلت: لا أدري، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن؟ قال: "أما هو فقد جاءُه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله- وأنا رسول الله- ما يُفعل بي" قالت: فوالله لا أُزكِّى أحداً بعده. قالت فأحزنني ذلك، فنمت، فرأيتُ لعثمان عيناً تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرتُه، فقال: "ذلك عمله". * * *

_ 2145 - الموطأ (1/ 242) 16 - كتاب الجنائز- 16 - باب جامع الجنائز، وهو مرسل وقد وصله ابن عبد البر عن عائشة. 2146 - البخاري (7/ 264) 63 - كتاب مناقب الأنصار- 46 - باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

49 - معاذ بن جبل رضي الله عنه

49 - معاذ بن جبل رضي الله عنه قال ابن حجر: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب بن عمرو ابن أدي بن علي بن أسد بن سارة بن يزيد بن جُشم بن عدي بن بابي بن تميم بن كعب بن سلمة أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي الإمام المقدم في علم الحلال والحرام .. قال أبو إدريس الخولاني: كان أبيض وضيء الوجه براق الثنايا أكحل العينين، وقال كعب بن مالك: كان شاباً جميلاً سمحاً من خير شباب قومه، وقال الواقدي: كان من أجمل الرجال وشهد المشاهد كلها .. وشهد بدراً وهو ابن إحدى وعشرين سنة وأمّره النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم على اليمن، والحديث بذلك في الصحيح من رواية ابن عباس عنه. وذكر سيف في الفتوح بسند له عن عبيد بن صخر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: إني قد عرفت بلاءك في الدِّين والذي قد ركبك من الدَّين وقد طيبت لك الهدية فإن أهدى لك شيء فاقبل، قال فرجع حين رجع بثلاثين رأساً أهديت له قال بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له لما ودعه: حفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ومن فوقك ومن تحتك ودرأ عنك شرور الإِنس والجن. وقال أبو نعيم في الحلية: إمام الفقهاء وكنز العلماء شهد العقبة وبدراً والمشاهد، وكان من أفضل شباب الأنصار حلماً وحياء وسخاء، وكان جميلاً وسيماً، روى عنه من الصحابة عمر وأبو قتادة وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم، وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر والزهري عن ابن كعب بن مالك كان معاذ شاباً جميلاً سمحاً لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه. وفي مرسل أبي عون الثقفي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي معاذ يوم القيامة أمام الناس برتوة (1) أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه، وأورده ابن عساكر من طريق عن محمد بن الخطاب والرتوة بفتح الراء المهملة وسكون المثناة وفتح الواو. وفي طبقات ابن سعد من طريق منقطع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن لما بعث معاذاً إني بعثت لكم خير أهلي. ومناقبه كثيرة جداً، وقدم من اليمن في خلافة أبي

_ (1) رتوة: رمية سهم وقيل: مدى البصر.

بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها، وهو قول الأكثر وعاش أربعاً وثلاثين سنة وقيل غير ذلك. اهـ ابن حجر. وقال الذهبي عنه: السيد الإمام أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري، شهد العقبة شاباً أمرد، وله عدة أحاديث. قال شباب: أمه هي هند بنتُ سهل من بني رفاعة، ثم من جُهينة، ولأمه ولد من الجدّ بن قيس. وروى الواقدي عن رجاله أن معاذاً شهد بدراً وله عشرون سنة أو إحدى وعشرون. قال ابن سعد: شهد العقبة في روايتهم جميعاً مع السبعين. وقال عبدُ الصمد بن سعيد: نزل حمص. وكان طويلاً، حسناً، جميلاً. وقال الجماعة: كنيتُه أبو عبد الرحمن، إلا أبا أحمد الحاكم، فقال: كُنيتُه أبو عبد الله. قال علي بن محمد المدائني: معاذ لم يُولد له قطُّ، طُوال، حسنُ الثغر، عظيمُ العينين، أبيضُ، جعدٌ، قطط (1). وأما ابنُ سعد، فقال: له ابنان عبدُ الرحمن وآخر. قال عطاء: أسلم معاذ وله ثمان عشرة سنة. وقال ابنُ إسحاق: ومن السبعين (2) من بني جُشَم بن الخزرج معاذُ بن جبل. اهـ. 2147 - * روى البخاري ومسلم عن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعةٌ كُلُّهم من الأنصار: أُبيُّ بنُ كعب، وزيدٌ، ومعاذُ بن جبل، وأبو زيد قال قتادة: قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي.

_ (1) قطط: شديد الجعودة. (2) ومن السبعين: أي الذين شهدوا العقبة من الأنصار. 2147 - البخاري (9/ 47) 66 - كتاب فضائل القرآن- 8 - باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم (4/ 1914) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 23 - باب من فضائل. أبي بن كعب وجماعة من الأنصار.

2148 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا القُرآن مِن أربعةٍ: مِن ابن مسعود، وأُبيٍّ، ومعاذ بن جبل، وسالمٍ مولى أَبي حُذيفة". 2149 - * روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس مرفوعاً "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشهدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذٌ، وأفرضهم زيدٌ، ولكل أمةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمة أبو عبيدة". 2150 - * روى أحمد وأبو داود والترمذي عن معاذ قال: لما بعثني النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن، قال لي: "كيف تقضي إن عرض قضاءٌ؟ " قال: قلت: أقضي بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما قضي به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟ " قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو، فضرب صدري، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما يُرضي رسول الله". 2151 - * روى البخاري ومسلم عن سعيد بن أبي بُردة عن أبيه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جَدَّةُ أَبا موسى ومُعاذاً إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا"

_ 2148 - البخاري (9/ 46) 66 - كتاب فضائل القرآن- 8 - باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم (4/ 1913) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 22 - باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه. 2149 - أحمد في مسنده (3/ 184، 281) وإسناده صحيح. والترمذي (5/ 665) 50 - كتاب المناقب- 33 - باب مناقب معاذ بن جبل. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (1/ 55) المقدمة- 11 - باب من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2150 - أحمد في سنده (5/ 336، 242) وأبو داود (3/ 303) كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء. والترمذي (3/ 607) 13 - كتاب الأحكام- 3 - باب ما جاء في القاضي كيف يقضي. وقد صحح الحديث غير واحد من المحققين العلماء. انظر شرح السنة بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط (10/ 116). 2151 - البخاري (8/ 62) 64 - كتاب المغازي- 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم بعضه (3/ 1359) 32 - كتاب الجهاد والسير- 3 - باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير. وبعضه (3/ 1587) 36 - كتاب الأشربة- 7 - باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام. =

فقال أبو موسى: يا نبيَّ الله، إن أرضنا بها شرابٌ من الشعير: المزز، وشرابٌ من العسل: فقال: "كلُّ مسكرٍ حرام" فانطلقا. فقال مُعاذٌ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً وعلى راحلتي، وأتفوَّقه تفوقاً. قال: أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي، كما أحتسبُ قومتي. وضرب فسطاطاً فجعلا يتزوران، فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق. فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثمَّ ارتدَّ فقال معاذ: لأضربن عنقه. 2152 - * روى الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل معاذ بن جبل". 2153 - * روى أبو داود والنسائي والحاكم عن معاذ قال: لقيني النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا معاذ إني لأحبُّك في الله" قلت: وأنا والله يا رسول الله أحبك في الله. قال: "أفلا أعلمك كلماتٍ تقولهن دُبُر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". قال الذهبي في السير عن الشعبي قال: قرأ عبد الله: إن معاذاً كان أمةً قانتاً لله حنيفاً. فقال له فروة بن نوفل: إن إبراهيم، فأعادها، ثم قال: إن الأمة معلم الخير، والقانت المطيع، وإن معاذاً، رضي الله عنه، كان كذلك. وروى حيان، عن الشعبي، نحوها. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن نسيتها قال: لا، ولكنا كنا نشبهه بإبراهيم (1). وعن محمد بن سهل بن أبي حثمة: عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله

_ = البتع: نبيذ العسل. المِزْر: نبيذ الشعير. 2152 - الترمذي (5/ 666) 50 - كتاب المناقب- 33 - باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وقال: هذا حديث حسن، إسناده حسن وصححه ابن حبان. 2153 - أبو داود (2/ 86) كتاب الصلاة، باب في الاستغفار. والنسائي (3/ 53) كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء. والمستدرك (3/ 273) وصححه ووافقه الذهبي. (1) المستدرك (3/ 271) وصححه ووافقه الذهبي.

صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين؛ عمر، وعثمان، وعليُّ. وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ، وزيد. وعن نيار الأسلمي: أن عمر كان يستشير هؤلاء، فذكر منهم معاذاً وروى موسى بن عُلي بن رباح، عن أبيه، قال: خطب عمر الناس بالجابية فقال: من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل (1). وروى الأعمش عن أبي سفيان، قال: حدثني أشياخ منا أن رجلاً غاب عن امرأته سنتين، فجاء وهي حُبلى، فأتى عمر، فَهَمَّ برجمها، فقال له معاذ: إن يك لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فتركها، فوضعت غلاماً بان أنه يشبه أباه قد خرجت ثنيَّتاه، فقال الرجل: هذا ابني فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر. عن شهر بن حوشب، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ، نظروا إليه هيبةً (2) له. عن أبي مسلم الخولاني قال: دخلتُ مسجد حمص، فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلاً من الصحابة، فإذا فيهم شاب أكحل العينين، برَّاقُ الثنايا ساكت، فإذا امترى القوم، أقبلوا عليه، فسالوه، فقلت: مَنْ هذا؟ قيل معاذُ بن جبل. فوقعت محبتُه في قلبي (3). عن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ شاباً جميلاً سمَّحاً من خير شباب قومه، لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، حتى كان عليه دينٌ أغلق ماله كلَّه، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يُكلِّم له غرماءه ففعل، فلم يضعوا له شيئاً، فلو ترك أحد لكلام أحد، لترك لمعاذ لكلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلم يبرح حتى باع ماله، وقسمه بينهم، فقام معاذ ولا مال له، ثم بعثه على اليمن ليجبُره، فكان أول من تجر في هذا المال، فقدم على أبي

_ (1) المستدرك (3/ 272) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (7/ 126). (2) أبو نعيم في الحلية (1/ 231). (3) المستدرك (3/ 296)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 230). امترى القوم: اختلفوا وتجادلوا.

بكر، فقال له عمر: هل لك يا معاذ أن تطيعني؟ تدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فاقبله، فقال: لا أدفعه إليه، وإنما بعثني نبيُّ الله ليجبرني، فانطلق عمر إلى أبي بكر، فقال: خذ منه ودع له، قال: ما كنت لأفعل، وإنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبره، فلما أصبح معاذ، وانطلق إلى عمر، فقال: ما أراني إلا فاعل الذي قلت، لقد رأيتني البارحة، أظنه قال: أجرُّ إلى النار، وأنت آخذ بحجزتي فانطلق إلى أبي بكر بكل ما جاء به، حتى جاءه بسوطه قال أبو بكر: هو لك لا آخذُ منه شيئاً، وفي لفظ قد وهبتهُ لك، فقال عمر: هذا حينُ حلَّ وطاب، وخرج معاذ عند ذلك إلى الشام (1). ورواه الذهلي: عن عبد الرزاق عن معمر: فقال: بدل (أُجرُّ إلى النار) كأنِّي في ماء قد خشيت الغرق فخلَّصتني. الأعمش عن شقيق قدم معاذ من اليمن برقيق، فلقي عمر بمكة، فقال: ما هؤلاء؟ قال: أُهدُوا لي، قال: ادفعهم إلى أبي بكر، فأبى، فبات، فرأى كأنه يجرُّ إلى النار وأن عمر يجذبه، فلما أصبح، قال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك. إلى أن قال: فدفعهم أبو بكر إليه، ثم أصبح فرآهم يصلُّون، قال: لمن تُصلون؟ قالوا: لله، قال: فأنتم لله (2). عن سعيد بن المسيِّب أن عمر بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب أبو غيرهم، فقسم فيهم فيئهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء بحلسه الذي خرج به على رقبته. وعن نافع قال: كتب عمر إلى أبي عبيدة ومعاذ: انظروا رجالاً صالحين، فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم. روى أيوب: عن أبي قلابة وغيره أن فلاناً مرَّ به أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال، أوصُوني فجعلوا يوصُونه، وكان معاذ بن جبل في آخر القوم، فقال: أوصيني يرحمك الله، قال:

_ (1) رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 231) بطوله، والحاكم في المستدرك (3/ 273) مختصراً. (2) أبو نعيم في الحلية (1/ 232) مرسلاً، ووصله الحاكم في المستدرك (3/ 272) من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله. وصححه ووافقه الذهبي.

قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك: اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة، فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت. روى حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن معاذ قال: ما بزقت على يميني منذ أسلمت (1). عن معاذ قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2) (3). عن أم سلمة أنَّ أبا عُبيدة لما أُصيب، استخلف معاذ بن جبل، يعني في طاعون عمواس، اشتد الوجع، فصرخ الناس إلى معاذ: ادُع الله أن يرفع عنا هذا الرِّجْز، قال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله من يشاء منكم، أيها الناس أربع خلال من استطاع أن لا تدركه، قالوا: ما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة (4). عن خالد بن معدان أن عبد الله بن قُرْط قال: حضرتُ وفاة معاذ بن جبل، فقال: روِّحوني ألقى الله مثل سنِّ عيسى ابن مريم ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة. قلت [أي الذهبي]: يعني عندما رُفع عيسى إلى السماء.

_ (1) الطبقات الكبرى (3/ 586) والمستدرك (3/ 271). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 311) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (2) العنكبوت: 45. (3) أبو نعيم في الحلية (1/ 235). (4) الطبقات الكبرى (3/ 588). وقع الوباء في عمُواس- قرية في غور الأردن- وكان طاعوناً عظيماً مات فيه كثير من فضلاء الصحابة والتابعين وذلك سنة 18 هـ.

قال ضمرة بن ربيعة: توفي معاذ بقُصير خالد من الأردن، قال يزيد بن عبيدة: توفي معاذ سنة سبع عشرة، وقال المدائني وجماعة: سنة سبع أو ثمان عشرة، وقال ابن إسحاق والفلاس: سنة ثمان عشرة. اهـ الذهبي. * * *

50 - عمرو بن الجموح رضي الله عنه

50 - عمرو بن الجموح رضي الله عنه قال ابن حجر: عمرو بن الجموح بفتح الجيم ونخفيف الميم ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري السلمي .. من سادات الأنصار واستشهد بأحد قال ابن إسحاق في المغازي: كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم ... وقال ابن الكلبي: كان عمرو بن الجموح آخر الأنصار إسلاماً ... علي قال: وكان عمرو يولم على رسول الله صلى عليه وآله وسلم إذا تزوج ورواه أبو نعيم في المعرفة ... قال أحمد عن أبي قتادة قال: أتى عمرو بن الجموح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه في الجنة؟ قال: نعم وكانت رجله عرجاء حينئذ. وقال ابن أبي شيبة [بسنده] عن أبي قتادة أنه حضر ذلك قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه في الجنة؟ قال: نعم وكانت عرجاء فقتل يوم أحد هو وابن أخيه فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فقال: فإني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها ومولاها فجعلوا في قبر واحد وأنشد له المرزباني قوله لما أسلم: أتوب إلى الله سبحانه ... وأستغفر الله من ناره وأثني عليه بآلائه ... بإعلان قلبي وأسراره اهـ. ابن حجر. قال الذهبي في ترجمته: والدُ معاذ، ومعوذ، وخلاد وعبد الرحمن، وهند. روى ثابت البناني، عن عكرمة قال: قدمُ مُصعب بن عُمير المدينة يُعلِّم الناس. فبعث إليه عمرو بن الجموح: ما هذا الذي جئتمونا؟ قالوا: إن شئت جئناك، فأسمعناك القرآن. قال: نعم. فقرأ صدراً من سورة يوسف. فقال عمرو: إن لنا مؤامرة في قومنا (1)، وكان

_ (1) إن لنا مؤامرة في قومنا: أي علينا أن نشاور قومنا.

سيد بني سلمة. فخرجوا، ودخل على مناف فقال: يا مناف! تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ قال: فقلده السيف وخرج، فقام أهله فأخذوا السيف، فلما رجع قال: أين السيف يا مناف؟ ويحك! إن العنز لتمنع استها. والله ما أرى في أبي جعار غداً من خير. ثم قال لهم: إني ذاهب إلى مالي فاستوصوا بمناف خيراً. فذهب، فأخذوه فكسروه وربطوه مع كلب ميت وألقوه في بئر، فلما جاء قال: كيف أنتم؟ قالوا بخير يا سيدنا. طهر الله بيوتنا من الرجس، قال: والله إني أراكم قد أسأتم خلافتي في مناف. قالوا: هو ذاك، انظر إليه في ذلك البئر. فأشرف فرآه، فبعث إلى قومه فجاؤوا فقال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: بلى. أنت سيدنا. قال: فأشهدكم أني قد آمنتُ بما أنزل على محمد. قال: فلما كان يوم أحُد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السماواتُ والأرض أعدت للمتقين" فقام وهو أعرج فقال: والله لأقْحَزَنَّ (1) عليها في الجنة. فقاتل حتى قتل. وعن عاصم بن عمر أنّ إسلام عمرو بن الجموح تأخر. وكان له ضمٌ يُقال له مناف، وكان فتيان بني سَلَمة قد آمنوا، فكانوا يمهلون، حتى إذا ذهب الليل دخلوا بيت صنمه فيطرحونه في أنتن حُفرة منكساً. فإذا أصبح عمرو غمه ذلك، فيأخذه فيغسله ويطيبه. ثم يعودون لمثل فعلهم. فأبصر عمرو شأنه وأسلم، وقال أبياتاً منها: والله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنت وكلبٌ وسط بئر في قرن (2) أُفٍ لمشواك إلهاً مستدن (3) ... فالآن فتشناك عن شر الغبن روى محمد بن مسلم، عن عمرو ين دينار وفطر بن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابت، وابن عيينة، عن ابن المنكدر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة! مَنْ سيدكم؟ قالوا:

_ (1) لأقحزنّ: أي لأثبن. (2) والقرن: الحبل. (3) ومستدن: ذليل مستعبد. وقال السهيلي: مستدن من السدانة، وهي خدمة البيت وتعظيمه، وكان لكل صنم سدنة يقومون بخدمة البيت الذي فيه الصنم.

الجدُّ بن قيس، وإنا لنبخِّلُه. قال: وأي داء أدوى من البُخل؟ بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموع (1) اهـ. قال ابن حجر: قال ابن عائشة فقال بعض الأنصار في ذلك: وقال رسول الله والقول قوله ... لمن قال منا من تسمون سيداً فقالوا له جّدُّ بن قيس على التي ... نبخله منها وإن كان أسوداً فسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا فلو كنت ياجد بن قيس على التي ... على مثلها عمرو لكنت المسودا قال الذهبي قال الواقدي: لم يشهد بدراً. كأن أعرج. ولما خرجوا يوم أحُد منعه بنوه وقالوا: عذرك االله. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكوهم. فقال: لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله يرزقه الشهادة. قالت امرأته هند أخت عبد الله بن عمرو بن حرام: كأني أنظر إليه قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني. فقتل هو وابنُه خلاَّد قال مالك: كفن هو وعبدُ الله بن عمرو بن حرام في كفن واحد. مالك: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وابن حرام كان السيل قد خرب قبرها، فحفر عنهما ليتغيرا من مكانها، فوُجدا لم يتغيرا، كأنما ماتا بالأمس. وكان أحدُهما قد جُرح، فوضع يده على جرحه، فدفن كذلك. فأُميطت يدُه عن جرحه، ثم أرسلت، فرجعت كما كانت. وكان بين يوم أحُد ويوم حُفر عنها ستٌ وأربعون سنة (2). اهـ.

_ (1) رجاله ثقات لكنه مرسل. ورواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق: ابن عيينة، عن ابن المنكدر، عن جابر. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا حميد بن الأسود، عن الحجاج الصواف قال: حدثني أبو الزبير قال: حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره، وهذا سند قوي. (2) رواه مالك في الموطأ (2/ 470) 21 - كتاب الجهاد- 21 - باب الدفن في قبر واحد من ضرورة. ورجاله ثقات، لكنه مرسل، وأخرجه ابن سعد (3/ 562، 563)، من طريق الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، عن الزهري، عن جابر فذكره بأطول مما هنا، وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في "الفتح".

51 - حارثة بن النعمان رضي الله عنه

51 - حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال ابن حجر: حارثة بن النعمان بن نقيع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك ابن النجار الأنصاري. ذكره موسى بن عقبة وابن سعد فيمن شهد بدراً وقد ابن إسحاق إلا أنه سمى جده رافعاً وقال ابن سعد يكنى أبا عبد الله. وروى ابن شاهين من طريق المسعودي عن الحكم عن القاسم أن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يناجي رجلاً ولم يسلم فقال جبرائيل: إما إنه لو سلم لرددنا عليه، فقال لجبرائيل وهل تعرفه؟ فقال: نعم هذا من الثمانين الذين صبروا يوم حنين رزقهم ورزق أولادهم على الجنة. ورواه الحارث من وجه آخر عن المسعودي فقال عن القاسم عن الحارث بن النعمان كذا قال. ورواه الطبراني من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم فقال عن ابن عباس فذكره نحوه وله حديث آخر عند أحمد وغيره ورواه البخاري في التاريخ من طريق ثابت عن عبد الله بن رباح أن حارثة بن النعمان قال لعثمان: إن شئت قاتلنا دونك وقال مقسم ابن سعد أدرك خلافه معاوية ومات فيها بعد أن ذهب بصره. وروى الطبراني والحسن بن سفيان من طريق محمد بن أبي فديك عن محمد بن عثمان عن أبيه قال: كان حارثة بن النعمان وفي رواية له عن حارثة بن النعمان وكان قد ذهب بصره فاتخذ خيطاً في مصلاه إلى باب حجرته فكان إذا جاء المسكين أخذ من مكتله شيئاً ثم أخذ بطرف الخيط حتى يناوله فكان أهله يقولون له نحن نكفيك فيقول إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول مناولة المسكين تقي مصارع السوء اهـ. وقال الذهبي في ترجمته: وله من الولد: عبدُ الله، وعبدُ الرحمن، وسودةُ، وعمرةُ، وأم كلثوم يُكنى: أبا عبد الله. شهد بدراً، والمشاهد، ولا نعلمُ له رواية، وكان ديناً خيراً، براً بأمه. ومن ذريته: المحدث أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن النعمان الأنصاري، ولدُ عْمرة الفقيهة (1) اهـ.

_ (1) عَمْرة: هي بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة الأنصاري، المدينة، أكثرت عن عائشة، روى حديثها الستة.

2154 - * روى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل جالس في المقاعد فسلمت عليه ثم أجزت فلما رجعت وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل رأيت الذي كان معي؟ " قلت: نعم، قال: "إنه جبريل صلى الله عليه وسلم وقد ردَّ عليك السلام". 2155 - * روى أحمد عن موسى بن عقبة قال: حدثني أبو سلمة عن الرجل الذي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي جبريل عليه السلام فزعم أبو سلمة أنه تجنب أن يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم تخوفاً أن يسمع حديثه، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تسلم إذ مررت بي البارحة؟ " فقال: رأيتك تناجي رجلاً فخشيت أن تكره أن أدنو منكما، قال: "فهل تدري من الرجل؟ قال: لا، قال: "جبريل صلى الله عليه وسلم ولو سلمت لرد السلام" وقد سمعت من غير أبي سلمة أنه حارثة بن النعمان. 2156 - * روى أحمد والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نمتُ فرأيتني في الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ فقلت من هذا قالوا: هذا حارثة بن النعمان" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "كذلك البرُّ، كذلك البرُّ" وكان أبر الناس بأمه. * * *

_ 2154 - أحمد في مسنده (5/ 433)، المعجم الكبير (3/ 228)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح. المقاعد: اسم مكان. 2155 - أحمد في مسنده (4/ 17) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 314): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 2156 - أحمد في مسنده (6/ 151) وإسناده صحيح. والمستدرك (3/ 208) وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 313): رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. ونسبه الحافظ في الإصابة إلى النسائي وقال: إسناده صحيح.

52 - عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

52 - عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال ابن حجر: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي الشاعر المشهور، يكنى أبا محمد، ويقال كنيته أبو رواحة، ويقال أبو عمرو، وأمه كبشة بنت واقد بن عمرو بن الأطنابة خزرجية أيضاً، وليس له عقب، من السابقين الأولين من الأنصار، وكان أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. قال ابن سعد: كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي جاء بشارة وقعة بدر إلى المدينة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكباً إلى أسير بن رزام اليهودي بخيبر فقتله، وبعثه بعد فتح خيبر فخرص عليهم. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم الرجل عبد الله بن رواحة في حديث طويل، وفي الزهد لأحمد من طريق زياد النميري عن أنس كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة. الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم الله ابن رواحة إنه يجب المجالس التي تتباهى بها الملائكة. وفي الزهد لعبد الله بن المبارك بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة فسألها عن صنيعه فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين وإذا دخل بيته صلى ركعتين لا يدع ذلك، قالوا وكان عبد الله أول خارج إلى الغزو وآخر قافل. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم وقال: كان زيد بن أرقم يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة: فخرج معه إلى سرية مؤتة فسمعه في الليل يقول: إذا آدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المؤمنون وخلفوني ... بأرض الشام مشهور الثواء

فبكى زيد. فخفقه بالدرة فقال: ما عليك يالكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل فذكر القصة في صفة قتله في غزوة مؤتة بعد أن قتل جعفر وقبله زيد بن حارثة. وقال ابن سعد: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم فأنزل الله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1). ومناقبه كثيرة قال المرزباني في معجم الشعراء كان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان يناقض قيس بن الخطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر اهـ. وقال الذهبي: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة الأميرُ السعيد الشهيدُ أبو عمرو الأنصاري الخزرجي البدريُّ النقيبُ الشاعر. له عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بلال. حدث عنه أنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وأرسل عنه قيسُ بن أبي حازم، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وعطاءُ بن يسار، وعكرمة وغيرهم. شهد بدراً والعقبة. يكنى أبا محمد، وأبا رواحة، وليس له عقب، وهو خال النعمان بن بشير، وكان من كُتَّاب الأنصار. استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة بدر الموعد (2) وبعثه النبيُّ عليه الصلاة والسلام سرية في ثلاثين راكباً إلى أُسير بن رزام اليهودي بخيبر فقتله. قال الواقدي: وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصاً على خيبر. قلت [الذهبي]: جرى ذلك مرة واحدة، ويحتمل على بُعد مرتين.

_ (1) الشعراء: 237. (2) قال محقق السير: (بدر الموعد): هي التي تواعدوا عليها من أحد، وذلك أن أبا سفيان لما انصرف منها نادى: إن موعدكم بدر، العام المقبل. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، من غزوة ذات الرقاع أقام في المدينة إلى شعبان حيث خرج لميعاد أبي سفيان، وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية الظهران ثم رجع ورجع الناس، فسماهم أهل مكة: جيش السويق، إذ يقولون: خرجتم تشربون السويق.

قال قتيبة: ابن رواحة وأبو الدرداء أخوان لأم. حماد بن زيد: حدثنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنَّ عبد الله بن رواحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخطُب، فسمعه وهو يقولُ: "اجلسوا" فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله" (1). اهـ. 2157 - * روى ابن سعد عن ابن عمران الجوني، أنَّ عبد الله بن رواحة أُغمي عليه، فأتاه النبي، فقال: "اللهم إن كان حضر أجلُه، فيسر عليه، وإلا فاشفه" فوجد خفة، فقال يا رسول الله أمي قالت: واجبلاه، واظهراه! وملك رفع مرزبةً من حديد يقول: أنت كذا، فلو قلتُ: نعم لقمعني بها. وقوله "أمي" خطأ والصواب ما ورد في حديث البخاري التالي: 2158 - * روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: أغمي على عبد الله ابن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك؟. فعلم من ذلك أن الباكية أخته عمرة وليست أمه. وهي الدة النعمان بن بشير راوي الحديث. 2159 - * روى البخاري ومسلم عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما

_ (1) إسناده صحيح، لكنه مرسل. وذكره الحافظ في "الإصابة" 6/ 78، قال: أخرجه البيهقي بسند صحيح من طريق: ثابت، عن ابن أبي ليلى ... وأخرجه من وجه آخر إلى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، والمرسل أصح سنداً. ونسبه صاحب "الكنز" (37173) إلى ابن عساكر. 2157 - الطبقات الكبرى: (3/ 529) مرسلاً. 2158 - البخاري (7/ 516) 64 - كتاب المغازي- 44 - باب غزوة مؤتة من أرض الشام. 2159 - البخاري (4/ 182) 30 - كتاب الصوم- 35 - باب حدثنا عبد الله بن يوسف. ومسلم (2/ 790) 31 - كتاب الصيام- 17 - باب التخبير في الصوم والفطر في السفر.

كان النبي صلى الله عليه وسلم، وابن رواحة. قال الذهبي في السير: عن ابن أبي ليلى قال: تزوج رجلٌ ابن رواحة فقال لها: تدرين لم تزوجتُك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته. فذكرت له شيئاً لا أحفظه، غير أنَّها قالت: كان إذا أراد أن يخرُج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين، لا يدعُ ذلك أبداً (1). قال ابن سيرين: كان شعراءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك. قيل: لما جهز النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إلى مؤتة الأمراء الثلاثة، فقال: الأميرُ زيد، فإن أصيب فجعفرٌ، فإن أصيب، فابنُ رواحة، فلما قُتلا، كره ابنُ رواحة الإقدام فقال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو لا لتكرهنه فطالما قد كنت مطمئنه ... مالي أراك تكرهين الجنة فقاتل حتى قُتل. قال مُدرك بن عُمارة: قال ابنُ رواحة: مررت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلستُ بين يديه، فقال: كيف تقول الشعر إذا أردت أن تقول. قلت أنظر في ذاك، ثم أقولُ. قال: فعليك بالمشركين، ولم أكن هيأت شيئاً. ثم قلتُ: فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر فرأيته قد كره هذا أن جعلت قومه أثمان العباء فقلتُ: يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلاً ما له غير إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسةً خالفتهم في الذي نظروا ولو سألت إن استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا فثبت الله ما أتاك من حسنٍ ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

_ (1) ورجاله ثقات، ونسبه الحافظ في (الإصابة) إلى ابن المبارك في الزهد وصحح سنده.

فأقبل، صلى الله عليه وسلم، بوجهه مستبشراً وقال: "وإياك فثبت الله". وقال ابن سيرين: كان حسان وكعبُ يُعارضان المشركين بمثل قولهم بالواقع والأيام والمآثر. وكان ابنُ رواحة يعيرهم بالكفر، وينسبهم إليه، فلما أسلموا وفقهوا، كان أشدَّ عليهم. قال أبو زرعة الدمشقي: قلتُ لأحمد بن حنبل: فحديثُ أنس: دخل النبي عليه السلام مكة وابن رواحة أخذ بغرزه (1) فقال: ليس له أصل. وعن قيس بن أبي حازم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لابن رواحة: "انزل فحرك الركاب". قال: يا رسول الله لقد تركتُ قولي: فقال له عمر: اسمع وأطع، فنزل وقال: تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا (2) اهـ كلام الذهبي. 2160 - * روى الترمذي والنسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل".

_ (1) غرزه: ركاب الخيل. (2) رواه ابن سعد مطولاً في الطبقات الكبرى (3/ 527) ورجاله ثقات، لكنه مرسل. 2160 - الترمذي (5/ 139) 44 - كتاب الأدب- 70 - باب ما جاء في إنشاد الشعر وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. والنسائي (5/ 202) كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام. وذكره الحافظ في الإصابة (4/ 67) ونسبه إلى أبي يعلى؛ وقال: سنده حسن.

2161 - * روى أحمد وابن المبارك عن بكر بن عبد الله المزني قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى، فجاءت المرأة فبكت، وجاءت الخادم فبكت. وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون. فلما انقطعت عبرتهم قال: يا أهلاه ما الذي أبكاكم؟ قالوا: لا ندري. ولكن رأيناك بكيت فبكينا. قال: إنه أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية ينبئني فيها ربي تبارك وتعالى أني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذاك الذي أبكاني. 2162 - * روى أبو نعيم عن ابن شهاب الزهري قال: زعموا أن ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة. فبكى أهله حين رأوه يبكي فقال: والله ما بكيت جزعاً من الموت، ولا صبابة لكم. ولكني بكيت من قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) فأيقنت أني واردها، ولم أدر أنجو منها أم لا. قال الذهبي: الزهري عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبعثُ ابن رواحة خيبر فيخرص بينه وبين يهود، فجمعوا حُلياً من نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا. قال: يا معشر يهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، والرشوةُ سُحت. فقالوا: بهذا قامت السماء والأرض (4). ابن وهب: حدثني أسامة بن زيد أنَّ نافعاً حدثه قال: كانت لابن رواحة امرأة، وكان يتقيها، وكانت له جارية، فوقع عليها. فقالت له. فقال: سبحان الله! قالت: اقرأ عليَّ إذا، فإنك جُنُب فقال:

_ 2161 - أخرجه ابن المبارك وأحمد في الزهد وابن عساكر. 2162 - حلية الأولياء (1/ 118). (1) مريم: 71. (2) وقال ابن هشام: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عبد الله بن أبي بكر، يبعث عبد الله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهمود. فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلنا. فتقول يهود: بهذا قامت السماوات والأرض. (أي كأن يقدر في البستان مائة وسق، للمسلمين منها خمسون وسقاً، فإن رفضتم فنحن نأخذها جميعاً ونعطيكم حصتكم "المصنف" منها خمسين وسقاً).

شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السموات من علُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عملٌ من ربه متقبلُ (1) عن عروة قال: ثم أخذ الراية، يعني بعد قتل صاحبه، قال: فالتوى بعض الالتواء، ثم تقدم بها على فرسه، فجعل يستنزل نفسهـ ويتردد بها بعض التردد. قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنه قال عند ذلك: أقسمت بالله لتنزلنه ... طائعة أو لا لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنه قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفةٌ في شنه ثم نزل فقاتل حتى قُتل. وقال أيضاً: يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد لقيت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلها هديت وإن تأخرت فقد شقيت (2) قال الوليد بن مسلم: فسمعت أنهم ساروا بناحية معان، فأخبروا أن الروم قد جمعوا لهم جموعاً كثيرة، فاستشار زيد أصحابه فقالوا: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف وابن رواحة ساكت، فسأله فقال: إنا لم نسر لغنائم، ولكنا خرجنا للقاء، ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة، والرأي المسير إليهم. قال عروةُ بن الزبير: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أصيب ابن رواحة، فليرتض المسلمون رجلاً" ثم ساروا حتى نزلوا بمعان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمآب في مئة ألف من الروم، ومئة ألف من المستعربة، فشجع الناس ابن رواحة، وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم لها: الشهادة. وكانوا ثلاثة آلاف (3). اهـ.

_ (1) ورواه أبو نعيم في الحلية (1/ 119). (2) رجاله ثقات، ولكنه مرسل. (3) ورواه أبو نعيم في الحلية (1/ 120).

2163 - * روى الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي عبد الله بن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ". * * *

_ 2163 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 316): رواه الطبراني وإسناده حسن.

53 - عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه

53 - عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه قال ابن حجر: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن مالك بن سالم بن غنم ابن عوف بن الخرزج الأنصاري الخزرجي ... وهو ابن أبي ابن سلول وكانت سلول امرأة من خزاعة وكان أبوه رأس المنافقين ... وشهد عبد الله هذا بدرًا وأحدًا والمشاهد ... ويقال إنه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قتل أبيه. فقال: "بل أحسن صحبته" روى ذلك ابن منده من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بهذا وفيه قصة، وروى الطبراني من طريق عروة عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه فقال: لا تقتل أباك وذكره ابن عبد البر فيمن كتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واستشهد عبد الله باليمامة في قتال الردة سنة اثنتي عشرة. اهـ. وقال الذهبي: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم -وسالم هو الذي يقال له الحبلى لعظم بطنه- بن غنم بن عوف بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي، المعروف والده بابن سلول المنافق المشهور، وسلول الخزاعية هي والدة أبي المذكور، وقد كان عبد الله بن عبد الله من سادة الصحابة وأخيارهم، وكان اسمه الحباب، وبه كان أبوه يكنى، فغيره النبي صلى الله عليه سلم، وسماه عبد الله. شهد بدرًا وما بعدها. روي عن عائشة، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه قال: ندرت (1) ثنيتي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ ثنية من ذهب. استشهد عبد الله يوم اليمامة، وقد مات أبوه سنة تسع، فألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه وصلى عليه، واستغفر له إكرامًا لولده، حتى نزلت: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (2). وقد كان رئيسًا مطاعًا، عزم أهل المدينة قبل أن يهاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، على أن يملكوه عليهم، فانحل أمره، ولا حصل دنيا ولا آخرة، نسأل الله العافية، اهـ.

_ (1) ندرت: أي سقطت. (2) التوبة: 84.

2164 - * روى مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه سلم، فسأله أن يعطيه قيمصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصلي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين" قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (1). * * *

_ 2164 - مسلم (4/ 1865) 44 - كتاب فضائل الصحابة -2 - باب من فضائل عمر. (1) سورة التوبة 84.

54 - قتادة بن النعمان رضي الله عنه

54 - قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال ابن حجر: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر الأوسي ثم الظغري أخو أبي سعيد الخدري لأمه أمهما أنيسة بنت قيس النجارية مشهور، يكنى أبا عمر والأنصاري يكنونه أبا عبد الله وقيل كنيته أبو عثمان ... قال البخاري له صحبة وقال خليفة وابن حبان وجماعة شهد بدرًا وحكى ابن شاهين عن ابن أبي داود أنه أول من دخل المدينة بسورة من القرآن وهي سورة مريم ... وأخرج البغوي وأبو يعلى [بسندهما] عن قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها فقالوا لا حتى نستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأمروه فقال: لا، ثم دعا به فوضع راحته على حدقته ثم غمزها فكان لا يدري أي عينيه ذهب. ومن طريق يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن عاصم بن عمر بن قتادة عن جده أنه سالت عينه على خده يوم بدر فردها فكانت أصح عينيه قال عاصم فحدثت به عمر بن عبد العزيز فقال: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وجاء من أوجه أخر أنها أصيبت يوم أحد، أخرجه الدارقطني وابن شاهين من طريق عبد الرحمن بن يحيى العذري عن مالك عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم أحد فقوعت على وجنته فردها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت أصح عينيه، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في الدلائل [بسندهما]. عن قتادة أن عينه ذهبت يوم أحد فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فردها فاستقامت وساقها ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مطولة مرسلة وذكر الواقدي أنه كان معه يوم حنين وأنه من ظفر. مات في خلافة عمر فصلى عليه ونزل في قبره، وعاش خمسًا وستين سنة، قاله ابن أبي حاتم وابن حبان وغيرهما. اهـ. وقال الذهبي في ترجمته: الأمير المجاهد من نجباء الصحابة، وهو أخو أبي سعيد الخدري

لأمه، وهو الذي وقعت عينه على خده يوم أحد، فأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغمزها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، فردها؛ فكانت أصح عينيه. وكان على مقدمة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب لما سار إلى الشام وكان من الرماة المعدودين. وقال الواقدي: شهد العقبة مع السبعين، وكذا قال ابن عقبة، وأبو معشر، ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد العقبة رضي الله عنه. عاش خمسًا وستين سنة، توفي في سنة ثلاث وعشرين بالمدينة، ونزل عمر يومئذ في قبره. اهـ الذهبي. 2165 - * روى أحمد والطبراني والبزار عن قتادة بن النعمان قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر فقلت: لو أني اغتنمت هذه الليلة شهود العتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلت فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه فقال: "ما لك يا قتادة ههنا هذه الساعة؟ " قلت: اغتنمت شهود الصلاة معك يا رسول الله، فأعطاني العرجون، فقال: "إن الشيطان قد خلفك في أهلك. فاذهب بهذا العرجون فأمسك به حتى تأتي بيتك فخذه من وراء البيت فاضربه بالعرجون" فخرجت من المسجد فأضاء العرجون مثل الشمعة نورًا فاستضأت به، فأتيت أهلي فوجدتهم، فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج. * * *

_ 2165 - أحمد في مسنده (3/ 65) عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة والمعجم الكبير (16/ 6). والبزار: كشف الأستار (3/ 261)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وأحمد في حديث طويل تقدم في الصلاة، ورواه البزار أيضًا ورجال أحمد الذي تقدم في الصلاة رجال الصحيح.

55 - عبادة بن الصامت رضي الله عنه

55 - عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو الوليد، قال خليفة بن خياط: وأمه قرة العين بنت عبادة بن نضلة بن العجلان ... شهد بدرًا وقال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين أبي مرثد الغنوي، وشهد المشاهد كلها بعد بدر. وقال ابن يونسك شهد فتح مصر وكان أمير ربع المدد، وفي الصحيحين عن الصنابحي عن عبادة قال: أنا من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة الحديث، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرًا .... أخرج حميد بن زنجويه في كتاب الترغيب من طريق أبي الأشعث أنه راح إلى المسجد دمشق فلقي شداد بن أوس والصنابحي فقالا: اذهب بنا إلى أخ لنا نعوده، فدخلا على عبادة فقالا: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بنعمة من الله وفضله. قال عبد الصمد بن سعيد في تاريخ حمص: هو أول من ولي قضاء فلسطين. ومن مناقبه ما ذكر في المغازي لابن إسحاق حدثني أبي -إسحاق بن يسار- عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حارب بنو قينقاع بسبب ما أمرهم عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فمشى عبادة بن الصامت وكان له من الحلف مثل الذي لعبد الله بن أبي فخلعهم وتبرأ إلى الله ورسوله من خلفهم فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} (1) الآية وذكر خليفة أن أبا عبيدة ولاه إمرة حمص ثم صرفه وولى عبد الله بن قرط .. وروى ابن سعد في ترجمته من طريق محمد بن كعب القرظي أنه ممن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أورده البخاري في التاريخ من وحه آخر عن محمد بن كعب وزاد: فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر: قد احتاج أهل الشام إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأرسل معاذًا وعبادة وأبا الدرداء فأقام عبادة بفلسطين. وقال السراج في

_ (1) الممتحنة: 1.

تاريخه: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن جنادة دخلت على عبادة وكان قد تفقه في دين الله، هذا سند صحيح، وفي مسند إلحاق بن راهويه والأوسط للطبراني من طريق عيسى بن سنان عن يعلى بن شداد قال ذكر معاوية الفرار من الطاعون -فذكر قصة له مع عبادة- فقام معاوية عند المنبر بعد صلاة العصر فقال: الحديث كما حدثني عبادة فاقتبسوا منه فهو أفقه مني. ولعبادة قصص متعددة مع معاوية وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه تدل على قوته في دين الله وقيامه في الأمر بالمعروف. وروى ابن سعد في ترجمته أنه كان طوالاً جميلاً ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وكذا ذكره المدايني وفيها أرخه خليفة بن خياط وآخرون، ومنهم من قال: مات ببيت المقدس، وأورد ابن عساكر في ترجمته أخبارًا له مع معاوية تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عدي وقيل: إنه عاش إلى سنة خمس وأربعين. اهـ ابن حجر. قال الذهبي عنه: الإمام القدوة أبو الوليد الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، ومن أعيان البدريين. سكن بيت المقدس. وقال ابن إسحاق في تسمية من شهد العقبة الأولى: عبادة بن الصامت. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. عن قبيصة بن ذؤيب: أن عبادة أنكر على معاوية شيئًا، فقال: لا أساكنك بأرض، فرحل إلى المدينة، قال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره بفعل معاوية. فقال له: ارحل إلى مكانك، فقبح الله أرضًا لست فيها وأمثالك، فلا إمرة له عليك (1). عن عبيد بن رفاعة: أن عبادة بن الصامت مرت عليه قطارة، وهو بالشام، تحمل الخمر، فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل: لا، بل خمر يباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق، فقام إليها، فلم يدر فيها راوية إلا بقرها -وأبو هريرة إذ ذاك بالشام- فأرسل فلان إلى أبي هريرة، فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة، أما بالغدوات، فيغدو إلى

_ (1) رجاله ثقات.

السوق يفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي، فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا! قال: فأتاه أبو هريرة: فقال: يا عبادة، مالك ولمعاوية؟ ذره وما حمل. فقال: لم تكن معنا إذ بايعنا على السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا يأخذنا في الله لومة لائم، فسكت أبو هريرة، وكتب فلان إلى عثمان: إن عبادة قد أفسد علي الشام (1). أقول: الذي عليه الفتوى أن خمر الذمي لا تراق، ولكن الظاهر أن عبادة فعل ذلك لأنه كان يرى أنه ليس لأهل الذمة أن يظهروا ما هو منكر عند المسلمين فيتأذى منه المسلمون. 2166 - * روى الحاكم عن عبادة بن الصامت قال: وكان قد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ست غزوات. 2167 - * روى الحاكم عن أبي سلام الأسود قال: كنت إذا أتيت بيت المقدس نزلت على عبادة بن الصامت. 2168 - * روى الحاكم عن عبادة بن الصامت أن معاوية قال لهم: يا معشر الأنصار ما لكم لم لا تأتوني مع إخوانكم من قريش؟ قال عبادة: الحاجة. قال: فهلا على النواضح، قال: أمضيناها يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله الحاجة: أي يمنعنا من المجيء إليك فقرنا فلا نقدر أن نسافر حتى نصل إليك فلما قال له معاوية: فهلا على النواضح أي: إنكم تستطيعون أن تأتوا على الإبل، قال له معرضًا فقدناها يوم بدر.

_ (1) قال محقق السير: إسناده محتمل للتحسين. القطارة: أن تشد الإبل على نسق، واحد خلف واحد. 2166 - المستدرك (3/ 355) وصححه ووافقه الذهبي. 2167 - المستدرك (3/ 355). 2168 - المستدرك (3/ 355).

قال الذهبي: عن الوليد بن عبادة قال: كان عبادة رجلاً طوالاً جسيمًا جميلاً. مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. قال ابن سعد: وسمعت من يقول: إنه بقي حتى توفي زمن معاوية في خلافته. وقال يحيى بن بكير وجاعة: مات سنة أربع وثلاثين. وقال ضمرة، عن رجاء بن أبي سلمة، قال: قبر عبادة ببيت المقدس، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة خمس وأربعين رضي الله عنه. اهـ. * * *

56 - خزيمة بن ثابت رضي الله عنه

56 - خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال ابن حجر: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بالفاء وكسر الكاف ابن ثعلبة بن ساعدة ابن عامر بن غياث بالمعجمة والتحتانية وقيل بالمهملة والنون -ابن عامر بن حطمة- بفتح المعجمة وسكون المهملة- واسمه عبد الله بن جشتم -بضم الجيم وفتح المعجمة- ابن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي ثم الخطمي: وأمه كبشة بنت أوس الساعدية أبو عمارة من السابقين الأولين شهد بدرًا وما بعدها، وقيل أول مشاهده أحد وكان يكسر أصنام بني خطمة وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح، وروى أبو داود من طريق الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي الحديث، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد له خزيمة فحسبه، وروى الدارقطني من طريق أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل شهادته شهادة رجلين، وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادتين، وروى أبو يعلى عن أنس قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقال الأوس: ومنا من جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادة رجلين الحديث، وعند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن خزيمة استشهد بصفين، وروى أحمد من طريق أبي معشر عن محمد بن عمارة بن خزيمة قال: ما زال جدي كافًا سلاحه حتى قتل عمار بصفين فسل سيفه وقاتل حتى قتل، ورواه يعقوب بن شيبة من طريق أبي إسحاق نحوه. قتل مع علي بصفين وهو القائل: إذا نحن بايعنا عليًا فحسبنا ... أبو الحسن مما نخاف من الفتن وفيه الذي فيهم من الخير كله ... وما فيهم بعض الذي فيه من حسن وقال ابن سعد شهر بدرًا وقتل بصفين. اهـ ابن حجر. وقال الذهبي في ترجمته: الفقيه، أبو عمارة الأنصاري الخطمي المدني، ذو الشهادتين.

قيل: إنه بدري. والصواب: أنه شهد أحدًا وما بعدها، وكان من كبار جيش علي، فاستشهد معه يوم صفين. اهـ. 2169 - * روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرًا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها لم أجدها عند أحدٍ إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه سلم شهادته شهادة رجلين (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه). 2170 - * روى أبو داود عن عمارة بن خزيمة، أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس، وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه سلم حين سمع نداء الأعرابي، فقال: "أو ليس قد ابتعته منك"؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلى قد اتبعته منك" فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد ابتعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة، فقال: "بم تشهد"؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. قال الذهبي: قال قتادة، عن أنس، قال: افتخر الحيان من الأنصار، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب؛ ومنا من اهتز له العرش سعد، ومنا من حمته الدبر (1) عاصم بن أبي الأقلح؛ ومنا من أجيزت شهادته بشهادتين: خزيمة بن ثابت (2). قال الذهبي: قتل رضي الله عنه سنة سبع وثلاثين، وكان حامل راية بني خطمة. وشهد مؤته. اهـ.

_ 2169 - البخاري (8/ 518) 65 - كتاب التفسير -3 - باب (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر). 2170 - أبو داود (3/ 208) كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، وإسناده صحيح. (1) الدبر: النحل والزنابير. (2) نسبه الحافظ في الإصابة (2/ 111) لأبي يعلى.

57 - خالد بن زيد المشهور بأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

57 - خالد بن زيد المشهور بأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار أبو أيوب الأنصاري النجاري معروف باسمه وكنيته، وأمه هند بنت سعيد ابن عمرو من بني الحارث بن الخزرج ... من السابقين روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، ونزل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده وآخى بينه وبين مصعب بن عمير وشهد الفتوح وداوم الغزو واستخلفه علي على المدينة لما خرج إلى العراق ثم لحق به بعد وشهد معه قتال الخوارج قال ذلك الحكم بن عيينة، وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عاصم من طريق أبي الخير عن أبي رهم أن أبا أيوب حدثهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل في بيته وكنت في الغرفة فهريق ماء في الغرفة فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتتبع الماء شفقًا أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مشفق فسألته فانتقل إلى الغرفة قلت: يا رسول الله كنت ترسل إلي بالطعام فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام قال: أجل إن فيه بصلاً فكرهت أن آكل من أجل الملك وأما أنتم فكلوا. وقال ابن سعد أخبرنا ابن علية عن أيوب عن محمد شهد أبو أيوب بدرًا ثم لم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا وهو في أخرى إلا عامًا واحدًا استعمل على الجيش شاب فقعد فتلهف بعد ذلك فقال ما ضرني ما استعمل، فمرض وعلى الجيش يزيد بن معاوية فأتاه يعوده فقال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي إذا أنا مت فاركب بي ما وجدت مساغًا في أرض العدو فإذا لم تجد فادفني ثم ارجع ففعل. ورواه أبو إسحاق الفزاري عن هشام عن محمد وسمى الشاب عبد الملك ابن مروان ولزم أبو أيوب الجهاد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة خمسين وقيل إحدى وقيل اثنتين وخمسين وهو الأكثر، عن سعيد بن عبد العزيز قال أغزى معاوية ابنه يزيد سنة خمس وخمسين في جماعة من الصحابة في البر والبحر حتى أجاز القسطنطينية وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها. اهـ. إصابة. وقال الذهبي عنه: الخزرجي النجاري البدري. السيد الكبير، الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم

بالنزول عليه في بني النجار إلى أن بنيت له حجرة أم المؤمنين سودة، وبنى المسجد الشريف. اهـ. 2171 - * روى أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن وضوءك ثم صل ما كتب الله لك ثم احمد ربك ومجده ثم قل اللهم إنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، فإن رأيت لي فلانة تسميها باسمها خيرًا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي وإن كان غيرها خيرًا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي بها" أو قال "فاقدرها لي". 2172 - * روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن أبي أيوب أنه أخذ من لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا فقال: "لا يكن بك السوء يا أبا أيوب". قال الذهبي: إسحاق بن سليمان الرازي: حدثنا أبو سنان، عن حبيب بن أبي ثابت: أن أبا أيوب قدم على ابن عباس البصرة، ففرغ له بيته، وقال: لأصنعن بك كما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، كم عليك؟ قال: عشرون ألفًا فأعطاه أربعين ألفًا، وعشرين مملوكًا، ومتاع البيت (1). ابن علية، عن أيوب، عن محمد: قال شهد أبو أيوب بدرًا، ثم لم يتخلف عن غزاة إلا عامًا، استعمل على الجيش شاب، فقعد، ثم جعل يتلهف، ويقول: ما علي من استعمل علي. فمرض، وعلى الجيش يزيد بن معاوية، فأتاه يعوده، فقال: حاجتك؟ قال: نعم، إذا أنا مت، فاركب بي، ثم تبيغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغًا؛ فإذا لم تجد

_ 2171 - أحمد في مسنده (5/ 433). وابن حبان: موارد الظمآن حديث 177، والمعجم الكبير (4/ 133) والمستدرك (1/ 314) وصححه ووافقه الذهبي. 2172 - المستدرك (3/ 462) وصححه ووافقه الذهبي. (1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 118، 125)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 3230): رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح إلا أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أبي أيوب. والمستدرك (2/ 459) وصححه ووافقه الذهبي.

مساغًا، فادفني، ثم ارجع. فلما مات، ركب به، ثم سار به، ثم دفنه. وكان يقول: قال الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (1) لا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً (2). وروى همام، عن عاصم بن بهدلة، عن رجل: أن أبا أيوب قال ليزيد: أقرئ الناس مني السلام؛ ولينطلقوا بي وليبعدوا ما استطاعوا. قال: ففعلوا. قال الواقدي: توفي عام غزا يزيد في خلافة أبيه القسطنيطينية. فلقد بلغني: أن الروم يتعاهدون قبره، ويرمونه، ويستسقون به. وذكره عروة والجماعة في البدريين. وقال ابن إسحاق: شهد العقبة الثانية. قال محمد بن سيرين: النجار (3): سمي بذلك؛ لأنه اختتن بقدوم (4). وعن ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي أيوب ومصعب بن عمير شهد أبو أيوب المشاهد كلها. وقال أحمد بن البرقي: جاء له نحو من خمسين حديثًا. وقال ابن يونس: قدم مصر في البحر سنة ستٍ وأربعين. وقال أبو زرعة النصري: قدم دمشق زمن معاوية. وقال الخطيب: شهد حرب الخوارج مع علي. اهـ الذهبي.

_ (1) التوبة: 41. (2) أخرجه ابن سعد (3/ 485) من طريق إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، ورجاله ثقات. ثم تبيغ: تبيع به الدم، أي: تردد فيه الدم، وتبيغ الماء إذا تردد فتحير في مجراه كذا ومرة كذا وفي "الطبقات"، "والنهاية" وأسد الغابة" "وتهذيب ابن عساكر": "ثم سغ"، وفسره ابن الأثير، فقال: أي: ادخل فيها ما وجدت مدخلاً، وساغت به الأرض، أي: ساخت، وساغ الشراب في الحلق يسوغ، أي: دخل سهلاً. (3) النجارك الجد الأعلى لأبي أيوب. (4) القدوم: الفأس التي ينحت بها الخشب، وفي تهذيب ابن عساكر: إنما سمي النجار لأنه نجر وجه رجل بقدوم.

2173 - * روى أحمد والطبراني والحاكم عن أبي رهم السماعي أن أبا أيوب حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في بيته الأسفل، وكنت في الغرفة فأهريق ماء في الغرفة، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتبع الماء شفقة أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مشفق، فقلت: يا رسول الله ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتاعه فنقل، ومتاعه قليل، فقلت: يا رسول الله كنت ترسل إلينا بالطعام فأبصر فيه، فإذا رأيت أثر أصابعك وضعت يدي فيه، حتى كان هذا الطعام الذي أرسلت به إلي، فنظرت فيه فلم أر أثر أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل إن فيه بصلاً، وكرهت أن آكله من أجل الملك الذي يأتيني، وأما أنتم فكلوه". 2174 - * روى أحمد والطبراني عن جبير بن نفير عن أبي أيوب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اقترعت الأنصار أيهم يؤوي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرعهم أبو أيوب فآوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعام أهدى لأبي أيوب قال: فدخل أبو أيوب يومًا فإذا قصعة فيها بصل فقال ما هذا فقالوا أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فطلع أبو أيوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما منعك من هذه القصة قال: "رأيت فيها بصلاً" قال: ولا يحل لنا البصل؟ قال: "بلى: فكلوه ولكن يغشاني ما لا يغشاكم" وقال حيوة "إنه يغشاني ما لا يغشاكم". 2175 - * روى الطبراني عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: أعرست، فدعا أبي الناس، فيهم أبو أيوب، وقد ستروا بيتي بجنادي أخضر. فجاء أبو أيوب، فطأطأ رأسه، فنظر فإذا البيت مستر. فقال: يا عبد الله، تسترون الجدر؟ فقال أبي واستحى: غلبنا النساء يا أبا أيوب. فقال: من خشيت أن تغلبه النساء، فلم أخش أن يغلبنك. لا أدخل

_ 2173 - أحمد في مسنده (5/ 420) وإسناده صحيح. والطبراني (4/ 126)، والمستدرك (3/ 461) وصححه ووافقه الذهبي. 2174 - أحمد في مسنده (5/ 414)، المعجم الكبير (4/ 186). ورجاله ثقات، إلا أن بقية مدلس، وقد عنعن. 2175 - المعجم الكبير (4/ 119) وإسناده قوي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 55) ورجاله رجال الصحيح. جنادي أخضر: هو جنس من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران.

لكم بيتًا، ولا آكل لكم طعامًا. 2176 - * روى الطبراني عن محمد بن كعب، قال: كان أبو أيوب يخالف مروان، فقال: ما يحملك على هذا؟ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات، فإن وافقته، وافقناك، وإن خالفته، خالفناك. 2177 - * روى الحاكم عن مقسم أن أبا أيوب أتى معاوية فذكر له حاجة قال: ألست صاحب عثمان؟ قال أما إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرنا أن سيصيبنا بعده أثره قال: وما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال فاصبروا، قال: فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلمه أبدًا ثم إن أبا أيوب أتى عبد الله بن عباس فذكر له فخرج له عن بيته كما خرج أبو أيوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيته وقال: إيش تريد؟ قال: أربعة غلمة يكونون في محلي، قال: لك عندي عشرون غلامًا. 2178 - (3) عن أبي عمران التجيبي قال: غزونا القسطنطينية ومعنا أبو أيوب الأنصاري فصففنا صفين ما رأيت صفين قط أطول منهما، ومات أبو أيوب الأنصاري في هذه الغزاة، وكان أوصى أن يدفن في أصل سور القسطنطينية وأن يقضى دين عليه ففعل. قال الذهبي: ذكر خليفة: أن عليًا استعمل أبا أيوب على المدينة. وقال الحاكم: لم يشهد أبو أيوب مع علي صفين. عمر بن كثير بن أفلح قال: قدم أبو أيوب على معاوية، فأجلسه معه على السرير، حادثه، وقال: يا أبا أيوب، من قتل صاحب الفرس البلقاء التي جعلت تجول يوم كذا وكذا؟ قال: أنا؛ إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر. فنكس معاوية، وتنمر أهل الشام، وتكلموا. فقال معاوية: مه! وقال: ما نحن عن هذا سألناك.

_ 2176 - المعجم الكبير (4/ 156) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 68): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. ويخالف مروان: أي لا يصلي بصلاته، إذا أخرها عن الوقت المستحب. 2177 - المستدرك (3/ 459) وصححه ووافقه الذهبي. في محلي: ينوب عني في محلي. 2178 - المستدرك (3/ 457) وسكت عنه الذهبي.

عن أبي ظبيان، قال: غزى أبو أيوب، فمرضن فقال: إذا مت فاحملوني، فإذا صافقتم العدو، فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديثٍ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة" إسناده قوي (1). قال الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز: أغزى معاوية ابنه في سنة خمس وخمسين في البر والبحر، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل. وعن الأصمعي، عن أبيه: أن أبا أيوب قبر مع سور القسطنطينية، وبني عليه، فلما أصبحوا، قالت الروم: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نبش، لا ضرب بناقوسٍ في بلاد العرب، فكانوا إذا قحطوا، كشفوا عن قبره، فأمطروا وقال خليفة: مات سنة خمسين. وقال يحيى بن بكير: سنة اثنتين وخمسين. اهـ. * * *

_ (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 419).

58 - زيد بن ثابت رضي الله عنه

58 - زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن حجر: زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف ابن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو سعيد .. وقيل أبو ثابت وقيل غير ذلك في كنيته استغصر يوم بدر، ويقال إنه شهد أحدًا ويقال أول مشاهده الخندق، وكانت معه راية بني النجار يوم تبوك، وكانت أولاً مع عمارة بن حزم فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه فدفعها لزيد بن ثابت فقال: يا رسول الله بلغك عني شيء؟ قال: لا ولكن القرآن مقدم وكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمه النوار بنت مالك بن معاوية ابن عدي، وقتل أبوه يوم بعاث، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر ثبت ذلك في الصحيح، وقال له أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك. وروى الواقدي من طريق زيد بن ثابت قال لم أجز في بدر ولا أحد وأجزت في الخندق. قال وكان فيمن ينقل التراب مع المسلمين فنعس زيد فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا أبا رقاد، ويومئذ نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يروع المؤمن ولا يؤخذ متاعه جادًا ولا لاعبًا ... وعن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفرضكم زيد رواه أحمد بإسناد صحيح وقيل إنه معلول، وروى ابن سعد بإسناد صحيح قال: كان زيد بن ثابت أحد أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعلي وابن مسعود وأبي وأبو موسى وزيد بن ثابت، وروى بسند فيه الواقدي من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض [وهو العلم بقسمة المواريث]. مات زيد سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين وقيل سنة إحدى أو اثنتين أو خمس وخمسين وفي خمس وأربعين قول الأكثر وقال أبو هريرة حين مات اليوم مات حبر هذه الأمة وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. اهـ. وقال الذهبي: الإمام الكبير، شيخ المقرئين، والفرضيين، مفتي المدينة أو سعيد، وأبو خارجة. الخزرجي، النجاري الأنصاري. كاتب الوحي، رضي الله عنه. حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن صاحبيه. وقرأ عليه القرآن بعضه أو كله، ومناقبه جمة.

وتلا عليه ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وغير واحد وكان من حملة الججة، وكان عمر بن الخطاب يستخلفه إذا حج على المدينة. وهو الذي تولى قسمة قسمة الغنائم يوم اليرموك. وقد قتل أبوه قتل الهجرة يوم بعاث (1)، فربي زيد يتيمًا. وكان أحد الأذكياء. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم زيد، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم خط اليهود: ليقرأ له كتبهم. قال: "فإني لا آمنهم". اهـ. 2179 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام. قال الذهبي: قال ابن سعد: ولد زيد بن ثابت: سعيدًا، وبه كان يكنى، وأمه أم جميل. وولد لزيد: خارجة، وسليمان، ويحيى، وعمارة، وإسماعيل، وأسعد، وعبادة، وإسحاق، وحسنة، وعمرة، وأم إسحاق، وأم كلثوم، وأم هؤلاء: أم سعد ابنة سعد بن الربيع، أحد البدريين. وولد له: إبراهيم، ومحمد، وعبد الرحمن، وأم حسن، من عمرة بنت معاذ بن أنس. وولد له: زيد، وعبد الرحمن، وعبيد الله، وأم كثلوم؛ لأم ولد. وسليط، وعمران، والحارث، وثابت، وصفية، وقريبة، وأم محمد؛ لأم ولد. قال البخاري ومسلم والنسائي زيد: يكنى أبا سعيد. ويقال: أبو خارجة. وقال محمد ابن أحمد المقدمي: له كنيتان. روى خارجة عن أبيه، قال: قدم النبي عليه السلام المدينة، وأنا ابن إحدى عشرة سنة. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتابة يهود. قال: وكنت أكتب، فأقرأ إذا كتبوا إليه. اهـ.

_ (1) بعاث: موضع على ليلتين من المدينة المنورة، وفيه كانت الوقيعة بين الأوس والخزرج ونسبت إليه. 2179 - البخاري (7/ 110) 63 - كتاب مناقب الأنصار -1 - باب مناقب الأنصار.

2180 - * روى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والحاكم عن خارجة بن زيد أن أباه زيدًا أخبره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال زيد: ذهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجب بي فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي" قال زيد: فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته وكنت اقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب عنه إذا كتب. 2181 - * روى أحمد والحاكم عن ثابت بن عبيد قال زيد: قال لي رسول الله: "أتحسن السريانية"؟ قلت: لا. قال: "فتعلمها" فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. 2182 - * روى البخاري عن البراء، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع لي زيدًا، وقل له: يجيء بالكتف والدواة" قال: فقال: "اكتب" {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم. فقال: يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1). 2183 - * روى أحمد عن شرحبيل بن سعد قال: كنت مع زيد بن ثابت بالأسواف، فأجد طيرًا: فدخل زيد، قال: فدفعوا في يدي، وفروا، فأخذ الطير، فأرسله، ثم ضرب في قفاي، وقال: لا أم لك، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها.

_ 2180 - أحمد في مسنده (5/ 186)، والبخاري تعليقًا (12/ 185) 93 - كتاب الأحكام -40 - باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد. وأبو داود (3/ 218) كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب والترمذي (5/ 67) 43 - كتاب الاستئذان -22 - باب ما جاء في تعليم السريانية. وقال: هذا حديث حسن صحيح. والمستدرك (1/ 275) وصححه ووافقه الذهبي. 2181 - أحمد في مسنده (5/ 182) وإسناده صحيح. والمستدرك (3/ 422) وصححه ووافقه الذهبي. 2182 - البخاري 65 - كتاب التفسير -18 - باب لا يستهوي القاعدون من المؤمنين. (1) النساء: 95. 2183 - أحمد في مسنده (5/ 192) وشرحبيل فيه لين ما والحديث يتقوى بما أخرجه البخاري، ومسلم بن حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما بين لابتيها حرام"، ولمسلم من حديث سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أحرم ما بين

2184 - * روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمرك هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجعمه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) (2) حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه. 2185 - * روى البخاري عن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.

_ = لابتي المدينة أن يقطع عضامها، أو يقتل صيها". واللابة: هي الحرة. والمدينة المنورة بين حرئين شرقية وغربية تكتنفان، والحرة: هي الأرض ذات الحجارة السوداء، كأنها أحرقت بالنار. ومعنى ذلك: اللابتان وما بينهما. الأسواف: موضع ببعض أطراف المدينة بين الحرتين. وفي "الموطأ" عن رجل، قال: دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف، وقد اصطدت نهسا (طائر يشبه الصرد)، فأخذه من يدي، وأرسله. 2184 - البخاري (1/ 10) 66 - كتاب فضائل القرآن -3 - باب جمع القرآن. العسب: جمع عسيب: وهو جريد النخل إذا نحي عنه خوصه. وكانوا يكتبون في تلك الأشياء، لقلة القراطيس عندهم يومئذ. (1) التوبة: 128. 2185 - البخاري (9/ 47) 66 - كتاب فضائل القرآن -8 - باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

2186 - * روى الترمذي والحاكم عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي ابن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابتٍ وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبلٍ، ولكل أمةٍ أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". قال الذهبي: بتقدير صحة "أفرضهم زيد، وأقرأهم أبي" لا يدل على تحتم تقليده في الفرائض، كما لا يتعين تقليد أبي في قراءته، وما انفرد به. روى عاصم، عن الشعبي، قال: غلب زيد الناس على اثنتين الفرائض والقرآن. عن أبي سعيد، قال: لما توفي رسول الله، قام خطباء الأنصار، فتكلموا، وقالوا: رجل منا، ورجل منكم. فقام زيد بن ثابت، فقال: إن رسول الله كان من المهاجرين ونحن أنصاره؛ وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره. فقال أبو بكر: جزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، وثبت قائلكم، لو قلتم غير هذا ما صالحناكم (1). عن مسروق، قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وأبي، وأبو موسى (2). وعن القاسم بن محمد: كان عمر يستخلف زيدًا في كل سفر. عن الشعبي: قال: القضاة أربعة: عمر، وعلي، وزيد وابن مسعود. وعن يعقوب بن عتبة: أن عمر استخلف زيدًا، وكتب إليه من الشام: إلى زيد بن

_ 2186 - الترمذي (5/ 665) 50 - كتاب المناقب -23 - مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وقال: هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال. والمستدرك (2/ 422) وصححه ووافقه الذهبي. (1) ورواه أحمد في مسنده (5/ 186)، والمعجم الكبير (5/ 114)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح. (2) إسناده صحيح.

ثابت، من عمر. قال خارجة بن زيد: كان عمر يستخلف أبي، فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل. عن الشعبي قال: تنازع أبي وعمر في جداد نخلٍ (1). فبكى أبي، ثم قال: أفي سلطانك يا عمر؟ قال: اجعل بيني وبينك رجلاً. قال أبي: زيد. فانطلقا، حتى دخلا عليه، فتحاكما إليه. فقال: بينتك يا أبي؟ قال: مالي بينة. قال: فاعف أمير المؤمنين من اليمين. فقال عمر: لا تعف أمير المؤمنين من اليمين إن رأيتها عليه. عن نافع، قال: استعمل عمر زيدًا على القضاء، وفرض له رزقًا (2). قال الزهري: لو هلك عثمان وزيد في بعض الزمان، لهلك علم الفرائض، لقد أتى على الناس زمان وما يعلمها غيرهما (3). وقال جعفر بن برقان: سمعت الزهري يقول: لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض، لرأيت أنها ستذهب من الناس. قال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد عمر، زيد بن ثابت. وكان إمام الناس عندنا بعد زيد، ابن عمر. قال أحمد بن عبد الله العجلي: الناس على قراءة زيد، وعلى فرض زيد. وعن ابن عباس، قال: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن زيد بن ثابت، من الراسخين في العلم (4). عن عبد الله بن معسود؛ أنه كان يقول في أخواتٍ لأبٍ وأم، وإخوة وأخواتٍ لأبٍ: للأخوات للأب والأم الثلثان، فما بقي، فللذكور دون الإناث.

_ (1) جداد النخل: قطع ثمره. (2) رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 359). (3) وأخرجه الدرامي (2/ 241) كتاب الفرائض، باب في تعليم الفرائض. (4) نسبه الحافظ في الإصابة (3/ 22) للبغوي. وأخرج أبو زرعة في تاريخ دمشق نحوه.

فقدم مسروق المدينة، فسمع قول زيد فيها، فأعجبه. فقال له بعض أصحابه: أتترك قول عبد الله؟ فقال: أتيت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. يعني: كان زيد يشرك بين الباقين (1). عن أبي سلمة، أن ابن عباس قام إلى زيد بن ثابت. فأخذ له بركابه، فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا (2). قال علي بن المديني: لم يكن من الصحابة أحد له أصحاب حفظوا عنه، وقاموا بقوله في الفقه، إلا ثلاثة: زيد، وعبد الله، [بن مسعود]، وابن عباس. عن الزهري: بلغنا أن زيد بن ثابت كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم. حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن. قال: فذروه حتى يكون. عن الشعبي: أن مروان دعا زيد بن ثابت، وأجلس له قومًا خلف ستر، فأخذ يسأله، وهم يكتبون؛ ففطن زيد، فقال: يا مروان، أغدرا، إنما أقول برأيي (3). رواه إبراهيم بن حميد الرواسي، عن ابن أبي خالد، نحوه "وزاد": فمحوه. عن ابن سيرين، قال: حج بنا أبو الوليد، ونحن ولد سيرين سبعة؛ فمر بنا على المدينة، فأدخلنا على زيد بن ثابت، فقال: هؤلاء بنو سيرين. فقال زيد: هؤلاء لأم، وهذان لأم، وهذان لأم. قال: فما أخطأ، وكان محمد، ومعبد، ويحيى لأم (4). عن ثابت بن عبيد، قال: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله، وأزمته (5) عند القوم.

_ (1) إسناده صحيح: يشرك بين الباقين: يسوي بينهم في القسمة. (2) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 360) وإسناده حسن. والحاكم في المستدرك (3/ 433) وصححه وسكت عنه الذهبي. (3) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 361) من طريقين عن سفيان به، والطبراني بنحوه (5/ 137) عن خارجة ابن زيد. (4) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 438) وأخرجه الفسوي في تاريخه ورجاله ثقات. (5) أزمته: أي من أرزنهم وأوقرهم، الزميت: الحليم الساكن القليل الكلام.

هشام، عن ابن سيرين، قال: خرج زيد بن ثابت يريد الجمعة، فاستقبل الناس راجعين، فدخل دارًا، فقيل له. فقال: إنه من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله (1). ومن جلالة زيد: أن الصديق اعتمد عليه في كتابة القرآن العظيم في صحف، وجمعه من أفواه الرجال، ومن الأكتاف والرقاع، واحتفظوا بتلك الصحف مدة، فكانت عند الصديق؛ ثم تسلمها الفاروق، ثم كانت بعد عند أم المؤمنين حفصة، إلى أن ندب عثمان زيد بن ثابت ونفرًا من قريش إلى كتابه هذا المصحف العثماني الذي به الآن في الأرض أزيد من ألفي ألف نسخة، ولم يبق بأيدي الأمة قرآن سواه؛ ولله الحمد. حفص، عن عاصم، عن أبي عبد الرحمن [السلمي]، قال: لم أخالف عليًا في شيء من قراءته، وكنت أجمع حروف علي، فألقى بها زيدًا في المواسم بالمدينة. فما اختلفا إلا في "التابوت" كان زيد يقرأ [الحرف الأخيرٍ بالهاء وعلي بالتاء. عن مكحول: أن عبادة بن الصامت دعا نبطيًا يمسك دابته عند بيت المقدس، فأبى. فضربه، فشجه. فاستعدى عليه عمر. فقال: ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ قال: أمرته، فأبى؛ وأنا في حدة، فضربته. فقال: اجلس للقصاص. فقال زيد بن ثابت: أتقيد لعبدك من أخيك؟ فترك عمر القود، وقضى عليه بالدية (2). عن عمار بن أبي عمار، قال: لما مات زيد، جلسنا إلى ابن عباس في ظل، فقال: هكذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كثير (3). وفيه يقول حسان بن ثابت: فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني (4) بعد زيد بن ثابت

_ (1) وذلك لأن زيدًا رضي الله عنه كان في منطقة لا يسمع الآذان فيها. (2) ورواه البيهقي في السفن الكبرى (8/ 32) ورجاله ثقات. (3) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 361) والحاكم في المستدرك (3/ 428) والطبراني الكبير (5/ 108) ورجاله ثقات. (4) المثاني: القرآن وسمي بذلك لأن المعاني تثنى منه.

وقد اختلفوا في وفاة زيد رضي الله عنه على أقوال: فقال الواقدي، وهو إمام المؤرخين: مات سنة خمس وأربعين، عن ست وخمسين سنة، وتبعه على وفاته يحيى بن بكير، وشباب، ومحمد بن عبد الله بن نمير. قال أبو عبيد: مات سنة خمس وأربعين. ثم قال: وسنة ست وخمسين أثبت. وقال أحمد بن حنبل، عمرو بن علي: سنة إحدى وخمسين. وقال المدائني، والهيثم، ويحيى بن معين: سنة خمس وخمسين. وقال أبو الزناد: سنة خمس وأربعين. فالله أعلم. اهـ ذهبي. * * *

59 - سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

59 - سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال ابن حجر: سملة بن عمرو بن الأكوع ... واسم الأكوع سنان بن عبد الله، يأتي بقية نسبه في عامر بن الأكوع، وقيل اسم أبيه وهب، وقيل غير ذلك أول مشاهده الحديبية، وكان من الشجعان ويسبق الفرس عدوًا، وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الشجرة على الموت رواه البخاري من حديثه ... وقيل مات سنة أربع وستين وزعم الواقدي ومن تبعه أنه عاش ثمانين سنة وهو على القول الأول باطل إذ يلزم منه أن يكون له في الحديبية نحو من عشر سنين ومن يكون في ذلك السن لا يبايع على الموت، ثم رأيت عند ابن سعد أنه مات في آخر خلافة معاوية وكذا ذكر البلاذري اهـ ابن حجر. قال الذهبي في ترجمته: أبو عامر وأبو مسلم. ويقال: أبو إياس الأسلمي الحجازي المدني. قيل: شهد مؤتة، وهو من أهل بيعة الرضوان. قال مولاه يزيد: رأيت سلمة يصفر لحيته. وسمعته يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وغزوت معه سبع غزوات. عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق، فقتلت بيدي ليلتئذ، سبعة أهل أبيات (1). عكرمة بن عمار: حدثنا إياس، عن أبيه [سلمة بن الأكوع] قال: خرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر النبي صلى الله عليه وسلم. وخرجت بفرسٍ لطلحة. فأغار عبد الرحمن بن عيينة على الإبل، فقتل راعيها، وطرد الإبل هو وأناس معه في خيل. فقلت: يا رباح! اقعد على هذا الفرس، فألحقه بطلحة، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقمت على تل، ثم ناديت ثلاثًا: يا صباحاه! واتبعت القوم، فجعلت أرميهم، وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر فإذا رجع إلي فارس، قعدت له في أصل شجرة، ثم رميته، وجعلت أرميهم، وأقول:

_ (1) ورواه أحمد في مسنده (4/ 46) وأبو داود بنحوه (3/ 43) كتاب الجهاد، باب في البيات وإسناده حسن. التبييت: الطروق ليلاً على غفلةٍ للغارة.

أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع وأصبت رجالً بين كتفيه، وكنت إذا تضايقت الثنايا، علوت الجبل، فردأتهم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم حتى ما بقي من شيء من ظهر النبي صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، واستنقذته. ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحًا، وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها، ولا يلقون شيئًا إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا امتد الضحى، أتاهم عيينة بن بدر مددًا لهم، وهم في ثنيةٍ ضيقة، ثم علوت الجبل، فقال عيينة: ما هذا؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، ما فارقنا بسحر إلى الآن، وأخذ كل شيءٍ كان في أيدينا. فقال عيينة: لولا أنه يرى أن وراءه طلبًا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم. فصعد إلي أربعة، فلما أسمعتهم الصوت، قلت: أتعرفوني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع. والذي أكرم وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني. فقال رجل منهم: إني أظن. فما برحت ثم، حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر وإذا أولهم الأخرم الأسدي، وأبو قتادة، والمقداد؛ فولى المشركون. فأنزل، فأخذت بعنان فرس الأخرم، لا آمن أن يقتطعوك، فائتذ حتى يلحقك المسلمون؛ فقال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، فخليت عنان فرسه، ولحق بعبد الرحمن بن عيينة، فاختلفا طعنتين، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه، ثم قتله عبد الرحمن، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة، فقتله أبو قتادة، وتحول على فرسه. وخرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار أصحابنا شيئًا، ويعرضون قبيل المغيب إلى شعبٍ فيه ماء يقال له: "ذو قرد" (1)، فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا

_ (1) ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر، وقال البخاري في "صحيحه": وهي الغزوة التي أغاروا فيها على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث [ليال]. قال الحافظ: كذا جزم به، ومستنده في ذلك حديث إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فإنه قال في آخر الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم من طريقه، قال: فرجعنا، أي: من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر، وأما ابن سعد، فقال: كانت غزوة ذي قرد في ربيع الأول في سنة ست قبل الحديبية، وقيل في جمادى الأولى، وقيل في جمادى الأولى، وعن ابن إسحاق: في شعبان منها.

عنه، وأسندوا في الثنية، وغربت الشمس، فألحق رجلاً، فأرميه؛ فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع. فقال: يا ثكل أمي أكوعي بكرة؟ قلت: نعم با عدو نفسه. وكان الذي رميته بكرة، فأتبعته سهماً آخر، فعلق به سهمان. ويخلفون فرسين، فسقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حليتهم عنه - «ذو قرد» - وهو في خمس مئة، وإذا بلال نحر جزوراً مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! خلني فأنتخب من أصحابك مئة، فآخذ عليهم بالعشوة، فلا يبقى منهم مخبر. قال: «أكنت فاعلاً يا سلمة؟» قلت: نعم، فضحك حتى رأيت نواجذه في ضوء النار. ثم قال: إنهم يقرون الآن بأرض غطفان. قال: فجاء رجل، فأخبر أنهم مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزوراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها، رأوا غيرة، فهربوا. فلما أصبحنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة» وأعطاني سهم الراجل والفارس جميعاً. ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. فلما كان بيننا وبينها قريباً من ضحوة، وفي القوم رجل كان لا يسبق جعل ينادي: ألا رجل يسابق إلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً. فقلت: ما تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي، خلني أسابقه. قال" إن شئت. وقلت: امض. وصبرت عليه شرفاً أو شرفين حتى استبقيت نفسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه، فأصك بين كتفيه، وقلت: سبقتك والله، أو كلمة نحوها، فضحك، وقال: إن أظن، حتى قدمنا المدينة. اهـ. هكذا ذكره الذهبي وهو عند مسلم بأطول منه. 2187 - * روى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، فذكر خيبر، والحديبية، ويوم حنين، ويوم القرد، قال يزيد بن

_ 2187 - البخاري (7/ 517) 64 - كتاب المغازي - 45 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة.

أبي عبيد: ونسيت بقيتهم. وفي رواية (1): أنه سمعه يقول: غروت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة علينا أسامة. 2188 - * روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن رزين، قال: أتينا سلمة بن الأكوع بالربذة، فأخرج إلينا يداً ضخمة كأنها خف البعير، فقال: بايعت بيدي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأخذنا يده، فقلبناها. 2189 - * روى الطبراني عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً، ومسح على وجهي مراراً، واستغفر لي مراراً عدد ما في يدي من الأصابع. 2190 - * روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه دخل على الحجاج فقال: يا ابن الأكوع! ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟ قال: لا. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لي في البدو. وذكر الذهبي في السير (2) عن عبادة بن الوليد أن الحسن بن محمد بن الحنفية قال: اذهب بنا إلى سلمة بن الأكوع، فلنسأله، فإنه من صالحي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القدم، فخرجنا نريده، فلقيناه يقوده قائده. وكان قد كف بصره. 2191 - * روى البخاري عن يزيد بن أبي عبيد، قال: لما قتل عثمان، خرج سلمة إلى

_ (1) البخاري في نفس الموضع السابق ومسلم (3/ 1448) 32 - كتاب الجهاد والسير - 49 - باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. 2188 - الطبقات الكبرى (4/ 206) وإسناده حسن. 2189 - المعجم الكبير (7/ 24) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ((9/ 363) رجاله رجال الصحيح غير علي بن يزيد بن أبي حكيمة وهو ثقة. 2190 - البخاري (13/ 40) 93 - كتاب الفتن - 14 - باب الثغرب في الفتنة. ومسلم (3/ 1486) 32 - كتاب الإمارة - 19 - باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه. (2) السير (3/ 331) ورواه ابن عساكر في تاريخه. 2191 - البخاري (13/ 40) 92 - كتاب الفتن - 14 - باب التغرب في الفتنة

الربذة (1)، وتزوج امرأة، فولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليالٍ، نزل المدينة. * * *

_ (1) الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من قيد تريد مكة. قال الحافظ في «الفتح»: ويستفاد من هذه الرواية مدة سكنى سلمة البادية وهي نحو الأربعين سنة، لأن قتل عثمان كان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وموت سلمة سنة أربع وسبعين على الصحيح.

60 - أبو الدرداء رضي الله عنه

60 - أبو الدرداء رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: عويمر أبو الدرداء .. مشهور بكنيته وباسمه جميعاً واختلف في اسمه فقيل هو عامر وعويمر لقب حكاه عمرو بن الغلاس عن بعض ولده وبه جزم الأصمعي في رواية الكديمي عنه واختلف في اسم أبيه فقيل عامر أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد وأبوه ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخرزجي. قال أبو شهر عن سعيد بن عبد العزيز: أسلم يوم بدر وشهد أحداً وأبلى فيها، قال صفوان بن عمر. وعن شريح بن عبيد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: نعم الفارس عويمر، وقال هو حكيم أمتي. وقال ابن حبان: ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر. قال أبو شهر عن سعيد بن عبد العزيز: مات أبو الدرداء وكعب الأحبار لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال الواقدي وجماعة مات سنة اثنتين وثلاثين، وقال ابن عبد البر إنه مات بعد صفين والأصح عند أصحاب الحديث أنه مات في خلافة عثمان اهـ. قال الذهبي: أبو الدرداء، الإمام القدوة. قاضي دمشق، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر، ويقال: ابن عبد الله. وقيل: ابن ثعلبة بن عبد الله - الأنصاري الخزرجي. حكيم هذه الأمة. وسيد القراء بدمشق. وقال ابن أبي حاتم: هو عويمر بن قيس بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب الخزرج. قال: ويقال: اسمه عامر بن مالك. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وهو معدود فيمن تلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قرأ غيره، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدر للإقراء بدمشق في خلافة عثمان، وقبل ذلك، وقرأ عليه عطية بن قيس، وأم الدرداء. وقال أبو عمرو الداني: عرض عليه القرآن، خليد بن سعد، وراشد بن سعد، وخالد ابن معدان، وابن عامر. كذا قال الدامي. وولي القضاء بدمشق، في دولة عثمان. فهو أول من ذكر من قضاتها، وداره بباب البريد. ثم صارت في دولة السلطان صلاح الدين تعرف

بدار الغزي. وآخر من زعم أنه رأى أبا الدرداء، شيخ عاش إلى دولة الرشيد، فقال أبو إبراهيم الترجماني: حدثنا إسحاق أبو الحارث، قال: رأيت أبا الدرداء أقنى أشهل يخضب بالصفوة. عن خيثمة: قال أبو الدرداء: كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام، جمعت التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فتركت التجارة، ولزمت العبادة (1). قلت [القائل الذهبي]: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قاله، هو طريق جماعة من السلف والصوفية، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك، فبعضهم يقوى على الجمع، كالصديق، وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك؛ وبعضهم يعجز، ويقتصر على العبادة، وبعضهم يقوى في بدايته، ثم يعجز، وبالعكس؛ وكل سائغ. ولكن لابد من النهضة بحقوق الزوجة والعيال. قال سعيد بن عبد العزيز: أسلم أبو الدرداء يوم بدر، ثم شهد أحداً وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن يرد من على الجيل، فردهم وحده. وكان قد تأخر إسلامه قليلاً. قال شريح بن عبيد الحمصي: لما هزم أصحاب رسول الله يوم أحد، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله: «اللهم، ليس لهم أن يعلونا» فثاب إليه ناس، وانتدبوا (2)، وفيهم عويمر أبو الدرداء، حتى أدحضوهم (3) عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء. فقال رسول الله: نعم الفارس عويمر». وقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] «حكيم أمتي عويمر»! هذا رواه يحيي البابلتي: حدثنا صفوان بن عمرو، عن شريح، عن أنس: مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجمع القرآن غير أربعة:

_ (1) رواه ابن سعد في الطبقات (7/ 391) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 367) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. (2) انتدبوا: أسرعوا. (3) أدحضوهم: أزللهم.

أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (1). عن الشعبي: جمع القرآني على عهد رسول الله ستة، وهم من الأنصار: معاذ، وأبو الدرداء، وزيد، وأبي، وسعد بن عبيد (2). قال أبو الزاهرية: كان أبو الدرداء من آخر الأنصار إسلاماً، وكان يعبد صنماً، فدخل ابن رواحة، ومحمد بن مسلمة بيته، فسكرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك! هلا امتنعت! ألا دفعت عن نفسك، فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دفع عن نسفه ونفعها! فقال أبو الدرداء: أعدي لي ماء في المغتسل. فاغتسل، ولبس خلته ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ابن رواجة مقبلاً، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا؟ فقال: «إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم. عن جبير، عن أبي الدرداء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وعدني إسلام أبي الدرداء فأسلم». عن سعيد بن عبد العزيز: أن أبا الدرداء أسلم يوم بدر، وشهد أحداً. وفرض له عمر في أربع مئة - يعني في الشهر - ألحقه في البدريين. عن مكحول: كانت الصحابة يقولون: أرحمنا بنا أبو بكر؛ وأنطقنا بالحق عمر؛ وأميننا أبو عبيدة؛ وأعلمنا بالحرام والحلال معاذ؛ وأقرنا أبي، ورجل عنده علم ابن مسعود، وتبعهم عويمر أبو الدرداء بالعقل. وقال ابن إسحاق: كان الصحابة يقولون: أتبعنا للعلم والعمل أبو الدرداء (3). وروى عون بن أبي حجيقة، عن أبيه: أن رسول الله آخى بين سلمان وأبي الدرداء؛ فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لا

_ (1) رواه البخاري (9/ 47) 66 - كتاب فضائل القرآن - 8 - باب القراء من أسحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (2) رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 355) ورجاله ثقات، وسنده صحيح مع إرساله. (3) راه البخاري في تاريخه (7/ 27).

حاجة له الدنيا، يقوم الليل، ويصوم النهار. فجاء أبو الدرداء، فرحب به، وقرب إليه طعاماً. فقال له سلمان: كل. قال: إني ضائم. قال: أقسمت غليك لتفطرن، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً؛ صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه. فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت؛ فقاما، فتوضا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله بالذي أمره سلمان. فقال له: «يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقاً، مثل ما قال لك سلمان» (1). قال أبو الدرداء: لو نسيت آية لم أجدا أحداً يذكرنبها إلا رجلاً ببرك الغماد (2)، رحلت إليه. عن أبي الدرداء، قال: سلوني، فوالله لئن فقدتموني لتفقدن رجلاً عظيماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. عن يزيد بن عميرة، قال: لما حضرت معاذاً الوفاة، قالوا: أوصنا. فقال: العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما - قالها ثلاثاً - فالتمسوا العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود، وعبد الله بن سلام، الذي كان يهودياً فأسلم. عن عبد الرحمن الحجري، قال: قال أبو ذر لأبي الدرداء: ما حملت ورقاء، ولا أظلت خضراء (3)، أعلم منك يا أبا الدرداء. عن مسروق: قال: وجدت علم الصحابة انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأبي، وزيد،

_ (1) رواه البخاري (4/ 209) 30 - كتاب الصوم - 51 - باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع. والترمذي (4/ 608) 37 - كتاب الزهد، باب: 63. مبتذلة: لابسة ثياب البذلة وهي المهنة. (2) برك الغماد: موضع بناحية اليمن، وقيل: موضع في أقاصي أرض هجر. (3) الورقاء: الغيراء، أراد بها الأرض، والخضراء: السماء.

وأبي الدرداء، وابن مسعود؛ ثم انتهى علمهم إلى علي، وعبد الله (1). وقال خالد بن معدان: كان ابن عمر يقول: حدثونا عن العاقلين فيقال: من العاقلان؟ فيقول: معاذ، وأبو الدرداء (2). عن محمد بن كعب، قال: جمع القرآن خمسة: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبي، وأبو أيوب. فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم. فأعني برجال يعلمونهم. فدعا عمر الخمسة؛ فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحكمهم الله بثلاثة منكم إن أحبتتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا. فقالوا: ما كنا لتتساهم، هذا شيخ كبير - لأبي أيوب - وأما هذا فسقيم - لأبي - فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدؤوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن، فإذا رأيتم ذلك، فوجهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين. قال: فقدموا حمص فكانوا بها؛ حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة بن الصامت؛ وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين وبها مات. ولم يزل أبو الدرداء بدشمق حتى مات (3). عن يحيي بن سعيد، قال: كان أبو الدرداء، إذا قضى بين اثنين، ثم أدبرا عنه، نظر

_ (1) رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 251) وإسناده صحيح. (2) رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 350) ورجاله ثقات. (3) رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 356) والبخاري في التاريخ الصغير (1/ 41) تساهم: تتقارع من القرعة. يفقن: يفهم. عسواس: قرية على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس، وطاعون عمواس كان في سنة 18 هـ وفيه استشهد أبو عبيدة ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم.

إليهما، فقال: ارجعا إلي، أعيدا علي قضيتكما. عن ابن أبي ليلى، قال: كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد: سلام عليك. أما بعد، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله، أبغضه الله؛ فإذا أبغضه الله، بغضه إلى عباده. عن أبي الدرداء: إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه. سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عمر قال لابن مسعود وأبي ذر، وأبي الدرداء: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب. الذهبي. اهـ. أقول: كان مذهب عمر أن يقلل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما لابد منه كي لا ينشغل الناس عن القرآن، وكان يحب أن لا يتفرق الصحابة بالأمصار كي تبقى حوله نخبة من الصحابة يستشيرها، وكي تبقى للعاصمة مركزيتها القوية. قال الذهبي: عن مسلم بن مشكم قال لي أبو الدرداء: اعدد من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وست مئة ونيفا. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً؛ فيحدقون به يسمعون ألفاظه. وكان ابن عامر مقدماً فيهم (1). يزيد بن أبي مالك، قال: كان أبو الدرداء يضلي، ثم يقرئ ويقرأ، حتى إذا أراد القيام، قال لأصحابه: هل من وليمة أو عقيقة (2) نشهدها؟ فإن قالوا: نعم، وإلا قال: اللهم، إني أشهدك أني صائم. وهو الذي سن هذه الحلق للقراءة. وعن يزيد بن معاوية قال: إن أبا الدرداء من العلماء والفقهاء، الذين يشفون من الداء. وقال الليث، عن رجل عن آخر: رأيت أبا الدرداء دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الأتباع مثل السلطان: فمن سائل عن فريضة، ومن سائل عن حساب، وسائل عن حديث، وسائل عن معضلة، وسائل عن شعر.

_ (1) رجاله ثقات. (2) العقيقة: هي الشاة التي تذبح عن المولد في اليوم السابع من ولادته.

قال ربيعة بن يزيد القصير: كان أبو الدرداء إذا حدث عن رسول الله قال: اللهم إن لا هكذا، وإلا فكشكله. قال أبو الدرداء: مالي أري علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون! تعلموا، فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر. وعن أبي الدرداء، من وجه مرسل: لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولا تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عاملاً؛ إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت؟. قال أبو الدرداء: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات. عن عون بن عبد الله: قلت لأم الدرداء: أي عبادة أبي الدرداء كانت أكثر؟ قالت: التفكر والاعتبار. وعن أبي الدرداء: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. عن ابن حلبس: قيل لأبي الدرداء - وكان لا يفتر من الذكر -: كم تسبح في كل يوم؟ قال: مئة ألف، إلا أن تخطئ الأصابع. عن بلال بن سعد، أن أبا الدرداء قال: أعود بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يجعل لي في كل واد مال. وري عن أبي الدرداء، قال: لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، وكجالسة أقوام ينتقوم جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. عن يحيي بن أبي كثير، عن أبيه: أن أبا الدرداء أوجعت عينه حتى ذهبت، فقيل له: لو دعوت الله؟ فقال: ما فرغت بعد من دعائه لذنوبي؛ فكيف أدعو لعيني؟. حريز بن عثمان: حدثنا راشد بن سعد، قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال: أوصني. قال: اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء؛ وإذا ذكرت الموتى، فاجعل نفسك

كأحدهم، وإذا أشرفت نفسك على شيء (1) من الدنيا، فانظر إلى ما يصير. عن عبد الله بن مرة، أن أبا الدرداء قال: اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلًا يغنيك خير من كثير يلهيك، وأن البر لا يبلى، وأن الإثم لا ينسى. عن أبي الدرداء: إياك ودعوات المظلوم؛ فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات من نار. وروى لقمان بن عامر، أن أبا الدرداء قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها، وننظر إليها معهم، وحسابهم عليها ونحن منها برآء. وعنه، قال: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصفنا إخواننا الأغنياء: يحبوننا على الدين، ويعادوننا على الدنيا. قال: لما فتحت قبرس، مر بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقلت له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جبير، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى. ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه. عن أم الدرداء، قالت: كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مئة خليل في الله. يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب، إلا وكل الله به ملكين يقولان: ولك بمثل. أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة (2). قالت أم الدرداء: لما احتضر أبو الدرداء، جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟. عن يزيد بن مزيد، قال: ذكر الدجال في مجلس فيه أبو الدرداء فقال نوف

_ (1) وإذا أشرفت نفسك على شيء: أي تطلعت إليه. (2) أقول: هذا محمول على الدعاء في صلاة.

البكالي (1): إني لغير الدجال أخوف مني من الدجال. فقال أبو الدرداء: وما هو؟ قال: أخاف أن أستلب إيماني وأنا لا أشعر. فقال أبو الدرداء: ثكلتك أمك يا ابن الكندية! وهل في الأرض خمسون يتخوفون ما تتخوف؟ ثم قال: وثلاثون، وعشرون، وعشرة، وخمسة. ثم قال: وثلاثة. كل ذلك يقول: ثكلتك أمك! والذي نفسي بيده ما أمن عبد علي إيمانه إلا سلبه، أو انتزع منه فيفقده. والذي نفسي بيده ما الإيمان إلا كالقميص يتقمصه مرة ويضعه أخرى. وقيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائمًا، فإذا أحكم الرجل منهم، تحول إلى أبي الدرداء- يعني يعرض عليه. وعن أبي الدرداء، قال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده. قال الواقدي، وأبو مسهر، وابن نمير: مات أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين. وعن خالد بن معدان، قال: مات سنة إحدى وثلاثين. فهذا خطأ، لأن الثوري روى عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، قال: لما جاء نعي- يعني ابن مسعود- إلى أبي الدرداء، قال: أما إنه لم يخلف بعده مثله! ووفاة عبد الله في سنة 32. وروى إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي عبيد الله الأشعري، قال: مات أبو الدرداء قبل مقتل عثمان، رضي الله عنهما مات قبل عثمان بثلاث سنين. أهـ الذهبي. وروى أبو زرعة في تاريخ دمشق عن الأوزاعي قال: مات أبو الدرداء وكعب الأحبار في خلافة عثمان لسنتين من خلافته. 2192 - * وروى الطبراني عن أبي الدرداء قلت: يا رسول الله بلغني أنك تقول: إن قومًا من أمتي سيكفرون بعد إيمانهم؟ قال: "أجل يا أبا الدرداء ولست منهم".

_ (1) هو ابن امرأة كعب الأحبار. 2192 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 367) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الأشعري وهو ثقة.

61 - عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه

61 - عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم واسمه عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري .. قال البخاري: عبد يغوث جده وكان خال النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم يوم الفتح وكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكر وعمر وكان على بيت المال أيام عمر وكان أميرًا عنده. حديث حفصة أنه قال لها: لولا أن ينكر علي قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم وقال السائب بن يزيد ما رأيت أخشى لله منه وأخرج البغوي عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث وكان يجيب عنه الملوك وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده واستكتب أيضًا زيد بن ثابت وكان يكتب الوحي وكان إذا غاب بن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى أحد أمر من حضر أن يكتب فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد والمغيرة ومعاوية، ومن طريق محمد بن صدقة الفدكي عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر: كتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري أجب هؤلاء عني فأخذ عبد الله الكتاب فأجابهم ثم جاء به فعرضه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصبت قال عمر: فقلت رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كتبت فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعنه عبد الله بن عتبة بن مسعود وأسلم مولى عمر ويزيد بن قتادة وعروة قال ابن السكن: توفي في خلافة عثمان وهو مقتضى صنيع البخاري في تاريخه الصغير، ووقع في ثقات ابن حبان أنه توفي سنه أربع وأربعين وهو وهم، وقال مالك: بلغني أن عثمان أجاز عبد الله بن الأرقم بثلاثين ألفًا فأبى أن يقبلها وقال: إنما عملت لله. وأخرج البغوي من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار: استعمل عثمان عبد الله بن الأرقم على بيت المال فأعطاه عمالة ثلثمائة ألف فأبى أن يقبلها فذكر نحوه. أهـ. وقال الذهبي في ترجمته: من مسلمة الفتح، وكان ممن حسن إسلامه، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم كتب لأبي بكر، ولعمر، وولاه عمر بيت المال، وولي بيت المال أيضًا لعثمان

مدة، وكان من جلة الصحابة وصلحائهم. وروي عن عمر أنه قال لعبد الله بن الأرقم: لو كانت لك سابقة، ما قدمت عليك أحدًا! وكان يقول: ما رأيت أخشى لله من عبد الله بن الأرقم. وروى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه، قال: والله ما رأيت رجلًا قط كان أخشى لله من عبد الله بن الأرقم. أهـ.

62 - عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه

62 - عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال ابن حجر: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهمان بن عبد الله بن همام الثقفي أبو عبد الله نزيل البصرة .. أسلم في وفد ثقيف فاستعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الطائف وأقره أبو بكر ثم عمر ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية، قيل سنة خمس وقيل سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفًا عن الردة خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلامًا فلا تكونوا أولهم ارتدادًا، وجاء عنه أنه شهد آمنة لما ولدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي قصة أخرجها البيهقي في الدلائل، والطبراني من طريق محمد بن أبي سويد الثقفي عنه قال: حدثتني أمي فعلى هذا يكون عاش نحوًا من مائة وعشرين سنة. روى عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث في صحيح مسلم وفي السنن، وذكر المرزباني في معجم الشعراء أن عثمان بن بشر بن عبد بن دهمان كان قد شد في الجاهلية على عمرو بن معد يكرب فهرب عمرو فقال عثمان: لعمرك لولا الليل قامت مآتم ... حواسر يخمشن الوجوه على عمرو فأفلتنا فوت الأسنة بعدما ... رأى الموت والخطي أقرب من شعر فما أدري أهو هذا نسب إلى جده أو هو عنه. أهـ ابن حجر. وقال الذهبي في السير: عثمان بن أبي العاص الأمير الفاضل المؤتمن. أبو عبد الله الثقفي الطائفي. قدم في وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع. فأسلموا، وأمره عليهم لما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين، وكان أصغر الوفد سنًا. ثم أقره أبو بكر على الطائف، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين، ثم قدمه [أمره] على جيش، فافتتح توج (1)، ومصرها، وسكن البصرة.

_ (1) توج: مدينة بفارس وكان فتحها سنة 21.

ذكره الحسن البصري، فقال: ما رأيت أحدًا أفضل منه وكانت أمه قد شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدث عنه: سعيد بن المسيب، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيد، ومطرف: ابنا عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة، وآخرون. أهـ ذهبي. 2193 - * روى الطبراني عن عثمان بن أبي العاص قال: قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبسنا حللنا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا من يمسك لنا رواحلنا؟ فكل القوم أحب الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه. قال عثمان: وكنت أصغرهم فقلت: إن شئتم أمسكت لكن على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم؟ قالوا: فذلك لك، فدخلوا عليه ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا، قلت: أين؟ قالوا: إلى أهلك، فقلت: خرجت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ولا أدخل عليه وقد أعطيتموني ما قد علمتم، قالوا فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة فلم ندع شيئًا إلا سألناه فدخلت، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني، قال: "ماذا قلت" فأعدت عليه القول، فقال: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من يقدم عليك من قومك". 2194 - * روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص الثقفي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أم قومك" قال قلت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي شيئًا. قال: "ادنه" فجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري بين ثديي. ثم قال: "تحول" فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: "أم قومك. فمن أم قومًا فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده، فليصل كيف شاء".

_ 2193 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 370) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير حكيم بن حكيم بن عياد وقد وثق. وقال عنه في التقريب: صدوق. 2194 - مسلم (1/ 341) 4 - كتاب الصلاة- 37 - باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.

2195 - * روى أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص قال قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي فقال: "أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". 2196 - * روى الطبراني عن أبي نضرة قال: أتيت عثمان بن أبي العاص في أيام العشر وكان له بيت قد أخلاه للحديث فمر عليه بكبش فقال لصاحبه: بكم أخذته؟ فقال: باثني عشر درهمًا فقلت: [أي أبو نضرة] لو كان معي اثنا عشر درهمًا اشتريت بها كبشًا فضحيت وأطعمت عيالي، فلما قدمت [إلى بيتي] اتبعني [عثمان] بصرة فيها خمسون درهمًا فما رأيت دراهم قط كانت أعظم بركة منها أعطاني وهو لها محتسب وأنا إليها محتاج. قال الذهبي: عن عثمان بن أبي العاص: أنه بعث غلمانًا له تجارًا؛ فلما جاؤوا، قال: ما جئتم به؟ قالوا: جئنا بتجارة يربح الدرهم عشرة. قال: وما هي؟ قالوا: خمر. قال: خمر! وقد نهينا عن شربها وبيعها، فجعل يفتح أفواه الزقاق، ويصبها (1). توفي رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين. أهـ.

_ 2195 - أحمد في مسنده (4/ 21) أبو داود (1/ 146) كتاب الصلاة. باب أخذ الأجر على التأذين. والنسائي (2/ 23) كتاب الآذان، باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على آذنه أجرا. اقتد بأضعفهم: أي لا تطل وصل بقدر طاقة أضعفهم. 2196 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 371) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (1) إسناده حسن، سالم بن نوح صدوق له أوهام، وباقي رجاله ثقات.

63 - أبو زيد عمر بن أخطب رضي الله عنه

63 - أبو زيد عمر بن أخطب رضي الله عنه قال ابن حجر: أبو زيد بن أخطب اسمه عمرو بن أخطب بن رفاعة بن محمود بن يسير ابن عبد الله بن الصيف بن يعمر بن عدي بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأنصاري الخزرجي أبو زيد، مشهور بكنيته وهو جد عزرة بن ثابت لأمه .. أخرج الترمذي من طريق أبي عاصم عن عن عزرة عن علباء بن أحمر عن أبي زيد بن أخطب قال: مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده على وجهي ودعا لي، وفي رواية أحمد في هذا الحديث وحده: زادني جمالًا، قال فأخبرني غير واحد وأنه بلغ بضعًا ومائة سنة أسود الرأس واللحية وفي رواية لأحد من وجه آخر عن أبي نهيك: حدثني أبو زيد قال: استسقى رسول الله صلى عليه وآله وسلم ماء فأتيته بقدح فيه ماء فكانت فيه شعرة فأخذتها فقال: اللهم جمله، قال فرأيته ابن أربع وتسعين ليس في لحيته شعرة بيضاء، وصححه ابن حبان والحاكم وعند مسلم من هذا الوجه عن أبي بكر صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضر الظهر الحديث، وفي الشمائل للترمذي من الطريق المذكورة عن أبي زيد قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا زيد ادن مني امسح ظهري فمسحت ظهره فوضعت أصابعي على الخاتم الحديث وصححه ابن حبان والحاكم. أهـ. قال الذهبي في ترجمته: أبو زيد الأنصاري الخزرجي المدني الأعرج من مشاهير الصحابة الذين نزلوا البصرة، وله بالبصرة مسجد يعرف به، وغزا معه ثلاث عشرة غزوة (1). توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. أهـ.

_ (1) ورواه أحمد في مسنده (5/ 340) ورجاله ثقات.

64 - أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه

64 - أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال ابن حجر: صدي بالتصغير ابن عجلان بن الحارث ويقال ابن وهب ويقال ابن عمرو بن وهب بن غريب بن وهب بن رياح بن الحارث بن معن بن مالك بن الباهلي أبو أمامة. مشهور بكنيته روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن عمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وعمرو بن عبسة وغيرهم. روى أبو سلام الأسود ومحمد بن زياد الألهاني وشرحبيل بن مسلم وشداد وأبو عمار والقاسم بن عبد الرحمن وشهر بن حوشب ومكحول وخالد بن معدان وآخرون قال ابن سعد: سكن الشام، وأخرج الطبراني ما يدل على أنه شهد أحدًا لكن بسند ضعيف، وروى أبو يعلى من طريق أبي غالب عن أبي أمامة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوم فانتهيت إليهم وأنا طاو وهم يأكلون الدم، فقالوا: هلم، قلت: إنما جئت أنهاكم عن هذا، فنمت وأنا مغلوب، فأتاني آت بإناء فيه شراب فأخذته وشربته فكظني بطني فشبعت ورويت، ثم قال لهم رجل منهم: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تنجعوه فأتوني بلبن فقلت لا حاجة لي به ورأيتهم بطني فأسلموا عن آخرهم، ورواه البيهقي في الدلائل وزاد فيه أنه أرسله إلى قومه باهلة، وقال ابن حبان كان مع علي بصفين. مات أبو أمامة الباهلي سنة ست وثمانين قال ابن البرقي بغير خلاف، وأثبت غيره الخلاف فقيل سنة إحدى قال محمد بن سعد، وقال عبد الصمد بن سعيد ولما مات خلف ابنًا يقال له المغلس، وله يعني صاحب الترجمة مائة وست سنين فقد صح عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأخرج البخاري في تاريخه من طريق عبد الحميد بن ربيعة: رأيت أبا أمامة خرج من عند الوليد بن عبد الملك في ولايته سنة ست وثمانين ومات ابنه الوليد سنة ست وتسعين. عن يوسف بن حزن الباهلي سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: لما نزلت {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قلت: يا رسول الله أنا ممن بايعك تحت الشجرة قال: أنت مني وأنا منك. وأخرج أبو يعلى عن أبي أمامة أنشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوًا فأتيته فقلت: ادع الله لي بالشهادة فقال: اللهم سلمهم وغنمهم. الحديث. أهـ.

قال الذهبي عنه: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزيل حمص. روى علمًا كثيرًا، وحدث عن عمر، ومعاذ، وأبي عبيدة. قال سليم بن عامر: سمعت أبا أمامة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع، قلت لأبي أمامة: مثل من أنت يومئذ؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة. وروي أنه بايع تحت الشجرة. رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة، قلت: يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، فقال: "اللهم سلمهم وغنمهم" فغزونا، فسلمنا، وغنمنا، وقلت: يا رسول الله، مرني بعمل. قال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له" فكان أبو أمامة، وامرأته وخادمه لا يلفون إلا صيامًا (1). محمد بن زياد: رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد، وهو ساجد يبكي، ويدعو، فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. سليم بن عامر قال: كنا نجلس إلى أبي أمامة، فيحدثنا حديثًا كثيرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اعقلوا، وبلغوا عنا ما تسمعون. أهـ الذهبي. 2197 - * روى الطبراني عن أبي أمامة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي فانتهيت إليهم وأنا طاوٍ فانتهيت إليهم وهم يأكلون دمًا، فقلت: إنما جئت أنهاكم عن هذا، فوضعت رأسي فقمت مغلوب فأتاني آت في منامي بإناء فيه شراب، فقال: خذ هذا واشرب ثم كظني بطني فشبعت ثم رويت، فسمعتهم يقولون أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تنجعوه بالمذيقة، فأتوني بمذيقتهم، فقلت: لا حاجة لي فيها إن الله أطعمني وسقاني فأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. ...

_ (1) رواه أحمد في مسنده (5/ 248) وسنده صحيح. 2197 - المعجم الكبير (8/ 335) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 387) وقال: رواه الطبراني في الكبير بإسنادين وإسناد أحدهما حسن فيها أبو غالب، وقد وثق وقال في التقريب: صدوق يخطأ.

65 - عبد الله بن بسر رضي الله عنه

65 - عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال الذهبي في ترجمته: عبد الله بن بسر بن أبي بسر، الصحابي المعمر، بركة الشام، أبو صفوان المازني نزيل حمص، وقد غزا جزيرة قبرس مع معاوية في دولة عثمان. عثمان قال: رأيت عبد الله بن بسر وثيابه مشمرة، ورداؤه فوق القميص، وشعره مفروق يغطي أذنيه، وشاربه مقصوص مع الشفة، كنا نقف عليه ونتعجب. قال صفوان بن عمرو: رأيت في جبهة عبد الله بن بسر أثر السجود. عصام بن خالد: حدثنا الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه، فوضعت أصبعي عليها، فقال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه عليها، ثم قال: "لتبلغن قرنًا". رواه أحمد في "المسند" (1). عبد الله بن بسر قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حيسًا، ودعا لنا، ثم التفت إلي وأنا غلام، فمسح على رأسي، ثم قال: "يعيش هذا الغلام قرنًا" فعاش مئة. روى نحوه سلمة بن حواس عن محمد بن القاسم؛ أنه كان مع ابن بسر في قريته، وزاد فيه: فقلت: يا رسول الله! كم القرن؟ قال: مئة سنة. وفي "صحيح البخاري" (2) لحريز بن عثمان أنه سأل عبد الله بن بسر؛ أكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخًا؟ قال: كان في عنفقته (3) شعرات بيض. أم هاشم الطائية قالت: رأيت عبد الله بن بسر يتوضأ، فخرجت نفسه رضي الله عنه. وقال أبو زرعة الدمشقي: مات قبل سنة مئة. وقال عبد الصمد بن سعيد الحافظ:

_ (1) أحمد في مسنده (4/ 189) وسنده حسن وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 405) رواه الطبراني. وأحمد ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات. (2) البخاري (6/ 564) 61 - كتاب المناقب- 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. (3) العنفقة: ما بين الذقن والشفة السفلى.

توفي سنة ست وتسعين. وقال يزيد بن عبد ربه الجرجسي: توفي في إمرة سليمان ابن عبد الملك. أهـ الذهبي. 2198 - * روى البزار والطبراني عن عبد الله بن بسر وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي فقال: "يعيش هذا الغلام قرنًا" فعاش مائة سنة، وكان في وجهه ثألول فقال: لا يموت حتى يذهب الثالول من وجهه، فلم يمت حتى ذهب الثألول من وجهه. * * *

_ 2198 - البزار: كشف الأستار (3/ 280) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 404): رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي وهو ثقة.

66 - السائب بن يزيد رضي الله عنه

66 - السائب بن يزيد رضي الله عنه قال في الإصابة: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة، ويقال عائد بن الأسود الكندي أو الأزدي. وقيل هو كناني ثم ليثي وقيل هذلي، يعرف بابن أخت النمر، والنمر خال أبيه يزيد هو النمر بن جبل، ووهم من قال أنه النمر بن قاسط، وقال الزهري: هو أزدي حالف بني كنانة، له ولأبيه صحبة. ومن طريق الزهري عنه قال: خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك. وفي الصحيحين أيضًا من طريق محمد بن يوسف عن السائب أن خالته ذهبت به وهو وجع فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه ودعا له وتوضأ فشرب من وضوئه ونظر إلى خاتم النبوة، وأم أم السائب أم العلاء بنت شريح الحضرمية وكان العلاء ابن الحضرمي خاله. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث. قال مصعب الزبيري: استعمله عمر على سوق المدينة هو وسليمان بن أبي خيثمة وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتين وثمانين وقيل بعد التسعين وقيل سنة إحدى وقيل سنة أربع. وقال ابن أبي داود: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة ووهم يعقوب بن سفيان فذكره فيمن قتل يوم الحرة. أهـ. وقال الذهبي في ترجمته: أبو عبد الله، وأبو يزيد الكندي المدني، ابن أخت نمر، وذلك شيء عرفوا به، وكان جده سعيد بن ثمامة حليف بني عبد شمس. قال السائب: حج بن أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين (1). عكرمة بن عمار: حدثنا عطاء مولى السائب قال: كان السائب رأسه أسود من هامته إلى مقدم رأسه، وسائر رأسه- مؤخره وعارضاه ولحيته- أبيض. فقلت له: ما رأيت أعجب شعرًا منك! فقال لي: أوتدري مما ذاك يابني؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بي وأنا ألعب، فمسح يده على رأسي، وقال: "بارك الله فيك" فهو لا يشيب أبدًا. يعني:

_ (1) البخاري (4/ 71) - 28 - كتاب جزاء الصيد- 25 - باب حج الصبيان.

موضع كفه (1). عن الزهري، قال: ما اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيًا، ولا أبو بكر، ولا عمر، حتى قال عمر للسائب ابن أخت نمر: لو روحت عني بعض الأمر. حتى كان عثمان. قال عبد الأعلى الفروي: رأيت على السائب بن يزيد مطرف خز، وجبة خز، وعمامة خز. يروى عن الجعيد بن عبد الرحمن، وفاة السائب بن يزيد في سنة أربع وتسعين. وقال الواقدي، وأبو مسهر، وجماعة: توفي سنة إحدى وتسعين، وشذ الهيثم بن عدي فقال: مات سنة ثمانين. أهـ. الذهبي. * * *

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 160) والصغير (1/ 249). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 409): رجال الكبير رجال الصحيح غير عطاء مولى السائب وهو ثقة.

67 - ورقة بن نوفل رضي الله عنه

67 - ورقة بن نوفل رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. ذكره الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم في الصحابة، وأوردوا كلهم من طريق روح بن مسافر أحد الضعفاء عن الأعمش عن عبد الله ابن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن ورقة بن نوفل قال: قلت يا محمد كيف يأتيك الذي يأتيك؟ قال: "يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر". قال ابن عساكر: لم يسمع ابن عباس من ورقة ولا أعرف أحدًا قال إنه أسلم. وقد غاير الطبري بين صاحب هذا الحديث وبين ورقة بن نوفل الأسدي، لكن القصة مغايرة لقصة ورقة التي في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... الحديث في مجيء جبريل بحراء، وفيه: فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان تنصر في الجاهلية ... الحديث، وفيه: فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى ياليتني فيها جذعًا [شابًا] ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك، وفي آخره: ولم ينشب ورقة أن توفي فهذا ظاهره أنه أقر بنبوته ولكنه مات قبل أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام فيكون مثل بحيرا. وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال يونس بن بكير عن يونس بن عمرو وهو ابن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه عن جده عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل وهو من كبار التابعين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت على نفسي" فقالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة الحديث، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد إنك الذي بشر به ابن مريم وإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك سوف تؤمر بالجهاد بعد

يومك هذا وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني" وقد أخرجه البيهقي في الدلائل من هذا الوجه وقال هذا منقطع. (قلت) [أي ابن حجر]: يعضده ما أخرجه الزبير بن بكار حدثنا عثمان عن الضحاك ابن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عروة بن الزبير قال: كان بلال لجارية من بني جمح وكانوا يعذبونه برمضاء مكة يلصقون ظهره بالرمضاء لكي يشرك فيقول أحد أحد، فيمر به ورقة وهو على تلك الحال فيقول أحد أحد يا بلال والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، وهذا مرسل جيد يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام حتى أسلم بلال، والجمع بين هذا وبين حديث عائشة أن يحمل قوله: ولم ينشب ورقة أن توفي، أي قبل أن يشتهر الإسلام ويؤمر النبي صلى الله عليخ وسلم بالجهاد، ولكن يعكر على ذلك ما أخرجه محمد بن عائذ في المغازي من طريق عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ابتداء الوحي وفيها قصة خديجة مع ورقة بنحو حديث عائشة، وآخرها لئن كان هو ثم أظهر دعاءه وأنا حي لأبلين الله من نفسي في طاعة رسوله وحسن موازرته فمات ورقة على نصرانيته، كذا قال لكن عثمان ضعيف وقال الزبير: كان ورقة قد كره عبادة الأوثان وطلب الدين في الآفاق وقرأ الكتب وكانت خديجة تسأله عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بشر به موسى وعيسى. وفي المغازي الكبير لابن إسحاق وساقه الحاكم من طريقه قال: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي وكان راعيه، قال قال ورقة بن نوفل فيما كانت خديجة ذكرت له من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا للرجال وصرف الدهر والقدر وفيها: هذي خديجة تأتيني لأخبرها ... ومالنا بخفي الغيب من خبر بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت عل الذي ترجين ينجزه ... له الإله فرجي الخير وانتظري وأخرج ابن عدي في الكامل من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس، قال ابن عدي تفرد به إسماعيل عن أبيه. (قلت) قد أخرجه ابن السكن من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن مجالد لكن لفظه: رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة لأنه كان يقول ديني دين زيد وإلهي إله زيد [هو زيد ابن عمرو بن نفيل وكان من الحنفاء على ملة إبراهيم دون أن يعرف تفاصيلها] وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من هذا الوجه. وأخرج الزبير من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن سب ورقة، وهو في زيادات المغازي ليونس بن بكير، أخرجه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ساب أخ لورقة رجلًا فتناول الرجل ورقة فسبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "هل علمت أني رأيت لورقة جنة أو جنتين" فنهى عن سبه وأخرجه البزار من طريق أبي أسامة عن هشام مرسلا. وأخرج أحمد من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال: "قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضا فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض" أ. هـ ابن حجر. 2199 - * روى الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: "يبعث يوم القيامة أمة وحده". * * *

_ 2199 - المعجم الكبير (24/ 82). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 416): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

68 - حكيم بن حزام رضي الله عنه

68 - حكيم بن حزام رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي ابن أخي خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واسم أمه صفية وقيل فاختة وقيل زينب بنت زهير ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى ويكنى أبا خالد ... موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى الزبير سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل الفيل بثلاثة عشر سنة وأعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح عبد الله ابنه وقتل والد حكيم في الفجار، وشهدها حكيم. وحكى الزبير بن بكار أن حكيمًا ولد في جوف الكعبة. قال: وكان من سادات قريش، وكان صديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل المبعث، وكان يوده ويحبه بعد البعثة لكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وثبت في السيرة وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن" وكان من المؤلفة، وشهد حنينًا وأعطي من غنائمها مائة بعير ثم حسن إسلامه، وكان قد شهد بدرًا مع الكفار ونجا مع من نجا، فكان إذا اجتهد في اليمين قال والذي نجاني يوم بدر، وكنيته أبو خالد. قال الزبير جاء الإسلام وفي يد حكيم الوفادة. وكان يفعل المعروف ويصل الرحم ... وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها. مات سنة خمسين وقيل سنة أربع وقيل ثمان وخمسين وقيل سنة ستين وهو ممن عاش مائة وعشرين سنة شطرها في الجاهلية وشطرها في الإسلام. قال البخاري في التاريخ: مات سنة ستين وهو ابن عشرين ومائة سنة قاله إبراهيم بن المنذر أ. هـ ابن حجر. وقال الذهبي في السير عن حكيم: أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه. وغزا حنينًا والطائف. وكان من أشراف قريش، وعقلائها، ونبلائها. وكانت خديجة عمته، وكان الزبير ابن عمه وقدم دمشق تاجرًا. قيل: إنه كان إذا اجتهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني يوم بدر من القتل. وقال البخاري في (تاريخه): عاش ستين سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام. قلت: لم يعش في الإسلام إلا بضعًا وأربعين سنة.

وقال أحمد بن البرقي: كان من المؤلفة، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مئة بعير، فيما ذكر ابن إسحاق. وأولاده هم: هشام، وخالد، وحزام، وعبد الله، ويحيى، وأم سمية، وأم عمرو، وأم هشام وقيل: قتل أبوه يوم الفجار الأخير (1). وعن هشام، عن أبيه؛ [حكيم]؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام، فهو آمن، ومن دخل دار بديل بن ورقاء فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" (2). وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، أسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثهم إلى أهل مكة يدعونهم إلى الإسلام (3) أ. هـ. 2200 - * روى البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم! هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى." قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له

_ (1) قال محقق السير: الفجار: بالكسر بمعنى المفاجرة، وذلك أنه كان قتال في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعًا، فسمي الفجار. وللعرب فجارات أربعة، والفجار الأخير هذا شهده رسول صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وعمره إذ ذاك صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وكانت هذه الحرب بين قريش ومن معهم وبين قيس عيلان. (2) رجاله ثقات لكنه مرسل. ونسبه الحافظ في الفتح إلى موسى بن عقبة في المغازي. (3) رجاله ثقات لكنه مرسل. 2200 - البخاري (3/ 335) 24 - كتاب الزكاة- 50 - باب الاستعفاف عن المسألة. ومسلم مختصرًا (2/ 717) 12 - كتاب الزكاة- 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى. يرزأ: لم يأخذ من أحد شيئًا. إشراف النفس: تطلعها وطمعها وشرهها. سخاوة النفس: ضد ذلك.

في هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، ولم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رضي الله عنه. قال الذهبي: قال ابن مندة: ولد حكيم في جوف الكعبة، وعاش مئة وعشرين سنة. روى الزبير، عن مصعب بن عثمان قال: دخلت أم حكيم في نسوة الكعبة، فضربها المخاض، فأتيت بنطع (1) حين أعجلتها الولادة، فولدت في الكعبة. وكان حكيم من سادات قريش. قال الزبير: كان شديد الأدمة، خفيف اللحم. عن عراك بن مالك أن حكيم بن حزام قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي في الجاهلية، فلما نبئ وهاجر، شهد حكيم الموسم كافرًا، فوجد حلة لذي يزن تباع، فاشتراها بخمسين دينارًا ليهديها إلى رسول الله، فقدم بها عليه المدينة، فأراده على قبضها هدية، فأبى، قال عبيد الله: حسبته قال: "إنا لا نقبل من المشركين شيئًا، ولكن إن شئت بالثمن" قال: فأعطيته حين أبى علي الهدية (2). وفي رواية: فلبسها، فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئًا أحسن منه يومئذ فيها، ثم أعطاها أسامة فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة أتلبس حلة يزن؟ قال: نعم، والله لأنا خير منه، ولأبي خير من أبيه. فانطلقت إلى مكة، فأعجبتهم بقوله. الزبير: أخبرنا إبراهيم بن حمزة قال: كان مشركو قريش لما حصروا بني هاشم في الشعب، كان حكيم تأتيه العير بالحنطة فيقبلها (3) الشعب، ثم يضرب أعجازها، فتدخل عليهم، فيأخذون ما عليها. الزبير: أخبرنا مصعب بن عثمان؛ سمعتهم يقولون: لم يدخل دار الندوة للرأي أحد

_ (1) النطع: قطعة من الجلد يوقى بها ما تحتها. (2) رواه أحمد في مسنده (3/ 402) والطبراني في الكبير (3/ 202). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 151): رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناده رجاله صحيح. والحاكم في مستدركه (3/ 484) وصححه ووافقه الذهبي. (3) أقبل الإبل الطريق: أسلكها إياه، وذلك أن يجعل وجوهها مستقبلة وجه الطريق.

حتى بلغ أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام، فإنه دخل للرأي وهو ابن خمس عشرة. وهو أحد النفر الذين دفنوا عثمان ليلًا. وعن أبي حازم قال: ما بلغنا أنه كان بالمدينة أكثر حملًا في سبيل الله من حكيم. وقيل: إن حكيمًا باع دار الندوة من معاوية بمئة ألف. فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم يا ابن أخي إلا التقوى، إني اشتريت بها دارًا في الجنة، أشهدكم أني قد جعلتها لله (1). الأصمعي: حدثنا هشام بن سعد صاحب المحامل، عن أبيه قال: قال حكيم بن حزام: ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها. وكان حكيم علامة بالنسب فقيه النفس، كبير الشأن. قال الهيثم: والمدائني، وأبو عبيد، وشباب: مات سنة أربع وخمسين رضي الله عنه. وقيل: إنه دخل على حكيم عند الموت وهو يقول: لا إله إلا الله قد كنت أخشاك، وأنا اليوم أرجوك أ. هـ الذهبي. 2201 - * روى الحاكم عن حسان بن بلال عن حكيم بن حزام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه واليًا إلى اليمن قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". 2202 - * روى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، فلما أسلم حمل على مئة بعير، وأعتق مئة رقبة، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أصنعها

_ (1) رواه الطبراني في الكبير (3/ 187). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 384): رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن. 2201 - المستدرك (3/ 485) وصححه ووافقه الذهبي. 2202 - البخاري (3/ 301) 24 - كتاب الزكاة - 24. باب من تصدق في الشرك ثم اسلم. ومسلم (1/ 113) 1 - كتاب الإيمان - 55 - باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.

في الجاهلية، كنت أتحنث بها، (يعني: أتبرر بها) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما سلف لك من خير". قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي يكنى أبا خالد، مات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة ومات بالمدينة (1). * * *

_ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 472).

69 - قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه

69 - قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه قال ابن حجر: قيس بن عاصم بن سنان بن منقر بن خالد بن عبيد بن مقاعس، واسمه الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي المنقري، يكنى أبا علي. وحكى ابن عبد البر أنه قيل في كنيته أيضًا أبو طليحة وأبو قبيصة والأول أشهر وبه جزم البخاري، وقال: له صحبة وجزم ابن أبي حاتم بأنه أبو طلحة. قال ابن سعد: كان قد حرم الخمر في الجاهلية ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني تميم فأسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا سيد أهل الوبر" وكان سيدًا جوادًا، ثم ساق بسند حسن إلى الحسن عن قيس بن عاصم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دنوت منه قال "هذا سيد أهل الوبر" فذكر الحديث ... وفيه فقال قيس: كيف تصنع بالمنيحة [المنحة] فقال قيس: إني لأمنح في كل عام مائة. قال: فكيف تصنع بالعارية؟ فذكر الحديث، وفي آخره قال قيس: لئن عشت لأدعن عدتها قليلًا. قال الحسن: ففعل والله ثم ذكر وصيته. وقال ابن السكن: كان عاقلًا حليمًا يقتدى به، وقال أبو عمر: قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم رأيته يومًا محتبيًا فأتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فالتفت إلى ابن أخيه فقال: يا ابن أخي بئسما فعلت أثمت بربك وقطعت رحمك ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يابني فوار أخاك وحل أكتاف ابن عمك وسق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. وذكر الزبير في الموفقيات عن عمه عن عبد الله بن مصعب قال قال أبو بكر لقيس بن عاصم: ما حملك على أن وأدت؟ وكان أول من وأد- فقال: خشيت أن يخلف عليهن غير كفء. قال: فصف لنا نفسك؟ فقال: أما في الجاهلية فما هممت بملامة ولا حمت على تهمة ولم أر إلا في خيل مغيرة أو نادي عشيرة أو حامي جزيرة، وأما في الإسلام فقد قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم) فأعجب أبو بكر بذلك. روى قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث، روى عنه ابناه حكيم وحصين

وابن ابنه خليفة بن حصين والأحنف بن قيس ومنفعة بن التوأم وآخرون. النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول وسئل عن هذه الآية {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} فقال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية، فقال "أعتق عن كل واحدة منهن رقبة" قال: إني صاحب إبل، قال "اهد إن شئت عن كل واحدة منهن بدنة". خليفة بن حصين عن جده قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر ... وأخرج أحمد والنسائي من طريق حكيم بن قيس عن أبيه أنه قال: لا تنوحوا علي فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينح عليه، الحديث اختصره النسائي وأورده أحمد مطولًا، وفيه: أنه قال لبنيه اتقوا الله وسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم أحيوا ذكر أبيهم وإياكم والمسئلة فإنها آخر كسب الرجل فذكر بقية الوصية وهي نافعة أ. هـ. ونورد الوصية بتمامها كما أخرجها الحاكم (1) للفائدة: عن عبد الملك بن أبي سوية المنقري قال شهدت قيس بن عاصم عند وفاته وهو يوصي فجمع بنيه اثنان وثلاثون ذكرًا فقال: يا بني إذا أنا مت فسودوا أكبركم تخلفوا آباءكم، ولا تسودوا أصغركم فيزري بكم ذاك عند أكفائكم، ولا تقيموا علي نائحة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النياحة، وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم، ولا تعطوا رقاب الإبل في غير حقها ولا تمنعوها من حقها، وإياكم وكل عرق سوء فمهما يسركم يوما فما يسوءكم أكبر، واحذروا أبناء أعدائكم فإنهم لكم أعداء على منهاج آبائهم، وإذا أنا مت فادفنوني في موضع لا يطلع علي هذا الحي من بكر بن وائل فإنها كانت بيني وبينهم خماشات (2) في الجاهلية فأخاف أن ينبشوني من قبري فتفسدوا عليهم دنياهم ويفسدوا عليكم آخرتكم، ثم دعا بكنانته فأمر ابنه الأكبر وكان يسمى عليًا فقال: أخرج

_ (1) المستدرك (3/ 611). (2) خماشات: من الجروح والجنايات مما ليس له دية.

سهمًا من كنانتي فأخرجه فقال: اكسره، فكسره، ثم قال: أخرج سهمين، فأخرجهما، فقال: اكسرهما، فكسرهما فلم يستطع كسرهما، فقال: يا بني هكذا أنتم في الاجتماع وكذلكم أنتم في الفرقة ثم أنشأ يقول: إنما المجد ما بنى والد الصد ... ق وأحيا فعاله المولود وكفى المجد والشجاعة والحلم ... إذا زانه عفاف وجود وثلاثون يابني إذا ما ... عقدتم للنائبات العهود كثلاثين من قداح إذا ما ... شدها للزمان عقد شديد لم تكسر وإن تقطعت الأسهم ... أودى بجمعها التبديد وذوو السن والمروءة أولى ... إن يكن منكم لهم تسويد وعليكم حفظ الأصاغر حتى يبلغ الحنث الأصغر المجهود قال ابن حجر: ونزل قيس البصرة ومات بها، ولما مات رثاه عبدة بن الطيب بقوله: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما وما كان قيس هلكه. هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما قال ابن حبان: كان له ثلاثة وثلاثون ولدًا ونقل البغوي عن ابن أبي خيثمة عن يحيى ابن معين أن قيس بن عاصم كان يكنى أبا هراسة. وذكر ابن شاهين من طريق المدائني عن أبي معشر ورجاله قالوا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيس بن عاصم ونعيم ابن بدر وعمرو بن الأهتم قبل وفد بني تميم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبطأ قيس ابن عاصم، فقال له عتبة ائذن لي أن أغزوه فاقتل رجاله وأسي نساءه، فأعرض عنه وقدم قيس، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "هذا سيد أهل الوبر" ثم تقدم فأسلم فسأله النعمان بن مقرن فقال: يا رسول الله ائذن لي أن يكون منزله علي؟ قال: نعم، فبينما هو يتعشى إذ قال أخو النعمان بئسما قال عتبة، فقال له قيس وما قال؟ فأخبره فغدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أمالي سبيل إلى الرجوع؟ قال: لا، قال: لو كان لي إلي الرجوع سبيل لأدخلت على عتبة ونسائه الذل أ. هـ من الإصابة. * * *

70 - عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه

70 - عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي. كان كأبيه من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أسلم عكرمة عام الفتح وخرج إلى المدينة ثم إلى قتال أهل الردة، ووجهه أبو بكر الصديق إلى جيش نعمان فظهر عليهم، ثم إلى اليمن ثم رجع فخرج إلى الجهاد عام وفاته فاستشهد. وذكر الطبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على صدقات هوازن عام وفاته وأنه قتل بأجنادين وكذا قال الجمهور [وقيل قتل يوم اليرموك]. روى سيف في الفتوح بسند له أن عكرمة نادى: من يبايع على الموت فبايعه عمه الحارث وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين وكان أميرًا على بعض الكراديس وذلك سنة خمس عشرة في خلافة عمر فقتلوا كلهم الإضرارًا وقيل قتل يوم مرج الصفر وذلك سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر. وله عند الترمذي حديث من طريق مصعب بن سعد عنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم جئته: مرحبًا مرحبًا بالراكب المهاجر، وهو منقطع لأن مصعبًا لم يدركه، وقد أخرج قصة مجيئه موصولة الدارقطني والحاكم وابن مردويه من طريق أسباط بن نصر عن السدي بن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان فتح مكة أمن رسول الله صلى عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين فذكر الحديث وفيه وأما عكرمة فركب البحر فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئًا فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهدًا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده فلا أجدنه إلا عفوا كريمًا. قال فجاء أسلم. أ. هـ ابن حجر. قال الذهبي: عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لوي، الشريف الرئيس الشهيد، أبو عثمان القرشي المخزومي المكي. لما قتل أبوه، تحولت رئاسة بني مخزوم إلى عكرمة، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه بالمرة. قال ابن أبي ملكية: كان عكرمة إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني

يوم بدر. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم [مكة]، هرب منها عكرمة وصفوان بن أمية بن خلف، فبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، يومنهما، وصفح عنهما، فأقبلا إليه. قال الشافعي: كان محمود البلاء في الإسلام، رضي الله عنه. قال أبو إسحاق السبيعي: نزل عكرمة يوم اليرموك، فقاتل قتالًا شديدًا، ثم استشهد، فوجدوا به بضعًا وسبعين من طعنة ورمية وضربة. وقال عروة وابن سعد وطائفة: قتل يوم أجنادين. أ. هـ الذهبي. * * *

71 - عبد الله بن حذافة السهمي

71 - عبد الله بن حذافة السهمي قال ابن حجر: عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي أبو حذافة أو أبو حذيفة. وأمه بنت حرثان من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين .. يقال شهد بدرًا ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي .. عن عبد الله بن حذافة قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي أهل منى أن لا يصوم هذه الأيام أحد. ومن طريق شعيب عن الزهري عن مسعود أخبرني بعض أصحابه أنه رأى ابن حذافة. وأخرجه من طريق الحارث بن أسامة عن روح عن صالح عن ابن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن حذافة، وأخرجه أبو نعيم في المعرفة من طريق سليمان ابن أرقم عن الزهري عن سعيد عن عبد الله بن حذافة والاحتمال فيه كثير جدًا، وقال البخاري في التاريخ: يقال له صحبة ولا يصح. إسناد حديثه ثقات. مات في خلافة عثمان، حكاه البغوي، وقال أبو نعيم: توفى بمصر في خلافة عثمان وكذلك قال ابن يونس إنه توفي بمصر ودفن بمقبرتها. أ. هـ. قال الذهبي: أبو حذافة السهمي. أحد السابقين. هاجر إلى الحبشة، ونفذه النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى كسرى خرج إلى الشام مجاهدًا، فأسر على قيسارية، وحملوه إلى طاغيتهم، فراوده عن دينه، فلم يفتتن. وقال أبو سعيد بن يونس، وابن مندة شهد بدرًا. أ. هـ. 2203 - * روى ابن سعد عن أبي سلمة: أن عبد الله بن حذافة قام يصلي، فجهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن حذافة، لا تسمعني وسمع الله". 2204 - * روى ابن ماجه عن عمر بن الحكم بن ثوبان، أن أبا سعيد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، عليهم علقمة بن مجزز، وأنا فيهم، فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض

_ 2203 - الطبقات الكبرى (4/ 190) ورجاله ثقات. 2204 - ابن ماجه (2/ 955) 24 - كتاب الجهاد 40 باب لا طاعة في معصية الله. وقال في الزوائد: إسناده صحيح. ورواه أحمد (3/ 67) والحاكم (3/ 630).=

الطريق، استأذنه طائفة، فأذن لهم، وأمر عليهم عبد الله بن حذافة، وكان من أهل بدر، وكانت فيه دعابة. فبينما نحن في الطريق، فأوقد القوم نارًا يصطلون بها، ويصنعون عليها صنيعًا لهم، إذ قال: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار، فقام ناس، فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها قال: أمسكوا، إنما كنت أضحك معكم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكروا ذلك له. فقال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه". 2205 - * روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه خرقه، قال الزهري: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق. 2206 - * روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال في قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. 2207 - * روى البخاري ومسلم عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم، قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عظامًا، ثم قال: "من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء، إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا" قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "سلوني" فقال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين

_ = تحجزوا: شدوا أوساطهم فِعْلَ من يتهيأ. 2205 - البخاري (1/ 154) 3 - كتاب العلم -7 - باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان. 2206 - البخاري (8/ 252) 65 - كتاب التفسير -4 - سورة النساء 11 - باب (أطيعوا الله واطيعوا الرسول). ومسلم: (3/ 1465) 23 - كتاب الإمارة -8 - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. 2207 - البخاري (2/ 21) 9 - كتاب مواقيت الصلاة -11 - باب وقت الظهر عند الزوال. ومسلم (4/ 1832) 43 - كتاب الفضائل -37 - باب توقيره صلى الله عليه وسلم.

مدخلي يا رسول الله؟ قال: "النار" فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: "أبوك حذافة" قال: ثم أكثر أن يقول: "سلوني سلوني" فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولى، والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر". ذكر الذهبي في السير (1) عن أبي رافع، قال: وجه عمر جيشًا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. قال: إذًا أقتلك. قال: أنت وذاك. فأمر به، وقال للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى، فأنزله. ودعا بقدر، فصب فيها ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما، فألقي فيها، وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى. ثم بكى. فقيل للملك: إنه بكى. فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه. ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أني يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله. فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال: نعم. فقبل رأسه. وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ. فقبل رأسه. أقول: في هذا النص تعليم للمتشددين الذين تختلط عندهم قوة النفس بقوة الإيمان فتمنعهم قوة النفس بما تقتضيه قوة الإيمان من الأخذ بالعزائم في محلها والرخص في محلها،

_ (1) السير: (2/ 14) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريق البيهقي وله شاهد من حديث لابن عباس موصولا عند ابن عساكر.

فههنا نجد عبد الله بن حذافة يقبل رأس هرقل في مقابل أن يخلص أسرى المسلمين وهذا مقتضى قوة الإيمان على حسب قوة النفس، فكثيرون من الناس تمنعهم قوة النفس من الأخذ بالفتوى التي تناسب المقام وخاصة فيما يظنه الناس رخصة فيحبون أن يسجلوا مواقف بطولية لا تتحقق فيها مصلحة للإسلام والمسلمين، وما فعله عبد الله بن حذافة درس لهؤلاء فليس العبرة بقوة الموقف أو ضعفه بل العبرة في أن يكون المسلم عاملاً بحكم الشريعة في تعامله مع الكافرين والمسلمين، ملاحظاً أن في الشريعة فتوى أصلية وأخرى استثنائية وفيها رخصة وعزيمة والرخصة في محلها قد تكون أقوى من العزيمة، ولا يفطن لمثل هذه الدقائق إلا أصحاب البصيرة ممن اجتمع لهم علم وتقوى وتوفيق. قال الذهبي: الوليد بن مسلم: حدثنا أبو عمرو، ومالك بن أنس: أن أهل قيسارية أسروا ابن حذافة، فأمر به ملكهم، فجرب أشياء صبر عليها. ثم جعلوا له في بيتٍ معه الخمر ولحم الخنزير ثلاثاً لا يأكل، فأطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات. فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟ قال: أما إن الضرورة كانت قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمتك بالإسلام. قال: فقبل رأسي، وأخلي لك مئة أسير. قال: أما هذا، فنعم. فقبل رأسه، فخلى له مئة، وخلى سبيله. وقد روى ابن عائذ قصة ابن حذافة فقال: حدثنا الوليد بن محمد: أن ابن حذافة أسر. فذكر القصة مطولة، وفيها: أطلق له ثلاث مئة أسير، وأجازه بثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصفة، وثلاثين وصيفاً. ولعل هذا الملك قد أسلم سراً. ويدل على ذلك مبالغته في إكرام ابن حذافة. وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنت أختبر شدتكم في دينكم.

فمن أسلم في باطنه هكذا، فيرجى له الخلاص من خلود النار؛ إذ قد حصل في باطنه إيماناً ما وإنما يخاف أن يكون قد خضع للإسلام وللرسول، واعتقد أنهما حق، مع كون أنه على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين، كما قد فعله كثير من المسلمانية الدواوين، فهذا لا ينفعه الإسلام حتى يتبرأ من الشرك. مات ابن حذافة في خلافة عثمان رضي الله عنهم. ا. هـ. * * *

72 - عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

72 - عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال ابن حجر: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي ... قال الطبري: قيل كان طوالا أحمر عظيم الساقين أبيض الرأس واللحية، وعمي في آخر عمره. وقال ابن سعد: أسلم قبل أبيه ويقال لم يكن بين مولدهما إلا اثنتا عشرة سنة أخرجه البخاري عن الشعبي، وجزم ابن يونس بأن بينهما عشرين سنة ... قال الواقدي، مات بالشام سنة خمس وستين وهو يومئذ ابن اثنتين وسبعين، وقال ابن البرقي: وقيل مات بمكة، وقيل بالطائف وقيل بمصر ودفن في داره قاله يحيي بن بكير. وحكى البخاري قولاً آخر: أنه مات سنة تسع وستين وبالأول جزم ابن يونس، وقال ابن أبي عاصم: مات بمكة وهو ابن اثنتين وسبعين وقيل مات سنة ثمان وستين وقيل تسع وستين ا. هـ. قال الذهبي: الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن. وقيل: أبو نصير القرشي السهمي. وأمه هي رائطة بنت الحجاج ابن منبه السهيمة، وليس أبوه أكير منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها. وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا، ويقال: كان أسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله. وله مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل، حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً جماً. وكتب الكثير بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وترخيصه له في الكتابة بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن وسوغ ذلك صلى الله عليه وسلم، ثم انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة رضي الله عنهم على الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة. والظاهر أن النهي كان أولاً لتتوفر هممهم على القرآن وحده، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنن النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس، ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس أذن له في كتابه العلم، والله أعلم. ا. هـ. قال محقق السير: قال ابن القيم رحمه الله في (تهذيب اللسنن): قد صح النبي صلى الله عليه وسلم

النهي عن الكتابة والإذن فيها متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزاة الفتح "اكتبوا لأبي شاة" يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله ابن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي، لأنه لم يزل يكتب، مات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها (الصادقة) ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً، لمحاها عبد الله، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها، وأثبتها، دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، هذا واضح والحمد لله. 2208 - * روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في كل شهر" قال: قلت: إني أجد قوة، قال: "فاقرأه في عشرين ليلة" قال: إني أجد قوة، قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك". وقد نازله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث ليال ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاثٍ. 2209 - * روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث". قال الذهبي: وهذا [التنازل] كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلاه في أقل من ذلك. ولو تلا ورتل في أسبوع، ولازم ذلك، لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض

_ 2208 - البخاري (9/ 95) 66 - كتاب فضائل القرآن - 34 - باب في كم يقرأ القرآن. ومسلم (2/ 813) 13 - كتاب الصيام - 35 - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به. 2209 - أبو دواد (2/ 56) كتاب الصلاة، باب تحزيب القرآن. والترمذي (5/ 198) 47 - كتاب القراءات باب: 13 حدثنا عبيد بن أسباط .... . وابن ماجه (1/ 428) 5 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - 178 - باب في كم يستحب يختم القرآن.

في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك، لشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه، ولا تدبر ما يتلوه. هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخضة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال له عليه السلام في الصوم، وما زال يناقصه، حتى قال له: "صم يوماً وأفطر يوماً، صوم أخي داود عليه السلام" وثبت أنه قال: "أفضل الصيام صيام داود" (1). ونهى عليه السلام عن صيام الدهر (2). وأمر عليه السلام بنوم قسط من الليل، وقال: "لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ا. هـ الذهبي. قال الحافظ في الفتح: والمراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري، فليس مني ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس، وتكثير النسل. ثم قال الذهبي: وكل من لم يلزم نفسه في تعبده وأورده بالسنة النبوية، يندم ويترهب ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال صلى الله عليه وسلم معلماً للأمة أفضل الأعمال، وأمراً يهجر التبتل والرهبانية التي لم

_ (1) رواه البخاري (4/ 220) 20 - كتاب الصوم - 56 - باب صوم الدهر. ومسلم (2/ 816) 13 - كتاب الصيام - 35 - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به. (2) رواه البخاري (4/ 224) 20 - كتاب الصوم - 59 - باب صوم داود عليه السلام. ومسلم في الموضع السابق.

يبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي، فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور، والعابد العالم بالآثار المحمدية. المتجاوز لها مفضول مغرور، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل. ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة، وجنبنا الهوى والمخالفة. ا. هـ. 2310 - * روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله! أكتب ما أسمع منك؟ قال: "نعم" قلت: في الرضي والغضب؟ قال: "نعم، فإني لا أقول إلا حقاً". 2211 - * روى البخاري عن أبي هريرة قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم أكثر حديثاً مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. 2212 - * روى أبو نعيم عن أبي عبد الرحمن الحبلي، سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة، أحب إلي من أن أكون عاشر عشرة أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا، ويقول: يتصدق يميناً وشمالاً. 2213 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو، قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت علي، جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلى كنته، فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجلٍ لم يفتش لها كنفاً، ولم يقربه لها فراشاً: فأقبل علي، وعضني بلسانه، ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب، فعضلتها

_ 2210 - أحمد في مسنده (2/ 161، 192). وأبو داود (3/ 368) كتاب العلم، باب في كتاب العلم. والدارمي (1/ 125) المقدمة، باب من رخص في كتابة العلم. 2211 - البخاري (1/ 206) 3 - كتاب العلم - 9 - باب كتابة العلم. 2212 - الحلية (1/ 288) ورجاله ثقات. 2213 - أحمد في مسنده (2/ 158) ورجاله ثقات.

وفعلت، ثم انطلق، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبني، فأتيته، فقال لي: "أتصوم النهار وتقوم الليل"؟ قلت: نعم. قال: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني". 2214 - * روى البخاري، عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه، ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألقني به" .... والكنة: زوج الولد، وقولها لم يفتش لنا كنفاً: الكنف: الجانب، أرادت أنه لم يقربها، ولم يطلع منها على ما جرت به عادة الرجال مع نسائهم. واسم المرأة: أم محمد بنت محمية بن جزء الزبيدي حليف قريش، ذكرها الزبير. 2215 - * روى أحمد عن عبد الله بن عمرو، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي هذا، فقال: "يا عبد الله! ألم أخبر أنك تكلفت قيام الليل وصيام النهار"؟ قلت: إني لأفعل. فقال: "إن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فالحسنة بعشر أمثالها، فكأنك قد صمت الدهر كله" قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، وإني أحب أن تزيدني. فقال: "فخمسة أيام" قلت: إني أجد قوة. قال: "سبعة أيام"، فجعل يستزيده، ويزيده حتى بلغ النصف، وأن يصوم نصف الدهر: "إن لأهلك عليك حقاً، وإن لعبدك عليك خقاً، وأن لضيفك عليك حقاً" فكان بعد ما كبر وأسن يقول: ألا كنت قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي. أقول: الأصل في حياة المسلم أن يلزم نفسه من النوافل بما يستطيع وإذا ألزم نفسه بشيء من النوافل دون نذر، وعجز أو حيل بينه وبين أن يؤدي ما ألزم نفسه به فالأمر واسع في

_ 2214 - البخاري (9/ 94) 66 - كتاب فضائل القرآن - 32 - باب قول المقرئ للقرآن حسبك. 2215 - أحمد في مسنده (2/ 200) وإسناده حسن. وهذا الحديث له طرق مشهورة في الصحيحين وغيرهما.

حقه، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسل لما كبر وثقل خفف بعض ما كان يلزم به نفسه من قبل ولو أن عبد الله فعل ذلك لما كان عليه من حرج، ولكن التزامه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يستشعر أن عليه أن يبقى على الحالة التي فارقه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب الورع ولم يكن واجباً في حقه، ومن كلامه نأخذ درساً ألا يضيق الإنسان على نفسه فيما وسعت به الشريعة، ونخص بالتذكير بعض الطبقات التي تتعامل مع المباح وكأنه فريضة أو ومع خلاف الأولى وكأنه محرم، فهؤلاء لهم أجرهم ولكنهم يضيقون واسعاً إذا كانوا أئمة يقتدي بهم أو يلتزم الناس بأوامرهم. 2216 - * روى أحمد عن حنظلة بن خويلد العنبري، قال: بينما أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار رضي الله عنه، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسوله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقتله الفئة الباغية" فقال معاوية: يا عمرو ألا تغني عنا مجنونك، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "أطع أباك مادام حياً" فأنا معكم، ولست أقاتل. أقول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ههنا عام، ومن ورع عبد الله أنه حمل العموم على عمومه، ولكن مقتضى الفتوى أن ما يخصص العام تخصيصاً لا ليس فيه فإن على المسلم أن يأخذ به، وفي الواقعة التي نحن فيها كان مقتضي الفتوى ألا يكون عبد الله مع جند معاوية بل أن يكون مع جند علي، فكان الواجب عليه أن يأخذ بهذا الخصوص الواضح البين، ولكنه اجتهد فحمل العام على عمومه، فنرجو أن يكون مأجورا إن شاء الله. 2217 - * روى ابن سعد عن ابن أبي مليكة، قال: قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: مالي ولصفين، مالي ولقتال المسلمين، لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة - أو قال بعشر سنين - أما والله على ذلك ما ضربت بسيف، ولا رميت بسهم. وذكر أنه كانت الراية بيده.

_ 2216 - أحمد في مسنده (2/ 164) وإسناده صحيح. 2217 - الطبقات الكبرى (4/ 266) ورجاله ثقات.

2218 - * روى الحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: كانت أم عبد الله بن عمرو وريطة بنت منبه بن الحجاج تلطف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاها ذات يوم فقال "كيف أنت يا أم عبد الله"؟ قالت: بخير وعبد الله رجل قد ترك الدنيا. قال له أبوه يوم صفين: اخرج فقاتل. قال: يا أبتاه أتأمرني أن أخرج فأقاتل وقد كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد سمعت؟ قال: أنشدك بالله أتعلم أن ما كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليك أنه أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك عمرو بن العاص قال: نعم، قال: فإني آمرك أن تقاتل. قال: فخرج يقاتل. فلما وضعت الحرب قال عبد الله: لو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوما شاب منها الذوائب عشية جاء أهل العراق كأنهم ... سحاب ربيع زعزعته الجنائب إذا قلت قد ولوا سراعا ثبتت لنا ... كنائب منهم واجحنت كتائب فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... عليا فقلنا نرى أن تضاربوا 2219 - * روى الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة له ففزع الناس، فخرجت وعلي سلاحي فنظرت إلى سالم مولى أبي حذيفة عليه سلاحه يمشي وعليه السكينة، فقلت: لأفتدين بهذا الرجل الصالح حتى أتى فجلس عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم وجلست معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال: "يا أيها الناس ما هذه الخفة ما هذا الترف أعجزتم أن تصنعوا كما صنع هذان الرجلان المؤمنان". قال الذهبي: عن سلمان بن ربيعة الغنوي: أنه حج زمن معاوية في عصابة من القراء، فحدثنا أن

_ 2218 - المستدرك (3/ 527) تلطف: ألطف فلاناً بكذا: أتحفه وأبره، واللطف: الهدية واليسير من الطعام وغيره. 2219 - المستدرك (3/ 527) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

عبد الله في أسفل مكة. فعمدنا إليه، فإذا نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاث مئة راحلة، منها مئة راحلة ومئتا زاملة (1) وكنا نحدث أنه أشد الناس تواضعاً. فقلنا: ما هذا؟ قالوا: لإخوانه يحملهم عليها ولمن ينزل عليه، فعجبنا، فقالوا: إنه رجل غني، ودلونا عليه أنه في المسجد الحرام، فأتيناه، فإذا هو رجل قصير أرمص (2)، بين بردين وعمامة، قد علق نعليه في شماله. عن سليمان بن الربيع قال: انطلقت في رهط من نساك أهل البصرة إلى مكة، فقلنا: لو نظرنا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدللنا على عبد الله بن عمرو، فأتينا منزله، فإذا قريب من ثلاث مئة راحلة. فقلنا: على كل هؤلاء حج عبد الله بن عمرو؟ قالوا: نعم. هو ومواليه وأحباؤه. قال: فانطلقنا إلى البيت، فإذا نحن برجل أبيض الرأس واللحية، بين بردين قطريين، عليه عمامة وليس عليه قميص. عن عبيد بن سعيد: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو المسجد الحرام، والكعبة محترقة حين أدبر جيش حصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها. فوقف وبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تسيل على وجنتيه. فقال: أيها الناس! والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم، ومحرقو بيت ربكم، لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة. فقد فعلتم، فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعض. وقد أسلم عبد الله وهاجر بعد ستة سبع، وشهد بعض المغازي. قال أبو عبيد: كان على ميمنة جيس معاوية يوم صفين. وذكره خليفة بن خياط في تسمية عمال معاوية على الكوفة. قال: ثم عزله وولى المغيرة بن شعبة. ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب المصري، فكان من ملوك الصحابة. قال قتادة: كان رجلاً سميناً.

_ (1) الراحلة من الإبل: البعير النجيب القوي على الأسفار والأحمال. الذكر والأنثى فيه سواء. وهي التي يختارها الرجل لمركبه، والهاء فيه للمبالغة في الصفة كما يقال: رجل داهية وبافعة وعلامة، والزاملة: بعير يستظهر به الردل، يحمل عليه متاعه وطعامه. (2) الرمص: قذى في عينه.

قال أحمد بن حنبل: مات عبد الله ليالي الحرة سنة ثلاثٍ وستين. وقال يحيي بن بكير: توفي عبد الله بن عمرو بمصر، ودفن بداره الصغيرة سنة خمسٍ وستين، وكذا قال في تاريخ وفاته: خليفةً، وأبو عبيد، والواقدي، والفلاس وغيرهم. [وهو الصحيح] وقال خليفة: مات بالطائف، ويقال: بمكة. وقال ابن البرقي أبو بكر: فأما ولده فيقولون: مات بالشام. ا. هـ الذهبي * * *

73 - محمد بن مسلمة رضي الله عنه

73 - محمد بن مسلمة رضي الله عنه محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني حليف بني عبد الأشهل .. ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول القوادي، وهو ممن سمي في الجاهلية محمدا وقيل يكنى أبا عبد الله وأبا سعيد والأول أكثر. قول ابن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث أنه شهد بدراً وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأولاده جعفر وعبد الله وسعد وعبد الرحمن وعمر، وقال: وسمعته يقول قتله أهل الشام ثم أخرج من طريق هشام عن الحسن أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفاً فقال "قاتل به المشركين ما قاتلوا فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضا فائت به أحدا فاضرب به حتى ينكسر ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية" ففعل قلت [القائل ابن حجر] ورجاله هذا السند ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة وشهد الشاهد بدراً وما بعدها إلا غزوة تبوك فإنه تخلف بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أن يقيم بالمدينة وقال ابن عبد البر، كان من فضلاء الصحابة واستخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة في بعض غزواته، وكان ممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولاصفين. وقال ابن الكلبي: ولاه عمر على صدقات جهينة، وقالى غيره كان عند عمر معداً لكشف الأمور المعضلة في البلاد وهو كان رسوله في الكشف عن سعيد بن أبي وقاص حين بنى القصر بالكوفة وغير ذلك. وقال ابن مبارك في الزهد أنبأنا ابن عيينة عن عمر بن سعيد بن عباية بن رفاعة قال: بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص اتخذ قصراً وجعل عليه باباً وقال انقطع الصوت، فأرسل محمد بن مسلمة وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه بالأمر كما بعثه فقال له: ائت سعداً فأحرق عليه بابه فقدم الكوفة فلما وصل إلى الباب أخرج زنده فاستورى ناراً ثم

أحرق الباب فأخبر سعد فخرج إليه فذكر القصة. قال ابن شاهين: كان من قدماء الصحابة سكن المدينة ثم سكن الربذة يعني بعد قتل عثمان. قال الواقدي: مات بالمدينة في صفر سنة ست وأربعين وهو ابن سبع وسبعين سنة وأرخه المدائني سنة ثلاث وأربعين وقال ابن أبي داود: قتله أهل الشام، وكذا قال يعقوب ابن سفيان في تاريخه دخل عليه رجل من أهل الشام من أهل الأردن وهو في داره فقتله وقال محمد بن الربيع في صحابة مصر: بعثه عمر إلى عمرو بمصر فقاسمه ماله وأسند ذلك في حديث، ثم قال: مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وله سبع وسبعون سنة، وكان طويلاً معتدلاً أصلع. ا. هـ. ابن حجر. وقال الذهبي عنه: من نجباء الصحابة، شهد بدراً والمشاهد. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه مرة على المدينة. وكان رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة، ولا حضر الجمل، ولا صفين؛ بل اتخذ سيفاً من خشب، وتحول إلى الربذة، فأقام مديدة. وهو حارثي، من حلفاء بني عبد الأشهل. وكان رجلاً طوالاً أسمر معتدلاً أصلع وقوراً. قد استعمله عمر على زكاة جهينة. وقد كان عمر إذا شكي إليه عامل، نفذ محمداً إليهم ليكشف أمره. خلف من الولد عشرة بنين؛ وست بنات. رضي الله عنه. وقدم للجابية، فكان على مقدمة جيش عمر. عباد بن موسى السعدي: حدثنا يونس، عن الحسن، عن محمد بن مسلمة، قال: مررت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، واضعاً يده على يد رجل، فذهبت. فقال: "ما منعك أن تسلم"؟ قلت: يا رسول الله، فعلت بهذا الرجل شيئاً ما فعلته بأحد، فكرهت أن أقطع عليك حديثك، من كان يا رسول الله؟ قال: "جبريل، وقال لي: هذا محمد بن مسلمة لم يسلم، أما إنه لو سلم رددنا عليه السلام". قلت: فما قال لك يا رسول الله؟ قال: "ما زال يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه يأمرني فأورثه" (1).

_ (1) وعياد بن موسى السعدي لم يوثقه غير ابن حبسان، والحسن هو البصري لم يسمع من محمد بن مسلمة، لكن حديث=

قال ابن سعد: أسلم محمد بن مسلمة على يد مصعب بن عمير، قبل إسلام سعد بن معاذ. قال: وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة، واستخلفه على المدينة عام تبوك (1). قال ابن يونس: شهد محمد فتح مصر، وكان فين طلع الحصن مع الزبير. قال عباية ابن رفاعة: كان محمد بن مسلمة، أسود طويلاً عظيماً. وفي الصحاح، من حديث جابر: مقتل كعب بن الأشرف على يد محمد بن مسلمة (2) عاش ابن مسلمة سبعاً وسبعين سنة. قال يحيي بن بكير، وإبراهيم بن المنذر، وابن نمير، وشباب، وجماعة: مات محمد بن مسلمة في صفر سنة ثلاث وأربعين. أ. هـ. 2220 - * روى الحاكم بن عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: بعثني عثمان رضي الله عنه في خمسين فارساً إلى ذي خشب وأميرنا محمد بن مسلمة الأنصاري، فجاء رجل في عنقه مصحف وفي يده سيف وعيناه تذرفان، فقال: إن هذا يأمرنا أن نضرب بهذا على ما في هذا، فقال له محمد بن مسلمة: اجلس فقد ضربنا بهدا على ما في هذا قبل أن تولد فلم يزل يكلمه حتى رجع. 2221 - * روى أبو دواد عن ثعلبة بن ضبيعة، قال: دخلنا على حذيفة، فقال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً، قال: فخرجنا فإذا فسطاط مضروب، فدخلنا، فإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت.

_ = "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" صحيح من حديث عائشة وابن عمر، أخرجه البخاري ومسلم. (1) تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، وبه كانت الغزوة. (2) رواه البخاري (7/ 336) 64 - كتاب المغازي - 15 - باب قتل كعب بن الأشرف. ومسلم (3/ 1425) 32 - كتاب الجهاد والسير - 42 - باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. 2220 - المستدرك (3/ 436) وصححه ووافقه الذهبي. 2221 - أبو داود (4/ 216) كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة.

وفي رواية (1) عن حذيفة قال: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تضرك الفتنة". 2222 - * روى الحاكم عن محمد بن إسحاق في ذكر من شهد بدرا قال: ومن الأوس ثم حلفائه من بني عبد الأشهل محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوي كان حليفاً لبني عبد الأشهل، توفي سنة ثلاث وقيل سنة ست وأربعين وهو يومئذ ابن سبع وسبعين سنة، وكان يكنى أبا عبد الرحمن وصلى عليه مروان بن الحكم. * * *

_ (1) أبو داود في نفس الموضوع السابق. ما أريد أن يشتل علي من أمصاركم شيء، لا أسكن بلداً فأتعرض للفتنة حتى تنقضي. 2222 - المستدرك (3/ 433).

74 - حسان بن ثابت

74 - حسان بن ثابت قال الذهبي في السير: ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، سيد الشعراء المؤمنين، المؤيد بروح القدس، أبو الوليد؛ ويقال: أبو الحسام. الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، ابن الفريعة. شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه. قال ابن سعد: عاش ستين سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام. أمه الفريعة بنت خنيس. قال مسلم: كنيته أبو عبد الرحمن. وقيل: أبو الوليد. قال ابن إسحاق: سألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: ابن كم كان حسان وقت الهجرة؟ قال: ابن ستين سنة، واهجر رسول الله ابن ثلاث وخمسين. الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان حسان في حلقة فيهم أبو هريرة، فقال: أنشدك الله يا أبا هريرة، فقال: أنشدك الله يا أبا هريرة، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، أيدك الله بروح القدس"؟ فقال: اللهم نعم (1). وروى عدي بن ثابت، عن البراء: أن رسول الله قال لحسان: "اهجهم وهاجهم وجبريل معك" (2). وقال سعيد بن المسيب: مر عمر بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظه، فقال حسان: قد كنت أنشد فيه، وفيه خير منك. قال: صدقت (3). عن عائشة، قالت: كان حسان يضع له النبي صلى الله عليه وسلم منبراً في المسجد، يقوم عليه قائماً ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يقول: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (4).

_ (1) رواه البخاري (6/ 304) 59 - كتاب بدء الخلق - 6 - باب ذكر الملائكة. ومسلم (4/ 1933) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 34 - باب فضائل حسان بن ثابت. (2) رواه البخاري ومسلم في نفس الموضعين السابقين. (3) رواه البخاري ومسلم في نفس الموضعين السابقين. (4) رواه أحمد في مسنده (6/ 72)، وأبو داوج (4/ 304) كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر. والترمذي (5/ 138) 44 - كتاب الأدب - 70 - باب ما جاء في إنشاد الشعر. والحاكم في المستدرك (3/ 487) وصححه ووافقه الذهبي.

وعن عروة، قال: سببت ابن فريعة عند عائشة، فقالت: يا ابن أخي، أقسمت عليك لما كففت عنه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) أقول: وفي منع ابن أختها من سب حسان مع دوره في حادثة الإفك دليل على أن المسلم لا يحقد ويمتنع عن أن يشفي قلبه من غيظ الغيبة منه أو من غيره، وهو خلق عز في عصرنا وقل أصحابه. عمر بن حوشب، عن عطاء بن أبي رباح، سمعه يقول: دخل حسان على عائشة، بعدما عمي، فوضعت له وسادة، فدخل أخوها عبد الرحمن، فقال: أجلستيه على وسادة، وقد قال ما قال؟ - يريد: مقالته نوبة الإفك - فقالت: إنه - تعني أنه كان يجيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشفي صدره من أعدائه، وإني لأرجو ألا يعذب في الآخرة. وروي عن عائشة قالت: قدد رسول الله المدينة، فهجته قريش، وهجوا معه الأنصار. فقال لحسان: "اهجهم، وإني أخاف أن تصيبني معهم بهجو بني عمي". قال: لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين، ولي مقول يفري ما لا تفريه الحربة. ثم أخرج لسانه، فضرب به أنفه، كأنه لسان شجاع (2) بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه. عن أبي سلمة: أن حسان قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا. ثم أطلع لسانه، كأنه لسان حية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فيهم نسباً، فائت أبا بكر، فإنه أعلم قريش بأنسابها، فيخلص لك نسبي". قال: والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم ومسبك سل الشعرة من

_ (1) رواه البخاري (10/ 546) 87 - كتاب الأدب - 91 - باب هجاء المشركين. ومسلم (4/ 1932) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 34 - فضائل حسان بن ثابت. (2) شجاع: الحية الذكر.

العجين. فهجاهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شفيت واشتفيت" (1). محمد بن السائب بن بركة، عن أمه: أنها طافت مع عائشة، ومعها نسوة، فوقعن في حسان، فقالت: لا تسبوه، قد أصابه ما قال الله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وقد عمي، والله إني لأرجو إن يدخله الله الجنة بكلمات قالهن لأبي سفيان بن الحارث: هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء انتهى. من السير للذهبي. قال الشيخ شعيب: أبو سفيان بن الحارث: هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، كان يألف النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما بعث عاداه، وهجاه، ثم أسلم عام الفتح، وشهد حنيناً، وقوله: (فشركما لخيركما الفداء). قال السهيلي: وفي ظاهر اللفظ بشاعة، لأن المعروف أن لا يقال: هو شرهما إلا وفي كليهما شر .. ولكن سيبويه قال في (كتابه): تقول: مررت برجل شر منك: إذا نقص عن أن يكون مثله، وهذا يدفع الشناعة، ونحو منه قوله صلى الله عليه وسلم: "شر صفوف الرجال آخرها" يريد: نقصان حظهم عن حظ الأول. عن مسروق، قال: كنت عند عائشة، فدخل حسان - بعد ما عمي - فقال: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح من لحوم الغوافل فقالت: لكن أنت لست كذلك. فقلت لها: تأدنين له، وقد قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) فقالت: وأي عذاب أشد من العمى.

_ (1) رواه الطبراني في الكبير (4/ 38) ومسلم بنحوه في (4/ 1935) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 34 - باب فضائل حسان بن ثابت. (2) آل عمران 11. (3) النور: 11. 0

وقالت: إنه كان ينافح، أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). خديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن سعيد بت جبير، قال: قبل لابن عباس: قدم حسان اللعين، فقال ابن عباس: ما هو بلعين، قد جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولسانه (2). وقال [الذهبي] هذا دال على أنه غزا. أقول: من المشهور عن حسان قلة مشاركته في القتال وذلك يرجع في نظري إلى أنه كان كبير السن عندما دخل في الإسلام كما مر، وقد علل بعضهم عدم مشاركته في القتال تعليلات لا تليق ولم تثبت بسند صحيح يطمئن إليه القلب، وإنما هو ما ذكرناه فقد كان معذوراً بدليل أنه لم يعاقب ولم يعاتب ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوم له في هذا الشأن. قال الذهبي: عبدة بن سليمان، عن أبي حيان التيمي، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: أنشد حسان النبي صلى الله عليه وسلم: شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيي ويحيي كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقول بذات الله فيهم ويعدل (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا". وروى أبو غسان النهدي: حدثنا عمر بن زياد، عن عبد الملك بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده حسان - فذكرها وزاد: وأن الذي عادي اليهود ابن مريم نبي أتى من عند ذي العرش مرسل

_ (1) البخاري (7/ 436) 64 - كتاب المغازي - 24 - باب حديث الإفك. ومسلم (4/ 1934) - كتاب فضائل الصحابة - 34 - باب فضائل حسان بن ثابت. (2) أخرجه أبو الفرج في الأغاني، وهو في تهذيب ابن عساكر. (3) أبو يحيي: هو زكريا عليه السلام. أخو الأحقاف: هو هود عليه السلام.

قال ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن حزم: إن حسان لما قال هذه الأبيات: من النوم بالغشاء الهموم ... وخيال إذا تغور النجوم من خبيب أصاب قلبك منه ... سقم فهو داخل مكتوم يا لقومٍ هل يقتل المرء مثلي ... واهن البطش والعظا سؤوم شأنها العطر والفراش ويعلو ... ها لجين ولؤلو منظوم لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم لم تفقها شمس النهار بشيء ... غير أن الشباب ليس بدوم زاد بعضهم: رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غظى عليه النعيم نادى بأعلى صوته على أطمة فارع: يا بني قيلة، فلما اجتمعوا، قالوا: ما لك ويلك؟ قال: قلت قصيدة لم يقل أحد من العرب مثلها، ثم أنشدها لهم، فقالوا: ألهذا جمعتنا؟ فقال: وهل يصبر به من وحر الصدر. [أي وساوسه]. قال سليمان بن يسار: رأيت حسان لع ناصية قد سدلها بين عينيه. قال ابن إسحاق: توفي حسان سنة أربعٍ وخمسين. وأما الهيثم بن عدي، والمدائني فقالا: توفي سنة أربعين. قلت: له وفادة على جبلة بن الأبهم، وعلى معاوية. قال: ابن سعد: توفي زمن معاوية. ا. هـ. الذهبي. وقال ابن حجر: قال عبيدة فضل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام ... مات حسان قبل الأربعين في قول خليفة وقبل سنة أربعين وقبل خمسين وقيل أربع وخمسين وهو قول ابن هشام حكاه عنه ابن البرقي وزاد وهو ابن عشرين ومائة سنة أو نحوها وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينو ولحسان ستون

سنة (قلت [القائل ابن حجر] من قال إنه سنة أربعين بلغ مائة أو دونها او في سنة خمسين مائة وعشرة أو سنة أربع وخمسين مائة وأربع عشرة، والجمهور أنه عاش مائة وعشرين سنة وقيل عاش مائة وأربع سنين جزم به أنه أبي خيثمة عن المدائني وقال ابن سعد عاش في الجاهلية ستين وفي الإسلام ستين ومات وهو ابن عشرين ومائة. ا. هـ. 2222 - * روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذن حسان بن ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف بنسبي؟ " فقال حسان: لأسئلنك منهم كما تسل العشرة من العجين. وفي رواية قال عروة: ذهبت أسب حسان عند عائشة، فقالت: لا تسبه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم (2) قالت: قال حسان: يا رسول الله، ائذن لي في أبي سفيان، قال: "كيف بقرابتي منه؟ " قال: والذي أكرمك، لأسلنك كما تسل العشرة من الخمير، فقال حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بيت مخزوم، ووالدك العبد قصيدته هذه. وبعد بيت "وإن سنام المجد ... " بيت لم يذكره البخاري ومسلم، وبذكره تتم الفائدة والمراد، وهو: ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد والمراد ببيت مخزوم: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم أم عبد الله والزبير وأبي طالب بني عبد المطلب، والمراد بأبي سفيان المهجو في الحديث: أبو سفيان بن الحارث

_ 2223 - البخاري (10/ 547) 78 - كتاب الأدب - 91 - باب هجاء المشركين. (1) مسلم (4/ 1934) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 34 - باب فضائل حسان بن ثابت. سنام المجد: سنام كل شيء: أعلاه، والمجد: الشرف والعلاء والفخر والسؤدد. وما أشبهه.

ابن عبد المطلب، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في ذلك الوقت، ثم أسلم وحسن إسلامه. وقوله: ولدت أبناء زهرة منهم، مراده: هالة بنت وهب بن عبد مناف أم حمزة وصفية، وأما قوله في البيت الأول: ووالدك العبد، فهو سب لأبي سفيان بن الحارث، ومعناه: أن أم الحارث بن عبد المطلب والد أبي سفيان هذا: هي سمية بنت موهب، وموهب غلام لبني عبد مناف، وكذا أم أبي سفيان بن الحارث كانت كذلك، وهو مراده يقوله، ولم يقرب عجائزك المجد. وفي رواية لمسلم (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجوا قريشاً، فإنه أشد عليها من رشق النبل" فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: اهجهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بم مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبة، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، حتى يلخض لك نسبي" فأتاه حسان، ثم رجع، فقال: والذي بعثك بالحق، لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤديك ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان، فشفى واتشفى، قال حسان: هجوت محمداً، فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمداً براً تقياً ... رسول الله شيمته الوفاء

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. رشق النبل: الرشق: الري، وهو بالفتح: المصدر، تقول: رشقته رشقاً، وبالكسر: الوجه من الرمي: إذا رموا بأجمعهم، قالوا: رمياً رشقاً. أذلع: دلع لسانه وأدلعه إذا أخرجه، ودلع لسانه يتعدى ولا يتعدى. لأفرينهم قري الأديم: أقريت الشيء، إذا قطعته على جهة الإفساد، فإذا فعلته على جهة الإصلاح قلت: فريته، وفري الأديم: قطع الجزار الجلد. برأ: البر: الصادق.=

فإني أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على اكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح، وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يومٍ ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله: قد أرسلت عبداً ... يقول الحق، ليس به خفاء وقال الله: قد يسرت جنداً ... هم الأنصار عرضتها اللقاء تلافى كل يوم من مقد ... سباب، أو قتال، أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء أقول: ترجمنا لحسان رضي الله عنه لأنه يشكل ظاهرة تحتاج إلى تأمر كبير ليأخذ منها دعاة الإسلام دروساً كثيرة، فلقد كان الشعر في الجاهلية هو الأداة الأقوى في التأثير على الرأي العام، وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلاح استعمالا كثيراً فلم يبق شاعراً إلا وقد استخرج ما عنده في نصرة الإسلام أو الدعوة له أو الذنب عنه أو الرد على خصومه أو في

_ = حنيفاً: الحنيف: المائل عن الأديان إلى الإسلام. تثيير النقع: النقع: الغبار، وإثارته: نشره وإظهاره في الحق. كداء: الممدود - بفتح الكاف -: هو بأعلى مكة عند المقبرة، وتسمى الناحية: المعلي، وهنالك الحصب، وليس بمحصب مني، وكان باب بني شيبة بإزائه، وكدي - بالقصر والضم مصروفاً -: هو بأسفل مكة، وهو بقرب شعب الشافعين وابن الزبير، عند قعيقعان، وهنالك موضع آخر يقال له: كدي، مضغراً، وإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن، فهو في طريقه، وليس من هذين المقدمين في شيء. يبارين الأعنة: المباراة: المجارة والمسابقة. الأسل الغلماء: الأسل: الرماح، وهو في الأصل: نبات له أغضان. دقاق طوال. والغلماء: جمع ظامئ، وهو العطشان، جمع الرماح عطاشاً إلى ورود الدماء استعارة، فهي إلى ذلك أسرع، كسارعة العطشالن إلى ورود الماء. متمطرات: مطر الفرس يمطر مطراً: إذا أسرع، وتمطر تمطراً: مثله. عرضتها: يقال: فلان عرضة لكذا" إذا كان مستعداً له، متعرضاً له.

التعليل للمواقف، وهذا يعطينا درساً في أن يبذل الدعاة أقصى ما يستطيعونه للتأثير على الرأي العام بكل وسيلة مشروعة متاحة، وقد كان من سننه عليه السلام أن يرد على شاعر بشاعر وعلى خطيب بخطيب، وهذا درس كذلك للدعاة في أن يردوا على الجريدة بالجريدة وعلى الكتاب بالكتاب وعلى البيان بالبيان على ضوء الحكمة والفتوى. ومن الدروس في ترجمة حسان أن نعرف أن للشاعر قيمته للدعوة الإسلامية، قال تعالى لرسوله عليه السلام {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} ولقد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثير من شعرائه، ووصف قوة تأثير شعرهم في العدو، كما دعا لبعضهم، وهذا رد على بعض المنتطعين الذين لا يعطون للشعر الإسلامي أهميته. * * *

75 - حجر بن عدي رضي الله عنه

75 - حجر بن عدي رضي الله عنه قال ابن حجر في ترجمته: حجر بضم أوله وسكون الجيم ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين الكندي المعروف بحجر بن الأدبر حجر الخير. ذكر ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه أنه وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأخوه هانئ بن عدي وأن حجر بن عدي شهد القادسية وأنه شهد بعد ذلك الجمل وصفين وصحب علياً فكان من شيعته وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فقدر أن قتل بها. وقد ذكر ابن الكلي جميع ذلك وذكره يعقوب بن سفيان في أمراء علي يوم صفين، وروى ابن السكن وغيره من طريق بن الأشتر عن أبيه أنه شهد وهو حجر بن الأدبر موت أبي ذر بالربذة، وأما البخاري وابن أبي حاتم عن أبيه وخليفته بن خياط وابن حبان فذكروه في التابعين، وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، فإما أن يكون ظنه آخر وإما أن يكون ذهل. وروى ابن قانع في ترجمته من طريق شعيب بن حرب عن شعبة عن أبي بكر بن حفص عن حجر بن عدي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن قوماً الخمر يسمونها بغير اسمها" وروى أحمد في الزهد والحاكم في المستدرك من طريق ابن سيرين قال: أطال زياد الخطبة فقال حجر: الصلاة، فضى في خطبته فحصبه حجر والناس، فنزل زياد فكتب إلى معاوية، فكتب إليه أن سرح به إلي، فلما قدم قال: السلام، عليك يا أمير المؤمنين، فقال: أو أمير المؤمنين أنا؟ قال: نعم، فأمر بقتله، فقال: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني لاق معاوية بالجادة وإني مخاصم. وروى الروياني والطبراني والحاكم من طريق أبي إسحاق قال: رأيت حجر بن عدي وهو يقول ألا إني على بيعتي لا أقيلها ولا أستقيلها ا. هـ. ابن حجر. وقال الذهبي: هو حجر الخير، وأبوه عدي الأدبر، وكان قد طعن مولياً. فسمي الأدبر، الكوفي، أبو عبد الرحمن الشهيد. له صحبة ووفادة.

قال غير واحد: وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسمع من علي وعمار. وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أماراً بالمعروف، مقدماً على الإنكار، من شيعة علي رضي الله عنهما. شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبد. قال ابن عون: عن محمد [بن سيرين]، قال: لما أتي بحجر، قال: ادفنوني في ثيابي، فإني أبعث مخاصماً (1). وروى ابن عون عن نافع، قال: كان ابن عمر في السوق، فنعي إليه حجر، فأطلق حبوته، وقام، وقد غلب عليه النحيب (2). هشام بن حسان: عن محمد، قال: لما أتي معاوية بحجر، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه، فصلى ركعتين، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلو علي دماً، فإني ملاقٍ معاوية على الجادة. وقيل: إن رسول معاوية عرض عليهم البراءة من رجلٍ والتوبة. فأبى ذلك عشرة، وتبرأ عشرة، فلما انتهى القتل إلى حجر، جعل يرعد. وقيل: لما حج معاوية، استأذن على عائشة، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: وجدت فى قتله صلاح الناس، وخفت من فسادهم. ومشهدهم ظاهر بعذراء (3) يزار. وخلف حجر ولدين: عبيد الله، وعبد الرحمن. قتلهما مصعب بن الزبير الأمير، وكانا يتشيعان. ا. هـ. أقول: إننا مع رغبتنا في أن لا نذكر إلا بخير، ولكن لابد أن نسجل أن

_ (1) رواه ابن سعد (6/ 230). (2) رواه أحمد كما في البداية (8/ 55) من طريق ابن علية بهذا الإسناد، وهو صحيح. (3) عذراء: هي من قرى غوطة دمشق، تقع في الشمال الشؤقي، وتبعد عنها خمسة عشر ميلاً تقريباً، وبها قبر حجر وأصحابه، في مسجدها، ولا تزال إلى يومنا هذا.

معاوية رضي الله عنه كان بداية الملك العضوض بالنص الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان رأس الفئة الباغية التي قتلت عماراً، وهذا كذلك منصوص عليه، ثم هو أول من سن القتل السياسي بقتله حجر بن عدي وأصحابه صبراً فكانت سنة سيئة في تاريخ الأمة الإسلامية، ونحن إذ نسجل هذه الظواهر نسجلها للعبرة والله تعالى هو الذي يحاسب عباده، ولمعاوية عندنا كما لبقية الصحابة: طلب الرضوان والغفران والأمر لله من قبل ومن بعد. * * *

76 - عمران بن حصين رضي الله عنه

76 - عمران بن حصين رضي الله عنه قال ابن حجر: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم بن حذيفة بن جهمة ابن غاضرة بن حبشة بن كعب بن عمرو الخزاعي .. هكذا نسبه إلى ابن الكلبي ومن تبعه وعند أبي عمر عبد نهم بن سالم بن غاضرة ويكنى أيا نيجد بنون وجيم مصغراً. روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة أحاديث، وكان إسلامه عام خيبر، وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح قاله ابن البرقي، وقال الطبراني: أسلم قديماً هو وأبوه وأخته، وكان ينزل ببلاد قومه ثم تحول إلى البصرة إلى أن مات بها ... وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الأسود الدئلي قال: قدمت البصرة وبها عمران بن حصين كان عمر بعثه ليفقه أهلها، وقال خليفة: استقضى عبد الله بن عامر بن عمران بن حصين على البصرة فأقام أياماً ثم استعفاه، وقال ابن سعد: استقضاه زياد ثم استعفاه فأعفاه. وأخرج الطبراني وابن منده بسند صحيح عن ابن سيرين قال: لم يكن تقدم على عمران أحد من الصحابة ممن نزل البصرة، وقال أبو عمر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم يقول عنه أهل البصرة إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى ... وقال ابن سيرين: أفضل من نزل البصرة من الصحابة عمران وأبو بكرة، وكان الحسن يحلف أنه ما قدم البصرة والسرو خير لهم من عمران أخرجه أحمد في الزهد عن سفيان قال: كان الحين يقول نحوه وكان قد اعتزل الفتنة فلم يقاتل فيها، وقال أبو نعيم: كان مجاب الدعوة ا. هـ. ابن حجر وقال الذهبي في ترجمته: القدوة الإمام، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أبو نجيد الخزاعي. أسلم هو وأبوه وأبو هريرة في وقت، سنة سبع. وله عدة أحاديث. وولي قضاء البصرة، وكان عمر بعثه إلى اهل البصرة ليفقههم؛ فكان الحسن يحلف؛ ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الخصين. قال زرارة: رأيت عمران بن حصين يلبس الخز. وقال مطرف بن عبد الله: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثاً عسى الله أن

ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة، ولم ينه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وأنه كان يسلم علي - يعني الملائكة - قال: فلما اكتويت، أما ذلك؛ فلما تركه، عاد إلي (1). أقول: في تسليم الملائكة على عمران بن حصين رضي الله عنه دليل على أنه يمكن للمسلم أن يكون له صلة بعالم الغيب، وهي الظاهرة التي يسميها أهل السلوك إلى الله (الكشف) وهي ليست مستغربة فالقرآن وصف مريم بالصديقية، ومع ذلك ذكر أن الملائكة خاطبتها ومن وقعت له واقعة من هذه الواقعات فله أن يذكرها إذا ترتب على ذلك مصلحة شرعية، ويجوز للمسلم أن يصدقه في كلامه إذا لم يعرف عنه كذب أو فسوق، ولم يترتب على كلامه تكليف شرعي أو نقض لشرع، ولا نفي ما حدث لعمران جواز الكي وأمثاله للتداوي ولكن يشعر أن الكمال في حق عمران ألا يكتوي. قال الذهبي: وقد غزا عمران مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة. وكان ينزل ببلاد قومه، ويتردد إلى المدينة. عن الحكم بن الأعرج، عن عمران بن حصين، قال: ما مسست ذكرى بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). عن محمد: ما قدم البصرة أحد بفضل على عمران بم حصين (3). قال ققتادة: يلغني أن عمران قال: وددت أني رماد تذروني الرياح (4). قلت [القائل الذهبي]: وكان ممن اعتزل الفتنة، ولم يحارب مع علي. عن قتادة: قال لي عمران بن حصين: الزم مسجدك. قلت: فإن دخل علي؟

_ (1) رواه مسلم (2/ 898) 15 - كتاب الحج - 2 - باب جواز التمتع. (2) رواه أحمد في مسنده (4/ 439) ورجاله ثقات. والحاكم في المستدرك (3473) وصححه ووافقه الذهبي. (3) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 287)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: (9/ 381) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (4) رواه ابن سعد (4/ 287).

قال: الزم بيتك. قلت: فإن دخل علي؟ قال: لو دخل علي رجل يريد نفس ومالي، لرأيت أن قد حلي لي أن أقتله (1). عن عمران، قال: اكتوينا، فما أفلحن، ولا أنجحن - يعني المكاوي (2). عن مطرف: قال لي عمران في مرضه: إنه قد كان يسلم علي، فإن عشت، فاكتم علي (3). قال مطرف: قال لي عمران: أشعرت أن التسليم عاد إلي؟ قال: ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى مات (4). عن مطرف، قلت لعمران: ما يمنعني من عيادتك إلا ما أرى عن حالك. قال: فلا تفعل، فإن أحبه إلي أحبه إلى الله (5). إبراهيم بن عطاء مولى عمران، عن أبيه أن عمران قضى على رجل بقضية، فقال: والله، قضيت علي بجور، وما ألوت. قال: وكيف؟ قال: شهد علي بزور. قال: فهو في مالي، والله لا أجلي هذا أبداً (6). عن أبي رجاء، قال: خرج علينا عمران في مطرف خز لم نره قط، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يجب أن ترى عليه" (7). قال ابن سيرين: سقى بطن عمران بن حصين ثلاثين سنة، كل ذلك يعرض عليه

_ (1) رواه ابن سعد (4/ 287) ورجاله ثقات. (2) رواه أحمد في مسنده (4/ 427)، وأبو داود (4/ 5) كتاب الطب، باب في الكي. والترمذي (4/ 389) 29 - كتاب الطب - 10 - باب ما جاء في كراهية التداوي بالكي. وابن ماجه (2/ 1155) 31 - كتاب الطب - 3 - باب الكي. وإسناده صحيح. (3) الحاكم في المستدرك (3/ 472). (4) ابن سعد (4/ 289). (5) ابن سعد (4/ 287) ورجاله ثقات. (6) ابن سعد بنحوه (4/ 287) ورجاله ثقات، لا أجلس مجلسي هذا أبداً لأقضي. (7) رواه أحمد في مسنده (4/ 438) وابن سعد (4/ 291) وسنده صحيح.

الكي، فيأبى؛ حتى كان قبل موته بسنتين، فاكتوى (1). عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: كان عمران ينهى عن الكي، فابتلي، فاكتوى، فكان يعج (2). عن الحسن: أن عمران بن حصين أوصى لأمهات أولاده بوصايا، وقال: من صرخت علي، فلا وصية لها. توفي عمران سنة اثنتين وخمسين. رضي الله عنه. ا. هـ الذهبي. 2224 - * روى الحاكم عن إبراهيم بن عطاء عن أبيه أن زيادًا أو ابن زياد بعث عمران ابن حصين ساعيًا فجاء ولم يرجع معه درهم فقال له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضعناها في الموضع الذي كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 2225 - * روى الحاكم عن هلال بن يساف قال: انطلقت إلى البصرة فدخلت المسجد فإذا شيخ مستند إلى إسطوانة يحدث يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم تاتي أقوام يعطون الشهادة قبل أن يسألوها" فقلت: من هذا الشيخ؟ قالوا: عمران بن حصين. 2226 - * روى الحاكم عن رافع بن سحبان أن رجلاً أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال: رجل طلق امرأته وهو في مجلس ثلاثًا، فقال: إثم لزمه وحرمت عليه امرأته، فانطلق فذكر ذلك لأبي موسى يريد عيبه، فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد.

_ (1) ابن سعد (4/ 288) السقي: ماء أصفع يقع في البطن، يقال: سقي بطنه يسقي سقيًا. (2) ابن سعد (4/ 289). يعج: يضج ويرفع صوته. 2224 - المستدرك (3/ 471) وصححه ووافقه الذهبي. 2225 - المستدرك (3/ 471) وصححه ووافقه الذهبي. 2226 - المستدرك (3/ 472).

77 - سهيل بن عمرو رضي الله عنه

77 - سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال ابن حجر: سهيل بن عمرو بن شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري خطيب قريش أبو يزيد ... قال البخاري سكن مكة ثم المدينة، وذكره ابن سميع في الأولى ممن نزل الشام، وهو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية، وكلامه ومراجعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك في الصحيحين وغيرهما، وله ذكر في حديث ابن عمر في الذين دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم في القنوت فنزلت (ليس لك من الأمر شيء) زاد أحمد في روايته، فتابوا كلهم. وروى حميد بن زنجويه في كتاب الأموال من طريق ابن أبي حسين قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دخل البيت ثم خرج فوضع يده على عضادتي الباب فقال ماذا تقولون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرًا ونظن خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال: أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم. وذكره ابن إسحاق فيمن أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة من الإبل من المؤلفة وذكر ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن الشافعي كان سهيل محمود الإسلام من حين أسلم. وروى البيهقي في الدلائل من طريق الحسن بن محمد بن الحنفية قال قال عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعني أنزع ثنيتي سهيل فلا يقوم علينا خطيبًا؟ فقال: دعها فلعلها أن تسرك يومًا فلما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام سهيل بن عمرو فقال لهم: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وروى أوله يونس بن بكير في مغازي ابن إسحاق عنه عن محمد بن عمرو بن عطاء وهو في المحامليات. موصول من طريق سعيد بن أبي هند عن عمرة عن عائشة وذكر ابن خالويه أن السر في قوله أنزع ثنيتيه أنه كان أعلم والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام ... وروى أبو قرة من طريق ابن أبي حسين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استهداه من ماء زمزم، وروى البخاري في تاريخه والباوردي من طريق حميد عن الحسن قال: كان المهاجرون، والأنصار بباب عمر فجعل يأذن لهم على قدر منازلهم وثم جماعة من الطلقاء فنظر بعضهم إلى بعض فقال لهم سهيل بن عمرو: على أنفسكم فاغضبوا دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعيتم إلى أبواب الجنة ثم خرج إلى الجهاد، وأخرجه ابن المبارك في الجهاد أتم منه، وروى ابن شاهين من طريق ثابت البناني قال قال

سهيل بن عمرو: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا، وقال ابن أبي خيثمة: مات سهيل بالطاعون سنة ثمان عشرة ويقال قتل باليرموك وقال خليفة بمرج الصفر والأول أكثر، وأنه مات بالطاعون وأخرجه ابن سعد بإسناد له إلى أبي سعد بن فضالة وكانت له صحبة، قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام فسمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمره في أهله، قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة، قال: فلم يزل مقيمًا بالشام حتى مات في طاعون عمواس. ا. هـ ابن حجر. وقال الذهبي: يكنى أبا يزيد. وكان خطيب قريش، وفصيحهم، ومن أشرافهم. لما أقبل في شأن الصلح، قال النبي، صلى الله عليه وسلم، "سهل أمركم" (1) تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، ثم حسن إسلامه. وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب! أتاركون أنتم محمدًا والصباة (2) يأخذون عيركم؟ من أراد مالاً، فهذا مال، ومن أراد قوة، فهذه قوة. وكان سمحًا جوادًا مفوهًا. وقد قام بمكة خطيبًا عند وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنحوٍ من خطبة الصديق بالمدينة، فسكنهم وعظم الإسلام. قال الزبير بن بكار: كان سهيل بعد كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهدًا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن. وكان أميرًا على كردوسٍ (3) يوم اليرموك. قال المدائني وغيره: استشهد يوم اليرموك. وقال الشافعي، والواقدي: مات في طاعون عمواس. ا. هـ. * * *

_ (1) أخرجه البخاري بأطول منه (5/ 329) 54 - كتاب الشروط -15 - باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. وفيه: عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه وسلم "قد سهل لكم من أمركم". (2) الصباة: جمع صابيء. وهو من يترك دينه لدين آخر. (3) الكردوس: الطائفة العظيمة من الخيل والجيش. والجمع كراديس.

78 - أبو سعيد الخدري رضي الله عنه

78 - أبو سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال ابن حجر: سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري ... مشهور بكنيته استصغر بأحد واستشهد أبوه بها وغزا هو ما بعدها (1) كان من أفقه أحداث الصحابة، وقال الخطيب: كان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثًا كثيرًا، وروى الهيثم ابن كليب في مسنده من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأبو ذر وعبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة وأبو سعيد الخدري وسادس على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم فاستقال السادس فأقاله، وروى ابن سعد من طريق حنظلة بن سفيان الجمحي عن أشياخه قال: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفقه من أبي سعيد الخدري، ومن طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: خرج أبو سعيد يوم الحرة فدخل غارًا فدخل عليه شامي، فقال: أخرج، فقال: لا أخرج وإن تدخل علي أقتلك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمك، قال: أنت أبو سعيد الخدري؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي. وروى أحمد وغيره من طريق عطية عن أبي سعيد قال: قتل أبي يوم أحد شهيدًا وتركنا بغير مال، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله فحين رآني قال "من استغنى أغناه الله ومن يستعف يعفه الله" فرجعت، وأصل هذا الحديث في الصحيحين من طريق عطاء بن يزيد عن أبي سعيد بقصة أخرى غير هذه ولفظه: "من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله" الحديث، قال شعبة عن أبي سلمة سمعت أبا نضرة عن أبي سعيد رفعه: لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه، قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية. فملأت أذنيه ثم رجعت، وقال ابن أبي خيثمة حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن محمد بن عمرو بن معاذ الأنصاري سمعت هند ابنة سعيد بن أبي سعيد الخدري عن عمها جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عائدًا إلى

_ (1) مسند أبي سعيد ألف ومئة وسبعون حديثًا [بالمكرر]، ففي البخاري ومسلم ثلاثة وأربعون، وانفرد البخاري بستة عشر حديثًا، ومسلم باثنين وخمسين.

أبي سعيد فقدمنا إليه ذراع شاة. عن أبي سعيد قلنا له: هنيًا لك برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحبته قال إنك لا تدري ما أحدثنا بعده، وقال علي بن الجعد حدثنا شعبة عن سعيد بن يزيد سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد قال: تحدثوا فإن الحديث يهيج الحديث، قال الواقدي: مات سنة أربع وسبعين وقيل أربع وستين وقال المدائني: مات سنة ثلاث وستين، وقال العسكري: مات سنة خمس وستين. وقال الذهبي عنه: الإمام المجاهد، مفتي المدينة. وأخو أبي سعيد لأمه هو قتادة بن النعمان الظفري أحد البدريين. استهشد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق، وبيعة الرضوان. وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأكثر وأطاب، وعن أبي بكر، وعمر، وطائفة، وكان أحد الفقهاء المجتهدين. وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: عرضت يوم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله! إنه عبل العظام. وجعل نبي الله يصعد في النظر، ويصوبه. ثم قال: رده، فردني. إسماعيل بن عياش: أنبأنا عقيل بن مدرك، يرفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: عليك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء. وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في أهل السماء، وذكره في أهل الأرض، وعليك بالصمت إلا في حق، فإنك تغلب الشيطان. وروى حنظلة بن أبي سفيان، عن أشياخه: أنه لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من أبي سعيد الخدري. قال أبو عقيل الدورقي: سمعت أبا نضرة يحدث قال: دخل أبو سعيد يوم الحرة غارًا، فدخل عليه رجل، ثم خرج، فقال لرجلٍ من أهل الشام: أدلك على رجل تقتله؟ فلما انتهى الشامي إلى باب الغار، وفي عنق أبي سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك. وكن من أصحاب النار. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟ قال: نعم. قال:

فاستغفر لي، غفر الله لك. عبد الله بن عمر: عن وهب بن كيسان، قال: رأيت أبا سعيد الخردي يلبس الخز. ابن عجلان: عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: رأيت أبا سعيد يحفي (1) شاربه كأخي الحلق. عن أبي سعيد، قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أناس من ضعفة المسلمين ما أظن رسول الله يعرف أحدًا منهم، وإن بعضهم ليتوارى من بعضٍ من العري. فقال رسول الله بيده، فأدارها شبه الحلقة، قال: فاستدارت له الحلقة، فقال: "بما كنتم تراجعون"؟ قالوا: هذا رجل يقرأ لنا القرآن، ويدعولنا، قال: "فعودوا لما كنتم فيه"، ثم قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم" ثم قال: "ليبشر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمس مئة عام، هؤلاء في الجنة يتنغمون، وهؤلاء يحاسبون" (2). * * *

_ (1) يحفي: الحفي: المبالغة في القص. (2) أخرجه أبو داود (3/ 223) كتاب العلم، باب في القصص بنحوه. قال محقق السير: والعلاء بن بشير: [أحد الرواة] قال ابن المديني: مجهول لم يرو عنه غير المعلى، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد والترمذي. وابن ماجه بلفظ، يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مئة عام وسنده حسن، وصححه الترمذي، وابن حيان.

79 - المغيرة بن شعبة رضي الله عنه

79 - المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ابن حجر: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب ابن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثقفي أبو عيسى أو أبو محمد، وقال الطبري يكنى أبا عبد الله. قال وكان ضخم القامة عبل الذراعين بعيد ما بين المنكبين أصهب الشعر جعد. وكان لا يفرقه. أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان وله فيها ذكرن وحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... قال ابن سعد: وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق قال البغوي: كان أول من وقع ديوان البصرة، وقال ابن حبان: كان أول من سلم عليه بالإمرة، ثم ولاه عمر الكوفة وأقره عثمان ثم عزله، فلما قتله عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع المحكمين ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه ثم ولاه بعد ذلك الكوفة فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين عند الأكثر ونقل فيه الخطيب الإجماع وقيل مات قبل بسنة وقيل بعدها بسنة، وقال الطبري أيضًا كان مع أبي سفيان في هدم طاغية ثقيف بالطائف وبعثه أبو بكر الصديق إلى أهل النجير وأصيبت عينه باليرموك ثم كان رسول سعد إلى رستم، وفي صحيح البخاري في قصة النعمان بن مقرن في قتال الفرس أنه كان رسول النعمان إلى امرئ القيس وشهد تلك الفتوح ... وقال ابن سعد كان رجلاً طوالا مصاب العين أصيبت عينه باليرموك وقال البخاري في التاريخ قال أبو نعيم عن زكريا عن الشعبي: انكسفت الشمس في زمن المغيرة بن شعبة يوم الأربعاء في رجب سنة تسع وخمسين فقام المغيرة وأنا شاهد فذكر القصة كذا قال والصواب سنة تسع وأربعين. ا. هـ. وقال الذهبي: الأمير أبو عيسى، ويقال: أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة الرضوان. كان رجلاً طوالاً مهيبًا، ذهبت عينه يوم اليرموك، وقيل: يوم القادسية. قالت عائشة: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام المغيرة بن شعبة بنظير إليها، فذهبت عينه.

قال ابن سعد: كان المغيرة أصهب الشعر (1) جدًا، يفرق رأسه فروقًا أربعة، أقلص الشفتين، مهتومًا، ضخم الهامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، وكان داهية، يقال له: مغيرة الرأي. وعن الشعبي: أن المغيرة سار من دمشق إلى الكوفة خمسًا. معمر، عن الزهري قال: كان دهاة الناس في الفتنة خمسة، فمن قريش: عمرو، ومعاوية، ومن الأنصار؛ قيس بن سعد، ومن ثقيف، المغيرة. ومن المهاجرين: عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي. فكان مع علي قيس وابن بديل، واعتزل المغيرة بن شعبة. وعن أبي موسى الثقفي قال: كان المغيرة رجلاً طوالاً، أعور، أصيبت عينه يوم اليرموك. وعن غيره: ذهبت عينه يوم القادسية، وقيل: بالطائف، ومر أنها ذهبت من كسوف الشمس. ابن إسحاق، عن عامر بن وهب، قال: خرج المغيرة في ستةٍ من بني مالكٍ إلى مصر تجارًا، حتى إذا كانوا ببزاق (2) عدا عليهم، فذبحهم، واستاق العير، وأسلم. عن المغيرة، قال: أنا آخر الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دفن خرج علي بن أبي طالب من القبر، فألقيت خاتمي، فقلت: يا أبا الحسن، خاتمي. قال: انزل فخذه، قال: فمسحت يدي على الكفن، ثم خرجت. عن سماك بن سلمة قال: أول من سلم عليه بالإمرة المغيرة بن شعبة. يعني: قول المؤذن عند خروج الإمام إلى الصلاة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. عن ابن سيرين: كان الرجل يقول للآخر: غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين

_ (1) أصهب الشعرك الأصفر الضارب إلى شيء من الحمرة والبياض. (2) بزاق: موضع قريب من مكة، وهو بالصاد أعرف.

على المغيرة، عزله عن البصرة، فولاه الكوفة. قال الليث: وقعة أذربيجان كانت سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بن شعبة. وقيل: افتتح المغيرة همذان عنوة. سلمة بن بلال: عن أبي رجال العطاردي قال: كان فتح الأبلة (1) على يد عتبة بن غزوان، فلما خرج إلى عمر، قال للمغيرة بن شعبة، صل بالناس، فلما هلك عتبة، كتب عمر إلى المغيرة بإمرة البصرة، فبقي عليها ثلاث سنين. سعيد بن داود الزنبري: حدثنا مالك، عن عمه أبي سهيل، عن أبيه؛ قال: لقي عمار المغيرة في سكك المدينة، وهو متوشح سيفًا، فناداه يا مغيرة! فقال: ما تشاء؟ قال: هل لك في الله؟ قال: وددت والله أني علمت ذلك، إني والله ما رأيت قتله صوابًا، فهل لك يا أبا اليقظان أن تدخل بيتك، وتضع سيفك حتى تنجلي هذه الظلمة، ويطلع قمرها فنمشي مبصرين؟ قال: أعوذ بالله أن أعمى بعد إذ كنت بصيرًا. قال: يا أبا اليقظان، إذا رأيت السيل، فاجتنب جريته. عن الزهري: قال: دعا معاوية عمرو بن العاص بالكوفة، فقال: أعني على الكوفة، قال: كيف بمصر؟ قال: استعمال عليها ابنك عبد الله بن عمرو، قال: فنعم. فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة -وكان معتزلاً بالطائف- فناجاه معاوية. فقال المغيرة: تؤمر عمرًا على الكوفة، وابنه على مصر، وتكون كالقاعد بين لحي الأسد، قال: ما ترى؟ قال: أنا أكفيك الكوفة. قال: فافعل. فقال معاوية لعمرو حين أصبح: إني قد رأيت كذا، ففهم عمرو، فقال: ألا أدلك على أمير الكوفة؟ قال: بلى، قال: المغيرة، واستعن برأيه وقوته عن المكيدة، وأعزله عن المال، قد كان قبلك عمر وعثمان ففعلا ذلك، قال: نعم ما رأيت. فدخل عليه المغيرة، فقال: إني كنت أمرتك على الجند والأرض، ثم ذكرت سنة عمر وعثمان قبلي، قال: قد قبلت. قال الليث: كان المغيرة قد اعتزل، فلما صار الأمر إلى معاوية كاتبة المغيرة.

_ (1) الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة.

عن عبد الملك بن عمير قال: كتب المغيرة إلى معاوية، فذكر فناء عمره، وفناء أهل بيته، وجفوة قريشٍ له. فورد الكتاب على معاوية وزياد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، ولني إجابته، فألقى إليه الكتاب، فكتب: أما ما ذكرت من ذهاب عمرك؛ فإنه لم يأكله غيرك. وأما فناء أهل بيتك، فلو أن أمير المؤمنين قدر أن يقي أحدًا لوقى أهله، وأما جفوة قريش؛ فأنى يكون ذاك وهم أمروك. قال ابن شوذب: أحصن المغيرة أربعًا من بنات أبي سفيان، وكان آخر من تزوج منهن بها عرج. عن أبي السفر؛ قيل للمغيرة: إنك تحابي، قال: إن المعرفة تنفع عند الجمل الصؤول (1)، والكلب العقور (2)، فكيف بالمسلم. عن المغيرة بن شعبة قال: لقد تزوجت سبعين امرأة أو أكثر. ابن المبارك قال: كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة. قال: فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسنات الأخلاق، طويلات الأعناق، ولكني رجل مطلاق، فأنتن الطلاق. حدثنا مالك قال: كان المغيرة نكاحًا للنساء، ويقول: صاحب الواحدة إن مرضت مرض، وإن حاضت حاض، وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا. عن زياد بن علاقة، سمعت جريرًا يقول حين مات المغيرة بن شعبة: أوصيكم بتقوى الله، وأن تسمعوا وتطيعوا حتى يأتيكم أمير، استغفروا للمغيرة غفر الله له، فإنه كان يحب العافية. وفي لفظ أبي عوانة عن زياد: فإنه كان يحب العفو. قال عبد الملك عن عمير: رأيت زيادًا واقفًا على قبر المغيرة يقول:

_ (1) الجمل الصؤول: الذي يأكل راعيه، ويواثب الناس فيأكلهم. (2) الكلب العقور: كل سبع يجرح ويقتل ويفترس.

إن تحت الأحجار حزمًا وعزمًا ... وخصيمًا ألد ذا معلاق حية في الوجار أربد لا ينـ ... ـفع منه السليم نفثه راق (1) وقال الجماعة: مات أمير الكوفة المغيرة في سنة خمسين في شعبان، وله سبعون سنة. انتهى من السير الذهبي. 2227 - * روى أبو داود عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب ضرب ابنًا له تكنى بأبي عيسى، وأن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنا في جلجتنا. فلم يزل يكنى بأبي عبد الله حتى هلك. 2228 - * روى الطبراني عن ابن أبي مرحب قال: نزل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أحدهم عبد الرحمن بن عوف وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أخذت خاتمي فألقيته عمدًا وقلت إن خاتمي سقط من يدي لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون آخر الناس عهدًا به. * * *

_ (1) قال الشيخ شعيب: يقال: رجل معلاق، أي: خصم شديد الخصومة يتعلق بالحجج ويستدركها، والمعلاق: اللسان البليغ، ورواه ابن دريد: ذا مغلاق: قال الزمخشري عن المبرد: من رواه بالعين المهملة، فمعناه، إذا علق خصمًا لم يتخلص منه، وبالغين المعجمة، فتأويله: يغلق الحجة على الخصم، انظر "تاج العروس": علق. والبيتان لمهلهل في رثاء أخيه كليب. والوجار: جحر الضبع والأسد والذئب والثعلب ونحوه، ذلك. والأربد: ما اختلط سواده بكدرة. 2227 - أبو داود (4/ 291) كتاب الأدب، باب فيمن يتكنى بأبي عيسى. بسند حسن. إنا في جلجتنا: إنا بقينا في عدد من أمثالنا من المسلمين، لا ندري ما يصنع بنا، وفي النهاية الجلج: رؤوس الناس، واحدها جلجة. 2228 - المعجم الكبير (9/ 361) وقال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن.

80 - النجاشي رضي الله عنه

80 - النجاشي رضي الله عنه قال الذهبي: النجاشي: واسمه أصحمة ملك الحبشة. معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وكان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر، ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، صاحب من وجه، وقد توفي في حياة النبي، فصلى عليه بالناس صلاة الغائب ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم على غائب سواه، وسبب ذلك أنه مات بين قوم نصارى، ولم يكن عنده من يصلي عليه، لأن الصحابة الذين كانوا مهاجرين عنده خرجوا من عنده مهاجرين إلى المدينة عام خيبر. عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم (1) فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته (2) بطريقًا إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا له هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، وقالا له: إنه قد ضوى (3) إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا (4) وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهم: نعم. ثم إنهما قربا هدايا النجاشي، فقبلها منهم،

_ (1) الأدم: الأدم: جمع أديم وهي الجلود، والأدم: اسم جمع. (2) البطريق: الحاذق بأمور الحرب، كالضابط. (3) ضوى: أوى ولاذ. (4) عينًا: أبصريهم.

ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك إنه ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليه، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك. فأسلمهم إليهما. فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد (1) قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم، فلما جاءهم رسوله، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمتنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما كان. فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟. قالت: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد له أمور الإسلام -فصدقناه وآمنا به واتبعناه، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال: نعم؟ قال: فاقرأه

_ (1) لا أكاد: من المكيدة.

علي، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص}. فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته (1)، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد. فلما خرجا قال عمرو: والله لأنبئه غدًا عيبهم ثم أستأصل خضراءهم (2) فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد. ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل يسألهم. قالت. ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قالوا: نقول والله فيه ما قال الله تعالى كائنًا ما كان. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى؟ فقال له جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا. هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود. فتناخرت (3) بطارقته حوله فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم ثم من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبري ذهبًا وأني آذيت رجلاً منكم والدبر بلسانهم الجبل، ردوا عليهما هداياهما، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في، فأطيعهم فيه. فخرجا مقبوحين، مردودًا عليما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. فوالله إنا على ذلك، إذ نزل به، يعني من ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حربًا قط كان أشد من حربٍ حربناه (4)، تخوفًا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، وسار النجاشي وبينهما عرض النيل. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير: أنا، وكان من أحدث القوم سنًا. فنفخوا

_ (1) أخضل لحيته: بلها بالدموع. (2) استأصل خصراءهم: أي أبيدهم. (3) تناخرت: تكلمت كلام غضب ونفور. (4) وفي المسند: (حزنًا قط أشد من حزن حزناه).

له قربة، فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى مكان الملتقى، وحضر، فدعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوسق (1) له أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة (2). عن عمير بن إسحاق أن جعفرًا قال: يا رسول الله ائذن لي حتى أصير إلى أرضٍ أعبد الله فيها، فأذن له، فأتى النجاشي. فحدثنا عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفرًا آمنًا بها هو وأصحابه حسدته، فأتيت النجاشي، فقلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقتله وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أبدًا ولا أحد من أصحابي. قال: اذهب إليه، فادعه. قلت: إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولاً. فأتيناه وهو بين ظهري أصحابه يحثهم. قال له: أجب. فلما أتينا الباب ناديت: ائذن لعمرو بن العاص، ونادى جعفر: ائذن لحزب الله. فسمع صوته، فأذن له قبلي (3). وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: فارقت ديننا. وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سفنًا، وقال: اركبوا، فإن هزمت، فامضوا، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب، فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. ثم جعله في فبئه، وخرج إلى الحبشة، وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة: ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون فيه؟ قالوا: هو ابن الله، فقال -ووضع يده على صدره على قبائه- هو يشهد أن عيسى، لم يزد على هذا شيئًا، وإنما عني على ما كتب، فرضوا، وانصرفوا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم،

_ (1) استوثق: استقر. (2) ورواه أحمد (1/ 201، 210) وابن هشام وصرح ابن إسحاق بالسماع وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وإسناده قوي. (3) رواه البزار: كشف الأستار (2/ 297) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد مطولاً (6/ 29) وقال: رواه الطبراني والبزار: وعمير بن إسحاق وثقه ابن حبان وغيره، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح. النطفة: الماء القليل والمراد هنا: البحر الأحمر، أي أنهم لا يأتون إليه أبدًا.

فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له. ومن محاسن النجاشي أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي قديمًا، فهاجر بها زوجها، فانملس بها إلى أرض الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إنه أدركه الشقاء فأعجبه دين النصرانية فتنصر، فلم ينشب أن مات بالحبشة، فلما وفت العدة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطبها، فأجابت، فنهض في ذلك النجاشي، وشهد زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها الصداق عن النبي صلى الله عليه وسلم من عنده أربع مئة دينار، فحصل لها شيء لم يحصل لغيرها من أمهات المؤمنين، ثم جهزها النجاشي. وكان الذي وفد على النجاشي بخطبتها عمرو بن أمية الضمري، فيما نقله الواقدي بإسناد مرسل. عن عبد الله بن أبي بكر: كان الذي زوجها، وخطب إليه النجاشي خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وكان عمرها لما قدمت المدينة بضعًا وثلاثين سنة. معمر: عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بالحبشة، زوجه إياها النجاشي، ومهرها أربعة آلاف درهم من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشي (1). فقيل: بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست. وقال خليفة: دخل بها سنة سبع من الهجرة. وأصحمة بالعربي: عطية. ولما توفي، قال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: "إن أخًا لكم قد مات بأرض الحبشة" فخرج بهم إلى الصحراء وصفهم صفوفًا، ثم صلى عليه. فنقل بعض العلماء أن ذلك كان في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. ا. هـ الذهبي.

_ (1) رواه أبو داود (2/ 235) كتاب النكاح، باب الصداق. والنسائي (6/ 119) كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة.

2229 - * روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات. 2230 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مات اليوم بعد لله صالح، أصحمة" فقام فأمنا وصلى عليه. 2231 - * روى البزار والطبراني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي حين نعي، فقيل: يا رسول الله: نصلي على عبدٍ حبشي؟، فأنزل الله عز وجل {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} (1) الآية. 2232 - * روى البزار عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} قال نزلت في النجاشي وأصحابه. أقول: ترجمنا للنجاشي رضي الله عنه لأنه يمثل نموذجًا يحتذى وسابقةً كثر تكرارها في تاريخ الأمة الإسلامية وخاصة في العصور المتأخرة، فهذا حاكم مسلم بشهادة النصوصل يحكم شعبًا غير مسلم وبغير أحكام الإسلام ومع ذلك فبالإجماع إنه من خيار المسلمين، وهذا يدل على أن كفر النظام لا يعني كفر كل مشارك فيه، وهذه القضية من أخطر قضايا عصرنا، فإذا لم نتوسع في الفتوى حيث لا تعسف ولا تكلف فإن مآل الأمة الإسلامية ألا يبقى رجل مسلم في أجهزة الحكم وبالتالي يفقد المسلمون الخدمة والرعاية كما يفقدون قوة التجربة، ولذلك فإننا نعتبر أن أمر المشاركة في الأعمال الحكومية والمؤسسات يخضع للفتوى البصيرة من أهلها.

_ 2229 - البخاري (3/ 116) 23 - كتاب الجنائز -4 - باب الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه. ومسلم (2/ 656) 11 - كتاب الجنائز -22 - باب في التكبير على الجنازة. 2230 - مسلم (2/ 657) في نفس الموضع السابق. 2231 - البزار: كشف الأستار (1/ 392) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 38): رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني ثقات. (1) آل عمران: 119. 2232 - البزار: كشف الأستار (2/ 286). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 419): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عثمان بن بحر وهو ثقة، وقال في التقريب: صدوق يغرب.

كما أن قصة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عند النجاشي وعدم وجود رواية صحيحة تدل على أنهم قاموا بنشاط في الدعوة تعتبر سابقة لأدب اللجوء السياسي الإسلامي فإذا اضطر مسلم للجوء السياسي في بلد آخر فلا عليه أن لا يقوم بنشاط دعوي إذا كان الظرف أو القانون لا يسمحان بذلك، على أن هناك رواية تذكر في أسباب النزول أن جعفرًا أثر على عددٍ من نصارى الحبشة فوفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا. * * *

81 - أسيد بن حضير رضي الله عنه

81 - أسيد بن حضير رضي الله عنه قال ابن حجر: أسيد بن الحضير بن سماك بن عيتك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي .. يكنى أبا يحيى وأبا عتيك، وكان أبوه حضير فارس الأوس ورئيسهم يوم بعاث وكان أسيد من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد النقباء ليلة العقبة وكان إسلامه على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ، واختلف في شهوده بدرًا قال ابن سعد: كان شريفًا كاملاً وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، وكان ممن ثبت يوم أحد وجرح حينئذ سبع جراحات ... عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل كلهم من بني عبد الأشهل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد ابن بشر، وأخرج أحمد في مسنده عن عائشة قالت: كان أسيد بن حضير من أفاضل الناس ... روى ابن السكن من طريق ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما مات أسيد بن حضير باع عمر ماله ثلاث سنين فوفى بها دينه وقال لا أترك بني أخي عالة فرد الأرض وباع ثمرها، وأرخ البغوي وغيره وفاته سنة عشرين وقال المدائني سنة إحدى وعشرين. ا. هـ. وقال الذهبي: الإمام أبو يحيى، وقيل أبو عتيك الأنصاري، الأوسي الأشهلي: أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، أسلم قديمًا، وقال: ما شهد بدرًا، وكان أبوه شريفًا مطاعًا يدعى حضير الكتائب، وكان رئيس الأوس يوم بعاث (1) فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بست سنين، وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي. قال محمد بن سعد: آخى النبي، صلى الله عليه وسلم، بينه وبين زيد بن حارثة، وله رواية

_ (1) بعاث: موضع في نواحي المدينة كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج. وكان على الأوس يومئذ حضير والد الصحابي الجليل المترجم وكان على الخزرج عمر بن النعمان البياضي فقتلا جميعًا.

أحاديث، روت عنه عائشة، وكعب بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يلحقه. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر. نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن حضير". أخرجه الترمذي، وإسناده جيد (1). ابن إسحاق: عن يحيى بن عباد بن عبد الله، عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار من بني عبد الأشهل لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: سعد بن معاذ، وأسيد ابن حضير، وعباد بن بشر رضي الله عنهم (2). وروى أن أسيدًا كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. قال ابن إسحاق: أسيد بن حضير، نقيب لم يشهد بدرًا، يكنى أبا يحيى. ويقال: كان في أسيد مزاح وطيب أخلاق. عن أسيد بن حضير -وكان فيه مزاح- أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بعود كان معه، فقال: أصبرني، فقال: اصطبر، قال: إن عليك قميصًا وليس علي قميص، قال: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، قال: فجعل يقبل كشحه ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله (3). قال يحيى بن بكير: مات أسيد سنة عشرين، وحمله عمر بين العمودين -عمودي السرير- حتى وضعه بالبقيع، ثم صلى عليه. وندم على تخلفه عن بدر، وقال: ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت. وقد جرح يوم أ؛ د سبع جراحات. ا. هـ الذهبي.

_ (1) الترمذي: (5/ 666) 50 - كتاب المناقب، 33 - باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت. والحاكم في المستدرك (3/ 268) وصححه ووافقه الذهبي. (2) رواه الحاكم في المستدرك: (3/ 229) وصححه ووافقه الذهبي. (3) أبو داود (4/ 256) كتاب الأدب، باب في قبلة لجسد. وإسناده قوي. والحاكم في المستدرك (3/ 288) وصححه ووافقه الذهبي. أصبرني: أقدني. واصطبر: استقد. الكشح: ما بين الخاصرة والضلوع.

2233 - * روى الحاكم عن أسيد بن حضير أنه كان تأوه وكان يومنا فصلى بنا قاعدًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله إن أسيدًا إمامنا وإنه مريض وإنه صلى قاعدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "فصلوا وراءه قعودًا فإن الإمام ليؤتم به فإذا صلى قاعدًا فصلوا خلفه قعودًا". 2234 - * روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمةٍ، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد، حتى أتى أهله. وفي رواية (3) قال: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشرٍ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجا في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما ... وذكر نحوه. 2235 - * روى البخاري ومسلم عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عند إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "اقرأ يا ابن حضير، اقرأ باابن حضير" قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: "وتدري ما ذاك" قال: لا، قال "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم". 2236 - * روى البخاري ومسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى

_ 2233 - المستدرك (3/ 289). وصححه ووافقه الذهبي. 2234 - البخاري (1/ 557) 8 - كتاب الصلاة، باب: 79. (3) البخاري (7/ 125) 63 - كتاب مناقب الأنصار -13 - باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر. 2235 - البخاري (9/ 63) 66 - كتاب فضائل القرآن -15 - باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن. ومسلم (1/ 548) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها -26 - باب نزول السكينة لقراءة القرآن. 2236 - البخاري (9/ 57) 66 - كتاب فضائل القرآن -11 - باب فضل الكهف. مسلم (1/ 548) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها -26 - باب نزول السكينة عند قراءة القرآن.

جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن". قال ابن حجر في الفتح: قيل هو أسيد بن حضير ... وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضًا. وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قال "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح؛ قال: "فلعله قرأ سورة البقرة". فسئل قال: قرأت سورة البقرة، ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعًا أو من كل منهما". انتهى من الفتح. * * *

82 - عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه

82 - عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: عمرو بن أم مكتوم القرشي ويقال اسمه عبد الله وعمرو أكثر وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ... ومنهم من قال عمرو بن زائدة لم يذكر قيسًا ومنهم من قال قيس بدل زائدة وقال ابن حبان من قال ابن زائدة نسبة لجده؟ ويقال كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله حكاه ابن حبان، وقال ابن سعد أل المدينة يقولون اسمه عبد الله وأهل العراق يقولون اسمه عمرو، وقال واتفقوا على نسبه وأنه ابن قيس بن زائدة بن الأصم وفي هذا الاتفاق نظر (قلت) [القائل ابن حجر] نسبه كذلك ابن منده وتبعه أبو نعيم وحكي في اسمه أيضًا عبد الله بن عمرو قال وقيل عمرو بن قيس بن شريح ابن مالك. واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بمهملة ونون ساكنة وبعد الكاف مثلثة، ابن عائد بن مخزوم، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين فإن أم خديجة أخت قيس ابن زائدة واسمها فاطمة، أسلم قديمًا بمكة، وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن ياجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وآل وسلم يستخلفه على المدينة في عامة غزواته يصلي بالناس ... وقال ابن عبد البر: روى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة في الأبواء وبواط وذي العشيرة وعزوته في طلب كرز بن جابر وغزوة السويق وغطفان وفي غزوة أحد وحمراء الأسد ونجران وذات الرقاع وفي خروجه في حجة الوداع وفي خروجه إلى بدر ثم استخلف أبا لبابة لمارده من الطريق، قال: وأما رواية قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم فلم يبلغه ما بلغ غيره، ... انتهى، وهو المذكور في سورة عبس وتولى ونزلت فيه غير أولي الضرر لما نزلت (لا يستوي القاعدون) أخرجه البخاري وفي السنن من طريق عاصم بن أبي رزين عن ابن أم مكتوم قال قلت يا رسول الل رجل ضرير ... الحديث في تأكيد الصلاة في الجماعة والله أعلم. ا. هـ إصابة.

وقال في السير: ابن أم مكتوم مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد الل بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العامري. وأما أل العراق، فسمو عمرًا. وأمه أم مكتوم: هي عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة ابن عامر بن مخزوم بن يقظة المخزومية. من السابقين المهاجرين. وكان ضريرًا مؤذنًا لرسول الل صلى الله عليه وسلم مع بلال، وسعد القرظ، وأبي محذورة، مؤذن مكة. هاجر بعد وقعة بدر بيسير، قاله ابن سعد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحترمه، ويستخلفه على المدينة، فيصلي ببقايا الناس. قال الشعبي: استخلف النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم يوم الناس، وكان ضريرًا، وذلك في غزوة تبوك. كذا قال، والمحفوظ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استعمل على المدينة عامين علي بن أبي طالب. عن أبي إسحاق، سمع البراء يقول: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن (1). حدثنا أبو ظلال، قال: كنت عند أنس، فقال: متى ذبت عينك؟ قلت: وأنا صغير. فقال: إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم، فقال: متى ذهب بصرك؟ قال: وأنا غلام، فقال: قال الله تعالى: "إذا أخدت كريمة عبدي لم أجد له جزاء إلا الجنة" (2) قالت عائشة: كان ابن أم مكتوم مؤذنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى (3). وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا

_ (1) رواه ابن سعد (4/ 206) والحاكم في المستدرك (3/ 634) ورجاله ثقات. (2) رواه ابن سعد (4/ 206) والترمذي (4/ 602) 37 - كتاب الزهد -57 - باب ما جاء في ذهاب البصر. وأبو ظلال ضعيف لكن أخرج البخاري عن أنس قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتي فصبر عوضته منهما الجنة". (3) رواه ابن سعد (4/ 207).

حتى ينادي ابن أم مكتومٍ" وكان أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت (1). قال عروة: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، مع رجالٍ من قريش منهم عتبة بن ربيعة، فجاء ابن أم مكتوم يسأل عن شيء، فأعرض عنه، فأنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (2) ا. هـ الذهبي. 2237 - * روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين. وذكر الذهبي (3) عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن عبد الله بن معقل، قال: نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة كانت ترفقه، وتؤذيه في النبي، صلى الله عليه وسلم، فتناولها فضربها، فقتلها، فرفع ذلك إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال هو: أما والله إن كانت لترفقني، ولكن آذتني في الله ورسول. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبعدها الله، قد أبطلت دمها". 2238 - * روى أبو داود عن علي رضي الله عنه. أن يهودية كانت تشتم النبي، صلى الله عليه وسلم، وتقع في. فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمها. 2239 - * روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) فجاءه

_ (1) رواه البخاري (2/ 99) 10 - كتاب الأذن -11 - باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره. ومسلم (3/ 768) 13 - كتاب الصيام -8 - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الشمس. (2) عبس: 1. أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 208) ورجاله ثقات إلا أنه منقطع، وذكره السيوطي في الدر للنثور عن عائشة ونسبه إلى ابن المنذر وابن مردويه. 2237 - أبو داود (3/ 131) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في الضرير يولي وإسناده حسن. (3) ورجاله ثقات. 2238 - أبو داود (4/ 129) كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات. ترفقه: ترفق ب تنفعه. 2239 - البخاري (8/ 259) 65 - كتاب التفسير -18 - باب {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والترمذي (5/ 242) 48 - كتاب تفسير القرآن -5 - باب ومن سورة النساء. والنسائي (6/ 9) كتاب الجهاد، باب فضل المجاهدين على القاعدين. قرض: الرض: شبه الدق والكسر من غير إبانة. (4) النساء: 95.

ابن أم مكتوم -وهو يملها علي فقال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى -فأنزل الل عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفخذه على فخذي- فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وفي رواية أبي داود (1) قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه، فقال لي: "اكتب" فكتبت في كتف: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ...} إلى آخر الآية. فقام ابن أم مكتوم -وكان رجلاً أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه، غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية، كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ يا زيد" فقرأت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...} الآية كلها، قال زيد: أنزلها الله وحدها، فألحقها. والذي نفسي بيده، لكأني انظر إلى ملحقها عند صدع في كتفٍ. 2240 - * روى ابن سعد عن أنس: أن عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية كانت معه راية سوداء، عليه درع له. وأخرج ابن سعد (2) عن أنس: أن عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم، كان يقاتل يوم القادسية وعليه درع له حصينة سابغة. قال الذهبي: ويقال استشهد يوم القادسية. والقادسية ملحمة كبرى تمت بالعراق، وعلى المسلمين سعد بن أبي وقاص، وعلى

_ (1) أبو داود (3/ 11) كتاب الجهاد، باب في الرخصة في القعود من العذر. وإسناده حسن. السكينة من السكون، والمراد بها: ما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم عند الوحي من ذلك. كتف: عظم كنف الشاة العريض. 2240 - الطبقات الكبرى (4/ 212) سابغة: تغطي الجسم والأطراف. (2) الطبقات الكبرى (4/ 212).

المشركين رستم، وذو الحاجب، والجالينوس. قال أبو وائل: كان المسلمون أزيد من سبعة آلاف، وكان العدو أربعين وقيل: ستين ألفًا معهم سبعون فيلاً. قال المدائني: اقتتلوا ثلاثة أيام في آخر شوال سنة خمس عشرة، فقتل رستم وانهزموا. ا. هـ. [ويقال: الأصح أن المسلمين كانوا نحوًا من ثلاثين ألفًا وأن الفرس كانوا نحوًا من مائة وثلاثين ألفًا]. * * *

83 - أسعد بن زرارة رضي الله عنه

83 - أسعد بن زرارة رضي الله عنه قال ابن حجر في الإصابة: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك ابن النجار أبو أمامة الأنصاري الخزرجي النجاري ... قديم الإسلام شهد العقبتين وكان نقيبًا على قبيلته ولم يكن في النقباء أصغر سنًا منه ويقال إنه أول من بايع ليلة العقبة. قال ابن إسحاق: إن أسعد إنما أسلم في العقبة الأولى مع النفر الستة الله أعلم، ووهم ابن منده فقال: كان لي بني ساعدة. وقيل إنه أول من بايع ليلة العقبة. وقال ابن إسحاق شهد العقبة الأولى والثانية والثالثة. وذكر ابن إسحاق إنه مات والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبني المسجد ... قال البغوي بلغني أنه أول من مات من الصحابة بعد الهجرة وأنه أول ميت صلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الحاكم بسنده عن زينب بنت نبيط أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلى أمها وخالتها رعاثا (1) من تبر وذهب فيه لؤلؤ، وكان أبوهما أسعد بن زرارة أوصى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل قال دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أسعد بن زرارة وكان أحد النقباء ليلة العقبة وقد أخذته الشوكة (2) فكواه ... الحديث، وكذلك رواه الحاكم من طريق يونس عن الزري (قلت) [القائل ابن حجر] هذا هو المحفوظ ورواه عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن أنس أخرجه الحاكم أيضًا وهي شاذة، ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة وهي شاذة أيضًا، ورواه زمعة بن صالح عن الزري عن أبي أمامة بن سهل عن أبي أمامة أسعد بن زرارة، وهذا موافق لرواية عبد الرزاق لأنه لم يرد بقوله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة الرواية وإنما أراد أن يقول عن قصة أسعد بن زرارة والله أعلم، وقد اتفق أهل المغازي والتواريخ على أنه مات في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدر ا. هـ ابن حجر.

_ (1) رعاثا: أقراط. (2) الشوكة: مرض وهو حمرة تعلوا الوجه والجسد.

قال في السير: السيد نقيب بني النجار، أبو أمامة الأنصاري الخزرجي، من كبراء الصحابة. توفي شهيدًا بالذبحة (1). قال أبو العباس الدغولي: قيل: إنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل العقبة الأولى بسنة مع خمسة نفر من الخزرج، فآمنوا ب. فلما قدموا المدينة تكلموا بالإسلام في قومهم، فلما كان العام المقبل، خرج منهم اثنا عشر رجلاً، فهي العقبة الأولى، فانصرفوا معهم، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، مصعب بن عمير يقرئهم ويفقههم. قال ابن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين عمي، فإذا خرجت به إلى الجمعة. فسمع الأذان، صلى على أبي أمامة، واستغفر له. فقلت: يا أبة أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: أي بني كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة يقال له: نقيع الخضمات قلت: فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً. فكان أسعد مقدم النقباء الاثني عشر، فو نقيب بني النجار، وأسيد بن الحضير نقيب بني عبد الأشهل، وأبو الهيثم بن التيهان البلوي من حلفاء بني عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة الأوسي أحد بني غنم بن سلم، وسعد بن الربيع الخزرجي الحارثي قتل يوم أحد، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الحارثي قتل يوم مؤتة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر السلمي نقيب بني سلمة [استشهد في أحد] وسعد بن عبادة بن دليم الخزرجي الساعدي رئيس، نقيب، والمنذر بن عمرو الساعدي النقيب قتل يوم بئر معونة، والبراء بن معرور الخزرجي السلمي، وعبادة بن الصامت الخزرجي من القوافلة ورافع بن مالك الخزرجي الزرقي رضي الله عنهم (2).

_ (1) الذبحة: وجع الحلق، أو داء يأخذ الحلق وربما قتل. (2) وروى أبو داود بعضه (1/ 280) كتاب الصلاة، باب الجمعة في القرى. والحاكم في المستدرك (1/ 281) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 176) وسنده حسن وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. الهزم: ما اطأن من الأرض. النبيت: بطن من الأنصار. النقيع: بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة، فإذا نضب الماء أبنت الكلا، الخصمات الخضمات: قرية قرب المدينة. القوقل: اسم أبي بطن من الأنصار، لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب، قال له: قوقل في هذا الجبل=

وروى شعبة: عن محمد بن عبد الرحمن، أن جده أسعد بن زرارة أصابه وجع الذبح في حلقه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لأبلغن أو لأبلين في أبي أمامة عذرًا" فكواه بيده فمات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ميتة سوء لليهود يقولون: هلا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ولا لنفسي من الله شيئًا". ا. هـ (1). 2241 - * روى أحمد وابن سعد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن بعض أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: كوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد أو سعد بن زرارة مرتين في حلق من الذبحة. وقال: "لا أدع في نفسي من حرجًا". أقول: لله الحكمة البالغة فقد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة للناس جميعًا، ومن هذه الحادثة نأخذ درسًا أن الطبيب غير مسؤول عما يحدث بسبب طبه ما دام الطبيب قد طبب في حدود المعروف، ومن الحكم في هذه الحادثة أن يستقر في قلوب الخلق جميعًا معنى التوحيد الذي يدخل فيه أن الله وحده هو الذي يملك الضر والنفع وأنه حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرًا ولا نفعًا إلا بإذن الله، وقد غلب على كثير من المسلمين وهم أن من تتلمذ على بعض الصالحين فإنه لا يصيبه ضر وأن الصلاح لا يرافق ابتلاء وهذا يتناقض مع نصوص كثيرة. والأمر لله من قبل ومن بعد. قال الذهبي: عن عائشة قالت: نقب النبي صلى الله عليه وسلم أسعد على النقباء. وعن أم خارجة: أخبرتني النوار أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، يصلي بالناس الصلوات الخمس، يجمع بهم في مسجد بناه. قالت: فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم صلى في ذلك المسجد وبناه، فو مسجده اليوم (2).

_ = وقد أمنت. أي: ارتق، وهم القواقل. ونقل الزبيدي عن ابن هشام في سبب تسميتهم بذلك، أنهم كانوا إذا أجاروا أحدًا أعطوه سهمًا وقالوا: قوقل به حيث شئت، أي: سر به حيث شئت. (1) ورواه ابن ماجه (2/ 1155) 31 - كتاب الطب -24 - باب من اكتوى. وإسناده صحيح. ميتة سوء لليهود: فتنة لليهود حيث قالوا ما قالوا. 2241 - أحمد في مسند (4/ 65) و (5/ 378) والطبقات الكبرى (3/ 610). (2) ابن سعد (3/ 309).

الثوري: عن أبي الزبير، عن جابر قال: كواه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أكحله مرتين (1). وقيل: كواه فحجر (2) به حلقه يعني بالكي. وقيل: أوصى أسعد ببناته إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكن ثلاثًا. فكن في عيال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدرن معه في بيوت نسائه، وهن: فريعة، وكبشة، وحبيبة. فقدم عليه حلي فيه ذهب ولؤلؤ، فحلاهن منه (3). وقيل: إنه مات في السنة الأولى من الهجرة، رضي الله عنه، وقد مات فيها ثلاثة أنفس من كبراء الجاهلية، ومشيخة قريش: العاص بن وائل السهمي والد عمرو، والوليد ابن المغيرة المخزومي، والد خالد، وأبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي، ا. هـ الذهبي. * * *

_ (1) ابن سعد (3/ 610) الأكحل: عرق وسط الذراع يقصد. (2) حجر: يقال حجر عين البعير: إذا وسم حولها بمبسم مستدير. (3) ابن سعد (3/ 610).

84 - أبو دجانة سماك بن خرشة الخزرجي رضي الله عنه

84 - أبو دجانة سماك بن خرشة الخزرجي رضي الله عنه قال ابن حجر: أبو دجانة الأنصاري اسمه سماك بن خرشة وقيل ابن أوس بن خرشة ... متفق على شهود بدرًا وقال علي إنه استشهد باليمامة وأسند ابن إسحاق من طريق يزيد بن السكن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التحم القتال ذب عنه مصعب بن عمير يعني يوم أحد حتى قتل، وأبو دجانة سماك بن خرشة حتى كثرت فيه الجراحة، وقيل أنه ممن شارك في قتل مسيلمة، وثبت ذكره في الصحيح لمسلم ا. هـ. وقال الذهبي: أبو دجانة الأنصاري: سماك بن خرشة بن لوذان بن عبد ود بن زيد الساعدي. كان يوم أحد عليه عصابة حمراء، يقال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان. وقيل: هو سماك بن أوس بن خرشة. وقال زيد بن أسلم: دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل. فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا (1). وعن أنس بن مالك قال: رمى أبو دجانة بنفسه يوم اليمامة إلى داخل الحديقة، فانكسرت رجله، فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل رضي الله عنه. وكان سيف أبي دجانة غير دميم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض ذلك السيف حتى قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجم الناس عنه. فقال أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: تقاتل به في سبيل الل حتى يفتح الله عليك أو تقتل. فأخذه بذلك الشرط. فلما كان قبل الهزيمة يوم أحد خرج بسيفه مصلتًا وهو يتبختر، ما عليه إلا قميص وعمامة حمراء قد عصب بها رأسه، وإنه ليرتجز ويقول: إني امرؤ عاهدني خليلي ... إذ نحن بالسفح لدى النخيل

_ (1) ابن سعد (3/ 557).

أن لا أقيم الدهر في الكبول ... أضرب بسيف الله والرسول قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموطن" ا. هـ. 2242 - * روى مسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ سيفًا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا؟ " فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا. قال: "فمن يأخذه بحقه؟ " قال: فأحجم القوم. فقال سماك بن خرشة، أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. * * *

_ 2242 - مسلم (4/ 1917) 44 - كتاب فضائل الصحابة -35 - باب من فضائل أبي دجانة. أحجم: تأخر وكف. فلق هام المشركين: شق رؤوسهم.

85 - أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما

85 - أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قال ابن حجر: أسماء والدة عبد الله بن الزبير بن العوام التيمية، وهي بنت أبي بكر الصديق وأمها قتلة أو قتيلة بنت عبد العزى قرشية من بني عامر بن لؤي ... أسلمت قديمًا بمكة قال ابن إسحاق بعد سبعة عشر نفسًا وتزوجها الزبير بن العوام. وأخرج ابن سعد بسند حسن عن ابن أبي مليكة كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفر الل أكثر، وقال هشام بن عروة عن أبيه بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها ا. هـ ابن حجر. وقال الذهبي: أم عبد الله القرشية التيمية، المكية، ثم المدينة. والدة الخليفة عبد الله ابن الزبير، وأخت أم المؤمنين عائشة، وآخر المهاجرات وفاة روت عدة أحاديث. وعمرت دهرًا. وتعرف بذات النطاقين. وكانت أسن من عائشة ببضع عشرة سنة. هاجرت حاملاً بعبد الله. وقيل: لم يسقط لها سن وشهدت اليرموك مع زوجها الزبير. وهي، وأبوها، وجدها، وابنها ابن الزبير، أربعتهم صحابيون. ا. هـ. 2243 - * روى أحمد عن مسلم القري، قال: دخلنا على أم ابن الزبير، فإذا هي امرأة ضخمة عمياء -نسألها عن متعة الحج. قد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. 2244 - * روى البخاري عن هشام بن عروة، عن أبيه، وفاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي حين أراد أن يهاجر؛ فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما، فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي، قال: شقيه باثنين، فاربطي بهما؛ قال: فلذلك سميت: ذات النطاقين. 2245 - * روى البخاري عن وهب بن كيسان رحمه الله قال: كان أهل الشام يعيرون

_ 2243 - أحمد في مسنده (6/ 348) وإسناده صحيح. 2244 - البخاري (7/ 240) 63 - كتاب مناقب الأنصار -45 - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. 2245 - البخاري (9/ 530) 70 - كتاب الأطعمة -8 - باب الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة.

ابن الزبير، يقولون: يا ابن ذات النطاقين، فقالت له أسماء: يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين، وهل تدري ما كان النطاقان إنما كان نطاقي شققته نصفين، فأوكيت قربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدهما، وجعلت في سفرته آخر، فكان ابن الزبير إذا عيروه بالنطاقين يقول: إيها والإله: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. 2246 - * روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكرٍ. قالت: تزوجني الزبير وماله في الأرض من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن. ولم أكن أحسن أخبز. وكان يخبز لي جارات من الأنصار. وكن نسوة صدقٍ. قالت: وكنت أنقل النوى، من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رأسي وهي على ثلثي فرسخ قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي. فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه. فدعاني ثم قال "إخ! إخ" ليحملني خلفه. قالت:

_ = ذات النطاقين: النطاق: ما تشد به المرأة وسطها عند معاناة الأشغال لترفع به ثوبها. فأوكيت: أوكيت الوعاء: إذا شددته. أيها: زجر: ونهي (إيه) بمعنى الاستزادة، فكأنه قال: زيدوني من قولكم هذا، فإنه مما يزيدني فخرًا وشرفًا، أو أنه وجر عما بنوا عليه قولهم من إرادة عيبيه وذمه، فقال: كفوا عن جهلكم. الإله: قم، أي: والله إن الأمر كما تزعمون، أو أن استعطاف، كما تقول: بالله أخبرني، لما تريد أن تستعلمه منه. شكاة: الشكاة: الذم والعيب. ظاهر عندك عارها: بعيد عنك، مجاوز لك، والبيت لأبي ذؤيب الهذلي، وأوله: وغيرها الواشون: أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وذا البيت من قصيدة أولها: هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها أبي القلب إلا أم عمرو فأصبحت ... تحرق ناري بالشكاة ونارها 2246 - البخاي (9/ 319) 67 - كتاب النكاه -107 - باب الغيرة. ومسلم (4/ 1716) 39 - كتاب السلام -14 - باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق. ناضح: الناضح: البعير يستقى عليه الماء والنوى: عجم التمر كانوا يدقونه ويعلفون دوابهم. غربة: الغرب، الدلو، يعني أنها كانت تخرز له دلوه وراويته.

فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ، بَعْدَ ذَلِكَ، بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ. فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي. وفي رواية لمسلم (1) عن أسْمَاءَ قاَلَتْ: كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ. وَكَانَ لَهُ فرَسٌ. وكُنْتُ أَسُوسُهُ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدِمَةِ شَيءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِياسَةِ الفَرَسِ. كُنْتُ أَحْتَشُّ لَهُ عَليْه وَأَسوُسُه. قاَلَ ثُمَّ إنَّها أصاَبَت خَادما. جاءَ النَّبي (ص) سَبْي فَأَعطَاهَا خَادِماً. قَالت: كَفَتْني سِيَاسَةَ الفرَسِ. فَألْقَت عَني مؤنتهُ. فَجَاءَبي رجل فَقَالَ: ياأُمَّ عبدِ الله: إني رَجُلٌ فَقِير. أَردتُ أَّن أبيِع فِي ظِل دَارِكِ. قَالتْ: إني إنْ رَخَّصْتُ لكَ أبى ذَاكَ الزُّبَيْرُ. فَتَعَالَ فَاطْلبْ إلىَّ، والزَبيْر شاهِدٌ. فجَاءَ فَقاَلَ: يااُّم عبدِ اللهِ! إني رجلٌ فَقِير أردتُ أَن أبيع فىِ ظِل دارِكِ. فَقاَلت: مالَك بِالمدينَةِ إلا دَارِي؟ فَقاَلَ لَهَا الزبَيْرُ: ماَلَكِ أنْ تَمْنعي رجُلاّ فَقِيرا يبيعُ؟ فكان يبيع إلى أنْ كَسَبَ. فَبِعْتُه الجَارِيَةَ. فَدَخَلَ عَلَيَّ الزُّبيرُ وَثَمنهُا في حِجري. فَقَالَ: هَبيهِا لِي قَالتْ: إني قدْ تَصَدقْتُ بِها. قال الذهبي: عن أسماء، قالت: لما توجه النبيُّ من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - جدّي أبو قُحافة وقد عّمي، فقال: إن هذا قد فجعكم بمالِهِ ونفسه. فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيراً كثيراً. فعمدتُ إلى أحجارٍ، فجعَلْتُهنَّ فى كَوَّة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده، ووضعتها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا. فقال: أمَا إذْ ترك لكَم هذا، فنعم (2). قال ابنُ أبي مليكة: كانت أساء تصدع، فتضعُ يدها على رأسها، وتقول: بذنبي، وما يغفرهُ الله أكثر. وفي "الصحيح": قالت أسماءُ: يا رسولَ الله، إنَّ اُّمي قَدِمتْ، وهي راغب [أي فى

_ (1) مسلم (4/ 1717) في نفس الموضع السابق. (2) رواه ابن هشام (1/ 448) عن ابن إسحاق وإسناده صحيح.

الصلة وهي مشركة]، أفأصلها؟ قال: "نعم، صلي أمك" (1). عن محمد بن المنكدر، قال: كانت أسماء بنت أبي بكر سخية النفس. عن القاسم بن محمد: سمعت ابن الزبير يقول: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء؛ وجودهما مختلف: أما عائشة، فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء، فكانت لا تدخر شيئًا لغد. قال عروة: دخلت أنا وأخي، قبل أن يقتل، على أمنا بشعر ليال، وهي وجعة، فقال عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة. قال: إن في الموت لعافية. قالت: لعلك تشتهي موتي؛ فلا تفعل، وضحكت، وقالت: والله، ما أشتهي أن أموت، حتى تأتي على أحد طرفيك: إما أن تقتل فاحتسبك؛ وإما أن تظفر فتقر عيني. إياك أن تعرض على خطة فلا توافق، فتقبلها كراهية الموت. قال: وإنما عني أخي أن يقتل: فيحزنها ذلك. وكانت بنت مئة سنة. قال مصعب بن سعد: فرض عمر للمهاجرات: ألفا ألفًا، منهن: أم عبد، وأسماء (2). عن فاطمة بنت المنذر: أن أسماء كانت تمرض المرضة، فتعيق كل مملوك لها (3). ا. هـ الذهبي. 2247 - * روى الحاكم عن أسماء: أنها اتخذت خنجرًا في زمن سعيد بن العاص في الفتنة فوضعته تحت مرفقيها، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ قالت: إن دخل علي لص بعجت بطنه، وكانت عمياء. وروى ابن سعد (5): أن أسماء اتخذت خنجرًا زمن سعيد بن العاص

_ (1) رواه البخاي (10/ 413) 87 - كتاب الأدب -7 - باب صلة الوالد المشرك. ومسلم (2/ 696) 12 - كتاب الزكاة -14 - باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين. (2) ابن سعد (8/ 253). (3) ابن سعد (8/ 251). 2247 - المستدرك (4/ 66). (5) ابن سعد (8/ 252). استعر: كثر.

للصوص، وكانوا قد استعروا بالمدينة، فكانت تجعله تحت رأسها. 2248 - * روى مسلم عن أبي نوفل بن أبي عقرب من حديث مطول، في: أن الحجاج لما قتل ابن الزبير وصلبه ثم أنزل عن جذعه، وألقاه في قبور اليهود، أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت: وقالت: والله لاآتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فانطلق حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنيا، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين! أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر من الدواب. وأما الآخر فنطاق المأرة التي لا تستغني عن. أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا "أن في ثقيف كذابًا ومبيرًا" فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. قال فقام عنها ولم يراجعها. قال الذهبي عن ابن أبي مليكة، قال: دخلت على أسماء بعد ما أصيب ابن الزبير، فقالت: بلغني أن هذا صلب عبد الل: اللهم لا تمتني حتى أوتي ب، فأحنطه وأكفنه. فأتيت به بعد، فجعلت تحنطه بيدها، وتكفنه، بعد ما ذهب بصرها. ومن وجه آخر -عن ابن أبي مليكة-: وصلت عليه؛ وما أتت عليه جمعة إلا ماتت. عن الركين بن الربيع، قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر، وقد كبرت، وهي تصلي، وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي، من الكبر. قال ابن سعد: ماتت بعد ابنها بليال. وكان قتله لسبع عشر خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين. قلت [القائل الذهبي]: كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات. * * *

_ 2248 - مسلم (4/ 1971) 44 - كتاب فضائل الصحابة -58 - باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها.

86 - أم حرام رضي الله عنها

86 - أم حرامٍ رضي الله عنها قال الذهبي: أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. الأنصارية النجارية المدنية. أخت أم سليم. وخالة أنس بن مالك. وزوجة عبادة بن الصامت. حديثها في جميع الدواوين: سوى جامع أبي عيسى. [الترمذي] كانت من علية النساء. عن أنس، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما هو إلا أنا وأمي وخالتي أم حرام، فقال: "قوموا فلأصل بكم" فصلى بنا في غير صلاة (1). قلت [القائل الذهبي]: يقال هذه غزوة قبرس في خلافة عثمان. [قبرس: هي الجزيرة المعروفة اليوم باسم قبرص، وكان أمير ذلك الجيش معاوية بن أبي سفيان ومعه أبو ذر وأبو الدرداء، وغيرهما من الصحابة وذلك سنة سبع وعشرين. وبلغني أن قبرها تزوره الفرنج. ا. هـ الذهبي. 2249 - * روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة" قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، ثم وضع رأسه، فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله" كما قال في الأولى. قالت: فقلت: يا رسول

_ (1) رواه مسلم (1/ 457) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة -48 - باب جواز الجماعة في النافلة. 2249 - البخاري (12/ 391) 91 - كتاب التعبير -12 - باب رؤيا النهار. ومسلم (3/ 1518) 33 - كتاب الإدارة -49 - باب فضل الغزو في البحر.

الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين" فركبت أم حرام بن ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت. قال النووي: اتفق العلماء أن أم حرام بنت ملحان كانت محرمًا له صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون كانت خالته لأبيه أو لجده لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار ا. هـ. وقد ذكر ابن حجر أنها كانت خالته. * * *

87 - أم سليم رضي الله عنها

87 - أمُّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها قال ابن حجر: أم سليم بنت سليمان بن خالد بن زد بن حرام بن جندب الأنصارية، وهي أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اشتهرت بكنيتها واختلف في اسمها فقيل سهلة وقيل رميلة وقيل رمينة وقيل مليكة وقيل الغميصاء أو الرميصاء، تزوجت مالك بن النض في الجاهلية فولدت أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها، فتزوجت بعده أبا طلحة ... وكانت أم سليم تقول لا أتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس، فيقول جزى الله أمي عني خيرا لقد أحسنت ولايتي، فقال لها أبو طلحة فقد جلس أنس وتكلم فتزوجها ... وفي الصحيح عن أنس أن أم سليم لما قدم النبي صل الله عليه وآله وسلم قالت: يا رسول الله هذا أنس يخدمك وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... وذكر أبو عمر نسبها من كتاب ابن السكن بحروفه ولكن قال اسم أمها مليكة والذي في كتاب ابن السكن اسم أمها أنيقة نبه عليه ابن فتحون، وكأن أبا عمر أخذه عن ابن سعد وإنه جزم بأن أمها مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة. وقال الذهبي: مات زوجها مالك بن النضر، ثم تزوحها أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له: أبا عمير، وعبد الله. شهدت: حنينا، وأحدا. من أفاضل النساء. قال محمد بن سيرين: كانت ام سليم مع النبي (ص) يوم أحد، ومعها خنجر (1). عن أنس: أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر! فقالت: يا رسول الله، إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه (2).

_ (1) ورواه ابن سعد (8/ 425). (2) ورواه ابن سعد (8/ 425) وإسناده صحيح.

عن إسحاق بن عبد الله، عن جدته أم سليم: أنها آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فجاء أبو أنس، وكان غائباً، فقال أصبوت؟ فقالت: ما صبوت، ولكني آمنت!. وجعلت تُلقن أنساً: قل: لا إله إلا الله، قل: أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ففعل. فيقول لها أبوه: لا تفسدي عليَّ ابني. فتقول إني لا أفسده! فخرج مالك، فلقيه عدوٌ له، فقتله. فقالت: لا جرمَ، لا أفطم أنساً حتى يدع الثَّدي؛ ولا أتزوج حتى يأمرني أنس. فخطبها أبو طلحة، وهو يومئذٍ مُشرك (1) ا. هـ الذهبي. 2250 - * روى النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام. أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما. 2251 - * روى ابن سعد عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم، فتتحفه بالشيء تصنعه له، وأخٌ لي أصغر مني يُكنى أبا عُمير، فزارنا يوماً، فقال: مالي أرى أبا عمير خاثر النفس؟ قالت: ماتت صعوةٌ [له كان يلعب بها]. فجعل النبيُّ يمسح رأسه، ويقول: "يا أبا عمير، ما فعل النُغير؟ ". 2252 - * روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل في المدينة بيت امرأة، غير بيت أم سُليمٍ، إلا على أزواجه، فقيل له، فقال: "إني أرحمها، قُتل معي أخوها".

_ (1) ورواه ابن سعد (8/ 25) وتمامه: فقالت له يوماً فيما تقول: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك أو خشبة تأتي بها النجار، فينجرها لك: هل يضرك؟ هل ينفعك؟ قال: فوقع في قلبه الذي قالت، قال: فأتاها فقال: لقد وقع في قلبي الذي قلت، وآمن، قالت: فإني أتزوجك ولا آخذ منك صداقاً غيره. 2250 - النسائي (6/ 114) كتاب النكاح، باب التزويج على الإسلام. 2251 - الطبقات الكبرى (8/ 427) وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري مختصراً (60/ 526) 78 - كتاب الأدب -81 - باب الانبساط إلى الناس. الصعوة: طائر أصغر من العصفور: النُغير: تصغير نُغُر، وهو فرخ العصفور. 2252 - البخاري (6/ 50) 56 - كتاب الجهاد، 78 - باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير.

وفي رواية (1): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحدٍ من النساء إلا على أزواجه، إلا أم سليمٍ، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك، فقال: "أرحمها، قُتِلَ معي أخوها". وأم سليم: هي أم أنس بن مالك، ولعله أراد: على الدوام، فإنه كان يدخل على أم حرام، وهي خالة أنس. قد سبق القول إن أم حرام خالته صلى الله عليه وسلم، وأم سليم أختها فهي محرم ودخوله صلى الله عليه وسلم صلة رحم. 2253 - * روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُني دخلت الجنة، فسمعت خشفةً، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة". 2254 - * روى ابن سعد عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، وقربةً مُعلقةٌ، فشرب منها قائماً، فقامت إلى فيَّ السقاء، فقطعته. وفي الباب ما يقويه عن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قِربة معلقة قائماً، فقمت إلى فيها فقطعته (2). قال النووي في (رياضه): (وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبرك به، وتصونه عن الابتذال).

_ (1) مسلم (4/ 1908) 44 - كتاب فضائل الصحابة -19 - باب من فضائل أم سليم. 2253 - البخاري (7/ 40) 62 - كتاب فضائل الصحابة -6 - باب مناقب عمر بن الخطاب. ومسلم (4/ 1908) 44 - كتاب فضائل الصحابة -19 - باب من فضائل أم سليم أم أنس بن مالك لكن عن أنس. الخشفة: الحس والحركة، وقيل هو الصوت ليس بالشديد، ومعنى الحديث هنا: ما يسمع من حس وقع القدم. 2254 - الطبقات الكبرى (8/ 428). (2) الترمذي (4/ 306) 37 - كتاب الأشربة -18 - باب ما جاء في الرخصة في ذلك. وابن ماجه (2/ 1132) -2 - كتاب الأشربة -21 - باب الشرب قائماً وإسناده صحيح.

2255 - * روى ابن سعيد عن أم سليم، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقيلُ في بيتي، فكنت أبسطُ له نِطعاً، فيقيلُ عليه، فيعرقُ، فكنتُ آخذ سكاً فأعجنه بعرقه. وأخرج بنحوه البخاري ومسلم عن أنس (1). وزاد ابن سعد في طبقاته: قال ابن سيرين: فاستوهبتُ من أم سُليم من ذلك السُّك، فوهبت لي منه. قال أيوب: فاستوهبتُ من محمد [هو ابن سيرين] من ذلك السُّكِّ، فوهب لي منه؛ فإنه عندي الآن. قال: ولما مات محمد حُنِّط بذلك السُّكِّ. قال أنس: ثَقُلَ ابنٌ لأم سليم، فخرج أبو طلحة إلى المسجد، فتوفي الغلام. فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبره. فرجع، وقد سَيَّرت له عشاءه، فتعشى، ثم أصاب من أهله. فلما كان من آخر الليل، قالت: يا أبا طلحة، ألم تر آل أبي فلان استعاروا عارية، فمنعُوها، وطُلبت منهم، فشق عليهم. فقال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك كان عاريةً من الله، فقبضه. فاسترجع، وحمد الله. فلما أصبح غداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه، قال: "بارَك اللهُ لكُما في ليلتكما". فحملت بعبد الله بن أبي طلحة، فولدت ليلاً، فأرسلت به معي، وأخذتُ تمرات عجوة، فانتهيتُ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يهنأ أباعر له، ويَسِمُها، فقلتُ: يا رسول الله، ولدت أم سليم الليلة. فمضغ بعض التمرات بريقه، فأوجره (2) إياه، فتلمظ الصبي، فقال: "حِبُّ الأنصار

_ 2255 - الطبقات الكبرى (8/ 428). (1) البخاري (11/ 70) 79 - كتاب الاستئذان -41 - باب من زار قوماً فقال عندهم. ومسلم (4/ 1816) 43 - كتاب الفضائل -22 - باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به. يقيل: قال يقيل من القيلولة: وهي النوم في الظهيرة عند اشتداد الحر. السُّك: نوع من الطيب. (2) أوجره: وضعها في فيه بشيء من الكلفة.

التمر" فقلت: سَمِّه يا رسول الله. قال: "هو عبد الله" (1). سعيد بن مسروق الثوري، عن عباية بن رفاعة، قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة. فذكر نحوه. وفيه: فقال رسول الله: "اللهم بارك لهما في ليلتهما". قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين، كلهم قد ختم القرآن (2). عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحلق رأسه بمنى، أخذ أبو طلحة شِق شعره، فجاء به إلى أم سليم، فكانت تجعله في سكها. قالت: وكان يقيلُ عندي على نِطعٍ، وكان مِعراقاً (3) صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسلتُ العرق في قارورة. فاستيقظ، فقال: "ما تجعلين"؟ قلت: أريد أن أدُوف (4) بعرقك طيبي (5). عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، فأتته بسمن وتمر. فقال: إني صائم. ثم قام، فصلَّى، ودعا لأم سليم ولأهل بيتها، فقالت: إن لي خُوَيْصَةً (6) قال: "ما هي"؟ قالت: خادمُك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دُنيا إلا دعا لي به، وبعثت معي بمكتلٍ من رُطبٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) أ. هـ ابن سعد. * * *

_ (1) البخاري (9/ 587) 71 - كتاب العقيقة -1 - باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه. ومسلم (4/ 1909) 44 - كتاب فضائل الصحابة- 20 - باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه. (2) رواه ابن سعد (8/ 434) ورجاله ثقات. (3) المعراق: كثير العرق. (4) أدوف: أخلط. (5) رواه أحمد في مسنده (2/ 287) وابن سعد (8/ 428). (6) خويصة: قال الحافظ: بتشديد الصاد وتخفيفها تصغير خاصة. وهو ما اغتُفِر فيه التقاء الساكنين. (7) ورواه البخاري (4/ 228) 30 - كتاب الصوم -61 - باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم.

88 - هند بنت عتبة رضي الله عنها

88 - هند بنت عتبة رضي الله عنها قال ابن حجر في الإصابة: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية ابن أبي سفيان. أخبارها قبل الإسلام مشهورة، وشهدت أحداً، وفعلت ما فعلت بحمزة ثم كانت تؤلب على المسلمين، إلى أن جاء الله بالفتح فأسلم زوجها ثم أسلمت هي يوم الفتح، وقصتها في قولها عند بيعة النساء وأن لا يسرقن ولا يزنين فقالت وهل تزني الحرة، وعند قوله {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً مشهورة، ومن طرقه ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح مرسل عن الشعبي وعن ميمون بن مهران، ففي رواية الشعبي: ولا يزنين، قالت هند: وهل تزني الحرة ولا تقتلن أولادكن قالت: أنت قتلتهم، وفي رواية نحوه لكن قالت: وهل تركت لنا ولداً يوم بدر وسؤالها عن أخذها من مال زوجها بغير إذنه ما يكفيها وهل عليها فيه من حرج مخرج في الصحيحين، وفيه خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك، وهو من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وشذ عبد الله بن محمد بن عروة فقال عن هشام عن أبيه عن هند، أخرجه ابن منده وأوله قالت هند: إني أريد أن أبايع محمداً، قال قد رأيتك تكفرين، قالت: أي والله والله ما رأيت الله تعالى عبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليل والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً قال: فإنك قد فعلت ما فعلت فاذهبي برجل من قومك معك فذهبت إلى عمر، فذهب معها فاستأذن لها فدخلت وهي متنقبة، فذكر قصة البيعة وفيه ما قدمته، وفيه فقالت: إن أبا سفيان رجل بخيل ولا يعطيني ما يكفيني إلا ما أخذت منه من غير علمه ... الحديث، وفيه عن مرسل الشعبي المذكور قالت هند: قد كنت أفنيت من مال أبي سفيان، فقال أبو سفيان: ما أخذت من مالي فهو حلال، وقال ابن سعد: قال الواقدي: لما أسلمت هند جعلت تضرب صنماً لها في بيتها بالقدوم حتى فلذته فلذة فلذة، وتقول: كنا معك في غرور. قال أبو عمر: ماتت في خلافة عمر بعد أبي بكر بقليل في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة كذا قال، وقد ذكر صاحب الأمثال ما يدل على أنها بقتي إلى خلافة عثمان بل بعد ذلك لأن أبا سفيان مات في خلافة عثمان بلا خلاف، وقال هذا

قال رجل لمعاوية زوجني هنداً إنها قعدت عن الولد ولا حاجة إلى الزواج قال فولني ناحية كذا فأنشد معاوية: طلب الأبيض العقوق فلما ... أعجزته أراد بيض الأنوقِ (1) يعني أنه طلب مالاً يصل إليه فلما عجز عنه طلب أبعد منه. ثم رأيت في طبقات ابن سعد الجزم بأنها ماتت في خلافة عثمان أ. هـ. عن الإصابة. 2256 - * روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هندُ بنت عتبة، فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض من أهلِ خباءٍ أحبُّ إليَّ من أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهلُ خباءٍ أحبَ إليَّ من أن يعزوا من أهل خبائك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيضاً، والذي نفسي بيده" ثم قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ مسيك، فهل عليَّ حرج أن أُطعِم من الذي له عيالنا؟ قال: "لا حرج عليك أن تنفقي عليهم". أقول: ترجمنا لهند بنت عتبة كنموذج على امرأة ذات شخصية قوية هائلة فعلت الأفاعيل ضد الإسلام والمسلمين، وحرضت بأقصى ما تستطيع على حرب الإسلام والمسلمين، وكان في قلبها إحن ولها ثارات، ومع ذلك كله فقد أسلمت وقُبِلَ إسلامها. فهذا درس للدعاة إلى الله ألا ييئسوا من إنسان ما دام على قيد الحياة. وعليهم أن يعرفوا أنهم بقدر ما يحققون للإسلام من انتصارات تتغير القلوب وتتبدل المواقف. وإن إسلامها ليدل على أكثر من دلالة، منها: أن أعظم الشخصيات تذوب في النهاية

_ (1) الأنوق: جمع ناقة. 2256 - البخاري (7/ 141) 63 - كتاب مناقب الأنصار -33 - باب ذكر هند بنت عتبة. مسلم (4/ 1909) 30 - كتاب الإقضية -4 - باب قضية هند. مَسيك: رجل ميسك: بوزن شريف، إذا كان بخيلاً شديداً يمسك مآله، ومِسّيك، بالكسر والتشديد: المبالغ في البخل.

أمام قوة شخصية رسول الله وتستلم له. وأن هذا الإسلام من العظمة بحيث يصهر أقوى الشخصيات فيه، وهذا درس آخر يأخذه الدعاة. أن الإسلام كما أنه يحمل في أحقيته قوة انتصاره فإنه يحتاج إلى شخصيات ذات كفاءة عالية تستطيع أن تكسب ثقة الآخرين فيسلموا للقيادة وللإسلام. ثم إن هناك درساً آخر للدعاة وهي أن استجابة الناس للإسلام أقوى عندهم من الثأر والغضب للذات والقبيلة، فهذه هند التي بقرت بطن حمزة ولاكَت كبده قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحالات النادرة التي أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها دم بعض الناس كانت لأن هؤلاء ارتكبوا جرائم في حق الدعوة تقتضي العقاب. ومع ذلك فإن من أسلم منهم قد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِلَ إسلامهم. * * *

89 - نسيبة بنت كعب رضي الله عنها

89 - نسيبةُ بنتُ كعب رضي الله عنها قال ابن حجر في الإصابة: نَسيبة بفتح النون أيضاً بنت كعب بن عمرو بن عوف بن عمرو بن مبدول بن عمرو ابن غَنْم بن مازن بن النجار الأنصارية أم عُمارة مشهورة بكنيتها واسمها معاً .. قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وغيره عنه في بيعة العقبة الثانية، وكان من بني الخزرج اثنان وستون رجلاً وامرأتان فيزعمون أن امرأتين بايعتا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن فإذا أقررن قال اذهبن، والمرأتان هما من بني مازن بن النجار، نَسيبة وأختها ابنتا كعب فساق النسب، قال: وكان معها زوجها زيد بن عاصم وابناها منه حبيب الذي قتله مسيلمة بعد وعبد الله وهو راوي حديث الوضوء ... (قلت): [أي ابن حجر]: ذكر ابن هشام في زياداته من طريق أم سعد بنت سعد ابن الربيع قال: دخلت على أم عمارة فقلت يا خالة أخبريني؟ فقالت: خرجت يعني يوم أحد ومعي سقاء وفيه ماء فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكنت أباشر القتال وأذب عنهمن بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليَّ فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقتل: من أصابك بهذا؟ قلت ابن قمئة. قال أبو عمر وشهدت بيعة الرضوان ثم شهدت اليمامة فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحاً وروت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الصائم إذا أكل عنده صلت عليه الملائكة أ. هـ من الإصابة. وقال الذهبي في السير: أم عُمارة نَسيبةُ بنتُ كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجيةُ النجاريةُ المازنيةُ المدنيةُ.

كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين. وكان أخوها عبد الرحمن، من البكائين (1). شهدت أم عمارة ليلة العقبة، وشهدت أُحداً، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة. وجاهدت، وفعلت الأفاعيل. روي لها أحاديث. وقُطعت يدُها في الجهاد. خرجت تسقي، ومعها شنٍّ (2)، وقاتلت، وأبلت بلاءً حسناً. وجُرحت اثني عشر جرحاً. وكان ضمرةُ بن سعيد المازني يحدثُ عن جدته، وكانت قد شهدت أُحداً، قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لمقامُ نسيبةُ بنتِ كعبٍ اليوم خيرٌ من مقام فلان وفلان". وكانت تراها يومئذٍ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جُرحاً؛ وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يرضبها على عاتقها. وكان أعظم جراحها، فداوته سنةً. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد (3). فشدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم. رضي الله عنها ورحمها. وعن موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أُتي عُمر بن الخطاب بُمروط (4) فيها مِرط جيدٌ؛ فبعث به إلى أم عُمارة. وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جُرحت أم عمارة بأُحد اثني عشر جرحاً، وقُطعت يدها يوم اليمامة؛ وجُرحت يوم اليمامة سوى يدها أحد عشر جرحاً. فقدمت المدينة وبها الجراحة، فلقد رئي أبو بكر رضي الله عنه، وهو خليفة، يأتيها يسأل عنها.

_ (1) البكائين: أي من الذين يكثرون البكاء من خشية الله. (2) الشن: القربة الخلق. (3) حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا حليفة. (4) المرط: كساء من خز أو صوف أو كتان.

وابنها حبيبُ بن زيد بن عاصم هو الذي قطعه مُسيلمة وابنها الآخر عبد الله بن زيد المازني، الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُتل يوم الحرة؛ وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب بسيفه أ. هـ من السير. قال محقق السير: الحرة: كل أرض ذات حجارة سود، وأكثر الحرار حول مدينة الرسول. والحرة المرادة هنا حرة واقم، وهي الشرقية من حرتي المدينة كانت فيها الوقعة فنسب إليها. وسببها: أن أكابر أهل المدينة نقضوا بيعة يزيد بن معاوية وخرجوا عليه لسوء سيرته، فجهز لحربهم جيشاً عليه مسلم ابن عُقبة المري، فالتقوا بظاهر المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 63 هـ. وانهزم أهل المدينة، وقتل جهراً ظلماً في الحرب وصبراً أفاضل المسلمين وبقية الصحابة، وخيار المسلمين من جلة التابعين أ. هـ. قال الذهبي: انفرد أبو أحمد الحاكم، وابن منده بأنه شهد بدراً. قال ابن عبد البر: بل شهد أُحداً قلت [أي الذهبي]: نعم الصحيح أنه لم يشهد بدراً. والله أعلم أ. هـ. * * *

90 - أم أيمن بركة بنت ثعلبة رضي الله عنها

90 - أم أيمن بركة بنت ثعلبة رضي الله عنها قال ابن حجر في الإصابة: أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاضنته .. قال أبو عمر اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان وكان يقال لها أم الظباء. وقال ابن أبي خيثمة حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: أم أيمن اسمها بركة وكانت لأم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أم أيمن أمي بعد أمي، وقال أبو نعيم، قيل كانت لأخت خديجة فوهبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال ابن سعد قالوا: كان ورثها عن أمه فأعتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أيمن ح ين تزوج خديجة، وتزوج عبيد بن زيد من بني الحارث بن الخزرج أم أيمن فولدت له أيمن فصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد يوم خيبر، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة ... وقال ابن سعد: أخبرنا أبو أمامة عن جرير بن حازم سمعت عثمان بن القاسم يقول لما هاجرت أم أيمن أمست بالنصر ودون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة فأجهدها العطش فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فأخذته فشربته حتى رويت، فكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت وأخرجه ابن السكن من طريق هشام بن حسان عن عثمان بنحوه وقال في روايته: خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد، وقال فيه: فلما غابت الشمس إذ أنا بإناء معلق عند رأسي، وقالت فيه: ولقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار ثم أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعد. أخبرنا عبد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن سفيان بن عيينة قال: كانت أم أيمن تُلْطف (1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم عليه فقال: "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج

_ (1) تُلطف: تهدي له ما يحب.

أم أيمن" فتزوجها زيد بن حارثة ... وأخرج البخاري في تاريخه ومسلم وابن السكن من طريق الزهري قال: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت من الحبشة فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر ثم أنكحها زيد بن حارثة .. لفظ ابن السكن أ. هـ الإصابة. وقال الذهبي في السير: أم أيمن الحبشية، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاضنتهُ. ورثها من أبيه، ثم أعتقها عندما تزوج بخديجة. وكانت من المهاجرات الأول. اسمها: بركة. وقد تزوجها عبيد بن الحارث الخزرجي، فولدت له: أيمن. ولأيمن هجرةٌ وجهادٌ، استُشهد يوم حنين. ثم تزوجها زيد بن حارثة ليالي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له أسامة بن زيد، حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أ. هـ. 2257 - * روى ابن سعد عن أنس: إن الرجل كان يجعلُ للنبي صلى الله عليه وسلم من ماله النخلات، حتى فُتحت قُريظة والنضيرُ، فجعل يرد. وإن أهلي أمرتني أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان النبي أعطى ذاك أم أيمن، فسألته فأعطانيهن. فجاءت أم أيمن، فجعلت الثوب في عنقي، وجعلت تقول: كلا والله لا يعطيكهن، وقد أعطانيهن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لك كذا" وتقول: كلا والله. أو كالذي قالت. ويقول: لك كذا، الذي أعطاها، حسبت أنه قال: عشرة أمثاله، أو قريباً من عشرة أمثاله، أو كما قال. 2258 - * روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن، فانطلقت معه فناولته إناءٌ فيه شرابٌ، قال: فلا أدري أصادفته صائماً، أو لم يُرده، فجعلت تصخبُ عليه، وتذمر عليه.

_ 2257 - الطبقات الكبرى (8/ 225) وإسناده صحيح. وروى البخاري ومسلم نحوه. 2258 - مسلم (2/ 1907) 44 - كتاب فضائل الصحابة -18 - باب من فضائل أم أيمن. يصخب: الصخبُ: الضجة والغلبة والجلبة، أراد: أنها تصيح عليه. وتذمر الذامر: الغاضب، وذمرت أُذمر: إذا غضبت وتهددت.

قال النووي: أي: تصيح وترفع صوتها، إنكاراً لإمساكه عن شرب الشراب الذي قدمته و (تذمر) هو بفتح التاء والذال المعجمة والميم، أي: تتذمر، وتتكلم بالغضب، يقال: ذمر يذمر، كقتل يقتل: إذا غضب وإذا تكلم بالغضب، ومعنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد الشراب عليها، إما لصيام وإما لغيره، فغضبت وتكلمت بالإنكار والغضب، وكانت تدل عليه صلى الله عليه وسلم، لكونها حضنته وربته. قال الطبراني: أم أيمن أم أسامة بن زيد مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لأخت خديجة فوهبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحها زيد بن حارثة ويقال اسمها بركة. وعن ابن عباس قال: أم أيمن هي أم أسامة بن زيد (1). 2259 - * روى ابن سعد عن حرملة مولى أسامة بن زيد: أنه بينا هو جالس مع ابن عمر، إذ دخل الحجاج بن أيمن، فصلى صلاةً لم يُتم ركوعها ولا سجودها. فدعاه ابنُ عمر، وقال: أتحسب أنك قد صليت؟ إنك لم تصل، فعد لصلاتك فلما ولى! قال ابن عمر: من هذا؟ فقلت: الحجاج بن أيمن بن أم أيمن فقال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأحبه. 2260 - * روى مسلم عن أنس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء. وفي رواية (2) عن أنس: أن أم أيمن بكت حين مات النبي صلى الله عليه وسلم. قيل لها: أتبكين؟ قالت: والله، لقد علمتُ أنه سيموت؛ ولكني إنما أبكي على الوحي إذا اقنطع عنا من السماء.

_ (1) المعجم الكبير (9/ 258) وإسناده حسن. 2259 - الطبقات الكبرى (8/ 225) ورجاله ثقات. 2260 - مسلم (4/ 1907) 44 - كتاب فضائل الصحابة -18 - باب من فضائل أم أيمن. (2) ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 226) وإسناده صحيح.

قال الذهبي: وروى قيسٌ بن مسلم، عن طارق قال: لما قُتل عمر، بكت أم أيمن، وقالت: اليوم وهي الإسلام. وبكت حين قُبض النبي. قال الواقدي: ماتت في خلافة عُثمان أ. هـ. وذكر الحاكم عن مصعب بن عبد الله قال: توفيت أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاضنته في أول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. * * *

91 - أم عطية الأنصارية رضي الله عنها

91 - أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قال ابن حجر في الإصابة: أم عطية الأنصارية اسمها نُسيبة بنون وسين مهملة وباء موحدة مصغرة وقيل بفتح النون وكسر السين معروفة باسمها وكنيتها وهي بنت الحارث .. وقيل بنت كعب وأنكره أبو عمر ... دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها فقال: "هل عندكم من شيء؟ " قالت: إلا شيء بعثت به إلينا نُسيبة من الشاة التي بعثت إليها من الصدقة قال: "إنها قد بلغت محلها" ... وفي الصحيح عن حفصة بنت سيرين بن أم عطية قدمت البصرة فنزلت قصر بني خلف أ. هـ. من الإصابة. قال الذهبي في السير: أم عطية الأنصارية من فُقهاء الصحابة. لها عدة أحاديث. وهي التي غسَّلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب. حديثها مخرّج في الكُتب الستة. أ. هـ. 2261 - * روى البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: نُهينا عن اتباع الجنازة ولم يُعزم علينا. قال الشيخ شعيب: (ولم يعزم علينا) أي لم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم. ومال مالك إلى الجواز، وهو قول أهل المدينة. ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عمر امرأة، فصاح بها، فقال: دعها يا عمر ... " وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى، ورجاله ثقات كما قال البوصيري وابن حجر.

_ 2261 - البخاري (2/ 144) 23 - كتاب الجنائز -29 - باب اتباع النسائ الجنائز. ومسلم (2/ 646) 11 - كتاب الجنائز -11 - باب نهي النساء عن اتباع الجنائز.

2262 - * روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزواتٍ، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.

_ 2262 - مسلم (3/ 1447) 33 - كتاب الجهاد والسير -48 - باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب.

92 - أم سليط رضي الله عنها

92 - أم سَلِيط رضي الله عنها قال ابن حجر: أم سليط .. قال أبو عمر من المبايعات حضرت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد قال عمر بن الخطاب كانت ممن يزفر لنا القرب يوم أحد (قلت) ثبت ذكرها في صحيح البخاري عن عمر، كناها عمر بابنها سليط بن أبي سليط بن أبي حارثة وهي أم قيس بنت عبيد ذكر ذلك ابن سعد ... ثم ذكر أنها تزوجت بعد أبي سليط مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري فولدت أبا سعيد فهو أخو سليط بن أبي سليط لأمه أ. هـ الإصابة. 2263 - * روى البخاري عن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مُروطاً بين نساء من نساء المدينة، فبقي مِرطٌ جيدٌ فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك -يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أم سليطٍ أحق. وأم سليطٍ من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فإنها كانت تزفِرُ لنا القِرَب يوم أحدٍ. قال الشيخ شعيب: [أم سليط] هي والدة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كانت زوجاً لأبي سليط بن أبي حارثة عمرو بن قيس من بني عدي بن النجار، فولدت له سليطاً قبل الهجرة فتزوجها مالك بن سنان الخدري، فولدت أبا سعيد الخدري. ويقال لها: أم قيس، وهي بنت عبيد بن زياد بن ثعلبة من بني مازن. * * *

_ 2263 - البخاري (7/ 366) 64 - كتاب المغازي -22 - باب ذكر أم سليط. و (6/ 79) 56 - كتاب الجهاد -66 - باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو. مُروطاً: المروط جمع مرط، وهو كساءٌ من خز أو صوف يؤتزرُ به. تزفر: زَفر الحمل يزفره: إذا حمله.

93 - بريرة مولاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

93 - بريرة مولاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 2264 - * روى مسلم عن عروة؛ أن عائشة أخبرته؛ أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها. ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً. فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك. فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي، فعلت. فذكرت ذلك بريرة لأهلها. فأبوا. وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل. ويكون لنا ولاؤك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابتاعي فأعتقي. فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أناسٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله، فليس له، وإن شرط مائة مرةٍ. شرط الله أحق وأوثق". وفي رواية (1) عن عائشة. قالت: دخلت عليَّ بريرةُ فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواقٍ في تسع سنين. في كل سنةٍ أوقيةً فأعينيني. فقلت لها: إن شاء أهلُكِ أن أعدها لهم عدةً واحدةً، وأعتقك، ويكون الولاء لي؛ فعلت. فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فأتتني فذكرت ذلك. قالت: فانتهرتها. فقالت: لاها الله إذا.

_ 2264 - مسلم (2/ 1141) 20 - كتاب العتق -2 - باب إنما الولاء لمن أعتق. أقضي عنك كتابتك: أي أؤدي عنك جميع ما عليك من بدل الكتابة. إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل: أي إن أرادت الثواب عند الله وأن لا يكون لها ولاء، فلتفعل. ما بال أناس: أي ما شأنهم. يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله: أي ليست في حكمه ولا على موجب قضاء كتابه. لأن كتاب الله أمر بطاعة الرسول، وأعلم أن سنته بيان له. وقد جعل الرسول الولاء لمن أعتق، لا أن الولاء مذكور في القرآن نصاً. (1) مسلم في نفس الموضع السابق. كاتبوني: الكتابة أن يكاتب عبده على مال يؤديه إليه منجماً. فإذا أداه صار حراً. وسميت كتابة لمصدر كتب، كأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه. ويكتب مولاه له عليه العتق. وقد كاتبه مكاتبة. والعبد مكاتب وإنما خص العبد بالمفعول لأن أصل المكاتبة من المولى، وهو الذي يكاتب عبده. أن أعدها لهم عدة واحدة: أي أعطيها لهم جملة حاضرة. لاها الله إذا: وفي بعض النسخ: لاهاء الله إذا. قال المازري وغيره من أهل العربية: هذان لحنان. وصوابه لاها الله ذا. بالقصر في ها وحذف الألف من إذا. قالوا ومعناه: ذا يميني. ومعناه: لا والله هذا ما أقسم به. فأدخل اسم الله تعالى بين ها وذا.

قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسألني فأخبرته فقال "اشتريها وأعتقيها. واشترطي لهم الولاء. فإن الولاء لمن أعتق" ففعلت. قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: "أما بعد. فما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرطٍ. كتابُ الله أحق. وشرط الله أوثق. ما بال رجالٍ منكم يقول أحدهم: أعتقُ فلاناً والولاء لي. إنما الولاء لمن أعتق". وعن جرير زاد (1): قال: وكان زوجها عبداً. فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها. ولو كان حراً لم يخيرها. وليس في حديثهم: (أما بعد). 2265 - * روى مسلم عن عائشة. قالت: كان في بريرة ثلاث قضياتٍ: أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "اشتريها وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق" قالت: وعتقت. فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاختارت نفسها. قالت: وكان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هو عليها صدقة. وهو لكم هديةً فكلوه". 2266 - * روى ابن سعد عن ابن سيرين: أن رسول الله خيْر بريرة. فكلمها فيه. فقالت: يا رسول الله، أشي واجب؟ قال: "لا إنما أشفعُ له". 2267 - * روى البخاري عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته" قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع" قالت: فلا حاجة لي فيه.

_ (1) مسلم في نفس الموضع السابق. 2265 - مسلم (2/ 1143) 2 - كتاب العتق -2 - باب إنما الولاء لمن أعتق. 2266 - الطبقات الكبرى (8/ 259) ورجاله ثقات لكنه مرسل. 2267 - البخاري (9/ 408) 68 - كتاب الطلاق 16 - باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.

أقول: في قصة بريرة عِبرٌ كثيرة منها: إن الإسلام رفع من مكانة المرأة حتى جعل امرأة كبريرة ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دامت غير ملزمة. كما أن في قصة زوجها معها والسكوت على تصرفاته دليلاً على أن الإسلام قد راعى العواطف الشريفة الجائزة ما لم يكن إثم، ومن ذلك عاطفة الحب والتعبير العفيف عنها. * * *

94 - الربيع بنت معوذ رضي الله عنها

94 - الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قال الذهبي في السير: الربيع بنت مُعوذ بن عفراء الأنصارية من بني النجار. لها صحبةٌ ورواية، وقد زارها النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عُرسها صلة لرحمها. عمرت دهراً، وروت أحاديث. وأبوها من كبار البدريين، قتل أبا جهلٍ. تُوفيت في خلافة عبد الملك سنة بضع وسبعين رضي الله عنها، وحديثها في الكتب الستة. والربيع: هي والدة محمد بن إياس بن البُكير أ. هـ. 2268 - * روى البخاري عن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُبيع بنت معوّذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني؛ فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين". قوله صلى الله عليه وسلم: (دعي هذه): قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: وإنما أنكر عليها صلى الله عليه وسلم وصفها له بعلم الغيب، لأنه صفة تختص بالله سبحانه وتعالى كما قال جل شأنه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر به من الغيوب إنما هو بإعلام الله تعالى إياه، لا أنه يستقل بعلم ذلك قال سبحانه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. 2269 - * روى أحمد والطبراني عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: بعثني معوذ بن

_ 2268 - البخاري (9/ 202) 67 - كتاب النكاح -48 - باب ضرب الدفوف في النكاح والولية. 2269 - أحمد في مسنده (6/ 259) والمعجم الكبير (24/ 274) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 13): رواه الطبراني واللفظ له وأحمد بنحوه. وزاد: فقال تحلي بهذا، وإسنادهما حسن.

عفراء بصاع من رطب عليه آخر من ثقاء زغب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القثاء، وكانت حلية قد قدمت من البحرين فملأ يده منها فأعطانيها. وفي رواية فأعطاني ملء كفي حلياً أو ذهباً. 2270 - * روى البخاري عن الربيع بنت معوذٍ رضي الله عنها قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة. * * *

_ 2270 - البخاري (6/ 80) 56 - كتاب الجهاد -68 - باب رد النساء الجرحى والقتلى.

95 - أسماء بنت عميس رضي الله عنها

95 - أسماء بنت عُميْس رضي الله عنها قال في الإصابة: أسماء بنت عميس بن معد بوزن سعد أوله ميم قيده ابن حبيب [وقيل معبد] .. ووقع في الاستيعاب معد بفتح العين وتعقب ابن الحارث بن تيم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن غانم بن معاوية بن زيد الخثعمية وقيل عميس هو ابن النعمان ابن كعب والباقي سواء. كانت أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمها وأخت جماعة والصحابيات لأب أو أم أو لأب وأم يقال إن عدتهن تسع وقيل عشر لأم وست لأم وأب واسمها خولة بنت عوف بن زهير ووقع عند أبي عمر هند بدل خولة ... تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر وذكر ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج أبا بكر أسماء بنت عميس يوم حنين، أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة وهو مرسل جيد الإسناد .. وكان عمر يسألها عن تفسير المنام ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره ووقع في البخاري في باب هجرة الحبشة من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه وأسماء فذكر حديثاً وأسماء هي صاحبة هذه الترجمة ويقال إنها لما بلغها قتل ولدها محمد بمصر قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها حتى شخب ثدَّياها دماً. أ. هـ الإصابة. وقال الذهبي في السير: أسماء بنت عميس بن معبد، بن الحارث الخثعمية أم عبد الله من المهاجرات الأول قيل: أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم. وهاجر بها زوجها جعفر الاطيار إلى الحبشة. فولدت له هناك: عبد الله، ومحمداً، وعوناً. فلما هاجرت معه إلى المدينة سنة سبع، واستشهد يوم مؤتة، تزوج بها أبو بكر الصديق: فولدت له: مُحمداً، وقت الإحرام، فحجت حجة الوداع، ثم توفي الصديق فغسلته (1) وتزوج بها علي بن أبي طالب أ. هـ من السير.

_ (1) رواه ابن سعد (8/ 282).

2271 - * روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر؛ أن أسماء بنت عميسٍ غسَّلت أبا بكرٍ الصديق، حين توفي. ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين. فقالت: إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد، فهل عليَّ من غُسلٍ؟ فقالوا: لا. روى عبد الرزاق (1) عن ابن أبي مليكة: أن امرأة أبي بكر غ سلته حين توفي. أوصي بذلك. 2272 - * روى ابن سعد عن الشعبي، قال: قدمت أسماء من الحبشة، فقال لها عُمر: يا حبشية، سبقناكم بالهجرة. فقالت: لعمري، لقد صدقت: كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم، ويُعلم جاهلكم؛ وكنا البُعداء الطرداء. أما والله لأذكرن ذلك لرسول الله. فأتته. فقال: "للناس هجرةٌ واحدةٌ، ولكم هجرتان". 2273 - * روى ابن سعد عن عامر، قال: قالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله، إن هؤلاء يزعمون أنَّا لسنا من المهاجرين. قال: "كذب من يقول ذلك، لكم الهجرة مرتين: هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ". عن الشعبي قال: أول من أشار بنعش المرأة -يعني المكبة- أسماء، رأت النصارى يصنعونه بالحبشة (2).

_ 2271 - الموطأ (1/ 223) 16 - كتاب الجنائز -1 - باب غسل الميت. (1) المصنف (3/ 408) حديث: 6117. 2272 - الطبقات الكبرى (8/ 28) وأخرجه البخاري ومسلم بأطول منه. البخاري (7/ 484) 64 - كتاب المغازي -48 - باب غزوة خيبر. ومسلم (4/ 1946) 44 - كتاب فضائل الصحابة -41 - باب من فضائل جعفر ابن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم. 2273 - الطبقات الكبرى (8/ 281). (2) رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 381).

2274 - * روى مسلم عن جابر بن عبد الله في حديث طويل وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي. قال الذهبي في السير عن قيس، قال: دخلتُ مع أبي بكر -رضي الله عنه- وكان أبيض، خفيف اللحم، فرأيتُ يدي أسماء موشوموة تذبُّ عن أبي بكر. قال سعد بن إبراهيم قاضي المدينة: أوصى أبو بكر أن تُغسله أسماء قال قتادة: فغسلته بنت عميس، امرأته (1). وقيل: عزم عليها لما أفطرت، وقال: هو أقوى لك. فذكرت يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثاً (2). مالك، عن عبد الله بن أبي بكر: أن أسماء غسَّلت أبا بكر؛ فسألت من حضر من المهاجرين، وقالت: إني صائمة، وهذا يوم شديدُ البرد، فهل عليُّ من غُسل؟ فقالوا: لا (3). روى أبو إسحاق، عن مصعب بن سعد: أن عمر فرض الأعطية؛ ففرض لأسماء بنت عُميس ألف درهم (4). زكريا بن أبي زائدة: سمعتُ عامراً يقول: تزوج عليّ أسماء بنت عُميس، فتفاخر ابناها: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، فقال كل منهما: أنا أكرم منك، وأبي خيرٌ من أبيك.

_ 2274 - مسلم (2/ 887) 15 - كتاب الحج -19 - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة. (1) رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 283). (2) رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 284). (3) ورواه مالك في الموطأ (1/ 223) 16 - كتاب الجنائز 1 - باب غسل الميت. (4) ابن سعد (8/ 284).

قال: فقال لها عليٌّ، اقضي بينهما. قالت: ما رأيت شاباً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلاً خيراً من أبي بكر. فقال عليٌّ: ما تركت لنا شيئاً، ولو قُلت غير الذي قلت لمقتك. قالت: إن ثلاثة أنت أخسُّهم خيار. عاشت بعد علي. أ. هـ من السير. (1) * * *

_ (1) ابن سعد (8/ 285).

تعليقات على هذا الباب

تعليقات على هذا الباب 1 - دأب بعض الكاتبين أن يغفلوا الجانب السلبي في علاقات الصحابة بعضهم ببعض، ودأب بعضهم ممن في قلوبهم زيغ يضخمون هذه السلبيات كذباً وزوراً، وليس هذا صحيحاً، ولا هذا، فإغفال الجوانب السلبية يصور الصحابة وكأنهم معصومون وليس كذلك، ثم إن هذا يعمق معنى المثالية عند القراء فيستغربون بسبب ذلك ما يصادفهم من وقائع حياتية تجري بين المسلمين عامة وبين الدعاة خاصة، وأما الذين يضخمون السلبيات فهؤلاء كاذبون أولاً ثم هم يريدون أن يطعنوا في الرسالة ثانياً، فالسلبيات في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة وعارضة ثم إنهم يفيئون لأول تذكير ولولا كمالهم ما حسبت عليهم. 2 - لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً قوياً في كل شيء، ولعل هذا هو سر الكثير مما حدث فيما بينهم فهذا الجيل العاشق للحق الوقاف عنده كان منصهراً في بوتقة واحدة زمن الرسالة، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح للاجتهادمحل، وفي جو الاجتهاد وشدة الشكيمة وقوة الوقوف مع الحق يكون ما يكون، ومن عرف هذا أدرك أن الكثير مما وقع بين الصحابة كان ميزة لهذا الجيل على أن هذا مما يذكر في معرض الدفاع وفي معرض تقرير الحكمة، وإلا فما حدث بين الصحابة رضي الله عنهم من أمور ينبغي أن تؤخذ منه العبرة، فالكمال هو ما كان زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر من وحدة المسلمين والتفافهم حول قيادتهم. 3 - لم يصل جيل من الأجيال في تاريخ البشرية إلى ما وصل إليه هذا الجيل من تضحيات في سبيل الحق الخالص ومن تفاعل مع هذا الحق ومن ارتقاء فيه، هناك من يضحي ولكن من أجل الباطل، وهناك من يعمل لحق ولكن أفعاله تناقض أقواله، لكن هذا الجيل أصاب الحق وتفاعل معه وانسجم مع ضميره وذاته وكل ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم. تأمل في عدد الشهداء من هذا الجيل وتأمل مَنْ مِنْ هذا الجيل لم يُبتل بالنفس أو المال أو الأهل أو بذلك كله، ثم لاحظ تلك الاندفاعية من المركز أو الثورة الضوئية نحو هذا العالم لترى شيئاً عجباً تعرف به وبغيره أن هذا الجيل لم يُسبق ولن يُلحق.

خاتمة القسم الأول

خاتمة القسم الأول لقد عرضنا لك في هذا القسم ستة أبواب في السيرة النبوية كل منها يأخذ بحجز الآخر، وكلها يدل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن رأى محمداً قبل النبوة وعرف ما أكرم به ورأى المقدمات التي مهدت لبعثته علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رأى قيامه بالدعوة واستمراره فيها قبل استقراره في المدينة عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رأى قيامه بدين الله في المدينة المنورة وما فعله عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رأى معجزاته وصفاته والدوائر المحيطة به عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كله يوصلنا للتعرف على رسالته التي مضمونها الكتاب والسنة، وها نحن نبدأ في عرض المضمون من خلال نصوص السنة مبتدئين بعرض العقائد وهي مضمون القسم الثاني من هذا الكتاب. ومن عرف العقائد التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاه ذلك دليلاً على صحة رسالته، ومن عرف عبادات الإسلام ونظام الحياة في الإسلام ونظام الحكم في الإسلام ورحمة الإسلام في المستضعفين عرف صحة رسالته عليه الصلاة والسلام. والأقسام التالية تتحدث عن هذا كله، وقسم العقائد مقدم على غيره. * * *

§1/1