الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة

محمد كامل الفقي

المجلد الأول

المجلد الأول أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة ... أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة: لماذا اخترت هذا الموضوع، واتجهت هذه الوجهة؟ ولماذا آثرته بالدرس، وخصصته بالعناية؟ سؤال لابد أن يثور في النفس، ويجول في القلب، ويخطر بالبال، ويتردد عند القارئ والكاتب على السواء. لقد وقفت طويلًا بين مختلف الموضوعات، ومتنوع البحوث، وعرضت على الفكر, ووضعت في ميزان الترجيح والاختيار كثيرًا من المسائل التي يصح أن يعالجها الباحث، ويصول في جانبها وأرجائها الكاتب، فلم أجد موضوعًا أكثر جِدَّةً, وأجمل طرافة, وأخلق بالدرس، وأحق بالاستقصاء، وأجدر بالاحتفال, من هذا الموضوع الذي عنيت بالكتابة فيه. وطالما حاول العارفون أن يثنوا عزيمتي، ويطامنوا من نشاطي، ويفُلُّوا من رغبتي، ولعلهم أشفقوا عليّ من هذا البحث المتشعب الأطراف، الشاسع الأرجاء، المتوعِّر المسالك، الذي يضني القوي ويفني الجهود، وخاصةً أنه ليست له مراجع محدودة, ولا مصادر معلومة، يمكن أن يفيء إليها الإنسان، ويستمد منها آراءه وأفكاره. بيد أني لم أستمع لنصحٍ، ولم أحفل بإشفاقٍ؛ لأني أردت بهذا البحث أن يكون تحيةً خالصةً صادقةً للأزهر في عيده الألفيّ، ويسعدني أن أنوب عن الأمة في هذه التحية، وكل جهد في ذلك قليل، وكل عناء في ذلك سائغ وحبيب. وكان من واجب الأزهريين أن يحتفلوا بالعيد الألفيّ لهذا المعهد الخالد من يوم أن أشرفت هذه الألف على التمام، وكان من واجب الأمة أن تنهض

بهذا الاحتفال تخليدًا لذكرى هذه الجامعة العظيمة, وتمجيدًا للتراث الأدبيّ والعلميّ الذي أثمرته هذه المواهب الخصبة، وتلك القرائح الطيبة, ولكن العزائم انتكثت، والقوى تخاذلت. وإنَّ ما يبعث الأسى في النفوس أن يقوم كل يوم احتفالٍ بالمهزولين من الرجال, يزعم أنهم عظماء ومفكرون وقادة وأبطال، ثم لا يكون لأدباء الأزهر وعلمائه وعظمائه في عشرة قرون من هذه العناية نصيب. ولقد قلت لنفسي إذ رأيت دار العلوم تكرِّم نفسها بمضيِّ خمسين عامًا على إنشائها، ومدرسة المنصورة الابتدائية حيث تحفل بعيدها المئويّ. قلت لنفسي إذ رايت ذلك: أكان الأزهر أهون من هاتين شأنًا وأقل خطرًا، أم أن العزائم إذا انحلَّت أغضت على كل واجب، واستهانت بكل عظيم. وأردت كذلك أن يكون هذا البحث آيةَ وفاءٍ لمعهدٍ حرس الدين, واحتضن اللغة ما أربى على الف عام، ثم لم يجد إلّا عقوقًا وجحودًا، ولم يصادف إلّا كفرانًا وكنودًا، حتى رتع الناس في ربيعة, ثم انقلبوا عليه، وتفيأوا ظلاله, ثم رجعوا سهامًا تُصَوَّبُ إليه. وأحببت أن يعرف الذين حيل بينهم وبين العرفان أعمدة الدولة التي بناها الأزهر، وأصول النهضة التي غرسها ودعمها، في وقت كانت الأمة فيه ترزح تحت أعباءٍ مرهقة من أوزار الماضي وسيئاته. وأقبح شيء بالإنسان أن يستمتع بنعيمٍ لم يعرف مصدره, وأن يغرق في سعادة لم يشكر صاحبها. ولو أن الأمة تلفتت لفتة سريعة إلى الوراء؛ لآمنت بأن الأزهر بعثها بعد رقدةٍ، وأيقظها إثرَ غفوةٍ، وأنه أخذ بيدها إلى قمة العظمة في كل ميدان، فقد كان العامل الأهم في نضجها السياسيّ، وفي تفتحها العلميّ، وفي نهوضها الأدبيّ، وفي وثوبها الفكريّ. ومن كان في شكٍّ من ذلك, فليقرأ هذا البحث

ليرى جهاد الأزهر وعمله وآثاره التي نُقِشَت على صفحة الزمان. ومع العصبية القوية التي تثور في نفس الإنسان، وتتملكه لمعهده الذي ارتضع لبانه، واغتذى بثقافه. ومع أن هذه العصبية تحل في نفسي أعز موضع، وأسمى مكانة، لم أدع للأزهر فضيلة لم يسلمها له عداه، ولم أخترع له مزايا لم يلمس الناس أقباسها، ولم ينتفعوا بأضوائها الساطعة، وأنوارها اللامعة، ولكنى حاولت ما استطعت أن أنشر من مفاخره ما طواه النسيان، وأذكر من مآثره ما عدا عليه الزمان، وأن أكشف عن تلك الكنوز المدفونة, والأعلاق النفيسة المكنونة، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة. ولعل المطَّلِعَ على هذا البحث يروعه ويهوله ما صادفني من عقباتٍ لم تستطع على وفرتها وضخامتها أن توهن من عزمتي، أو تَفُلَّ من همتي، أو تفتر من رغبتي، أو تضعف من نشاطي المشتعل؛ فقد كان من حظي أن أتحدث عن موضوعٍ لم يأخذ من التاريخ حظًّا كثيرًا ولا قليلًا على جلاله وخطره، وأن أترجم لأناس لا تستطيع أن تلقف آدابهم إلّا مشافهةً وسماعًا، وكثيرًا ما تتضارب الآثار، وتتناقض الأخبار، وأجدني مضطرًّا إلى إطالة الوقوف، وإدمان النظر حتى يستبين لي وجه الصواب, وينكشف قناع الحقيقة. على أن المتاعب التي كابدتها صابرًا، وتحملتها راضيًا، كانت خليقةً أن تثير في النفس شيئًا من المضاضة والألم، ومن التراجع والنكوص, ولكني صبرت وامتثلت؛ فقد كان كثيرٌ من الأعلام الذين ترجمت لهم ودرستهم لا يستطيع الكاتب أن يصل إلى شيء من آثارهم وأخبارهم إلّا بالاتصال بأهلهم, والذين خالطوهم وعاشروهم، ومن هؤلاء شربت المرَّ, وجرعت الألم كئوسًا مترعة, فقد كان أكثر هؤلاء لا يقدِّرون سمو الغاية التي انتدبت لها، ولا شرف المقصد الذي أخذت نفسي به. وطالما كاتبت فريقًا منهم وهم متعلمون مثقفون, وتشفعت إليهم بالوسطاء والشفعاء, فلم أصل من ورائهم إلى طائل, بل لم أظفر حتى يرجع الجواب, ورُدَّ الخطاب.

وكان بعضهم يكاد يضيّع وقتي في التردد عليه, والوقوف ببابه, ثم لا يكون نصيبي منه آخر الأمر إلّا حكايةً معادةً أو قصةً مسرودة، وبعضهم كان من الجهل والانصراف والنسيان بحيث لا يعي شيئًا عن المترجَم له حتى تاريخ وفاته, وقد شهد كثيرٌ من جُلَّةِ الأساتذة طرفًا من هذه القصة الفنية. ومن بلائي في هذا البحث, وماعنيت به في سبيله, أني إذ عَزَّت المراجع, وتعسَّرت المصادر, عدت إلى الصحف والمجلات التي أنشئت من مستهلِّ النهضة إلى اليوم, فقرأتها, واستقرأتها, نشدانًا لحديث يقص خبرًا, أو يسوق أثرًا، أو يهدي من ضلال، وينير من ظلام. ويعلم الله كم كانت أناملي من تصفحها, وكم قذيت عيناي من تتبعها, بل لعلِّي أدمنت النظر في مصادر لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ في عنوانها, ولكني تلمست بالنظر فيها العثور على ما له بالبحث سبب قريب أو بعيد، وكثيرًا ما أفدت من هذا الجهد, ولكن بعد تعنية وضنى وطول اصطبار. وربا خدعتني العناوين, وأغرتني دلالتها, فطرت شوقًا إليها. وكلفت بإجالة النظر فيها, ثم لم أعد منها إلّا بما يعود به الظامئ من السراب. ثم إن الكتابة في عَلَمٍ من الأعلام أيسر كلفةً, وأقل جهدًا, وأضأل مشقةً, من الكتابة في هذا الموضوع المتسع المتشعب, الذي لا ينتهي المرء من جانبٍ منه, إلّا أطلَّت له جوانب تتطلب الدرس, وتحتاج إلى الكشف والتجلية. ولقد كانت لي مندوحة عن الاستيعاب والاستقصاء، فلو أني تحدثت عن الأزهر والخطابة, أو الصحافة, أو الكتابة, أو الشعر مثلًا, لكان مادةً غزيرةً للكلام، ولكني آثرت أن يكون الحديث شاملًا، والبحث مستكملًا أطرافه ونواحيه. وإذا كانوا يقولون: إن اختيار الرجل قطعةً من عقله, فهذا من غير شكٍّ قطعة أو جذوةً من عاطفتي, وخفقة من وفائي، لمعهدٍ عتيدٍ مجيدٍ، يدين له بالوفاء والإخلاص كلُّ عاقلٍ رشيدٍ.

ولست أدعي أني خير من كتب، ولكني أفاخر بأني أول مَنْ كتب وبوَّبَ ورتَّب, بل لعلي مبتكر هذا البحث, ومبدع ذلك التحقيق, والناهض بتناول نواحٍ منه, لم يسبقني إليها سابقٌ؛ ففي البحث, عدا ما فيه من جهد ودراسة, تراجم لفريق من أدباء الأزهر, لم يظفروا من قبلي بيراعٍ يجول في حياتهم وآثارهم, أو يحاول. وفيها حديث مستفيضٌ عن شخصياتٍ لم يتح لها من التحقيق إلّا عجالة لا تنقع ظمأً, ولا تشبع نهمًا، فأجلت فيها القلم, وعبَّدتُ طريق بيانها وتوضيحها حتى أشرقت واستبانت جوانبها. ومما ابتكرته, وكنت أول متناولٍ له, حديثي في المصححين الأزهريين الأدباء عن الشيخ، محمد قطة العدوي، والشيخ إبراهيم الدسوقي, وفي خطباء الأزهر الدينيين, عن الشيخ محمد مصطفى المراغي، والقضائيين, عن إبراهيم الهلباوي. وفي الكتَّاب عن الشيخ "محمد شاكر" والشيخ "عبد العزيز البشري" وفي اللغويين الأدباء عن الشيخ "سيد المرصفي" والشيخ "حسين والي" وفي الشعراء عن الشيخ "عبد الرحمن قراعة" على أن حديثي عن الشعراء عامةً حديث دراسة وتفصيل وتحليل واستيعاب لم أسبق إليه, ولم أجر فيه على نهجٍ ابتدعه غيري. فهذا البحث على هذه الصورة المشرقة، وفي هذا العناء الممض، وفي هذا السمت الخاصِّ, هو من جهدي وعملي, وقد توخيت فيه أن أضيف كل فكرة لصاحبها، وأن أنسب الرأي الذي أرتضيه لمرتئيه، ولو اتفق خاطري مع أحد من الذين كتبوا ودرسوا نسبت الرأي إليه مبالغةً في الحيطة, وإيغالا في الحذر. أما بعد: فقد أنفقت في كتابة هذا البحث عامين لم أضيع وقتَا، ولم أفلت فرصة،

وقد جهدت أن يكون مستوعبًا شاملًا, يجد المطَّلِعُ عليه ما تصبوا إليه نفسه من ألوان المعرفة. وعلى رغم ما لقيت وما بذلت, أعترف بأن بحثي هذا لم يبلغ حَدَّ الكمال، ولا يزال هنالك من أدباء الأزهر من يخلق بالباحث أن يتحدث عنهم, وأن يعرض صفحةً من حياتهم وأدبهم، فعسى أن أنهض في فرصة مواتية بإتمام ما بدأت -إن شاء الله تعالى. بل إني لأهيب بالعلماء, وبعشاق الأدب, أن يجعلوا ذلك من آثار عنايتهم, ومظاهر احتفالهم. وأسأل الله أن يكتب لنا التوفيق والسداد, وأن يهيء لنا من أمرنا رشدًا بفضله وكرمه.

الفاطميون في مصر

الفاطميون في مصر مدخل ... الفاطميون في مصر: لما آل حكم "مصر" إلى "أحمد بن عليّ بن الإخشيد" سنة 357 هجرية, وكان حدثًا صغيرًا لا رأي له ولا تدبيرًا, اختلت الأمور واضطربت الشئون، وجاع الجند، وكان "بمصر" غلاء فاحش, ووباء ساحق, وكانت أعين الفاطميين متطلعةً إلى ملك مصر, فواتتهم بذلك فرصةٌ للوثوب عليها, وتهيأ لهم ما أرادوا من فتح هذه البلاد بقليل من الدماء, بعد أن أمَّنُوا المصريين على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم، وكان ذلك بقيادة "جوهر الصقلي"1 سنة 358 هجرية, في جيشٍ يربو على مائة ألف فارسٍ, مجَّهَز بألفٍ ومائتيّ صندوق من المال. وما كاد "جوهر" يصل إلى "تروجة" بالقرب من الإسكندرية, حتى اضطرب المصريون وفزعوا إلى الوزير "جعفر بن الفرات" واتفقوا معه على مراسلة "جوهر" في الصلح, وطلب الأمان لهم؛ وإقرارهم على أملاكهم، واختاروا لتنفيذ ذلك وفدًا من وجوههم لمقابلة "جوهر" فأجابهم إلى ملتمسهم، وكتب لهم عهدًا بما طلبوه, ثم عزَّ على الإخشيدية أن يُبَدَّدَ ملكهم العظيم, فنقضوا العهد, واستنفروا جماعةً من العسكر، فلما تقدَّم "جوهر" إلى "الجيزة" لم يستطيعوا أن يثبتوا له، ووفد غداة النصر إلى "مصر" عليه ثوب ديباج مذَهّب, ونزل "بالمناخ" وهو موقع القاهرة اليوم. تم للفاطميين الفتح, واقتحم جيشهم ملك مصر, تظله قيادة "جوهر" العظيم, ومن ثَمَّ أرادوا أن يؤسسوا مدينة جديدةً تخلِّدُ ذكرهم، وتطبع على صفحة التاريخ أثرهم، وتكون لهم معقلًا وحصنًا يأوون إليه, ويتخذون منه مستقرًّا ومقامًا.

_ 1 النسب بالفتح, والمدينة بالكسر أو الفتح, كما في وفيات الأعيان, وبغية الوعاة.

أنشأ "جوهر" تلك المدينة, وسمَّاها "المنصورية" وذلك في غضون عام 358هـ، ولما انتقل "المعز لدين الله الفاطمي، من "القيروان" ووفد إلى "مصر" للإقامة بها سنة 362هـ, غيَّر اسم المدينة, وسمَّاها القاهرة المعزية نسبةً إليه.

إنشاء الأزهر

إنشاء الأزهر: ولما كان أول ما ينشأ في مدينة إسلامية إنما هو الجامع الذي يجتمع فيه المسلمون لصلاتهم، ومن فوق منبره يدعون إلى شئونهم، ويودعونه خزائن كتبهم, ويقيمون فيه شعائر دينهم, أنشأ "جوهر" الأزهر في طليعة ما أنشأ؛ كي يكون مجلسًا لهذا المظهر الدينيّ، وليقوم سياجًا للشيعة التي يعملون على تأييدها. وقد أبى الفاطميون أن يفاجئوا في مطالع عهدهم أهل السنة بخطبتهم التي يقولون فيها "وصل على الأئمة آباء أمير المؤمنين, المعز لدين الله" وآثروا أن يقولوا ذلك في مسجدٍ خاصٍّ بهم، فكانت تلك هي البواعث على إنشاء الأزهر. تاريخ إنشاء الأزهر: كان البدء في إنشاء الجامع الأزهر في يوم السبت لستٍ بَقَيْنَ من جمادى الأولى, سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكمُلَ بناؤه لتسعٍ خلون من شهر رمضان, سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكتب فيه بدائرة القبة التي في الرواق الأول, وهي على يمنة المحراب, ما نصُّه بعد البسملة: "مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم, معد الإمام المعزل لدين الله, أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين - على يد عبده الكاتب الصقليّ, وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة1.

_ 1 خطط المقريزي جـ2 ص273.

المعز وجوهر

المعز وجوهر: في ظلال هذين البطلين نَعِمَ الوجود بهذه المؤسسة الخالدة, وباسمهما اقترن هذا المعهد الشامخ الذي أفنى القرون جداره، ومشى على يبس المشارق نوره, وكلما رطب الألسن حديثٌ عن الأزهر تطلع واستشرف إلى المعز وجوهر، هما أهدياه إلى الدنيا نورًا, وإلى الدين والعلم نصيرًا, وإلى اللغة والبيان ظهيرًا. المعز لدين الله: "أبو تميم معد" رابع الخلفاء الفاطميين بالمغرب, وأولهم بمصر، ولد "بالمهدية" عاصمة الدولة الفاطمية بالمغرب, في منتصف رمضان سنة "319هـ-931م" وتولى الخلافة بعد أبيه "المنصور بنصر الله" سنة "341هـ-952م" وهو فتىً في الرابعة والعشرين من عمره. وكان الخلفاء الفاطميون منذ استقر ملكهم بالمغرب يستشرفون لمصر، ويتطلعون إلى جارتهم الشرقية؛ فمصر بخصها وبثروتها ومواردها, وموقعها الذي تحسد عليه من أقطار الأرض, كانت الحلم الذهبيَّ لملوك الفاطميين، ومن ثَمَّ أوفدوا حملاتٍ, وجهزوا جيوشًا لغزوها، ولكنها باءت بالفشل, ولم يدن ذلك الأمل العذب إلّا بيد "المعز" وقيادة جوهر القائد العظيم. وكانت كتب "جوهر" تتوالى على "المعز" لاستدعائه إلى مصر، واحتثاثه على الوفود إليها، وقد أرسل إليه "جوهر" يخبره بانتظام الحال "بمصر" و"الشام" و"الحجاز" وإقامة الدعوة له بهذه الأقطار, فسر "المعز" بذلك، وقدم إلى "مصر" بعد فتحها بأربع سنوات وعشرين يومًا, أي: سنة 262هـ, متسمًا بصفة الإمامة أكثر من صفة الزعامة, ويبدو في مواكبه وشعائره الدينية حريصًا على مظاهر الإمامة ورسومها، وقد سجَّل "الحسن بن زولاق" المؤرخ المصريّ كثيرًا من هذه المظاهر التي يظهر فيها المعز إمامًا دينيًّا أكثر منه ملكًا سياسيًّا في صلاته ونسكه، وفي ركوعه وسجوده، ثم في خطبه ومواعظه.

وكثيرًا ما كان يؤم الناس في الصلاة, ويخطب فيهم، وقد كان خطيبًا فصيحًا, مؤثرًا يملك زمام السامعين، وطالما بكى الناس لذلاقته وروعه، واتسامه في خطابته بسمة الزاهدين1. ومما يدل على دهائه أنه لما دخل "الإسكندرية" قدم عليه قاضي مصر "أبو طاهر محمد بن أحمد" وأعيان البلاد وسلموا عليه, فخاطبهم بخطاب طويل أخبرهم فيه أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه, أو لمالٍ يجمعه، وإنما أراد إقامة الحق والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، وأن يأمر بما أمر به جدُّه -صلى الله عليه وسلم، وأطال حتى بكى الحاضرون، وخلع على القاضي وبعض الجماعة, فودعوه وانصرفوا. وكان عاقلًا حازمًا أديبًا, حسن النظر في التنجيم, وما ينسب إليه من الشعر: أطلع الحسن من جبينك شمسًا ... فوق ورد في وجنتيك أظلا وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافًا, فمدَّ بالشعر ظلَّا جوهر الصقلي: مملوك من أهل "صقلية" ضمه "المعز" إلى بطانته، وأظله بعطفه ورعايته, وعني بتربيته, وتثيقيفه في شئون البلاد والدولة، والبلاط الفاطميّ يومئذٍ حافلٌ بالمماليك الصقالية الذين تبوأوا ذروة النفوذ, ولا سيما في عهديْ "المعز" و"العزيز" ولكن جوهرًا كان عميدهم, وواسطة عقدهم، وأنصعهم شخصيةً, وأقواهم موهبةً. قدر "المعز" مواهبه وخلاله؛ فولّاه وزارته, ثم اختاره لقيادة جيوشه. ولمع نجمه في الحرب والقيادة, كما أشرق اسمه في الإدارة والسياسة، فغزا المغرب، واخترقه إلى ساحل المحيط الأطلنطي, يحدوه الظفر, ويطلبه النصر،

_ 1 راجع: المقريزي عن ابن زولاق في اتعاظ الحنفاء ص90، 92، 94

ثم اختاره المعز ليغزو مصر مهبط الأمل والرجاء، فسار إليها من القيروان في ربيع الأول سنة 358هـ, فتمَّ له فتحها, وقد وصف أبو هانئ الأندلسيّ في قصيدةٍ من غرره, خروج هذه الحملة إلى "مصر" فقال: رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع غداة كأن الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع ألّا إن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن, ولا بات يهجع إذا حلَّ في أرضٍ بناها مدائنًا ... وإن سار من أرضٍ غدت وهي بلقع وكبرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورقَّ كما رقَّ الصباح الملمع رحلت إلى الفسطاط أول رحلة ... بأيمن فألٍ, بالذي أنت تجمع فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع ويمنعهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم, لكن يزيد فيوسع دانت مصر لجوهر، وزفَّ إلى مولاه البشرى في منتصف رمضان، فاهتز ابن هانئ لهذا الظفر، وأنشد قصيدته التي يقول فيها: يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضى الأمر وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه البشرى, ويقدمه النصر ثم عُنِيَ جوهر بإنشاء الأزهر، وحين تمَّ بناؤه, أقيمت به صلاة الجمعة، واتخذ منبرًا للدعوة الشيعية, يحتفل الفاطميون فيه بالمظاهر الدينية وشتى المواسم والأعياد, وقد قطع جوهر خطبة بني العباس عن منابر مصر، ومحا اسمهم من السكة, وعوَّض عنه اسم المعز، وأزال الشعار الأسود, وألبس الخطباء الثياب البيض, وجعل يجلس بنفسه كل سبتٍ لنظر المظالم بحضرة الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء. وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة, أمر جوهر بالزيادة عقب الخطبة

"اللهم صلي على محمد المصطفى، وعلى عليٍّ المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا, اللهم وصل على الأئمة الطاهرين, آباء أمير المؤمنين". وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة 359 صلى القائد بجامع ابن طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العباسيّ الخطيب, وذكر أهل البيت وفضائلهم -رضي الله عنهم, ودعا للقائد, وجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم, وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة, وأذَّن بحي على خير العمل, وهو أول من أذن به بمصر, ثم أذِّن به في سائر المساجد, وقنت الخطيب في صلاة الجمعة. وفي جمادى الأولى من السنة, أذنوا في جامع مصر العتيق, بحيَّ على خير العمل, وسر القائد جوهر بذلك, وكتب إلى المعز وبشَّرَه، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر أنكر عليه, وقال: ليس هذا رسم موالينا1. وعلى الرغم من كل ما فعله جوهر, أغضى المعز عنه, وعزله عن دواوين مصر وجباية أموالها, والنظر في سائر أمورها2 سماعًا للوشاية, أو خوفًا من نفوذه وسلطانه. وحين خلف المعز ابنه -العزيز بالله أبو منصور نزار- عاد جوهر إلى مكانته في الدولة, وأصبح مؤيدًا بثقة العزيز وعطفه. وكان جوهر من أعلام الدولة الفاطمية ومؤسس مجدها، وقد منح من عظيم الخلال وكريم المواهب ما سما به إلى أرفع مكان، وكان على ذكاءٍ وشجاعةٍ, ومضاء عزمٍ, ونقاء سيرةٍ, وميل إلى الخير, وإيثار للعدل. وإذ بلغ الثمانين فاضت روحه إلى بارئها، واحتفل بتشييعه في رعة

_ 1 ابن خلكان جـ؟؟ ص120 2 ابن خلكان جـ2 ص103

وجزع، وصلى عليه العزيز بنفسه, ورثاه الشعراء, وخلع العزيز على ولده -الحسين- وأقامه مقامه في القيادة، ولقبه بالقائد ابن القائد، وظل على مكانته ونفوذه أيام العزيز1.

_ 1 له ترجمة ضافية في المقريزي جـ4 ص205 وما بعدها, وفي النجوم الزاهرة جـ3 ص30, وفي ابن خلكان جـ1 ص147.

المساجد والجوامع

المساجد والجوامع ... المساجد الجوامع: كما عرفت مصر قبل قيام القاهرة المعزية ثلاث قواعد, أو عواصم إسلامية, هي فسطاط مصر التي أنشئت في سنة "21هـ-641م" عقب الفتح الإسلاميّ، ومدينةالعسكر التي أنشأها العباسيون الجند إلى جانب الفسطاط, عقب انتزاعهم مصر من يد الأمويين في سنة "123هـ-750م" ومدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون, في سنة "256-870م" لتكون عاصمةً للدولة الجديدة. كما عرفت مصر قبل القاهرة هذه العواصم الثلاث, عرفت كذلك قبل قيام الجامع الأزهر ثلاث مساجد جوامع, كانت مركز للحياة الإسلامية هي: المسجد الجامع, أو جامع عمرو "وقد عرف جامع عمرو بعدة أسماء أخر, منها: الجامع العتيق, وجامع مصر, ومسجد أهل الراية" ثم جامع العسكر, ثم جامع ابن طولون. وبمعنًى آخر, كانت كل قاعدة من هذه القواعد الإسلامية المتعاقبة تزود عند قيامها بمسجدها الجامع أو مسجدها الرسميّ الخاصّ. ولم تكن هذه الظاهرة في خطط القواعد الإسلامية بدعًا ولا مصادفةً، وإنما كانت من وحي السياسة الموضوعة لإنشاء الأمصار الإسلامية فيما يفتح من البلاد، بل هي سياسة ترجع إلى عهد -عمر- ذاته, وكتب بها عمر إلى الولاة

ومنهم عمرو بن العاص, فاتح مصر, وأول ولاتها, بأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا للجماعة1 وقد اتبعت هذه السياسة في خطط القواعد الإسلامية الأولى -كالبصرة والكوفة والفسطاط ومدن الشام. وكما أن العواصم الجديدة تعتبر رمزًا لظفر الإسلام, كذلك المساجد الجوامع, كانت تعتبر رمزًا لسياسة الإسلام الروحية, ومنبرًا للدعوة الجديدة والدين الجديد. هكذا كان شأن الفسطاط, أول عاصمة للإسلام في مصر، قيامها يدل على ظفر الإسلام السياسيّ بافتتاح قطر جديد من أقطار الدولة الرومانية، وقيام مسجدها الجامع يدل على سيادة الإسلام الروحية حيث كانت تسود النصرانية. وكان لهذا المسجد فوق ذلك صبغته الرسمية؛ إذ هو مركز للصلاة الجامعة, وقد لبث ذلك -عصرًا- خطة خاصَّة, إلى جانب خطط الحرب والقضاء والخراج. وكان يلي إمامته في الصلوات الخمس, وفي صلاة الجمعة وخطبتها في عصر الفتح الأول أمير مصر ذاته؛ فكان الأمير يجمع بين الصلاة والخراج في كثير من الأحيان، وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا تعذر عليه إقامتها بنفسه2. كذلك كان المسجد الجامع مقرًّا للدعوات والخطب والمجالس الرسمية، وبه يعقد ديوان الخراج، كما كان مركز القضاء الأعلى, وتتُْلَى فيه الأوامر

_ 1 خطط المقريزي الطبعة الأهلية جـ4 ص4, وحسن المحاضرة للسيوطي جـ2 ص149. 2 خطط المقريزي جـ4 ص283.

والمنشورات والسجلات، واستمرَّ ذلك عصورًا متوالية1. ثم غدا المسجد الجامع بعض الزمن مقرًّا للحلقات العلمية والأدبية, وأصبحت هذه الصفة المدرسية من بعض سماته ومظاهره. وكانت المساجد الجوامع تختص بهذه الصفة العلمية في عصرٍلم تعرف فيه معاهد الدراسة التي حفلت بها الأمصار الإسلامية فيما بعد. وكانت حلقات المسجد الجامع إلى جانب الحلقات الخاصة, أشهر المجتمعات العلمية والأدبية العامة، وقد لبثت ساحاته ردحًا من الزمان ندوةً فكريةً أدبيةً جامعةً، ومنها كانت تشع أنوار الآداب والفكر في مصر الإسلامية. بل هناك ما يدل على أن المسجد الجامع كان يقوم بمهمته الجامعية في دراسة الفقه بطريقة منتظمة2، وقد استمرَّ المسجد الجامع قائمًا برسالته العلمية حتى قيل: إن حلقاته العلمية بلغت منتصف القرن الثالث زهاء خمسين3. ولما أنشئت مدينة العسكر إلى جانب مدينة الفسطاط, وأقيم جامع العسكر إلى جانب المسجد الجامع, كان ثمة في إقامة المدينة الجديدة معنًى لانتصار العباسيين السياسيِّ, وفي إقامة الجامع الجديد معنًى لظفر الدعوة العباسية. وكانت العسكر وجامعها يمثلان ظفر الدولة الجديدة من الوجهتين السياسية والدينية معًا، ويتجلى ها المعنى في قيام مدينة -القطائع- عاصمة الدولة الطولونية الجديدة, وإن لم يكن ملحوظًا في إقامة مسجدها الجامع "جامع ابن طولون" لأن الدولة الطولونية لم يكن لها لون دينيٌّ خاصُّ4. غير أنه مما لا شك فيه أن إنشاء القطائع ومسجدها الجامع "جامع ابن طولون" يرجع إلى المغزى السياسيِّ والروحيِّ نفسه, وهو التنويه بسلطان الدولة الجديدة وسيادتها.

_ 1 الخطط التوفيقية جـ1 ص132, وجـ4 ص16، 43, وصبح الأعشى جـ3 ص487. 2 أنشئت به أوائل القرن الثالث عدة زوايا يدرس بها الفقه على مختلف المذاهب, ولكل زاوية أستاذ بحري عليه الرزق, وكان منها الزاوية الشهيرة التي تنسب للإمام الشافعيّ, واستمرت هذه الزوايا عصورًا -تاريخ الجامع الأزهر لمحمد عبد الله عنان ص15. 3 الخطط التوفيقية ح4 ص20، 21. 4 تاريخ الجامع الأزهر, لمحمد عبد الله عنان صـ15.

الغرض من إنشاء الأزهر

الغرض من إنشاء الأزهر: كانت الحكمة ناصعةً في إنشاء الجامع, بل هي أشد نصوعًا ووضوحًا فيه منها في غيره من المساجد الجوامع؛ إذ أن دولة الفاطميين دولة الشيعة. والجامع الأزهر هو أول مسجد أقامته الشيعة بمصر؛ فقيامه إذن رمز لسيادة هذه الدعوة الجديدة التي هي دعوة الشيعة, كما كانت القاهرة المعزية رمزًا لنصرة الدولة الجديدة وسيادتها. كان ذلك هو الغرض من إنشائه أول الأمر، ولكن تَقَلُّبَ الدول, وكر الأعصر, أنهاه إلى هذه الحياة العلمية الخصبة، وجعله أرفع جامعة إسلامية تاريخية.

تطور تسمية الجامع الأزهر: سمي هذا الجامع عقب إنشائه بجامع القاهرة, باسم العاصمة الجديدة, وظلَّ معروفًا بهذا الاسم زمنًا طويلًا، ثم زاحمه الاسم الجديد -الأزهر- ولكنا لا نستطيع أن نحدد نشوء التسمية الجديدة. وقد ظل معروفًا باسمه القديم إلى القرن التاسع الهجريّ؛ إذ ذكره المقريزي في خططه بهذا الاسم مضافًا إليه اسمه الجديد -الأزهر- فقال: "وهو الجامع الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر, ويسمى في كتب التاريخ بجامع القاهرة1. بل ذكره ابن خلكان -وقد تب كتابه في القرن السابع الهجريّ بما يفيد تداول الاسم الجديد, فقال في ترجمته -جوهر- وأظن هذا الجامع هو المعروف بالأزهر. واشتهاره في عهد ابن خلكان بهذا الاسم يدل على أنه عرف به من قبل ذلك, لكن في زمنٍ غير معروفٍ بالتحديد. وبعضهم يرى أن هذه التسمية الجديدة سرت إليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عهد العزيز بالله, وقد كان يطلق عليها القصور الزاهرة. هذا, وقد تُنُوسِيَ الاسم الأول, وغلب الاسم الجديد عليه إلى اليوم, فأصبح معروفًا به فحسب. وأما سرُّ هذه التسمية؛ فيرى فريق من المؤرخين أنه سُمِّيَ بذلك تفاؤلًا بما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بإزهار العلوم فيه2. وفي دائرة المعارف الإسلامية, أن إنشاء الفاطميين لهذا المسجد يفسر الاسم الذي أطلق عليه, فقد قيل أن الزهر إشارة إلى الزهراء, وهو لقب فاطمة التي سُمِّيَ باسمها أيضًا مقصورة في المسجد. مكان الأزهر: ما برح هذا الحصن الشامخ قائمًا في مكانه الذي شُيِّدَ به, منذ أكثر من ألف عام, وما زالت فيه بقية من أبنيته الفاطمية الأولى تحتل مكانها الأول داخل الصرح القائم, وهي تكاد تبلغ نصف المسجد الحالي3.

_ 1 خطط المقريزي جـ1 ص363. 2 تاريخ الأزهر لبيرم. 3 الخطط التوفيقية جـ1 ص180، 181، 290، 342، 392.

عناية الخلفاء بالأزهر

عناية الخلفاء بالأزهر: نظر الخلفاء الفاطميون إلى الأزهر نظرة عنايةٍ ورعايةٍ, فأدخلو عليه تجديدًا, وأحدثوا به تعميرًا في أزمنة مختلفة, وأعانوا على نشاط العلم والدراسة فيه؛ فهيأوا الأسباب لذلك. وقد ذكر المقريزي أن أول من رتب من الملوك لأهل الجامع الأزهر, وبنى لهم مسكنًا هو الملك العزيز بالله, نزار بن الملك المعز لدين الله، وأن أول من رتب لهم من الأمراء صلة وزيره أبو الفجر يعقوب ابن يوسف, وقد سأل هذا الوزير الخليفة سنة 365هـ في صلة رزق جماعة من العلماء؛ فأطلق لهم ما يكفي لكل واحد من الرزق الناض, وأمر لهم بشراء دارٍ وبنائها, فبنيت بجانب الجامع الأزهر1. وقال المقريزي في موضعٍ آخر من خططه، وجعل الحاكم بأمر الله للجامع الأزهر تنورين وسبعة وعشرين قنديلًا من الفضة, وشرط أن تعلق فيه في شهر رمضان. ثم رتب له الحاكم في سنة 400هـ مع بعض المنشآت الفاطمية الأخرى أوقافًا ينفق من ريعها على إدارته وشئونه, فكانت هذه أول وقفية رتبت للجامع الأزهر. ثم قام الخليفة -المستنصر بالله- فجَدَّدَ الأزهر، وقام بتجديده من بعده, الحافظ لدين الله, وأنشأ فيه مما يلي الباب الغربيّ مقصورةً عرفت بمقصورة "فاطمة الزهراء". وفي عهد الملك -الظاهر بيبرس- "سنة 658هـ" قام الأمير -عز الدين أيدمر الحلى- نائب السلطان- بعمارته وتجديده تجديدًا شاملًا, وأعاد إليه جدته وبهجته, بعد أن كان قد تطرق البلى إليه. وفي سنة "702هـ" في عهد الملك محمد الناصر - وقعت بمصر زلزلة عنيفة سقط بها منشآت عدة, منها: الجامع الأزهر, فقام أمراء الدولة بعمارة هذه المنشآت, وتولى عمارة الجامع الأزهر الأمير -سلار. وأنشأ علاء الدين طيبوس مدرسته التي عرفت باسم "الطيبرسية-

_ 1 خطط المقريزي جـ2 ص273- الناض، في القاموس: نَضَّ الماءُ ينضُّ نضًّا ونضيضًا, سال قليلًا قليلًا, والنَّضُّ الأظهار, ومكروه الأمر, والدرهم, والدينار, كالنَّاضِّ فيهما, أو إنما يسمى ناضًّا إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا.

لتكون ملحقًا للأزهر, وكمل بناؤها سنة "709هـ" وقرر بها درسًا للشافعية. تلك هي بعض آيات العناية والاهتمام ومظاهر التعمير والإنشاء في الأزهر في هذه الفترة المترامية من الزمان. إلّا أن أعظم عمارةٍ أحدثت به, هي التي قام بها الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدغلي- في أواخر القرن الثاني عشر الهجريِّ؛ إذ أنه أنشأ بهوًا فسيحًا يشتمل على خمسين عمودًا من "الرخام" تحمل مثلها من الأقواس المقوصرة1 في الناحية الشرقية من الجامع, كما أنشأ به منبرًا ومحرابًا جديدين, وأقام في أعلاه مكتبًا قائمًا على عُمُدٍ من الرخام, يتعلم به يتامى الأطفال المسلمين القرآن, وجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ رحبةً فسيحةً شيد فيها قبره الذي عقدت قبة عليه, كما أقام بالجامع منارتين جديدتين, وأنشأ بالباب الذي ينتهي إليهن شارع الأزهر، وهو بابٌ سامقٌ عظيمٌ, نًقِشَ على صفحته الخارجية أبياتٌ مموهة بالذهب, مشتملة على تاريخ بنائه وهي: إن للعلم "أزهرًا" يتسامى ... كسماء ما طاولتها سماء حيث وافاه ذا البناء ولولا ... منة الله ما تسامى البناء رب إن الهدى هداك وآيا ... تك نور تهدي به من تشاء مذ تناهى أرخت باب علوم ... وفخار به يجاب الدعاء أما الأسرة العلوية, فكانت دائمة العطف عليه, سخيَّةً في البرِّ به, تعنى بإصلاحه وتجديده, وتكفل له كل ما يتطلبه, مهما غلَا وعزَّ. وفي عهد الملك فؤاد الأول, أنشئت كليَّاته على نظامٍ مثمرٍ, ووجد بالتخصص في فروع العلم للإجادة والتبريز فيها, وبذل المال الضخم لإزالة ما حول الأزهر من مساكن, طالما حجبت جماله ورونقه, وبُدِئَ في إنشاء مساكن للطلبة, وإدارة للأزهر, وقد جاءت آيةً في الإبداع والروعة، وفي

_ 1 المقوصرة - تقوصر دخل بعضه في بعض.

العزم أن تنشأ له مبانٍ خاصةٍ لكلياته، وما تتطلبه الحياة الجامعية فيه على أفخم طراز. وفي عهد "الاستقلال" تمتَّع الأزهر بكريم الرعاية, وعظيم العطف, بفضل روح المصريين المعنوية التي وجدت بهم, ومن غريز طباعهم التي وجدوا عليها, وبفضل روحهم المعنوية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم, فساهموا بنصيبٍ وافر من أموالهم؛ ففرش بالبسط الثمينة الفاخرة على سعة رقعته, ولا يزال علماؤه موضع الشكر للجمهورية المصرية.

صلاة الجمعة في الأزهر

صلاة الجمعة في الأزهر: كان الخطباء الفاطميون يذهبون إلى الجامع الأزهر فيخطبون الناس ويؤمونهم في صلاتهم، وكانت أول جمعة أقيمت في الأزهر منذ إنشائه, في شهر رمضان لسبعٍ خَلَوْنَ منه, سنة إحدى وستين وثلاثمائة1. ثم استمرت الخطبة في الأزهر منذ إنشائه, إلى أن تم بناء الجامع الحاكميِّ في سنة 380هـ, وإذ ذاك أصبحت مشتركة تلقى في أربعة مساجد, فإن الخليفة كان يخطب في الجامع الحاكميّ خطبة, وفي الجامع الأزهر خطبة, وفي جامع ابن طولون خطبة, وفي جامع عمرو بن العاص خطبة. وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدَّ "صلاح الدين بن يوسف بن أيوب" بالسلطان "سنة 567هـ" فإنه قلَّدَ وظيفة القضاء لقاضي القضاة، "صدر الدين عبد الملك بن درباس" فعمل بمقتضى مذهبه, وهو امتناع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد, كما هو مذهب الإمام الشافعيّ؛ فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر, وأقرها بالجامع الحاكميّ من أجل أنه قد أوسع2 إذ أن مساحة الأزهر كانت 13000 ذراع, ومساحة الجامع الحاكمي 36000 ذراع

_ 1 خطط المقريزي جـ3 ص273 2 خطط المقريزي جـ2 ص275

ومكث الأزهر كذلك معطلًا عن إقامة الجمعة قرابة مائة عام. فلما كان عصر الملك "الظاهر بيبرس" سعى الأمير، عز الدين أيدمر الحلي, نائب السلطنة, في إعادة صلاة الجمعة في الأزهر, فشرع في استفتاء علماء العصر, فأفتى بعضهم بجوازها, ولكن قاضي القضاة يومئذ "تاج الدين بن بنت الأعز" الشافعيّ, أصرَّ على فتواه رغم تدخل السلطان، فعمل الأمير أيدمر بفتوى المحبذين, وأقيمت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر يوم الجمعة 18 ربيع الأول سنة 665هـ, في حفل من الأمراء والكبراء, ولم يحضر السلطان, ولا قاضي القضاة, ولكنه كان يومًا مشهودًا استعاد فيه الأزهر مركزه الدينيّ القديم1. أما الدراسة في الأزهر في هذه الحقبة, فَحُكْمُ المؤرخين عليها مضطربٌ غامضٌ, ولكنا نميل إلى أن الأزهر ظلَّ على صفته الجامعية طوال هذه المدة, فقد لبث محتفظًا بصفته كمعهد للدرس والقراءة, ومع أنه لم يكن يحظى في ذلك العصر بكثيرٍ من الرعاية الرسمية, لبث محتفظًا بكثير من هيبته العلمية القديمة, فنراه مقصد علماء بارزين, مثل: عبد اللطيف البغدادي, الذي وفد على مصر في سنة 589هـ, أيام الملك عبد العزيز ولد السطلان صلاح الدين, وتولى التدريس بالأزهر بضعة أعوام, حتى وفاة الملك العزيز سنة 595هـ2. وكان في رغبة صلاح الدين الأيوبي في الإصلاح وحسن سياسته, وبعد نظره, مما يجعلنا نميل إلى أنه لم يبطل الدراسة في الأزهر في هذه المدة, فإنه وإن كان الأزهر خاضعًا في أغلب شئونه وأحواله لعوامل السياسة, والأزهر هو منبر الشيعة, ومقر دراستها, وهي مذهب الفاطميين الذي كان يفرض على المصريين فرضًا, والذي يهم صلاح الدين أن يناهضه بكل قواه أنه, وإن كان

_ 1 السلوك في دول الملوك للمقريزي جـ1 ص556، 557, والخطط جـ4 ص52، 53. 2 تاريخ الأزهر لمحمد عبد الله عنان, عن كتاب الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف المقدمة.

الأمر كذلك, فإن صلاح الدين خَلُصَ إلى غرضه الذي ينشده, دون أن يلجأ إلى إبطال التدريس بالأزهر. وقد ذهب إلى ذلك الرأي "يعقوب أرتين باشا" في كتابه؛ حيث قرَّرَ أن صلاح الدين, وإن كان شافعيّ المذهب, ترك الحرية الكافية للعلماء يقدمون على سائر المذاهب دراسةً وبحثًا, وكما أنه ترك للعلماء حرية الدرس والبحث, كذلك لم يتدخل بحالٍ في عقائد الشعب، وكان في تصرفه هذا سياسيًّا حكيمًا؛ إذ وصل إلى النتيجة التي قصدها دون جهد أو مخاطرة, وضعف شأن المذهب الفاطميّ كما أراد؛ حيث أنشأ في سنة ست وستين وخمسمائة المدرسة التي عرفت بالمدرسة الناصرية, وكانت للشافعية, وبني في السنة المذكورة المدرسة القمحية بقرب الناصرية للمالكية, وبنى أيضًا المدرسة السيوفية للشافعية1. كانت هذه السياسة الحكيمة التي اتبعها صلاح الدين ومن بعده, كفيلةً بمناهضة المذهب الشيعيِّ, وبإحياء المذهب الشافعيِّ الذي كان يعتنقه صلاح الدين, بغير أن يتجشم تبعة إبطال الدراسة في الأزهر ومناهضته التعليم به, غير أن من الممكن أن نقول: إن إنشاء هذه المدارس وكثرتها, كان عاملًا ذا أثر في منافسة الأزهر, واجتذاب فريق من أساتذته, ولا سيما حين نعلم مقدار العناية بهذه المدارس, والتوفر على التأنق فيها.

_ 1 الخطط التوفية جـ1 ص87.

تاريخ التعليم في الأزهر

تاريخ التعليم في الأزهر: كان المسجد في العصور الماضية مركزًا للحياة الإسلامية, يقيم المسلمون فيه صلواتهم, ويعقدون به مجالس قضائهم, ويدعون إلى مذاهبم الخاصة, ويتحدثون فيه عن شئونهم العامة, ويودعون في خزائنه كتبهم ومخطوطاتهم، ثم هم فوق ذلك يتخذون من رحابه وجنباته مجالس للدرس والتعليم, يجلس فيها الأساتذة, يهفو إليها الراغبون في العلم, متنقلين كالطير في أرجائها, غير مقيدين بنظم أو برقابة. وكان مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط, أول مدرسة دينية في مصر, ولم يكن يدرس به إذ ذاك إلّا علم اللغة والدين؛ من قرآن وحديث. ثم كان من بعده مسجد أحمد بن طولون مقرًّا هامًّا لتلقي هذه العلوم, التي كانت وحدها مقومات الفكر في ذلك الوقت. حتى إذا فتح الفاطميون مصر, وأسسوا بها القاهرة, اتجهت رغبتهم إلى مؤسسةٍ دينيةٍ تنافح عن مذهبهم الشيعيِّ, وتدعو إليه, فأنشأوا الجامع الأزهر، وتمَّ للفاطميين غرضهم بعد ذلك بعامين, حين عين له العزيز بالله بن المعز لدين الله أساتذته الأولين. ولم تكن الدراسة إذ ذاك تعدو اللغة العربية والدين والفقه. ثم جاء الأيوبيون فأغضوا عن الأزهر بإنشاء المدارس الأخرى, ودُرِّسَ بها المذهب الشافعيُّ, وإن صحبته المذاهب الأخرى، وأخذت مدارسهم تجتذب إليها كثيرين ممن كان الأزهر يزخر بهم، وبلغ عددهم زمن المقريزي، خمسًا وأربعين مدرسة، وكان الأيوبيون ومن حذا حذوهم, يتأنقون في بنائها وزخرفتها, ويجعلون فيها خزائن للكتب, ويجمعون لها نفائس المخطوطات؛ في الحديث والفقه وغيرهما من العلوم، ويقفون عليها الأوقاف, ويعينون لها الأساتذة؛ فينقطعون للعلم والدرس. وبعد أحقابٍ طوالٍ تطور الأزهر مع الزمن, وتأثر بالحركة الثقافية؛ فبدأت به دراسة الفقه على المذاهب الأربعة, وبعض العلوم الأخرى؛ كالحساب والهندسة والفلك، ومن ذلك الوقت, أصبح للأزهر أهميةً بالغةً, وشهرةً ذائعةً في ربوع العالم كله, وتَكَوَّنَ في مصر جَوٌّ علميٌّ راق, يمد الطلاب بقسطٍ وافرٍ من علوم الحياة, ويهيئ للأساتذة العلماء فرصة الانقطاع للدرس, وأخذ العلم ينبعث من أقطار الأزهر, ويشع في مختلف البلاد الإسلامية، وأصبح شرفًا عظيمًا أن ينتسِبَ الطالب إليه. ولكن العناية انقبضت عن الأزهر في مستهلِّ القرن السادس عشر الميلاديِّ؛ إذ أخذ الضعف يدب فيه وقت الفتح العثمانيّ, وركدت علوم اللغة

والآداب, بعد أن كانت موضع دراسةٍ مستفيضةٍ, وأصبحت دراسة الفقه والحديث جامدةً تستظهر, وتتخذ في العلم بها مظهرًا شكليًّا محضًا، وزالت منه علوم الحياة على وجه التقريب إلّا ضربًا من الحساب للحاجة إليه في مسائل المواريث, وطرفًا من مبادئ علم الهيئة لضبط المواقيت, وتحديد مواعيد الصلاة, وبعض نظريات الهندسة والفلك وأشباه ذلك.

نشأة الحياة المدرسية في الأزهر

نشأة الحياة المدرسية في الأزهر: كيف بدأت الحياة المدرسية في الأزهر: بعد أن كان مسجدًا للعبادة, ومنبرًا للدعوة المذهبية؟ هذا سؤال تتجه به النفوس في شوقٍ ورغبةٍ لمعرفة النواة الأولى لذلك المعهد العظيم. بدأت فكرة الدراسة في الأزهر ضئيلةً متواضعةً؛ ككل حديث في مطلع نشأته ومستهلِّ تكوينه، ثم لم تلبث هذه النواة أن تمت وأثمرت, وغدا الأزهر في ثوبه الجامعيّ القشيب. أول درس بالأزهر: كان ذلك في صفر سنة 365هـ-أكتوبر سنة 375م" في أواخر عهد المعز لدين الله الفاطميّ؛ إذ جلس قاضي القضاة - أبو الحسن عليّ بن النعمان القيروانيّ- بالجامع الأزهر, وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة, وهو المسمى بكتاب "الاقتصار" في جمع حاشدٍ من العلماء والكبراء, وأثبتت أسماء الحاضرين, فكانت هذه أول حلقة للدرس بالجامع الأزهر1. كانت هذه هي الحلقة الأولى للقراء والدرس في الجامع الأزهر, بعد أن مضى على إنشائه زهاء ثلاثة أعوام ونصف, وكانت بدايةً ضئيلةً لحركة دراسيةٍ متواضعةٍ, بيد أنها كانت بدايةً جامعيةً في معنى من المعاني2.

_ 1 الخطط التوفيقية جـ4 ص56. 2 تاريخ الجامع الأزهر, لمحمد عبد الله عنان ص42.

حلقات بني النعمان: ثم توالت بعد ذلك حلقات بني النعمان بالأزهر, وكانوا من فضلاء علماء المغرب الذين اصطفتهم الخلافة الفاطمية, وجعلتهم دعامتها وألسنتها الروحية, وكانت حلقات أولئك المغاربة العلماء بالأزهر حلقات دعاية دينية سياسية, يعمرها في أغلب الأحيان الأكابر والخاصة. وفي مستهلِّ عهد العزيز بالله, حدث حادثٌ مدرسيٌّ آخر بالجامع الأزهر؛ ففي رمضان سنة "369هـ-980م" جلس يعقوب بن كلس, وزير المعز لدين الله والعزيز من بعده بالجامع الأزهر, وقرأ على الناس كتابًا ألفه في الفقه الشيعيّ على المذهب الإسماعيلي, ضَمَّنَهُ ما سمعه في ذلك من المعز لدين الله وولده العزيز, وهو المعروف بالرسالة الوزيرية, نسبةً إلى مؤلفها الوزير، وكان يجلس ليقرأه بنفسه على المستمعين؛ خاصَّتهم وعامَّتهم, ويسعى لدرسه جُلَّةُ الفقهاء والعلماء والقضاة والأدباء وأكابر القصر والدولة, وأفتى الناس يومئذ بما فيه1. وابن كلس, هو أول من فكَّر في رسم الخطة الجامعية للأزهر؛ ففي سنة "378هـ-980م" استأذن الخليفة العزيز بالله أن يعين بالأزهر فريقًا من الفقهاء؛ للقراء والدرس, يحضرون مجلسه, ويلازمونه, يعقدون مجالسهم به عصر كل جمعة بعد الصلاة, وكان عددهم سبعةً وثلاثين فقيهًا, ورئيسهم والمشرف على حلقتهم الفقيه: أبو يعقوب, وكان جُلُّ حديثهم في الفقه, وما له به صلة. وقد رتَّب العزيز لهم مالًا, وأنشأ دارًا يسكنونها بجوار الأزهر, كما رتَّبَ لهم ابن كلس أيضًا رزقًا من ماله حثًّا وتشجيعًا.

_ 1 الخطط التوفيقية جـ4 ص57, وابن خلكان جـ2 ص441, والإشارة إلى من نال المزارة لأمين الصيرفيّ ص23. نبذة عن ابن كلس: وزير المعز لدين الله الفاطميِّ - اجتمع له مجد العلم والسياسة, وكان نصيرًا قويًّا للأدباء والعلماء, يعقد مجالسه الفقهية والأدبية تارةً بالجامع الأزهر, وتارةً بداره الخاصَّة, فيتوافد إليه رؤوس العلماء والأدباء والطلاب من كل حدبٍ.

ونستطيع أن نَعُدَّ هؤلاء أول الأساتذة الرسميين بالأزهر؛ فقد أدوا مهمتهم العلمية تحت إشراف الدولة, ولقاء أجرٍ ثابتٍ منها.

_ وهو إلى جانب ذلك, عالمٌ فَذٌّ, ووزيرٌ خطيرٌ, وعبقريةٌ سياسيةٌ نادرةٌ -يهوديّ نشأ ببغداد, وغادرها إلى الشام في شبابه للعمل بالتجارة حينما أثقلته الديون, فسعى إلى مصر في حكم كافور, ودفعه الطموح والتوثب إلى المجد أن يسلك الإسلام وسيلةً وسبيلًا, وقد كان, بلغه أن كافورًا يقول: لو كان هذا مسلمًا لصحَّ أن يكون وزيرًا- فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سرًّا, ثم غشي جامع عمرو سنة 356هـ وصلى به الصبح في موكب حافل, ثم ركب إلى كافور, فخلع عليه, وإذ ذاك توجس وزير مصر, جعفر ابن الفرات في نفسه خيفة منه, وخشى من تقشعه, وبلوغ نفوذه, فدسَّ له, وأوغر عليه الصدور, حتى فرَّ إلى المغرب؛ ليلحق بالمعز لدين الله وهو يهيء مشروعه لغزو مصر, فقدَّر المعز مواهبه, وأظله بعطفه وتكريمه, إلى أن تمَّ فتح مصر, فقلده شئون الخراج والأموال والحسبة والأحباس, وسائر الشئون العالية الأخرى, وهو في كل هذا دقيق بارع. ثم إن العزيز بالله حين انتهى إليه الأمر بعد أبيه المعز لم يغمطه حقه, بل فوّضَ إليه النظر في شتى أموره, ولقبه بالوزير الأجلِّ, وغدا أقوى رجل في الدولة على رغم أن العزيز اعتقله استجابةً للوشاة, ثم أكرمه وقدره بعد براءته. ومَنْ يدري, فلعل الله أراد أن يكسب الأزهر هذه الصفة الجامعية, ويدوي في ربوعه صوت العلم والأدب والثقافة؛ فقيض له ذلك العالم الأديب -يدع دينه الضالّ إلى دين الله, وهداه, ويدعو إلى بثِّ العلم والأدب في جنبات الأزهر؛ فيسير العلماء والأدباء من بعده ركضًا, وتنمو الفكرة, ويتطور الأزهر, فإذا هو كما ترى كعبة تُحَجُّ, ومنارة تُقْصَدُ, ومنهل عذب يرتوي منه كل ظامئ. ومهما يكن من شيء, فابن كلس مع أنه سياسيٌّ ووزيرٌ ورجل دولةٍ, عالم أديب, وأينما حلَّ, وحيثما ارتحل يعقد المجالس العلمية, والندوات الأدبية, ينتظم في سلكلها الفقهاء والأدباء والشعراء, ويشجع على نفاقها بالفكر, وبالمناظرة, وبالتوجيه, وبالمال

تأثر الأزهر بإنشاء دار الحكمة

تأثر الأزهر بإنشاء دار الحكمة مدخل ... تأثر الأزهر بإنشاء دار الحكمة: أنشأ الحاكم بأمر الله ولد العزيز بالله دار الحكمة الفاطمية, أو دار العلم الشهيرة, في العاشر من جمادى الآخرة سنة 395هـ-مارس سنة 1905م, أي: بعد ما يقرب من خمسمائة وثلاثين عامًا من قيام الأزهر. ومن قبل إنشائها كانت تعقد بالقصر حينًا, وبالأزهر حينًا, مجالس تسمى: "مجالس الحكمة" ينظمها قاضي القضاة, ويقرأ فيها علوم آل البيت, بمشهد من الناس, وقد يخصص جانب منها للخاصَّة, وآخر للعامة, وثالث للنساء, ولكن الحاكم أراد أن تكون هذه المجالس أوسع أفقًا, وأبلغ أثرًا, وأن تنظم في عقد واحد حلقات دينية وعلمية متصلة, يجمعها معهد رسميٌّ واحدٌ؛ فأنشئت هذه الدار مشتملة على حلقات دينية وعلمية وأدبية. وقد شغلت هذه الدار بناءً خاصًّا متاخمًا للقصر الصغير, بجوار "باب التبانين" تعرف "بدار مختار الصقلي" وقُسِّمَتْ إلى عدة مجالس؛ لعلوم القرآن, والفقه, وعلوم اللغة, والطب, والرياضة, والفلك, والتنجيم, وغيرها. وعُيِّنَ لها أقطاب الأساتذة في كل فَنٍّ, واحتفل بتأثيثها وزخرفتها, وحمل إليها من خزائن القصر أسفارٌ في شتى العلوم, وخصص للإنفاق عليها, وعلى أساتذتها, وموظفيها, أموال ضخمة, كما خصها الحاكم بجزء كبير من ريع أملاكه الموقوفة على بعض

_ ثم هو من بعد ذلك, مؤلفٌ أخذ يَخُطُّ غير قليل من التأليف؛ فقد وضع كتابًا في القراءات, وكتابًا في الفقه, وكتابًا في آداب الرسول -صلى الله عليه وسلم, وفي علم الصحة والأبدان, ووضع مختصرًا في فقه الشريعة, وقد أشاد شعراء العصر بعبقريته وسجاياه ومكانه بين الموهوبين, ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصيب الوزير بعلة في يده: يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت ... رأيت في كل شيء ذلك الألما تأمل الملك وانظر فرط علته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما هل ينهض المجد إلّا أن يؤيده ... ساق يقدم في إنهاضه قدما لولا العزيز وآراء الوزير معًا ... تحيفتنا خطوب تشعب الأمما

مساجد القاهرة مثلما خص الأزهر من هذا الريع بنصيب. وكان التعليم فيها على نفقة الدولة, وهيء فيها للباحثين والطلاب جميع الأدوات الكتابية, وكان لهم أن يقرأوا وأن ينسخوا ما شاؤوا, ولهم أن يستمعوا من المحاضرات والدروس ما شاؤوا. وقد حَدَّثَ المسبحيُّ المؤرخ المعاصر, عما لقيته هذه الدار من رعايةٍ وعنايةٍ, بأنه مما لم يجتمع مثله لأحد قط من الملوك. اتسعت "دار الحكمة" في مستهلِّ عهدها بتوسيع البحث, ثم أُقْصِيَ عنها الأساتذة السنيون, وقتل بعضهم, فتأكدت صفتها المذهبية الشيعية. وكان لقاضي القضاة الإشراف على مجالسها, حتى إذا ما اتسع أفقها عهد بها إلى "داعي الدعاة" وهو زعيم دينيٌّ خاصٌّ يلي في الرتبة قاضي القضاة1 ثم أنشئ لها إدارةٌ خاصةٌ في وظائف الدولة. وإذا كانت "دار الحكمة" موسومةً بالطابع الحرِّ في الفكر والدرس, فإنها كانت من وراء ستارٍ ترمي إلى بثِّ الدعوة الفاطمية بطريقة علمية تمتزج فيها النظريات والآراء الفلسفية بالأصول والمذاهب, وتكون أبلغ أثرًا في العقول والعقائد من مجالس القصر، وبذلك تتضافر جهود الدعاة في هذا المركز الرئيسيِّ الذي لا يلبثون أن يصدروا عنه, فيبثوا الدعوة في كل وادٍ. تمت هذه الدار في أكناف هذه الرعاية, وأوى إليها بأسلوبها وبشهرتها كثير من علماء الشرق, وأصبح بين تلاميذها نوابغ كثيرون. كان لقيام هذه الدار أثر بالغ في سَيْرِ الدراسة بالأزهر, بل كانت منافسًا جبَّارًا لمعهدٍ وليدٍ لم تتأثل نظمه, ولم تتوطد دعائمه، فلا عجب إذن أن تركد ريحه, وأن تفتر حلقات الدرس والعلم فيه, وأن تجتذب إليها أنظار الكثيرين من طلاب الأزهر؛ ففيها جدة, وروعة, واستيعاب.

_ 1 صبح الأعشى جت2 ص487, والخطط التوفيقية جـ2 ص226.

لبثت دار الحكمة قرنًا تنافس الأزهر في رسالته العلمية, وتظفر بالسبق والغلبة في كثير من الأحيان, وإن كان الزهر على رغم طغيانها لم يتخلف عن الرسالة التي كان يضطلع بها, إلّا أنها لم تدع له قوته كاملةً. بيد أن عصر ازدهار "دار الحكمة"لم يطل, فقد اضطربت شئونها المذهبية, وفتر نشاطها منذ منتصف القرن الخامس الهجريّ, وخبا نورها خلال حكم المستنصر بالله؛ إذ اضطربت شئون الخلافة, وشملت الفوضى مرافق الدولة جميعًا, ولم تلبث كذلك حتى انتهى أمير الجيوش "الأفضل شاهنشاه" بإبطالها, وإغلاقها صدر القرن السادس الهجريّ أيام الخليفة الآمر بإحكام الله "495-524هـ" لما ذاع من تدخلها في العقائد. ثم أعادها "المأمون البطائحيّ" وزير هذا الخليفة, سنة 517هـ على نسق جديدٍ, روعي فيه تخفيف حدتها المذهبية, وعُنِيَ بتدريس القرآن وعلومه عنايةً خاصة. وإنها, وإن مكثت في هذا المظهر الجديد نصف قرن حتى نهاية الدولة الفاطمية, كانت معهدًا مغمورًا ليس له من الشأن ما يتصل بماضيه العظيم. كان لهذا الاضطراب السياسيِّ أثره في دار الحكمة وفي الأزهر معًا, فقد فترت حركة الدرس والتحصيل تبعًا لركود الحياة العامة, واضطراب الحياة الخاصة في ذلك الحين.

طريقة التعليم بالأزهر

طريقة التعليم بالأزهر: بدأ نظام التعليم بالأزهر على الوضع القديم الذي كان متبعًا في مصر والعواصم الإسلامية, ونعني به: نظام الحلقات ومجالس الدروس الخاصة, وقد اشتهر هذا النظام بمصر في القرن الثاني للهجرة. كان لكل مذهبٍ من المذاهب الأربعة عُمُدٌ خاصَّةٌ داخل الأزهر, مقصورة عليهم, يجلس الشيخ في ظلال هذه العمد, ويلتف الطلاب حوله حلقًا, وكان الشيخ الذين يدرس ملمًّا بشتى العلوم, فيحدث في نواحٍ من العلم مختلفة, ويستطرد في فنونٍ متنوعة كلما سنحت الفرصة. وكانت الطريقة المتبعة في تلقين الدروس هي الطريقة الإملائية, ولبث الحال على ذلك إلى أن كثر التدوين والتأليف, فشرعوا في دراسة الكتب, وتفهم أغراضها, وقد بالغوا في ذلك مبالغةً نجم عنها وضع شروح للمتون, وحواشٍ لهذه الشروح, وتقريرات لتلك الحواشي. وكان كثير من الطلبة المجدين يطالعون الدروس قبل أن يغشوا حلقاتها, وكثيرًا ما كان يقوم النجباء من الطلبة بالتدريس لزملائهم, أو المتأخرين عنهم بقليل. ولم تكن الدراسة دراسة موضوعات محددة في مناهج معروفة, بل كانت دراسة كتب لمدة دراسية غير محددة. وكان جلُّ الاعتماد على المدرس لا على المنهج, أو طريقة البحث, فأساس التعليم: "الشيخ أو الكتاب". ولم تكن على الطلبة رقابة في غيابهم, أو حضورهم, وفي جدهم أو فتورهم, فليس أمامهم امتحانٌ يميز الخبيث من الطيب, ولكن يلتمس الطالب من شيخه "إجازةً" تتضمن الشهادة له بالمهارة في العلوم, والأهلية للتدريس والإفتاء. على أنهم كانوا مقبلين على العلم مشوقين إليه, يجدون من نفوسهم دافعًا إلى المحافظة على الدروس والإقبال عليها, بل كان إقبالهم بالوازع أشد من إقبال المعاصرين بالرادع. ولم يكن الشيخ لينسى أن يوصي تلميذه في "إجازته" بالتقوى, والتحري في الأحكام. ولما استحدثت الشهادة الرسمية, لم تكن لتخلو من الدعاء لحاملها بالتوفيق في خدمة العلم والدين. وهذه الحرية التي تتسم بها طريقة الأزهر في التعليم والبحث, وخاصَّةً فيما

سلف من الزمان, تساوت معظم النظم الجامعية التي لا تُضَيِّقُ على الطلاب في دراستهم, والتي تقوم على الحرية الفردية؛ فتعدهم لحياة الرجال التي تنتظرهم, فوق أنها ترهف الأذهان, وتفسح الملكات, وتطبع العقول على التفطن لما دق من الأفهام, وخفى من الأغراض. هذا إلى أن إجالة الفكر, وتقليب الرأي, تساعد على قوة الحجة, والرصانة في الجدل, والاقتدار على المحاورة, ومحاجة الخصم, والثبات للبحث المتشعب, والصبر على التفهم العميق, وهذه الطريقة في التعليم هي التي أشاد "سعد زغلول" بذكرها, فقد قال في خطبة ألقاها بالأزهر, بعد عودته من أوربة سنة 1921م: "جئت اليوم لأؤدي في هذا المكان الشريف فريضة صلاة الجمعة, وأقدِّمُ واجبَ الاحترام لمكانٍ نشأت فيه, وكان له فضل كبير في النهضة الحاضرة, تلقنت فيه مبادئ الاستقلال؛ لأن طريقته في التعليم تربي ملكة الاستقلال في النفوس؛ فالتلميذ يختار شيخه, والأستاذ يتأهل للتدريس بشهادةٍ من التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول كل نابغ فيه, ومتأهل له يوجه إليه كل منهم الأسئلة التي يراها, فإن أجاب الأستاذ, وخرج التلميذ ناجحًا من هذا الامتحان, كان أهلًا لأن يجلس مجلس التدريس, وهذه الطريقة في الاستقلال التي تسمى الآن خللًا في النظام, جعلتني أتحول من مالكيّ إلى شافعيّ؛ فقد وجدت علماء الشافعية في ذلك الوقت أكفأ من غيرهم1". ومما عرف المدرس باتباعه في إلقاء الدرس, أن يستهلَّ بالبسملة, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر الدرس بأن يقرأ بنفسه, أو يستقرئ أحد النبهاء من طلابه, وتراه متمكنًا من مادته, مترسلًا في أدائه, فصيحًا في عبارته, مطربًا في نغمته. ولم تكن أوقات الدروس في ماضي الأزهر محدودةً بأوقاتٍ معينةٍ, بل

_ 1 سعد زغلول للعقاد ص61.

يبدأ الشيخ في درسه حتى يتمه, فإذا ملَّ الطالب انصرف في هدوء, أو ظلَّ مكانه حتى ينتهي الشيخ فينصرف مع زملائه, أما اليوم, فللدروس مواقيت معروفة, تبدأ وتنتهي في حدودها. ولم يكن حاضر الأزهر متصلًا بماضيه, فيما يتعلق بالأهلية للتدريس, والتصدر له, فلا يكفل التدريس "أجازة" من شيخ, بل امتحان دقيق, وقانون يخصص اتجاه كل متخرج, ووضعه في الحياة. وقد سلب الطلاب حريتهم في التخلف, وأصبحوا خاضعين لنسبة معينة من الحضور, من نقص عنها حرم دخول الامتحان عقوبةً له.

مواد الدراسة في الأزهر

مواد الدراسة في الأزهر: كانت العلوم الدينية في مقدمة العلوم التي تدرس بالأزهر, وهي: علوم القرآن, والحديث, والكلام, والأصول, والفقه على مختلف المذاهب. وأوّل ما درس بالأزهر من مذاهب أهل السنة, المذهب الشيعيّ، وقد بقي هذا المذهب منتصرًا في مصر قضاءً, وفي الأزهر دراسةً, حتى انقرضت دولة الفاطميين سنة 567هـ, فعادت لمصر دراسة المذاهب الأربعة. وكان في مقدمة العلوم التي تدرس بالأزهر أيضًا, علوم اللغة؛ من نحو, وصرف, وعلوم البلاغة, والأدب, والتاريخ. ولما خفت الحدة المذهبية, أخذ الأزهر بنصيب وافر من العلوم المدنية, إلى جانب العلوم الدينية، وكانت الفلسفة, والطب, والمنطق, والرياضة, تدرس بالأزهر, إلّا أنها في نطاقٍ ضيقٍ, ولفريق خاصٍّ من طلابه. وبعد ذهاب الدولة الفاطمية في أواخر القرن السادس, وفي مستهلِّ الدولة الأيوبية, أصبح الأزهر مدرسةً حرةً تدرس فيها العلوم العقلية والمدنية بجانب العلوم الدينية, وإن كانت الصبغة الدينية لا تزال هي الغالبة.

وفي كتاب "التعليم العام في مصر" ما يفيد أن العلوم التي كانت تدرس غالبًا في الأزهر حتى منتصف القرن التاسع الهجريّ "الخامس عشر الميلاديّ" هي الآداب والفقه والتوحيد, وكانت تدرس بصفة استثنائية علوم الفلك والعوم الرياضية والطبيعة والتجريبية إجمالًا. ولقد أخذ القول بحرمة بعض العلوم العقلية يقرب شيئًا فشيئًا إلى الأزهر, كغيره من الجوامع الإسلامية, فتلقص ظل هذه العلوم, وأصبح الأزهريون ينظرون إلى العلوم الرياضية والجغرافية والفلسفية نظر السخط والبغضاء, حتى قال المرحوم مبارك "وينهى أهل الأزهر من يقرأ كتب الفلسفة, ويشنّون عليه الغارة, وربما نسبوه إلى الكفر" فعلوا ذلك مع جميع من اشتهر عنهم الاشتغال بهذه العلوم, وخاصَّةً مع السيد جمال الدين الأفغاني. ثم رأى ولاة الأمور أن يعيدوا إلى الأزهر دراسة هذه العلوم تدريجيًّا, فاستأنسوا برأي فريق من علمائه, فصدرت الفتاوى التي تبيح أن يدرس في الأزهر علوم الرياضة والجغرافية والطب, وأباحت أيضًا دراسة الطبيعيات, على شرط أن يكون البحث "على طريق أهل الشرع" أما إن كان على طريقة الفلاسفة, فالاشتغال بها حرام؛ لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع, كما أفاد ابن حجر, نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكر -وقد جوّز بعضهم تعليمه مطلقًا, كما حرمه بعضهم مطلقًا- وأما علم الكيمياء, فقد أباحت الفتوى دراسته بدون تعرضٍ لما يخشى منه على العقيدة الإسلامية1. وفي عهد الخديوي عباس الثاني, صدر الأمر المؤرخ في 20 من المحرم سنة 1314هـ بتدريس بعض هذه العلوم في الأزهر, فأصبحت العلوم التي تدرس فيه شاملةً للعلوم الدينية, وبعض العلوم الدنيوية, وغيرها من العلوم الجليلة

_ 1 انظر ص26 رسالة الأزهر لمصطفى بيرم, والفتوى التي أصدرها إذ ذاك مفتي الديار المصرية, بتاريخ 17 ذي الحجة سنة 1305هـ.

الشأن؛ كتاريخ الإسلام, وصناعة الإنشاء كتابة وقولًا, واللغة متنًا وأدبًا, ومبادئ الهندسة, وتقويم البلدان. وقد رأى أولو الغيرة على الأزهر, وفي طليعتهم المرحوم الشيخ محمد عبده, أن يشجعوا الطلاب على تنشيط هذه العلوم, والتبريز فيها, فخصصوا مبلغ ستمائة جنيه سنويًّا, تعطي مكافأةً للنابغين في هذه العلوم الحديثة, فكانت هذه الرعاية البالغة يدًا تنهض بها هذه العلوم, ولفتةً كريمةً شجعت على المضيّ في هذه الطريق. هذا وقد جد إصلاحان كريمان, يرمي كل منهما إلى توسيع مواد الدراسة بالأزهر؛ كي تكون شاملةً لكل ما يدرس بالمعاهد المصرية الأخرى, مما يعين على رسالة الأزهر, وإلى جعل العلوم الحديثة إجباريةً بعد أن كانت اختيارية, أولهما: الإصلاح الذي صحب عهد المرحوم الشيخ سليم البشري, ويرجع الفضل فيه إلى طائفة من كبار علماء الأزهر, وخاصةً المرحوم الشيخ محمد شاكر. ومما يجدر ذكره, أن الأزهر أخذ بحظٍّ وافر منذ إنشاء الكليات الأزهرية؛ من تعليم اللغات الأجنبية في كلية أصول الدين, واختياريًّا في غيرها1. كما فرض تعليم اللغات الشرقية؛ كالسريانية والعبرية في بعض أقسام التخصص, وأن تعليم اللغات الأجنبية في الأزهر وسيلةٌ جليلةٌ تهيء الاطلاع على الثقافات المختلفة, وتعين على نشر تعاليم الإسلام في كل بلد بلسانه. ولا ينبغي أن نغفل عن تعلُّم علم النفس, وفن التربية العملية والعلمية, اللذين هيآ للخريجين من كليات الأزهر أن يعترف بأهليتهم للتدريس بمدارس الحكومة المصرية, وقد تمّ منذ سنين تعيين فريق منهم مدرسين للغة العربية في هذه المدارس.

_ 1 منذ سنين تدرس في كلية اللغة العربية اللغة الإنجليزية إجباريًّا.

الكتب التي كانت تدرس بالأزهر

الكتب التي كانت تدرس بالأزهر: نستطيع أن نقول بوجهٍ عامٍّ, إن جلَّ الكتب القيمة التي عاصرت الأزهر كانت تدرس به, وخصوصًا الكتب المذهبية التي تلائم الروح الذي حرص الخلفاء المذهبيون على تنميته. وأول كتاب درس في الأزهر هو كتاب "الاقتصار" أو "الإقصار" الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيروانيّ, قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت, وكان يتولى قراءته وتدريسه بالأزهر ولده: "أبو الحسين عليّ بن النعمان" واستمرت قراءته مدى حين, على يد بني النعمان, المتعاقدين على قضاء مصر حتى نهاية القرن الرابع. وكان -للنعمان القيروانيّ- كتب أخرى في فقه الشيعة, وهي كتاب "دعائم الإسلام" الذي عُنِيَ بتدريسه بالأزهر عنايةً خاصةً, وكتاب "اختلاف أصول المذاهب" وكتاب "الأخبار" وكتاب "اختلاف الفقهاء" يرجح ابن خلكان أنها كانت تدرس بالأزهر إلى جانب كتاب "الإقصار" حتى أواخر القرن الرابع. ثم قرئ بالأزهر كتابٌ ألفه الوزير -ابن كلس- في الفقه الشيعيّ على مذهب الاسماعيلية, وهو المعروف بالرسالة الوزيرية, وكان يقرأ ذلك بنفسه, ويفتي الناس بما فيه -كما قلنا. وقد شدّدَ في مراعاة المذهب الشيعيِّ بصفة رسمية فيما يدرس من الكتب أول الأمر, حتى أنه في سنة "381هـ" في عهد العزيز بالله, قبض على رجلٍ وجد عنده كتاب "الموطأ" للإمام مالك, وطيف به, وجلد لإحرازه1. ولما فتر الاشتغال بالعلوم الإسلامية, وكان العلماء المتقدمون قد استوفوا

_ 1 الخطط التوفيقية جـ4 ص157

الكلام عليها بمؤلفاتهم الكثيرة, لم يجد المتأخرون من مبدأ القرن الثامن الهجريّ ما يظهرون به فضلهم إلا أن يلجأوا إلى ما بين أيديهم من الكتب فيختصروها منظومةً مرةً, ومنثورةً مرةً أخرى, وقد كانت موجزة اللفظ, بالغة التعقيد, ثم أخذوا يضعون لها الشروح والتفسير, ثم تلتهم طبقات الحواشي والتقريرات التي أغفلت اللباب وعُنِيَتْ بالقشور, وللأعاجم في هذه السبيل نصيب وافر من إيثارهم للاستطراد والتعقيد والاستغلاق, مما أضعف الملكات, وصرف الأذهان عن لُبِّ العربية وسر البلاغة. في أوائل القرن الرابع عشر الهجريّ, حين رأى أهل الرأي هذا الخطر المتافقم, قرروا حظر قراءة الحواشي والتقريرات في الأزهر, وجعلها مقصورةً على المتون مع الشروح الواضحة في أسلوبها. وقد كان في ميزانية الأزهر والمعاهد الدينية منذ عهد المصلح الخطير المرحوم الشيخ: محمد عبده, إلى زمن قريبٍ اعتمادٌ بخمسمائة جنيه, داخلة في فصل المصروفات المتنوعة, خصصت لتكون مكافآت تنهض همم مؤلفي الكتب التي يستوثق مجلس الأزهر العليّ من نفعها في التدريس, وهذا المبلغ الذي حُبِسَ لهذا الغرض, كان يمكن أن يذكي القرائح ويوفظ العزائم, ويعين على إيجاد نهضةٍ مثمرةٍ في تأليف الكتب العلمية, ولكن مما يؤسف له أن ظلَّ هذا المال يدرج في الميزانية كل عام دون أن يستغلَّ في هذه الغاية الجليلة, حتى تنبهت الحكومة إلى تعطيله, فأسقطته في ميزانية "1923-1924م" ولم تتضمنه الميزانية بعد ذلك, على رغم أنه منصوصٌ عليه في قانون الأزهر رقم 10 لسنة 1911م. ولا ريب في أن الكتب الأزهرية ثروةٌ علميّةٌ قيمةٌ، ولو أنها لقيت من حضرات المدرسين ما هي جديرة به من ضرورة التنقيح والتهذيب والإفصاح والإيضاح لتضاعفت ثمراتها, وأثمرت فائدتها. وأهم وجوه الإصلاح التي تتطلبها هذه الكتب أن توضع لها الفهارس

التفصيلية؛ لتوفر على طلابها وقتهم وجهدهم, وتقرب لهم الفائدة في أقرب وقت مستطاع, ثم ضبط ألفاظها, وشرح كلماتها اللغوية؛ لتستغنيَ بأنفسها عن غيرها, ثم التعريف بما فيها من أعلام, والتقديم لها بذكر تاريخ مؤلفيها, والعصر الذي أُلِّفَت فيه. وكان علماء الأزهر أولى بهذا العمل الجليل أن ينصرفوا إليه, وأقدر على هذه الرسالة أن يضطلعوا بها, بما استمكنوا فيه من المادة, واقتدروا عليه من معالجة البحث, ومرنوا على مزاولته من أساليبها, وتفهم أغراضها، فعسى أن تصحَّ العزائم, وأن تهيأ لبعض الأفذاذ من الأساتذة فرصةً من الزمن, وفسحةً من البحث والتشجيع, إذن لظهرت هذه الثروة العلمية نقيةٌ ناصعةٌ, وكان فيها للباحثين والطلاب أطيب الثمرات. العصر الحديث: يبتدئ هذا العصر من تاريخ دخول الفرنسيين مصر, بقيادة نابليون بونابرت في سنة "1213هـ 1798م" وقد كان الفرنسيون بغزوهم مصر أول من هدى المصريين إلى العلم الحديث الذي بهرهم نوره, وراعهم غريبه, وأوّل من لفت أنظارهم إلى نوع جديد من العلم, لم يألفوه من قبل, ولم يكونوا على عهد به, فالحملة الفرنسية بهذه المثابة حدث جديد, وتطور خطير, يصح اعتباره فاتحة عصر جديد. قضى الفرنسيون بمصر ثلاث سنين من سنة "1213هـ 1798م" إلى سنة "1216هـ 1801م" وقد لبثوا هذه المدة في قلقٍ واضطراب, لم يهدأ لهم خاطر, ولم يطمئن لهم بالٌ, يجاهدون المصريين والعثمانيين وهم يجاهدونهم, فلم تتهيأ لهم الفرصة التي تمكنهم من تنفيذ خطتهم, ونشر ثقافتهم, إلّا أنهم على رغم قصر المدة, وانتشار الفتنة, خَلَّفُوا بمصر آثارًا أدبيةً, واتجهوا بها اتجاهًا ثقافيًّا, كان على قصره مطلع حياةٍ جديدةٍ, ونواةً لنهضةٍ تولاها عاهل مصر بالسقي والرعاية من بعدهم.

الحملة الفرنسية على مصر وأثرها الفكري

الحملة الفرنسية على مصر وأثرها الفكري مدخل ... الحملة الفرنسية على مصر, وأثرها الفكريّ: لما قدم نابليون إلى مصر استقدم معه طائفةً من العلماء المبرزين في شتى العلوم والفنون, وجمهرةً من الصناع البارعين؛ كي يحقق هؤلاء تاريخ مصر, ويدرسوا شتى حيواتها وتقاليدها وعاداتها ونيلها وتربتها, ويكشفوا عن آثار هذا القطر ومخلَّفَاته؛ ليهيئوا للحياة الجديدة ما تتطلبه من وسائل, وما تستلزمه الإقامة بمصر من مشروعات, وليسجلوا ما وصلت إليه نتائجهم في هذه البحوث؛ لتكون مادةً لمؤلفهم العظيم الذي كانوا ينوون أن يضعوه بعد خروج الحملة, وهو كتاب "وصف مصر" وقد اتخذ الفرنسيون من دور المماليك الواقعة بالدرب الجديد في "الناصرية" مقرًّا لمرافقهم, وأقاموا بها مكتبةً ضخمةً تضم أسفارًا يطل عليها الفرنسيون وغيرهم من المصريين, وإذا دخلها أحد من الوطنيين رحبوا به, وأطلعوه على ما أراد من الكتب التي تدهش الأغرار, بما فيها من الرسوم البديعة, وفي جملتها رسمٌ للنبيّ -صلى الله عليه وسلم, ورسوم أخرى للخلفاء الراشدين, وغيرهم من الأئمة والأماكن المهمة، وكان في مكتبتهم هذه كتب عربية كثيرة. ويقول الجبرتي: "ومن جملة ما رأيته في ذلك, كتابٌ يشتمل على سيرة النبيّ -صلى الله عليه وسلم, وقد صوروا به صورته الشريفة على قدر علمهم وأخبارهم, ورأيت عندهم كتاب "الشفاء" للقاضي عياض, ويعبرون عنه بقولهم: "شفاء شريف" والبردة للبوصيري, ويحفظون جملةً من أبياتها, وترجموها بلغتهم1. ثم أقاموا المجمع العلميّ المصريّ في غضون السنة التي تمَّ لهم فيها فتح مصر, وكان مُؤَلَّفًا من ثمانية وأربعين عضوًا أخصى2 فريق منهم في الرياضيات، وفريق آخر في الطبيعيات، وثالث في الاقتصاد السياسيّ،

_ 1 تاريخ الجبرتي -2ص -24. 2 أخصى: تعلم علمًا واحدًا "قاموس".

ورابع في الآداب, وقد عُهِدَ برئاسته للعالم الكبير "المسيو منج" وبوكالته إلى بونابرت نفسه. وقد أغلق هذا المجمع بجلاء الفرنسيين عن مصر, وفي سنة "1859م" بعث هذا المجمع في "الإسكندرية" على يد جمهرةٍ من العلماء, ثم انتقل إلى "القاهرة" وهو بحيّ "المنيرة" بإزاء مدرسة التجارة العليا "سابقًا". وقد كان هذا المجمع جادًّا في بحثه, مثابرًا في عمله, يصدر في كل ثلاثة أشهر نشرةً يشرح فيها ما انتهى إليه من بحثٍ, ثم نشرت صفوة هذه البحوث في أربعة مجلدات, كما نشروا في وصف مصر كتابًا جليل القيمة, وقع في مجلدات كثيرة1. وقد دعاء الفرنسيون أثناء إقامتهم بمصر طائفة من علمائها وكبارها لمشاهدة علمهم الحديث, وما يجري في معهدهم مما هو غريب عن عيون المصريين, فكانت تملكهم الدهشة والعجب، ولا سيما حين رأوا التفاعل الكيمائيّ, وما يصنعونه من تجارب ظنها المصريون من ضروب السحر, وكان الشيخ "عبد الرحمن الجبرتي" بين من دعوا لمشاهدة هذه التجارب, فوصفها وعبَّر عن دهشته لها2.

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص288. 2 مما يقوله في ذلك: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان, أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجةً من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة, فصب منها شيئًا في كأس, ثم صبَّ عليها شيئًا من زجاجة أخرى, فعلا الماءان, وصعد دخان ملون حتى انقطع, وجفَّ ما في الكأس, وصار حجرًا أصفر, فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه. فعل كذلك بمياهٍ أخرى, فجمد حجرًا أزرق, وبأخرى فجمد حجرًا أحمر ياقوتيًّا, وأخذ مرةً شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض, ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف, فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة, انزعجنا منه, فضحكوا منا, وأخذ مرةً زجاجةً فارغةً مستطيلةً في مقدار الشبر, ضيقة الفم, فغمسها في ماء قراح, موضوع في صندوق من الخشب, مصفح الداخل بالرصاص, وأدخل معها أخرى على غير هيئتها, وأدخلهما في الماء, وأصعدهما بحركةٍ, انحبس بها الهواء في إحداهما, وأتى آخر بفتيلة مشتعلة, وأبرز ذلك في فم الزجاجة من الماء, وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال, فخرج ما فيها من الهواء المحبوس, وفرقع بصوت هائل أيضًا.

وكان من آثار الحملة الفرنسية أن أنشأوا في "القاهرة" مدرستين لتعليم أبناء الفرنسيين المولودين بمصر, كما أنشأوا جريدتين هما: "دكاراجبسيان - وكوريه ديجيبتن" وأنشأوا مسرحًا للتمثيل، عدا ما أقامو من المصانع والمعامل للورق والنسيج والتصعيد والتقطير, وما بنوه من أماكن للمراصد الفلكية والرياضيات والنقش والرسم والتصوير. وقد أنشأوا للقضاء بين المسلمين ديوانًا دونوا كل ما يقع كل يوم فيه.

حجر رشيد

حجر رشيد: ومما يُذْكَرُ للفرنسيين أن هداهم البحث والتنقيب إلى إماطة اللثام عن حجر رشيد, المنقوش عليه باللغات الهيروغليفية, والديموتيكية, واليونانية, وكان ذلك أول فاتحةٍ لحلِّ طلاسم الحروف الهيروغليفية, والوقوف على مكنونات أسرار الديار المصرية1. اهتدى إليه في بحثه شامبليون, فأزال عن وجه مصر القناع, وأنطق صم آثارها القديمة حتى ملأت الأسماع, وبدت لنا مصر العتيقة بهمته على ما كانت عليه في سالف الأزمان من الحكمة البالغة وعظيم الشأن، وصارت الآثار المصرية القديمة الآن لا تظهر لعين الرائي مجرد أطلالٍ يتعلق بها مجرد الشوق لرؤيتها, والشوق لظاهر هيئتها, بل تحقق أنها إنما هي صحف القوم السالفين, منقوشة في صلب الأحجار, وأساطير الأولين محفوظة في عين الآثار, نقرأ فيها قراءة نعرفها, ونطالع فيها وقائع تاريخية كانت هذه الجمادات الناطقة من معاصريها, بحيث لا ريب ولا شبهة فيها2.

_ 1 تقويم التيل, لأمين سامي باشا ج2 ص165. 2 تقويم النيل, لأمين سامي ج2 ص165 مترجمة عن كتاب تاريخ القدماء المصريين لأغسطوس ماريت, أو رئيس مصلحة الآثار المصرية.

صلة الأزهر بالحملة الفرنسية

صلة الأزهر بالحملة الفرنسية: قدم نابليون إلى مصر, واستصحب معه طائفةً من العلماء نشروا معارفهم على الناس, وبثُّوا من ثقافتهم ما لم يعهدوه من قبل، وكان الأزهريون أكثر من غيرهم إفادةً من هذه العلوم, وأوثق من سواهم اتصالًا بالفرنسيينن, وذلك مما مهد لهم أن يطلعوا على معارفهم, ويكشفوا أسرارها, ويكتنفوا دقائقها. ويتضح هذا الاتصال أكثر ما يتضح في طائفةٍ عرفت بالميل إلى الحياة الاجتماعية, ومسايرة العصر في تطوره ونهضه، وذلك كالشيخ: عبد الرحمن الجبرتي, مؤرخ العصر, والشيخ: حسن العطار, الشاعر الكاتب. أما الجبرتي: فقد طاف بحجرات المجمع العلمي الذي أنشأه الفرنسيون, ومَرَّ بأروقته, وسجَّل ما رآه من علماء الفلك والطب والكيمياء, وما شاهده من عِدَدٍ وآلاتٍ وتصويرٍ, وما أُجْرِيَ أمامه من تفاعل وظواهر وتجارب. وقد كان حين قدم الفرنسيون ناضج العقل, قوى الشخصية, ملمًّا بجانبٍ من أصول الرياضة والفلك، واختاره الفرنسيون عضوًا في الديوان الذي أنشأوه لمعاونتهم في حكم مصر, فكثر اتصاله بهم, واستمع لحديثهم, ووقف على كثير من أفكارهم وآرائهم وثقافاتهم, وتردد على أماكنهم, وزار معاملهم، ثم عاد فعبر عمَّا رأى, وصوَّر ما شاهد, وحدَّث عما طالعه من حضارة الفرنسيين ومدنيتهم, ومن تقاليدهم وعاداتهم، وكان حديثه التاريخيّ عن هؤلاء مرجعًا تعرف به أحوالهم في الفترة التي قضوها بمصر.

هذا إلى أن صلته بالفرنسيين, ومخالطته لهم, هذَّب تفكره, وصقلت قلمه, ونضجت آثارهم في كتابته التاريخية دقةً في التحرير, وإفاضةً في التصوير, واستيعابًا في سرد الحوادث, ونقدًا لكل ما يتصل بالأحداث والرجال. وأما الشيخ حسن العطار, فيحدث عنه علي مبارك فيقول: "جدَّ الشيخ في التحصيل حتى بلغ من العلوم في زمنٍ قليلٍ مبلغًا تميز به, واستحق التصدي للتدريس, لكنه مال إلى الاستكمال والاشتغال بغرائب الفنون, والتقاط فوائدها". وغرائب الفنون هذه, هي: الطب, والرياضة, والفلك, وقد وضع فيها عدَّةَ رسائل, وتمّ عنها في غير موطن شعره، ولما جاء الفرنسيون إلى مصر اتصل بهم, فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم, ويفيدهم اللغة العربية, ويقول: "إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها, ويتجدد ما بها من المعارف مما ليس فيها, ويتعجب مما وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم, وكثرة كتبهم وتحريرها, وتقريبها لطرق الاستفادة"1. فالشيخ حسن العطار كان مستعدًّا بفطرته ورغبته في الاستكمال والاشتغال, وغرائب الفنون إلى الاتصال بالفرنسيين؛ ليقف على حضارتهم, وعلومهم الحديثة, وثقافتهم الغربية, وهو علَّمَ الفرنسيين لغة العرب, وتعلَّم منهم لغتهم, وفي ذلك من تبادل الثقافة شيءٌ كثير؛ إذ أنه ينقل بالاتصال بهم وتعلم لغتهم طرفًا من علومهم ومعارفلهم, ويقف بالتفاهم معهم على جوانب من أخلاقهم ومعيشتهم وعاداتهم، وهم يعرفون بالتفاهم معه طرفًا من علم المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومعيشتهم ومعاملاتهم. ولابد أن يكون الشيخ حسن العطار بعد ذلك صلةً بين الفرنسيين, عن طريق ما ينقله من علومهم وثقافاتهم؛ إذ أنه لولوعه بهذه العلوم سيتحدث بها

_ 1 الخطط التوفيقية ج3884

ويغري غيره بتتبعها, ويتحقق به وبغيره من الأزهريين الذين كان لم مثل هذا الاتصال التأثر بالفرنسيين في ثقافاتهم وحضارتهم, قبل أن يتاثر بذلك غيرهم من الناس. ويقول الأستاذ "أغناطيوس كراتشفويفسكي" الأستاذ بجامعة لننجراد: "إن العرب لم يتأثروا بالتيارات الفكرية في أوربة, إلّا بعد الحملة الفرنسية "1798-1801م" فإذا أردنا أن نبين مظاهر الثقافة الأوروبية التي تركت أثرًا أعمق من غيرها في التفكير العربيّ, ألفيناها في الوصف الذي أورده الجبرتي لأول مطبعة حروف, ورأيناه في أول مكتبةٍ نظمت على النمط الأوروبيّ في دار الشيخ حسن العطار, الذي أصبح فيما بعد شيخًا للأزهر, وأن في هذين المثلين فكرةً عن بعض العوامل التي قامت بدور هامٍّ في تكوين الأدب الحديث1". وهذه هو المرحوم السيد اسماعيل الخشاب الشاعر, المتوفى سنة "1230هـ" يُعَيِّنُه الفرنسيون كاتبًا لسلسلة التاريخ التي تسجل حوادث الديوان الذي أنشأوه, ويعهدن إليه في مشروع إنشاء صحيفة عربية يشرف على تحريرها, لولا أن القدرلم يرد صدورها؛ إذ بقي مرسومها معطَّلًا، ويمتزج غاية الامتزاج, ويصادق أبلغ الصداقة شابًّا فرنسيًّا من رؤساء كتابهم, كان جميل الصورة, لطيف الطبع, عالمًا ببعض العلوم العربية, مائلًا إلى اكتساب النكات الأدبية, فصيح اللسان بالعربيّ, يحفظ كثيرًا من الشعر، فلتلك المجانسة مال كلٌّ منهما للآخر, ووقع بينهما توادٌّ وتآلفٌ, حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة الآخر, فكان المترجم "الخشاب" تارةً يذهب لداره, وتارةً يزوره هو، ويقع بينهما

_ 1 مما ترجمه الأستاذ أمين حسونة النواوي في السنة الرابعة من مجلة الرحالة ص1625 العدد 170.

من لطف المحاورة ما يعجب منه, وعند ذلك قال المترجمُ الشعرَ الرائقَ, ونظمَ الغزلَ الفائقَ1. فهذه الصلة بين الخشاب والفرنسيين, وبينه وبين صديقه الفرنسيّ بوجهٍ خاصٍّ, من شأنها أن تؤثر في ثقافة الخشاب, وأن تقفه على كثير من أحوال الفرنسيين, وأن يتأثر بما هم عليه, مما هو غريب عن ثقافته وتفكيره. كان هذا الاتصال الوثيق بين الفرنسين وهؤلاء الأزهريين عاملًا قويًّا ذا أثر بليغ في الوقوف على حضارة الفرنسيين وعلومهم، ونستطيع أن نقول: إن هؤلاء العلماء كانوا معبرًا بين الثقافة الغربية والثقافة العربية المصرية, وإن أفكارهم كانت أنضج الأفكار المصرية الصالحة للتأثر بالفرنسيين في ذلك الزمان.

_ 1 الجبرتي 4 ص239.

نابليون وعلماء الأزهر

نابليون وعلماء الأزهر: أدرك نابليون ما لعلماء الأزهر من نفوذٍ في الشعب, ومكانةٍ في الأمة, واستشعر أنه لكي يسوس هؤلاء الناس -أي: المصريين- لابد من وسطاء يسعون بيننا وبينهم, وكان لابد له أن يقيم منهم زعماء يوجهون الأمة برأيهم, وفضَّلهم على غيرهم؛ لأنهم أولًا: كانوا كذلك -أي: رؤساء بطبيعتهم- وثانيًا: لأنهم كانوا مفسري القرآن, ومعروف أن أكبر العقبات تنشأ عن أفكار دينية, وثالثًا: لأن للعلماء خلقًا لينًا؛ ولأنهم دون نزاعٍ أكثر أهل البلاد فضيلةً. قدَّر نابليون الزعامة الروحية لعلماء الأزهر, واتخذ منهم سبيلًا للتفاهم مع الشعب, وألَّفَ منهم الديوان للفصل في القضايا1.

_ 1 ما بين قوسين من مذكرات نابليون.

تأليف الديوان

تأليف الديوان: كان ذلك يوم الخميس 13 من صفر, سنة 1213هـ, وقد وقع الاتفاق على انتخاب الشيخ: عبد الله الشرقاوي, والشيخ: خليل البكري, والشيخ: مصطفى الصاوي, والشيخ: سليمان الفيومي, والشيخ: محمد المهدي, والشيخ: موسى السرسي, والشيخ: مصطفى الدمنهوري, والشيخ: أحمد العريشي, والشيخ: يوسف الشبراخيتي, والشيخ: محمد الدواخلي, ثم انتخب الشيخ: عبد الله الشرقاوي رئيسًا له1. ثم إن هذا الديوان قد عُطِّلَ في أثناء المفاوضات التي كانت قائمةً بين الفرنسيين والأتراك؛ لعقد معاهدة العريش, فقد كان الفرنسيون يعتزمون الرحيل إذا نفذت المعاهدة, ولكنها نقضت, ولم يفكر "كليبر" في إعادة الديوان, فلما قُتِلَ, وآلت القيادة إلى "مينو" أعاد الديوان في صورة أخرى, وعلى ترتيبٍ جديد؛ إذ أصبح مكونًا من تسعة أعضاء, وهم: الشيخ: عبد الله الشرقاوي, رئيس الديوان, والمهدي كاتب السر, والشيخ: الأمير, والشيخ: الصاوي, وكاتبه, والشيخ: موسى السرسي, والشيخ: خليل البكري, والسيد: علي الرشيدي, نسيب ساري عسكر, والشيخ: الفيومي, والقاضي الشيخ: اسماعيل الزرقان, وكاتب سلسلة التاريخ, السيد: اسماعيل الخشاب, والشيخ: علي كاتب غربي إلخ2. ثم أجريت القرعة, فكان الشيخ الشرقاوي رئيسًا, والشيخ المهدي كاتبًا للسرِّ، وكان بجانب الديوان الأول ديوانٌ آخر سُمِّيَ محكمة القضايا؛ للنظر في قضايا التجار والعامة. وقد أشار الشيخ عبد الرحمن الجبرتي إلى نفسه بين أعضاء الديوان المؤلَّف في عهد مينو بقوله: "وكاتبه" ولكن بعض المؤرخين زعم أنه يقصد: وكاتب الشيخ مصطفى الصاوي, بعد ذكره, غير أن مما يؤيد اختياره عضوًا بهذا الديوان ما نشرته جريدة الفرنسيين التي كانت تصدر بمصر وقت وجودهم بمصر, فقد نشرت في العدد "91" الصادر في 5 من ديسمبر سنة "1800م" من "الكوريه دليجيبت" رسالةً وديةً أرسلها أعضاء الديوان إذ ذاك إلى نابليون, وبأسفلها توقيعات أعضاء الديوان جميعًا, والجبرتي بينهم.

_ 1 تقويم النيل جـ2 ص122 والجبرتي ج3 ص11. 2 الجبرتي جت3 ص137، 138.

وكثيرًا ما كان الفرنسيون يذيعون كلما اقتضى الحال باسم العلماء نداءًا ومنشوراتٍ لتهدأ بها العواصف وتسكن الفتن، ومن ذلك ما كُتِبَ في شهر جمادى الآخر سنة 1213هـ, ووزع في مختلف الأمكنة "نصيحةً من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة, نعوذ بالله من الفتن, ما ظهر منها وما بطن, عليكم ألّا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا المفسدين, ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الشرار, ولا تكونوا من الخاسرين, سفهاء العقول الذين لا يقرؤون العواقب؛ لأجل أن تحفظوا أوطانكم, وتطمئنوا على عيالكم ودنياكم، فإن الله -سبحانه وتعالى- يولى ملكه من يشاء, ويحكم ما يريد، ونخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا عن آخرهم, وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم: ألا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة, واشغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم، والدين النصيحة, والسلام"1. وكثير من أمثال هذه النداءات كان الفرنسيون يذيعونها باسم علماء الأزهر, كما كانوا يذيعون ما يتخذ في الديوان من قراراتٍ يراها أعضاؤه, فتكون سببًا في إسكان الفتن والقلاقل.

_ 1 الجبرتي جـ3 ص30.

محمد علي باشا

محمد علي باشا: منذ تهيأ لمحمد علي الحكم "سنة 1220هـ - 1805م" وهو ساهر على رعاية العلوم والآداب والفنون, موصول الجهد لتحرير البلاد من الجمود الذي خلَّفه المماليك, والفساد الذي استشرى في شتيت الشئون, توجهت همته اليقظة, وعزمه الجبار, إلى نهضة جديدة؛ فبعث البعوث إلى بلاد الغرب؛ لتقتبس من علمه وثقافته وحضارته، وطبعت مؤلفات, وترجمت علوم, وأصبح للتعليم في مختلف مراحله ومظاهره مدارس منظمة, تتولى الحكومة فيها تعليم أبناء

الشعب, وتقوم بإيوائهم وكسوتهم, وتهيؤهم للمناصب الضخمة, والرتب الرفيعة؛ كي يكونوا قوَّادًا للجيل الجديد, ورعاة للناشئة المرجوّة. استعانة محمد علي بالأزهريين: وقد استعان محمد علي بالأزهر في نهضته, واعتمد عليه في تحقيق غايته, وبلوغ رسالته, فاستمد من الأزهر البعوث العلمية التي أرسلها إلى أوروبا، ومن الأزهر استمدت المدارس التي أنشأها لتحقيق أسباب النهضة، وأبناء الأزهر هم الذين ألَّفوا الكتب في العلوم الحديثة, ونقلوا من علوم الغرب وثقافاته ما لا عهد لنا به من قبل, فأزهرت بهم الحياة الأدبية والعلمية والاجتماعية في شتى ألوانها، وكانوا القبس الذي اشتعل منه المصباح الذي بدَّد ظلمات الجهل, وأنار سبل العلم. خلفاء محمد علي: انتكست الحياة العلمية والأدبية والاجتماعية بعد أن قُبِضَ المرحوم محمد علي "في سنة 1565هـ - 1849م" وانتهت ولاية مصر إلى حفيده المرحوم عباس الأول؛ إذ أُغْلِقَتِ المدارس العليا, ولم يبق إلّا مدرسة الحربية, ووقفت البعوث التي كانت توفد إلى الغرب, وعُطِّلَ كثير من المعامل والمصانع, وجف معين الإصلاح, وانقطعت أسباب التثمير والعمران, ونَجَمَ عن ذلك أن انحلت عزائم العلماء والأدباء, وشُلَّتْ جهودهم التي كانت تبذل في نهوض العلم والأدب. وكان حكم "سعيد" من بعده امتدادًا لحكمه, إلّا أنه مدَّ سكة الحديد بين العاصمتين, وفي ذلك أبلغ النفع, وأذن بحفر القناة, وفي ذلك من الضُّرِّ والبلاء ما نعانيه.

اسماعيل: ولكن الله أراد لمصر أن تنهض من هذه الكبوة, وأن تنقشع عنها تلك الدياجي؛ حيث أفضى حكمها إلى المرحوم "إسماعيل" ابن المرحوم "ابراهيم" في سنة "1280هـ-1863م" فنهج نهج جده محمد علي في الإصلاح والتثمير, وتوفير أسباب التقدم والنهوض, والعمل على إحياء العلوم والآداب ما واتته القوة وعوامل الحياة، ولقد كان كريم الرعاية للعلماء والأدباء, عظيم التقدير والإيثار لهم, وقد احتضن العلماء والأدباء الذين فروا من العسف والجور بالشام, واحتفل بهم, وأكرم لقاءهم, واستعان بهم, فأنشأوا الصحف العربية بمصر, وسار الناس من بعدهم ركضًا, ورحَّبَ بالجاليات الأوربية, فأنشأت المدارس التي أغدق عليها ما زاد عن حاجتها من المال والرعاية، ونهضت في عهده العلوم والفنون والآداب، وانبثت في بلاده وسائل الحضارة والرقيّ والعمران, حتى أصبح يفاخر ويقول: "صارت مصر قطعةً من أوربة". ومن مفاخره وطيب آثاره, ما عهد به إلى المرحوم علي مبارك, من إنشاء مدرسة دار العلوم في سنة "1828هـ-1871م" فقد كان لها أثر محمود في خدمة العلم والأدب, واستطاعت بتلاميذها وأساذتها النابهين الذين استقوا ثقافتهم من الأزهر أن تكون معهدًا يُخَرِّجُ فحول العلم, وفرسان البيان. كما كان من مكرماته الباقية على وجه الزمان, تأسيسُ دار الكتب المصرية في سنة "1289هـ-1270م" فقد اجتمعت بها الأسفار الضخمة, وأمهات الكتب في العلوم والفنون والآداب, بعد أن كانت موزَّعةً مفرقةً, لا يتيسر الانتفاع بها, فأصبح اجتماعها في مكانٍ واحدٍ يَرُودُه العلماء والمتأدبون, ويجدون فيه آثار الثقافة التي ينشدون؛ من أهم أسباب التقدم في العلم والفن والأدب.

ولم يقنع اسماعيل لبث الثقافة في ربوع البلاد بإنشاء المدارس في مختلف الأرجاء, بل درج على سنة جده في إرسال البعوث من نجباء الأزهريين وغيرهم إلى بلاد الغرب؛ لنقبس من نوره وحضارته وثقافته, كما استقدم من هذه البلاد أعلام العلم والإصلاح؛ ليستعين بهم على رسالته في إنهاض مرافق الحياة جميعًا. ومن ارتياحه للعلم والفن وتشجيعه لأهلهما, أنه استلحق بمعيته المرحوم عبده الحامولي, الموسيقيّ المغني الشهير, ووهب للمرحوم ابراهيم المويلحي بعد أن خسر ثروته في التجارة مالًا استرجعها به, ووظَّف نقولا بك توما الأديب في حكومته. تقديره للأزهريين: على أنه غمر الأزهر والزهريين بعطفه, وأولاهم كريم رعايته وعظيم تقديره, فقد حرَّك الهمم بالإصلاح الذي أدخله على نظم الأزهر, فنشطت الحياة به, وزادت همة المنتين إليه, وأظلَّ بظلاله الشاعرين الأزهريين؛ الشيخ: عليًّا أبا النصر, والشيخ: عليًّا الليثيّ, وأدنى منه الشاعر الكاتب: عبد الله فكري, أحد نوابغ الأزهر, وعهد بتثقيف أبنائه إلى العالم الأزهريّ النجيب المرحوم الشيخ: عبد الهادي نجا الأبياري, وأدنى من نفسه الدكتور: أحمد حسن الرشيدي، وهو من نوابغ الأزهريين الذين قام عليهم البعث الأول, وأحد الأفذاذ في ترجمة الكتب الغربية إلى اللغة العربية, وقد أوعز إليه اسماعيل أن يبرز آية من علمه؛ فألف كتابه "عمدة المحتاج لعلمي الأدوية والعلاج". بعد إسماعيل: تولى الخديو "محمد توفيق باشا" حكم مصر بعد اسماعيل, سنة "17879م" والبلاد في حالٍ مضطربة من فراغ الخزانة, وسخط الشعب, وتألب الجيش, ولم

يكد يلتفت الخديو توفيق إلى الإصلاح يدبر أمره, وإلى التعليم يسهر عليه, حتى اندلعت نار الثورة العرابية في سنة "1881م" فاضطربت البلاد, واستعرت الفتن، وقد كانت هذه الثورة نتيجةً للشعور بالكرامة واليقظة الوطنية, وكان مما أعان عليها تسامح توفيق, وتمتع الناس بقسطٍ وافرٍ من الحرية في عهده، وليس بخافٍ ما أحدثته الثورة من انطلاق الفكر, واتساع مجال القول, وارتقاء الخطابة, وانتظام السياسة في أغراض الشعر, وهي من أهم مقوماته. ارتياحه للأدب والأدباء: وقد أُثِرَ عنه أنه كان مغرمًا بالشعر يرتاح إليه ويكافئ عليه، ذكر عبد الله باشا فكري إنه جمع للخديو توفيق بأمره أبياتًا من الحكم والأمثال وجوامع الكلم؛ لتكون له زينةً في المسامرة, وهونًا على المطارحة والمحاضرة, ومرشدًا لمحاسن السجايا الفاخرة. كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبَّر إذا وافيت واجتنب الكبرا وقِفْ خاشعًا واستوهب الإذن والتمس ... قبولًا وقَبِّلْ سدة الباب لي عشرا وبلِّغ لدى الباب الخديوي حاجة ... لذي أملٍ يرجو له البشر والبشرى فما لبث أن تهلل له وعفا عنه, ورَدَّ إليه ما قطع من معاشه. وكذلك عفا عن السيد عبد الله نديم خطيب الثورة العرابية حين مثل بين يديه, بعد أن جَدَّ الخديو في القبض عليه, ورصد ألف جنيه لمن يعثر عليه. وقد ندب توفيق عبد الله فكري باشا لتمثيل مصر في مؤتمر المستشرقين في "استكهلم" فأنشد فيه شعره, وكان ذلك آيةً على ارتياح الخديو للأدب. وحدث المرحوم أحمد شوقي بك أن توفيقًا أمره أن يلجأ إليه في كل ما يحتاج إليه, دون أن يتوجه إلى أبويه بشيءٍ مما عساه أن يكون من مطالبه.

عباس الثاني: تولى سنة "1892م": انتهت الثورة العرابية بأن نفى أعلام الأدب, وتقلص ظله, وانقبض عنه أهله، وانزوى أنصار العلم واللغة والأدب بعيدين من حياة الجَدِّ والمثابرة, ففترت النهضة العلمية والأدبية، واتجه التعليم وجهة جديدةً, ضعفت فيه العناية باللغة, وجعلت اللغة الإنجليزية لغة التدريس لمعظم العلوم، وأصبح التعليم أداةً لتخريج موظفين للحكومة, مشايعًا لنظم الاحتلال ومناهجه. ولكن الله قيَّضَ للأمة عصرًا تحيا فيه بعد موت, وتزدهر فيه إثر ذبول, فهبَّت العناصر الرشيدة تطالب بسيادة لغتها, وإصلاح تعليمها, وفزعوا إلى منابر الصحافة يدعون فيها إلى التحرر من هذا الجمود, ويستنهضون العزائم لإنشاء المدارس الحرة؛ فأسس منها طائفة تكفلت بتعليم الشعب, وإنارة أفكاره, وكان في طليعة ما أثمرته هذه الجهود, إنشاء الجامعة المصرية في سنة "1906" ورحل بعض المتعلمين إلى أوربا فنهلوا من ثقافتها, ثم عادوا ينشرونها في بلادهم، ونهضت الصحافة والقضاء والمحاماة والحياة الاجتماعية، وثار الأزهريون ثورتهم لتعديل مناهج الأزهر, وتقدير شهاداتهم ومؤهلاتهم. بعد عباس: وقد راجت حركة التعليم, وارتقت العلوم والآداب والفنون, فوصل إلى مبلغٍ لم تصل إليه في أطوارها من قبل, سواءً في نوع التعليم, أو عدد المدارس المنشأة, أو التوفر على الدراسة العليا في مصر, وفي الغرب. وفي عهده فرض التعليم الأوليّ على كل مصريّ ومصرية في الخامسة من عمرها، واضطلعت وزارة المعارف بإنشاء طائفةٍ من المدارس المنبثة في مدن القطر وقراه لهذه الغاية بالمجان, وزيدت نسبة المدارس الابتدائية والثانوية, أميرية وحرة, واحتفل بالتعليم الفني, فانشئت له المدارس المتوسطة والعالية، واتسع نطاق التعليم بما يكفل حاجة الشعب في نهضته الواسعة. وتولت وزارة المعارف الجامعة, وقد كان الأمير فؤاد رئيس شرفها حين

البدء في إنشاءها, فأسست بناءها, وزادت في فروعها, واستقدم لها مهرة الأساتذة وفاءً بحاجتها، واستأنف إيفاد البعوث إلى أوربا، ونال الأزهر ما يتطلبه من وسائل الإصلاح, فأنشئت به كليات تضطلع بالتفرغ للعلوم في مختلف أنواعها, وفي سنة 1932م أنشأ المجمع اللغويّ الذي قام بجهدٍ جبَّارٍ في المحافظة على اللغة, ووضع المعاجم, والألفاظ العربية, لتحلَّ محلَّ المصطلحات الأجنبية.

كلمة عامة في فضل الأزهر

كلمة عامة في فضل الأزهر مدخل ... كلمة عامَّة في فضل الأزهر: كلمة تسمعها الآذان فنلتفت إلى حقبةٍ طويلة من الزمان, ظلّ الأزهر خلالها حصن الدين الحصين, وركن العلم المتين, وملاذ اللغة والأدب والثقافة جميعًا. عشرة قرون وتزيد, كان الأزهر خلالها المعقل الوحيد الذي ثبت لحملات الغير, فانتهت إليه شريعة -محمد صلى الله عليه وسلم, واستأمنت إليه آداب العرب, واستعصمت فيه لغة القرآن. كان الأزهر ولا يزال سُنَّةً واضحةً لهدي الدين, استقام الناس به هذه القرون على عمود واحد, ولبث في هذه المدة على طولها شامخًا كالبنيان الراسخ, لم تطامن من عظمته الأحداث والمحن, ولم تنهته من قوته الخطوب والفتن. الأزهر - هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلّا كلمة الهرم, أجل: لقد مضى الأزهر على وجه التاريخ قويًّا جبارًا يحطم العقبات من سبيله, ويحمل الرسالة غير حافلٍ بالسدود, فهذا هو دين الله, نشره علماؤه, ونصره أبناؤه, وانبثق فيهم نوره, وشع منهم ضياؤه, لم يقصروا الدعوة على خلق الدروس في معهدهم, ولم يقفوها على مصر مهدهم, بل نفر من كل فرقة منهم طائفة غشت أرجاء العالم, واقتحمت على الفرنجة بلادهم, وغزوا المهاجمين للإسلام, فتبددت أمامهم شبه الملحدين، وذاب زيف المضللين والمبشرين. علماء الأزهر هم حملة هذا المشعل, يهدون ضالًّا, ويرشدون غاويًا, ويهذبون عاصيًا, ولقد آزروا الدين مرةً بالخلق, وأخرى بالهداية, فما اهتزت المنابر بالدعوة لدين الله, ورعاية الفضيلة, وحماية الأخلاق, إلّا كانوا هم اللسن والدعاة والمرشدين والهداة، أو ليس أئمة المساجد وخطباؤها والواعظون بمصر والمرشدون فيها, ممن تخرج في الأزهر؟ وخلع عليهم من علمه وبيانه، وهديه وإيمانه؟

حمل الأزهر رسالة العلم في الدنيا, فاضطلع بها أشد ما يكون قوة وفتاء، فكم استفاض على العالم العربيّ بكتبه ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه، وما كان علم الأزهر إلّا نفوذًا إلى أغوار البحث, وغوصًا وراء الحقائق، وتجليةً للأسرار والدقائق. ومن ثَمَّ, فإن علم الأزهر صقل الأذهان, وربَّى الملَكَاتِ, وقوَّمَ الألسن, وأخرج الحقائق كالعرائس المجلوُّة, والدر المنضد. وكان الأزهر ولا يزال كعبةً يحج إليها الناس من أقطار الأرض، ينهلون من ورده، ويقبسون من نوره "وأعظم ما يدلنا على ما لهذا الجامع من مقامٍ عظيمٍ في العالم الإسلاميّ, هو عداد أسماء الذين يؤمونه من أقطارٍ خارج مصر, تمتد من أواسط أفريقية, إلى روسية, ومن أقاصيّ الهند إلى مراكش"1. وقد ظل الأزهر طول حياته سوقًا للعلوم اللسانية, وسياجًا للغة الفصحى يوطدها في البلاد العربية, ويشد أزرها في مختلف أقطارها. وكان من آثار الأزهر في مصر أن جعل لها مكانًا ممتازًا, وسلطانًا أدبيًّا, وزعامةً موفورةً على البلاد العربية, والشعوب الشرقية, وأصبحت هذه الأقطار تنظر إلى مصر نظرها إلى الهادي المرشد, وتعترف لها بالفضل وعُلُوِّ المكانة, وتوفد بعوثها إلى هذا الخضم الزاخر, تنهل من علمه وثقافته. وعلى كل حالٍ, إن للأزهر وحده الفضل في صيانة العلم في هذه البلاد على طول ما حلَّ بها من المحن, وما عصف بها من ألوان الفتن، ولقد كان هو الينبوع الذي نهلت منه النهضة العتيدة, واستمد منه العلم الحديث2. والأزهر خير معهدٍ خَرَّجَ أدباءً وكتابًا وشعراءً، وقد نبغ منه قوم هم

_ 1 دائرة المعارف للبستاني ص65. 2 المفصل في تاريخ الأدب العربي جـ2 ص304.

لهاميم البلاغة, وعرانين الفصاحة1 وكم لقيت آثارهم من الآذان استماعًا, ومن القلوب انتجاعًا. خَرَّجَ الأزهر من مدرسته الصحفيَّ البارع, والخطيب الساحر, والسياسيَّ الداهي, والمصلح الخطير، ودرج على ربوعه قوّاد مصر في نهضتها وثورتها, وبناة مجدها, وحماة تراثها, كل نابهٍ اغترف من فضله, وارتوى من بحره, واغتذى بثقافته, فإما عكف على طريقه حتى أتمه, وإما وجهته هذه التنشئة, ومكنته تلك البداية, من النهوض بما يحفل به من رسالة, وهو أبلغ ما يكون قوة, وأتمّ ما يكون أهبة, فالأزهر موئل العظمة في شتى النواحي, بطريق مباشر أو غير مباشر. وذلك الفضل العظيم, وهذ المكانة السامقة, هي التي هيأت لرجال الأزهر من مطالع عهده إلى اليوم, جلالةً تغشى العيون, وقدسًا يملأ الصدور, وسَعَتْ بهم إلى مكان القيادة والتوجيه, ومنحتهم من بلاغ القول, ونفوذ الكلمة, وزعامة الرأي, ما ضمن لهم الإمامة, وفرض لهم الصدر, ومكنهم من القيادة والإرشاد, وجعل لهم من مهابة الرأي أن يفصلوا في جلائل الأمور, وأخطر الشئون, وأن يمتدوا بنفوذهم أحيانًا إلى مصاير العروش والسلاطين. وكل معهد من معاهد الدنيا طامن من عظمته ما يصيب الدولة من أحداث وضعف وتفكك وانحلال, فخبت شعلته, وتقلص ظله, وتعثرت رسالته, أما الأزهر: فقد ظلَّ على تراخي الحقب, أنْوَطَ بالحياة وأعلق بالمجد؛ لأنه سخر من المحن, وعبث بالنازلات, ومضى في طريقه قدمًا, لا يلوي على شيء حتى استقام له ما يرمي إليه من شيوع الرسالة, وإعزاز الدين, وحفظ اللغة, ونهوض العلم. وقد يكون من العدل أن تقرر: أن الأزهر يتأثر بعض التأثر بعوامل الخمول

_ 1 لهاميم الناس: أشياخهم ونخباؤهم, جمع: لهموم, وله معانٍ كثيرة؛ منها: كثير الخير, والعرانين, جمع عرنين, وهو الأنف كله, أو ما صلب من عظمه, ومن كل شيء أوله, والسيد الشريف "قاموس".

والركود في بعض العصور أحيانًا؛ للحياة العامة التي تمس النهضة وآثارها, وإنه يحلق مرةً, ويهبط أخرى, حسبما يتوالى له من هذه الأجواء, إلّا أنه على كل حالٍ لا يتأثر تأثر غيره بأسباب الضعف والانحلال, بل تعينه غزارة العلم فيه, وتضلع أبنائه في ثقافتهم, وتمكنهم من رسالتهم التي يحتملونها, من مقاومة الأسباب التي تصيب آثار النهضة, فلا يكون نصيبه منها إلّا تافهًا, يمسه مسًّا رقيقًا خفيفًا, فينهض برسالته على كل حالٍ ولو متثاقلًا. فإذا اضمحلت الحركة الأدبية والفكرية في مصر بالفتح العثمانيّ, في سنة "923هـ-1520م" وركدت ريح العلم, وانخذلت المعاهد والمدارس, رأيت الأزهر يخضع لهذه الاضطرابات, ويطامن قليلًا من قوته؛ لأن هذه العوامل إنما تصيب الحركة الفكرية جميعًا, إلا أنه يظلُّ على رغم هذه المحن قائمًا على الحركة الأدبية والعلمية, ذا مكانةٍ راسخةٍ في الثقافة, محتفظًا بطابعه وقوته, محافظًا على جلاله وهيبته, حتى ليستطيع أن يلفت نظر الفاتحين الأتراك إلى عظمته وقداسته, "كذا"1 فيسعوا للتبرك بالصلاة فيه غير مرة2. بل يستنجد الحاكمون بعلمائه, فيعينونهم على الاستقرار والسكينة, وتكون كلمتهم حسمًا للثورة والفتن, وقمعًا للاضطرابات والأحداث, وتجد أهله في الوقت الذي تخمد فيه الأنفاس, وتعيا فيه الملَكَات, يعبرون عن شعورهم, ويصورون إحساسهم, ويظهرون ذلك كله شعرًا ونثرًا وخطابةً, وما ذلك إلّا الأدب في مختلف فنونه. كانت تلك حال الأداب والعلوم في ظلال الحكم العثمانيّ في مصر, فقد أصابها ما غَضَّ من شأنها, وعفى على آثارها, ولم يبق منها إلّا بصيصٌ يشع من الأزهر, ولولاه لانقطعت صلتنا بالعلم وأهله, واللغة وآدابها, ولذهبت البقية الباقية من هذا المجد المؤثل, والتراث الكريم3. ذلك مما امتاز به الأزهر الذي حرس اللغة والأدب العربيّ, وكان له فضلٌ خاصٌّ على آداب اللغة العربية؛ لأنه احتفظ بها في أثناء الأجيال المظلمة4.

_ 1 الصحيح القدس والقداس. 2 عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص192. 3 المفصل في تاريخ الأدب العربيّ جـ2 ص198. 4 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص22.

الأزهر مصدر الثقافة

الأزهر مصدر الثقافة: نشر الأزهر ألويته في ربوع الثقافة المصرية, وأظلَّها بظله الوارف, وفيئه السابغ, وكان الدوحة التي امتدت فروعها, وآتت أكلها، ولو نظرت إلى مصادر الثقافة في العصر الحاضر لرجعتها في أكثر الأمر إلى الأزهر, ووجدتها في مختلف مراحلها وأطوارها نابعةً من معينه. فإن الصبيَّ الناشئ يتلقى وهو لدن العود ثقافته الدراجة في المكاتب التي تسمى: "كتاتيب"1 ومن السهل أن نُعِدَّ هذه البيئات المتواضعة موطنًا للدراسة الأولية, هذه المكاتب المنبثة في كل بلد أو قرية, ولا يخلو منها حيٌّ من أحياء المدينة, كانت وحدها الجدول الهادئ الذي يترقرق ماؤه, وينهل منه الناشئون، نعم, إن التعليم فيها لا يتجاوز في كثيرٍ من الأحيان حفظ القرآن, وتعليم القراءة والكتابة, ومبادئ الحساب, والإملاء, والمعلومات الأولية, وتدريبًا على المطالعة، ولكن كثيرًا من هذه المكاتب يلقن الصبيّ من الثقافة ما يتأهل به في المرحلة الأولى التي هي المدارس والمعاهد الدينية, وقد كان المكتب سياج القرآن وحصنه المنيع, والعامل الأول في محو الأمية.

_ 1 الكتاب والمكتب موضع التعليم, وأصله جمع كاتب, وأطلق على المكان للمجاورة, وقال الأزهريّ عن الليث أنه لغة, ومنه قول الشاعر. تبًّا لدهر قد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الفضل والآداب وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب انظر تاج العروس.

وتقليل الجهالة, ومن يوم أن انتزعت المدارس الإلزامية هؤلاء الصبيان من مكاتبهم, وهو خلو من حفظ القرآن, ضعفاء في معلوماتهم الناشئة، وقد رأينا ذوي الغيرة على كتاب الله يلجأون إلى إنشاء جمعيات للمحافظة على القرآن الكريم. والذي نرمي إليه, أن أغلب القُوَّامِ على هذه المكاتب ممن استقوا معلوماتهم الأولى من الأزهر, ثم انقطعت بهم وسائل الحياة عن السير في الأزهر, واضطلعوا بهذه الرسالة المتواضعة التي ينشرونها في هذا المكتب الذي كان على أيّ حالٍ المدرسة الوحيدة التي تعد تلامذتها للالتحاق بالأزهر1. ثم إن المرحلة الثانية للعليم بالمكاتب هي مرحلة التعليم بالمدارس الابتدائية, والمعاهد الدينية, وفي الأولى يقوم بتدريس اللغة العربية والدين مدرسون تخرجوا في دار العلوم، وهم في أغلب الأمر ممن اغتذوا بثقافة الأزهر, ويعاونهم فريق آخر في التعليم الأميريّ والحر من أبناء الأزهر. وفي المعاهد الدينية التي تقوم على الأزهريين, يتفقه الناس في دينهم, وينالون حظًّا وافرًا من اللغة وآدابها, والعلوم الحديثة في كثير من فنونها التي حفل بها منهاج الأزهر منذ الإصلاح الأخير. وهذه المعاهد هي المورد العذب الذي يمهد للتعليم العالي, الذي يتولى دراسة اللغة والأدب في مصر، وهو المعين الذي يمد الحياة العامة بثقافته وتوجيهه، ولولا هذا المعين المتدفق لنضح الجهل, وقصور الدين على هؤلاء الذين هم أعصاب القوى, والمقوِّمُون لأسباب الحياة فيها. وفي المدن كثيرًا ما نرى السراة والأغنياء يقيمون في المساجد صورةً مصغرةً من الأزهر, يجلبون لها أساتذة من خريجيه, يدرسون لمن لم تمكنهم سعادة الحياة من النزوح إلى القاهرة لطلب العلم2. وكثيرًا ما يعمد هؤلاء السراة أيضًا إلى أبناء الأزهر بتثقيف أبنائهم الذين لم يتموا التعليم في المعاهد والمدارس؛ فيقوِّمُون ألسنتهم, ويصححون دينهم, ويهذبون لغتهم, ويمدونهم بقسط عظيم من ثقافتهم.

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص13. 2 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص16.

اعتماد محمد علي في إنشاء المدارس على الأزهر

اعتماد محمد علي في إنشاء المدارس على الأزهر: حين آلت ولاية مصر للمغفور له محمد علي باشا, اتجه عزمه إلى تأسيس دولةٍ عربيةٍ يرفع علمها, ويبدد آثار الجهل والانحلال اللذين خيَّمَا على البلاد في عهد المماليك، ولم يأل جهدًا في إنعاش الحياة العلمية والأدبية بشتى الوسائل التي كان منها إنشاء المدارس؛ لتنشر العلوم والفنون والآداب، وتهيء للبلاد ما تتطلبه من الثقافة الغربية والعلوم الحديثة؛ كي يتخرج فيها شبابٌ ناهضٌ يعمل على تحقيق مجدها. ولم يجد محمد علي باشا نواةً صالحةً تقوم عليها هذه المدارس إلا من شباب الأزهر, فقد وجد فيهم دعامة نهضته الجديدة, فحملوا لواءها, وعضدوا اللغة العربية التي كانت التركية مزاحمة لها إلى ذلك الحين، وقامت عليهم الجمهرة العظمى من المدارس التي أسسها في صدر النهضة؛ كمدارس الطلب, والألسن, والمهندسخانة, وغيرها. الأزهر ومدرسة الطب: لما استقرَّ أمر مصر لمحمد علي باشا, أراد أن يوطِّدَ أركانه، ويثبّتَ دعائمه بجيش قويّ يدعم الأمن ويصدُّ المغير، واستلزم ذلك إنشاء مدرسةً تخرج الأطباء الذين يأسون الجرحى, ويردون الأوبئة إذا هبت ريحها, فأنشأ هذه المدرسة في سنة "1242هـ-1826م" بجهة أبي زعبل، ثم نقلت إلى قصر ابن العيني في سنة "1838م" فاستقدم لها أساتذةً من الغرب، وأسند رئاستها إلى الطبيب "كلوت بك الفرنسي" الذي كان قد استوفده لجيشه. وعلى رغم أن هذه المدرسة قامت على تلاميذ من المصريين وغيرهم, فإن الأزهريين كانوا أغلب تلامذتها؛ إذ جلبت لها مائة تلميذ من طلبه الأزهر

ودرَّس لهم معلمون جلبهم لها من بلاد الإفرنج1. ويقول كلوت بك في تقريره: "فقد اختير هؤلاء التلاميذ من بين الطلاب المترددين على الأزهر والمساجد الأخرى". وكان كثيرٌ من الناس يرى أن التشريح لا يتفق مع الدين الإسلاميّ الذي يرعى حرمة الموتى, وبالغ بعض الكتاب فزعم أن الحكومة تأتي بمدرسة الطب إلى "أبي زعبل" لإبعادها عن أنظار المسلمين الذين يبغضون تشريح الموتى, ولكن الأزهر لم يقف في سبيل العلم, فأباح وسائله؛ إذ استعان كلوت بك مدير المدرسة بعلمائه, ودعاهم إلى المدرسة فلبوا دعوته, وخطبوا بها. ولا يذهب عن مؤرخ الأدب في العصر الحديث أن يضيف أكبر الفضل في انبعاث اللغة العربية واتصالها بالعلم والفن الحديثين إلى هذه المدرسة2. وذلك أن آداب اللغة العربية كانت إلى ذلك الحين غير متابعة للآداب الغربية التي توافيها قرائح الغرب كل يوم بجديد, ولم يكن من الميسّر الوقوف على ما يساوق العلوم الحديثة؛ من ألفاظ وصيغ ومصطلحات, وكانت لغة الدراسة بمدرسة الطب أجنبيةً, فاضطر المترجمون أن يقوموا بين الأساتذة والتلاميذ, فنيقلوا درسوهم إلى العربية, وهنا يقوم نبهاء الأزهر في هذه المدرسة بجهدهم الجبّار؛ إذ يقلبون في معاجم اللغة العربية, ويفتشون في الكتب العلمية القديمة؛ ليعثروا على الصيغ والمصطلحات التي تلائم الصيغ والمصطلحات الغربية, فنشروا ثروةً لغويَّةً كانت مطويةً, وواءموا بين اللغتين ما واتاهم الجهد في التعبير والأداء. هذا عدا ما كانوا يبذلونه من تصحيح هذه الدروس بعد نقلها إلى العربية, فقد كان يقوم على تصحيح الدروس التي ينقلها إلى العربية هذا المترجم الأزهريّ

_ 1 الخطط التوفيقية ج3 ص88. 2 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص294

بالمدرسة, لعله الشيخ مصطفى كساب, الذي ظلَّ بالمدرسة حتى أواخر عصر محمد علي1. الأزهر ومدرسة الألسن: أنشأ محمد علي باشا هذه المدرسة في سنة "1836م" وجعل مقرَّها الأزبكية2. وقد استقت هذه المدرة طلابها من الأزهر, وقام على تدريس اللغة العربية والأدب العربيّ فيها أبناء الأزهر, وكانت الكتب التي تدرس بها كتب الأزهر؛ كالأجرومية, والسنوسية, والشيخ خالد, وغيرها, وكتب العلوم الحديثة التي يراد نقلها إلى العربية, كان يقوم بترجمتها, ويسهر على تصحيحها أبناء الأزهر, وفي "الخطط التوفيقية" أن هذه المدرسة كان يدرس بها اللغة العربية والإفرنجية والأدبية, وخرج منها كثيرون من المترجمين والشعراء, وفيها ترجمت كتب كثيرة أدبية من اللغة الفرنجية إلى العربية3. وقد دلنا على العلوم التي كانت تدرس بهذه المدرسة, مما كان عاملًا قويًّا في بناء النهضة الحاضرة, المرحوم "أحمد أفندي عثمان الوفائي" حيث قال: "وكانت دروسنا في مدرسة الألسن عبارةً عن علوم اللغة الفرنساوية, والعربيّ؛ كالنحو, والمجاز, والمنطق, والبديع, والعروض, والأدب, والجغرافيا, والحساب, والهندسة, والطب, والتاريخ, والخط, والرسم, وذلك غير حفظ الدواوين, ولما كُلِّفْنَا بحفظها, حفظت ديوان ابن الفارض, وابن معتوق, والبرعيّ, وابن سهل, وبانت سعاد, والهمزية, وغير ذلك مِنْ خزانة الأدب, وحلبة الكميت. ثم ذكر أنه حضر الفقه على مذهب أبي حنيفة حين كان يدرس في مدرسة الألسن على يد الشيخين: المنصوريّ والرشيد4.

_ 1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ3 ص487. 2 تقويم النيل لأمين سامي جـ2 ص416. 3 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576. 4 المرحوم مصطفى صادق الرفاعي وحي القلم ج3.

وكان قد أنشئ بها قسمٌ لدراسة العلوم الفقهية, يتكون من أربعين تلميذًا يتلقون الدرس في الفقه على المذاهب الأربعة, حتى إذا أتموا دراستهم عينوا قضاةً بالأقاليم، وكان يقوم بالتدرييس لهم الشيخان اللذان ذكرهما الوفائيّ، وكان مدير المدرسة الذي يشرف على شئون التعليم فيها المرحوم "رفاعه رافع" وقد تولى تدريس الفلسفة والترجمة بها بعد عودته من البعث. ويقول "عبد الرحمن الرافعي": "كانت مدرسة الألسن عبارةً عن كليِّةٍ تدرس فيها آداب اللغة العربية واللغات الأجنبية، وخاصّةً الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية, والإنجليزية, وعلوم التاريخ, والجغرافيا, والشريعة الإسلامية, والشرائع الأجنبية, فهي أشبه ما تكون بكلية الآداب والحقوق, فلا غرو أن كانت أكبر معهد لنشر الثقافة في مصر1. تقدير محمد علي أبناء الأزهر: ومن طريف ما يذكر أن "محمد علي" لمس نبوغ الأزهريين وجدهم وتبريزهم وتفوقهم على غيرهم في المدارس التي كانوا يتعلمون بها, فأصدر أمره بتخصيص ماهيةٍ شهريةٍ قدرها: أربعون قرشًا للذين صار إلحاقهم من مجاوري الجامع الأزهر بمدرسة المهندسخانة, بالنسبة لمعلوماتهم ومهارتهم, فمثل هؤلاء لا يقاسون بغيرهم من التلامذة المخصص لهم 15 قرشا شهريًّا2.

_ 1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص487. 2 تقويم النيل لأمين سامي ج2 ص487.

إمداد الأزهر للمدارس الإبتدائية والتجهيزية والخصوصية

إمداد الأزهرللمدارس الابتدائية والتجهيزية والخصوصية: حين اتسع نطاق التعليم وأنشئت المدارس الابتدائية والتجهيزية, وغلب العنصر المصريّ فيها, واشتد الاهتمام باللغة العربية وتعليمها, لم يكن أمام الحكومة مورد ثروة لتغذي به هذه المدارس إلّا الأزهر, فاعتمدت عليه تلتمس عنده الطلبة والمدرسين, ولجأت إلى كتبه في تعليم اللغة العربية, وأدخلت في هذه المدارس طريقة الأزهر في التعليم، أجل, فقد كانت اللغة العربية سواء في مدارس المبتديان أو في التجهيزية, والخصوصية, هي المادة الأساسية, في خطط الدراسة، ودرس علماء الأزهر في مدارس المبتديان كتب السنوسية والأجرومية والألفية والكفراوي, وفي المدارس التجهيزية كتب الشذور وقطر الندى والشيخ خالد وغيرها؛ فكانت أزهرًا في وضعه وثقافته1. ولم يكن علماء الأزهر وحدهم ليقوموا بتدريس اللغة العربية في هذه المدارس فحسب, بل كان منهم رؤساء المدرسين في مكاتب المبتديان, والتجهيزية, والخصوصية. وقد نص في قانون التعليم الابتدائيّ الذي صدر في سنة "1386" على أن يكون نظار المبتديان من علماء الأزهر, بعد أن ارتفعت الشكوى من جهل النظار الأولين الذين كانوا من مشايخ القرى, فقد كانوا جهلاء ضعفاء الإدارة, فاسدي النظم, وكانت إدارتهم لهذه المدارس في مستهلِّ نشأتها مدعاةً لكثير من العبث والانحلال والفساد, فكان لإحلال الأزهريين

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576.

محلَّ هؤلاء في الإشراف على الحياة التعليمية بهذه المدارس أثرٌ ملموس في صلاح الإدارة وحسن التوجيه. ولا ريب أن علماء الأزهر بروحهم الدينيّ الجذّاب, وتضلعهم في اللغة العربية وآدابها, كانوا خير من عرفتهم هذه المدارس, وأبلغ من وجدت فيهم النفع الجمَّ والرعاية الرشيدة1. ومن هؤلاء الذين أشرفوا على هذه المدارس من علماء الأزهر, فكانوا مثالًا يحتذى في النزاهة والتوجيه والنهوض بالنشء, الشيخ: خليل الخوانكي, ناظر مدرسة الرحمانية, والشيخ: غنيم سالم, ناظر مدرسة شبراخيت، والشيخ: أحمد عصافيري, ناظر مدرسة دمنهور, والشيخ: محمد حسن, ناظر مدرسة أبيار، والشيخ: رضوان بالي, ناظر مدرسة الحلمية الكبرى, والشيخ: وهبه مصطفى, ناظر مدرسة بندر زفتى، والشيخ: محمد كفافي, ناظر مدرسة شربين, والشيخ: سليمان الخطيب, ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ: أحمد الشيخ, ناظر مدرسة فارسكور, والشيخ: علي القهتيم, والشيخ: جوده مصطفى, ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ: محمد عبد الرحمن, ناظر مدرسة الزقازيق. ومن هؤلاء المدرسين الذين تولوا التدريس بهذه المدارس من شيوخ الأزهر, وعُرِفَ عنهم الجدُّ والميل إلى البحث والتحقيق, طائفةٌ حدَّث عنهم علي مبارك في خططه, كالشيخ: محمد قطه العدوي، والشيخ: الدمنهوري، والشيخ: علي فرغلي الأنصاري -وهو ابن خالة رفاعة بك, والشيخ: حسنين حريز الغمراوي, والشيخ: أحمد عبد الرحيم الطهطاوي، والشيخ: عبد المنعم الجرجاوي.

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص576.

فروع من دوحة الأزهر

فروع من دوحة الأزهر مدخل ... فروع من دوحة الأزهر: كان الأزهر هو الدوحة الوارفة الظلال الطيبة الثمرات التي امتدت فروعها, وكانت المعاهد العليا في مصر غصنًا من أغصانها, وثمرةً من ثمارها. وإذا كانت لمدرسة دار العلوم, والجامعة المصرية القديمة, ومدرسة القضاء الشرعيّ, فضلٌ مباركٌ وأثرٌ ملموسٌ في نهضة اللغة العربية وآدابها, وفي تخريج فحول البيان وحماة اللغة, وكان لهم القدح المعلَّى بين أعلام النهضة الحاضرة, فإن ذلك مما يفاخر به الأزهر ويباهي، فقد غذَّى هذه المدارس منذ إنشائها بطبقة من أفذاذ الأساتذة ونوابغ التلاميذ, فقامت عليهم بحثًا ودراسةً وإنتاجًا وتوجيهًا. أما أساتذة هذه المعاهد الذين قاموا بتدريس اللغة العربية وآدابها, فإن الدولة لم تجد سواهم يضطلع بهذه الرسالة وتشرف به، ولم تجد موردًا تستقي منه أمثال هؤلاء إلّا الأزهر منبع الثقافة العربية. وأما تلامذة هذه المدارس, فإنهم قضوا الشطر الأعظم من حياتهم العلمية في الأزهر, ولم يغشوا هذه المدارس وهم فراغ من العلم, خواء من الثقافة, بل كانت المدة التي أمضوها في الأزهر كافيةً لتثقيفهم وتوجيههم, وصقل بيانهم، ولو قيست المرحلة الأخيرة التي أمضوها في هذه المعاهد, بجانب مرحلتهم الأزهرية الأولى, لكانت حظًّا ضئيلًا وقسطًا متواضعًا على أنهم لم يفقدوا صبغتهم الأزهرية في إتمام تعليمهم بهذه المعاهد, فقد وجدوا بها أساتذةً من الأزهر يتلقون منهم التوجيه، وينهلون من وردهم علم الأزهر وأدب الأزهر, ووجدوا الكتب التي تدرس بهذه المعاهد هي كتب الأزهر. كانت هذه المعاهد جزءًا من الأزهر، نأى عنه إلى مكان آخر، واختص

بزيٍّ غير زيِّ الأزهر، واسم غير اسم الأزهر، وما أظن أن هذا التغير بمخرج لها عن نسبتها إلى الأزهر, وانتزاع ثقافتها من ثقافته. دار العلوم: عَهِدَ الخديوي إسماعيل إلى علي مبارك - بإنشاء مدرسةٍ يتوفر أبناؤها على دراسة اللغة العربية والعلوم الدينية, مع التزود بشيءٍ من علوم العصر, وما يستعان به من وسائل التربية والتعليم؛ كي يعهد إلى المتخرجين فيها بتعليم اللغة العربية بمدارس الحكومة الابتدائية، وقد تمَّ إنشاء هذه المدرسة في "15 من صفر سنة 1288هـ 1871م" واستمدت تلامذتها وأساتذتها من الأزهر، فقام على التدريسفيها جمهرة من فحول العلم والبيان, وكان تلامذتها من نوابغ الأزهر وأفذاذهم الذين قضوا شطرًا طويلًا في التعليم والتثقيف في الأزهر, فنضجت موابهم, وكَلُمَتْ قرائحهم, ونما علمهم، واقتدرت أقلامهم وألسنتهم، ولا تزال هذه المدرسة تعتمد على النابهين من طلاب الأزهر بعد أن يحصلوا على شهادة الدارسة الثانوية "قسمًا ثانيًا" من المعاهد الدينية، فتُجْرَى بينهم مسابقةٌ في الدخول؛ لتظفر بالنوابغ المجلين. وليس ينكر إلّا جاحدٌ من الناس ما كان لهذه المدرسة من الأثر الملحوظ في خدمة العلم والأدب, وما لأبنائها الفحول من عُلُوِّ المكانة في الشعر والكتابة, والأدب في مختلف فنونه، ولكن شيئًا واحدًا لا يغالط فيه إلّا معاند, ولا يُصِرُّ على جحوده إلّا مكابرن, وهو أن الثورة العلمية والأدبية في هذه المدرسة إنما مَردُّهَا إلى الأزهر الذي غذّاها بأساتذته وطلابه وكتبه. وكان من العلماء والأدباء الذين تولَّوا التدريس بهذه المدرسة, والذين حملوا لواء البيان واللغة فيها من الأساتذة, وتخرج عليهم طائفة من ذوي العلم والأدب في مصر, المرحوم الأستاذ الإمام الشيح: محمد عبده، والمرحوم الشيح: حسن الطويل، وشيح الأدباء المرحوم: حسين الرصفي، والمرحوم

الشيخ: حمزة فتح الله، والمرحوم الشيخ: سليمان العبد، والشيخ: حسونة النواوي. وممن التحق بها لإتمام الدراسة فيها من طلاب الأزهر النابغين طائفةٌ كانت من فحول الكتاب والشعراء والأدباء؛ كالمرحومين الشيح: أحمد مفتاح والشيخ: محمد الخضري، والشيخ: عبد العزيز جاويش، والشيخ: محمد عبد المطلب, وحفني ناصف، ومحمد زيد -رحمهم الله. الجامعة المصرية: في سنة 1906م حملت الغيرة فريقًا ممن يرغبون في توسيع آفاق الثقافة المصرية أن يتضافروا على إنشاء جامعةٍ أهليةٍ تعين البلاد على تحقيق ما تنشده من التعليم العالي وثقافته، فتسابقت الهمم إلى الاكتتاب في هذا المشروع الجليل, واقترحه رسميًّا مصطفى كامل بك الغمراوي, أحد وجوه بني سويف, وافتتح الاكتتاب, واستحثَّ الهممَ على معاضدة الفكرة، فكان لدعوته أبلغ الأثر في النفوس؛ إذ التقى جمهور كبير من كرام الموطنيين في منزل المغفور له سعد زغلول باشا, وأسسوا لجنةً تحضيريَّةً للمشروع, كان سعد رئيسها, والمرحوم قاسم بك أمين كاتم سرها, وانتخب المغفور له -البرنس فؤاد "إذ ذاك" رئيسًا للمشروع يحيا في ظلاله, وشرع القائمون بالأمر في جمع المال، وعلى رغم الأزمة المالية التي حدثت في سنة 1907 فإن الجهود تضافرت والعزائم اتحدت، واحتفل بافتتاح الجامعة في يوم "21 من ديسمبر سنة 1908م" وحضر الاحتفال الخديوي, وألقى فيه خطابًا نفيسًا, وكان من أمدها ببره ورعايته، وبذل أكرم الجهد في إنجاحها, سمو الأميرة فاطمة هانم إسماعيل؛ إذ أمدَّت المشروع بالنقد والحبوس والحليّ. وقد اعتمدت الجامعة في مهمتها الثقافية على الأساتذة الأجانب والمصريين في القيام بالتدريس فيها، وكان للجامع الأزهر أعظم الفضل بما قدّمه لهذه الجامعة من فحول العلم والأدب, ومن أساتذة يدرسون فيها, ويوجهون نشأها

الجديد، وتلامذة يتمون تعليمهم فيها, بعد أن زودهم الأزهر بحظٍّ وافر من علمه وأدبه وثقافته. ومن الأزهريين الأفذاذ الذين قاموا بالتدريس بالجامعة، الشيخ: محمد المهدي، والشيخ: محمد الخضري1، والشيخ: عبد الرحمن عيد -رحمهم الله- كما أن منهم فضيلة الأستاذ الأكبر, الشيخ: مصطفى عبد الرازق، والدكتور: طه حسين. مدرسة القضاء الشرعيّ: أنشئت هذه المدرسة في سنة "1907م" حين كان المغفول له "سعد زغلول باشا" وزير المعارف، وقد أمدها الأزهر بصفوةٍ من أساتذته الممتازين, وطلابه النابغين, فكان من الأساتذة الفحول الذين قاموا على التدريس فيها, فضيلة الأستاذ الأكبر, الشيخ: مصطفى عبد الرازق, وصاحب الفضيلة الشيخ: عبد المجيد سليم, مفتي الديار المصرية السابق، وفضلية الأستاذ الشيخ: إبراهيم حموش، والمغفور لهم, الشيخ: أحمد نصر, والشيخ: عبد الغني محمود, والشيخ: محمد بخيت المطيعي, والشيخ: محمد طموم, والشيخ: محمد سليمان البجيرمي, والشيخ: حسين والي. ومن تلامذتها الفحول الذين كان لهم فضلٌ في النهضة, وأثرٌ بالغ في حياة الأدب والثقافة العربية, طائفةٌ أتمت مرحلتها الأولى في الأزهر, وهي المرحلة التي تَمَّ فيها نضجهم واتجاههم, واستوت فيها ملكاتهم وقارئحهم؛ من هؤلاء التلامذة, أحمد أمين بك, والأستاذ: عبد الوهاب عزام, والأستاذ: عبد الوهاب خلاف, والأستاذ: علي الخفيف, والمرحوم الشيخ: محمد سليمان, نائب المحكمة الشرعية العليا. وقد آتت هذه المدرسة أكلها, وأثمرت ثمرها, وخَرَّجَتْ لمصر نوابغ نابغين تفخر بهم؛ حيث انتفعت بهم البلاد في نواحٍ شتى؛ كالنهضة الأدبية, والاضطلاع بشئون القضاء, والمحاماة, والتعليم. ومرجع الفضل في هذا كله إلى الدوحة الباسقة, والشجرة المورقة التي تفرعت منها هذه الفروع, وهي الأزهر.

_ 1 هما وأن كانا من دار العلوم ممن سبق لهم أن تلقوا العلم في الأزهر دهرًا طويلا.

البعوث العلمية

البعوث العلمية ... البعوث الإسلامية: أسبابها: كان "محمد علي باشا" غيورا على مجد بلاده, حريصًا على نهضتها, شديد الرغبة في أن تجاري أوربة في حضارتها وأن تنهج نجتها في علومها وآدابها وفنونها ومعارفنها، وقد استعان بالغربيين فترةً من الزمان, واستقدم طائفةً منهم لينشروا في بلاده نهضة الغرب, وينقلوا لمصر ثمرات رقها وأفكارها. ولكنه كان بعيد النظر, راجح الرأي؛ إذ رأى أن من الخطر أن تعيش بلاده عالةً على أوربا تستجدي يدها, وتطلب معونتها, ويظل شعبه جامدًا لا ينهض, خاملًا لا يسعى, على حين أن له من ذكائه ما يجعله أهلًا لأن يقوم على شئونه مستقلًا عن غيره, ولا سيما بعد أن تعبَّدَ له الطريق, وتهيأت له الأسباب. على أن هؤلاء الأجانب كانوا يبطئون الخطا, ولا يغذون السيْرَ، ومما يؤيد ذلك, أن فريقًا من هؤلاء الأجانب كانوا يتولون الترجمة مع المصريين الذين عادوا من أوربا, ولوحظ أن فريقًا منهم يخدع الحكومة ويراوغها؛ إذ ينح عمل ستة أشهر في مدى خمسة أعوام1. ولم يكن "محمد علي" ليجد من نفسه صبرًا إلى أن يبلغ ما يريده لبلاده عن طريق الأجانب, بل كان يسبق الزمن, ويتخطى الأيام؛ ليحقق ما يأمله لشعبه من تقدم وارتقاء. هذه هي العوامل التي كانت تجول في صدر هذا الوالي وتجول في خاطره

_ 1 دفرت 48 معية" رقم 23 إلى محمود بك في 28 جمادي الأولى سنة 1248هـ.

فتدفعه دفعًا إلى أن يوفد نفرًا من النابهين لينهلوا من آداب الغرب وعلومه وحضارته, بطريقٍ مباشرٍ, ويحذقوا لغاته, ويبصروا بتجاربه, ويكونوا غدًا أساتذةً للنهضة, وقوامًا على الحياة المستقبلة, توسد إليهم ساميات المناصب, ويولون إدارة المدارس والدواوين, ويترجمون كتبًا قيمةً, وفنونًا محدثةً, وآدابًا جديدةً, بل ينقلون إلى الأمة صورة من الغرب الناهض. برنامج البعوث: وقد رسم "محمد علي" طرفًا من المناهج الذي تسير عليه البعوث, والدوافع التي دفعت إلى إرسالها, وذلك حيث قال للدكتور "بورنج" مندوب الحكومة الإنجليزية: "إن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه, وكذلك شعبي, فأنا مرسلٌ إلى بلادكم أدهم بك, ثاني مدير لديوان المدارس, ومعه خمسة عشر شابًّا مصريًّا ليتعلموا ما يمكن بلادكم أن تعلمه، فعليهم أن ينظروا إلى الأشياء بأنفسهم، وأن يمرنوا على العمل بأيديهم, وعليهم أن يفحصوا مصنوعاتكم جيدًا, وأن يكشفوا عن أسباب سبقكم ورقيكم, حتى إذا ما أمضوا وقتًا كافيًا في بلادكم, عادوا إلى بلادهم, وعلّموا شعبي. نفقات البعوث: وكان "محمد علي" سخيًّا جوادًا في الإنفاق على هذه البعوث, حريصًا على أن يكونوا في مظهر كريم، وهذا هو المرحوم الشيح: رفاعة, الذي كان إمامًا لبعث سنة 1826م يقول: "إننا كنَّا نُعَدُّ من الموسرين لتجملنا بالملبس الغريب عندهم, لنسبتنا لولي النعم, ولكثرة هذا الإنفاق في تعليمنا وغيره من سائر ما ذكرنا, كان ناظر التعليم, أو الضابط, يذكرنا به في أغلب الأوقات لنجتهد1.

_ 1 تخليص الإبريز لرفاعة بك ص148.

بعوث محمد علي: وقد بلغ عدد البعوث التي أُرْسِلَت في عهد محمد علي أفرادًا وجماعات, بين سنة 1813 و1849- 319 شخصًا, أنفق عليهم 1223233 جنيهًا1. عمد إلى نوابغهم فاتخذ منهم معلمين في المدارس, ومترجمين بها, وأطباء للجنود, وموظفين للحكومة, وعمالًا في الإدارة. سن التلاميذ المبعوثين: كان مما اقتُرِحَ على محمد علي, أن يرسل مبعوثيه إلى أوربا, وهم في سنة التاسعة, ورأى القائمون على شئون البعوث أن هذه السن هي التي تؤهلهم للنجاح في دراستهم, وأنهم بذكائهم ونشاطهم وسرعة استجابتهم لنداء المجتمع الجدّي, يكونون أقدر من غيرهم من الكبار الذين خلعوا رداء الشباب, واستقبلوا عهد الرجولة, وتكونت له عادات في العمل والتفكير, قد يكون العدول عنها عسيرًا عليهم2. وقد يكون لهذا التعليل حظٌّ من الوجاهة, إلّا أن المبالغة في صغر السن خطل في الرأي, فليس من الحكمة أن نوفد إلى بلاد الغرب صغارًا في التاسعة من عمرهم لهذه الرسالة الخطيرة, وذلك العبء العظيم. فهؤلاء الصبيان لا يجدون من الحكمة والعقل ما يحصنهم في هذه البيئة, ومن السهل أن تجذبهم إليها فيذوبوا في مجتمعها, ويفقدون قوميتهم, ولا يكونوا ثقاتٍ فيما ينقلون من علم, وما يضطلعون به من عمل, وهم غير أهلٍ لأن يشعروا بشعور بلادهم, ويفيدوا الفائدة التي ترجى منهم, ويحققوا الآمال التي تناط بهم. وجميل حقًّا أن يتفطن محمد علي لخطر البعوث في هذه السن, وأن يخالف هؤلاء المشرفين على شئون البعوث, كتب إلى ابنه- إبراهيم باشا- حين طلب إليه بعض الإنجليز أن يرسل إلى انجلترا أولادًا في سن الثانية عشرة, والثالثة عشرة؛ ليتعلموا البحرية فقال:

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص31. 2 تاريخ التعلم في عهد محمد علي للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص431.

"إن إيفاد مثل هؤلاء الأولاد إلى إنجلترا سيدعو إلى ضحك الأوربيين, كما أنه سيتعذر على هؤلاء التلامذة أن يعودوا إلى تعلم القراءة والكتابة بلسان وطنهم, وأنه بما بذل من جهد في سبيل التقدم, وترك القديم البالي من العرف المصريّ, نكون بهذا العمل -إيفاد أولاد صغار لا يعرفون القراءة والكتابة بلغة بلادهم- قد أثبتنا أننالم نترك العقلية المصرية القديمة1. واشتراط في المبعوثين إلى باريس لتعلم فنِّ المحاماة فيما اشترطه -أن يكون كلُّ منهم فيما بين العشرين والثلاثين من السن2. وقد أوشكت فكرة إرسال تلاميذ من صغر السن إلى أوربة أن تنفذ في أواخر عصر محمد علي, يقول أرتين باشا" إن "نوبار" وكان سكرتيرًا لإبراهيم باشا في رحلته الأخيرة إلى فرنسا, أظهر لمولاه جميع المساوئ والعيوب الناشئة من النظام المتبع؛ من حيث اجتماع التلاميذ في مكان واحد، وأشار عليه بأن لا يرسل إلى أوروبة إلّا أطفالًا, تتراوح أعمارهم بين الثامنة والتاسعة, ويقول: إن إبراهيم باشا انحاز إلى رأي سكرتيره "نوبار" وإنه لما رأى أن التربية لا تجد عناية بالمدارس المصرية, فكَّر في أن يرسل إلى أوربة فريقًا من التلاميذ الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والعاشرة, حتى يكون للبلاد نخبة من الشبان الذين درسوا دراسة تامة في أوربة, وتشبعوا بالتربية الأوربية, ويقول أيضًا: إن نوبار حاول مرةً أخرى تنفيذ هذه الآراء لدى الخديو إسماعيل, ولكن المدرسة المصرية بباريس أعيدت على مثال المدرسة الأولى في عهد محمد علي, وفي سنة 1884 وافق الخديو توفيق على آراء وزيره نوبار, وحثَّ على إرسال التلامذة الصغار إلى أوربة, وكان قدوةً في ذلك؛ إذ أرسل نجليه الأميرين عباس ومحمد عليًّا إلى سويسرا وعمر الأول اثنا عشرة وعمر الثاني عشر سنوات, وأخيرًا عادت الفكرة منذ سنوات, وأخذت بها الجامعة المصرية القديمة, ولأنها لم تنجح رُئي العدول عنها.

_ 1 دفتر 37 "معية" رقم 487 إلى إبراهيم باشا. 2 الوقائع المصرية الصادرة في 24 من شوال سنة 1363.

الأزهر والبعوث

الأزهر والبعوث: كان الأزهر البيئة الصالحة التي وجد فيها محمد علي وأبناؤه عونًا لهم على نقل ثقافة الغرب وآدابه وعلومه؛ إذ بعثوا منهم البعوث إلى أوربة, وأثبتوا كفايةً واقتدارًا على رسالتهم العلمية والأدبية, وكانوا قدوةً لغيرهم في البراعة، والجدِّ, والنهوض، وكان من الطبيعيّ أن تتطلع أنظار هؤلاء الولاة إلى الأزهر, فقد كان ولا يزال أقدر على هذا العبئ من غيره؛ وغذ بدأ إرسال البعوث إلى الغرب, لم يكن للأزهر ما يشاركه من المعاهد والمدارس التي تضطلع بهذه الرسالة إلّا قليل, وكان غير الأزهر من هذه المدارس أقل استعدادًا وكفايةً. وإذا كان كثير من تلاميذ المدارس الذين أرسلوا إلى أوربة لم يحققوا الأمل المرجوّ منهم, لعوامل منها: صغر سنهم, فقد كان الأزهريون المبعثون كبارًا فوق هذه الأسنان, وذلك لأنهم لا ينتسبون إلى المعاهد إلّا وهم في سنٍ يزيدون بها عن أقرانهم في المدارس الأخرى, ولاشتغالهم في صغرهم بحفظ القرآن, ولعل كبر السن بهذه المثابة مما يزيدهم أهليةً وجدارةً للاضطلاع بالمجهودات الأدبية والعلمية التي أوفدوا إلى الغرب من أجلها, والتي ينوء بها أقرانهم من صغار السن, الذين هم ضعفاء ناقصوا الإدراك. وكان طبيعيًّا أن يكون الجهل بلغة البلاد التي يوفد إليها المبعوثون عقبةً تعوق المبعوثين عن التمهر في المواد التي يدرسونها, والتفوق في الثقافة التي يأخذون بها؛ لأن هذه اللغة هي أداة الفهم, ووسيلة التعلم, والجهل بها يستغرق منهم زمنًا وجهدًا, فتضعف ثقافتهم, ويتضاءل منها نصيبهم, وكان المفهوم أن

المبعوثين من الأزهر بهذه اللغات يتعثرون في تعلمهم, ولا يبلغون من هذه الثقافات مبلغ التفوق والتجويد, ولكنهم كانوا موضع العجب بما أظهروه من براعة, وبما بذلوه من جهد, فلقد كانوا مشبوبي العزائم, موصولي الجدِّ, دائمي السهر والمثابرة حتى وصلوا إلى ما نيط بهم من الآمال، وإن في رفاعة بك رافع لمثلًا طيبًا لهؤلاء النابهين؛ فقد كان إمامًا لبعث سنة 1826 على باريس, وعلى رغم أنه غير عضو فيه, ولا مكلف تلك الجهود الثقافية التي يكلف الأعضاء أن يقوموا بها, فقد بذل في تعلم اللغة جهدًا شخصيًّا, وتوفر على التبحر في الثقافة الفرنسية, وأجال نظره في المجتمع الفرنسيّ, فسجل ما شاهده من أخلاقه وعادته, ووصف ما اجتلاه في باريس بأسلوب الناقد المتفخص, حتى كان زعيم اتجاه ثقافيٍّ جديد, وكتابه: "تخليص الإبريز" الذي يعتبر الثمرة الأولى لإقامته في عاصمة الفرنسييين, مناط فخره وآية فضله، وكتبه في التربية والتعليم حافلة بما أفاد من تعليم الغرب, وسني مقامه فيه1. هذا وقد يكون لنشأة الأزهريين الدينية, وإثقالهم بمناهج الأزهر التعليمية التي يضطلعون بها من متستهل حياتهم, أثر في زهادتهم ومجانبتهم الغواية الغربية, والتفلت من مفاتنها, فتوافر لهم الوقت, ودفعتهم النشأة الزاهدة إلى المثابرة على العكوف على الدرس, والتفرغ له, وبذل القوى والجهود للتمكن والاستفادة. ولقد نجد كثيرًا من هذه البعوث مقصورًا على الأزهريين -كما سيتبين ذلك في موضعه- ولا يخلو بعث علميّ من طائفة من أبناء الأزهر, وما ذلك إلّا لأن للأزهريين مكانًا في هذه النهضة, وموضعًا من تأسيسها, وكفايةً لا يغفل عنها مصلحٌ يحاول النهوض بالبلاد وآدابها وعلومها.

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي لعزت عبد الكريم ص427.

أثر المبعوثين من الأزهر في النهضة: أرسل المبعوثون الأزهريون إلى بلاد الغرب, فأدوا رسالتهم, وعادوا إلى بلادهم أبلغ ما يكونون علمًا, وأحفل ثقافةً, وأعظم انتفاعًا, وأشد تأهلًا. وفدوا إلى بلادهم فاضطلعوا بالترجمة والتأليف, فهيئوا لمصر آدابًا جديدةً, وعلومًا محدثةً, وغير خافٍ ما كان لرفاعة بك وتلامذته من جهود وآثار هذَّبت الأفكار, ونَمَّت القرائح, وأيقظت الهمم لمسايرة الغربيين في نهضتهم التي كانت مصر بمعزلٍ عنها, وعن أسبابها. لقد فسح هؤلاء في آفاق الأدب, وزادوا في أغراضه, ومدوا في خياله, وأضافوا إليه ألوانًا طريفةً شائقةً, واتجهوا بالكتابة اتجاهًا جديدًا؛ فتخلصت من الأغلال القديمة, وبدأت ظلال السجع المخيّم عليها تتقلص منذ أن رجع طلاب البعث الأول, الذي أرسله محمد علي إلى أوربة, في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر, فقد تأثروا بأساليب اللغات الأجنبية, فأخذوا يترجمون ويؤلفون كما فعل رفاعة بك الطهطاوي, والعالم: أحمد ندا, وإبراهيم النبراوي- الذي كان رئيسًا لمدرسة الطب, وأحمد حسن الرشيدي - الطبيب, وغيرهم من العلماء والأدباء1. كان أثر هؤلاء أن حرروا الرأي, وأحسنوا التوجيه, ولقحوا الأفكار والعقول بلقاح جديد, وأفادوا من الغرب طرائق تفكيره, وخصائص إنتاجه. قام هؤلاء بتدريس العلوم المحدثة, وسدوا حاجة المدارس الناشئة, فاختير منهم المعلمون والنظار, فنهضوا بالمدارس ونظمها والإشراف عليها, ومضوا بها إلى أكمل غايةٍ تمشيًا مع اللوائح الجديدة والنظم المحدثة، وكان منهم القوّاد والأطباء وكبار الموظفين, والموجهون للحياة الجديدة أكرمَ توجيه. البعث الأول: إلى إيطاليا في سنة 1873م. كانت إيطاليا أول البلاد التي أرسل إليها محمد علي بعوثًا من المصريين فقد

_ 1 المرحوم الدكتور أحمد ضيف في مقتطف شهر مايو سنة 1936.

أوفد إلى: ليفرون, وميلان, وفلورنسه, ورما, وغيرهامن المدن الإيطالية فريقًا من الشبّان المصريين لدراسة الفنون العسكرية والطابعة والهندسة وغير ذلك, وكان من بينهم: نقولا مسابكي أفندي, الذي أرسل إلى ميلان لتعلم فن سبك الحروف, وبعد عودته إلى مصر عُيِّنَ في إدارة مطبعة بولاق، وقد أعانه في العمل أربعةٌ من خريجي الأزهر، رؤساء للعمال, ويوسف الصنفي, ومحمد شحاته, رئيسا جامعي الحروف1. البعث الثاني: إلى فرنسا في سنة 1818م. يقول الأمير عمر طوسون -رحمه الله- في كتابه: "البعثات العلمية في عهد محمد علي, وعباس, وسعيد, لم نعرف منهم غير واحدٍ, هو عثمان نور الدين أفندي, الذي أرسل لإتقان الفنون الحربية والبحرية, وقد كان ساعد الحكومة في ترجمة الكتاب, ألحق به بعض المترجمين ليترجموا كتب الفنون الحربية, وسائر الصنائع"2. البعث الثالث: إلى "فرنسا" في سنة 1866م. كان عدد أعضائه أربعين تلميذًا, ثم لحق بهم أربعة آخرون, فصارت عدتهم 44 طالبًا3 وقد أرسل هؤلاء لدارسة فنون مختلفة, وتولى المسيو: "جومار" الإشراف عليهم، وفي كتاب "البعثات العلمية" للمغفور له الأمير: "عمر طوسون" بيانٌ بأسمائهم, وموطنهم, وسنهم, والعلم الذي أرسلوا للتخصص فيه, مع النصِّ على من عاد منهم إلى بلده4. ومن هؤلاء المبعوثين, خمسة من الأزهريين, أُرْسِلُوا لدراسات مختلفة، وقد

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان بك ج4 ص59. 2 دفرت 11 "معية" رقم 253 في 8 من ربيع الثاني سنة 1238هـ. 3 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي بك ج3 ص456. 4 البعثات العلمية ص27 و 28 و 29.

أتمَّ ثلاثةٌ منهم تعلمهم, وهم: الشيخ: أحمد العطار, الذي أرسل لتعلم العلوم الميكانيكة, والشيخ: رفاعة رافع, الذي اختير إمامًا للبعث, ولكنه عاد ملء إهابه ثقافةً غربيةً, فكان أستاذ الترجمة والتأليف, ووجَّه النهضة إلى أنجح غاياتها, ودرس الحياة الفرنسية وحدّثَ عنها في "تخليص الإبريز" مع تجويده الفرنسية والتمكن فيها، وثالثهم الشيخ: محمد الدشطوطي, المرسل لتعلم الطب والجراحة والتشريح والعلوم الطبيعية والصحية, يقول الأمير: "ولعله هو الدكتور محمد نافع, الذي نوّه به الدكتور كلوت بك في كتابه "نظرة عامة حول مصر". وأما الأزهريان اللذان عادا إلى مصر فهما الشيخ: محمد الرقيق, والشيخ: العلوي, أو الشيخ: أحمد عليوه، وعلى ذكر الشيخ: أحمد العطار, نقول: إن "كلوت بك" لم يذكر عن أحد من أعضاء البعث أنه كان يتعلم هذا الفن, فهو إمّا أن يكون قد حوّل إلى تعلم فنٍ آخر, وهو الغالب, ورجحه الأمير في كتابه, وإما أن يكون "كلوت بك" قد غفل عن ذكر هذا الفن "ولم يذكر من كان يتعلمه" وأيًّا ما كان, فإن الشيخ: أحمد العطار, أتمَّ علومه بفرنسا, وبقي بها من سنة 1826 إلى أوائل 1829م, وإذن فمن غير الممكن أن يكون أحد المخفقين من أعضاء هذا البعث. وقد ذكر "كلوت بك" أن سبعين مبعوثًا ألحقوا بسابقيهم في فتراتٍ كانت نهايتهاسنة 1833م, وفيهم كثرة من الأزهريين, وقد كان لهذه البعثة دويٌّ في عالم الأدب في أوربة, ولا سيما في باريس, دلت على عُلُوِّ همة "محمد علي" وشدة رغبته في إصلاح وادي النيل1. وعُنِيَ بعض المصورين بتصوير أفراد هذا البعث بمظهرهم الطريف, وأزيائهم الشرقية, وعمائمهم العربية, وطبع آخرون نسخًا من تلك الصور تهافتت عليها الناس, وهي قليلة عزيزة الوجود.

_ 1 تاريخ أدب اللغة العربية لجورجي زيدان بك ج4 ص30.

البعث الطبي الأزهري: إلى فرنسا في سنة 1832م كان هذا البعث مؤلفًا من اثني عشر عضوًا, وقد انتخب من أوائل المتخرجين في الطب البشريّ, ومن بعض المصححين بالمدرسة1. وأعضاء هذا البعث ممن يفخر بهم الأزهر, فقد كانوا أمثلةً عليا في النبوغ والبراعة, وجميع هؤلاء من الأزهر2 وهم: إبراهيم النبراوي, ومحمد الشباسي, ومصطفى السبكي, والسيد: أحمد حسن الرشيدي, وعيسوي النحراوي, والسيد: حسين غانم الرشيدي, ومحمد علي البقلي, ومحمد الشافعي, ومحمد السكري, وحسين الهياوي, ومحمد منصور, وأحمد بخيت. وقد كتب الدكتور "كلوت بك" نبذةً عنهم, ترجمها المرحوم محمد لبيب البتانوني, عُرِفَ منها ذكاؤهم وتفوقهم وتمهرهم في دراستهم؛ إذ يقول: إنهم اختبروا من الجمعية العلمية الطبية بحضور عظماء العلماء الأوربيين, فأسفر هذا الاختبار عن ذكائهم, وعلو همتهم, حتى خطب البارون ديبويتون خطبةً بليغةً أثنى عليهم فيها, وبلغ من ثنائه منتهاه, ثم أفرط في الثناء على "محمد على البقلي, ومحمد الشافعي, والسيد أحمد الرشيدي, وحسين الههياوي" وقد قال عن الأخير: إنه ذا حافظةٍ عجيبةٍ, حتى إنه مدة دراسته بباريس كان يحفظ الدرس لأول مرة, والتلاميذ الفرنسيون يصححون دورسهم منهم, ويكملون ما نقص منها عليه، وكان يملي عليهم ما قيل في الدرس كما ألقي بألفاظه وحروفه, وقال عنه: إنه بعد عودته إلى مصر اشتهر في المدرسة الطبية البحرية بالإسكندرية, وبلغت شهرته ماسمع الباشا, فحصل على أمر منه ألّا يدخل أحد من الأوربيين الخدمة الطبية, إلّا بعد أن يمتحنه بنفسه مع من يختارهم معه لاختياره, ويسفر هذا الاختبار عن نجاحه، ولكن المنيَّة عاجلته, فجف غصنه الرطيب, مرجوّ الثمار.

_ 1 الوقائع المصرية الصادرة في 7 من ربيع الأول سنة 1948. 2 البعثات العلمية للمغفور له الأمير عمر طوسون ص131.

بعث الأنجال: إلى فرنسا سنة 1844م سمَّاه هذه التسمية المرحوم "على مبارك باشا" وقد كان أحد أعضائه, وقال عن هذا البعث في خططه "أرسل محمد علي آنجاله ضمن إرسالية كبيرةٍ قدرها سبعون تلميذًا, وفتح لهم مدرسةً مستقلّةً في مدينة باريس لتعلم الفنون العسكرية1. وعُيِّنَ إمامًا لهذا البعث, الشيخُ: أبو الوفا الهوريني, أحد علماء الأزهر الأفذاذ المقتدرين في اللغة العربية, المتمكنين من دقائقها, اختاره محمد علي ليكون إمامًا لهذا البعث, ورقيبًا على أعضائه، وقد تعلم الفرنسية بباريس وأجادها, وأتقن النطق والقراءة بها, كما نقل ذلك المغفور له الأمير عمر طوسون عن حفيده عباس نصر أفندي، وقد تكلمنا عن الهوريني في الأزهريين المصححين, ومن بينهم من رجال الأزهر أيضًا، عبد الله السيد بك, وكان من كبار المترجمين. بعث أزهريّ لتعلم فن المحاماة: أرسل إلى "فرنسا" في سنة 1847م لتعلم علم الوكالة في الدعاوى, أي: فن المحاماة، وكان مؤلفًا من خمسة من أذكياء الأزهر, وقع الاختيار عليهم من بين النابهين الأزهريين الذين يتعلمون في مدرسة الألسن. جاء في الوقائع المصرية الصادرة في 24 من شوال سنة 1263 هـ "5 من أكتوبر سنة 1847م أنه لما كان من جملة مرادات الجناب الخديو, أن ينتخب خمسة أشخاص مستعدين من أذكياء طلبة الجامع الأزهر, بحيث يكونون ماهرين في فن الكتابة, ويكون كل منهم فيما بين العشرين والثلاثين من السن, وأن يرسلوا إلى باريس؛ لأجل تحصيلهم علم الوكالة في أمر الدعاوى, من ديار أوربا, بودر إلى إنفاذ مقتضى إرداته السنية بتدارك من ذكر, ولم نجد أحدًا من الكاتبين تتبع هؤلاء وتكلم عنهم, وعن أثرهم بعد عودتهم. بعوث أخرى في عهد محمد علي: ثم تلت ذلك بعوثٌ أخرى, لا يتصل تفصيلها بموضوعنا, فلذلك أعرضنا عنها.

_ 1 الخطط التوفيقية ج1 ص88.

البعوث بعد محمد علي باشا: لم تجد البعوث بعد "محمد علي" العناية والاهتمام اللذين بذلها "محمد علي" وشغل الولاة عنها, حتى بلغت في عهد "عباس الأول" واحدًا وأربعين طالبًا, وفي عهد "سعيد باشا" ثمانيةً وأربعين طالبًا. في عهد إسماعيل: وكان عهد "إسماعيل" فاتحة حياةٍ جديدةٍ للعلم والثقافة, فأوفدت البعوث إلى أوربة منذ 1863م إلى 1879م لدارسة العلوم والفنون المختلفة, حتى بلغ عدد المبعوثين في عصره 173 طالبًا, كما أنشئت مدرسةٌ لأعضاء البعثة في "باريس" بدلًا من المدرسة التي أنشأها "محمد علي" وأقفلت مدرسة "إسماعيل" بعد نشوب الحرب. من عهد "توفيق" إلى "السلطان حسين": ثم انصرفت الهمم عن إيفاد البعوث إلى الغرب, فاقتصر ما أُرْسِلَ في عصر "توفيق باشا" و"عباس الثاني" "والسلطان حسين" على 286 طالبًا. في عهد الاستقلال: بدأ هذا الغرس ينمو في عهد الاستقلال, واحتفل بهذه البعوث, فبلغ عددها في سنتين 1974 طالبًا. وقد بلغت اللغة العربية وآدابها أسمى ما تنشده, وأجلّ ما ترجوه، وكان المبعوثون أكثر عددًا, وأتمَّ تشجيعًا، وقد بلغت البعوث الأخيرة حدًّا لم يدن منه عهدٌ من العهودِ.

البعوث بعد "محمد علي باشا"

البعوث بعد محمد علي باشا: لم تجد البعوث بعد "محمد علي" العناية والاهتمام اللذين بذلها "محمد علي" وشغل الولاة عنها, حتى بلغت في عهد "عباس الأول" واحدًا وأربعين طالبًا, وفي عهد "سعيد باشا" ثمانيةً وأربعين طالبًا. في عهد إسماعيل: وكان عهد "إسماعيل" فاتحة حياةٍ جديدةٍ للعلم والثقافة, فأوفدت البعوث إلى أوربة منذ 1863م إلى 1879م لدارسة العلوم والفنون المختلفة, حتى بلغ عدد المبعوثين في عصره 173 طالبًا, كما أنشئت مدرسةٌ لأعضاء البعثة في "باريس" بدلًا من المدرسة التي أنشأها "محمد علي" وأقفلت مدرسة "إسماعيل" بعد نشوب الحرب. من عهد "توفيق" إلى "السلطان حسين": ثم انصرفت الهمم عن إيفاد البعوث إلى الغرب, فاقتصر ما أُرْسِلَ في عصر "توفيق باشا" و"عباس الثاني" "والسلطان حسين" على 286 طالبًا. في عهد الاستقلال: بدأ هذا الغرس ينمو في عهد الاستقلال, واحتفل بهذه البعوث, فبلغ عددها في سنتين 1974 طالبًا. وقد بلغت اللغة العربية وآدابها أسمى ما تنشده, وأجلّ ما ترجوه، وكان المبعوثون أكثر عددًا, وأتمَّ تشجيعًا، وقد بلغت البعوث الأخيرة حدًّا لم يدن منه عهدٌ من العهودِ.

وقد كنا نود أن نقع من بحث الباحثين ودراستهم لموضوع البعوث ما ينقع الغلة, ولكنه بحث انقبض عنه الكاتبون, وتضاربت فيه الأقلام، ولم نجد البيان الشافي الذي يحدِّدُ كل بعث, ويبيِّنُ أعضاءه وأغراضه وآثاره. وإذا كانت النهضة في مستهلِّ عهدها قد اعتمدت على الأزهر, ولم تجد له معاونًا في احتمال هذه الرسالة الأدبية العلمية, فقد وجد في مصر من أبناء المعاهد والمدارس بعد أن اتسعت آفاق التعليم مَنْ شارك الأزهريين في ارتياد الغرب, ونقل آدابه وعلومه الغربية أغصانًا من دوحة الأزهر المباركة. والذي نأسف له, ونجد أشدَّ الغضاضة في التصريح به, أن يرسل من معاهد مصر في نضج نهضهتا بعوث لا يمثل فيها الأزهريون إلّا قليلًا, وهم أشد العقول والقرائح اقتدارًا على حمل هذا العبء، وأيًّا ما كان, فقد اضطلع الأزهر بهذا العمل الجليل يوم أن كان وحده الناهض به, والقائم عليه, وحسبه فخرًا ومباهاةً أن يكون في مبعوثيه من الأبطال: "رفاعه بك رافع" في بداية النهضة ونشوئها, والدكتور: "طه حسين" في نضجها وارتقائها. وحسب الأزهر فخرًا أن يهاجر أحد أبنائه منذ قرن, والثقافة خافتةٌ, والآداب العربية واهنة القوى, فهذا هو المرحوم الشيخ: "محمد الطنطاوي" الذي تطلع إلى آداب الغرب, واشتشرف إلى نوره بقبس منه مضىء, فوافاه الأجل, وحيل بينه وبين رسالته، نزح هذا العالم الأزهريّ منذ نحو قرنٍ تقريبًا إلى روسيا ليدرس الأدب العربيّ في جامعاتها, ووافاه الأجل وهو هناك, فدفن في الأراضي الروسية, ويوجد رسم "فوتوغرافي" لقبره في الخزانة التيمورية, وقد نقشت بعض عبارات بالعربية على شاهد القبر, تفيد هذا المعنى1.

_ 1 المستشرق "أغناطيوس" أستاذ الأدب العربي بجامعة "لننجراد" ترجمة أمين حسونة النواوي في العدد 170 من مجلة الرسالة.

الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما

الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما مدخل ... الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما: اتجهت رغبة المصلح الخطير محمد علي باشا إلى أن ينقل الثقافة الغربية المتمثلة في آداب الإفرانج في مختلف مظاهرها, وكتب الطب والطبيعيات والرياضيات وعلوم الاجتماع والاقتصاد والحقوق, فبذل جهودًا عنيفةً في إنهاض الترجمة والتأليف في هذه الثقافات. الترجمة: وكان أول ما عَهِدَهٌ المصريون من الترجمة في صدر النهضة, ما قام المترجمون به من نقل الدورس بين الأساتذة والطلبة في مدرسة الطب. وإذا كان محمد علي قد اعتمد أولًا على الأجانب, واستخدم بعض النزلاء من السوريين والمغاربة في النهوض بهذا العمل الجليل, فإنه وجَّه همته إلى إيجاد طائفة نابهة من المصريين تتولى هذا العمل, ونفذ السير فيه. فلما عاد المرحوم رفاعة بك رافع من بعثه إلى باريس سنة 1821 كان قد برع في الفرنسية وجوَّهَا, وألَمَّ بطائفةٍ من العلوم الحديثة, فعهد إليه "محمد علي باشا" بالترجمة في مدرسة الطب, وعَوَّلَ عليه في ترجمة كتب الفنون العسكرية والهندسية. ولم يكن "محمد علي" مطمئنًا إلى أن يشغل أعضاء البعوث عن وظائفهم, والأعمال التي كانوا مغتربين عن أوطانهم للتفرغ لها, والتبريز فيها, ولذلك رفض الاقتراح الذي رفع إليه بأن يجمع أعضاء البعوث المتشغلون بالترجمة في قلم واحد, وآثر أن ينشئ مدرسةً خاصّةً بالترجمة, وهي المدرسة التي أطلق عليها فيما بعد "مدرسة الألسن". أنشئت هذه المدرسة لتخرج مترجمين, وولي المرحوم رفاعة بك إدراتها, وظلَّ على شئونها إلى أن خرجت طائفة من المترجمين الأفذاذ الذين ترجموا بإشراف رفاعة بك ومعاونته وتوجييه جمهرة من كتب العلوم والآداب

والطبيعيات والرياضيات والطب والزراعة والصناعة وفنون الحرب وغير ذلك. ولمّا ألغيت اللغة الفرنسية من برنامج الدراسة في المدارس الخصوصية سنة 1836م أصبحت الترجمة مقصورة على تلامذة مدرسة الألسن وخريجيها, وفريق من الأساتذة المصريين المدرسين بالمدارس الخصوصية, ممن أتموا دراستهم بأوربة1. ولما لم تكن ترجمة العلوم والفنون مقصورةً على معرفة اللغة, بل تستند إلى الإلمام بالعلم, أو الفن المتجرمين, أشارت اللجنة التي نظمت التعليم سنة 1841م بإنشاء قلم خاصٍّ للترجمة, يلحق بمدرسة الألسن, تحت إشراف مديرها المرحوم رفاعة بك, وقد جعل قلم الترجمة مقسمًا إلى أربعة أقسام: القسم الأول: لترجمة الكتب المتعلقة بالعلوم الرياضية. القسم الثاني: لترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية. القسم الثالث: لترجمة كتب الأدبيات؛ كالتاريخ والقصص والقوانين والجغرافية. وهكذا أنشيء قلم الترجمة بأقسامه المختلفة, ودبر له ما يحتاج إليه من المترجمين. الكتب المترجمة: أما الكتب التي كانوا يتولون ترجمته, فَجُلُّهَا من الفرنسية إلى العربية, وبعضها من الفرنسية إلى التركية, وكان ديوان المدارس يطلب إلى نظار المدارس الخصوصية في كلِّ عامٍ بيانًا بما جدَّ من المؤلفات في المواد التي تدرس بمدرستهم, حتى إذا كانت هي, أو غيرها, مما يرى رفاعة بك ترجمته

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص340.

بالكتبخانة الفرنسية المحلقة بمدرسة الألسن, وزعت على المترجمين وإلا أورسل الديوان في طلبها من أوربة1. وكان أكثر هذه الكتب ضخمًا من أسفارٍ عدة, فيعطي كل مترجم سفرًا كي تتم ترجمته في زمن قصير. والراجح أن توزيع الأعمال في قلم الترجمة -كما حددته اللجنة التي أشارت بإنشائه في تقريرها- لم يتبع بحذافيره, بل تجوَّز عن كثير مما فيه؛ إذ لم يكن ثمة تخصص في الترجمة, فقد ينتهي مترجم من تعريب كتاب في الكيمياء, فيشرع في تعريب آخر في الزارعة, أو التاريخ, أو تربية الحيوان, وقبل أن يأخذ المترجم في عمله تحدد له مدة معينة, على أن يتم كتابه فيها وإلّا عُدَّ مقصرًا2. وكان يفحص أعمال "القلم" نهاية كل عام لجنةٌ؛ لتميز الخبيث من الطيب, والمقصر من المجدِّ, ثم توصي بعقاب الأول ومكافأة الثاني؛ إذ تمنح المهمل نصف راتبه فحسب في المدة التي قصر فيها, وتكافئ المجد الذي أتم ترجمة كتابه وطبع كتابه بخمس, ونسخ منه تقدم إليه هدية3. جهود "رفاعة بك وتلامذته: وغير خافٍ ما كان يضطلع به رفاعة بك من جهد في الترجمة, والتوجيه والرعاية البالغة مما كان يمضي تلامذته فيه من نقل هذه الثقافة الغربية في كثير من فنونها, حتى استطاع رفاعة بك وتلامذته أن يعقدوا صلة ثقافية بين العربية والعلوم المحدثة, وقد استنفذ ذلك جهدًا وصبرًا وطول مثابرة.

_ 1 دفتر 26 مدارس عربي ص438 رقم 77 إلى مدرسة الألسن في 6شوال سنة 1261هـ. 2 للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص343. 3 دفتر 17 "مدارس عربي" ص642 رقم 36 إلى الكتبخانة في ذي الحجة سنة 1261هـ.

وفي ذلك يقول المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري: "فهذا رفاعة الأزهريّ يعود من فرنسا بعد المقام فيها مع إحدى البعثات بضع سنين, وإنه ليقوم في جماعةٍ من لداته وتلاميذه على قلم الترجمة, وقد راحوا يصبون ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون, يتوسلون إلى هذا بالبحث فيما أُثِرَ عن الأقدمين تارة بالاشتقاق, وأخرى بالتعريب, وأحيانًا بغير أولئك من وسائل الدلالات, واللغة تتئد في معاناتهم مرةً, وتخف في التيار مرةً, على أنها في الحالين واتت بقدرٍ ما مطالبَ العلم الحديث, فحقق جهدهم فيها وجهدها معهم ما كاد يصل الظن بجملة المستحيل1. أثر الأزهريين في الترجمة والتأليف: نهض تلامذة مدرسة الطب بترجمة العلوم الغربية في هذه المدرسة، وبدأ بهذا العمل بها فخر الأزهر المرحوم: رفاعة بك, وكان جل طلبة هذه المدرسة من الأزهريين؛ إذ اعتمدت عليهم في مستهلِّ نشأتها, وكانوا فيما بعد أعلام الطب في مصر. وقام بالترجمة في مدرسة الألسن رفاعة بك الذي أشرف على قلم الترجمة, ووجَّه القائمين به, وأشار بالكتب التي ترجموها, وكان عماد هذه المدرسة الأزهريين الذين كانوا مثلًا رفيعًا للطلبة في نباهة الشأن وطول المثابرة. أخرج رفاعة بك وتلامذته الأزهريون ثمراتٍ طبيةٍ مما عرَّبوه من علوم الغرب وآدابه وفنونه، ولما اقتدر هؤلاء الطلاب على التأليف في الثقافة المحدثة, كان رفاعة بك معلهم ومشجعهم وهاديهم إلى هذا الغرض الجليل, فأخرج وأخرجوا معه كتبًا في علوم الغرب وآدابه, فسهَّل بها اطلاع الناس على هذا الثقافات, وتزودوا منها, وأفادوا بها, ووجد كلُّ متأدب بغيته من هذه الثقافة التي أصبحت الترجمة والتأليف مُعَبَّدَة السبيل, سهلة المنال

_ 1 المختار للأستاذ عبد العزيز البشري ج1 ص40.

سائغة الورود، وكان مما أعان هؤلاء الأزهريين على التوفر على التأليف والترجمة؛ إذ ذاك إيفاد كثير من نبغائهم إلى بلاد الغرب فيما أوفد من بعوث؛ إذ اتصلوا بثقافة أوربة, واستمكنوا من لغتها, وكانوا أقرب من هذه الثقافة بالمخالطة والدراسة. نشرت حركة الترجمة والتأليف ثروة عربية لغوية, اقتضى التعبير بها الكشف عنها, وكانت الترجمة والتأليف حاثًّا للمترجمين والمؤلفين أن يقبلوا في مجفوات الكتب العربية عن مصطلحات وتعبيرات تلائم عملهم الجديد, واسلتزمت حركة الترجمة والتأليف صوغ عباراتٍ تتأدى بها المعاني التي لم يكن في الألفاظ العربية القديمة ما ينهض بها. واستدعت هذه الحركة القوية أن يلتفت المتأدبون إلى هذه الثقافة الجديدة, وأن يطيلوا الوقوف عند ما حوته من جدة وطرافة, فاتسع الخيال, وأمرع الفكر, واتجه الأدباء متجه الأدب الغربيّ في سهولة أدائه ووضوح تعبيره, واتجهوا إلى المعنى, وتوخوا الفكرة, وانصرفوا عن الصناعة التي كانوا بها كلفين، وكان ذلك بدء حياة جديدة في الأدب العربيّ, سار الأدباء في طريقها, أما رفاعة بك زعيم المؤلفين والمترجمين في صدر هذه النهضة فسنخصه بحديثٍ نطيل الوقوف عنده. وأما غيره من الأزهريين الذين نهضوا بالترجمة والتأليف إذ ذاك, فهم كثيرون متعددون، وسنبدأ بالكلام عن أشهرهم, مبينين في إيجازٍ طرفًا من حياتهم وآثارهم, ترجمةً وتأليفًا.

إبراهيم النبراوي

إبراهيم النبراوي ... إبراهيم النبرواي: ينتسب إلى بلدة "نبروه" من مديرية الغربية, تعلم القراءة والكتابة في صغره, ثم اشتغل بالتجارة, وأرسله أهله إلى القاهرة في شئونها, فشاء القدر أن يخسر فيها كي يتحرج من العود إليهم, ويبقى بمصر لطلب العلم في الأزهر. وقد قضى فترةً به حتى اتفق له أن يكون فيمن نهضت بهم مدرسة الطب بأبي زعبل؛ إذ التحق بها, وظلَّ فيها حتى ارتقى إلى رتبة "ملازم", وكان أحد أعضاء البعث الأوّل الذي أرسله محمد علي باشا إلى باريس. وقد تقدم النبراو إلى الامتحان فكان من المتفوقين, وتولى تعليم الجراحة الكبرى في عهد كلوت بك بمدرسة الطب, ثم أصبح رئيسًا لأطباء تلك المدرسة، وكان موضع ثقة محمد علي باشا فاختاره طبيبًا له, وقربه ورقاه إلى رتبة "أميرالاي" فوثق الناس به, وهرعوا إليه, وتقلب في النعمة ورغد العيش، ثم انتخبه عباس باشا الأول طبيبًا له, حين انتهت الولاية إليه, وانتدبته والدته ليصحبها في سفرها إلى الحج، وقد كان طبيبًا بارعًا, ترجم آثارًا ذات خطر, ومنها: 1- كتاب الأربطة الجراحية, ترجمه من الفرنسية إلى العربية, وطبع سنة 1954هـ. 2- نبذة في الفلسفة الطبيعية, ألفها "كلوت بك", وترجمها هو إلى العربية, وطبعت سنة 1953 هجرية. 3- نبذة في أصول الطبيعة والتشريح لكلوت بك, ترجمها هو إلى العربية.

أحمد حسن الرشيدي

أحمد حسن الرشيدي ... أحمد حسن رشدي: أحد الأفذاذ النابغين في مدرسة الطب المصرية والبعوث إلى أوربا, جاهد في تأسيس النهضة مجاهدةً صادقةً حتى كان أحد دعائمها, وأكثر الأطباء عملًا في سبيلها. نشأ نشأته الأولى في الجامع الأزهر, فلما أراد محمد علي اختيار شباب لدراسة الطب, كان بين الراغبين فيها, فدخل مدرسة الطب, وتعلَّم بها, وسافر في البعث الأول إلى باريس, فلما عاد عُيِّنَ معلِّمًا للطبيعة في المدرسة, ثم أخذ في الترجمة والتأليف بهمةٍ لا تعرف الكلال, وكفاية ومقدرة ومتانة في اللغة, فاق فيها زملاؤه وأنداده. وتمتاز مؤلفاته بالتجويد والإحكام, وأنها قلَّمَا تحتاج إلى تحرير وتصحيح, وقد ألَّفَ في أكثر فنون الطب والطبيعة، ولما انتقلت ولاية مصر إلى عباس الأول, ثم إلى سعيد, وسكتت الحركة العلمة, لم يظهر شيء من تأليفه, وكان حساده قد سعوا به, ثم شفع له بعض أصدقائه لدى الخديوي إسماعيل؛ إذ آلت الولاية إليه, فهشَّ له وقربه وأوصاه أن يستأنف جهده, فألف كتاب "عمدة المحتاج لعلمي الأدوية والعلاج". آثاره: له مؤلفات تشهد بقدرته ورسوخ قدمه, فمنها: 1- رسالةٌ في تطعيم الجدري, أصلها لكلوت بك, قام هو بترجمتها. 2- الدارسة الأولية في الجغرافية والطبيعية "مُعَرَّب". 3- "ضياء النيرين فيمداوة العينين" مُعَرَّبٌ عن كتاب للجراح "لورانس" مع زيادات عن الأصل. 4- طالع السعادة والإقبال في علم الولادة وأمراض النساء والأطفال, ترجمه عن الفرنسية "على هيبة" وتولى هو تصحيحه. 5- نبذة في تطعيم الجدري. 6- بهجة الرؤساء في أمراض النساء. 7- نزهة الإقبال في مداواة الأطفال. 8- الروضة البهية في مداواة الأمراض الجلدية. 9- نخبة الأمائل في علاج تشوهات المفاصل -تكملة للروضة البهية. 10- عمدة المحتاج في علمي الأدوية والعلاج, وهوكالموسوعة الطبية, في أربعة مجلدات, علق عليه الدكتور حسين عودة بفهرس يسهل الانتفاع به.

_ 1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص524.

أبو السعود

أبو السعود: هو أبو عبد الله أبو السعود بن الشيخ عبد الله, ولد في "دهشور" من مديرية الجيزة, سنة "1236هـ- 19820م" وأصله من جبال برقة, وتعلّم بالأزهر صدر حياته, حتى أنشأ محمد علي باشا مدرسة الألسن فالتحق بها, وأظهر براعةً وتفوقًا في علوم اللغة والرياضة والفقه, وأجاد الفرنسية والإيطالية, وأخذ في التعليم وتصحيح تراجم الكتب الرياضية وغيرها, وظلَّ يرتقي بنبوغه وجده حتى عُيِّنَ في ترجمة ديوان المدارس، ثم صار في عهد إسماعيل ناظر قلم الترجمة بهذا الديوان, وعلَّم التاريخ بمدرسة دار العلوم, ثم عين عضوًا بمجلس الاستئناف, إلى أن توفي سنة 1295هـ - 1878م, وهو أول من أنشأ جريدة سياسية عربيةً غير رسمية بمصر, تسمى: "وادي النيل" فكانت تهيئ الأفكار, وتدعو إلى تنشيط الأقلام الحرة, وهو صاحب المقالات الشائقة التي كان ينشرها في روضة المدارس، كما أن له بضع مقالات قيمة في صحيفة "روضة الأخبار" التي كان يصدرها ولده أنيس أفندي. وأبو السعود من أنبغ تلاميذ رفاعه بك وأنبه المترجمين في ذلك العهد، وقد اشترك مع رفاعة بك وتلامذته في ترجمة قانون "نابليون" واشترك في تعريب قانون المرافعات, كما ترجم لمعظم كتاب الجريدة العسكرية من الفرنجة، وقد ألَّفَ كتبًا قيمةً, وكانت له آثارٌ ذات شأن نذكر منها: 1- نظم اللالئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك" مُذَيَّلٌ بجدول لمقابلة تاريخ الهجرة بتاريخ الميلاد, من أول الهجرة إلى سنة 1300هـ, طبع بمصر سنة 1257هـ. 2- الدرس التام في التاريخ العام, طبع بمصر سنة 1289 هـ. 3- قناصة أهل العصر في خلاصة تاريخ مصر القديم, أصله لماريت

باشا, ونقله أبو السعود من الفرنسية إلى العربية, بأمر نظارة المعارف, وهو مطبوع بمصر سنة 1281هـ. 4- له ديوانٌ جمع شعره الرقيق, وبه كثير من المنظومات المولدة؛ كالموالي والموشحات. 5- وله أرجوزة في سيرة محمد علي, تبلغ ألف بيت. 6- منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ مصر, لخصه عن "الجبرتي". وله غير ذلك آثارٌ قيمة في التأليف والترجمة.

رفاعة بك رافع الطهطاوي

رفاعة بك رافع الطهطاوي: المتوفي سنة "1290هـ- 1873م". التعريف به: وهو السيد: رفاعة بك بن بدوي بن عليّ بن محمد بن عليّ رافع, ويلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء. نشأته: ولد في طهطا بمديرة جرجا من صعيد مصر, ويؤخذ مما كتبه عنه نفسه في رحلته أن أجداده كانوا من ذوي اليسار, ولكن الدهر أخنى عليهم, والأيام تنكرت لهم، فلما وُلِدَ تفتحت عيناه على الضيق والعسرة، وسار به والده إلى منشأة النيدة بالقرب من مديرية جرجا, فالقى عصا تسياره بين قوم كرام النفوس, ذوي يسار ومجد, يقال لهم: "بيت أبي قطنة" فأقاما هناك مدةً, ثم نزحا إلى قنا, ولبثا بها حتى شَبَّ الغلام, وشرع يقرأ كتاب الله, ثم نقل إلى فرشوط التي عاد منها إلى طَهْطَا وطنه الاول, بعد أن أتمَّ القرآن حفظًا. الأزهر الصغير: وقد تهيأت له في حداثته ثقافةٌ أزهريةٌ؛ إذ قرأ كثير من المتون الأزهرية المتداولة على أخواله, وفيهم طائفة من علماء الأزهر الفضلاء؛ كالشيخ: عبد الصمد الأنصاري, والشيخ: أبي الحسن الأنصاري, والشيخ: فراج الأنصاري, وغيرهم.

ولما توفي والد رفاعة قدم هو إلى القاهرة, وانتظم في سلك الطلبة بالجامع الأزهر, في سنة "1223هـ" وجَدَّ في الدرس والمطالعة حتى نال من العلم حظًّا محمودًا, ولم يمض بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء في اللغة والحديث والفقه, وسائر علوم المنقول والمعقول، وكان في جملة مَنْ تلقَّى عنهم العلم العالم واللغويّ الشاعر الكاتب الشيح: حسين العطار, المتوفى سنة "1250هـ" وقد تنبه إلى مخايل ذكائه, وأمرات نجابته, فميزه عن أقرانه, وخصه ببالغ عطفه, وكان يتردد على منزله لينهل من علمه, وينشد توجيهه، ويشترك معه في الاطلاع على الكتب الغربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر1. نبوغه المبكر: أشرق نبوغُ رفاعةَ وذكاؤُه وهو لدن العود, غَضِّ الصبا, وبدت لذلك علائم ودلائل، فقد أُثِرَ عنه أن أحد الفضلاء المدرسين سأله زمن حضوره بالأزهر, في صحن الأزهر, في جلسة خفيفة, فختم القطر بها ذلك المدرس, وعد ذلك على فضله مع حداثة سنه من أبلغ الدلائل، ومن ذلك الوقت اعترف له وهو ابن عشرين سنة جميع أبناء طبقته, بأنه تلقى راية العلم باليمين2. مواهبه وجده: قضى رفاعة في الدارسة في الأزهر زهاء ثماني سنوات, كان فيها مرموقًا بالأنظار لذكائه وجَدِّه وسلامة ذوقه ودقة فهمه، ولم يكن يلتزم طريقة زملائه الطلاب في مبدأ الطلبة, بل كانت دروسه تتعدد في اليوم الواحد تعددًا زائدًا عن طاقته ووسعه3.

_ 1 الخطط التوفيقية ج13 ص54. 2 حلية الزمن في مناقب خادم الوطن للسيد صالح مجدي بك. 3 حلية الزمن في مناقب خادم الوطن للسيد صالح مجدي بك ص5.

وقد اشتغل في الأزهر بعد تخرجه بتدريس كتبٍ شتى في المنطق والبيان والبديع والعروض والأدب وغير ذلك، وكان سهل الأداء, عذب الأسلوب, فصيح التعبير, قادرًا على تصوير المعنى بطرق مختلفة، يجد الذكي وغيره في درسه نفعًا وإرشادًا وهداية. ولقد يبلغ به الجد والمثابرة أنه لا يقف على ذلك اليوم والليلة على وقت محدود، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء, أو عند ثلث الليل الأخير, ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قديمه في درس اللغة, أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية, والقوانين الأجنبية, وكذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العالية؛ بحيث أمسى جميعهم في الإنشاء نظمًا ونثرًا أطروفة عصرهم, وتحفة عصرهم، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة أو التأليف، وكان مجامع الامتحان لا تزهى إلّا به1. الوظائف التي شغلها: شغل رفاعة بك كثيرًا من الوظائف العلمية والإدراية، فكان فيها مثلًا رفيعًا للكفاية والجد, ونموذجًا يحتذى في بروز الشخصية ووفرة الإنتاج, وقد عثر صالح بك مجدي صاحب كتاب "حلية الزمن في مناقب خادم الوطن" رفاعة بك على ورقة مختومة سرد فيها رفاعة المناصب التي تقلدها, والأعمال التي اضطلع بها, وذلك أنه عُيِّنَ خطيبا وواعظًا لدى حسن بك المانسترلي, الذي ارتقى فيما بعد رتبة الباشوية, وعين في منصب "الكتخدائية" في عهد المرحوم عباس باشا الأول, وتُوفِيَ في زمن المحروم محمد سعيد باشا, ثم نقل إلى مثل هذه الوظيفة لدى أحمد بك الشكلي, الذي منح رتبة الباشوية فيما بعد, وتوفي في عهد محمد سعيد باشا.

_ 1 الخطط التوفيقية ج13 ص54.

رفاعة في البعثة: ولما أراد المرحوم محمد علي باشا أن يرسل طائفةً من الشباب النابهين إلى باريس؛ لينقلوا علوم الغرب وآدابه وثقافته, وطلب من المرحوم الشيح: حسن العطار, أن ينتخب لهم إمامًا من علماء الأزهر, فيه الأهلية واللياقة, اختار تعيين صاحب الترجمة لتلك الوظيفة1. وكان الشيخ حسن العطار من المعجبين بذكائه, المقدرين كفايته وعلمه, فزكَّاه لهذا العمل الذي كان باكروة نجاحه ومطلع شهرته وانبلاج صبحه. واتجه مع هذه البعثة إلى باريس موصًّى من شيخه العطار بأن يجدي على بلاده بعمل رحلة, يسجل فيها ما يشاهده في فرنسا من أحوال وأخلاق وعادات, فألف رحلته المشهورة التي سماها: "تخليص الإبريز والديوان النفيس" وقد شرع يتعلم الفرنسية منذ غادر مصر, وبذل فيها همه وعزمه, واتخذ له بعد وصوله إلى باريس معلمًا خاصًّا على نفقته، وما لبث في هذه البلاد حتى عرفه العلماء والأدباء وقدروه حق قدره، وكان للمسيو "جوما" فضل سابغ عليه بإرشاده وتعليمه ووفائه له في وده, كما فعل ذلك معه العالم الشهير "البارون دساسي". وفي المدة التي أقامها بباريس بين سنة 1241 و 1246هـ نبغ في العلوم والمعارف الأجنبية, ولا سيما في الترجمة في سائر العلوم على اختلاف مصطلحاتها, ولم تكن هذه المدينة البراقة الفاتنة لتصرفه عن التوفر على المثابرة والتضلع في ثقافة هذه البلاد, أو تجرح خلقه وحصانته, بل أكبَّ على عمله غير مدخر وسعًا, حتى ترجم خلال إقامته بباريس جمهرةً من الرسائل والكتب, منها: "قلائد المفاخر" الذي سنذكره في آثاره. رفاعة بعد عودته: ولما رجع من بعثته عُيِّنَ في سنة 1249هـ بمدرسة الطب بأبي زعبل في

_ 1 الخطط التوفيقية ج13 ص54.

وظيفة مترجم ومدرس للغة الفرنسية, ورئيسًا لقسم الجغرافية بالمدرسة, ثم انتقل في السنة نفسها إلى مدرسة الطوبجية, وأقام بها إلى سنة 1251 هـ يشغل وظيفة مترجم, وكانت هذه المدرسة قائمةً على تحصيل الفنون العربية, مؤسسة لترجمة العلوم الهندسية والفنون العسكرية, ويقول صاحب "حلية الزمن" -ص12- "وقد عثرت له مدة إقامته بها على رسالةٍ مترجمةٍ في الهندسة العادية, مطبوعة بمطبعة بولاق البهية، وهذه الرسالة من جملة الرسائل الفرنسية التي يقرؤها التلامذة بمدرسة سانسيرا بفرنسا, وقد انتفع بها أبناء هذه المدارس. ثم وكلت إليه نظارة "قلم إفرانجي" في عهد المرحوم محمد سعيد باشا, ونيطت به نظارة داركتب قصر العيني, وكانت ضخمة حافلة بالأسفار؛ إذ تضم اثنى عشر ألف, أوأخمسة عشر ألف مجلد، ومعظمها بالفرنسة والإيطالية1 كما وُكِّلَت إليه رئاسة فرقة تلامذة الجغرافية بهذا القصر. رفاعة ومدرسة الألسن: وكان هذه المدرسة من وحي رأيه, وثمرات فكره, فقد عرض على الجناب العالي أن تنشأ هذه المدرسة لتجدي على الوطن أبلغ جدوى, وليستغني بها عن الأجانب الدخلاء، وقد عهد إليه اختيار التلامذة لهذه المدرسة, فطاف بهم, وانتخب من وجد فيه صلاحية وكفاية. أسس رفاعة مدرسة الألسن، وانتهت إليه إدراتها والإشراف على تلاميذها والترجمة بها، وعلاوة على قيامه بإدارة المدرسة من الوجهة الفنية, كان ناظرًا لها من الوجهة الإدارية, كما كان يشرف على مراجعة وإصلاح الكتب التي كان يمر بها تلامذته2.

_ 1 تقويم النيل لأمين باشا سامي ج2 ص448. 2 دفتر رقم 2021 "مدارس تركي" جلسة شورى المدارس في 21 من ذي القعدة سنة 1252هـ.

ولما كان مرهقًا بكثرة العمل, والاضطلاع بمختلف الشئون, خصص له ديوان المدارس مدرسًا فرنسيًّا ليعاونه في إدارة المدرسة, والتفتيش على الدورس وأمانة المكتبة، وليخفف بمعاونته من هذه الأعمال التي يضيق الزمن عنها, فإنه كان يطوف كل عام بمكاتب المبتديان في الأقاليم؛ ليشرف على امتحان التلاميذ الذين يتقدمون إلى المدرسة التجهيزية؛ ليحلق المتفوقين منهم بها. ومن العجيب أن يضطلع إلى جانب هذا كله بنظارة مدرسة التجهيزية, والوقائع المصرية, والكتبخانة الأفرنجية, ومخزن عموم المدارس, والإشراف على قلم الترجمة الذي أُسِّسَ بمردسة الألسن, والإشراف على مدرسة المحاسبة, والفقه الشرعيّ, والإدارة, والأحكام الأفرنجية, وملاحظة المكتب العالي "بالخانقاه" وقد ظل رفاعة بك مديرًا لمدرسة الألسن, والمدارس الملحقة بها, حتى أوائل عصر عباس الأول؛ حيث نقلت من الأزبكية إلى الناصرية، ولما ألغيت مدرسة الألسن, عُيِّنَ ناظرًا للمدرسة الابتدائية التي أنشئت في الخرطوم. تلك هي الوظائف التي شغلها رفاعة بك, الذي كان حركةً دائبةً, وعملًا موصولًا, وإنهاءً لجهود جبارة تتقاصر دونها جهود الرجال، وتعيا عن حملها قوى متضافرة وعزائم متعاونة, عدا ما اضطلع به من أعمال جسام عقب عودته من الخرطوم. نفيه إلى الخرطوم: لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها: تولى عرش مصر عباس باشا الأول, بعد وفاة إبراهم, وكان محمد علي لا يزال ينوء بمرضه, ولعباس نفس تلح عليه أن ينسخ ما فعله محمد علي, وينتهز فرصة موته لتنفيذ خطته الرجعية. ويقول الأستاذ أحمد عزت عبد الكريم في كتابه تاريخ التعليم: "إن

عباسًا أظهر منذ تولي الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده, ويحنو على مؤسساته, ويؤيد نظمه, وأن سياسة عباس في الإصلاح الداخليّ كانت فشلًا متصلًا, ولا يشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيرًا، وهو أيضًا يرجع السبب في ذلك إلى أن سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي وإبراهيم في ميدان الإصلاح الداخليّ, والسياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها, ويدعوان إليها. فإذا ارتسمت لنا سياسة عباس على هذه الصورة, فقد هان علينا أن نفهم السر في إغلاقه معظم المدارس الخصوصية في أول عهده، وقد كان مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت في عهد عباس, فمؤسسها وناظرها رفاعة بك, أحد الأدنين من جده وعمه الناعم بعطفهما وثقتهما، ورسالة هذه المدرسة هي نقل الحضارة الغربية والثقافة الأوربية, والذي رسم هذه الخطة الرشيدة هما: محمد علي وإبراهيم, والذي اضطلع بتنفيذ هذه السياسة, وبذل فيها أعظم الجهود, إنما هو رفاعة بك, وعباس- كما يقول المؤرخ الإيطاليّ "وساماركوا": "يتجلى عداؤه للحضارة الغربية, وكرهه لجميع الأعمال التي كونت مجده, ويبذل كل الجهد لتحطيمها شيئًا فشيئًا" فلا عجب إذن أن يجافي رفاعة بطل هذه الحضارة, وحامل لواء تلك النهضة, وأن يحصل له من البغض والشنآن ما ينتهي به إلى نفيه إلى السودان. ويرى الأستاذ عبد الرحمن بك, أن لكتاب "تخليص الإبريز" سببًا يتصل بنفيه؛ إذ لا يخفى أنه طبع للمرة الثانية سنة 1265هـ, أي: في أوئل عهد عباس, والكتاب يحوي آراء ومبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد, وعباس كان بطبعه مستبدًّا, فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة, مما لا يروق عباس, فرأى أن يبعده إلى الخرطوم؛ ليكون السودان منفًى له, وليبعده, ويبعد من يشاكله في آرائه وأفكاره عن مصر، ويتخذ لإبعاده وإبعادهم علةً منتحلةً وسببًا مخادعًا.

والأستاذ عزت عبد الكريم في كتابه "تاريخ التعليم في عهد محمد علي" يرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان: أحدهما: سعي علي مبارك الذي عاد من أوربة ممتلئًا بالأطماع, والذي كان يحقد على رفاعة لما أصابه من مكانة وبلوغ شهرة. والثاني: ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه من معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلًا على مبادئهم في دراسة الشريعة والفقه. هذه تكهنات يضرب فيها المؤرخون والباحثون, إلّا أنها لم تتكئ على وقائع ملموسة تكون أقرب إلى الجزم واليقين، وأنه وإن كانت هذه مجتمعةً, أو منفردةً, تصلح أسبابًا لنفي رفاعة, وتغير عباس عليه, إلّا أن رفاعة نفسه جَلَّى السبب وأزال إبهامه؛ فقد ذكر أنه سافر إلى السودان بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر, بوسيلة نظارة مدرسة الخرطوم1. وأنه, وإن لم يذكر أسماء السعادة, ولم يشرح السعاية التي قاموا بها, أشار إلى الوشاة والوشاية في قصيدته التي نظمها بالخرطوم, مستنجدًا بحسن باشا كتخدا مصر -ومما قاله في هذه القصيدة: وما خلت العزيز يريد ذلي ... ولا يصغي لأخصام لداد لديه سعوا بألسنة حداد ... فيكيف صغى لألسنة حداد؟ مهازيل الفضائل خادعوني ... وهل في حربهم يكبو جوادي؟ وزخرف قولهم إذ زخرفوا ... على تزييفه نادى المنادي فهل من صبر في المعنى بصير ... صيحح الانتفاء والانتقاد؟ قياس مدارسي قالوا عقيم ... بمصر فما النتجية في بعادي؟

_ 1 مناهج الألباب المصرية ص167.

وهو يعجب كيف يؤدي لوطنه هذه الخدمة الجليلة, ثم يُجْزَى هذا الجزاء, ويبدي جزعه على أطفاله الصغار الذين ملكوا عليه فكره فيقول: على عد التواتر معرباتي ... تفي بفنون سلم أو جهاد و"ملطبرون" يشهد وهو عدلٌ ... "ومنتسكو" يقر بلا تماد ولاح لسان "باريس" كشمسٍ ... بقاهرة المعزِّ على عمادي رحلت بصفقة المغبون عنها ... وفضلي في سواها في المزاد وما السودان قط مقام مثلي ... ولا سلماي فيه ولا سعادي وقد فارقت أطفالًا صغارًا ... "بطهطا" دون عودي واعتيادي أفكر فيهمو سرًّا وجهرًا ... ولا سمري يطيب ولا رقادي أريد وصالهم والدهر يأبى ... مواصلتي ويطمع في عنادي وكان الشيخ ماكرًا, فقد وضع القصيدة على وزن وقافية: لقد أسمعت إذ ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لما تنادي1 قياس رفاعة: من المصادفات الغريبة والتنبؤ الطريف, ما نرويه في هذه القصة التي وقعت بين رفاعة وكبار المصريين في السودان؛ ففي غضون شهر شوال سنة 1270 هـ أعدَّ جزايرلي سليم -حكمدار السودان- وليمةً بإحدى السفن الراسية بمياه النيل تجاه الخرطوم, ودعا إليها سفراء الدول, والمرحوم رفاعة بك, وقد شرعت السفينة تتهادى في الماء وتختال قبل الموعد بقليل, والمدعوون يسمرون ويمرحون, وبينما هم كذلك فأجأهم رفاعة بقوله: إن الوالي عباسًا قتل, فاضطرب الجمع, واضطر الحكمدار المُوَلَّى من قبل عباس أن يلغي الواليمة, وتفرق الجمع, ولما عاد رفاعة إلى مدرسة الخرطوم سأله المدرسون عن

_ 1 أحمد أمين بك عدد الثقافة 333 ص5.

عودته, فأخبرهم بأن عباسًا قتل, فقالوا له من أين علمت؟ فقال لهم: انتهيت في ترجمة تلماك إلى اجتماع الملوك المتعاهدة, وانضمام تلماك معهم على محاربة الملك "أدرسته" ملك الدونية, وإعدامه بيد تلماك؛ لارتكابه كل الأمور التي أرى أن عباسًا ارتكبها تمامًا, وحيث كانت عاقبة "أدرسته" القتل, فقياسًا على هذا قلت: لابد أن يكون عباس قتل مثله, فقالوا: ألم يكفك اغترابنا في الخرطوم حتى رحت تجترئ على هذا القياس الخرافي الذي يترتب عليه إبعادنا إلى ما أبعد من الخرطوم. وفي اليوم التالي للحادث, اسْتُدْعِىَ رفاعة بك من الحكمدار, وزفَّ إليه بشرى أن سعيد باشا أمر بإعادته ومن معه إلى القاهرة, وسلمه الحكمدار جانبًا من التبر هديةً لوالي مصر الجديد. هذه رواية عن قياس رفاعة, وما من شك في أن رفاعة كان حزينًا لنفيه, موجعًا لبعده, آسفًا لما لقيه من والٍ أغفل فضله العريض في نهضة البلاد, ولم يجازه إلّا بالنفي والاغتراب. كان ذلك الألم يحز في نفس رفاعة, ويبلغ من شعوره كل مبلغ, ويتغلغل في نفسه كل تغلغل، وربما صقل الحزن نفسه, وتجسم الأمل في نفسه, وتملكه الخيال الذي تمثّل له في قصة تلماك, فراح يقرن بين حال الملكين ويتكهن بأن يكون أحدهما كالآخر في مصرعه, ولم يدع له الغيظ قوةً يكتم بها إحساسه, فأرسل حدسه في صورة الخبر, وأبرز خياله في معرض اليقين، وكم في الأمور من مصادفات. أثر رفاعه في السودان: قضى رفاعة في السودان زهاء أربعة أعوام, شعر فيها بمرارة الحزن والألم, وكانت صابًا وعلقمًا لمعنى الظلم والجور الذي يتمثل له، ولاغترابه عن أطفال صغار لا يدري ما فعل بهم الزمان, ولجزعه في منفاه على علم من أعلام النهضة, وهو محمد بيومي, أستاذ الرضيات, ورئيس أحد أقسام الترجمة, فقد صحب رفاعة في رحلته إلى باريس, وعاونه في نشر العلم بالسودان, وكان مصرعه به، وقد أشار إلى الجزع على فقده نصف صحبه الذي كان معه بقوله:

وحسبي فتكها بنصيف صحبي ... كأن وظيفتي لبس الحداد أما شعوره نحو السودان, فقد كان شعور حبٍّ وعاطفةٍ, وهو الذي قال على لسان مصر والسودان. نحن غصنان ضمَّنَا عاطف الوجد ... جميعًا في الحب ضم النطاق في جبين الزمان منك ومني ... غرة كوكبية الانفلاق وأيَّا ما كان, فقد نشر رفاعة في السودان ثقافةً وعلمًا, وقام على إدارة هذه المدرسة بإرشاده وجهوده, ونظم في محنته شعرًا أودعه مكنون نفسه وخوالج حسه, وشغل كثيرًا من وقته بالترجمة, فكان مما ترجمه قصة تلماك الرائعة. بعد عودته من السودان: وبعد عودته من السودان جُعِلَ عضوًا ومترجمًا في مجلس المحافظة, تحت رئاسة المرحوم أدهم باشا, ثم جُعِلَ ناظرًا لمدرسة الحربية بالحوض المرصود, وبعد شهور تجددت المدرسة الحربية بالقلعة, فأحيلت إليه نظارتها مع نظارة قلم الترجمة, ومدرسة المحاسبة, والهندسة الملكية, والتفتيش, والعمارة, وفي سنة "1277هـ ألغيت المدرسة الحربية المذكورة وقلم الترجمة, وما معهما, فظَلَّ خاليًا من الوظيفة حتى سنة "1280هـ "وفيها أحليت إليه نظارة "قلم ترجمة" وجُعِلَ من أعضاء قمسيون المدارس, مع الإشراف على صحيفة "روضة المدارس". وقد ظلَّ كذلك في جهدٍ وعمل دائبين حتى كانت غرة ربيع الآخر سنة تسعين ومائتين وألف, فخبت بالموت شعلته, وانطفأت بالمنية حياته وعبقريته. أثره في النهضه: كان رفاعة بك شعلةً منقدةً لا يخبو نورها, وحركة يقظةٍ لا يفتر نشاطها.

اضطلع بهذه الجهود الجبارة التي تعجز الجهد وتعين الطاقة, فكان مجموعةً من الرجال, وجمهرةً من النباهين, وطائفةً من المواهب؛ ألَّفَ وترجَمَ ووجَّهَ وعَلَّمَ وشَرَّعَ ونَظَمَ ونقل إلى مصر ما كانت تنشده من علم الغرب وآدابها وفنونها ومختلف ثقافاتها, ودرج على نظمها وأسباب مجدها, وصنع على عينه تلامذة أذكياء أفذاذًا, كانوا أقباسًا من ضوئه, ومشاعل من هداه, فنهجوا نهجه, وسلكوا طريقه, وكانوا الغاية البعيدة التي تنشدها البلاد، والحقّ أن رفاعة كان في الناهضين والمصلحين ورجال العلم أمة وحده, وهو الأديب البارع, والشاعر المقبول, والعالمُ الفَذُّ المتمكنُ في غير ما ناحيةٍ من نواحي العلم, والمترجم الذي فتح العيون على أطايب آداب الغرب وعلومه, ولعمري أنه لمفخرة هذا الجيل, والآية الناطقة بفضل الأزهر وجلائل آثاره. كان رفاعه أول مترجم مصريٍّ في النهضة الحاضرة, وقد استطاع أن يشرف على قلم الترجمة الذي ضم خسمين مترجمًا, كان له شرف توجيههم وإرشادهم, وما منهم إلّا وله اليد البارعة في ترجمة آداب الغرب وعلومه وفنونه. وقد كان رئيس الترجمة قبله بمدرسة الطبِّ رجلٌّ شاميٌّ, يدعى: "عنحوري" فلما ألحق رافعه بهذه المدرسة كتب المترجم الشاميّ باختباره في الترجمة, وأعطاه فصلًا من كتابٍ, وقال له: ترجمه في مجلسنا هذا, فترجمه رفاعة من فوره؛ فإذ قرأه الممتحن ملكه العجب, وحمل ترجمة رفاعة إلى الديوان، وقال للرؤساء في ذلك الحين: هذا أستاذي, هو أحق بالرياسة مني؛ لأنه أدرى مني بالتعريب والتنقيح والتهذيب, وهذه شهادة الحق التي تقضي له بالسبق1. وهو أول منشيء لصحيفة أخبار بالقطر المصريّ, فقد تكفَّل أثر عودته من باريس بنشر صحيفة خبرية وهي "روضة المدارس" مع تعذر الحصول

_ 1 حلية الزمن بمناقب خادم الوطن للسيد صالح مجدي بك ص11.

على موادها إذ ذاك، وقد مكثت هذه الصحيفة مدةً, ثم انتكست قليلًا إلى نهوض ونشاط. ومما امتاز به وقوفه على التواريخ القديمة والحديثة والأنساب, مما لم يكد يلحقه فيه غيره1 كما كان له أكبر الفضل في نشر العلوم والمعارف بِحَثِّهِ الحكومة على طبع طائفةٍ من أمهات الكتب العربية على نفقتها؛ كتفسير الفخر الرازي, ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية, وغير ذلك2. ما ألفه أو ترجمه: 1- تخليص الإبريز والديوان النفيس: وهو رحلته إلى باريس, وقد أبدع فيما تناوله فيها من وصف ما شاهده من مغادرته مصر إلى عودته إليها, فوصف أحوال فرنسا وأخلاق أهلها وعادتهم وعلومهم وفنونهم وأساليب حكمهم ومعيشتهم وأحوالهم الاجتماعية والسياسية, وقد تَمَّ ما كتبه في هذه الرحلة عن ميله إلى البحوث التاريخية والجغرافية, فإنه يقف عند كلِّ بلد يَمُرُّ به, فيحدث عن ماضيه وحاضره وطبيعته, مع دقةٍ في الملاحظة, ورقة في الأسلوب, ووفرة في مادة اللغة وتعبيرها, متعمقًا في بحثه, مستقصيًا في حديثه، ويدلك على شغفه بالعلم إسهابه في وصف علوم فرنسا وعلمائه ومكاتبها وجمعياتها العلمية ومدارسها ومعاهدها, وثروتها العلمية من الكتب والمجلدات والصحف3. وقد أعجب محمد علي باشا بها, وسُرَّ لها, وأصدر أمره بقراءتها في قصوره, وتوزيعها على الداووين والوجوه والأعيان بعد طبعها, كما أمر بتلاوتها للانتفاع بها في المدارس المصرية, وقد طبعت هذه الرحلة مرتين وهي

_ 1 حلية الزمن ص11. 2 تاريخ الحركة القومية, لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص493. 3 تاريخ الحركة القومية, لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص512.

أول رحلة مصرية بأروبة في تاريخ مصر الحديث، وقد انتفع بها الخاصُّ والعامُّ, بما فيها من الفوائد والتعليمات الأوربية والأزهرية1. 2- قلائد المفاخر في غرائب الأوائل والأواخر: وهو مجلد متوسط الحجم, ترجمه وهو في باريس, وتصرف في تعريبه بما رآه, ووضع فيه نبذةً لإيضاح ما فيه من أسماء البلدان والرجال, وحدَّث عنه بفصيح لسانه وواضح بيانه، وقد طبع ببولاق سنة 1833. 3- المرشد الأمين في تربية البنات والبنين: في مجلد واحد, ألفه للتعلم بمدارس البنات, وهو كتاب نفيس لم يؤلف مثله في حينه. 4- التحفة المكتبية في النحو: وهو كتاب لطيف يقع في مجلد, جمع فيه القواعد والأحكام والأصول النحوية, بطريقة سهلة منظمة, وحصر كل باب من هذا الكتاب في جدولٍ حتى يسهل الانتفاع به, وهو مطبوع على الحجر بمطبعة المدارس الملكية. 5- مواقع الأفلاك في أخبار تليماك: وهو تعريب وقائع تليماك الفرنسية, لمؤلفها الكاتب الروائي المستر "لافونتين" رئيس أساقفة "كمبراي" ترجمه رفاعة في منفاه بالخرطوم, وقد تصرَّفَ فيه كما رأى, فزاد ونقص وأفرغه في قالب عربيٍّ بديع, وهو مطبوع في بيروت. 6- مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب المصرية: وهو بحث يحتوي وصف مصر وبيان حضارتها وعلومها وصناعتها وأخلاق أهلها وحكومتها, وما هي عليه من اجتماع واقتصاد وسياسة، وعدا ما يشتمل عليه من بحوث قيمه في الآداب, مما هو من ثمار الكتب العربية

_ 1 حلبة الزمن ص11.

والفرنسية وبحوث في الأخلاق والمواعظ, وهذا الكتاب من غرره, فهو آية في العلوم والآداب, فيَّاض بأمثال الحكماء وآداب البلغاء وكلام الشعراء, ولعله أغزركتبه مادةً, وأعمقها فائدةً, وأوفاها بيانًا. 7- بداية القدماء وهداية الحكماء: وهو كتابٌ يتضمن تاريخ بني إسرائيل, والسوريين, والعجم, والهنود, واليونان, وقبائل العرب في شرح وبيانٍ, بأسلوب عذبٍ, وتبويب محكمٍ, وضع خطبته رفاعة بك, واحتفل بأسلوبها المسجوع الرصين, وأبان قيمة هذا العلم، وأن التاريخ مطمح خديو مصر الأعظم محمد علي باشا, وأن له به ولعًا شديدًا, ولا سيما تاريخ اليونان المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان. وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب ظرفه, ويخرج دره من صدفه؛ فأعطاه رفاعة بك لجماعةٍ منهم, وقد اختص بالقسم الخاصِّ بتاريخ اليونان "مصطفى أفندي الزرابي" المترجم بالمدرسة, وما زاد عنه واضطلع به زملاء آخرون, ووضع اسم كلَّ واحد عند الجزء الذي ترجمه, وقد رأى رفاعة أن هذا المؤلف ينقص تاريخ الخليقة والعرب, وفي كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفي بالأدب, فلذلك أضافه إلى الترجمة حرصًا على كماله. ويقول رفاعة عن هذا الكتاب -بداية القدماء: "وهو أول ترجمة كتاب في تاريخ القدماء, جمع فأوعى, وإليه في هذه المادة الرجعة, وهو من الإتحافات الإفرنجية التي يصدق عليها قول الشاعر: يحدث حاضرًا عنهن باد ... ويتحف مغربي مشرقيًّا1 وقد تم طبع هذا الكتاب بمطبعة بولاق في ربيع الآخر سنة "1254هـ". التعريبات الشافية لمريد الجغرافية: ومجلد ضخم ترجمه من الفرنسية إلى العربية لتدريس الجغرافية في

_ 1 بداية القدماء "المقدمة" ص6.

المدارس المصرية, وأضاف إليه بعض زيادات نافعة, وعرضه على المرحوم محمد علي باشا فارتاح له, وأمر بطبعه ونشره, وقد طبع غير مرةٍٍٍٍ, كما له في الجغرافية أيضًا كتابٌ يسمى: "الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار". أنوار توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل: جمع هذا الكتاب من التواريخ القديمة والحديثة العربية والغربية طرفًا, فمنه تاريخ مَنْ حكموا مصر من الدول والملل في جميع الأعصر, سواء كانوا من أهلها, أم أجانب عنها, قبل الإسلام وبعده, وذلك بعد أن قسَّم التاريخ إلى أثريّ وبشريّ, ومهَّد لتاريخ مصر وقسمه أقسام وضعية مبنية على أطوارها الطبيعية، وقد طبع بمطبعة بولاق, وبأوله تقاريظ لبعض الأدباء. وله غير ذلك. مختصر معاهد التنصيص -وهو اختصار المعاهد مع بعض زيادات نافعة، وجمال الأجرومية وهي منظومة سهلة، المذاهب الأربعة -وهو بحث فيها ألفه حين كان ناظرًا لمدرسة الألسن وانتفع به تلامذته، وشرح لامية العرب، والقانون المدنيّ الإفرنجي؛ نقله من الفرنسية إلى العربية, وقد عاونه بعض تلامذته, وعَرّبَ أيضًا قانون التجارة الفرنسي, ومن القوانين التي عرَّبَها رفاعة وتلامذته, استمد الشارع المصريّ معظم أحكام قوانين المعاملات المدنية والمرافعات والعقوبات, تلك القوانين التي بُنِيَ على أساسها النظام القضائيّ الحديث, ومن ذلك يتبين فضل رفاعة بك وتلامذته في إقامة صرح العدالة في مصر1. ومن آثاره أيضًا كتاب "هندسة ساسير" وترجمه من الفرنسية إلى العربية, وكتاب "نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" وكان آخر مؤلفاته هذا الكتاب2 وقد عَرّبَ طائفةً أخرى من الرسائل منها:

_ 1 تاريخ الحركة القومية, لعبد الرحمن بك ج3 ص496. 2 نشر هذه الكتاب تباعًا بمجلة "روضة المارس" في العدد 4 من السنة الثانية, وما وليه من السنة الثالثة والرابعة والخامسة.

نبذة في تاريخ الأسكند, مأخوذة من تاريخ القدماء, وكتاب "أصول المعادن" وتقويم سنة 1244 من الهجرة, ألفه مسيو "جومار" لاستعمار مصر والشام, وهو يتضمن شذارت عملية وتدبيرية، وكتاب "دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدها" ومقدمة جغرافية طبعية, وله ثلاث مقالات من كتاب "لجندر" في علم الهندسة, ونبذة في علم الهيئة, وقطعة من علميات الضباط، وله أصول الحقوق الطبعية التي عتبرها الإفرنج أصلًا لأحكامهم، ونبذة في جاهلية اليونان وخرافتهم، ونبذة في علم سياسة الصحة، ومن مؤلفاته "رسالة الكواكب النيرة في ليالي أفراح العزيز المقمرة" في تهاني الخديوي إسماعيل بأفراح أنجاله. رفاعة "ومونتسكيو ومطلبرون" 1: أشار رفاعة بك في بعض شعره الذي نظمه في السودان إلى أنه عَرَّبَ لمونتسكيو وملطبرون, فقال: على عدد التواتر معرباتي ... تفي بفنون سلم أو جهاد وملطبرون يشهد وهو عدل ... ومونتسكيو يقر بلا تماد وقد أكد هذه الإشارة الدالة على تعريبه لهما الشيخ محمود كشك الطهطاوي, الذي أشرف على تصحيح الطبعة الثانية من كتاب "مناهج الألباب" فقد نوّه بجهد محمد بك رفاعة" حفيد رفاعة بك في نشر هذا الكتاب, وأن همته ستشع لأحياء بقية الكتب الأخرى التي ترجمها رفاعة بك عن الفرنسية كرواية "تليماك" وتجرمة ملطبرون ومونتسكيو وغيرها. وأورد بعد ذلك صورة الخطاب الذي كتبه المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان إلى حفيد رفاعة بك, وقال فيه: "فاجعل كتابي هذا غير قاصر على تقريظ عملك الجديد المفيد, ومده إلى إيجاد ذينك السفرين" ترجمة ملطبرون

_ 1 استأنسنا في هذا البحث بكلمة للأستاذ جمالة الدين الشيال الشايب, نشرت في مجلة الثقافة العدد 250.

ومونتسكيو, ولقد رويت عن عمك الأعز -رحمه الله- أن والده الأكرم -أكرم الله موثاهما- ترجمهما, وأن نسختهما موجودة, وأسمعني ما بقيت حافظه إلى الآن, مما يبرهن على أنه -طيَّبَ الله ثراه- ترجمهما, وهو: وملطبرون يشهد وهو عدلٌ ... ومونتسكيو يقول ولا يماري1 وعلَّق على هذا الخطاب بقوله: ونحن نَزُفُّ البشرى إلى الجمهور بوجود أصل هذين الكتابين في خزانة كتب المؤلف، وتعويل حضرة حفيده الأكرم على طبعهما إجابة لطلب فضلية الأستاذ, وحبًّا في تعميم النفع لأبناء العصر. هذه دلائل قوية على ترجمة رفاعة بك لهذين الكتابين، ولكن بالرجوع إلى ما ترجم رفاعة في عهدي محمد على وإسماعيل باشا, لا توجد ترجمة مونتسكيو من بينهما, غاية الأمر أنه قرأ له, وتاثر به, وخاصَّةً كتاب "منهاج الألباب العصرية" فهو متأثر فيه بكتاب مونتسكيو, إلّا كتاب "براهان البيان وبيان البرهان في استكمال واختلال دولة الرومان"2 وكانت الترجمة تحت إشراف رفاعة، وقد ترجم هذا الكتاب الأخير حسن أفندي الجبيلي, وانتهى من ترجمته في12 من ربيع الآخر سنة "1210هـ" أي: بعد وفاة رفاعة, وتَمَّ طبع هذا الكتاب بعد ثلاث سنوات, في ذي القعدة سنة "1293هـ"، ومعنى ذلك: أن ليس فيما ترجم لمونتسكيو مما هو ثبت في الكتب المترجمة في عهدي محمد علي وإسماعيل إلا "بيان البرهان" ورفاعة فاخر بترجمة مونتسكيو في شعره, فلم يبق إلّا أن مسودات الكتاب في خزانة كتبه, أو امتدت إليه يد الضياع فعبثت به.

_ 1 روى المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان البيت هكذا, ولعل حافظته هي المسئولة عن تغيير الروي. 2 جمال الدين الشيال في العدد 205 من مجلة الثقافة.

أما جغرافية "ملطبرون" فقد عَرّبَ رفاعة منها أربعة مجلدات, وبقيت مجلدات أخرى بغير تعريب, ويقول جورجي زيدان: "ويظهر من مطالعتها أنه ترجمها على عجل, والواقع يؤيد ذلك؛ لأننا علمنا أنه ترجم مجلدًا منها في ستين يومًا سنة 1265هـ1". وقد عَرَّبَ الجزء الأول منها بعنوان: "الجغرافية العمومية"2. هذه آثار رفاعة التي كونت نهضةً أدبيَّةً علميةً, وسجَّلَت له بين العباقرة الأفذاذ ذكرًا محمودًا, وأثرًا مخلدًا، وله عدا ذلك ما ترجمه من تاريخٍ وأدبٍ وعلمٍ وفنٍّ شارك في تعريبها وتهذيبها النابهين من المؤلفين والمترجمين، ويقول جورجي زيدان: "وله من الرسائل والمقالات شيء كثير, وقفنا على بعضه3". والحق أن رفاعة كان علم هذه النهضة, والمثل الرفيع للنباهة والجد والمثابرة, نشر العلم في أوساط فسيحة, وأسَّسَ نهضةً علميةً متوثبةً, وفتح للمتعلمين آفاقًا واسعةً لم يكن لهم بها عهدٌ, وذوقهم معنى العلم الصحيح, وشوقهم للاستزادة منه, وبصرهم بعيوبهم, وأبان المناهج لتكميل نقصهم، وليس ذلك بقليل على رجل4. أسلوب رفاعة: نشره: كان رفاعه متأثرًا في أدبه بروح عصره, خاضعًا للتعمل والتكلف, متهافتًا

_ 1 تراجم أشهر مشاهر الشرق, لجورجي زيدان ج2 ص22. 2 تاريخ الحركة القومية, لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص 512. 3 تراجم أشهر مشاهير أدباء الشرق, لجورجي زيدان ج2 ص23. 4 أحمد أمين, العدد 235 من مجلة الثقافة.

على الصنعة, وكثيرًا ما يتعثر في السجع المصطنع, ويشد أنواع البديع شدًّا, ولكنه على رغم ذلك, أحد دعائم النهضة الأدبية, وأحد الذين تأثروا بأسلوب الغرب, وظهر عليهم طابعه من طول ما ترجم من علومه وفنونه, وإنه وإن كان في أسلوبه السجع المتكلف الممزوج بحسن اختيار الألفاظ وبلاغة العبارة, تجد في مؤلفاته السهل الممتع الذي يشبه أجود أساليب الصحف اليومية عندنا الآن1 وتتنسم منه روح الترسل والاطراد. شعره: أما عشره فهو متصل بنثره في طابعه العام, يتهافت على التصنع, وينجذب إلى البديع, وقد يكون في شعره ضعيفًا أشبه ما يكون بشعر الفقهاء2 إلّا أنه له مع ذلك خيالًا خصبًا, وتصويرًا رائعًا, وسهولةً متدفقةً, تجد ذلك أحيانًا في شعره, تأثرًا بالغرب الذي تمشى في بلاده, وأطال التقليب في ثقافته وشعره, بعد المرحلة التي عبرها الشعر العربيّ إلى مرحلة التجديد التي ظهر فيها أمثال البارودي وشوق وحافظ وإسماعيل صبري وغيرهم. ولرفاعة قصائد وموشحات وأراجيز, وهي على كثرتها, على حظٍّ من الجودة, وله في المرحوم محمد علي ونجله الأكبر إبراهيم المدائح التي سارت بها الركبان, وله في مدح المرحوم سعيد من القصائد والمربعات والمخمسات والتواشيح والأدوار الكثير الطيب مما هو محفوظ في الصدور, مرقوم في السطور3 وله ديوانٌ يبلغ أربعة آلاف بيتٍ من الشعر.

_ 1 المرحوم الدكتور أحمد ضيف, مقتطف شهر مايو سنة 1926. 2 أحمد أمين, مجلة الثقافة عدد 235. 3 الخطط التوفيقية ج13 ص 55.

نماذج من نشره: كتب في "تخليص الإبريز" تعليقًا على موقف الملك شارل لما قامت الثورة في باريس فقال: فلما اشتد الأمر, وعلم الملك بذلك, وهوخارج أمر بجعل المدينةمحاصرة حكمًا، وجعل قائد العسكر أميرًا على أعداء الفرنساوية, مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية, مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة, فقد دلَّهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي, فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو الملك أبقى للملك، ولما ولّى على عساكره إلى جماعة عقلاء أحبابًا له وللرعية, غير مبغوضين ولا أعداء، ولكنه أراد هلاك رعيته حيث أنزلهم منزلة أعدائه, مع أن اصطلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم: عليك بالحلم وبالحياء ... والرفق المذنب والإغضاء وإن لم تقل عثرة من يقال ... يوشك أن يصيبك الجهال فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده, وبنظير ما نواه لأضداده، فلو أنعم في إعطاء الحرية لأمة بهذه الصفة حرية, لما وقع في مثل هذه الحيرة، ونزل عن كرسيه في هذه المحنة الأخيرة, لا سيما وقد عهد للفرنساوية بصفة الحرية، وألفوها واعتادوا عليها, وصارت عندهم من الصفات النفسية. وما أحسن قول الشاعر: وللناس عادات وقد ألفوا به ... لها سنن يرعونها وفروض فمن لم يعاشروهم على العرف بينهم ... فذلك ثقيل عندهم وبغيض من كلامه في حب الوطن: "إن حب الوطن من الإيمان, ومن طبع الأحرار إحراز الحنين إلى الأوطان، ومولد الإنسان على الدوام محبوب, ومنشؤه مألوف له ومرغوب، ولأرضك حرمة وطنها, كما لوالدتك حق لبنها، والكريم لا يجفو أرضًا بها

قوابله, ولا ينسى داراً فيها قبائله، فإني وإن ألبستني المحروسة نعمًا, ورفعت لي بين أمثالي علمًا, وكانت أم الوطن العامِّ, وولية الآلاء والأنعام, وأحبها حبًّا جمًّا؛ لأنها ولية النعما. وقضيت فيها الأربعين مجاورًا ... كرام السجايا والبحور الطواميا فلا زلت أتشوق إلى وطني الخصوصي, وأتشوق وأتطلع إلى أخباره السارة وأتعرف، ولا أساوي "بطهطا" الخصبة سواها في القيام بالحقوق وإكرام مثواها. منازل لست أهوى غيرها سقيت ... حبًّا يعم وخُصَّتْ بالتحيات وأمنحها زمنًا بعد زمن الزيارة, وأجد فيها من هبات الحكومة بالعمارة, وأبذل في محبتها النفيس والنفس لتحصيل الأراضي للزرع والغرس، وأفتخر بها كما افتخر -عصام- بالنفس, وأنشد قول الحافظ كمال الدين الأدفوي: أحسن إلى أرض الصعيد وأهله ... ويزداد وجدي حين تبدو قباليا وتذكرها في ظلمة اليل مهجتي ... فتجري دموعًا إذ يزيد التهابيا ومما قاله في مقدمة "تليماك": أما بعد: فيقول المرتجى أن يكون لوطنه خير نافع, رفاعة بدوي رافع, ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس, قد تقلدت بعناية لحكومة المصرية الفائقة على سائر الأمصار, في عصر المحمدية العلوية السامي على سائر الأعصار, بوظيفة تربية التلاميذ مدةً مديدةً وسنين عديدةً, نظارةً وتعليمًا وترتيبًا وتنظيمًا, وتخرَّج من نارات تعليمي من المتفننين رجال لهم في مضمار السبق, وميدان المعارف وسيع مجال, وفي صناعة النثر والنظم أبهر بديهة, وأبهى روية, وأزهى ارتجال, وحماة صفوف لا يبارون في نضالٍ ولا سجال، وعرَّبت لتعليمهم من الفرنساوية والمؤلفات الجمة, وصححت لهم مترجمات الكتب المهمة من كل كتاب عظيم المناقع, وتوفق حسن تمثيلها في مطبعة الحكومة وطبعها, ومالت طباع الجميع إلى مطبوع ذوقها وطبعها، وسارت بها الركبان في سائر البلدان

وحدا بها الحادي في وادٍ, وقصدها القصاد كأنها حسان، وكان زمني إلى ذلك مصروفًا, ديدني بذلك معروفًا, مجاراةً لأمير الزمن -يريد محمد علي- على تحسين حال الوطن الذي حبه من شعب الإيمان, وفي مدة نحو ثلاثين لم يحصل لهمتي فتور ولا قصور. فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا نماذج من شعره: قال وهو في باريس يحن إلى مصر وأهلها: ناح الحمام على غصون البان ... فأباح شيمة مغرم ولهان ما خلته مذ صاح لا أنه ... أضحى فقيد أليفه ومعاني وكأنه يُلْقِي إليَّ إشارة ... كيف اصطباري مذ نأى خلَّاني مع أنني والله مذ فارقتهم ... ما طاب لي عيش وصفو زماني لكنني صب أصون تلهفي ... حتى كأني لست باللهفان وبباطن الأحشاء نار لو بدت ... جمراتها ما طاقها الثقلان أبكي دمًا من مهجاتي لفراقهم ... وأود أن لا تشعر العينان لي مذهب في عشقهم ورايته ... ومذاهب العشاق في إعلان ماذا عليّ إذا كتمت صبابتي ... حتى لو أن الموت في الكتمان وانتقل إلى التغني بمحاسن مصر فقال: هذا لعمري أن فيه سادة ... قد زينوا بالحسن والإحسان يأيها الخافي عليك فخارها ... فإليك أن الشاهد الحسنان

ولئن حلفت بأن مصر لجنة ... وقطوفها للفائزين دواني والنيل كوثرها الشهيّ شرابه ... لأبرّ كل البرّ في أيماني دار يحقُّ لها التفاخر سيما ... بعزيزها جدوى بني عثمان وقال يخاطب الجنود المصريين: يا أيها الجنود ... والقادة الأسود إن أمكم حسود ... يعود هامي الممدمع فكم لكم حورب ... بنصركم تؤوب لم تثنكم خطوب ... ولا اقتحام معمع وكم شهدتم الوغى ... وكم هزمتهم من بغى فمن تعدّى وطغى ... على حماكم يصرع وقد يمدح محمد عليًّا: ملأ الكون بشرًا عدله واعتداله ... وأغنى البرايا برّه ونواله حوى عزم كسرى في مهابة قيصر ... وما اسكندر في هزم "دارًا" مثاله متى قسته منهم بفرد ظلمته ... فقد زينت كل الملوك خلاله عظيم مقال ما كبا زند رأيه ... سني فعال لا تسامي فعاله يقول أناس طالع السعد حظه ... وما السعد إلّا عقلة وعقاله على الدهر نذر قد وفَّى فيه وعده ... ببحر خِضَمٍّ قد روتنا سجاله يفيض على العافي الجنوح فراته ... ويطفو على الجافي الجموع زلاله1

_ 1 العافي: الرائد, والوراد, والضعيف, وكل طالب فضل أورزق؛ كالمتعفي الجنوح الميال, ومن جنح بمعنى مال؟ والجافي: يقال: جفاني فلان, فعل بي ما ساءني, واستجفيته. وثوب جاف غليظ "أساس البلاغة". الجموح: جمح الفرس؛ كمنع جمحًا وجموحًا وجماحًا, اغتر فارسه وغلبه "قاموس", زلاله: الزلال ماء زلال صافٍ يزل في الحلق, ومنه: ذهب وفضة زلال, قال ذو الرمة:

مآثره بين الأنام مفاخر ... وآثاره لا تنتهي وكماله دهت كل ذي فهم عزائم حزمه ... وما فوقت إلّا أصابت نباله تراه دوامًا ظافرًا بعزيمة ... ويحنو على مَنْ كبلته حباله أما أنه مولى شمائله بما ... حنان لمن تجنى عليه شماله "لمصر" به شأن طريف زهت به ... وهزّ عنيف قد أظلت ظلاله ألَا أيها المرتاب في أن قطرنا ... يفوق على كل الرجال رجاله لها الآن في كل النواحي أدلة ... بها زال عن رب الجدال جداله أتاح لها الموالي مليكًا قد انتمى ... إليها ومن أقصى البلاد ارتحاله محمد أفعال على مكارم ... بديع صفات لا تعد فعاله وما مثلها مقدونيا إذ أتت به ... وقد كان فيها حمله وفصاله منازل منها "اسكندر" فاتح الورى ... وإن لم يكن عم الأمير فخاله

_ = كأن جلودهن مموهات ... على أبشارها ذهبا زلالا أساس البلاغة.

التحرير

التحرير الأزهر والتحرير ... التحرير 1: لما اتجهت رغبة محمد علي باشا إلى نقل العلوم الحديثة إلى العربية, كان أكثر الذين كُلِّفُوا القيام بهذا العبء ضعفاء على اللغة العربية, وأكثر علماء اللغة العربية يجهلون اللغات الأجنبية, فاحتاج محمد علي إلى مَنْ يحرر الكتب المنقولة, ويضع لها ما تتطلبه من المصطلحات العلمية, ويهيئها للطبع, والذي يسند إليه هذا العمل هو المحرر. ينتهي المترجم من نقل الكتاب الذي كُلِّفَ نقله من العلوم الحديثة إلى اللغة العربية, فيدفعه إلى المحرر فيقرأه, فإن كان المؤلف أو المترجم موجودًا قرآه المحرر بحضرته, وإلّا قام بدلًا منه عالِمٌ آخر له دراية باللغة الأصلية التي نُقِلَ الكتاب عنها, أو أُلِّفَ بها. وكان ما يراد نقله من الكتب الحديثة إلى العربية علميًّا فنيَّا مشتملًا على مصطلحاتٍ خاصَّةٍِ, ومن ثَمَّ دعت الحاجة إلى محررين يعرفون هذه المصطلحات, ويدركون مكانها في اللغة العربية, مع معرفة قواعدها وشواردها. الأزهر والتحرير: احتاجت الحكومة في صدر هذه النهضة إلى محررين يتقنون اللغة العربية, فلم تجد سوى الأزهريين المجودين اللغة, والواقفين على أسرارها, والقابضين

_ 1 التحرير: في الأصل معناه الإصلاح والتقويم, وفي "الأساس" حرر الكتاب: لفظ المحرر بمعنى حسنه وخلصه, بإقامة حروفه وإصلاح سقطه, ثم استعمل أكثر الكتاب الكاتب, فيقولون المحرر في صحيفة كذا, يريدون: الكاتب فيها, لما أنه يحرر المعاني والعبارات ويخلصهما من كل شائبة.

على ناصيتها, القادرين على البحث والتحقيق العلميّ, فعهدت إلى جمهرة منهم بهذا العمل الجليل, فحرروا الكتب المؤلفة أوالمترجمة في الطب والرياضة وغيرها من مختلف العلوم والفنون. وكثيرًا ما كان يقوم بهذا العمل رفاعة بك رافع, أو بعض تلامذة مدرسة الألسن الأزهريين, الذين قامت عليهم هذه المدرسة, فيكون المحرر على درايةٍ بمعاني الألفاظ في اللغة الأصلية, ويضع لها ما يلائمها من الألفاظ العربية. فإذا انتهى المحرر من ذلك "بَيَّضَ" الكتاب وأنهاه إلى المصحيين لقراءة المسودات وتنقيحها قبل طبعها. وكثيرًا ما كان يتولى العملين معًا -التحرير والتصحيح- بعض الأزهرين الذين لهم براعة في الإلمام باللغة العربية وأسرارها. ولا ينبغي أن نستهين بما لهؤلاء المحررين من نصيبٍ في هذه النهضة, فقد أظهروا هذه الثروة الضخمة الناشئة عن وضع مصطلحات عربيةٍ مناسبةٍ للمصطلحات الأجنبية, وزاد ذلك في ألفاظ اللغة العربية, وأعانها على تأدية رسالتها, وكثيرًا ما يتطلب هذا التحرير ممن يقومون به تقليبًا في كتب اللغة العربية ومراجعةً للكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار؛ لاستخراج المصطلحات العلمية, أو للاستعانة بها على صوغ ما تتأدى به مطالب العلم الحديث. إذًا لم ينهض القديم بأدائه حتى أصبح للطب في خمس سنين قاموس تزيد كلماته على ستة آلاف كلمة, وكم بذل علماء الأزهر في هذه السبيل من جهد, وكان لهم في النهوض بهذا العبء ما يذكرهم لهم بالحمد والتقدير, وسنتحدث عن أشهر المحررين من علماء الأزهر في صدر النهضة؛ لنرى إلى أيِّ حدٍّ كان جهدهم, وأثرهم, ولنقف على حياتهم.

محمد عمر التونسي

محمد عمر التونسي: المتوفى سنة "1374هـ-1857م" نشأته وحياته: هو محمد بن عمر بن سليمان التونسي, كان من المتفوقين المجدين في معرفة اللغات والمصطلحات العلمية, ولد سنة 1024 هـ بتونس, وكانت أمه مصرية, فحملت به في مصر, وكان أبوه عمر التونسي, طالبًا بالأزهر, وجده سليمان من أشراف تونس، وقد فَصَّلَ محمد التونسي تاريخ أسرته في رحلته التي سنتحدث عنها, وكيف أنه رحل إلى السودان, ورجع منها رقيق الحال, ضيق اليد, فعكف على تحصيل العلم, وكان محمد علي قد مَدَّ يده لإنهاض البلاد وإحياء آدابها, مُعوّلًا على الشباب الناهض فيها, فوجد التونسي الفرصة سانحةً لتقدير مواهبه, وظهور فضله, فأخذ في الجد في الأزهر, وتهيأ له أن يكون واعظًا في جيش إبراهيم باشا في أثناء حملته إلى بلاد العمورة. ولما عاد من حملته كانت مدرسة أبي زعبل قد أنشئت, وأخذ النقلة في نقل كتب الطب وغيرها, فعُيِّنَ مصححًا للكتب بها, وأعجب به الدكتور "برون" وارتاح إلى أدبه, فقرأ عليه كتاب "كليلة ودمنة" ولمع نجمه في التحرير والتصحيح, وامتاز من بين زملائه بمعرفة المصطلحات العلمية بالعربية، فكانوا يرجعون إليه في تحقيقها, ويطلقون عليه: "مصحح كتب الطب ومحررها". وكانوا إذا أرادوا أن ينقلوا كتابًا في أوائل إنشاء مدرسة الطب وجدوا مشقةً في إيجاد الألفاظ العربية الملائمة للألفاظ الفرنجية في الكتب المترجمة, فيضطرون إلى الرجوع إليه في تحرير الكتب. على أنه كان بارعًا في صياغة الألفاظ والمعاني في قالبها العربيّ, ومن ثَمَّ كان تعويلهم عليه؛ كما فعلوا في تنقيح كتاب "الدرر الغوال في علما أمراض الأطفال" الذي ألَّفَه كلوت بك, فقد نقله الدكتور محمد شافعي بك من الفرنسية إلى العربية, ثم عرضه قبل طبعه على التونسي فحرره ونقحه. وكذلك فعل في كتاب "كنوز الصحة" لكلوت بك, و"الجواهر السنية في الكمياء" لبرون بك, وقد بذل التونسي في تحرير هذه الكتب, والبحث عن المصطلحات العربية, جهودًا جبارةً, كما حرر كتاب "النبات" "لفييجري بك, وترك آثارًا قيمة, ومآثر جليلةً دالةً على فضلة, نعرض أهمها:

1- النذور الذهبية في الألفاظ الطبية: وهو معجمٌ للمصطلحات العلمية على اختلاف موضوعاتها, ويقول في مقدمته: لما كثرت ترجمة الكتب الطبية, رأيت أن أؤلف قاموسًا جامعًا للمصطلحات, وكان كلوت بك, قد أتى بكتابٍ فرنساويٍّ في المصطلحات الطبية والعلمية, وأوعز إلى مهرة المعلمين بترجمته، وهم: إبراهيم النبراوي, معلم الجراحة الكبرى, ومحمد علي البقلي, معلم الجراحة الصغرى, ومحمد الشافعيّ, معلم الأمراض الباطنية, ومحمد الشباسي, معلم التشريح الخاصِّ, وعيسوي النحراوي, معلم التشريح العام, والسيد أحمد الرشيدي, معلم الأقرباذين والمادة الطبية, ومصطفى السبكي, معلم أمراض العين, وحسين على, معلم النبات, فترجم كل منهم الجزء الذي أعطيه, فأوعز إلى الدكتور "برون" ناظر المدرسة, أن آخذ من الكتاب كل لفظٍ يدل على مرض, أو عرض, أو نابت, أو معدن, أو حيوان, أو غير ذلك من الاصطلاحات, وأن أستخرج ما في القواميس من التعاريف, وما في تذكرة داود, وما في فقه اللغة, وغيره من المعاجم وكتب اللغة، ففعلت ذلك, وأضفت إليه أسماء العقاقير, وأسماء الأطباء المشهورين, ورتبته على حروف المعجم. فكتابه هذا معجم للمصطلحات الطبية والأطباء، وقد أسند لكل مؤلف ما أخذه منه, فجاء كتابًا قيمًا وافيًا مستغرقًا ستمائة صفحة من الحجم المتوسط, وهذا المعجم من أنفس الذخائر التي تريك مبلغ ما توفر عليه التونسي من بحث وجهد وتنقيب, وحسبه دلالةً على فضله, وما اضطلع به في خدمة النهضة الحديثة التي اتكأت عليه, وعلى أمثاله من نابغي الأزهر, فشقت بهم طريقًا إلى الحياة. وقد حمل هذا الكتاب إلى باريس، وفي المكتبة الخديوية نسخةً منقولةً منه, مصورة من نسخة باريس, وآثرت وزارة المعارف طبعه في جملة الكتب التي أرادت بطبعها إحياء اللغة العربية وآدابها. 2- تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان: وهي رحلةٌ يصف فيها سفره إلى السودان, وما شاهده في طريقه من

واحات مصر، وقد طُبِعَت هذه الرحلة سنة "1851م" في باريس, مع ترجمة فرنسية وعلق عليها "سديليو" بمقالة في المجلة الأسيوية, وفي الخطط التوفيقية قطعة منها في وصف الواحات, نقتطف منها طرفًا لنقف على أسلوبه, قال: "ثم جيء بالمطيّ فحملتنا وخرجنا في مهمة حتى وصلنا إلى الخارجة في عشية اليوم الخامس, فوجدناها قد دار بها النخيل دورة الخلخال بالساق, والتفاف يد العاشق على معطاف المشعوق للعناق, وفيها من الثمر ما تشتيه الأنفس وتلذ الأعين, مع رخص الأسعار وحسن تلك الثمار.... ثم سافرنا يومين ونزلنا في ثالثهما بلدًا يقال له: "بولاق" هو من الساكن في أملاق, قد درست معالم أكثرها, وتصدع بناء أقومها وأشهرها, ومن العجائب أن نخلها في غاية القصر, وهو حامل للثمر, لا يتكلف جانيه للقيام, بل يتناول منه وهو في حالة النيام, وليس به من الشجر إلّا ما قلّ, وهو بعض أثلٍ وعبل2. ومما يذكر التونسي في رحلة أنه قد ورد على أبيه بمصر من أخيه لابيه, بسنار خاطب يفيد أن والده توفي وترك طائفة من الكتب سُرِقَت, وبقي بعد مدة في عسر وضيق يد, ثم يقول التونسي: "وتركني ابن سبع قد ختمت القرآن أول مرة, ووصلت في العود إلى آخر آل عمران، وكان لي أخٌ ابن أربع سنين, وترك لنا نفقة ستة أشهر, فمكثنا سنةً باعت والدتي فيها أشياء كثيرة من نحاس وحليّ, ثم يقول: وبينما أنا متحيِّرٌ في طلب المعاش؛ إذ بلغني أن قافلةً وردت من دارفور, وكان قد بلغنا قبل ذلك أن والدي توجه من سنار إليها في صحبة أخيه، فتوجهت إليها لأسأل عن أبي, فلقيت رجلًا من أهل القافلة, مُسِنًّا ذا هيبة ووقار, يسمى: "السيد أحمد البدوي" فقبلت يده, ووقفت أمامه، فقال لي: ما تريد؟ فقلت أسأل عن غائب

_ 1 - الأثل: شجر واحدته أثلة, جمعه أثلاث وأثول. العبل: محركة الطرفاء وشبهه.

لي في بلدكم, لعلكم تعرفونه, فقال: من هو؟ قلت: السيد عمر التونسي, من أهل العلم, فقال: "على الخبير به سقطت" وهو صاحبي, وأنا أعرف الناس به, وأرى بك شبهًا به, فكن ابنه, فقلت: أنا هو, على تغيير حالي وتبليل بالي, فقال: يا بُنيّ, ما يقعدك عن اللحاق بأبيك لترى عنده ما يهنيك؟ فقلت: قلة ذات يدي، فقال: إن أباك من أعظم الناس عند السلطان وأكرمهم عليه, وإن أردت التوجه إليه, فأنا على مؤنتك ومركوبك وراحلتك حتى تصل إليه1". والتونسي أديبٌ, أقبل على التزود من الشعر والأدب العربيّ في صباه, وكانت همته مصروفةً إلى تحصيل العلوم, وجمع المنثور والمنظوم, إلّا أن أدبه في مرتبة وسطى, لا يبلغ درجة الإجادة, ولا يهبط إلى مستوى الغثاثة.

_ 1 الخطط التوفيقة ج17 ص33، 34، 36، 37.

محمد عمران الهراوي

محمد عمران الهراوي: يقول جورجي زيدان في الحديث عنه: "هوأقدم محرري النهضة في هذه النهضة, لم نقف له على أخبار كثيرةٍ من حيث أصله وترجمة حاله, لكنه طبعًا من تلاميذ الأزهر؛ لأنهم أوثق الثقات في علوم تلك الأيام, وخصوصًا اللغة1". وعلى الرغم أن حديث جورجي زيدان عنه من حيث نسبته إلى الأزهر, كان مبنيًّا على الاستنباط, غير معتمد على حجة قاطعة بنسبة إلى الأزهر, إننا نذهب مذهبه, ونسلكه فيمن نهض بالتحرير من أبناء الأزهر في صدر النهضة، فلم يكن سواهم في هذه الفترة على تمكن من اللغة وعلومها وإلمام بشواردها ودقائقها. ويذكر عبد الرحمن الرافعي بك "أن محمد علي" اختار طائفة من

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية ج4، ص 205.

المحررين من علماء الأزهر, وأن ممن مهر من هؤلاء التونسي, ومحمد عمران الهراوي1. ومما يذكر له بالفضل أنه هو الذي وضع نواة التحرير في النهضة الحديثة, فقد حَرَّرَ أول كتاب مترجم في الطب, في صدر هذه النهضة, وهو كتاب "القول الصريح في علم التشريح" الذي ألفه "كلوت بك"، وترجمه "يوحنا عنحوري" وقد طبع هذا الكتاب سنة 1248هـ. كما حَرّرَ كتاب "العجالة الطبية فيما لابد منه لحكماء الجهادية" ألفه: "كلوت بك" وترجمه "أوغسطين سكاكيني" وطبع في مطبعة أبي زعبل سنة 1248هـ, وهو الكتاب الثاني من مطبوعاتها, على أن "الهواري" حرر كثيرًا مما ترجمه "يوحنا عنحوري" والمدرسة لا تزال في أبي زعبل, وقد ظلَّ في عمله حتى بعد انتقالها إلى القصر العيني. الأزهر والتصحيح: لما أنشأ محمد على المدارس التي تدرس بها العلوم الحديثة؛ كمدارس الطب, والهندسة, والألسن, والزراعة, كانت اللغة الأجنبية لغة الدارسة, وكان يقوم على ترجمتها للتلامذة فريق ممن يجيدون الترجمة بهذه المدارس، وبقلم الترجمة الخاص بذلك, ثم تُعَرَّبُ هذه الدروس, ويتولى المحررون وضع مصطلحاتها بعد البحث عنها في معاجم اللغة, ثم تنتهي إلى المصححين الذين يقومون على إصلاح هذه الدروس المعربة وتنقيها من الخطأ من الوجهة اللغوية والبيانية. ولم يجد محمد علي إلّا أزهريين يقومون بهذا العمل الجليل الذي كان له أثر عظيم في نشر الكتب القيمة المحدثة, وإخراجها صحيحة بعد الاعتلال, مستقمية بعد اعوجاج، ولولا العناية التي بذلها المصححون, والجهد الذي تفرغوا له, لبقيت هذه الكتب يتداول الناس أخطاءها, ويتناقلون فسادها, ولكنهم أذهبوا في تهذيبها سواد العيون, فخرجت في ثوبٍ قشيبٍ, وسَهُلَ الانتفاع بما فيها من كنوز.

_ 1 عصر محمد علي ص835.

وكان من أهم أسباب النهضة الأدبية في هذا العصر, التوفر على طبع الكتب الأدبية القديمة الحافلة بالأدب الحيّ, والعلم الدقيق, مما هو نتائج عقول الأدباء والعلماء، وقد عُهِدَ إلى علماء الأزهر بتصحيح طائفةٍ ضخمة من هذه الثقافات؛ من أدب وتاريخ وفقه وتفسير, وغير ذلك مما هو من أمهات الأصول من كل فَنٍّ, فجهدوا في تصحيحها من كل خطأ يقعون عليه, وأخطاء هذه الكتب كثيرة شاقة, تحتاج في معالجتها إلى العلم الدقيق, وسعة الدارية, وطول المثابرة, فكم عثر هؤلاء المصححون على تقديم في هذه الكتب وتأخير فيها, وكم ارتطموا بحذفٍ يَخِلُّ بالمعنى, ويتعسر به فهمه, هذا إلى ما ينتج عن جهل النساخ حينًا, وخطأ الطبع حينًا آخر. والتصحيح فَنٌّ دقيقٌ ينبني عليه إخراج الكتب والمؤلفات صحيحة خالية من الأغلاط المطبعية التي تشوبها, ولعلك تلاحظ في الكتب التي كانت تطبع في ذلك العصرخلوها من الأغلاط, وهذا راجع إلى حسن اختيار المصححين في مطبعة بولاق1. والحق أن هؤلاء العلماء كانوا يمتازون في عصرهم بثقافةٍ أوسع من ثقافة أمثالهم, واقتضاهم عملهم أن يطلعوا على كثير من الكتب؛ في التاريخ, والأدب, واللغة, والفلسفة, وغير ذلك, فاتسعت مداركهم وآفاقهم, واضطرهم علمهم أن يكتبوا خاتمة الكتب, أو شرحًا للغامض, أو ينشئوا تقريظًا لكتاب, أو تعليقًا عليه, أو قصيدة في مثل هذه الأغراض, فجرت أقلامهم في زمانٍ عَزَّ فيه الأديب, وندر فيه الكاتب, وإن كان إنشاؤهم وكتابتهم مقيدة بنمط العصر من التزام السجع المتكلف, والاستعارة المشدودة, وما إلى ذلك2. وكثيرًا ما يكتب هؤلاء المصححون في خاتمة الكتب التي يتولون تصححيها ترجمةً وافيةً عن مؤلف الكتاب, تبين طرفًا من حياته ونشأته وآثاره العملية والأدبية, وفي ذلك نفعٌ كبير.

_ 1 تاريخ الحركة القومية, لعبد الرحمن الرافعي بك ج3 ص537. 2 الأستاذ أحمد أمين بك, في الثقافة العدد 126.

ولعل مما يفاخر به الأزهر, أن كان المصححون الأزهريون أول من عقد الصلة بين لغة العرب القديمة وعلم الغرب الحديث, وخُلّدَ اسم كثير منهم في تاريخ النهضة العلمية1 وسنذكر طائفة من أشهر مصححي هذه الثقافة من رجال الأزهر.

_ 1 تاريخ التعليم في عهد محمد علي, للأستاذ أحمد عزت عبد الكريم ص587.

الشيخ محمد قطه العدوي

الشيخ محمد قطة العدوي: المتوفى سنة "1280هـ-1861م": هو محمد قطة بن الشيخ: عبد الرحمن العدوي, نسبة إلى بني عديّ, مركز منفلوط, تعلَّمَ في الأزهر, وامتلأ من علمه, وجَدَّ في تحصيله حتى نال شهادة العالمية, فأُذِنَ له بالتدريس في الأزهر، كان ذا شهرة بالعلم, والاقتدار في علوم اللغة العربية, مولعًا بالأدب العربيّ وفنونه، وله أسلوب رصين, وإن كان مجاريًا به أدب العصر في السجع والصنعة، وله شعر في المرتبة الوسطى, كان مالكيَّ المذهب, يقبل على درسه كثير من الأزهريين؛ لتمكنه من علمه وغزاره مادته. جلس يدرس لتلامذته "حاشية الجمل" في التفسير على كتاب الجلالين, فتعقب الجمل فيما كتبه وتتبعه بالنقض والمؤاخذة، فلما نمى الخبر إلى الجمل, وفد إلى درسه, واستمع لما يوجهه من النقد لحاشيته, فدرات بينهما مجادلة علمية، حمي وطيسها, وكانت لقطة الغلب فيها، وإذ ذاك ابتهج المالكية بانتصار قطة, وعيّروا الشافعية بانهزام الشيخ الجمل, وأصبحوا يفاخرونهم بقولهم الذي تناقتله الشفاة: "قطنا غلب جملكم" ثم عُيِّنَ مصححًا لصحيفة "الوقائع المصرية" مدةً من الزمان. كما اختير مصححًا للكتب بمطبعة بولاق, فصحح طائفةً من الكتب القيمة في مختلف العلوم, بذل فيها أعظم الجهود لتنقيتها من الخطأ وإكمال

ما حذف منها, وما قُدِّمَ, أو أُخِّرَ فيها. وكانت كتبه المصصحة موضع ثقة العلماء؛ لاشتهاره بالتحري في التصحيح والتدقيق في الناحية اللغوية, وتوفره على استقامة المعاني؛ فإذا وجد قلقًا في العبارة عَلّقَ عليها, وبدل ضعف العبارة قوةً, وسقم التركيب صحةً, حتى يدع الكتاب في حُلَّةٍ بهيجةٍ من الصحة والكمال, لا أثر فيها لجهل النساخ وعبث الأيدي. كان يكتب خواتيم الكتب, ويترجم للمؤلف غالبًا, ويكتب في الخاتمة تقريظًا بأسلوبٍ مسجوعٍ على طريقة عصره, وشيئًا من شعره المتواضع، ومن ذلك عمله في "حاشية الصبان" التي تولّى تصحيحها, فقد كتب في آخرها كلمةً قرظ فيها الكتابَ فقال: "وبالجملة, فهي كتاب لا تحصى فوائده, ولا تحصر عوائده، وذلك غنيٌّ عن البيان, فاض به العيان, كما أشرت إلى ذلك بقولي مؤرخًا عام الطبع, ملوحًا لبعض ما فيه من المزايا والنفع, وإن لم أكن من فرسان هذه الحلبة, ولا أذن معهم مثقال حبة". كتاب نفعه جم جزيل ... وليس كمثله إلّا القليل فكم حيران صار به هداء ... فأرشده وبان له السبيل وكم من علة لما حباها ... فرات زلاله شفي العليل وكم أروت موارده عطاشًا ... وكانوا بالأوار لهم غليل وكم من بحره خرجت لآل ... وذاك البحر عذب سلسبيل وكم عرس لخاطبها جلاها ... وكان عليه يمتنع الوصول ومما صححه العدوي كتاب "معاهد التنصيص شرح شواهد التلخيص" وقد انتهى منه في أواخر صفر سنة 1274هـ, ومما كتبه في آخره يقول: "المتوسل إلى ربه بالجاه النبويّ, الفقير إلى الله تعالى محمد قطعة العدويّ, مصحح الكتب والوقائع العربية بدار الطباعة المصرية, خصّه الله تعالى بالطاعة وأيده

بعنايته وإسعافه ... إلى أن يقول: وما أن تم طبعه في الأيام السعيدية, التي هي في جبهة الدهر غرة بهية, واتضحت مناهجه للسالك, قلت مؤرخًا ذلك. بشرى فقد بلغ الفؤاد مناه ... والدهر وافى بالذي أهواه وغدت أفانين الفنون بمصرنا ... تزهو وروض العلم طاب جناه وكواكب العرفان بعد أفولها ... في أفقها طلعت وغاب دجاه إلى أن يقول: حيث انتمت لعلا الخديو محمد ... أعني السعيد الفرد عم نداه صدرت أوامره الكريمة تمثّـ ... ـل كتبه طبعًا سما مرآه فاختير منها جملة كل حوى ... ما فيه للندب الأديب غناه منها كتاب معاهد التنصيص شر ... ح شواهد التخليص ما أوفاه لما تكامل طبعه في عهد من ... نشر المعارف طبعه وهواه ومما صححه أيضًا كتاب "كلية ودمنة" الذي وضعه الفيلسوف "بيدبا" ونقله إلى العربية عبد الله بن المقفع, كما صحح كتاب "تنقيح الفتاوى الحامدية" لابن عابدين, وفي ذيل الجزء الأول منه ما نصه: "وقد انتهى طبعه بدار الطباعة العامرة البهية, الكائنة ببولاق مصر القاهرة المعزية, على يد مصححها المستعين بربه القويّ, عبده الضعيف محمد قطة العدويّ, في منتصف جمادى الثانية سنة ثلاثة وسبعين ومائتين وألف. كما صحح كتاب "ألف ليلية وليلة" وانتهى من تصحيحه سنة تسع وسبعين ومائتين وألف من الهجرة. وصحح كتاب "حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح في فقه الحنفية"، وانتهى

من تصحيحه في أواخر جمادى الآخرة, سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، وهو أول كتاب طُبِعَ في مطبعة بولاق, بعد أن صارت ملكًا لعبد الرحمن بك رشدي؛ إذ مَلَّكَها له الخديو محمد سعيد باشا, ويدل على ذلك أن عبد الرحمن رشدي كتب في آخر هذه الحاشية يقول: "أفقر عباد الله, وأحقر عبيد مولاه, المعترف بالعجز عن شكر ما إليه سيده, يسيد عبد الرحمن بك رشدي, صاحب دار الطباعة المذكورة, وبعد كلام مخاطبًا هذا الكتاب: "إني قد اتخذتك فألًا ميمون الطائر, وبشرى هي عندي من أعظم البشائر, بما سأحوزه مما يتولى بعدك من أمثالك, وينتشر أثرك من نظرائك وأشكالك, من الكتب النافعة التي لا تزال شمسها بالطبع طالعة". وممَّا صححه أيضًا كتاب "حاشية الصبان على الأشموني" في النحو, وانتهى من تصحيحه في آخر رجب سنة ستة وثمانين ومائتين وألف, وجاء في الخطبة المذكورة في آخر هذه الحاشية قوله: "ويقول الفقير إلى رحمة المنان, محمد قطة ابن المحروم الشيخ عبد الرحمن". وكان آخر ما صححه من الكتب, كتاب "الكشاف" للزمخشري؛ إذ توفي في أثناء تصحيحه, فأتمه الشيخ محمد الصباغ, في جمادى سنة 1281هـ, وجاء في خاتمة الكتاب ما يدل على ذلك؛ إذ يقول الشيخ الصباغ: "ثم أن تهذيبه وتصحيحه وترصيع جوهره وتنقيحه البعض, بمعرفته خاتمة المحققين, وسيد المدققين, الشيخ محمد قطعة العدويّ -فسح الله تعالى له في قبره, ورزقه في الجنان أكبر مزيد من خيره, والبعض الآخر بمعرفة الفقير إلى الله سبحانه, محمد الصباغ -أسبغ الله عليه نعمه أتم إسباغ, وفاح مسك ختامه- وتَمَّ سلك نظامه أواخر جمادى الثانية من العام المشار إليه في الأبيات الماضية "1281هـ" من هجرة سيد الكائنات -عليه أزكى صلوات, وأبهى تحيات, ما هبت نسمات, وهدأت حركات". وللعدويّ غير ذلك كثير من الكتب التي قام عليها بالتصحيح الدقيق؛ فنقَّحَ لغتها, وأصلح خطأها وشفَّعَهَا بما هو كبير النفع من ترجمةٍ أو تقريظٍ.

الشيخ أبو الوفا نصر الهوريني

الشيخ أبو الوفا نصر الهوريني: المتوفى سنة "1290هـ-1874م" نشأ ببلدة هورين, من أعمال مركز السنطة, بمديرية الغربية, وتلقى العلم في الأزهر بجد ومثابرة وتوفر على العلوم العربية, حتى كان علمًا من أعلام الأزهر النابغين, الذين لهم شهرة بالتضلع في علوم اللغة العربية وتمكن فيها ودراية بأسرارها ودقائقها، ثم تولَّى التدريس في الأزهر، وكان قلم الترجمة الذي يقوم عليه رفاعة رافع بمدرسة الألسن, يخرج كتبًا مترجمةً تحتاج إلى تصحيح وتذهيب, فعُيِّنَ مصححًا به، ثم اختارها -المغفور له- محمد علي باشا, ليكن إمامًا للبعث الذي أرسل فيه أنجاله إلى فرنسا, سنة 1260هـ-1844م, وعهد إليه بتعليم هذا البعث, والرقابة على أعضائه, ومع أنه لم يكن من تلاميذ هذا البعث, ولم يوفد للتعلم بين أعضائه, بذل جهدًا جاهدًا في تعلم اللغة الفرنسية حتى أجادها, وأحسن التحدث والقراءة بها1. ولما عاد من فرنسا, رجع إلى التدريس بالأزهر, ثم ألحق بالمطبعة الأميرية, فكان أشهر مصححيها وأكفأهم, وعُهِدَ إليه بتصحيح الكتب التي كانت تؤلَّف, أو تُتَرجَم بمدرسة الزراعة أيضًا. آثاره ومؤلفاته: بذل الهوريني مجهودًا شاقًّا في تصحيح الكتب المترجمة والمؤلفة, ولقي عناءً شديدًا في سبيل تخليص هذه الكتب من الأخطاء, وما وقع فيها من تحريفٍ, أو تصحيفٍ, أو تقدمٍ, أو تأخيرٍ, عدا ما كان يكتبه في كثير من

_ 1- نقل ذلك الأمير عمر طوسون في كتاب العبثات العلمية عن حفيد الهوريني عباس عمر طوسون.

الكتب من مقدمة الكتاب, أو ترجمة للمؤلف, جليلة النفع, عظمية الفائدة. فمن جهده في ذلك شرحه "ديباجة القاموس" بَيِّنَ فيه مصطلحات القاموس, وشرح خطبة الفيوزبادي, وترجم فيها لعلماء اللغة المتقدمين على صاحب القاموس؛ من أمثال الجوهريّ, وأبي زيد, والمعاصرين له, وأحصى مواد "اللسان", و"الصحاح", و"القاموس". وكتب مقدمةً للصحاح, اشتملت على تاريخ تصنيف المعاجم, وعلى ميزة "الصحاح" وعلى ضبط اسم المعجم "الصحاح" بكسر الصاد أو فتحها, وعلى من كتب عليه حواشي, أو نقدًا, أو ترجمة, إلى لغة أخرى, أو اختصره, وعلى قواعد المؤلف في الكتاب, وبضبط الفصول الساقطة من كل باب, وصنع لذلك جدولًا, ثم هو بعد ذلك يكتب على النسخة المطبوعة: يضبط فيها كلمة أهمل الجوهريّ, ضبطها, أو ينبه على سهوٍ وقع فيه, أو تقصير في الشرح, وقَلَّمَا خلت صفحة من الكتاب من شيء من ذلك, غير أنه لم يُتِمّ إلّا الجزء الأول, وقام بتصحيح الجزء الثاني الشيخ: محمد الصباغ. وصحح الجزء الاول من "المزهر" لجلال الدين السيوطي, ماعدا الخمس والخمسين صفحة الأولى, فإنها من تصحيح غيره, وصحَّحَ في الجزء الثاني, من الصفحة الحادية والأربعين إلى آخره, ويقول ما نصه: "هذه تصحيحات الجزء الثاني من "المزهر" الذي أوله "النوع الأربعون: الأشباه والنظائر" وكان أول تصحيحي فيه من صحفة 41, ولما تصفحته من أوله إلى آخره بالمقابلة على النسخ التي كانت مجلوبة للتصحيح, وجدت فيها نوعًا تخالف في بعض مواضع, وتواطؤ على تحريف في بعض آخر, ورأيت في أبنية الأسماء بعض أمثلة لا وجود لها في "القاموس" ولا "الصحاح", فأحضرت شرح أبي حيان على التسهيل, من فن التصريف, فوجدت الجلال حذا حذوه في الأبنية المذكورة, إلّا أنه حذف الكثير من تعداده للأمثلة, وحذف ما بَيَّنَه أبو حيان

من معانيها, فاعتمدته في استخراج الصواب منه, وهو مرادي بالرمز الآتي: بحرف الشين, كما رمزت إلى القاموس بالقاف، واقتصرت على ذكر الصواب في هذا الجدول, رامزًا لعدد الصفحة أو السطور بالرقم الهندي، وللسطر بحرف السين بعد عدد الصفحة, وكذا كل عدد ذكرته مجردًا عن السين فهو للسطر من الصفحة المتقدم عددها أول السطر, ربما ذكرت كلمة الخطأ المطبوعة مسبوقة بالنفي؛ ليعتمد من يريد التصحيح بنسخته, على ما ذكره الفقير نصر الهوريني -عفا الله عنه. ولعل ما يدل على دقة التصحيح, وما يلاقيه المصححون من عناءٍ, ما صادف الهوريني في تصحيح هذا الكتاب؛ إذ فطن لخطأٍ دقيقٍ لا يهتدي إليه إلّا ذوو البصر بأسرار اللغة الواسعة الاطلاع, والثقافة العربية. وتفصيل ذلك أنه جاء في ترجمة تمام بن غالب التياني الأندلسيّ اللغويّ, أنه ألَّفَ كتابًا اسمه "الموعب "بفتح العين" فوردت في بعض الكتب مثل "وفيات الأعيان" و"المزهر" بسقوط لفظ "الموعب" فظنها بعضهم "تنقيح العين" إشارةً إلى كتاب الخليل في اللغة, ولكن تمامًا ليس له مؤلف بهذا الاسم, وكتابه في اللغة يدعى "الموعب" -بفتح العين, وهكذا كانت العبارة في الأصل, فسقطت من الناسخ كلمة الموعب, فالتبس الأمر على بعض المصححين, وظن أن اسم الكتاب "تنقيح العين". وقد فطن أبو الوفا الهوريني لذلك في تقديمه للمزهر, فقال في ص44 س24: الذي سماه "الموعب" -بفتح العين- لفظ الموعب سقطت من خط المؤلف, كما يدل عليه كلامه بعد, ثم نبه لمن دفع في هذا الخطأ كابن خلكان وغيره. ومماصححه الجزء الثاني من "الفتاوى الحامدية" لابن عابدين في الفقه, وديوان ابن هانئ الأندلسيّ, وأتم تصحيحه ببولاق في آخر جمادى الأولى سنة 1274هـ.

وصحَّحَ "مقدمة ابن خلدون" وله عليها هوامش في تفسير بعض الكلمات, كما صحح الجزء الثاني من كتاب "تاريخ ابن خلدون" وانتهى من تصحيحه في ذي الحجة, سنة أربع وثمانين وألف من الهجرة, ويقول في ختامه: يقول مصححها الفقير: "كان معتمدي في تصحيحها على مراجعة "شرح المواهب اللدنية" فيما يتعلق بسيرة إمام المرسلين, وعلى "تاريخ ابن كثير" وابن الأثير, فيما يتعلق بالخلفاء الراشدين, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, والصلاة والسلام على خير المخلوقات, وآله. ومن مؤلفاته: رسالة قيمةٌ في قواعد رسم الحروف, سماها: "المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية" رتبها على مقدمة في معنى الكتابة في اللغة, حقيقةً ومجازًا، وعرفًا واصطلاحًا, وفي أصول الكتابات؛ من صينيةٍ, وروميةٍ, وحميريةٍ, وغيرها, وفي أولية الكتابة العربية، وعلى مقصدٍ في بيان ما يفصل ويوصل, وابتناء الكتابة على تقدير الوقف والابتداء, والحروف التي يختلف رسمها بحسب الإبدال؛ وهي: الهمزة, وأحرف العلة, وفي الألفاظ المتطرفة, وغير ذلك من المباحث التفصيلية, واشتملت أيضًا على خاتمة في الشكل والنقط وتاريخهما, وقد طُبِعَت هذه الرسالة مرارًا, وصححها الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري, وله كتاب: "تسلية المصاب على فراق الأحباب" ومنه نسخة محفوظة في المكتبة الخديوية.

الشيخ إبراهيم الدسوقي

الشيخ إبراهيم الدسوقي: المتوفى سنة 1300هـ 1883م" هو السيد إبراهيم الدسوقي, الشهير بعبد الغفار, من نسل موسى الدسوقي, أخي سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق, من أسرة تنتمي إلى الحسين بن عليّ أبي طالب -رضي الله عنهم. ولد ببلدة دسوق سنة 1226هـ-1811م, ومات والده وهو صغير, فحفظ القرآن ببلده، وكان بها معهد ديني صغير, يعتبر صورةً مصغرةً من الأزهر, فتلقى بعض دروسه فيه, ثم قدم إلى الأزهر, فحضر دروسه على كثير من الأساتذة الأعلام, أمثال الشيخ: أحمد المرصفي, والشيخ: محمد عليش, شيخ المالكية, كما تلقى العلم عن علماء بلده, أمثال الشيخ: محمد عرفة الدسوقي, والشيخ: مصطفى البولاقي, وقد أفاد من هؤلاء المعقول والمنقول، ولكنه كان أكثر تأثرًا بالشيخين: مصطفى البولاقي, وأحمد المرصفي, أما الأول: فقد أخلص له؛ لأنه من بلده, وله به صلة قرابة، وقد كان على رغم تبحره في العلوم الأزهرية, ميّالًا إلى العلوم الرياضية؛ كالحساب, والهندسة, والفلك، وأدَّاه شغفه بهذه العلوم إلى مصادقة مشهوري الرياضيين؛ كمحمود باشا الفلكي, وأساتذة مدرسة المهندسخانة، وبرع في هذه العلوم حتى ألَّفَ رسائل في الجبر والمقابلة وحساب المثلثات. وأما الشيخ أحمد المرصفي: فقد كان ذا نزعةٍ أدبية ٍإلى جانب نزعته الفقهية, واسع الاطلاع, عذب الحديث, صحب أحد المماليك, وسافر معه إلى الصعيد مدة عامين, وقد اقتبس الدسوقي من شيخه هذا توجيهًا أدبيًا, أجدى عليه في مستقبل حياته. ظل الدسوقي يطلب العلم في الأزهر حتى تأهل للتديس فيه، وكان له اعتناء زائد بفن الأدب وقرض الشعر1, وكان رقيق الحال بائسًا, لم يرفه عنه التدريس, ولم يبدد من بؤس وشظف عيشه, ثم أسعده الحظ فعُيِّنَ مساعد مصحح للكتب الطبية بمدرسة أبي زعبل سنة 1248 هـ-1832م, مع الشيخ: محمد عمران الهواوي, فكان أطباء هذه المدرسة يؤلفون ويترجمون ويطبعون, ويساعد هو في تصحيح اللغة وتصحيح الطبع.

_ 1 الخطط التوفيقية ج11 ص9.

ثم نقل إلى مدرسة المهندسخانة, فأصبح رئيس المصححين بها, وكانت تدرس بهذه المدرسة علوم الكيمياء والجبر والحساب والطبيعة والمعادن والهندسة والظل والنظر, وغير ذلك, ولم تكن هنالك كتب في هذه المواد, بل كان التلامذة يكتبون ما يسمعون من المدرسين في كراساتهم, وتفوتهم أشياء كثيرة في تدوينهم، ثم تقدمت المدرسة فأنشئت مطبعة حجر, يطبع بها الأساتذة بعض كتبهم بأشكالها ورسومها، ثم أنشئت في المدرسة مطبعة حروف بجانب الأولى, وكان الدسوقي يقوم على تصحيح هذه الكتب جميعًا, وانتقلت هذه المدرسة إلى بولاق, فكُلِّفَ أمرين: أحدها: أن يعلم فرقة من تلامذتها علم العربية, وكيفية توفية الترجمة حقها عند النقل من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. ولما ألغيت هذه المدرسة في عهد سعيد باشا, انتخب للتصحيح بالمطبعة الكبرى, فصحح جملةً من كتب الطب والكيمياء وغيرها, وكان مع ذلك يعمل في تحرير صحيفة "الوقائع المصرية", ثم صدر أمر الخديوي إسماعيل باشا بجعله رئيس المصححين لجميع الكتب التي تطبع بهذه المطبعة, على اختلاف فنونها, فأظهر براعةً ودقةً, وأدى عمله على أكمل وجه وأحسنه, ثم فصل منها, ورُتِّبَ له معاش إلى أن استأثر الله به. صلته بالمسترلين: حكى عن نفسه مقالةً فيما اتفق له مع بعض الأدباء الإنكليز, تدل على براعته في الأدب, وتمكنه من لسان العرب2 ثم ساق هذه القصة الممتعة الطريفة, وخلاصتها: أنه كان بانجلترا مستشرق إنجليزيّ يدعى "لين" تعلم في بلده, ثم

_ 1 الخطط التوفيقية ج11 ص10. 2 الخطط التوفيقية ج11 ص10.

تخصص في الاستشراق, وجد في التعلم والبحث حتى اعتلّ, ونصح له الأطباء أن يرحل إلى مصر ليستشفي بجوها, فكتب إلى صديق فرنسيٍّ يقال له "فزسنل" كان مقيمًا بمصر, وبينه وبين الدسوقي صلة, حتى أنه يقول عنه: "إنه أريبٌ في لغته, مدل في العربية بمعرفته وفصاحته, حتى أنه شرع معي في عمل شواهد للصحاح, لكنه لم يوفق بإتمامٍ للنجاح. كتب "لين" إلى "فزسنل" هذا يسأله عن أديبٍ معروفٍ بعنايته للغة وكرم الطبع، فكتب إليه يدله على الدسوقي, وأنه الضالة التي ينشدها, وكان قد سبق أن حضر "لين" إلى مصر وهو في شبابه, سنة "1825م" وجعل عنايته أن يدرس اللغة العربية في أهم مصادرها, وأن يدرس أخلاق الشعب المصريّ وعاداته ومظاهر حياته، فتنقل في الأحياء الوطنية, وكتب مشاهداتٍ وتعليقاتٍ, وعرضها على جميعة في "انجلترا" بعد عودته إليها, فاستحسنتها وأشارت بطبعها, ولكنه رأى أنها ناقصةٌ تحتاج إلى الكمال, فعاد مرةً أخرى إلى مصر, سنة 1833م, وقضى بها قرابة عامين متنقلًا بين القاهرة والصعيد, للوصول إلى غرضه, واتصل بكبار المصريين, وتردد على الشيخ العروسي, والشيخ العطار, وعكف على ترجمة كتاب "ألف ليلة وليلة". وقَدِمَ "لين" إلى مصر مرة ثانية في سنة 1842م, وأقام بالأحياء الوطنية ليتم ما بدأ, والتقى بالشيخ الدسوقي الصديق الذي يطلبه, والمعين الذي ينشده, وأعد مكتبةً ضخمةً يستعين بها على عمله, واتفق مع الشيخ الدسوقي على برنامج يقيدان به, وهو أن يقرأ كلَّ يومٍ نحو نصف كراسةٍ من شرح متن القاموس, المسمى: "بتاج العروس" للزبيدي, مع البحث الدقيق والدراسة العميقة, ومراجعة ما كان عنده من معتبرات اللغة الصحاح. ثم يعود "لين" بعد انصراف الدسوقي إلى ترجمة ما فهمه إلى الإنجليزية, فتيسر الترجمة مع القراءة, واستمرا على ذلك سبعة أعوام, أتمَّا فيها تسعة أعشار الكتاب, وكان الدسوقي في طيلة هذه المدة موضع تقدير "لين" وإعجابه.

وقد رَتَّبَ "لين" للدسوقي نصيبًا شهريًّا من المال, تقرَّ به عينه, وكانت عشرتهما هادئة, يحدوها الإخلاص, ويسودها الوفاق والمحبة. والدسوقي يحدث عن جهد "لين" وجده ونبوغه ونبوغ أسرته, وما تضلع به من مهمةٍ علميةٍ, ورسالةٍ ثقافيةٍ, فهذان الابنان تعلمهما أمهما اللغتين الإيطالية والفرنسية, ويقرأ لهما خالهما شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل, وأصغرهما وهو في الخامسة عشرة من عمره يجيد اللغة الهيروغليفية, يقول الدسوقي: فانظر يا ذا الكسل الذي هو أحلى مذاقًا من العسل, إلى هذا الاستعداد العجيب, والجد الغريب. ثم يعود "لين" إلى بلاده, بعد أن قضى مع صاحبه العالم الأزهريّ حقبةً من الدهر, ناضرةً في عيشة زاهية زاهرة. ثم أنقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام ولم يغفل الدسوقي عن العشر الباقي من "تاج العروس" بعد سفر "لين", بل كان يقابل نسخته بالنسخ الأخرى, ويصحح خطأه, ويفسره غامضة, وينهيه إلى قسيس إنجليزي يقيم بمصر إذ ذاك, يدعى: المستر "ليد" ليرسله إلى "لين" في انجلتزا حتى تتم الكتابة. وهذا الذي فعله "الدسوقي" مع "لين" إن هو إلّا جهد رائع, ومقدرة فائقة, وعلم يضطلع العزم النافذ والهمة البالغة. وما من شك في أن الدسوقي أتيحت له بمخالطة المستشرق الإنجليزيّ في هذه المدة المتطاولة, أن يقف على ثقافة جديدة, وأن يطلع على أخلاق وعادات ما كانت تتيسر لغيره إلّا بالرحلة إلى انجلترا. وما من شكٍّ في أن المخالطة زادت في إدراكه, وبسطت في أفق خياله, ووهبت له وهو الأديب الحساس الفكر المثمر والخيال الطريف.

آثاره: خرجت من المطبعة الأميرية كتبٌ كثيرةٌ تحمل اسمه, فتجد آخر كل كتابٍ يقوم بتصحيحه خاتمةً يضعها بأسلوبه المسجع المشاكل لأدب عصره، ولما كان لقبه "الدسوقي" كلمة لا يسهل معها السجع, فإنه يحتال إلى إيجاد لفظة تشاكل هذا اللقب, ويتحقق بها السجع, وقد يهجر هذا اللفظ إلى سجعة أخرى أثقل منها صعوبة؛ ليتأتى معها السجع؛ كأن يقول في خاتمة "ابن الأثير": يقول المتوسل إلى مولاه, بالنبي المختار إبراهيم الدسوقي, الملقب بعبد الغفار, خادم تصحيح الكتاب والفنون, بدار الطباعة ذات الطبع السليم المصون". ويقول في آخر كتاب "تزيين الأسواق": يقول المتوسل إلى مولاه, بالقطب الحقيقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي, وفي آخر "شرح العكبري": يقول المتوسل إلى الله بالجاه, الفاروقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي. ومماصححه صحيح الترمذي, وقد فرغ منه في أوائل شبعان سنة 1292هـ. وله تقريظ في آخر الجزء الثاني من "الكشاف" يشتمل على ترجمة للزمخشريّ, وقيمة تفسيره. ومما صححه كتاب "شرح التنوير على سفط الزند" لأبي العلاء المعري، ويقول في آخره ما نصه: "يقول راجي غفران الأوزار, إبراهيم الدسوقي الملقب بعبد الغفار, تَمَّ طبع هذا الكتاب العذب المستطاب, الجامع لأنواع اللطائف على ذمة جمعية المعارف, المتوفرة دواعي مجدها, المشرقة كواكب سعدها, في ظلال من تحلت به مراتب الخديوية.... صاحب المناقب الشهيرة, والعطاء الجزيل, جناب مصر أفندي إسماعيل. وكان طبع هذا الكتاب الفائق بهذا الشكل الجميل, والأسلوب الرائق في

المطبعة الزاهرة, ذات الأدوات البهية الباهرة, ببولاق مصر القاهرة، مشمولًا بنظر من عليه أحاسن أخلاقه, تثني جناب حسين بك حسني، ولما حبست عن تصحيحه أدهم اليراعة, انطلق يقرظه في ميادين البراعة, فقال مؤرخًا تمام طبعه, مثنيًا على حسن وضعه: هات حدث عن البديع المجلي ... عن بديع القريض في كل فصل أحمد من أبو أبيه سليما ... ن المعري, وهو التنوخي الأصل مودع اللفظ, ساحرات المعاني ... في رقيق من الأساليب جزل ثم شَنَّفَ مسامعي بأغانٍ ... من لحون التنوير شرح لأصل فهو شرح بيانه للمعاني ... يسترقُّ النهي بأبدع قول ذو أساليب كالرياض تحلت ... بزهور من ياسمين وجل رق مبني وراق معنى وجلّى ... عن معان تتحكى سقيط الطل أحكمت ضبطه عصابة فضل ... لهمو بالفنون حسن تحلى أكسبته محلة الطبع حسنا ... وكسته ثوب الجلال المحلى إلى أن يقول: ثم لما تكامل الطبع فيه ... وكساه التمثيل أحسن شكل وجمالا وبهجة قلت أرخ ... تم طبع التنوير يزهو بحل هذا وقد وافقت طباعته المستحسنة أوائل صفر الخير سنة 1286 من شهور هذه السنة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على صاحب المعجزات وعلى أزواجه وذريته وآله وكل ناسج على منواله. وصحح الدسوقي كتبا أخرى جاءت مختومة بكلمته الدالة على تصحيحه

ككتاب "منار الهدى في الوقف والابتداء" و"قانون" ابن سينا في الطب, وغير ذلك مما صححه, فكان دليلًا على فضله, وما بذله من الجهد المشكور في سبيل تنقية الكتب المختلفة من أخطائها.

مصححون آخرون أزهريون

مصححون آخرون أزهريون: كذلك كان من الأزهريين الذين قاموا بتصحيح الكتب في صدر النهضة طائفة, نذكر منهم: الشيخ محمد محرم: وكان مصصحًا بمدرسة أبي زعبل, وصحح بعض مؤلفات "إبراهيم النبراوي" الذي تكلمنا عنه في المترجمين. وحسين عبد اللطيف الإسنوي: وكان في عداد المصححين الذين عُيِّنُوا بمدرسة الطب في عهد إسماعيل, تحت رياسة محمد على البقلي، وكان يتولى تصحيح كتب التشريح. وخليل حنفي: الذي كان يعرف بمصصحح العلوم الطبية, وكانت له معرفةً بالمصطلحات العلمية. ومحمد عمر التونسي: الذي تكلمنا عنه في المحررين، وكان يصحح كتب الطب في مدرسة أبي زعبل، وامتاز عن سائر أقرانه المصححين بمعرفة المصطلحات العلمية

باللغة العربية, فكانوا يرجعون إليه في تحقيقها, ويسمونه: مصحح كتب الطب ومحررها1, صحح كتاب "أمراض الأطفال" لمؤلفه كلوت بك, وكان محمد الشافعي قد ترجمه, كما صحح كتاب "النبات" الذي ألَّفه أنطوني فيجري, وشاركه في تصحيحه أحد الأزهريين, وهو الشيخ: حسن غانم الرشيدي, وقد تولى التصحيح بمدرسة الألسن. ومنهم أيضًا الشيخ: مصطفى كساب: وكان مصححًا بمدرسة الطب البيطريّ. والشيخ: سالم عوض: وكان رئيس المصححين بمدرسة الطب. والدكتور: محمد الهوراي: أحد أبناء الأزهر, وكان مصححًا بمدرسة الطب. والشيخ: أحمد الطهطاوي: وكان مدرسًا بمدرسة الألسن, وكبير المصححين بها. وكثير غير هؤلاء ممن نهضوا بهذا العمل الجليل, عدا المصححين الآخرين الذين يوكل إليهم كلما أريد تأليف كتاب أو ترجمة، ولا يزال الأزهريون إلى اليوم أصحاب الجهد العظيم في تصحيح الكتب المترجمة والمؤلفة والصحف أيضًا. هذا وقد كان المرحوم الشيخ: حسن الطويل, العالم الجليل2 يصحح

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان, الجزء السابع ص206. 2 هو حسن بن أحمد الطويل بن عليّ, ولد بمنية شهالة, إحدى قرى المنوفية, سنة1250هـ, وتربى بالقرية, ثم تلقى العلم في الجامع الأحمدي سنتين أو ثلاثًا, ثم استأنف طلبه بالأزهر, فظهرت عليه النباهة, وعرف بالقدرة على الجدل والمحاجة

جريدة أركان حرب الجيش المصريّ التي أصدرتها الحكومة في عهد إسماعيل, وكان لها أهميةً عظمى في ذلك العهد؛ لاحتوائها أهم المعارف والمحدثات الحربية1. وكان لأوجيني موري بك, الذي اختير للسفر إلى فرنسا في عهد إسماعيل لتعلم الفنون الحربية, ثم عُيِّنَ بعد عودته أركان حرب الجيش المصريّ. بحوث كثيرةٌ قيمةٌ تنتشر في هذه الجريدة, فيُعَرِّبُ مباحثها المنقولة عن الفرنسية محمد أفندي مختار, أحد قواد الجيش المصريّ, ويقوم على تحريرها "موري بك" ويتولى تصحيح ما بها من بحوث علمية ومعارف محدثة, المرحوم الأستاذ الشيخ: حسن الطويل. ثم أنه صحح أيضًا كتاب "البخاريّ" كما عُيِّنَ مصححًا في ديوان الجهادية, فكان يصحح ما يطبع به, وذلك حين عاد لطلب العلم والاشتغال به, بعد الانقطاع عنه.

_ وحدث ما اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر, ثم عاد إلى تلقي العلم بالأزهر, حتى شهد له شيوخه بالبراعة, وتأهل للتدريس, واشتهر إلى جانب تضلعه في العلوم الأزهرية بإتقان علوم الحكمة والحساب والجبر والعلوم الرياضية, وقرأ التاريخ بإمعانٍ وتدبير, وطالع كتب اللغة والأدب, ونظم الشعر السهل الواضح, وكتب النثر البديع, وكان ولوعًا بالعلم, يسعى للتبحر فيه على أعلامه ومجوديه، ثم نُقِلَ إلى نظارة المعارف وعُيِّنَ متفشا بها، ثم درس في دار العلوم, وتخرج عليه جمهرة من فضلائها وأدبائها؛ كالمرحومين الشيخ: حسن منصور، والشيخ: محمد المهدي، والشيخ: عبد الوهاب النجار, وقد شرع في جمع دروس التفسير التي كان يلقيها في مدرسة دار العلوم في كتاب سماه: "عنوان البيان" -لم يطبع منه غير يطبع منه غير المقدمة, واستأثر الله به في سنة 1317هـ. 1 البعثات العلمية في عهد محمد علي، وعباس الأول، وسعيد, للأمير عمر طوسون, ص498.

لمحة تاريخية عن الطباعة والصحافة بمصر

لمحة تاريخية عن الطباعة والصحافة بمصر مدخل ... لمحةٌ تاريخيةٌ عن الطباعة والصحافة بمصر: يرجع الفضل في صناعة الحروف العربية والشرقية إلى أوربا، وكانت عناية الأوربيين أول الأمر متجهةً إلى اللغة العربية وحروفها؛ إذ هي لغة التوارة والإنجيل, وقد أوحت إليهم النزعة الدينية أن ينشروا الكتب الدينية المتخلفة, ثم اتجهوا إلى العلم فنشروا طائفةً من كتبه باللغة العربية, واشتدت المنافسة بين لندن وباريس وروما ولبنان, في مستهلِّ القرن السابع عشر, على كتبٍ باللغتين العربية والعبرية، وسرت روح المنافسة إلى الشرق فأدلى دلوه, ونقل الطباعة عن الغرب لتعينه على نشر آثاره وتعاليمه، وكان ذلك من وحي النزعة الدينية أيضًا. ومن ثَمَّ, قد استهلت المطابع في الشرق عملها بنشر الكتب الدينية, بالعربية مرةً وبالعبرية أخرى, وأخذت بعد ذلك تنشر المؤلفات والتراجم العلمية والأدبية. وكانت الأستانة أسبق بلاد الشرق إلى معرفة الطباعة، وكان اليهود أول من اضطلع بهذه الصناعة, فقد أنشأ أحدهم في عاصمة الخلافة مطبعةً نشرت بين حين وآخر كتبًا في العلوم والتاريخ, بجانب كتب الدين اليهوديّ في أواخر القرن الخامس عشر1. وكان من نشاط اليهود في البلاد الأخرى أن أنشأوا المطابع في ربوعها المختلفة. ذاعت الطباعة في بلاد الشرق الأدنى بالحروف العبرية, ولكن الشرق عُنِيَ بلغته الخاصة, وهي العربية, فأنشأ أحد البطارقة بحلب مطبعة عربيةً في أوائل القرن الثامن عشر, وكانت هذه أول مطبعة في الشرق.

_ 1 مجلة الشرق السنة الثالثة العدد الرابع ص175.

ثم اتسعت في الأستانة المطبعة العربية, متخطيةً ما عوقت به من الحكومة ورجال الدين؛ إذ أفتى العلماء بأنها رجس من عمل الشيطان, ولكن فريقًا منهم عاون الصدر الأعظم في الحصول على إذن من السلطان, موقع عليه بالخط الشريف سنة 1712م بإنشاء المطبعة, وطبع جميع الكتب إلّا كتب التفسير والحديث والفقه والكلام1. ثم عرفت الطباعة العربية في قوية "الشوبر" من أعمال لبنان, في دير من أديرتها المعروفة, حوالي سنة 1733م, وقد نافس الأورثوذكس أصحاب الشوبر من الكاثوليك, وأنشأوا ببيروت مطبعةً عربيةً, قلدوا فيها حروف مطبعة الشوبر سنة 1750م2. وإلى هذا الحين كان المصريون يجهلون فن الطباعة, فلما جاءت الحملة الفرنسية مصر سنة 1798م حملت إليها فما حملته مطابع عربية وفرنسية ويونانية, واستخدمت هذه المطابع في إذاعة المنشورات العربية, وأوامر القيادة العامة, وكان للدعاية منها نصيبٌ, حتى إذا ما استقرَّ الأمر بمصر اضطلعت بنشر ما كان يقوم بتأليفه علماء هذه الحملة وأدباؤها, وما كانوا يترجمونه من العلوم الحديثة, وأضافت إلى هذه الجهود جهدًا آخرًا جديدًا, لم تنهض به مطابع الشرق الأدنى جميعًا, وذلك هو إخراج الصحف، ومن هذا الوادي سلكت الصحافة طريقها إلى مصر, ومن ذلك الوقت نشأت الصحافة الوليدة في مهد الفرنسيين. وإذن يستطيع المؤرخ أن يتخذ هذا الوقت بدايةً للنشأة الصحفية في مصر.

_ 1 تاريخ جودت, ترجمة عبد القادر الدنا, ص81 -84. 2 تطور الصحافة المصرية, لإبراهيم عبده, ص22.

الأزهر والصحافة

الأزهر والصحافة 1: اعتمدت الصحافة على الأزهريين قبل غيرهم في نهضتها, ووجدت منهم منذ نشأتها الأعوان الأقوياء, والأعضاء النافعين, والأقلام البليغة, والأفكار الناهضة, وأمدوا الصحف ببحوث العلم وروائع الفكر وطرائف الأدب، واتخذوها منبرًا اعتلاه الأدباء والشعراء وكبار المفكرين وقادة المشرعين, فروَّجوا سوق الأدب, ودعوا إلى الإصلاح الاجتماعيّ في مختلف ألوانه وشتَّى أساليبه. نعم لقيت الصحف بفنونها المختلفة أبلغ عونٍ من الأزهريين, فهم الذين شقّوا طريقها, وآزروها في رسالتها؛ اجتماعية, وسياسية, وعلمية, وأدبية، وسيتبين خلال البحث أنها ابتدأت بهم, وأن مجدها انتهى إليهم, وأن أعلامهم كانت أقباسًا تضيء, ولمعًا تهدي, وطالما كانت صحائفهم معلم الشعب وهاديه ومثقفه ومربيه. وطالما وقفت من الوطن موقف المناضل الذي لا يهدأ, واللسان الذي لا يتلعثم, تذود عن الحقِّ, وتنافح عن الحرية, وتمحص الفكرة, وتعرض الثقافة في شتى أساليبها, ومختلف أولوانها، وكم تناضلت في صحفهم آراء, وتساجلت مذاهب, وأبدعت قرائح, وافتتنت عقول. وبذلك كانوا هدأة الأمة, وممحِّصي أفكارها, وقادتها في ضروب الإصلاح الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. وحَسْبُ الأزهريين أنهم بنهوضهم بها أحيوا اللغة العربية وآدابها في وقت كان فيه سادة الشعب يتحدثون باللغة الأجنبية, ويفرض المحتلون لغتهم في الديوان والمدرسة. وقد استطاعت اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية أن تنتزع من

_ 1 تطور الصحافة المصرية, لإبراهيم عبده, ص233.

اللغة التركية سيطرتها الأولى, ولم تملك القضاء على اللغة العربية التي أحيتها وحمتها الصحافة بانتشارها, ومجادلاتها في المسائل السياسية والاجتماعية, وهي مسائل اتصلت بكلِّ موضوعٍ, سواء في الآداب أو العلوم أو القانون. وما فضل ذلك إلّا الأزهريين الذين كانوا في ثنايا العصر سياج الصحف وقلمها وروحها. صحيفة محمد علي الأولى: كان محمد علي باشا حريصًا على الوقوف على شئون بلاده, معنيًّا بالاطلاع على خطوات الإصلاح, وما يكون عليه الموظفون من جَدِّ أو خمول, ومن ثَمَّ, قد رأى أن يُقَدَّمَ إليه نهاية كل عام, أوكل شهر, تقريرٌ ضاف بهذه الشئون, ثم استكثر هذه المدة التي قد تكون مجالًا للعب عماله وتكاسلهم, فأصدر أمره بأنه: في اليوم الآخير من كل أسبوع ترد إليه كشوف الأقاليم البحرية والقبلية, بمقدار المال المتحصل, وكميات الغلال والأصناف الأخرى, حتى يعلم منها نشاط المأمورين أو تكاسلهم، ثم ترآى له أن فترة الأسبوع لا تسمح برعاية شئون الدولة على ما يرجوه, وأن بعض الأمور يتطلب سرعة النظر, فأمر بعرض هذه التقريرات يوميًّا, أو في أيِّ ساعة للنظر في الشئون المستعجلة1, فكانت ترفع إليه هذه التقريرات في كل عشرة أيام, أو أسبوع, أو في فترات أخرى يحددها. وقد خصص لذلك نخبةً من الكتَّاب يجيدون العربية والتركية, ثم انتظمت هذه التقريرات وتشعبت مواردها بعد أن قامت المطبعة

_ 1 تطور الصحافة المصرية, للأستاذ إبراهيم عبده، ص30.

مقام النسخ, واستمرت الأقاليم والدواوين توفايها بالأخبار والكتابات الوافية المفصلة عن سير الأمور في مختلف الأنحاء. ويذكر "فورشي" الذي كان موظفًا بمطبعة بولاق, أنه كان يطبع هذه الصحيفة -إذا ساغ أن نسميها هذا الاسم- كل يومٍ مائة نسخة, باللغتين العربية والتركية, متضمنةً الأخبار الرسمية والحكومية وبعض قصص من كتاب "ألف ليلة وليلة"1. وقد كانت هذه الصحيفة ترسل إلى رجالات الدولة ومأموريها, ومن يهمهم الاطلاع على أحوالها وشئونها. وتدرجت هذه الصحيفة فأصحبت سجلًا لأخبار البلاد جميعًا, كما أصبحت خلاصةً وافيةً لأعمال الحكومة والموظفين والعمال، وقد كانت أقدم الصحف المصرية وأسبقها إلى الوجود. الوقائع المصرية 1828م: بدا لمحمد علي باشا أن وقف الأخبار على المأمورين ورجالات الدولة دون سائر الشعب ليس من أصله الرأي, ولا مما يتفق مع حبه أمته, ورغبته في النهوض بها. وإذ ذاك, أمر بأن تطبع شئون الحكومة والشعب في صحيفةٍ تنشر على الناس كافة, وقد سميت واشتهرت "بالوقائع المصرية". الغرض من إصدار الوقائع: كان الغرض من إصدار الوقائع المصرية هو ما تتوخاه أرقى الشعوب في إصدار الصحف، ولكن هذه الصحيفة لم تحقق من هذا الغرض إلّا ما لاءم

_ 1 تطور الصحافة المصرية, للأستاذ إبراهيم عبده, ص35.

الزمن, وسمحت به الأسباب. صدر العدد الأول من الوقائع, في يوم الثلاثاء 25 من جمادى الأولى سنة 1244هـ, الموافق 3 من ديسمبر سنة 1828م, وكلمة الافتتاح في هذا العدد تجلوا الغرض من إصدار الوقائع, وتضع أمام الأعين نموذجًا لإنشاء الصحف في ذلك الحين؛ إذ ظلت الوقائع إلى سنة 1858م, وليس في العالم العربيِّ كله صحيفةٌ عربيةٌ سواها. كلمة الافتتاح: الحمد لله بارئ النعم، والصلاة والسلام على سيد العرب والعجم، وبعد: فإن تحرير الأمور الواقعة من اجتماعٍ جنسيّ بني آدم, المندمجين في صحيفة هذا العالم, ومن اختلافهم في حركاتهم وسكونهم ومعاملاتهم ومعاشراتهم, التي حصلت من احتياج بعضهم بعضًا, هي نتيجة الانتباه والتبصر والتدبير, وإظهار الغيرة العمومية, وسبب فعال منه يطلعون على كيفية الحال والزمان، وهذا واضح لدى أولي الألباب, ومن حيث أن الأمور الدقيقة الحاصلة من مصالح الزراعة والحراثة وباقي أنواع الصنائع, التي باستعمالها يتأتى الرخاء والتيسير, هي أسباب الحصول على الرفاهية, وعلى الاجتناب والاحتراز مما ينتج منه الضرر والأذى, خصوصًا في مصر, بل هي أساس نظام البلدان, وتدبير راحة أهلها, ففكر حضرة أفندينا وليّ النعم, في تدبير أحوال البلاد وتمهيدها, واعتدال أمرو أهلها وتوطيدها, وفي نظام القرى والبلدان ورفاهية سكانها وراحتهم, ووضع ديوان "الجرنال" قاصدًا من وضعه أن ترد الأمور الحادثة, الناتج منها النفع والضرر إلى الديوان المذكور, وأن ينتخب وينقح فيه منها ما منه ينتج النفع والإفادة, حتى إذا ظهرت عند المأمورين نوعًا النفع والضرر, ينتخب ما منه تصدر المنفعة, ويتجنب ما عنه يحصل الضرر، وهذه الإرادة الصالحة الصادرة من حضرة سعادة ولي النعم, وإن كان قد جرت في ديوان "الجرنال" إلى الآن, إلّا أنها لم تكن عموميةً, فأراد وليُّ النعم أن الأخبار التي ترد إلى الديوان المذكور, تنقح وينتخب منها ما هو مفيد, وتنشر عمومًا مع بعض الأمور التي ترد من مجلس المذاكرة السامي, والأمور المنظورة في ديوان

الخديو, والأخبار التي تأتي من أقطار الحجاز والسودان, وبعض وجهات أخرى, وذلك ليكون كله نتيجة للحصول على الفوائد الحسنة التي هي مقصودة ولي النعم, وتقويمًا لممارسة المأمورين الفخام, وباقي الحكام الكرام, المقلدين تدبير الأمور والمصالح، ومن كون هذا الشيء قد لاح في ضمير الذات السنية ولي النعم, صدر أمره الشريف بطبع الأمور المذكورة وانتشارها عمومًا, مستعينًا بالله، وقد سُمَّيَت واشتهرت بالوقائع المصرية, وبالله حسن النية. وزعت الوقائع على العلماء وتلاميذ المدارس, وكبار رجال الجيش, وأرسلت إلى كريت والشام وبلاد العرب والسودان1 كما قرأها المبعوثون في أوربة2 لكن هؤلاء القراء لا يتجاوزون ستمائة قارئ, وقد كانت أخبارها إلى ذلك الحين في نطاق ضيق. تحرير القسم العربيّ بالوقائع: أول ما أنشئت الوقائع كانت تصدر باللغتين العربية والتركية, وقد اختلف الكتّاب فيمن أشرف على تحرير القسم العربيّ ونهض به في الوقائع، وأكبر الظن أن أول من ساعد على صياغة الأخبار صياغة عربيةً صحيحةً هو السيد: شهاب الدين محمد بن إسماعيل الخشاب, الذي عُيِّنَ بعد ذلك مصححًا أول لمطبوعات بولاق, سنة 1836م, وبقي في خدمة الوقائع والمطبعة حتى سنة 1849م, حيث انقطع عن العمل الرسميّ, ومضى يؤلف شعرًا وأهازيج ومواليا تغنى3. وممن كان له سهمٌ في تحرير الوقائع العربية في ذلك الوقت, أحد علماء الأزهر وأدبائه, الشيخ: عبد الرحمن الصفتي4.

_ 1 محفوظات عابدين, وثيقة رقم 176 و 316 في 29صفر 1249, دفتر رقم 787. 2 تاريخ الوقائع المصرية, الطبعة الثانية ص38 - 106. 3 الآداب العربية في القرن التاسع عشر, تأليف لويس شيخو, ج1 ص84. 4 الوقائع المصرية بتاريخ 25 من نوفمبر سنة 1865م, عن مقال للأستاذ أحمد خيري بك.

تولَّى الخشاب والصفتي وجمهرة من أدباء الأزهر النهوض بتحرير الوقائع العربية, وبذلوا في العناية بها جهدًا كان من أثره أن ارتقى أسلوبها, واتسع أفقها, فلم تقتصر على نشر الأخبار الرسمية, بل كانت تصوِّر أحيانًا حياة الشعب ونواحي الخير والشر فيه, وتعرض لبعض الحوادث بأسلوب يرتفع عن أسلوب الأخبار, بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ, إلّا أن فيه شيئًا من السجع, وبدت فيها إذ ذاك محاولةٌ لإنشاء المقالة, أو أدب المقالة. وفي أوائل ذي القعدة سنة 1257هـ, الموافق ديسمبر سنة 1841م, اتجهت رغبة وليِّ الأمر إلى إصلاح الوقائع, وتبسيط أفقها, فعهد إلى رفاعة رافع بترجمة بعض المواد المحدثة التي تلائم قراءة الوقائع, وإدخال بعض القطع الأدبية, وتهذيب الجريدة وترتيبها بصفة عامة, ويشير السيد صالح مجدي بك, أحد تلامذة رفاعة, إلى أن نظارة الوقائع أحيلت على رفاعة في سنة 1251هـ-1835م, وبقي مشرفًا عليها حتى سنة 1267 هـ -1850م"1: وإذ آل إلى رفاعة الإشراف عليها, ومُكِّنَ من رعايتها, جعل اللغة العربية في مكان الصدارة, بدلًا من التركية في صفحاتها الأربع, وعُنِيَ بها عنايةً بالغةً, واستعان بطائفة من المحررين الماهرين, من أمثال: "أحمد فارس الشدياق, والسيد شهاب الدين"2. وحملت المقالة الرئيسية في العدد 623 جديدًا لم يعهد في الوقائع, كانت هذه المقالة بعنوان: "تمهيد" وقد تحدثت عن السياسة والسياسيين, وعن نظم الحكم؛ الشورى, والفرديّ، وعن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز, ثم بَرَّت الوقائع بعهدها, فخصصت في صفحاتها سطورًا لنشر ما له علاقة بالأدب3, ونشرت في العدد 632 طرفًا مما أثر عن ابن خلدون في صناعة

_ 1 حلية الزمن في مناقب خادم الوطن, ص 25، 16. 2 فيليب دي طرازي, ص39، 50. 3 تاريخ الوقائع المصرية, لإبراهيم عبده, ص106.

الأدب. وجاء في العدد الثاني قصيدةٌ من شعر الشيخ: محمد شهاب الدين, قالها بمناسبة تولية الشيخ: محمد الحبشي منصب مفتي السادة المالكية, وهو أول شعر ينشر في الوقائع. وفيما بعد ذلك, عادت اللغة العربية إلى اليسار, واحتلت التركية الناحية اليمنى من الصحيفة, فكان ذلك إيذانًا بانحلال الوقائع والانصراف عنها, ولم تتسع بعد لشعر أو أدب، وذلك حيث آل الحكم إلى عباس الأول. وحينما ظهرت الوقائع في صورتين؛ إحداهما عربية والأخرى تركية, كان يتولى تحرير العربية الشيخُ: إبراهيم بن عبد الغفار الدسوقي1. وفي عهد الخديو إسماعيل, انتعشت الواقائع واتجه إلى الأمر لإحيائها, وقد جاء في أمره لنظارة المالية إذ ذاك: "أن من المسلَّم به أن للجرائد منافع, ومحسنات عند الأهالي, ولدى الحكومة, ولذلك, فإنني أرغب في إدخال جريدة الوقائع المصرية في عداد الصحف المفيدة2". تهيأ بهذه العناية نوعٌ من حياة الوقائع, وزخرت بالأنباء والبرقيات, وأنباء الأقطار الشقيقة, وحملت كثيرًا من الشئون التجارية والاجتماعية والأدبية, وخصص الخديو لتحرير القسم العربيّ بها أحد علماء الأزهر المشهورين بالأدب, وهو الشيخ: أحمد عبد الرحيم, فاضطلع بهذا العمل, وندب لمعاونته فيه شقيقه الشيخ: محمد عبد الرحيم, الذي كان مدرسًا بالأزهر. مضى الشيخ: أحمد عبد الرحيم في تحرير الوقائع, وفي الإشراف عليها أربعة عشر عامًا، وفي خلال إشرافه عليها عُيِّنَ لمساعدته في التحرير أحد شعراء الأزهر وأدبائه, الشيخ: مصطفى سلامة النجاريّ, والشيخ: محمد عبده الذي عُيِّنَ

_ 1 أحد علماء الأزهر وأدبائه, ترجمنا له في المصححين. 2 محفوظات عابدين, وثيقة رقم 64, أوامر للمالية في 3 من رجب سنة 1282.

محررًا ثالثًا1. وإذ ذاك أُضِيفَ إلى الأخبار لونٌ من الأدب يمتزج بها, وعُنِيَت بالأخبار الخارجية التي تمس حياة الشعوب الساسية والاجتماعية, تقدم لها وتعلق عليها, وفسحت صدرها للأدباء من غير محرريها؛ فنشرت لهم شعرًا, كالشعر الذي نشرته للشيخ: علي الليثي, ثم نشرت لهم نثرًا؛ كالذي أرسله إليها المبعوثون إلى باريس؛ كالشيخ: علي نائل, وغيره من عشاق التحرير، هذا عدا ما كانت تزخر به من آدابٍ يحررها المحررون الموظفون في الوقائع. وهنا نلاحظ أن الوقائع جاد أسلوبها, وهذبت لغتها, وانفسح أفقها, وأشرق الأدب على صفحاتها بفضل رعاية علماء الأزهر وأدبائه, الذين مكنوا لها من هذه الحياة الأدبية الجديدة. ولمَّا عُيِّنَ الإمام محررًا ثالثًا في الوقائع, وضع تقريرًا ضافيًا لإصلاحها, ورفعه إلى رياض باشا ناظر النظار إذ ذاك, فارتاح لهذا التقرير, وأمر بتعيين لجنةٍ من مدير المطبوعات, ووكيل وزارة الداخلية, وصاحب التقرير, لوضع لائحةٍ لقلم المطبوعات وتحرير الصحيفة الرسمية، فوضعت اللائحة, وأمضاها الوزير, ثم كافأ الإمام على تقريره, بتعيينه رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية, ومشرفًا على المطبوعات2. الوقائع في عهد الإمام: صدرت الوقائع برياسة الإمام في 9 من أكتوبر سنة 1880, وأصبحت صحيفةً يوميةً تصدر في كل يوم عدا يوم الجمعة, وأصبح لها مطبعةً خاصة بها, وقد كان للإمام أبلغ الأثر في خلق هذه الصحيفة, وجعلها كأحسن ما تكون الصحف لغةً ورسالةً, بل لقد اتخذ منها أداةً لإنهاض الأدب وخدمة اللغة

_ 1 الإسلام والتجديد في مصر ص44 وما بعدها. 2 الإسلام والتجديد في مصر ص44 وما بعدها.

العربية مما أضاف إليه أبلغ المآثر. إنشاء قسم أدبيّ بالوقائع: فقد كان له بوصفه رئيسًا لتحريرها أن يكتب فيها ما يَعِنُّ له, أو ما يرد إليه من الفصول الأدبية، ورغبةً منه في النهوض بالآداب, وتخليصها من الجمود, وتهذيب الكتابة, وتقشيع ما غشيها من الضعف والتكلف, وما رسفت فيه من الأغلال, أنشأ في الوقائع قسمًا يضم ما تجود به قريحته, وقريحة أعوانه من الكتّاب, مِنْ كل ما له صلة بالإصلاح، وبثّ بروح النهوض بأقلام بارعة, ولغة مهذبة, وأسلوب فصيح, فاختار طائفةً من المحررين الذين تستميل أقلامهم الناس, وأودع الوقائع أحكامًا غربية يعجب بها الناظر فيها, خصوصًا إذا كان من أبناء الشعوب المتمدينة, أو من المقلدين للمتدين1. اختار الإمام لمعاونته في التحرير طائفةً من الأدباء المطبوعين الذين عرفوا بالثورة على الجمود, والفرار من قيود الكتابة وسجعها وزخرفها, فضم إليه سعد زغلول, والشيخ: عبد الكريم سلمان, والشيخ: سيد وفا, وإبراهيم الهلباوي, وقاسم أمين, وإبراهيم اللقاني, وغيرهم. وقد كانت الكتابة في الوقائع قبل أن يرعاها الإمام, ويعاونه أصحابه النابهون الأزهريون, ركيكةً ضعيفةً يبدو عليها العجز عن الإبانة, ويحاول كتابها أن يفصحوا عن إبانتهم, ويبينوا غرضهم, فيحول العيّ بينهم وبين الإفصاح, حتى لكأنك أمام رجل مقعود اللسان, فلما بدأ الأستاذ الإمام وأصحابه يجرون قلمهم بها, بدل عليها نطقًا, وضعفها قوةً, وقيدها انطلاقًا, وتعقيدها وضوحًا وسهولةً. لم يكن الإمام في المقالات التي كتبها في الوقائع في عهدها الجديد يتكلف

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام, للسيد: رشيد رضا ج1 ص166.

السجع, أو يجري وراء حشو اللفظ الذي يحجب معناه, بل درج في بيانه على أسلوبٍ هادئ, فيه من السهولة والدعة ما يُسَهِّلُ على الناس فهمه, ويتبينون منه قصده، وكانت مقالاته فضلًا عن هذا صورةً لحياة الأمة, فيها تحليلٌ لا غُلُوَّ فيه, ولا مبالغة1. وقد نهج زملاؤه نهجه في الكتابة, ومضوا في طريقه لا يتعثرون، وكانت له رقابةً نافذةً على كل ما يرد إلى الصحيفة, فلا يسمح أن يتسلل إلى صفحاتها من محرريها, أو من غيرهم, ما يتنافى مع ما ينشده من الكتابة المطبوعة السهلة الواضحة, وإذ ذاك لبست الوقائع حلةً جديدةً من حسن التعبير وسداد الآراء, وامتد أسلوبها الممتع إلى كتابة دواوين الحكومة جميعها, إلى الصحف والمجلات العربية2, وانقرض السجع الذي كان هوى الكتاب, وتقلص ظل الزخرف الذي طالما تهالك الكتاب عليه, وافتنوا في استعماله, وظهر أدب المقالة بمعناه الواضح, وبدت اللغة العربية صحيحة العبارة, فصيحة التراكيب, ونَحَّى عنها ما كان يشوبها من العاميّ والدخيل, ومن يَطَّلِعُ على صفحات الوقائع في هذه الفترة يركتابها كم كانوا يجتهدون في البحث عن لفظ عربيٍّ يؤدي ما يؤديه العاميّ, وكثيرًا ما يعبرون بالعربيِّ ثم يضعون العاميَّ والدخيل بجانبة, إشارة إلى أن العربيَّ يغني غناءهما, ويقوم مقامها في الفائدة والدلالة. وقد تحدث الأستاذ العقاد عن أثر الإمام في نهضة الوقائع, وفي تقدم الكتابة وإصلاحها, بأن سعدًا والإمام عَمِلَا على تحرير العبارات, وتقويم الأساليب, وإدخال القصد والمعاني في الألفاظ, فأفادا في هذا الباب أحسن ما يفيد كاتبان في هذا الزمان, وبدأ عهد الكتابة بالعربيةلم يسبقهما إليه سابق في هذه الديار3.

_ 1 تاريخ الوقائع المصرية, لإبراهيم عبده ص185. 2 كلمة للأستاذ المرحوم عبد الوهاب النجار, في الأهرام الصادر في 23 ديسمبر 1940. 3 الأستاذ عباس محمود العقاد, من مقال له في البلاغ الأسبوعيّ, الصادر في سبتمبر 1927.

وقد كان من أثر هؤلاء في الوقائع أن تحررت أيضًا من اللغة التركية, ودخلتها العنونات التي توضح للقارئ ما تحتويه الصحيفة, وأصبحت في تهذيبٍ ونظامٍ جديدين. ومن رواج الأدب فيها ما جارت فيه صحيفة "روضة المدارس" من نشر الكتب الأدبية على صفحاتها تباعً, احتى يستطيع من يعنى يجمعها أن يتوفر له كتابٌ كامل, لا عناء في جمعه والحصول عليه, وذلك كرسالة السيد: صالح مجدي بك, "حلية الزمن في مناقب خادم الوطن" -رفاعة بك رافع- فقد استغرقت أربعين صفحةً من صفحات الوقائع, نشرت موصولة الحلقات في أعداد متتالية، وهذه الرسالة أوفى ترجمةٍ لرفاعة بك, الذي أنهض العصر بجهوده, وجليل آثاره. وكانت الملاحظات التي تحملها الوقائع, والنقد الذي يبديه المحررون بها قاسيًا لاذعًا، ولم يدخر الإمام وسعًا في الحثِّ على النهوض بأسلوبه الصارم العنيف, فقد دعا إلى إصلاح التعليم, وانتقد نظمه, وصور ما فيه من عجز وقصور, وحمل على نظارة المعارف حملةً شعواء, أقضت مضجعها حتى استاء ناظر المعارف استياءً شديدًا, واعتبر ذلك افتياتا على حقوقه, ولكن الإمام مضى في حملته حتى أقرت الحكومة وجهة نظره, وشكلت المجلس الأعلى للتعليم, في 31 من مارس سنة 1881م, وحَدَّ من سلطان الوزير, وأصبح منفذًا فحسب, بل إن الحكومة كانت أكثر سخاءً مما قدرت الوقائع ومحررها, فاختارت الشيخ: محمد عبده, بين أعضاء هذا المجلس1 ثم اختير عضوًا في لجنةٍ فرعيةٍ ألفها المجلس, للنظر في إصلاح طرق التعليم والتربية في جميع المدارس, وكان الكاتب العربيّ لها2. وهكذا اتخذ الإمام وصحبه صحيفة الوقائع منبرًا يدعون منه لإصلاح شامل, وهذّبوا الكتابة, وصححوا لغتها, وتسابق الأدباء إلى ميدانها يتبارون فيه بالأقلام, ويتنافسون فيه باليراعات, ويدعو كلٌّ إلى الإصلاح بأسلوب يرتضيه، كل ذلك في لغةٍ فصيحةٍ مهذَّبَةٍ, لا تمت إلى السجع والزخرف

_ 1 تاريخ الإمام, ج1 ص179. 2 الإسلام والتجديد ص46.

بسبب, حتى خُلِقَ في الفئة المتعلمة رأيٌ عامٌّ, وتيارات فكريةلم تكن معهودةً من قبل. الوقائع ونفوذها الجديد: كان للإمام بما أحدثه من لائحة إدارة المطبوعات, الهيمنة على جميع ما يطبع, ومن بينه الصحيفة الرسمية، وكان رياض باشا ناظر النظار حينئذ, قد أحسن بتوجه الأفكار إلى طلب شيء من طلاوة العبارة, ووفرة المعنى, وحسن الانتقاد1 ورأى أنه لم يكن في الجريدة الرسمية وراء أوامر الحكومة إلا مدائح لجناب الخديو, وبعض كبار المأمورين على الطريقة القديمة, كما أنه لم يكن في شئونها وحدها ما يحرك النفوس للاطلاع على الصحيفة الرسمية2. ومن ثَمَّ, قد تلقف التقرير الذي كتبه الشيخ محمد عبده, متضمنًا إصلاح الصحيفة, وكلفه وضع لائحة لإدارة المطبوعات, ولم يتردد ناظر النظار في الموافقة عليها. تضمنت اللائحة أن جميع إدارات الحكومة, ومصالحها الكبرى "المجالس الملغاة" ملزمةٌ بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات جمع ما لديها من الأعمال التي تمت, أو شُرِعَ فيها, على أن تتم, وعلى المحاكم أن ترسل جميع نتائج أحكامها3. وإنك لتعجب حين تعلم أن لرئيس تحرير الصحيفة الرسمية باعتباره مدير الإدارة والمطبوعات حق الانتقاد على أيِّ عمل من الأعمال, عندما يرى له وجهًا, حتى أعمال نظارة الداخلية نفسها, التي كانت الإدارة جزءًا منها, وإذا رأت إدارة الجريدة في الجرائد التي تنشر في مصر, أو الأجنبية, ذكرًا

_ 1 من كلام الإمام ج1, من تاريخ الإمام للسيد رشيد ص175. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه ص176.

لخلل في عمل, أو سوء تصرف في أمر ما, فلها الحق أن تكتب بوساطة نظارة الداخلية إلى النظارة, أو الإدارة التي يختص بها ذلك العمل, تسأل عن الحقيقة1 فإن تبين بعد البحث كذب الصحيفة فيما نشرته كُلِّفَ صاحبها بإثبات ما ذكره, وإلّا أنذر مرةً أو مرتين, وعطلت الصحيفة في الثالثة جزاءً له. ذلك هو النفوذ العريض, وتلك هي الرقابة الموغلة, والإشراف النافذ, كفل ذلك كله إدارة المطبوعات التي هي من وضع الإمام, ومن رأيه وتفكيره. وكان من أثر النفوذ الشامل أن بذل الموظفون عنايةً وجهدًا فيما يكتبونه؛ لأن الرقابة كانت تمتد إليهم؛ ولأن النقد كان يصدر عن قلم رئيس التحرير, وهو في الواقع ترجمان الحكومة المعبِّر عن آرائها, فأدّى هذا إلى الإصلاح في أعمال المصالح المختلفة شيئًا فشيئًا2. بدأ الشيخ محمد عبده بسلطانه الجديد يمد إصلاحه إلى مختلف الإدارات والنظارات, فهاجم طريقة التحرير التي كانت متبعة فيها, وبين عيوبها, وأظهر نقصها, ورسم الطريقة المثلى التي ينبغي أن يجري الكاتبون على نسقها، فلم تمض أشهر قليلة حتى ظهر فضل ذوي الإلمام باللغة العربية من موظفي الحكومة, وحضهم ورؤساؤهم على مكاتبة الجريدة الرسمية سترًا لعيوب الإدارات3. وكان من أثر ذلك أن تسابق الكاتبون الموظفون وتباروا في تجديد الكتابة وتنقيتها من الخطأ, ومسايرتها النهج الجديد, وخجل الجاهلون باللغة العربية من جهلهم بها, وشعروا بنقصٍ بادورا إلى تلافيه, واضطروا إلى استدعاء المعلمين, والمبادرة إلى المدارس الليلية؛ ليتعلموا فيها كيفية التحرير, وعَمَّ ذلك المديريات, كما عَمَّ النظارات4.

_ 1 تاريخ الإمام ج1 ص177. 2 الإسلام والتجديد ص45. 3 تاريخ الإمام ج1 ص177. 4 المصدر نفسه.

وقد تطوع الإمام على جهده وثقل متابعه بإلقاء دروسٍ في هذه المدارس الليلية, فكان تفضلًا كريمًا رسم أبلغ الطرق في التحرير والكتابة, وجرى عليه الكاتبون سراعًا. هكذا احتفل الإمام بهذه الصحف, فوثَّق أسباب نجاحها, وغلا في التضييق على الأساليب القديمة المنحلة, ولم يقنع بالإشراف على الصحيفة الرسمية وغيرها, وبذل الجهد في تجديد أساليبها, بل بسط رعايته على الكتاب في أقطار الوظائف جميعًا, ولعلك تعجب إذا تعلم أنه أنذر مدير جريدة كبرى بتعطيل جريدته, إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة عينها1. ذلك هو بعض ما ما فعله الإمام, وذلك هو فضله في تهذيب لغة الكتابة, وما دفع به الكتاب إلى التنافس والجد والتسابق إلى السلامة من خجل التشهير ونكال العقوبة. نهاية الوقائع: كأنما كانت الحوادث تسعى سعيها لتخفت صوت الوقائع, ولتغيب شمسها, ففي العهد الأخير لرياسة الشيخ محمد عبده, حرمت الجريدة من المقالات الأدبية والاجتماعية, نظرًا للاضطراب السياسيّ الذي شمل مصر في ذلك الوقت بحدوث الثورة العرابية, فكانت الكلمة العليا لرجال الحرب, وشغلت الشئون العسكرية جُلَّ صحفاتها. ثم حيل بين الإمام ورئاسة تحريرها, فقد سجن عقب دخول الإنجليز مصر, فانقطع عهده بهذه الصحيفة بعد أن قضى زهاء ثمانية عشر شهرًا يجاهد لخدمة الأدب واللغة على صحفاتها, ويدعو من منبرها إلى الإصلاح في مختلف شئونه.

_ 1 الإسلام والتجديد, ص46, وهذه الجريدة التي أنذرت هي "التنكيت والتبكيت" للنديم, كما جاء في تاريخ الإمام, ج1 ص336.

وقد حَلَّ محله في رياسة تحريرها صديقه الشيخ: عبد الكريم سلمان, ابتداءً من 21 من سبتمبر سنة 1882م, فظل قائمًا على شئونها مدةً من الزمان, عُيِّنَ بعدها عضوًا بالمحكمة العليا الشرعية، وإن كان قد بذل الجهد المشكور في اضطلاع هذه الصحيفة برسالتها الأدبية والاجتماعية والحكومية, كانت شمسها قد آذنت بمغيب, فتقلص ظل الأدب من صفحاتها روريدًا، وما زالت تفقد حياتها الحافلة حتى اقتصرت على الأخبار الرسمية والقوانين وتجردت لها, وبقيت على ذلك إلى يومنا هذا. وهكذا طويت هذه الصحيفة الخالدة بعد أن ظلَّت ردحًا من الزمان مجالًا فسيحًا للفكر والأدب, وميدانًا يتسابق فيه الأدباء, ويتبارى فيه المصصحون بآرائهم وتوجيههم, ولم يُعْرَفْ في تاريخ الصحف الشرقية جريدةٌ شغلت الحياة الفكرية كالوقائع الرسمية, فقد كانت معلمًا لأدباء الشرق كالشدياق, ولمفكري مصر الكثيرين, تحنوا على طلاب العلم ومبعوثي الدولة؛ فتفتح لهم صدرًا, وتسمح للعامة بنشر مقالاتهم وآرائهم فيها1. كانت الوقائع مثقف الشعب ومعلمه وهاديه ومربيه, أيقظت الشعور, وكونت الرأي, وألهمت الأفكار حرية النقد التي تحيا بها الشعوب، ولا يُذْكَرُ في تاريخ الصحافة الرسمية في العالم كله جريدةٌ حكوميةٌ تنقد الحكومة ورجال الدولة نقدًا ينغص عليهم حياتهم, كما كانت تنقد الوقائع المسئولين في مصر قبيل الثورة العرابية نقدًا لاذعًا, أفاد جوانب الحياة المصرية, ومكن للإصلاح في إدارات الدولة ومصالحها, ونقلها إلى مصاف جرائد الرأي التي تصدر عادةً عن الأفراد والجماعات2.

_ 1 تطور الصحافة المصرية ص65، 66. 2 المصدر نفسه ص 36 وتاريخ الإمام ج1.

وادي النيل 1867: رغب إسماعيل في إنشاء نهضةٍ صحفيةٍ غير رسمية, تعبر عن مجلس الشورى واتجاهه وتساير فكرته, فأوحى إلى أحد أبناء الأزهر وهو: عبد الله أبو السعود, بإنشاء هذه الجريدة, فكانت أول صحيفةٍ عربيةٍ قامت بهذا العمل, ويذكر "فيليب دي طلازي" في تاريخها: أنها مجلةٌ سياسيةٌ علميةٌ أدبيةٌ, تصدر مرتين في الأسبوع, وعبارتها صحيحة, وأفكارها سليمة, ساعدها الخديوي إسماعيل؛ لأنها كانت تخدم أفكاره بإخلاص واعتدال, دون أن تتعرض للمسائل الدينية1. أنشئت هذه المجلة سنة 1867م, وذكرت "الوقائع المصرية" خبر إنشائها في محلياتها2 وتلقتها بالتحية صحيفةٌ فرنسيةٌ معاصرةٌ, كانت تصدر بالإسكندرية, فقالت: قد حدثت صحيفة مصرية جديدة بمدينة القاهرة, تسمى: "وادي النيل" وقد أوضح منشئها وناظرها أبو السعود أفندي, فيما أورده من بيانٍ لغرض المقصود من إنشائها, أنه التزم بأن ينشر فيها الأخبار النافعة للديار المصرية, سواء كانت ترد من أوربا أم من الأقاليم المصرية3. وصحيفة وادي النيل أول صحيفةٍ وطنيةٍ شعبيةٍ صدرت بمصر, وقد كانت صورةً للواقع في تفكيرها واتجاهها4. أضاء أبو السعود الطريق لهذا النوع من الصحف, فنهج نهجه كاتبان شهيران في عصر إسماعيل, هما: إبراهيم المويلحي, وعثمان جلال, فأنشأا مجلة

_ 1 تاريخ الصحافة العربية, ج1 ص96. 2 الوقائع في 23 من ربيع الأول سنة 1284هـ. 3 وادي النيل العدد العاشر. 4 تطور الصحافة المصرية ص77.

"نزهة الأفكار" سنة 1869م, سياسيةً أسبوعيةً. وقد كان أبو السعود هذا علمًا من أعلام الأدب, وله جولات موفقة في الشعر والنشر, عدا جهده الرائع في التأليف والترجمة، وقد تكلمنا عنه في المؤلفين والمترجمين, ويتمثل أسلوبه الجزل في صحيفته وفي مقالاته التي نشرها بصحيفته "روضة الأخبار" التي أنشأها ابنه "محمد أنسي" للسياسة والعلم والأدب والزراعة والتجارة سنة 1875م. روضة المدارس 1870م: كان علي مبارك باشا مشرفًا على شئون التعليم في عهد إسماعيل, وكان النهضة المشبوبة تحمل ذوي الغيرة على الشباب المثقفين أن يهيئوا لهم ما يوسع مداركهم, وينير أفكارهم, ويهذِّبُ لغتهم, فلم يكن أولى بتقحيق هذا الغرض من إنشاء صحيفة "روضة المدارس" التي نهضت باللغة العربية وأحيت آدابها, ونشرت المعارف الحديثة, والأفكار الجديدة, وقد ألقيت مقاليد أمورها إلى أستاذ الصحافة الرسمية في القرن التاسع عشر، رفاعة بك الطهطاوي, محرر "الوقائع" وناظر الترجمة في عهد إسماعيل, يعاونه في إصدارها جهابذة العصر في العلوم والآداب والفنون المختلفة1. نهض رفاعة بك بهذه المجلة, وأسبغ عليها من أدبه وفنه وإرشاده، وعاونه طائفةٌ من أدباء الأزهر؛ كالشيخ: حسن المرصفي, وعبد الله باشا فكري, كما شارك في النهوض بها علي باشا مبارك, وإسماعيل باشا الفلكي, وكان عبد الله أبو السعود يترجم ما يفد إلى المجلة من مقالات الأساتذة الأجانب, فيجد الناس فيها أفكار الغرب وعلومه وآدابه.

_ 1 تطور الصحافة المصرية ص62.

كانت روضة المدارس ميّاسة الغصون, فواحة الأزهار, يصدح على أيكها الأدباء والشعراء والمفكرون, وكان الميدان الرحيب الذي تتنافس فيه الأقلام, وتتبارى فيه الملكات, وزخرت بالآداب والعلوم والفنون, وجالت في التاريخ والاجتماع والرياضة والفلك, وحفلت بالشعر العربيّ في القرن الماضي, فنشرت الشعر الرقيق الطريف للمرحوم إسماعيل صبري باشا, وغيره, وكانت تصدر مرتين كل شهر، وقد أمر إسماعيل بتوزيعها مجانًا على طلبة المدارس, فاستهوتهم, وعودتهم حب الأدب والكلف بالاطلاع, وأثرت في مدراكهم وأفكارهم. جاء في مقدمتها أن إرادة خديو مصر المتكفل بسموِّ درجتها, ونموّ بهجتها, وتقويم صعدتها, وتمكين نجدتها, شاءت إصدار صحيفة تكون مجالًا لأنفس المواد العلمية؛ بحيث تكون فيها الفوائد المتنوعة, والمسائل المتأصلة والمتفرعة, أقرب تناولًا للمطلع المستفيد, وأسهل مأخذًا لمن يعاينها من قريب الفهم والبعيد, بقلم سهل العبارة, واضح الإشارة, وألفاظٍ فصيحةٍ غير حوشية, ولا مجشمة لصعب التراكيب. وتمضي في الإفصاح عن الغرض من إنشائها فتقول: "إن المراد من ظهورها بهذه الصورة هو أن تنكشف للعامة مخدرات العلم, وترفع حجبها المستورة, وتستضيء بنورها أرباب العقول السليمة, وأصحاب الطبائع المستقيمة, وخصوصًا بين أبناء المدارس.... حتى تتسع دائرة معقولهم ومنقولهم ... ويبعثم على ازدياد اهتمامهم إذا علم كل منهم أن ما يظهر من أعماله المستحسنة, ويشير من أشغاله الدائرة على الأفئدة والألسنة, سيقيد بهذه الصحفية". موضوعاتها: أما موضوعاتها: فهي رسائل مؤلفة جديدة, ونُبَذٌ مصنفةٌ مفيدةٌ من علوم

وفنونٍ مختلفةٍ, مسامراتٍ من مستحسن الحكايات والأخبار مقتطفة، وبعض تراجم من لغات أجنبية. وكان مما عنيت به بجنب ذلك شئون المدرسيين من تنقلات وترقية، واستغرقت بداية الصحيفة من كل عام أخبار الامتحانات المدرسية وحفلاتها, وشغلت بعض سطورها الإعلان المتصل بهذه الشئون؛ كفتح المدارس, وبيع الكتب, والحاجة إلى مدرسين, وغير ذلك, كما فاضت صفحاتها بروائع الشعر في مدح الخديو إسماعيل. صحيفة الأهرام 1875م: أنشأ "سلم تقلا" أحد الأدباء السوريين هذه الصحيفة المشتملة على البرقيات والمواد التجارية والعلمية والأدبية والاجتماعية والتاريخية, وكانت تصدر يوم السبت من كل أسبوع في أول عهدها, وكل ما نتعرض للكلام عنه من نواحي هذه الصحيفة, أن الشيخ محمد عبده كان يجري على صحفاتها قلمه الأديب الناشئ, وكان ذلك أول عهده بالإنشاء, فقد نشرت له "الأهرام" خمس مقالاتٍ متفرقة, فيما بين العدد الخامس من السنة الأولى, الصادر في 14 من شعبان سنة 1293هـ إلى العدد 41 وهذه السنة هي التي نال الشيخ محمد عبده فيما يليها "سنة 1294" شهادة العالمية من الأزهر, وكانت الأهرام تحتفي بمقالاته وتقدمه للقراء بديباجة فذة ومن ذلك ما جاء في العدد الخامس من السنة الأولى إذ قالت: "وردت إلينا هذه الرسالة من قلم العالم العلامة, والأديب الفهامة, الشيخ محمد عبده, أحد المجاورين بالأزهر, فأدرجناها بحروفها".

أبو نظارة 1788م: كان لوجود الأفغانيّ بمصر أثر بليغ في إنارة الفكر وإثارة العزم، وإيقاظ الهمم، ولم يقتصر على محاضراته الفكرية, بل كان يوجه الأدباء والمفكرين والمصلحين إلى كل ما ينهض بالأمة والشعوب الإسلامية، فاستيقظت مشاهر، وتنبهت عقول، وخفَّ حجاب الغفلة في أطرافٍ متعددةٍ من البلاد, خصوصًا القاهرة1. وكان له على الصحف العربية في مصر فضلٌ عظيمٌ, فقد اقترح على "أديب إسحاق" إنشاء "جريدة مصر" في القاهرة2. وسعى في إخراج "مرآة الشرق" لصاحبها "سليم عنحوري" وتوسط لصاحبها حتى منح الترخيص بها، وكانت له المقالات الرائعة الثائرة, ومن أعنفها المقالات التي حمل فيها على الإنجليز, فقد كانوا يخشونها وتُعْنَى صحفهم بنقلها. وأوصى الأفعانيُّ كلًّا من الإمام, وإبراهيم اللقاني, أن ينهضا بصحيفة "التجارة" لصحابها "أديب إسحاق قد تبجا بها المقالات, وأعاناها بالفكر والأدب والتوجيه، وأوصى الأفغانيّ أيضًا الإمام, أن يعاون "مرآة الشرق" فحرر بها كثيرًا من مقالاته, كما فعل مثل ذلك الشيخ علي يوسف, وقد كانت هذه الصحيفة لسان الحزب الوطنيّ في نهاية عصر إسماعيل. وتغير أسلوب الصحف فجأةً في عهد إسماعيل, فأصبح لاذعًا متطرفًا ينقم على الخديو وحكومته، وكان يمثل هذا النوع من الصحف في نشأته يهوديّ

_ 1 الأستاذ الإمام, ج1 ص37 من تاريخ الإمام للسيد رشيد. 2 تراجم مشاهير الشرق, ج2 ص70.

نشأ بمصر, يقال له: يقعوب بن صنوع, وهو كاتبٌ لازع النقد, ناقد الرأي, جامح القلم, برزت شخصيته في حصيفته, وبرع في الرسم والنحت والموسيقى, وخلال عمله المسرحيّ كان الرأي العام يدير حركته الأفغانيّ والإمام, وكان بين يعقوب وبينهما أوثق صلة؛ إذ درسا عليه الفرنسية, وتوشجت بينهم أواصر الصداقة, فتجاوبت رغباتهم في إحياء الأفكار الحرة عن طريق الصحف, واتفقت كلمتهم على إنشاء صحيفة هزليةٍ يديرها صنوع, ويحررها الشيخان بين آنٍ وآن, وفيها تنقد أعمال الخديو, وتشرح تصرفات بطانته1. سميت هذه الصحيفة: "أبو نظارة" وصدر العدد الأول منها في سنة 1877, وهي أقدم الصحف الهزلية المصورة في الشرق2 وقد صدرت في مصر أولًا في ثوبٍ امتازت به في بلاد الشرق جميعًا, وكان أسلوبها دراجًا يمشي مع أمثال الوطنيين, وعبارات شيوخهم, إلّا ما كان يكتبه الأستاذان: الأفغانيّ ومحمد عبده, فقد كان باللغة الفصحى, ولقيت من الأمة إعجابًا وتهافتًا عليها, وتغلغلت في مختلف الطبقات حتى يذكر الدكتور: محمد صبري, في كتابه عن تكوين الرأي العام المصريّ, أن جريدة "صنوع" شغلت قراءها عن الاستماع إلى مطرب العصر "أحمد سالم" حين دخل بائع الصحف, فانصرفوا عن المطرب إلى قراءتها, مع أن "أحمد سالم" كان يترنم بأغنية من وضع "أبي نظارة" عنوانها: "المضهد" لقي بغنائها السجن عشرة أيام. وإن صحيفة "كأبي نظارة" مُرّةُ النقد, ملتهبةُ الأسلوب, يعدها جمال الدين ومحمد عبده, وتهجم على الخديو وحاشيته, لا ريب أنها قصيرة العمر, لا يطيق الصبر عليها من هم هدف لها، ومن ثَمَّ لم تمض بضعة أشهر حتى أغلقها الخديو, وحصل من إيطاليا على الموافقة بنفي صاحبها من مصر، ولما سافر إلى باريس, وأصدرها باسماء مختلفة, حظّرت الحكومة دخولها إلى مصر،

_ 1 تطور الصحافة المصرية, ص273. 2 تاريخ الصحافة العربية, للكونت دي طرازي ج2 ص283.

ولم تخل هذه الصحيفة من المقالات العربية الفصيحة الرائعة الأسلوب, التي كان يحررها الأفغانيّ والإمام تأييدًا لاتجاهها, وترويجًا لأفكارها. صحف النديم: قبل أن ينشئ عبد الله نديم صحفه, كان يثبت أفكاره, وينشر آراءه, في جريدتي "مصر" و"التجارة" على الأسلوب الحديث بلا سجعٍ ولا تكلفٍ, ولما صُرِّحَ لسلم النقاش بإصدار جريدتي "المحروسة" و"العصر الجديد" عقيب "التجارة" و"مصر" ونُفِيَ من مصر أديب إسحاق, تولى التحرير فيهما, فجاء بالمعجب والمطرب1. التكنيت والتبكيت1881: ومازال النديم كذلك حتى استدعى صاحب "المحروسة" "والعصر الجديد" من بيروت, الكاتبين الفاضلين سليم أفندي عباس, وفضل الله الجوريّ, فترك لهما تحرير هاتين الصحيفتين, والقيام عليهما, وأنشأ صحيفة "التنكيت والتبيكت" في 6 من شهر يونية سنة 1881م, وهي صحيفةٌ وطنيةٌ أسبوعيةٌ أدبيةٌ هزلية, وكانت كما يقول: هجوها تنكيت, ومدحها تبكيت، ولغتها سهلة مرسلة واضحة، ولا تلجئك إلى قاموس الفيروزبادي، ولا تلزمك مراجعة التاريخ, ولا نظر الجغرافيا، وسخريتها نفثات صدور،

_ 1 تراجم مشاهير الشرق, لجورجي زيدان بك, ج2 ص108.

وزفرات يصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا، وهي في مجموعها مقالات أدبية, وأفكار اجتماعية خصبة، ظاهرها هزل، وباطنها جد، وأودعها مالم يسبقه أحد من كتاب العرب إليه. الطائف 1892: ثم أنشأ النديم صحيفة "الطائف1" قبل الثورة العرابية, وكانت في أول صدروها تحمل على المساوئ الاجتماعية العامة؛ كالمواخير والحانات والمراقص التي غزت القاهرة في ظل الامتيازات وتحت حمياتها2. ثم انتقلت من الموضعات الاجتماعية الخالصة إلى الموضوعات السياسية العميقة, والأخبار المهمة التي تميزت بها في عهد الثورة, حتى نقل عنها أكثر الصحف المعاصرة ما كانت "الطائف" تنشره. كانت الطائف صحيفةً سياسيةً عنيفةً, بلغت من الشهرة, ومن التأثير في الأذهان, ما لم يبلغه غيرها3 وكانت رسالتها الدفاع عن الثورة العرابية وأبطالها، احتفى بها رجال الثورة وأنصارها, فاشترك لها النواب بمبالغ كبيرة, وأصبحت لهم لسانًا فيه من العنف والشدة ما اضطر الشيخ: محمد عبده إلى تعطليها شهرًا4. ومكَّن لها عطفُ الهيئات عليها من أن تتخذ لونًا رسميًّا، وقد ذكرت "جريدة مصر" في 23 من مارس سنة 1882م أن مجلس النواب قد اختار

_ 1 سميت بالطائف تيمنًا باسم بلدة شهيرة بالحجاز, وتفاؤلا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب أحمد فارس "أعيان القرن الرابع عشر للمرحوم أحمد تميور باشا ص17. 2 تطور الصحافة المصرية, ص148. 3 تراجم مشاهير الشرق, ج2 ص101. 4 تاريخ الإمام للسيد رشيد, ج1 ص336.

"جريدة الطائف" الغراء؛ لنشر ما يورم إبداءه من الآراء والخواطر والتقارير والمحاضر, فهي الآن صحيفته الشبه رسمية, ثم قالت: "وجريدة الطائف جديرةٌ بهذا الاختيار, فهي موصوفة بالوطنيةِ, معروفةٌ بصدق النية, منتشرةٌ نافذة الكلام, خطيرة مرعبة المقام, وقد استعان النديم بهذه الصفة "الشبه رسمية" على أن يكون ذا خبرة بشئون الدولة، وأن يجد من القوة ما يذلل به العقبات التي تعترضه, وامتازت "الطائف" بأسلوبها الحادِّ, ولغتها العنيفة, وأظهر ما فيها تاريخ الخديو إسماعيل, في أسلوب فيه من النقمة والتشفي منه ما أبعده عن التاريخ العادل1. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه عن "الخديو" السابق بعنوان: "سليب الأملاك من الملاك" فقد استغرق صفحتين من صفحاتها الأربع، ومن العجيب أن النديم حين أقعده المرض, أرسل يعتذر عن تحرير جريدته إلّا ما كان من تاريخ حضرة إسماعيل باشا, فإنه يصر عليه, ويأبى عنه فيقول: "فإني أتكلف بكتابته؛ لأن نثره من ضمن علاج ما بي2". ثم انتقلت من الحملة على إسماعيل, إلى الإقذاع في الخديو توفيق, في لهجةٍ قاسيةٍ, فيها تعريضٌ بمقامه, حتى إن حكومته أمرت بتعطيلها نهائيًّا في 17 مايو سنة 1882م ترضية للخديو, واعتذارًا له عما ارتكبته صحيفة الحكومة من الإساءة إلى الحاكم الشرعيّ3. "الأستاذ" 1892م: أصدرت الحكومة أمرها بالقبض على النديم, مع زعماء الثورة

_ 1 الطائف في 6 من مايو سنة 1882م. 2 الثورة العرابية, لعبد الرحمن الرافعي ص374. 3 الإسلام والتجديد ص231.

العرابية, ففرَّ يلتمس النجاة لنفسه, وكانت الحكومة قد أغرت بمكافأةٍ ماليةٍ من يدل عليه, فقبض عليه بعد أعوامٍ قضاها متخفيًّا, ثم منح العفو على أن يغادر مصر, فغادرها إلى فلسطين, وأقام في "يافا" قرابة عام, ثم عاد إلى مصر, حينما انتهت ولاية مصر إلى "عباس الثاني"، وحنَّت أناملة إلى صحيفة تنشر دره, وتنشر رأيه وفكره, فأنشأ سنة 1892 جريدةً سماها: "الأستاذ"، وهي مجلةٌ أدبيةٌ نقديةٌ تشبه العورة الوثقى بعض المشاهبة, كما يقول السيد رشيد رضا: ولكنه لم يكتب لها البقاء طويلًا؛ إذ لم يكد يحول الحول حتى اضطره مرةً أخرى إلى مبارحة البلاد؛ لأنه اتهم بأنه كان يذكي روح التعصب الدينيّ, وينشر الآراء التي تخفر الناس على الثورة1 فنفي إلى "يافا" وبعد أن عاد منها, تدخل الإنجليز, فنفي إليها مدةً ثانيةً, ثم أبعد من يافا, فرجع إلى الإسكندرية وأقام بها أيامًا, ثم عاونه المندوب السلطاني على السفر إلى الأستانة, فسافر إليها بإرادة شاهانية, وعُيِّنَ على أثر وصوله مفتشًا للمطبوعات, واتصل هناك بالسيد جمال الدين, فتوثقت عرى الصداقة بينهما, وكان يود الرجوع إلى مصر, ولكن الباب العالي ضنَّ عليه بهذه الأمنية, وسافر الخديو هناك فرافقه إلى الدردنيل, ثم مرض بالسل, وتوفي سنة 1896م. العروة الوثقى 1879م: في سنة 1269هـ-1879م" صدر أمر الخديو توفيق بإخراج جمال الدين الأفغاني من مصر؛ لأن نشاطه السياسيّ أثار في نفوس الإنجليز ريبًا ومخاوف؛ ولأن تعليمه الفلسفيّ هيّجَ عليه الجامدين من الأزهريين, فجاءه الكيد من هنا وهناك2.

_ 1 الإسلام والتجديد, ص213. 2 ترجمة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق لجمال الدين في رسالة الرد على الأزهريين.

صدع الأفغانيُّ بالأمر, واتجه إلى "حيدر أباد" فأقام بها عامًا، ثم شبت الثورة العرابية فدعي منها إلى "كلتكتا" وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقشعت الفتنة العرابية التي فَهِمَ الإنجليز أن له فيه إصبعًا، ولما أتيحت له حرية التنقل لجأ إلى "لوندرا" فمكث بها أيامًا قلائل, وكتب في طريقه إلى "باريس" إلى صديقه, الشيخ: محمد عبده, أن يوافيه بها, وكان الثاني قد نفي إلى سوريا, سنة 1882م لاتهامه بالاشتراك في هذه الثورة, وبعد أن مكث بها عامًا التقى في "باريس" مع أستاذه وصديقه الأفغانيّ, استجابةً لدعوته, وتلبيةً لندائه. كان أكبر مظهر من مظاهر النشاط السياسيّ والأدبيّ للأفغاني والإمام في باريس هو إنشاء "العروة الوثقى" وهي مجلة أسبوعيةٌ, كان يتولى الإنفاق عليها جمعية أسمها: جمعية العروة الوثقى, التي أسساها لإنارة الرأي العام في جميع الأقطار الإسلامية, ودعوته إلى الاتحاد والتضافر1. وكان لهذه الجمعية فروع في الهند ومصر وغيرها من الشعوب الإسلامية, ومن أغراضها مقاومةُ الاحتلال البريطانيّ في الشرق, وتقليص ظل الإنجليز في هذه الديار، وقد جاء في خاتمة العدد الأول منها, أنه بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عمومًا, وأن الخطر الذي ألَمَّ بمصر نغرت2 له أحساء المسلمين, وتكلمت به قلوبهم, ولن تزال آلامه تستفزهم ما دام الجرح فغارًا، وما هذا بغريب على المسلمين". تألفت عَصَبَاتُ خيرٍ من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار, خصوصًا البلاد الهندية والمصرية......... وملا كن نيل الغاية على

_ 1 المنار ج8 ص10. 2 نغَرت القدر تنغَر, ونغِرت تنغَر, إذا غلت, ومن المجاز: نغر الرجل, اغتاظ, وفلانة غيري نغرة غيري وجرح نغار جياش بالدم "أساس البلاغة".

وجه أبعد من الخطر, وأقرب إلى الظفر, يستدعي أن يكون للداعي في كل قلب سليم حق, ودعوة صدق, طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عنه شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن تكون في مدينةٍ حرةٍ كمدينة باريس؛ ليتمكنوا بواسطتها من بَثِّ آرائهم, وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية1. كان جمال الدين الأفغانيّ مديرًا للصحيفة يرسم سياستها, وكان الشيخ محمد عبده رئيس تحريرها, فالآراء والأفكار فيها كانت مشتركةً بين الاثنين, والمحرر لجميع مقالاتها هو الثاني. وكانت مقالات "العروة الوثقى" جامعةً بين روح جمال الدين, وقلم الأستاذ الإمام, فجاءت آيات بيناتٍ في سموِّ المعارف، وقوة الروح، وبلاغة العبارة، وهي أشبه ما تكون بالخطب النارية, تستثير الشجاعة في نفوس قارئها, وتداني في روحها وقوة تأثيرها أسلوب الإمام عليٍّ -كرم الله وجهه- في خطبة الحماسية المنشورة في "نهج البلاغة "كذا2". ظهر العدد الأول منها في 5 من جمادى الأولى سنة 1301هـ, الموافق 3 من مارس سنة 1884م, وقد أخذت من قلوب الشرقيين كل مأخذ, وأثرت في نفوسهم أثرًا لم يبلغه وعظُ واعظٍ, ولا تنبيه منبهٍ، وهي ذات أثر في كلّ ما وجد بعد من حركات الوطنية والحرية في بلاد الشرق3. وقد روّع الإنجليز من هذه المجلة, وهاجمها الصحفيون البريطانيون قبل ظهورها, حين كتب عنها بعض الصحف الفرنسية وهي في ضمير الغيب, وأنذر هؤلاء المحررون الإنكليز بما ستفعله هذه الصحيفة في سياستهم ونفوذهم في البلاد الشرقية.

_ 1 تاريخ الإمام, ج1 ص295. 2 عصر إسماعيل, لعبد الرحمن الرافعي بك ص163. 3 ترجمة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق للأفغانيّ.

ولما ظهرت وأحدثت في البلاد الإسلامية ضجةً عنيفةً ودويًّا هائلًا لم يطق الإنلجيز صبرًا عليهما, فمنعوها من دخول الهند, وانعقد مجلس النظارة المصريّ في القاهرة, ثم أصدر قراره إلى نظارة الداخلية المصرية قاضيًا بأن تشتد في منع هذه الجريدة من دخول الأقطار المصرية, وتراقب جولاتها في تلك الديار1. وبعد أن نشرت الجريدة صورة الأمر, أعلنت أن كلَّ مَنْ تُوجَدُ عنده العروة الوثقى يغرم مبلغًا من خسمة جنيهات مصرية إلى خمسة وعشرين جنيهًا2. وتسخر "العروة الوثقى" من هذا القرار, وتعده ضريبةً فرضت على المصرين ببركة تصرف الإنجليز في مصر. وقد وصف السيد رشيد رضا هذه الجريدة في النفوس فقال: "كان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بي, فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة والاشتغال ما قذف بي من طور إلى طور, ومن حالٍ إلى حال, وإنما كان الأثر الأعظم لتلك المقالات الإصلاحية الإسلامية, ويليه تاثير المقالات السياسية في المسألة المصرية, والذي علمته من نفسي بالخبر ومن غيري بالخبر, ومن التاريخ, أنه لم يوجد لكلام عربيّ في هذا العصر, ولا في قرونٍ قبله بعض ما كان لها من إصابة موقع الوجدان من القلب, والإقناع من العقل, ولاحد لهذا". وقال: "سمعت أستاذنا الشيخ: حسينًا الجسر, عالم سورية الوحيد في الجمع بين العلوم الإسلامية ومعرفة حالة العصر السياسية والمدنية يقول: "ما كان أحدٌ أن يشك في أن جريدة العروة الوثقى ستحدث انقلابًا في العالم

_ 1 تاريخ الإمام ج ص301. 2 العروة الوثقى في 22 من مارس سنة 1884م.

الشيخ علي يوسف وصحفه

الشيخ على يوسف وصحفه: توفي سنة 331هـ-1913م: نجم الشيخ: علي يوسف, في شهر جمادى الآخرة, سنة 1280 في "بلصفورة" من بلاد مديرية جرجا, من أسرةٍ كريمة الأصل, رقيقة الحال, ولما كانت والدته من بني عديّ, التابعة لمركز منفلوط, وهي بلدة شهيرة بالعلم والعلماء, انتقلت إليها به بعد وفاة والده, فحفظ القرآن بها, وتلقى العلم على أستاذه الشيخ: حسن الهواري, أحد علماء الأزهر النابهين, ولما شدا طرفًا من العلم, قدم إلى الأزهر, فنهل منه بعض سنين، ثم استشرفت نفسه إلى الأدب، ومال هواه إلى الارتواء منه, وقرض الشعر، وظلّ يعالجه حتى صارت له به شهرة، فمدح ورثى، وتغزل وهجا, وجال في فنونه وألوانه حتى اتسق له ديوان كامل, وقد طبعه باسم: "نسمة السحر". ودعاه حبه للأدب, ونزوعه إليه, أن يختلف إلى مجالس العلماء والأدباء يسامرهم ويفاكههم, ويروي عنهم, وأن يغشى دور العليّة التي كان الأدباء والشعراء يحجون إليها, ثم طفق يرسل مقالاته إلى الصحف في ذلك الحين

_ 1 تاريخ الإمام 1 ص304.

ولمّا نما هواه إلى الصحف, ساعد المرحوم "أحمد فارس الشدياق" في تحرير صحيفة "القاهرة" وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره؛ مقدمات طويلة تمهد بين يدي كل موضوع, ولولم تدع إليها حاجة الكلام, واحتفال بالمحسنات البديعية تستكره استكراهًا, ولو استهلكت الغرض المطلوب1. ثم مضى مع نهضة جمال الدين, وتوجيه المرصفي, يُدَرِّبُ قلمه, ويروّض بيانه, ويسلس أسلوبه, ويرسله جزلًا سهلًا لا عنت فيه, حتى استقام له أسلوبٌ رصينٌ منطلقٌ عُرِفَ به. مجلة الآداب 1884م: وبعد أن تهيأ للشيخ: علي يوسف, هذا القدر من الآدب, وعبّد له طريقه, ويسّرت مسالكه, لبَّى هوى الصحف في نفسه, فأنشأ صحيفةً علميةً أدبيةً سماها: "الآداب" وقد كانت هذه المجلة شيئًا مذكورًا في ذلك الحين, ولا سيما بعد أن دالت دولة صحيفة "روضة المدارس" التي كان يقوم على تحريرها صدور العلماء وأفذاذ الكتاب والشعراء، وفي السنة التالية لجريدته كَثُرَ إقبال الناس عليها, وعرف منشئها بمكانة مهَّدت له وضع جريدة "المؤيد" الغراء2. وأيّا ما كان, فإن "الآداب" لم تكن هي المديان الذي جُلّيَ فيه الشيخ: علي يوسف, بل كان ميدانه "المؤيد" أعظم صحيفة عربيةٍ في ذلك الزمان.

_ 1 الشيخ عبد العزيز البشري, مجلة الرسالة, مجلد2 من السنة الثانية ص1768. 2 مرآة العصر, لإلياس زخورا, ص358.

المؤيد 1889م: كانت جريدة "المقطم" صحيفة الاحتلال في ذلك الحين, تُظَاهِرُ الإنجليز وتعاونهم، وتؤيد سياسة الاحتلال وتروجها، ولم يكن للأمة المصرية الإسلامية صحيفةٌ إذ ذاك ترفع صوتها، وتعلي كلمتها, وتنشر فكرها ورأيها, فتلك أقلام المصريين حبيسةً لا تجد مجالًا تصور فيها آمال الأمة وآلامها، ولا تجد متنفسًا لما يخالجها من كربٍ وحسرةٍ على المجد المغصوب, والموطن المنكوب. لم يكن للوطنيين مَفَرٌّ من أن يتجهوا بتفكيرهم إلى إنشاء صحيفة وطنيةٍ تعبر عن إحساسهم وآمالهم, ويتخذونها منبرًا يذودون منه عن وطنهم وكرامتهم ودينهم وحقوقهم. فاجتمع لطيف باشا سليم الحجازي وحسن باشا عاصم وإبراهيم بك الهلباوي, وغيرهم من الوطنيين النابهين, واستقَرَّ رأيهم على أن يعرض الأول فكرة إنشاء صحيفة على رياض باشا, وعلى أن تجاهد الاحتلال, وتنتهي الأحداث على رغم منه، وأعانها على ذلك وطنية هذه الحكومة وشعورها الغيور على مجد البلاد, فلم ير رئيس الحكومة مانعًا يحول دون إنشاء "المؤيد"1. تقدَّم الشيخ: علي يوسف, ومعه صديقه الشيخ: أحمد ماضي, أحد رفاقه في الأزهر, فأنشأ صحيفة" المؤيد" وكان الشيخ: أحمد ماضي, معروفًا بالذكاء والنباهة، وفيه هوًى شديد إلى الكتابة والإنشاء, وكثيرًا ما كتب بصحيفة "الآداب" التي كان يصدرها صديقه الشيخ: علي يوسف، فلا عجب أن يشرك زميله في عمله الصحفيّ الجديد.

_ 1 صحيفة الشباب, العدد الثامن في سنة 1936, من حديث محمد بك فريد.

ولكن عقبةً أثيرت في طريق "المؤيد" وهي في مستهلِّ الطريق؛ إذ لم يلبث الشريكان أن اختلفا، ولا ينزل أحدهماعن الشركة إلّا على مال, والشيخ: علي يوسف, لا يجد من المال ما يسعفه، وهنا اهتزت أريحة -المغفور له- سعد زغلول باشا, فأعانه في حلكة اليأس, وأمده بما خَلَّصَ "المؤيد" له، ولما أتى صاحب "المؤيد" بمطبعة جديدةٍ من طراز فاخر، وعقد لذلك حفلًا رائعًا في دار "المؤيد"، خطب في الجمع, فأتى على سيرة هذه الحادثة, ونوّه بفضل سعد زغلول -المستشار بمحكمة الاستئناف- الذي أبى أن يسمع الخطبة إلّا واقفًا1. أغراض المؤيد: صدرت المؤيد في أول ديسمبر سنة 1889م, ومن أهم أغراضها كما تقول: بَثُّ الأفكار المفيدة، والأخبار الصادقة، والمبادرة إلى نشر الحوادث الداخلية من باب الاعتبار والتحذير، أو الترويج والتبشير ... غير تاركةٍ شأن التجارة الداخلية والخارجية.... ومن واجباتها: نشر كل ما يهم الوطنيّ معرفته من الحوادث, معتمدةً في كل ذلك على البرهان القويّ, والسند المثبت,.. والخدمة الحقيقية, والبحث الدقيق، وإرسال النظر خلف كل سائحة2. وقد كانت "المؤيد" مؤيدة لحكومة رياض باشا, مواليةً له، ولا بدع في ذلك, فهو الذي ارتاح لإنشائها، وصرّح بها, وقد عملت على نشر الأغراض التي أنشئت من أجلها في رويِّةٍ وهوادةٍ، وبذلك ظفرت برضا المسلمين الوطنيين وبثقتهم. أصبحت "المؤيد: ميدانًا للأقلام المشبوبة التي يجريها على صفحاتها زعماء السياسة والأدب والاجتماع، وجرى "المؤيد" إلى غاياته طلقًا يرفده.

_ 1 الشيخ عبد العزيز البشري, مجلة الرسالة ص2 مجلة 2 س 1769. 2 المؤيد الصادر في أول ديسمبر سنة 1881.

بالمقالات الرائعة أبطالُ الراي والأدب والعلم؛ من أمثال الشيخ: محمد عبده، وسعد زغلوك بك، ومصطفى كامل، وقاسم أمين، ومصطفى لطفي المنفلوطي، فتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف, وإبراهيم اللقاني، ومحمد المويلحي، وإسماعيل أباظة, وعالجت هذه الأقلام, وعالج معها صاحب "المؤيد" هذه الموضوعات المصرية الإسلامية, في مقالاتٍ مسهبةٍ قد تبلغ الصحفة الأولى جميعًا1. وقد كانت "المؤيد" ممتازة من بين الصحف المصرية بالدفاع عن الوطن والذود عن حقوقه، ومهاجمة الاستعمار في شتى أساليبه, فكانت قلب الوطن الخافق، ولسانه الناطق, ودأبت على مهاجمة الأجانب كلما وافتها الفرص والأسباب، وصوّرت ظلم الاحتلال للمصريين, وعسفهم بهذا الوطن المنكود، ولعل مما يحسن ذكره إيراد أبياتٍ من القصيدة الرائعة التي نظمها المرحوم حافظ بك إبراهيم, في رثاء صاحب "المؤيد" فما قاله في ذلك: كم أرجفوا بعد موت الشيخ وارتقبوا ... موت "المؤيد" فينا شر مرتقب وإن يمت تمت الآمال في بلد ... لولا "المؤيد" لم ينشط إلى طلب صبابة من رجاء بين أضلعنا ... قد بات يرشف منها كل مغتصب الم يكن لبني "مصر" وقد دهموا ... من ساحة الغرب مثل المعقل الأشب؟ كم أنبرت فيه أقلام, وكم رفعت ... فيه منائر من نظم ومن خطب وكان ميدان سبق للألى غضبوا ... للدين والحق من داعٍ ومحتسب فكم يراع حكيم في مشارعه ... قد التقى بيراع الكتاب الأرب

_ 1 المؤيد في 8 من مارس سنة 893.

ومن أبلغ ما قيل عن "المؤيد" وصاحبه, قصيدة المرحوم الشيخ: محمد عبد المطلب, التي يقول في مطلعها: وما ذرفت تلك العيون وإنما ... قلوب عليه بالوجيعة تفأد1 بكت همة كانت مرامي مرامها ... تفوت مدى العيوق أو هي أبعد2 نعم ملأت لوح الزمان مآثرًا ... لها الشعر يتلو والعظائم تنشد مآثر تحيي منك ميتًا سودًا ... وليس من الموتى فقيد مسود فكم موقف جَمِّ المخاوف قمته ... شديد القوى, والهول يرغي ويزبد إذا الناس إما واجمٌ أو مدله ... وسيف الليالي للقضاء مجرد3 وليل به تقع السياسة ساطع ... بهيم الليالي غيمه متلبد4 كشفت نواحيه بأبيض لامعٍ ... من الرأي؛ إذ ضل الحليم المسدد مواقف حزم معرب عنك صوتها ... وآيات عزم عن مضائك شهد إلى أن يقول: سل القلم الفياض هل لك بعده ... معين حجا يملي عليك ويرفد5 عهدناه زخّار البيان بكفه ... معين المعاني والقرائح ركد

_ 1 تفاد: تصلى بنار الوجيعة وتقاسي شدتها. 2 العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن, يتلو الثريا لا يتقدمها. 3 الواجم: العبوس المطرق لشد الحزن, والمد له: الساهي القلب, الذاهب العقل. 4 النقع: الغبار, الساطع المنتشر, ويقال سطع الغبار سطوعًا وسطعًا؛ إذ ارتفع وانتشر، والبهيم الأسود ودياجي الليل: حنادسه, وهي الشديدة الظلمة. 5 يرفد: يعطي.

إذا صرفي القرطاس ظل لوقعه ... فؤاد الليالي راجفًا يترعدد1 يشق ستور الغيب فهي مراقب ... لما في ضمير الكون والغيب مشهد2 وكم أفزعت عرضًا تخر لعزه ... وجوه الدراري عانيات وتسجد شباة لها تفري الخطوب وصولة ... لها البأس جند, والحقيقة منجد3 إذا حميت بأساء خلت لعابه ... شواظًا على أعدائه يتوقد4 وكم بين أثناء المؤيد آية ... يغور بها في العالمين وينجد5 إذا الصحف العظمى تناقلن حادثًا ... له فيه عظمى ورأي مؤيد تراءى لدار الوكالة البريطانية أن ساعد "المؤيد" قد اشتد، وأن خطرها قد تفاقم, فلم تطق صبرًا على أمرها, ولم تدعها تنفث في الناس أفكارها, فأمرت بمعنها من دخول السودان, وحوربت بشتى الأساليب, فكانت تمنع هنا وهناك دون علم إدارتها, فلا تصل إلى مشتركيها6. هبت على "المؤيد" رياح وأنواء كان من شأنها أن تعصف بها, ولكنها كانت تستمد من الأحدث قوةً, ولم يهن عزم صاحبها بما دبر له من كيد وعنت, وما ارتصد له من ضيق وعسف, بل كان يمضي في طريقه قدمًا. هذا هو الاستعمار يضيق على "المؤيد" ويخلق لها المتاعب والعقبات, فيحرم إصدرها في السودان والشرق, ثم يحرض صحفه على مهاجمتها والنَّيْلِ منها, ويشيرها على الؤيد, فتكتب ملبيةً داعي الاحتلال ونداءه.

_ 1 صرير القلم: صوته عند الكتابة, يترعدد: تأخذه الرعدة. 2 المراقب: جمع مرقب, وهو الموضح المشرف يرفع عليه الرقيب. 3 الشباة: حد كل شيء, ومنجد: عون. 4 الشواظ: اللهب لا دخان فيه. 5 يغور: يدخل في الغور, وهو ما اتخذ من الأرض, ويقابله: النجد. 6 المنبر في 22 من يناير سنة 1916م.

تلك هي "المقطم" بوق الاحتلال وداعيته, تعتبر صاحب "المؤيد" جاهلًا بآداب المناظرة, وتحمل على مصطفى كامل؛ لأنه دعا إلى تكريم "المؤيد"؛ لأنها أقدر الصحف على الإساءة إلى "المقطم" وأصحابه1 ثم هي توجه نظر الصحف الأوربية إلى ما تنشره "المؤيد" وتحكم إلى الرأي العام؛ ليحافظ على التقاليد الخديوية المشهورة بمنع التقسيم بين الرعية, وتشرح للصحف العربية خطر الدعوة إلى تبثها "المؤيد" وأذنابها من الصحف, وتلفت نظر صحيفة "الحقوق" إلى ذلك؛ إذ لا تجد جريدةً أخرى من الجرائد العربية التي انتصرت للمؤيد تستحق أن تذكر على مسمع من أهل الفضل والأدب2". كتبت "المقطم" ذلك, واحتفلت الصحف الأجنبية بما كتبته, وبذلت كبريات الصحف لذلك اهتمامًا بليغًا, ومن هذه الصحف: "لوبروجريه اجبسيان" التي ردت على الشيخ علي يوسف حملته, وهاجمت سياسة التعصب, وأغرت الحكومة بهذه الصحيفة؛ لأنها تدعو إلى التعصب الذي من شأنه أن يعرض الأمن للاضطراب, وحياة الأوروبيين للخطر؛ لأن الشيخ: علي يوسف, يدعو إلى أن يقوم قسم من الشعب بذبح القسم الآخر3. ولم تقتصر صحف الاحتلال على مهاجمة "المؤيد" فسحب, بل كانت تناهض الصحف الموالية لها مناهضة جاهدة, ومن هؤلاء صحيفة "المقياس" التي كانت تطبع في دار "المؤيد" وتكتب مقالاتها بوحي من الشيخ: علي يوسف, وأنصاره. والحق أن "المقياس" كانت قاسيةً, صريحةً في عصبيتها للدين والوطن, وأنها سلّت أقلامها للنيل من "المقطم" وأصحابه, وحملت عليها حملةً شعواء, وأساءت إلى

_ 1 تطور الصحافة المصرية ص179. 2 المقطم في 28 من سبتمبر سنة 1895م. 3 تطور الصحافة المصرية ص180 عن "لوبروجرية الصادرة في 30 من سبتمبر 1895م.

المسيحيين إساءات لا لبس فيها ولا إيهام1؛ إذ نشرت مقالًا بعنوان: "يضرمون نار التعصب وينكرون". ثم إن صحف الاحتلال تذكر ما تنشره "المقياس" من نثر وشعر تدعو فيه إلى أن يسل المسلمون سيوفهم, ويقتلون الكافرين لأنهم زلزلوا صروح دين المسلمين. وقد حكى صاحب "مرآة العصر" أن قناصل الدول قرروا مرةً مخاطبة رئيس مجلس النظار, دولة رياض باشا في هذا الشأن، فأجابهم بما ينفي الريب, ثم حَدَثَ أن الحكومة أعادت إنشاء قلم المطبوعات في نظارة الداخلية مرةً ثانيةً, تحت رياسة أحد الأجانب, فكان يتعقب "المؤيد" في كل ما يصدر منه, ويناقش صاحبه الحساب على كل سطر يكتبه فيه. وهناك عامل آخر غير الاستجابة لرغبات الاحتلال حمل "المقطم" ونظرئرها على مناهضة "المؤيد" والكيد له, وذلك هو حسدها على ما بلغته من مكانة, وما توالى لها من مجدٍ وشهرةٍ, ولعل مما يؤيد ذلك موقف "المقطم" من صاحب "المؤيد" في قضية الزوجية المشهورة, التي شغلت المجتمع المصريّ ردحًا من الزمن, وكانت مادةً خصبة للصحف والمجامع, وذلك أن الشيخ عليًّا يوسف, أراد أن يتزوج ابنة السيد عبد الخالق, شيخ السادات الوفائية, ورات هي هذا الرأي معه, وانعقد عزمهما على إتمام الزواج دون علم شيخ السادات الذي عارض الفكرة أشد المعارضة, ورأى الصحفي غير كفء لابنته؛ لأنه دونها حسبًا ونسبًا، وتَمَّ العقد كما يقضي بذلك الشرع, ولكن والد العروس أصر على إبائه, وثار على الواقع, فأقام الدعوى في المحكمة الشرعية؛ ليحال بين ابنته وزوجها؛ ولأنه يمتهن مهنةً لا يكرم بها صاحبها. كان لهذه القضية ضجةً في الصحف شغلت الأذهان, وكان للدفاع فيها حظ

_ 1 المقياس, العدد العاشر من سنة 1985م.

من البيان الرائع والحجة المناهضة, وحاولت الحكومة أن تحول دون فصل الزوجين, وتنفيذ قرار القاضي, وكاد قاضي القضاة أن يثير أزمةً حادةً في دوائر القضاء, ويوقف القضايا الشرعية جميعًا, ويغلق أبواب المحكمة لولا أن الحكومة نزلت عند أمره, وحلت بين الزوج وزوجته إلى أن يفصل في القضية1. ثم إنه كتب له الفوز في هذه القضية, وتولى مشيخة السادة الوفائية خلفًا لصهره المرحوم, السيد: عبد الخالق السادات. ونظرة إلى موقف الصحف من هذه القضية, وموقفها من صاحب "المؤيد", تريك كيف كان الشيخ: على يوسف, محسودًا على مجد صحيفته. أما صحف الأقباط فقد حرص كثيرٌ منها على عدم الخوض في هذا الموضوع, خلا "مصر" و"المقطم" فأما "مصر" فقد ساءها قرار محامي السادات في الصحافة, فهي ترى أن ما قاله الشيخ الفندي, وكيل السادات تعريضًا بالصحافة, وحسبانها من المهن الدنيئة المضرة, لا يصدر إلّا عن الجاهلين الأغبياء الذين لا يدركون ولا يفهمون. وأما "المقطم" فقد حرصت على نشر تفاصيل القضية نشرًا يظهر فيه الغرض والتشفي, دون أن يعلق الكاتب على اتهام المحامي والمحكمة الصحافة بأسوأ ما تتهم به حرفة من الحرف2. وأما "المنار" فقد كانت صحيفةً مواليةً لصاحب "المؤيد" في قضيته، وكان من الممكن أن يغار صاحب "المقطم" على كرامة الصحافة التي امتهنها الدفاع, وأن يقول كلمة إصنافٍ لمهنة هي مهنته، ولكنّ حقده على صاحب "المؤيد" أعماه عن الدفاع عن مهنته, والغيرة على شرف عمله, بل إنه وجد من القضية فرصةً اهتبلها؛ لينَفِّس بها من كربه, ويفرِّجَ بها غيظه الدفين.

_ 1 "مرآة العصر, لإلياس زخورة ص444, صحيفة الشباب العدد الثالث سنة 36. 2 تطور الصحافة المصرية ص195.

ومما قام في طريق "المؤيد" من عقباتٍ أن استدعي المرحوم حسن باشا حسني, من الأستانة لينشأ صحيفةً تقوم مقام "المؤيد" لدى الرأي العام, كي يتقلص بها ظل "المؤيد" وتفقد رواجها وشهرتها، وقد حضر حسن باشا حسني إلى مصر, وأنشأ صحيفة "النيل" تلبيةً لهذه الرغبة, ولكنها لم تنل من "المؤيد" ولم تقف بجانبها, وظلت "المؤيد" على مكانتها, صحيفة العالم الإسلاميّ التي يتطلع الناس إليها أعناقهم, ويمدون إليها أنظارهم. وقد حدث أن اتهم صاحب "المؤيد" بسرقة رسالة برقية, بعث بها "السردار" إلى ناظر الحربية, ونشرها "المؤيد" بحروفها, صبيحة ورودها, فلما عرض الأمر على القضاء أبرأ ساحته, وقامت على أثر براءته مظاهرات وطنية تهتف لصاحب "المؤيد" الذي حمله الجمهور على الأعناق, وتوافد عليه من الرسائل البرقية ما يكاد يبلغ الألفين1. تلك الحواجز التي قامت في طريق "المؤيد" لم تعثر خطاها, بل زادتها قوةً وإجفالًا, وبحسبك أن تقف على أطوار النمو للمؤيد؛ لتعلم أنها كانت مطردة القوة والحياة, فقد كان عدد النسخ التي تطبع منها في السنة الأولى, كل يومٍ لا يزيد عن 800 نسخة, وبلغ في السنة الثانية 1200, وفي السنة الثالثة 2000 نسخة, وظل على ذلك في الرابعة والخامسة, وفي السنة السادسة بلغ ما يطبع منها 2800 نسخة, وفي السابعة 4000 نسخة, وكان كذلك حتى شهر أغسطس سنة 1896م, وما انتهت القضية حتى كان متوسط ما يطبع منها في اليوم ستة آلاف نسخة, وأمّا ما كان يطبع منها في أثناء مرافعات القضية فإنه بلغ عشرة آلاف نسخة, كما بلغ مثل ذلك أيام حرب الدولة، وفي كثير من الأيام كان ما يطبع منها يتجاوز هذا الكم بألفٍ أو ألفي نسخة، وأما المتوسط الذي انتهى إليه ما يطبع كل يومٍ من "المؤيد" إلى آخر ديسمبر سنة 1897م

_ 1 مرآة العصر, لإلياس زخورة, ص444.

فهو ثمانية آلاف نسخة, وهي غايةٌ لم تدن منها صحيفةٌ ما, في جميع الأقطار العربية في ذلك الحين. خاتمة المؤيد: كانت صحيفة "المؤيد" في طليعة الصحف التي ناهضت الاحتلال, ونفخت في المصريين من روح عزمها وقوة مضائها، وخلال هذا النضال الذي تستمر فيه الأقلام, تَمَّ الاتفاق الودي بين فرنسا وانجلترا, في 8 من إبريل سنة 1904, وكان هذا الاتفاق صدمةً عنيفةً للمصريين, فقد نصّت المادة الأولى منه على أن انجلترا ليس في نيتها تغيير الحالة السياسية لمصر, والتزمت الحكومة الفرنسية من جانبها بأن لا تعرقل عمل انجلترا في هذه البلاد؛ وإذ ذاك بدأت صفحة جديدة في تاريخ الحياة المصرية, ودَبَّ اليأس إلى كثير من النفوس, وكان هذا الاتفاق عاملًا من العوامل الأساسية في تغيير الاتجاهات الصحفية, وتنكب أصحاب الأقلام عن سياستهم الأولى, لقد كانت نتيجة هذا الاتفاق فتور السماحة الوطنية في نفوس الكثيرين, وفترت معها شدة معظم الصحف الوطنية1. فتلك هي" الأهرام" تلتزم جانب الحيادة ولو إلى حين، وهذه هي "المؤيد" يلين أسلوبها, وتخف حدتها, ويهدأ تيارها، فترت الصحف الوطنية خلا "اللواء" التي كان مصطفى كامل يصدرها, فقد ظلت مشبوبة الروح, ثائرة الفكر, فياضة الحماسة. ولم تكن اللواء في مستَهَلِّ ظهورها؛ لتنال من مكانة "المؤيد" الراسخة المؤثلة, ولكن صاحب "المؤيد" التوى طريقه, وجنح إلى السلم قلمه, واستطاع الاحتلال أن يعطفه إلى جانبه, واحتفل الإنجليز بمقدمه يوم أن زار بلادهم

_ 1 تطور الصحافة المصرية ص191.

وقال في "لندن" كلمته المشهورة: "إن لندرة كعبة المصريين السياسية". من ذلك الحين تقلص ظل "المؤيد" وخفت صوتها, وانكمش مجدها, وبدأت تفسح الطريق للواء, تخفق في ربوع البلاد, فتخفق معه قلوب, وتهتز به مشاعر وأحساسات. ومما مَهّدَ لهذه الخاتمة, ما كان لاغتيال "بطرس غالي" رئيس الحكومة في 20 من فبراير سنة 1910 من أثر في التضييق على الصحف وحرية القول, فقد صدر بمقتل هذا الرجل ثلاثة قوانين, كانت حربًا على الصحف وحريتها, وشرعت صحف المسيحيين تفحم المسألة الدينية في سياستها, وتفيض بالعصبية والملاحاة. نعم, إن هذه المساجلات هيأت ثروةً أدبيةً خصبةً, وأنتج الأدباء والشعراء روائع الأدب وبدائع الشعر في تأييد وجهات النظر المتباينة, كما ترك هذا الخلاف كتبًا عربيةً وإفرنجيةً قيمةً1. ولكن قانون المطبوعات كانت هزةً عنيفةً أصابت الصحف عامة، وجرائد مصر مهما تباينت مبادئها، واختلفت مذاهبها, تتفق على انتقاد هذا القانون, وتقييد حرية الصحافة به2. أطلقت الحكومة بوحيٍ من الإنجليز يدها للتنكيل بالصحفيين وتعذيبهم, واتخذت في اضطهادهم ألوانًا شتى بين إنذار وسجن وتعطيل, وقد أصدرت أمرًا بتعطيل "اللواء" صحيفة الحزب الوطني؛ لأنها عينت محررًا مسئولًا دون حصولها على إذن بذلك, وعطلت صحيفة "العلم" مرةً بعد مرةٍ, ثم أمرت بتعطيلها نهائيًّا. ولم تقو الصحف على احتمال هذه الصدمات, وكان من أثر ذلك أن تنكبت طريقها, وتعثرت في سبيلها, وقد قررت جريدة "الشعب" أن إرهاب

_ 1 جريدة الوطن, في 8 من إبرايل سنة 1910. 2 جريدة الأهالي, في 17 يناير سنة 1911.

قانون المطبوعات ضيّق على الصحف, فأخذت تصور الرأي العام صورةً مشوهةً خوفًا من بطشه, كما جعل الصحف الإسلامية في تناقص, والقبطية في تزايد؛ إذ أغلق ستًا من الأولى, لم ينشأ على أنقاضها إلّا صحيفتان قبطيتان, هما: "الرقيب" و"الإقدام"1. ذلك هو الجو الخانق الذي تنفست فيه الصحف, وتلك هي الكوارث التي كرثت بها الأقلام التي طالما شرعت رماحًا دينية، لم يطب للمؤيد في هذا الجو جهادًا, ولم يسع لصاحبها فيه حياة, فأصبحت شركةً بينه وبين غيره, واتجهت اتجاهًا جديدًا لا قوة ولا حياة فيه, وتخلى عنها الشيخ: علي يوسف, في سنة 1913, بعد أن أصبح شيخًا للسادة الوفائية, وبيعت أدواتها في 17 أبريل سنة 1916, فأختتمت بذلك تاريخها الحافل, ومجدها العظيم. مكانة المؤيد وصاحبه: بلغت المؤيد مكانةً تتقاصر دونها جميع الصحف العربية في عصرها, وانتهت من الشهرة إلى ما عجزت عنه آمال الصحفيين المعاصرين، وبلغ صاحبها منزلةً تتقصف دونها أعناق الرجال, فقد كان يرمى بالأصابع, وتخفق القلوب عند ذكره, أو الحديث عن صحيفته، وقد قالت "الأجبشيان غازيت": قَلَّ أن يوجد بين الصحفيين من يستطيع الوقوف إلى جانب المؤيد, ولا يوجد ذومسكة من العقل لا يضع الشيخ عليًّا يوسف في أعلى طبقة من طبقات رجال الصحافة, فإنه تمكن بالجدِّ والاجتهادِ والمثابرةِ من إيصال جريدته إلى درجة "التيمس" لا في العالم العربيّ فقط, بل في جميع العالم الإسلاميّ2 وكثيرًا ما كانت تسمى: "تيمس الشرق".

_ 1 جريدة الشعب في 8 من مايو سنة 1912. 2 تطور الصحافة المصرية ص 196.

ويقول لطفي السيد باشا: "لو وجد في مصر كل يومٍ مائةُ صحيفةٍ, وأخرج معهد الصحافة كل يوم مائة أستاذ, فلن يوجد في مصر صحفيٌّ مثل علي يوسف, ولا صحيفة مثل المؤيد" ولطفي السيد من شيوخ الصحافة والأدب, فقد أخرج من قبل صحيفة "الجريدة" ومجلة "الشرائع". ويقول الدكتور تشارلز أدمس, صاحب "الإسلام والتجديد": "أما الشيخ علي يوسف, فقد كان صحفيًّا ماهرًا, له دهاء يشوبه المكر أحيانًا, وقد رفع "المؤيد" إلى مقام الصدر في العالم العربي"1. ويقول جورجي زيدان بك: "جريدة "المؤيد" أشهر الجرائد الإسلامية, وأوسعها انتشارًا في أنحاء العالم الإسلاميّ"2. ويقول المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري: "ويسير "المؤيد" ويذهب صيته, لا في مصر ولا في العالم العربيّ فحسب, بل في العالم الإسلاميّ كله, فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله, والمترجم أفصح ترجمة عن آلامه وآماله, متحدث أخبار المسلمين وراويها, وملتقى أفكارهم في أقاصيّ الأراضي وأدانيها". لا يرحل الناس إلّا نحو حجرته ... كالبيت يفضي غليه ملتقى السبل3 أسلوب صاحب المؤيد: قلنا: إن صاحب "المؤيد" بدأ كتابه بمجاراة كُتَّابِ العصر, ولكنه لم يلبث بترويض قلمه وتدريب بيانه, أن استقام له بيانٌ مشرق عذب, ما زال ينصقل ويعلو حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ في هذا الضرب من البيان, وحتى سوّى لنفسه أسلوبًا كتابيًّا لا عهد للناشئ به من قبل ولا من بعد حتى الآن"4.

_ 1 الإسلام والتجديد ص217. 2 تاريخ آداب اللغة العربية ج4 ص279. 3 الشيخ عبد العزيز البشري في مجلة الرسالة, المجلد الثاني من السنة الثانية ص1769. 4 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص375.

كان يجمع في كتابته بين انطلاق الأسلوب وسلامته, وقوة الكلام ومتانة رصفه, وقد وافاه من نفاذ الحجة ومضاء البرهان في حواره السياسيّ ما لم يتوات إلّا القليل من الكتاب, كان شديد الهيمنة فيما يكتب, نافذ السطوة, قويّ الأخذ, وإنك لتقرأ له المقال يفتنك ويروعك, وتشعر أن أحدًا لم ينته في البيان منتهاه, ثم تقلب صحيفته وتفتشها, فلا تكاد تقع على شيء من هذا الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبًا, وعلى الأصح, لقد خط قلمه القويّ النهج من البلاغة غير ما درج عليه الناس من منازع البلاغات1. كان يجمع الموضوع من أقطاره, وتشفى الغلة باستيفائه, ويسمو بسطوة قلمه على كل كاتب فحل، وقد أثر عنه أنه كان فيّاض الخاطر, متدفق المعاني, سريع الكتابة لا يتوقف ولا يتردد, ثم يدفع بالمقال فإذا هو سَويّ لا عوج فيه, ولا تجد المراجعة إليه منفذًا، وكان مما يشاع عنه -وعي الخصوم أن يكونوا من أشاع- أنه يقول: أنا لا أبالي أن أخسر هذا البلد, ففي إمكاني إن أعود فأكسبه بثلاث مقالات, فإن صحّ هذا القول إليه, فثقة أحسها في نفسه, فزها بها ودل, وما خسر البلد وما خان، وإن كان خصومه هم الذين تَقَوَّلُوا عليه, فإنهم لم يجردوه فيما وصفوه من فضله الذي امتاز به. نموذجًا من كتابته: مما كتبه مفتتحا به صحيفة المؤيد: علمنا الدهر بمطالعة الأخبار, ووعظنا وجلًا عن قلوبنا ظلمات الجهل, فبان لنا أن أعمال السلف مدرسة الخلف, نتلقى فيها أن خدمة الأوطان من أوجب الواجبات, وألزم الفرائض, مَنْ أضاعها قضت عليه شريعة الطبيعة بالحرمان الأبدي, والشقاء الدائم, فمقصدنا من نشر "المؤيد" تأدية ذلك الفرض عن طهارة طويلة, وإخلاص نيةٍ, وإنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ

_ 1 الشيخ عبد العزيز البشري في مجلة الرسالة, المجلد الثاني من السنة الثانية ص1768.

ما نوى, ولكل عامل وجهة يقصدها, عليها يكون الجزاء, وليس في عمل العاملين ولاجد المجدين أبرأ ولا أفضل من نصيحة مستنصح, وإرشاد مسترشد, ومادام الكل في حاجة إلى التعاون والمشاركة, فلا غنًى لهم عن تبادل الأفكار، ومعرفة الأخبار مما ينعو إليه صلاح شأنهم, وقوام معيشتهم، والناس رجلان، حاكم ومحكوم, وبينهما مطالب متبادلة, وحقوق متكاتفة, إن سكت عنها مديح المقال أبان عنها لسان الحال, ووظيفة الجرائد الصادقة في البلاد شرح مطالب الفريقين, وترجمة أفكار الهيئتين, و"المؤيد" جريدة وطنية, يقصد أن يكون على هذا المبدأ سفير الخير وبريد المطالب، وكما أنه سيشرح إحساساب الهيئة الحكومة مجتهدًا في إظهار ما بزو إياها من خفايا الحاجات, بين يدي الهيئة الحاكمة, وإن كانت هي أوسع علمًا, وأصدق خبرًا, وأطول باعًا, وأدرى بطبائع الأوقات, وأعرف بمواقع الحاجات, فلذلك يبين للأمة ما يحسن فيه الطلب, وينال به الأدب, ويسمع به النداء, ويقبل عنده الدعاء, ويكون به استجلاب المنافع, ومنه دفع المضارِّ غير ناكث عهد, أو لا خافر ذمة. وكيف نحن بعض من نطالب بحاجاتهم, ونعمل للحصول على مرضاتهم, ومهما جد سوانا في خدمتنا واجتهد, أو هجرت عينه الغمض, فلا تقوم النافلة مقام الفرض, وليس من المروءة أن نشارك من جاد علينا بخدمة الوطن, وندع نواظرنا لفتور الوسن. فما الناس إلّا يقظة, فإذا غفت ... عيونهم داستهم حمر الناس فبالعين يُكْفَى المرء صدمة عاثر ... وفي العين يهوي من ثغا فلما الناس فلا يسعنا إلّا أن نقوم بهذا الواجب, معترفين لمن سبقنا له من فضل السبق, وأحقية الشكر على ما أدوه من الخدمة الجزيلة في هذه البلاد. فإليكم يا بني مصر, جريدة نشأت في مهد الإخلاص, حميدة المبدأ والغاية, تناجيكم ولا تسر النجوى لسواكم. ومما كتبه في المؤيد بعنوان: "لا تعصب في مصر":

"التعصب بالمعنى المعروف في الغرب عن أهل الشرق, وبعبارة أخرى عند المسيحيين, هو ابتثاث روح العداء والبغضاء من الآخرين ضد الأولين ابثثًا يحمل على الاعتداء عليهم حينًا بعد حين، والتعصب بهذا المعنى رذيلة من الرذائل التي ينهى الدين الإسلاميّ والقوانين الاجتماعية عنها، وفي نظر الأوربيين هو التوحش الذي يفتك بنفوس الأبرياء كُلَّمَا ثار ثائره، وهو أشبه بالقول الكاسر الذي يندفع بعماية فيفترس كل ما في طريقة من نفوس البشر, والتعصب على هذا, مجموع أرواح شريرة, ولا نظام لها في ثوراتها وعدوانها, نعوذ بالله من أن ترزأ أمة بهذا البلاء العظيم، قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبًا دينيًّا، ومعنى هذا أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهةً عمياء، ويعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية كلما سنحت لهم فرصة الافتراس, أو استفرزهم صائحٌ في البلاد, من قديم الزمان أديان مختلفة يتجاور أهلوها في المنازل, ويتشاركون في المرافق, ويتناقلون في الأعمال, فلم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة، ولو كانت في فطرة المسلمين, أو فطرة الفرقين لمحت الأكثرية الأقلية. ..أيها المدَّعُون! راقبوا الله في أمة رزئت بالإهمال في شئونها, حتى انحلت عرى الجامعة بين أفرادها, وذهب منه ريح الصعبية في كل شيء, فحرام عليكم مع هذا الانحلال أن تتهموها بالتعصب في أشد حالاته. ومماكتبه ردًّا على خطبة اللورد كرومر, عميد الدولة البريطانية إذ ذاك, وهي الخطبة التي ألقاها في حفلة وداعه. تقفو والفلك المحرك دائر ... وتقدرون فتضحك الأقدار وقف الخطباء مساء السبت الماضي موقف الممثلين في دار التمثيل الكبرى -الأوبرا الخديوية- يحكمون على الماضي والمستقبل حكم الأقدار في الكائنات, يبرمون وينقضون، ويرفعون ويخفضون, والناس يسمعون مختارين أو مكرهين، ولو أن الموقف كان حرًّا لكل قائلٍ لسمعوا ما يكرهون, كما قالوا

ما يحبون، قلنا إنهم وقفوا موقف الممثلين؛ لأنهم كذلك في حقيقة الواقع, وقد مثلوا آخر فصل من رواية كثيرة الحوادث, عديدة الفصول, طويلة الزمان, بطل وقائعها وفارس معمعانها ذلك الذي كان آخر الخطباء في الحفلة كلامًا, وأشدهم إيلامًا وأكثرهم آلامًا. وقف ليمثل آخر سلطة له في هذه الديار, ولسان حاله يقول: مافي وقوفك ساعة من بأس. مثلها في مكان هو أليق ما كان عظة لقائل, أو مظهرًا لسلطان راحلٍ ومجدٍ زائل، وأصدق ما ضرب له الأمثال "لكل مقام مقال". ... وقف خطيبًا وهو يدافع كيد السقام, ويجاذب داعي الخصام, فجال في خاطره أن مفارق قصرًا تجري من تحته الأنهار، وملكًا خضع له فيه الليل والنهار, وتارك خصومًا قد يتوهمون أنهم نازعوه فغبوه, أنه حالمهم فأغضبوه, اللورد وله نفسان، نفس نزَّاعة إلى حب اللقاء, وأخرى تقول: كيف البقاء بعد الاستعفاء، وقد ذكر أصدقاءه القليلين كما يعلم, وأعداؤه الكثيرين كما يتوهم, فرؤساء وترخص, وتشدد وعدد وندد, ووعد وتوعد, وأرغى وأزيد, وحذّر وأنذر, وحكم وقدر. ربما أخرج الحزين جوى الحز ... ن إلى غير لائق بالسداد مثلما فاتت الصلاة سلميا ... ن فانحى على رقاب الجياد نشرت بالمؤيد في 7 من مايو سنة 1907م.

الأزهريون والصحف الحاضرة

الأزهريون والصحف الحاضرة: بَيَّنَّا فيما سقناه من بحثٍ ودراسةٍ أثر الأزهريين في نهضة الصحف في العصر الحاضر, وما أدوه لها من خدمات أجدت على الأدب واللغة والاجتماع, وأثرت في النشاط الفكريّ تأثيرًا ملموسًا. ولا يزال كثير من الصحف والمجلات العربية في مصر تقوم على سواعد الأزهريين, وتزخر بأفكارهم, وتشرق بآدابهم, ومن هؤلاء: الشيخ علي الغاياتي, الذي جاهد منذ قديمٍ مع الحزب الوطني, وكان في هذه الفترة قد أخرج ديوانًا من الشعر سماه: "وطنيتي" سجَّل فيه حوادث مصر في عامين, وكتب مقدمته المرحومان: محمد بك فريد، والشيخ عبد العزيز جاويش, وكان في الديوان قصيدة قاسية موجهة إلى الشيخ علي يوسف وجريدته "المؤيد", فنشر صاحب "المؤيد" في جريدته عدة أنهر عن هذا الديوان, وكان فيما نشره دعوة خفية يثير بها النيابة على الشيخ الغاياتي, ومن قدّم ديوانه1. فلبَّت النيابة هذه الدعوة, وتولت التحقيق مع ناظم الديوان ومقدميه, وحكم على الشاعر بالسجن إلّا أن الشيخ الغاياتي هرب من سجنه إلى الأستانة, ومنها إلى جنيف؛ حيث قضى بها سبعةً وعشرين عامًا, أصدر فيها صحيفة عربيَّةً فرنسيةً, في سنة 1922, سماها بالعربية: "منبر الشرق" وقد ختمت حياتها في جنيف بعد أن اقتصرت على الفرنسية في سنة 1937م, وعادت تصدر في القاهرة في سنة 1938م, مستقلة الهوى والرأي, وفيها طرف من الأدب والسياسة والعلم والاجتماع.

_ 1 منبر الشرق في 6 مايو سنة 1938م.

مجلة الرسالة: ويصدر مجلة الرسالة الأديب الفذ الأستاذ أحمد حسن الزيات, الذي وضع الثقافة الأزهرية, ودرس علوم الأدب واللغة على المرحوم الشيخ سيد بن علي المرصفي, ولهذه المجلة مكانة مرموقة في مصر والعالم العربيّ, وطالما نشرت الأدب والعلم والفن, وجرت بها أقلام أعلام البيان العربيّ, وفي مقدمتهم صاحبها, وكثير من أدباء الأزهر؛ كالدكتور طه حسين, الذي ظل ينشر بها مقالاته الممتعة ردحًا من الزمان. مجلة الثقافة: ويصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر, برياسة الأستاذ أحمد أمين, أحد الأزهريين النابهين الذين قامت عليهم مدرسة القضاء الشرعيّ التي هي فرعٌ من واحة الأزهر، وهذه المجلة ميدانٌ للأدب الرفيع, تصول فيه أقلام الأدباء المطبوعين, وفي مقدمتهم طائفة أزهرية الثقافة, واعتمدت عليهم مدرسة القضاء الشرعيّ. مجلة الكاتب المصري: ويشرف على تحريرها عميد البيان العربيّ, الدكتور طه حسين, وهو الأزهريّ الذي يفاخر الأزهر به؛ إذ كان أنبه الأزهريين الذين أدخلوا الجامعة المصرية القديمة أول إنشائها، وكثيرًا ما حرَّرَ مقالاته الممتعة في الصحف والمجلات من سنين طوالٍ خلت؛ كالسياسة الأسبوعية والبلاغ

الأسبوعيّ, والمصور, ولا يزال إلى اليوم يتحف القراء بفصولٍ عذبةٍ في الأدب والسياسة في "الكاتب" والبلاغ اليوميّ وغيرهما من الصحف. هذا وإن غير هؤلاء كثير من أدباء الأزهر؛ كالدكتور زكي مبارك, والأستاذ أحمد الزين -رحمهما الله، والأستاذ كامل الشناوي, يمدون الصحف والمجلات بالنشر الرائع, والبحث الممتع. وكثير من الأزهريين تعتمد عليهم هذه الصحف في تصحيح مقالاتها, وتنقيتها من الأخطاء العربية, فتخرج مجلوّةً نقيةً من الأخطاء والعيوب. مجلة الأزهر: وإنه وإن تكن مجلة الأزهر التي كانت تصدر من قبل باسم: "نور الإسلام" تفيض بألوانٍ من العلم والأدب, وتذخر بأشتاتٍ من البحث القيِّمِ, المعتمد على الصحيح من العلم, والدقيق من الفهم, والغزير من المادة, إنها وإن تكن كذلك, تغلب عليها النزعة العملية, وبحوث الفقه, والبلاغة, والتفسير, والحديث, وغيرها تستاثر بجانبٍ فسيح منها, والوعظ والإرشاد, والإفاضة فيما تختص بكثير من فراغها, وذلك عدا ما تنشره من فتاوى فقيهةٍ لها أهمية بالغة. كل ذلك لم يدع للأدب والأدباء الأزهريين إلّا سطورًا لا تتسع للنشء المتأدبين, إلّا بعد جهد ومثابرة, وكان من واجب القائمين عليها أن يجعلوا من صحفاتها الكثيرة, للأدب والأدباء نصيبًا, وخاصة الشباب الأزهريين, الأدباء الذين تحفى أقدامهم من التردد على الصحف والمجلات الأدبية, فيردون عنها ردًّا لما أنًها لا تفتح أبوابها إلّا للشفاعات, ولمن تردد أسماؤهم على الشفاة بطول الزمن، ولربما وجدت هذه القرائح المشبوبة، وهذه الأقلام الفتية, ما يطرب ويعجب, ولكن دون ما يريده الناشئون حجاب وحجاب.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الخطابة في العصر الحاضر ... الخطابة في العصر الحاضر: كانت الخطابة في العصر السابق ضعيفة مخلة يلتزم فيها السجع، ولا تعتمد على الارتجال بل تتلى في ورقة أو ديوان، ثم هي مقصورة على الجمعة والعيدين وغيرهما من المواسم الدينية، وقد ظل هذا طابعها عصر محمد علي أيضا لم تجد في المواقف الرسمية أو غيرها احتفالا بشأنها ولم ينهض الأمير أو رجال الدولة بها، فالدولة إذ ذاك تركية النشأة. وإذا كانت الخطابة تعتمد على الملكة ووفرة الأسلوب، وروعة البيان فقد عدم كل ذلك أوائل هذا العصر حتى أن الجيش الذي تنفق فيه سوق الخطابة لتهيئة النفوس وإرهاف الحس، وإثارة الخواطر والذي طالما تحركت به الألسن وأذكيت المواهب لم يقم على قيادته، وتعليم كتائبه إلا نفر من "الطليان" وغيرهم من ذوي العجمة والرطانة كما كان تلامذة مدرسة الحربية إذ ذاك من أبناء المماليك وهم غرباء عن العربية، وقد بقيت روح الجيش وصبغته تركية أو قريبة منها إلى عهد قريب حين أعلنت مصر استقلالها. الخطابة من عهد إسماعيل: ازدهرت الخطابة في عصر "إسماعيل" حين شاعت الحرية وذاعت الصحف، وأنشئت الجمعيات والأندية السياسية والأدبية واستيقظت الأفكار، وهبت الأمة تطالب بحقوقها وتذود عن مجدها، وكان الأثر أبلغ الأثر في إنهاض الخطابة للحكم الشورى، وما استلزمه من المجالس النيابية التي تعتمد على إثارة الرأي والذود عن ومجاهدة الخصم بالحجة والبيان ولقيام الأحزاب وتناحرها، واعتمادها في نشر دعوتها ومناهضة منافسيها على الخطابة التي هي أداة الإقناع، ووسيلة البلاغ للرأي العام. وقد قدم إلى مصر الزعيم "السيد جمال الدين الأفغاني"، فكان

كعبة حجها الشباب الحافل بالأمل والتوثب الطامح إلى الحرية والمجد، والتف حوله من تلاميذ الأزهر النابهين طائفة كان لها أعظم الأثر في نهضة مصر الوطنية والثقافية من أمثال "الشيخ محمد عبده" وسعد زغلول، فبعث فيهم "جمال الدين" روح الحياة الكريمة، وتجاوب مع أرواحهم الطامحة شعوره وتوجيهه، وأذكى في نفوسهم حب الوطن والذود عنه ونقد لهم أساليب التعليم وعكوف المتعلمين على الألفاظ، ثم أخذهم بأسباب الارتجال ومرسهم بالنقاش والجدال، والوقوف بجانب الحق تنافح عنه الحجة ويحمي حماه الدليل، فتفتحت أذهانهم ولانت بروائع القول ألسنتهم وشغفوا بجمال الدين حبا، وأشربوا رسالته، فبثوا أفكاره وتحدثوا عن الأخلاق والاجتماع، وتجاوزوا ذلك إلى الحديث في السياسة وشئونها، فألفوا جمعية سرية "بحلوان" لهذا الغرض، ولكن حكومة إسماعيل تفتحت عيونها على خطر هؤلاء، فكبحت جماحهم وقبضت عن "جمال الدين" يدها التي كانت تمتد إليه بعشرة جنيهات كل شهر تقديرا لفضله، ولم تطق بقاءه بمصر فنفته إلى مكان سحيق ولم تكن هذه الشعلة التي أوقدها الأفغاني ليخبو نورها بنفيه من مصر، فقد ظل فريق من تلامذته وعشاقه ينشرون دعوتهم ويؤيدون بالخطابة والاجتماع فكرتهم، وألفوا لهذه الأغراض الجليلة جمعيات غذوها ببيانهم وأنهضوها بأفكاهم. وإذا كان "إسماعيل" على رغم حبه الحرية مخوف الجانب مرهوب البأس، فإن "توفيقا" عرف بالتسامح ولين العريكة، وذلك مما هيأ لهذه الحركات الفكرية تربة خصبة نمت فيها وترعرعت وأتت أكلها، ولم تزل جمرات الفكر تتأجج في عهده حتى اشتعلت الثورة العرابية، فهزت القرائح وأجرت البيان، ولكن كانت هذه الثورة وبالا على مصر وحربا على أهلها، فقد أثمرت غير ما رجى منها فبسط الاحتلال على الوادي ظلاله وفرض على الأمة سلطانه، وخنق الحريات الناشئة وحول التعليم إلى أداة حكومية لا تمت إلى الثقافة المرجوة بسبب.

وشاء الله أن يقيض لمصر من فل حد الظلم ورد كيد البغي، وأثار في الأمة روح الذود والنضال، فهبت تسترد مجدها وتعيد ما غصب من حقها، وكان في طليعة هؤلاء الذين هبوا في وجه البغاة باعث النهضة وبطلها الأول المرحوم "مصطفى كامل" صاحب "اللواء" و"العلم" وغيرهما من الصحف فقد كان جذوة من الشعور الثائر، والجهاد المتقد. اتخذت الخطابة في هذه الفترة شتى المظاهر، ومختلف الألوان والأساليب فهذه خطب سياسية قارصة وتلك أندية أدبية واجتماعية وعلمية يقوم بها الخطباء والمحاضرون في الأدب والاجتماع والعلم، ويرودها من الأمة وشبابها طوائف وأشتات، فكثرت المرانة على القول، وتخرج في هذه المدارس خطباء مصاقع هذبوا العبارة وجودوا الأساليب. وكان من مظاهر الخطابة أيضا التقاضي أمام المحاكم والمساجلات التي تجري بين هيئة الدفاع والنيابة، فقد كانت أسواقا تزخر بالأساليب القوية والحجج الدامغة والمنطق الرصين، كما كان من مظاهرها التمثيل الذي يدور في كثير من مواقفه على الأسلوب الخطابي الفصيح ليؤثر في النفوس، وتذعن للغرض النبيل الذي تدعى إليه. وفي سنة 1919م اندلعت نار الثورة الوطنية في مصر، فألهبت الخواطر وأرهفت الحس واستدعت الأحكام العرفية والسيوف المصلتة على الرقاب أن يفزع أولوا الغيرة على الوطن النافرون من البغي، فصالوا بالقول وجالوا بالخطاب وألهبوا العزائم وخلقوا من الأمة جمرات تتقد، هذه الثورة حلت الألسن من عقالها وسلت من البيان سيوفا مواضي. وكان الأزهر منبرها وأبناؤها لسنها المقاويل، وسعدت مصر في هذه الفترة بالخطباء الفحول. ثم قدر لهذه الثورة أن تسكن أولئك الفورة أن تهدأ، واستقر نظام كان مضطربا وانقشعت الحماية عن مصر وعبد الطريق لاستقلال لا نزال نمضي في سبيله ونجهد لنيله، واستجدت للخطابة مظاهر أخرى كان من بينها المناضلة

في الانتخابات للمجالس النيابية، يقوم المرشح أو فريق من ذويه وأنصاره فيرسمون للناخبين طريق جهادهم وما اعتزم النهوض به من برامج الإصلاح العام والخاص مع تزكيته لمبدأ المرشح والحزب الذي ينتمي إليه وتعريج على الخصم بنقد خطته، وتجريح حزنه وطريقته ونشر متتاليه والتهويل فيما يعود على الناخبين من الغنم والخير باتباع المرشح، وما ينالهم من الشر والخسار باتباع خصمه، وأما المجالس النيابية فكثيرا ما تدور المناقشات فيها على الخطاب الرزين والبيان السهل، والحجة الدامغة، والبرهان المحكم، ولكل حزب من الأحزاب تحت هذه القبة خطباء يدفعون عن خطتهم، ويهجمون على معارضيهم ويصولون بمساجلات يذخر لها البيان سلاحا والمنطق عدة والأمة ترتقب ما في هذه المصاولات لتحكم فتعلى فريقا وتنزل فريقا. ومن مظاهر هذه الخطب، والخطب النيابية الارتجال والمناقشة، فلا تجد أحدًا من هؤلاء يعمد إلى ورقة يتلوها إلا في المواقف الرسمية والبيانات الدقيقة، وما سجل من ماض أو بحث تعيا الذاكرة بوعيه.

الأزهر والخطابة

الأزهر والخطابة مدخل ... الأزهر والخطابة: للأزهر بحكم زعامته أو رسالته لواء معقود، ومقام محمود، في جميع الأزمان والعهود له في الدفاع عن الدين والوطن فضل ظاهر وأثر ملموس، وله في توجيه الحياة مكانة لا تجحد، وهو في كل هذه المعاني مبرز بما هو له من قوة الملكة وفصاحة الأسلوب وحسن البيان، والهيمنة على السامعين في كل مجتمع وناد، وقد كان الأزهر ولا يزال عكاظ الأمة العربية وميدان فرسان البلاغة، وقد تهيأ لكثير من الأزهريين من طول المراس واعتياد القول، ومعاطاة الحوار والوعظ والجدل رصانة في الأسلوب، ودقة في التعبير وسمو في البيان وطلاقة في اللسان، وفيض في الخواطر وتدفق في المشاعر،

واقتدار على المباغتة والمفاجأة، وإنك لتسمع إلى خطبائهم البارعين، فيخيل إليك إنك تسمع في البادية عربها الفصحاء، ومقاويلها البلغاء، ويفتنك من هؤلاء مطاوعة اللغة لهم، ومساعفة البيان لتصرفهم، وجرى التعبير على أسلافهم. يخطبون فيتسابقون ويرتجلون فيتنافسون، والخطيب الخطيب منهم هو الذي تنعقد له الزعامة ويرفع له لواؤها؛ لأنه الحرى بتمثيلهم القمين بشرف نيابتهم ولو واتت المواهب مجتمعة واحدا منهم، ثم كان غير مبدع في البيان ولا متمكن من القول لا يبهر إذا خطب ولا يقهر إذا جادل، ولا يملك زمام الأسماع إذا ارتجل أو أعد، لو واتت المواهب أحدهم ثم مسه من العي شيء لاستعصت عليه الزعامة، وتأبى عليه ما يطمع فيه من تقدم وقيادة. يقف الخطيب منهم فتجده أغلب ما تجده لا يتلكأ ولا يتلعثم، ولا يعيد قولا أو يكرر جملة أو يمسح عثنونا، رصين الأداء، بليغ الحجة، سليم العبارة، محكم الدليل، يزين خطابه در من كتاب مبين، ويشرق في حديثه أدب نبوي رفيع، ويلمع في جنباته روائع من أدب العرب وشعرهم من طول ما أخذ به من التروي، وما ذخرت به ذاكرته من الآثار. ولقد أجرم بأنك تستطيع تمييز الأزهري من غيره إذا خطب دون أن يميزه زي، أو إعلان بما تتوافر له من التجويد وطول الاقتدار. هؤلاء هم اللسن المقاويل، وتلك مكانتهم من الفصاحة، وفي هذه البيئة تخرجت طائفة رفعت لواء الخطابة، والسياسة، والخطابة السياسية الدينية، والاجتماعية، والخطابة الفضائية. وقد أجدى نظام التخصص في تعليم الأزهر في تبريز فريق من الأزهريين واقتدارهم على الخطابة، وإنك لتجد من أبناء كلية اللغة العربية، والمتخصصين في اللغة وآدابها شبابا تحمد طلاقة ألسنتهم وفصاحة تعبيرهم، وتدفقهم في كل موقف ومناسبة كما يطالعك من المتخصصين في الدعوة والإرشاد أفذاد من

الطلاب جودوا الخطابة الدينية وتوفروا على إتقانها والتمهر فيها، وإن كنت لا تعدم في فروع الأزهر الأخرى من هم مثل هؤلاء فصاحة بيان، وفيض أسلوب إلا أن اشتغالهم بالعلوم البعيدة الصلة عن العربية، وآدابها جعلهم دون إخوانهم الآخرين عددا وعدة.

الأزهر والخطابة السياسية

الأزهر والخطابة السياسية: أهم الأحداث السياسية والهزات الأرضية التي رجت المجتمع المصري في العصر الحاضر، غزو الفرنسيين لمصر والثورة العرابية والثورة الوطنية التي شبت في سنة 1919م. هذه هي الحوادث الجلي التي كان لها أبلغ الأثر في توجيه الحياة السياسية والأدبية بمصر في العصر الحاضر، وقد حمل الأزهر لواء الزعامة في هذه الثورات، وقام عليها يغذي الشعور ببيانه وخطابه، ويوجه الرأي بقيادته، ويلتمس الشعب في كلمته الهدى، وفي حمايته الأمن والنجاة: زمن المخاوف كان فيه أجنابهم ... حرم الأمان وكان ظلهم الذرا1 الغزو الفرنسي: غزا الفرنسيون مصر سنة 1789م، فلم يبالوا بالقوة المادية للشعب إذ هو منهوك القوى في عصر المماليك أعزل من كل سلاح، ولكنهم خشوا قوة الإيمان في نفوس العلماء، وأثرهم النافذ في روح الشعب وكلمتهم التي كانت توقظ الأمة وتحيي العزائم، وكان منبر الأزهر مقر قيادة المجاهدين تفد

_ 1 الذرا الملجأ والبيت للمرحوم أحمد شوقي بك.

الوفود وتحشد الحشود والناس في غمرة الأحداث، وحيرة المحن فيرتقي المنبر علماء الأزهر وشبابه المتفجرون بلاغة المتقدمون عزما وحماسة، فتهدر شقاشق وتزأر حناجر، وتفيض بلاغة، ويتدفق شعور، فإذا الجبن إقدام والتردد وثوب، وإذا الصدور تملأ إيمانا بالجهاد وحبا في بذل النفس والفداء فيندفع الناس كالسيل لا يخشون في الحق أذى، ولا يرهبون النضال ولو طاحت رءوس وتناثرت أشلاء. كان ذلك من فعل البلاغة في النفوس وأثر الإقناع بالحجة والدليل، وكان ذلك من روح النداء الذي عرفوا به، والإقدام الذي كان لهم سمة وطبعا. أدرك الفرنسيون خطر الأزهر في توجيه الشعب، وعرفوا مكانة أبنائه ومبلغ أثرهم في الأمة ببيانهم وإيمانهم فراحوا يتقربون إليهم، ويؤلفون ديوان القضاء منهم، ويخطبون بكل أسلوب ودهم بالتزيي بزيهم طورا وإعلان الإسلام طورا آخر، ثم بالمصاهرة إلى المسلمين طلبا لرضاهم واستمالة لهم وراحوا يذيعون المنشورات نشدانا للهدوء باسمهم، ويستجيبون لرغائبهم إذا ما استنجد الشعب بهم لرفع مظالمهم، وتحقيق مطالبهم. كان الأزهر وحده هو الذي يحفل إذ ذاك بالخطابة ويجعلها أداة إقناعه، ووسيلة بلاغه وسبيل توجيهه للأمة في ذلك الحين، وكم فاض هذا المنبر بآيات من البيان من خطب رائعة وشعر كريم، وكم تفتحت القرائح واهتزت الأفكار بما أبدع فيه هؤلاء الفصحاء من أساليب البيان. الأزهر والثورة العرابية: كانت الأسباب التي أدت إلى الثورة العربية سنة 1881م راجعة إلى تبرم المصريين بالحكم القائم الذي قوامه استبداد الحكام واضطهاد الشعب، وكان انتشار التعليم، واستنارة الأفكار قد هذب النفوس، وسما بها إلى طلب الحياة

الكاملة والحرية الشاملة والفرار من البغي، وكثيرا ما أذكت الشعور خطابة الخطباء في المحافل والمجتمعات، وهيأت الأذهان قصائد الشعراء ومقالات الكتاب، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء الذين هزوا الأفكار، وأيقظوا العقول وحضوا على الحرية إنما هم خطباء الأزهر وشعراؤه وكتابه. وكانت لمدرسة الأفغاني ودعوته إلى الحرية ومشايعة تلامذته له أمثال "الشيخ محمد عبده" و"سعد زغلول" و"النديم" و"الهلباوي" أثر خطير في تهيئة أهله ومحاربتهم بشتى الوسائل ومختلف الأساليب. أحمد عرابي باشا: وكان ظهور "أحمد عرابي" من الأساليب المباشرة في ظهور الثورة، ولا غرو فهو حامل لوائها وقائد زمامها وإلى اسمه نسبت، وفي شخصه تمثلت1 كان أحمد عرابي ضيف الثقافة لم ينل منها إلا حظا يسيرا، ولم يتوفر على دراسة خاصة حينا من الزمان تكفل له اللحاق بالزعماء الواسعي الثقافة والإدراك، فقد حفظ القرآن في صغره، وأخذ عن أخيه الأكبر مبادئ الحساب وتحسين الخط ثم تلقى بعض اللغة والعلوم الشرعية في الأزهر، على أنه لم يكمل علوم الأزهر فإن مدة تحصيله فيه لم تزد على أربع سنين2. ذلك هو حظ عرابي من الثقافة في صغره، ولم يلتحق بعد هذه الفترة بمعهد أو بمدرسة ولم يتوفر على دراسة خاصة يكون لها أثر في نفسه بل انقطع عن التعليم إلى أن اقترع، ومضى في مراتب الجندية فكل ما تقف به إنما هو من ثقافة الأزهر، فإذا نسبت الثورة إلى زعيمها، واقترنت باسمه وأضيف إليه ما خلفته من آثار فكرية وأدبية، فإن الثورة العرابية المنسوبة إلى عرابي الأزهري، أزهرية في قيادتها ونتائجها الأدبية.

_ 1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص77. 2 الثورة العرابية لعبد الرحمن بك الرافعي ص81.

وقد وصف الأستاذ الإمام أحمد عرابي بقوله: "أجرأ إخوانه على القول، وأقدرهم على إقامة الحجة1". ومما أمتاز به "لسان ذلق وصوت جهوري وترسل في الحديث، واستشهاد بالآيات والأحاديث النبوية والحكم المأثورة، وبعبارة أخرى أنه كان خطيبا لبقا فصيحا2". على أن الثورة العرابية أزهرية في معان أخرى فقد وجدت من الأزهريين أعوانا وجندا، ولقيت منهم أنصارا بالقلب والجنان، والفكر والبيان، والجهد والتوجيه والإرشاد. كان جل الصحافة القائمة إذ ذاك والتي تتجه متجه الثورة، وتذود عنها صحفا أزهرية في تحريرها أو الإشراف عليها، فتلك هو الوقائع المصرية في رعاية الشيخ محمد عبده، وأعوانه الأزهريين وصحف النديم وغيره تؤيد ما ذهبنا إليه. ووجدت الثورة العرابية من الأزهر شعراء ينظمون في إذكائها روائع، ومحكمات والأزهريون يومئذ عمود الشعر وقوامه، ووجدت منهم خطباء يلهبون الإحساس ويضرمون الشعور، فهذا هو السيد عبد الله نديم الذي عرف "بخطيب الثورة" كانت نفسه ثائرة متطلعة إلى المجد وحياة الحرية، وكان أكبر عضد الثورة العرابية وكان فيضا من الخطابة متدفقا لا يكل لسانه، ولا يغبض بيانه حتى إنه ليخطب في المجلس الواحد خطبا قد تبلغ خمسا، وهو في أخراها كأولاها لا يكرر قولا ولا يعيد حديثا، وكان مثار العجب من تدفقه، فقد يكون في رحلة مع عرابي فيلقى على كل محط خطبة في المستقبلين. أما الأستاذ الإمام فقد كان له في الإعلان عن رغبات الأمة مسلك يخالف مسلك الثائرين، فلم يكن من زعماء الثورة في طورها الأول، ولكن

_ 1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص82. 2 تاريخ الإمام ج1 ص191.

لما تألفت وزارة البارودي انضم إليهم بكل قواه، وقد أصبح من ذلك الحين من زعماء الثورة1. وكان زعماء الحزب الذين التفوا حول عرابي باشا ينظرون إلى "الشيخ محمد عبده" نظرهم إلى معلمهم وقائدهم، ويحلفون يمين الطاعة للوطن وما فيه نفعه بين يديه، حتى إنه اعتبر زعيما من زعماء الثورة كعبد الله نديم وغيره من الزعماء المشهورين2، كما وجدت هذه الثورة أكبر عضد من فحول الأزهر إذ ذاك أمثال الشيخ عبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي، وعبد الله فكري على تفاوت في الأسلوب، ومن نجا من المحاكمة فلبراءته في الظاهر على رغم اشتراكه في الثورة3. وقد أودع السجن للمحاكمة فريق من الأزهريين الثائرين الذين أمدوا الثورة -العرابية ببيانهم، ورأيهم، وجهدهم من أمثال "الشيخ محمد عليش"، ونجلهما "الشيخ عبد الرحمن عليش" والشيخ حسن العدوي" "والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي" العضو الأول بالمحكمة إذ ذاك، والشيخ "أحمد المنصوري" والشيخ "أحمد عبد الغني" المدرسين في الأزهر، والشيخ "محمد جبر"، والشيخ "أحمد البصري"، والشيخ "أحمد السملوطي"، وكثير غيرهم. هؤلاء أججوا جمرات الفكر في الثورة العرابية، وألهبوا الشعور بآيات من البيان فخطبوا الخب الحماسية، وأذاعوا النداءات الثائرة، ونظموا الشعر الصوال، فلا عجب أن يكون كل ما أنتجته الثورة العرابية من أدب خصب إنما هو من ثمرات الأزهريين، ونتائج قرائحهم وفيض بيانهم.

_ 1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص540. 2 الإسلام والتجديد ص51. 3 الهلباوي وعبد الله فكري كل منهما أزهري النشأة والثقافة، وسنبين ذلك في موضعه.

الثورة الوطنية سنة 1919: وهذه هي الثورة الوطنية التي قامت سنة 1919 لتحرير البلاد من رق الاستعباد كان الأزهر نارها ونورها، وكان خطباؤه أعلام الجهاد ومشاعل الفكر، ففي جنبات الأزهر كان صيال بالخطاب يعتلي المنبر شاب الأزهر وشيوخه، فيقولون ما شاءت لهم البلاغة، وما تفجرت منهم الفصاحة حتى غدا الأزهر، وهو كما يصفه شوقي بك. عين من الفرقان فاض نميرها ... وحيا من الفصحى جرى وتحدرا كان الجموع تفد إليهم تستشرف لخطبهم، وتتلع الأعناق لرأيهم، ويستمعون إلى بيانهم المقنع ويلتقون عند رأيهم المؤمن، فإذا هم أمضى من السيف عزما لا يبالون في جهادهم بقوة في الأرض، ولا يضعف من نضالهم ما يتراءى لهم من الموت، ولا يتلمظ لهم من أفواه الردى. تخرج في ثورة الأزهر فحول من الخطباء الأفذاذ الذين امتازوا بفصاحة اللسان، ومتانة الأسلوب وقوة الحجة وغزارة البيان، وكانوا زعماء الفكر وعنوان الجهاد وقادة الرأي، وأبطال السياسة من أمثال سعد والهلباوي ومصطفى القاياتي، وعبد الباقي سرور ومحمود أبي العيون وزكي مبارك، وعلي الزنكلوني رحمهم الله ومن هؤلاء كذلك الأستاذ محمد عبد الطيف دراز، ولا يزال الأزهر إلى اليوم كلمة الأمة، وكعبتها التي تحج في الأحداث والمحن، وكلما حزب البلاد أمر نهض أبناؤه المقابل يدفعون الغوائل، ويذودون عن حمى الوطن يعينهم بيانهم الغزير، وتمدهم فصاحتهم الدافقة.

الأزهر والخطابة الدينية

الأزهر والخطابة الدينية: استأثر الأزهر بالخطابة؛ لأنه الذي يحمل رسالة الدين ويذود عنه وينشر فضائله ويرد عواديه وغوائله، وأبناء الأزهر هم الذين يقومون على المنابر في مساجد القرى والمدن، فيهزون أعوادها يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويحضون على الفضائل، وينكبون عن الرذائل بأسلوب بارع ولغة مهذبة وبيان فصيح، وقصص رائع يتخلل ذلك آيات من كتاب الله، وأدب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. وإنك تجد الخطيب الديني يحتفل بأسلوبه وأدائه، كي يتسنى له التأثير في النفوس والهيمنة عليها، وقد كانت الخطابة من قبل مسجوعة متكلفة تتلى في ديوان، ولا تمت إلى المناسبة ولا إلى مقتضيات الأحوال بصلة، وكانت إلى عهد قريب تدور حول معان واحدة أو متقاربة يمل السامع ترديدها، ولا تكاد تصل إلى قلبه بتكرارها، فهي تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة وتشويق إلى الجنة، وتخويف من النار وتهويل في المعاصي والعقاب عليها في الحياة الثانية، وكان ينقصها أيضا وحدة الموضوع، فقد كان الخطيب ينتقل من الحديث عن الصدق إلى الحديث عن الخمر إلى النهي عن الغيبة إلى الحض على الإنفاق في سبيل الله، فلا يتجه السامع إلى موضوع مستقل يؤمن به. أما الخطب الآن فإنها نماذج رقيقة في أسلوبها، ووضعها مسارقة للغرض الذي يتطلبها، يلقيها الخطيب مرتجلة يشافه بها الناس، وقلما يعتمد في إلقائها على ورقة الخطابة المنبرية اليوم إنما هي معالجة للأحداث وتناول لمختلف الشئون، وتعليق على ما يشغل المجتمع ويهمه على ضوء الدين والخلق الكريم، وقد تسوق الصحف في صباح الجمعة خيرا ذا بال، أو قصة أو مأساة، أو مثلا كريما فينهض الخطيب بعرضها وتصويرها، والتعليق عليها بأورع أسلوب، وأوفى بيان وأحسن تجلية.

ومما ساعد على ترقية الخطابة الدينية أن أصبح الذين ينهضون بها شبابا أفذاذا معترفا بقدرتهم مشهودا بكفايتهم ولباقتهم يرتجلون، فلا يتعثرون ويتدفقون فلا يتلعثمون. وفي كلية أصول الدين إحدى كليات الأزهر "قسم تخصص الوعظ والإرشاد"، يخرج هداة مرشدين أخصوا في هذا الغرض فجاء أسلوبهم، وفاض بيانهم وامتازوا بحسن المنطق وبلاغة التأثير، وأصبح لهم في الحياة الاجتماعية مقام محلوظ، فهم ينشرون فضائل الدين بأسلوب عذب، وبيان عليه طلاوة ويهدون إلى مكارم الأخلاق بطريقة أخاذة مشوقة، ويعتمد عليهم أولو الأمر في إصلاح ذات البين وفض المنازعات والتعاون على البر، والأخذ بأسباب الإصلاح الاجتماعي، وقد تخطب الحكومة ودهم للدعاية لمذهبها، وترويج مسلكها اعترافا بفضلهم، ولكنهم يأبون أن يدعوا لغير الله والفضيلة. هذا وقد اتخذت الخطابة الدينية مظهرا آخر كريما أعلى شأنها ورفع لواءها، فإن العلماء والأدباء الذين عذب أسلوبهم وفصحت عبارتهم، وسلس بيانهم يقومون في الجمعيات الدينية والاجتماعية وفي المساجد ودار الإذاعة، فيلقون مواعظ وأحاديث دينية واجتماعية تعتمد على الأدب الرفيع في أسلوبها، وتصويرها فتصل إلى شغاف القلوب من روعة العظة وسحر البيان. وقد كان المغفور له الشيخ محمد عبده آية الآيات، فقد كانت خطبه وأحاديثه الدينية والاجتماعية أبلغ الأمثال في جمال العبارة، وحسن الصوغ وقوة السبك، وكان يمزج أسلوبه الديني المتحلى بأدب القرآن، وأدب الرسول صلى الله عليه وسلم بأدب العرب، وما زخر به من بلاغاتهم، وما توفر له من الأدب الغربي الحديث. ومما نشط هذه النوع في أيامنا هذه وأزكى غرسه، وأنمى عوده حضور الحكام وعظماء الأمة وقادتها دروسه، واستماعهم إلى الخطباء المجودين فيه، فتسامى القرائح وتتسابق المواهب، ويأخذ هذا الأدب في السمو والتفصح

والتجويد حتى يبلغ ما شاء الله من الرفعة والكمال. وقد سما بهذا النوع من الخطب حضرة صاحب الفضيلة المغفور له الأستاد الأكبر الشيخ "محمد مصطفى المراغي"، فقد كان يلقي بين يديى الملك السابق أروع ما تسمو إليه الخطب، والدروس بأسلوب أدبي مطبوع وبيان طلي مهذب جاري به الإمام "محمد عبده"، وكان يمزج في هذه الأحاديث التي يتفضل بسماعها بين الأدب الحي والعلم الحديث، ومجاراة الحياة العامة وشكها بالنقد والنصح والتوجيه، والهداية والإرشاد. وممن يذكر في هذا الصدد بالإحسان، والتجويد المرحوم الشيخ عبد الله عفيفي بك المحرر العربي للديوان الملكي، فقد كانت أحاديثه وخطبه في المواسم والمناسبات شعرا ومنثورا وبيانا منورا.

الخطابة القضائية

الخطابة القضائية: يراد بالخطب القضائية ما يلقيه المحامون في دور القضاء دفاعا عن الحق، ودفعا للمظالم وهذه الخطب تعتمد على الرسوخ في القانون، والتملي من مواده وأحكامه والقدرة على استخدامه في الدفاع كما تعتمد على بلاغة المنطق وقوة الحجة ووضوح الأسلوب، وحضور البديهة، وتدفق اللسان وحسن الموازنة بين حكم وحكم، وقضية وقضية، كما تتكئ على ترتيب الكلام ترتيبا يتضح به الغرض، ويسهل معه استخلاص النتيجة. وقد بلغ الخطباء القضائيون في هذا العصر مبلغا عظيما من البراعة وقوة الدفاع، وإنك لتجد دور القضاء في القضايا الخطيرة أسواقا أبية في فيض بيانها، وقوة جدلها وشدة صيالها يتدفق الأدباء والمحامون والعلماء، والمتأدبون على شهودها حتى إن الحكومة ترصد رجالها لصد الناس عن التدافع على المحاكم، وقد تحظر شهودها إلا بترخيص لطبقة خاصة خشية التسابق، والزحام

وتذيع الصحف هذه القضايا فيتلقفها الجمهور بشوق ورغبة، ويطبع الكثير من الخطب القضائية في كتب يجد الناس في مطالعتها متاعا ولذة. ولقد كان تمرس الأزهر بين الجدل والمحاجة في طريقة تدريسهم بالأزهر، وقيامها على الحوار والمناقشة، وتناولهم القضايا العلمية بالبحث والتشقيق وقرع الحجة بالحجة، لقد كان لذلك أبلغ الأثر في تهيئة من يتفرغ منهم للمحاماة، أو القضاء إلى الرسوخ والمقدرة والنبوغ والتبريز، وذلك لما جبلوا عليه في حياتهم الدراسية من الصبر على البحث، والجلد على المحاجة والروية في طلب الحكم ودعمه. وعسى أن يكون أبرع قضاة مصر ومحاميها في هذا العصر "سعد زغلول"، كما كان أبرع محاميها وأقدرهم على الدفاع المرحوم "إبراهيم الهلباوي بك".

أشهر خطباء الأزهر

أشهر خطباء الأزهر مدخل ... أشهر خطباء الأزهر: هذه هي فنون الخطابة وأظهر مجاليها وأفسح ميادينها، وقد كان للأزهر في كل منها القدح المعلى، وفي كل فن من فنونها فحول عرفوا بالبراعة والتجويد، وكانوا لغيرهم أكرم الأسى وأبلغ الأمثال. وسنترجم لأشهر النابغين في هذه الخطابة على اختلاف أنواعها من الأزهريين، فمن أشهرهم خطباء الأزهر السياسيين المغفور لهما "السيد عبد الله نديم" و"سعد زغلول باشا". ومن أشهر خطباء الأزهر الدينيين المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ "محمد مصطفى المراغي". ومن أشهر خطبائه القضائيين المرحوم "إبراهيم بك الهلباوي".

أشهر الخطباء السياسيين من الأزهر

أشهر الخطباء السياسيين من الأزهر: السيد عبد الله نديم: المتوفى سنة 1314هـ-1896م نشأته وحياته: هو، عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، ينتهي نسبه إلى إدريس الأكبر من أسباط الحسن بن علي، ولد بالإسكندرية سنة "1261هـ-1843م"، فحفظ القرآن ولما يناهز التاسعة من عمره، وكان أبوه متوسط الحال فلما لاحت له مخابل نبوغه وأدخله معهد الإسكندرية1 الديني، فدرس فيه ما درس من العلوم الدينية واللغوية والعقلية، وأتقن فقه الشافعية والأصول والمنطق، وبرع في الأدب والعلوم اللسانية، وهو حدث باكر الشباب ونظم الشعر الرقيق والنثر المحكم الرصين، وما لبث أن طار صبته وذاعت شهرته، وتسابق أعلام الكتاب والشعراء إلى مساجلته ومطارحته، وكان رحمه الله جريئا ثبت الجنان يركب الأحداث، ويخوض الأخطار في سبيل مجده ورأيه، ثم بدا له أن يتعلم صناعة "البرق"، فلم تمض مدة وجيزة إلا وقد أتقن تعلمها وبرع فيها، وشغل إحدى وظائفها في مكاتب مختلفة، كان أبرزها مكتب "تلغراف"

_ 1 كان معهد الإسكندرية إذا ذاك من المعاهد الدينية الحرة التابعة للأزهر يدرس فيها أزهريون، وتدرس فيها الكتب الأزهرية على طريقته، وهذه المعاهد هي دمياط وطنطا ودسوق، فلما نهض محمد عبده بالإصلاح امتحن طلابها وألحقهم بفرق يناسب معلوماتهم ومداركهم، وتعطي علماءها شهادة العالمية على أن يدرسوا في معاهد بلادهم، فحسب دون أن يتنقلوا إلى معاهد أخرى.

القصر العالي في عهد المغفور له "الخديوي إسماعيل باشا"، وعلى الرغم أن الأعمال ترهقه وتستبد بوقته كان يروى من العلم ظمأه، ويشبع من فنون الأدب نهمه، فيتردد ساعات فراغه على الجامع الأزهر يطالع الدروس مع رفاق الصبا ويفيد علما وأدبا، ومن أخص زملائه صحبة ودراسة المرحوم الشيخ حمزة فتح الله. ثم استجد له ما استوجب فصله من عمله، فاتصل بجمهرة من الكبراء والعظماء، وكان له معهم ندوات أدبية مشهورة غشيها أعلام الشعر والأدب فناظروه وطارحوه، وكان أسطعهم نجما وأسبقهم غلبا. ثم إنه نهج في الحياة نهجا آخر، فاضطلع بالتجارة عساه يجد فيها غنية ومتاعا. فأنشأ بالمنصورة متجرا نفقت سوقه، ودر ربحه إلا أن كرمه المتلف عبث برأس المال والربح معا، ولئن كانت تلك خسارة متجرة لقد كان له ربح أدبي خصب إذ آمه الأدباء والشعراء، وجعلوا من المنتجر منتدى يتسامرون فيه، ويتساقون من الآداب كؤسا مترعات. حياته السياسية: عاد النديم إلى الإسكندرية في أوائل سنة 1879م، فبدأ حياته السياسية التي كان له هواه، وكان أول اتصاله بها أن اجتمع بصديقين وفيين له هما "محمود أفندي واصف" أحد اللذين جمعوا كتاب "سلاقة النديم"، ومحرر جريدة العدل "ومحمد أفندي أمين" كبير كتاب محكمة أسيوط الأهلية إذ ذاك، وكانا حينئذ من مؤسسي جمعية "مصر الفتاة"، فكان الأول نائب رئيسها والثاني كاتم أسرارها، كما اجتمع بكثير من أعضاء هذه الجمعية، فشرع يبث أفكاره في جريدتي "مصر" "والتجارة"، ولما رأى أن جمعية مصر الفتاة سرية، ويخشى عليها من الحكومة أوحى إلى أصدقائه بالانفصال عنها، وإذ ذاك حدثهم في إنشاء جمعية سافرة واضحة الأغراض تعمل لنفع مصر والمصريين، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فاستمع الأصدقاء وكثير من الناس

له وتألفت قلوب أهل الثغر وتم له ما رمى إليه فقامت الجمعية الخيرية الإسلامية في أواخر عهد إسماعيل، والقلوب واجفة والنفوس قلقة والأنفاس محبوسة في الصدور. ولما ولي الأمر "الخديوي توفيق" اطمأنت الخواطر واستقرت الأمور وانطلقت الألسن من عقلها، ولقي الناس في ظلاله حرية رأي وطلاقة فكر، فاهتبل النديم هذه الفرصة فدعا الناس وحضهم على مؤازرته ومعاضدته فيما يهم به، فبرزت الجمعية في مظهر الائتلاف، وأجفل السراة والوجوه والكبراء للانتظام في عقدها، وكانت أول جمعية إسلامية أسست في البلاد1، والغرض من إنشائها تربية النشء وتثقيفهم وبث روح المعارف، وترقية أفكارهم وطبعهم على مكارم الأخلاق، وتوجيهم وجهة دينية وطنية. أنشأت الجمعية مدرسة يتعلم فيها اليتامى والعاجزون عن أسباب التعليم، وقد ظل النديم يسعى لها عند الخديو حتى أمدها برفده، وأظلها برئاسة ولي عهده، وأجرت عليها نظارة المعارف مالا سنويا غير قليل، فكان ذلك حنا للجمهور على مؤازرتها واستنهاضا للعزائم لمعاضدتها، وقد استقدم لها نوابغ

_ 1 غير خاف ما كان لهذه الجمعية من أثر في نهوض الخطابة، وتدريب الألسن وبهذه المناسبة نذكر أن أول جمعية أدبية ظهرت في مصر هي جمعية رواق الشوام بالأزهر، نقل ذلك جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية ج4 ص94، فقال أثباتا بخبرها حفني بك ناصف مفتش أول اللغة العربية في نظارة المعارف قال: "وكانت كلما عزم طالب سوري على الرجوع إلى الشام نهائيا تحدد ليلة للاجتماع تعلنها إلى أهل الرواق، فيعد الشعراء قصائد الوداع، ويتلوها ليلة السفر بمحضر من علماء الأزهر وأدبائه، وكانوا يبتدئون القصيدة بالغزل، ثم يتخلصون إلى المديح والوداع وكان الشعراء يتبارون ويتنافسون فيها أيما تنافس، ولم يكن الشعراء من السوريين فقط، بل كل من أراد أن ينظم قصيدة مصريا كان أو سوريا تقبل منه ويؤذن له بتلاوتها، وقد تأسست هذه الجمعية سنة 1873م.

الأساتذة من العرب والغربيين، فأمدوها بعلمهم وثقافتهم وتوجيههم، وأما النديم فقد أقيم مديرا لها، فتعهدها برعايته وبذل لها كريم جهده وعنايته، وعلم فيها الأدب العربي والإنشاء، وقد أربى طلابها على ثلاثمائة في زمن يسير، وما زال "النديم" يحشد لها كل قواه حتى أثمرت أطيب الثمرات، ولبى الخديوي رجاءه مرة أخرى، فمنح الجمعية مدرسة البحرية لسعتها وجمال موقعها. وكان النديم يعقد الحفلات العامة في بهو المدرسة يحضرها عظماء القوم، وسراتهم فيسمعون ما يطرب ويعجب منه ومن تلامذته، ثم ينصرفون ولا حديث لهم إلا ترديد ما سمعوه من العبارات الآخذة بمجامع الألباب مما نشط الأدب وروج سوقه، ودرب الألسنة على القول والارتجال. ولم يقف نشاط النديم على ذلك، بل صور حال البلاد، وبين كيف تنال المروءة والشهامة بروايتيه الشهيرتين "الوطن -والعرب" مثلهما مع تلامذته بحضرة الخديوي فاهتز لهما، وبلغا من نفسه مبلغ التقدير والارتياح، ونفح الجمعية بما يقوي ساعدها ويحفز همتها. ثم إن الحسد ألقي في نفوس حاسديه فسعت الوشايات، ودب دبيبها ففصل النديم من الجمعية، وأقصي عن إدارتها. وكان من قبل ذلك يعالج الكتابة في الشئون السياسية والاجتماعية بقلم متحرر من السجع والصنعة، فعظم شأنه وذاع صيته، وتهيأت له مكانة أدبية بما كان يكتبه في صحيفتي "المحروسة -والعصر الجديد" اللتين قامتا على أثر إلغاء صحيفتي "التجارة- ومصر"، ثم أنشأ جريدة أسبوعية سماها "التنكيت والتبكيت" ظاهرها الهزل المضحك، وباطنها الجد اللاذع وحررها بأسلوب بديع لم يسبق إليه، ثم استبدل بها "الطائف" التي كانت سياسية محضة يخب فيها ويضع، وقد توانى لها من الشهرة والصيت ما لم يتوات لصحيفة قبلها، فإنها كانت أفسح ميدان للثائرين من حملة الأقلام ثم اغتصبها منه أمراء الجند في أثناء الثورة العرابية، فلم يدعوا له إلا اسمها ونشروا فيها كل ما يشتهون حتى انتهت الثورة العرابية.

كان "عبد الله النديم" أحد الذين أضرموا نار الثورة العرابية، فلما كانت موقعة التل الكبير في الخامس عشر من شهر سبتمبر سنة 1882م، فر عرابي وجماعة معه وتبعهم النديم، ثم ألف وفد من الثائرين، واتجه إلى الخديوي بالإسكندرية يلتمس عفوه، ولكن النديم لم يتم رحلته معهم بل لجأ إلى الهرب، واختفى عشر سنين ضاربا في آفاق القرى متنكرا بمختلف الأزياء، وقد جدت الحكومة في طلبه، وأوصت بالعثور عليه وأرصدت ألف جنية مكافأة لمن يهدي إلى مكانه، وكان كثير من الناس يعرف مقره وتنقله، ولكن كان أكرم عليهم وأحب لديهم، فلما كان آخر عهد المرحوم توفيق باشا عثرت الحكومة عليه فسجن أياما، ثم أمر الخديوي بإبعاده إلى بلد يؤثره، فاختار فلسطين منفى له، وبعد أن لبث بها حينا تنقل في مدينة "الخليل" ونابلس، وبيت لحم، والمسجد الأقصى، ثم عاد إلى "يافا" التي غادرها إلى مصر حيث كان الخديوي قد تفضل بالعفو عنه، وقد أنشأ بعد عودته من منفاه صحيفة "الأستاذ" التي بلغت ما بلغت من الشهرة والصيت، وأثرت في أفكار الأمة ووجهتها، ثم لم يطل بها البقاء فكان نصيبها التعطيل، ولقي النديم مثل ما لقي من الدس والكيد وأبعد عن بلاده مرة أخرى، وطاب له المقام بالآستانة إذ أكرم السلطان وفادته وآثره بالعطف والتقدير، وعين مفتشا للمطبوعات في هذه الديار، وظل ينشر فضله ويذيع أدبه حتى استأثر الله به. ومن تأمل بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره وقاساه مدة الاختفاء، ثم النفي حتى مات غريبا طريدا حق له العجب، وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه1. شخصيته: تبدو عظمة الشخصية في كل مظاهر النديم، وفي جميع مراحل حياته فلقد

_ 1 أعيان القرن الثالث عشر والرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص27.

كان أكبر من أن يدل عليه في كل أمر يتصل به، إنما تنطق شخصيته وتطالعك قوتها وبروزها حتى تعجب لها، تبرز شخصية النديم في كتابته وخطابته وأحاديثه، ولقد أشرب حب جمال الدين وتشربت مبادئه إلى شغاف قلبه فنم عن الإيمان بها كتابة وخطابة وحديثا، وما كان للحكومات المتوالية أن تضيق الفذة من معاني النحوة والشجاعة والثورة، وهو هو النافذ إلى القلوب إذا خطب أو كتب لأن التأثر به كان من بيانه ووجدانه أو هما معا. ولقد تظهر شخصية النديم في وطنيته الجارفة التي لا تبالي بقوة في الأرض والتي تزيدها المحن مضاء وعزما، لقد فنى في الثورة العرابية ووهب لهما نفسه وحسه، ولو اقتصر وفاؤه لها على الدعوة لها ومؤزارتها والجهد في نجاحها لكان كأحد أبطالها لا يتميز منهم إلا بفصاحته، ولكنه امتاز بالوفاء للثورة بعد فشلها وإخفاقها، فإن دعاة الثورة وأنصار كل حركة يتنكرون لها بعد الهزيمة، ولكن النديم من الشخصيات القليلة التي أخلصت للثورة في محنتها وهذا ما يسمو به إلى مصاف الأبطال - وهو الزعيم الوحيد بين العرابيين الذي استمر في جهاده السياسي ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال وهي ميزة كبرى انفرد بها دون بقية الزعماء الذين أثرت فيهم الهزيمة فوهنت لها روحهم المعنوية وانطفأت فيهم شعلة الأمل والحماسة والجهاد، أما هو فقد ظل على جادته واستمر يجاهد ويناضل حتى آخر نسمة من حياته، وهذا وحده يدلك على مبلغ علو نفسه وقوة شخصيته إذا لم تنل منه الشدائد ولم يضعف إزاء المحن والكوارث ولم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا1. ولما تولى "عباس الثاني" بعد وفاة "توفيق" عفا عن النديم وأذن له بمغادرة منفاه إلى مصر، كانت الفرصة سانحة له أن يمالئ الاحتلال وأن

_ 1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك 533 و537.

يخفض جناحه لجبروته وسلطانه، وأن يخفف من العناد الذي أضناه والجهد الذي كابده، وكان من الميسور له لو جنح إلى السلم أو كف عن مجاهدته، ونضاله أن يجد في كنف "اللورد كرومر" معتمد البريطانيين إذ ذاك أرقى المناصب، وأسمى الوظائف، وخاصة بما اتسق له من المواهب الأدبية الممتازة، وكفايته العلمية الفذة، ولكنه عاف هذه الحياة، وآثر الوطن الحبيب إليه وحن طبعه وإحساسه إلى استئناف النضال، فكانت مجلته الأسبوعية "الأستاذ" سيفا مصلتا على رقاب الإنجليز يسكب فيها عصارة فكرة الثائر مقالات، وأزجالا ومناظرات، فتفعل بالنفوس الأفاعيل، ويتعلق الناس بها، ويتأثرون بأسلوبها ويسايرونها في إيمانها واتجاهها، ويغيظ ذلك الإنجليز ويألمون لأسلوبه ما يألمون، وهو هو المتدفق إيمانا وثورة الماضي في نضاله لا يلوي على شيء. وإذ يتفاقم الخلف بين الخديو والإنجليز على أثر عزله "مصطفى باشا فهمي" رئيس النظار إذ ذاك، والذي كان أداة لهم وصنيعة يبث "النديم" في مجلته "الأستاذ" روح الخلف مع الإنجليز، ويستحث الهمم والعزائم لمناصرة الخديو، ومؤازرته فيشتد الإقبال عليها، ويجتمع عليه عداء الإنجليز، وسخطهم على مسلكه وحقد الصحفيين، وحسدهم لمكانة صحفه فيرمى بالتعصب ويتهم بالتهييج، وإثارة الخواطر وتعطل صحيفته، وينفى من وطنه. وكان مما ودع به قراءة في آخر عدد من مجلة "الأستاذ" الصادر في 13 من يونية سنة 1893 قوله:- "ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في عين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:- أودعكم والله يعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم وما عن قلى كان الرحيل وإنما ... دواع تبدت فالسلام عليكم

تأثر مصطفى كامل النديم: لا ريب في أن كثير من الناس قد تأثر بالنديم في دعوته، وأنه جذب إليه جمهرة ممن وجدوا فيه مثلا لجهارة الرأي وفصاحة القول، فمثل "النديم" من يكون مدرسة يتخرج فيها الناهضون، ولقد كان ممن أوحى النديم إليهم، ولقنهم مضاء العزم الزعيم الشاب المغفور له "مصطفى كامل"، فقد عرف "النديم" فيه روح الثورة، وطالعته من مواهبه أمارات الزعامة، واستهوى "النديم" جمهرة من الشباب الأحرار، كان "مصطفى كامل" في طليعتهم وفي مقدمة الذين وثقوا اتصالهم به، وكان من نتائج هذا الاتصال أن اكتسب "مصطفى" بعض صفات النديم، وتلقى عنه فكرة الاتفاق مع الخديو حتى تسهل الدعوة إلى الاستقلال، وكان من أول ثمرات هذه الفكرة أن أقيم احتفال سنوي في عيد الجلوس1. ويقول تشارلز آدمس: لما عاد "السيد عبد الله النديم" من "يافا" في المرة الأولى سنة 1892 سمع "بمصطفى كامل"، الذي كان حينذاك طالبا بدأ يحرر في الصحف ويهيج الطلاب، فبحث السيد "عبد الله نديم" عن ذلك الوطني الشاب وقص عليه قصته، وروى ما مر عليه من حوادث، وليس من شك في أنه غرس في نفسه آراءه المتطرفة2. خطابته: كان "النديم" خطيبا مفوها بليغ التأثير نافذ القول قوي الأداء جهير الصوت، يرتحل فلا يعجبه الارتجال ويفجؤه الموقف فلا يزيده إلا حسنا، يملك مشاعر السامعين بحسن أسلوبه وعذوبة صوته، ولا غرو أن لقب بحق

_ 1 تراجم مشاهير الشرق لجورجي زيدان بك ج1 ص289 و301. 2 الإسلام والتجديد ص213.

"خطيب الثورة العرابية" ولقد لقب بحق "خطيب الشرق1 كما لقب "بخطيب الحزب الوطني". كان من النافخين في ضرام الثورة العرابية، ولما تأججت جمراتها كان خطيبها الفذ وفارسها المعلم، وكان خلابا في خطابه غلابا في جدله قويا في برهانه، رائعا في بيانه، وقد أعانه على ذلك جرأة قلبه، وإقدام نفسه، وصفاء قريحته، وتوقد خاطره في الأدب، وتمكنه من الفصاحة، ومما يؤثر عن السيد جمال الدين الأفغاني"، أنه قال: "ما رأيت طوي حياتي مثل النديم في توقد الذهن، وصفاء القريحة وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إذا خطب أو كتب ... ". ويصفه "السيد رشيد رضا" بأنه اشتهر من بين تلاميذ "جمال الدين" بخطابة التهييج في عهد الثورة العرابية، فكاد يسعر نارها. ولم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها فإنه ذو خلابة وغلو، ولا يهيج العامة إلا الغلو. ويقول الأستاذ "أحمد سمير" مترجمه في صدر مختاراته المعروفة "بسلاقة النديم": ويعلم الله أني ما رأيت طول حياتي أخطب منه على كثرة من سمعت في الشرق والغرب من كبار الخطباء الذين تضرب ببلاغتهم، وقوة براهينهم الأمثال". وكان "النديم" غزير مادة الفصاحة، فلا تنفد بتعدد الموقف ولا يلجئه تكرارها إلى إعادة قول أو فراغ معنى بل هو في آخر مواقفه الخطابية المتصلة كأولها قوة وفيضا وعذوبة، ولقد أقامت جمعية المقاصد الخيرية في فبراير 1882 حفلا جامعا احتشد فيه خطباء مصر إذ ذاك، وجلجل فيه فحول البيان، وكان النديم صاحب الخطبة الأولى في هذا الحفل، وكان أسبق فحوله

_ 1 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص523.

فصاحة لسان وأبلغهم قوة بيان، وأقدرهم على المباغتة والارتجال إذ نهض للخطابة خمس مرات في هذا الحفل، فجود في موضوعاتها المختلفة، وبلغ من الروعة ما تتقاصر دونه الفصاحات دون تهيؤ أو إعداد. وكان يغشى كثيرًا من المجالس والمحافل ليلقي فيها خطبة الحماسية التي تثير روح الثورة، وتبث روح الوطنية في نفوس الجماهير، ولم يبق محفل أو ناد إلا علا فيه صوته حتى مجالس الأنس والطرب لما أنها مجتمع للناس، وملتقى لطوائفهم كان يقتحمها فيلقي خطبة الحماسية فيها، وشهر النديم بذلك حتى إن المرحوم "محمد عثمان" المغني سئل في أي فرح تغني الليلة؟ فأجاب: في فرح فلان مع "عبد الله النديم". وكثيرا ما كان النديم يستصحب معه الطلاب، فيقدم إلى الحاضرين أحدهم ليلقي خطبته، ثم ينهض على أثره فيلقي خطبه يؤيد فيها أفكار الطالب، ويتوسع في الشرح والبيان، ويثني على بلاغة الطالب وقوة حجته، وحسن منطقه، وما زال كذلك حتى ربى في نفوس النشء ملكة الخطابة، وشجعهم على النهوض بها فحل عقدة الألسن، ونشطها من عقالها وأجرى البيان من أفواه النشء المتقد حماسة ووطنية: ويقول الأستاذ "أحمد شفيق باشا": إنه شاهد النديم يقدم المرحوم "فتحي زغلول" في إحدى الحفلات ليلقي خطبة، وكان الثاني طالبا في مدرسة الحقوق، وبعد أن أفاض في خطبته أمسك النديم بذراعه أمام الجمهور، وقال: "ألا تعجبون لما أبداه هذا التليمذ في خطبته من العلم والبيان، والتفنن في موضوعات مع أن "غلادستون" خطيب انجلترا لا يتناول في خطبته إلا موضوعا واحدا، وقدم مرة أخرى في إحدى الحفلات الطالب النجيب "مصطفى ماهر باشا"، وألقى في القوم خطبة بليغة فياضة استرعت إعجاب الحضور، وما انتهى منها حتى وقد النديم على أثره، وقال: "أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد على أمرها".

وكان على مقدرته في الخطابة عذب الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز1. كان يبهر الساحر مجلس الخاصة والعامة، ويهيمن بطلاوته وأخذه على العالم والجاهل معًا، ومن سحر حديثه أن يأنس به الخديو "توفيق"، وهو أعنف الثائرين عليه، وأن يأنس به "عباس" حين لقيه في الآستانة، وهو خليفة "توفيق" ولولا حرص السلطان "عبد الحميد" على بقائه عنده لعاد به "عباس" إلى القاهرة، وأذن له بفراق منفاه2. ومما امتاز "النديم" به فيض خاطره، وحضورة بديهته وسرعة جوابه، وكان ذلك غلى جانب مادته والغزيرة في البيان، وامتلائه من أدب العرب وشعرهم ميسرًا له أسباب السبق بين الأدباء وأعلام البيان، اتصل "النديم" بكثير من رجالات مصر وعظمائها، وكانت له مجالس مشهورة نظم عقدها الأدباء والشعراء، فطارحهم وناظرهم في أساليب مختلفة من الأدب، وفنون متنوعة من البيان، فظفر بهم جميعا حتى كانوا لديه كالراعي لدى جرير، أو كالخوارزمي أمام بديع الزمان، فاعترفوا له السبق وهم بين طائع وكاره3. ومن بديهته التي ساعفته، وكان له بها سبق أن حضر اجتماعا حافلا لدى "شاهين باشا"، فاقترح بعضهم إليه إنشاء قصيدة دالية يعارض بها المتنبي في داليته المشهورة التي مطلعها: أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد

_ 1 تراجم أعيان القرون الثالث عشر وأوائل الرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص27. 2 شعراء مصر وبيئاتهم للأستاذ عباس العقاد ص96. 3 المصدر نفسه ص88.

وقال: إنه لا يتأتى لشاعر أن يعارض قوله في هذه القصيدة: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد فغضب المترجم وأمسك القلم، وأنشأ قصيدته الدالية التي يقول في أولها: سيوف الثتا تصدا ومقولي الغمد ... ومن سار في نصري تكفله الحمد إلى أن قال معارضًا ذلك البيت الذي ظنه المتعنت معجزًا: ومن عجب الأيام شهم له حجا ... يعارضه غر ويفحمه وغد ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما ... لتحفظ أعراض تكفلها المجد وأردفهما بخمسة أبيات على شاكلتهما، يحدث الأستاذ "أحمد سمير" في "سلاقة النديم" أن طول الأيام ذهبت بها، وأنه بهذا الشعر أقحم المعارض، وأبلس ولم يدر كيف يقول. كتابته: كان النديم أحد الذين حرروا الكتابة من قيود السجع والصنعة، وجروا بها مجرى السهولة والتدفق، وقد كانت كتابته مطبوعة بطابع الوضوح والإشراق والتسلسل، وكانت صورة ناطقة تمثل المجتمع المصري، والحياة الفكرية في مصر وقد أعانه على ذلك صفاء نفسه من التعقيد، وسهولة منحاه وميله إلى الفكاهة والنكتة التي هي من جوانب الحياة المصرية. وأغلب ما يتسم بهذا الطابع إنما هو كتابته الصحفية، فقد جاءت سهلة العبارة واضحة المعنى مسترسلة الأسلوب، فكان إذا كتب فإنما يرتجل الخطابة لسهولة منحاه، وتدفق كلامه وسهولة عباراته1. على أن تعقيد التراكيب والتواء الغرض، وخشونة العبارة كل ذلك لا يلائم رسالته الصحفية، ولا يعنيه على معالجة الشئنون المختلفة التي كان يتناولها قلمه

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص93.

في صحف غيره ثم في صحفه، ولو أنه جاء مستغلقا مبهم الغرض، ملتوي الأسلوب لما اتسقت له هذه المكانة المحسودة، وتلك الشهرة الذائعة. ومما امتاز به "النديم" أسلوبه الساخر اللاذع، فقد كان يودع كتابته الحقيقة المرة والمغزى الموجع دون أن يصخب أسلوبه، أو يثير في متجهه ضجة. على أن "النديم" يسهل ويتبسط، ويرق أسلوبه ولكنه يتصفح في عبارته، ويتأنق في صياغته، ويشك السجع ويمر بالمحسن لمامًا إذا أراد مجاراة الأدب في زمانه، فيأتي بما يشاكل أدب أقرانه مطبوعا بطابع التجويد والصنعة في رسالة إخوانية، أو خطبة منبرية يحررها، أو مقامة أدبية يصنعها إذا كتب في هذا الضرب من الكتابة نهج نهجا متبعا؛ لأن هذه الأساليب، ليست من عمل الفطرة والارتجال، ولا بد لها من قالب متفق عليها في أساليب المتقدمين1. وللنديم مقالات قريبة من اللغة العامية في صحفة مثل مصري تفرنج وغيرها من هذا النوع، وصف فيها الرذائل الفاحشة، ونقد أحوال المجتمع وغيرها2. شعره: نستطيع أن نقول: إن النديم كان خطيبا مطبوعا، ولكنه لم يكن شاعرًا مطبوعا وذلك؛ لأن النديم رجل ثورة والثورة لها خطباء فحول تعتمد عليهم، وكتاب أفذاذ تنهض بهم، ولكن ليس لها من شعراء من يغني هذا الغناء فما كان الشعر متسعا لهذه الأفكار الهائجة، وتلك الخواطر الصاخبة اتساع الكتابة والخطابة لذلك، نعم قد يتأتى للشاعر المقتدر أن يودع قريضه الخواطر الثائرة، ولكن الخواطر الثائرة شيء، والتحريض شيء آخر يتطلب أقوى من الشعر وسيلة وأداة، وأفسح منه ميدانا ومجالا، فقيود الشعر تحد

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص93. 2 الأستاذ المرحوم أحمد ضيف في صحيفة دار العلم السنة السادسة العدد الأول.

من انطلاق الفكر وتضع التعبير موضعا ملتزمًا على أن الشعر لخواص الناس، والطبقة العليا منهم في الفهم والإدراك، فإذا أثار الشاعر بشعره، فإنما يثير الخاصة، ولا يبلغ من العامة مبلغا ينهضهم على ما يريده الرجال الثائرون. ولكن الخطابة والكتابة يعلو كل منهما، ويهبط ويضيق حسب المقام، ويتسع فيتأدى بهما الخطيب والكاتب إلى كل نفس، ويداخل بهما كل شعور وحس. فالثورات إنما تخلق زعماء خطباء لا زعماء شعراء. نلخص من هذا كله أن النديم رجل الثورة خطيب في المرتبة الأولى من الخطباء، ولكنه ليس في هذا الأفق بشعره، وقد أتم شعره بسمة العصر، فتهافت على الصنعة وشد البديع، وإن لم يكن في كل حال كذلك، فإنه قد يصفو من أكدار التكلف وينحو نحو السلامة والوضوح، وقد يطمح أحيانا إلى أن يجاري بشعره فحول الشعراء. والذي بأيدينا من شعر النديم قليل بالنسبة لما خلفه من ثورة شعرية عبث بكثير منها الأيام، فقد حدث الأستاذ "أحمد سمير" مترجمة في السلاقة بأن مؤلفاته منها ديوانان من الشعر يحتوي أحدهما على أربعة آلاف بيت من الشعر، ويحتوي الثاني نحو ثلاثة آلاف، ويقول: "ولما كان في يافا أول مرة بعث إلى محررا يكلف به أن اطلب ديوان شعره الصغير من صديقه المرحوم عبد العزيز بك حافظ، فلما قصدته وجدته مصابا في قواه العقلية بما لم يدع للطلب مجالا، ثم كتب إلي ثانيا بأن ديوانه الأوسط عند. م. بك. ف فطلبته منه فاعتذر بأنه ضاع ... ". فهذه ثروة شعرية كان فيها لذة لو أبقت عليها الأيام.

زجله: للنديم كثير من الزجل المطبوع الذي يمثل الحياة الاجتماعية في مصر بأسلوبه الدارج وتركيبه العامي، وقد كان غزير النبع لا يغيض معينه منه، ولا تعيا به قريحته، وإذا كان الزجل المرتجل يعتمد على البديهة، وشدة العارضة فإن النديم كان آية الآيات في ذلك حتى إنه لتعرض لمواقف الزجل المرتجلة، ويقوم على مناظرة المتمهرين فيه يكون أكثرهم غلبا وأعلاهم كعبًا، وقد ذكر في مجلته "الأستاذ" قصة تشهد باقتداره على الزجل، ومعاطاته على طريق الارتجال، وتفوقه على الذين جودوه وتفرغوا له. قال النديم في مجلة الأستاذ: "اتفق لي أن كنت بمولد سيدي أحمد البدوي" رضي الله تعالى عنه سنة 1294هـ، وكان معي السيد علي أبو النصر والشيخ رمضان حلاوة، والسيد محمد قاسم، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب وقف يناظر آخر، فلما فطن أحدهما لانتقادنا عليهما استلفت أخاه إلينا، وخصانا بالكلام فأخذا يمدحاننا واحدا فواحدا إلى أن جاء دورهما إلي، فقال أحدهما يخاطبني: أنعم بقرشك يا جندي ... وإلا أكسنا أمال يا أفندي ألا أنا وحياتك عندي ... بقي لي شهرين طول جيعان فقلت على سبيل المزح معه: أما الفلوس أنا مديشي ... وأنت تقول لي ما مشيشي يطلع علي حشيشي ... أقوم أملص لك لودان ثم أخذنا نتبادل الكلام نحو ساعة حتى غلبا إذ فرغ محفوظهما، فلما قمنا وتوجهنا إلى منزل المرحوم شاهين باشا1، وكنا نازلين عنده جميعا أخبره

_ 1 شاهين باشا كنج مقتش الوجه البحري إذ ذاك، وكان مجلسه محط رجال الأدباء، ومجتمع الشعراء والندماء لا يخلو من مطارحات، ومساجلات شعرية تراجم الأعيان القرون الثالث عشر، وأوائل الرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص5.

السيد علي أبو النصر بما كان مني مع الأديبين فلما أصبحنا استدعى شاهين باشا شيخ الأدبية، وطلب منه أن يستحضر أمهر الأدبية عنده، ووعده أنهم إن غلبوني يعطهم ألف قرش، وإن غلبتهم يضرب كل واحد منهم عشرين سوطا، فرضي بذلك واستحضروا الشيخ داود، والحاج إسماعيل الشهيرين بعمل الزجل، وإنشاده ارتجالا في أي غرض، واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على الارتجال أيضا، وعقد الباشا لذلك مجلسا أمام بيته بطنطا، وأجلسني بينه وبين المرحوم جعفر باشا مظهر، وقد وقف الناس ألوفا والعساكر تدفعهم عنا: ابتدأ الشيخ فقال: أول كلامي حمد الله ... ثم الصلاة على الهادي ماذا تريد يا عبد الله ... قدام أميرنا وأسيادي فقلت: إني أريد أحمد ربي ... بعد الصلاة على المختار وإن كنت تطمع في أدبي ... أسمعك حسن الأشعار فقال: دعنا من الأدب المشهور ... وادخل بنا باب الدعكة تدخل على أسيادنا بسرور ... وتغنم الخير والبركة فقلت: هيا احتكم في البحر وشوف ... فن النديم ولا فنك دلوقت اسمع يا متحوف ... أحسن أدب وحياة دقنك

فقال: هات مدح في الحضرة على قد: تعلم عمايلك يا منصان ... يابو الشفيفة العسلية يا صاحب الحجل الرنان ... ودي الامور الحيلية ماذا تريد من دي الولهان ... قل لي واسعف أحسن أنا من خمر ألحان ... قصدي أرشف وإن كنت تسمع يا أبو الخير ... يبقى الوصال الدواليه فقلت: المجلس العالي محمود ... فيه الأمارا والأعيان واليوم يوم مشهود ... خلعت عليه حلة إحسان شاهين باشا فيه موجود ... حظو أزهر أما المدير هذا المسعود ... جعفر مظهر فإنه في الناس معدود ... من ضمن أرباب العرفان "دور" مجلس عليه حسن مهابه ... كأنه مجلس سلطان والحاضرين أهل نجابه ... وينفذوا قول الإنسان أترك بقى شرب الغابه ... وانشد تسمع وإن كان تغني بربابه ... تطرب مجمع حسن الكلام مثل سحابه ... تمطر على شجر البستان فقال: القصد منك يا نديمنا ... نعمل زجل هيله بيله ألا أنت دلوقت غريمنا ... قصدي أحدفك بالقلقليله وإن كنت تجهل تقريمنا ... اسأل عنا أو ما تغيب في تكليمنا ... واحذر منا

أحسن أوديك لعظيمنا ... بشيلك ألفين شيله فقلت: انتا صغار لسه نونو ... وفي الزجل منتشى مجدع اتبع نديم تلقى فنونو ... تأتيك من المعنى الأبدع أما عظيمك وجنونو ... يأكل نفسه وإن كان يعارض بمجونه ... يطلب عكه لأن فني وسجونو ... لكل متعنتظ يردع وبعد أن دار بيني وبين الكلام في كثير من هذا الوزن قام الشيخ داود، وقال: قصدي أقول كلاما ... يحكي لضعات الزهور هات أشجنا بنظام ... من فن كان وكان أدخل بنا لمعان ... كالبكر من خلف الستور في قلب متحل ... في النظم بالإتقان فقلت: اسمع كلام نديم ... من طيه كل سرور واعقل نصيحة حر ... ينعوك للعرفان لا تستخف بخصم ... لو كان من أوهى الطيور واصفح فكل صفوح ... يعلو على الأعيان واخش اللئيم دواما ... فاللؤم داع للشرور واحفظ مودة حر ... في عهده ما خان لا تصطحب بوضيع ... ينزلك عن سرج الظهور واصحب أخي شريفا ... واطلب رضا الإخوان وانزل ببيت كريم ... إن كنت ضيفا في العبور

واسمع سؤال فقير ... أودى به الحرمان هذه نصيحة حر ... قد جرب الدهر الجسور إن كان يعجب هذا ... أولا فخذ تبيان فالبحر بحر لآل ... إن قلت زانت النحور والفكر فكر ذكي ... لا يعرف النسيان فأعرض عن كان وكان عجزًا منه، وقال: هات فخرًا على قد! يا صبا نجد ورامه ... هجت للمتشاق وجدا كل صب في غرامه ... ما اشتكى في الليل سهدا عنفوني عذبوني ... ذقت في التعذيب شهدا والهوى أحرق ضرامه ... كل أحشائي وقلبي. قلت: فخر مثلي في بيانه ... والغني يفخر بماله والأدب أحسن صفاتي ... فالذكي حسنو كماله واللبيب يظهر بعلمو ... والغلام مجده جماله كل قول المرء يفنى ... غير محمود المآثر ... "وإلى هنا صفق الحاضرون والباشا، ثم عدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكره، فإن الشيخ رمضان كتب من هذا الزجل خمسة كراريس، وكله محفوظ عندنا لم يضع منه شيء، وقد استمرت المناظرة ثلاث ساعات إلى آخر ما ذكر النديم في مجلة الأستاذ". هذا طرف مما أورده النديم في مجلته عن قصة الزجل، ويقول "أحمد تيمور باشا": "لقد سألت بعض من حضروا هذا المجلس عما كتبه المترجم، فأنكره وأخبرني أنه تغالى فيما كتب، وذكر أناسا لم يكونوا حاضريه1".

_ 1 تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر ص15.

وقد يكون النديم مغاليا كما قيل "لتيمور"، ولكن هذه المغالاة لا تنفي أصل الحادثة، وليس النديم على مكانته الأدبية والاجتماعية بالذي يخلق حادثة مثل هذه لم تكن، ثم يطالع بها قراءة في مجلة كانت تتلقفها الأيدي، وتستشرف لها الأبصار، ويمعن في الادعاء، فيزعم أن المجلس حضره فلان وفلان ممن سماهم بأسمائهم، وممن هم ذو مقام بين الأدباء والشعراء والعلماء، فإنه إن فعل تعرض لخصومه يكذبونه، ويسفهونه وهم كثير وكثير، وعندي أن اتهام الذي سأله تيمور باشا عن القصة فنفاها، أو زعم مغلالاة النديم فيها أخف لدى العقل من اتهام النديم بالكذب والوضع. هذا وإن زجل النديم بالغ حظا عظيما من الرقة، وسعة الأفق والقدرة على المجاراة، وتصوير العامة في مظاهرهم وحياتهم. كلماته الجارية مجرى الأمثال: للنديم كلمات جرت مجرى الأمثال لها روعة البلاغة، وقوة الصوغ وعذوبة النطق ومجاراتها لكلمات الفصحاء من فحول العرب، ومن هذه الكلمات التي تزين الحديث، وينجلي بها الأسلوب، وتشرق في ثنايا ما ينفصح به الأدباء قوله من النثر "أدبك حياتك فطول أو قصر- روحك غذاؤك فأصلح أو أفسد- علمك قدرك فارفع أو اخفض - ترك الحزم يضيع الفرص - بعدك عن الشر مع حب أهله، وقوع فيه - كن حيث صرت تقطع العقبات، وأنت جالس - كل خلاف كذاب - أمرك بيدك، فإذا جذبته فطاوعك تبدد - بين الجد أو الغاية التبصر فاحفظ نصلها - يومك كأمسك فأعد لغدك ما تخيرته منهما - مملكة يسوقها غارق في الشهوات مقبرة تزار، ولا تسكن - إذا طلبت الراحة، فارجع إلى ظهر أبيك - لن للظالم ما تنبه، فإن غفل فاحمل عليه - إذا وصلت الغاية، فقف فورًا كانت أو خذلانا فما بعدهم إلا العدم -

المشرب السياسي يغالب الجنسية والدين، فانظر مع من تكون -إذا نفذت كلمتك، فاحفظها بالرفق وأيدها بالاستقامة، من الشعر:- جزاء فعال السوء في العدل مثلها ... فنفس بنفس والجروح قصاص دنوك من مرضى القلوب تعرض ... لعدواك فاحذر فالدواء عزيز ذوق المعاني لذة ... وسواه يأتي بالهوس ذم النقى وأهله ... أمر يحسن لي الطرش خذ من زمانك صفوة ... ودع التعمق تسترح آثاره الأدبية والعلمية: خلف النديم آثارا أدبية وعلمية ضخمة تشهد بكريم فضله، وعظيم جدواه في الأدب والعلم، فمن ذلك شعره الخصيب الذي عبثت به يد الضياع، ولم تبق منه إلا النزر اليسير، ومقالاته الأدبية الممتعة التي كان ينشرها في صفحه المختلفة، وهي ثورة أدبية ممتعة تمثل أطوارًا مختلفة من مظاهر الحياة الاجتماعية في هذا العصر، وله روايتا الوطن والعرب، ورسائل أدبية لم يصل إلى أيدي الذين احتفلوا بجميع آثاره إلا أربع عشرة منها بعد سعي ممض، وعناء موصول وله كان ويكون، وهو الذي طبع بعضه في مجلة الأستاذ ألفه حين اختفائه في سنة 1883م، وهو كتاب أدبي تاريخي يحتوي بحوثا أدبية ودينية، وتاريخية وسياسية، وتضمن الحديث عن عادات الأمم المختلفة، والمقارنة بين هذه الأمم فيها كما يتضمن طرفا من شئون الأجناس الشرقية والغربية، والكتاب نسخة في مجلد واحد طبع في مطبعة النديم بالقاهرة سنة 1892م، وله كتب قيمة مختلفة منها "النحلة في الرحلة"، والاحتفاظ في الاختفاء، والشرك في المشترك، وكتاب في المترادفات، وآخر في اللغة سماه "موحد الفصول وجامع الأصول"، وله الفرائد في العقائد واللآلي والدرر في فواتح السور، والبديع

في مدح الشفيع، وأمثا العرب، وغير ذلك من الآثار الجليلة الدالة على مكانته السابقة في هذه النهضة. وقد عني شقيقه "عبد الفتاح أفندي نديم"، وصديقه "محمود أفندي واصف بجمع ما عثرا عليه من آثار، وأودعاه كتابا أسمياه "سلاقة النديم" في منتخبات السيد عبد الله نديم. والحق أن النديم كان أنجب نموذج من نماذج الشخصيات في تاريخ الأدب المصري، "ويتعذر عليك أن" تبحث عن مثيل له ذوي الأدوار -المحددة الذين تنجب طلائع النهضات في عالم الأدب والثقافة، فلا تظفر له بمثيل1. نشر "النديم" فن الخطابة بين النشء الحديث، فكان ذلك فتحا في سجل النهضة2 إذ مرن الألسنة على القول، وفتق الأذهان للتبصر وكان صوتا انبعث في خطابته وكتابته، فاستيقظ به همم وصحت عزائم، وضرب أبلغ الأمثلة في الجهاد للرأي، والذود عن الوطن ... نموذج من خطبه: من خطبه في الثائرين العرابيين قوله: من قرأ التواريخ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات، فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص96. 2 الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ص523.

لاحق، ألا وهي حماية البلاد وحفظ العباد، وكف يد الاستبداد عنها فلكم الذكر الجميل، والمجد المخلد يباهي بكم الحاضر من أهلنا، ويفاخر بأثركم الآتي من أبنائنا، فقد حي الوطن حياة طيبة بعد أن بلغت الروح التراقي، فإن الأمة جسد والجند روح، ولا حياة للجسم بلا روح، وهذا وطنكم العزيز يناديكم ويناجيكم ويقول:- إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي الديار نعيم وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم فردوا عنان الخيل نحو محرم ... تقلبه بين البيوت نسيم وشدوا له الأطراف من كل وجهة ... فمشدود أطراف الجهات قويم إذا لم تكن سيفا فكن أرض وطأة ... فليس لمغلول اليدين حريم وإن لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم ولقد ذكرت باتحادكم وحسن تعاهدكم، ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند تغيب سيدنا عثمان في أهل مكة من مبايعة أهل الشجرة على استخلاص صاحبهم، فصاروا يعنونون بالعشرة المبشرين بالجنة، وأنتم قد تعاهدتم على حفظ الأوطان، وبقاء سطوة مولانا الخديو، وتأييد ملكه وتبايعتم على الدفاع، ووقاية أهليكم من كل ما يذهب بالثروة، ويضعف القوة أو يخدش الشرف، فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم. ثم قال:- هذا أخوكم الحر يودعكم، ويسير بإخوانكم إلى دمياط، فاجعلوا عروة الود وثيقة، ولا تحلوا حبل الاتحاد الذي جاهدتم الأنفس في إحكامه، فقد: زالت موانعنا التي ... كانت تجر إلى الفساد والأنس دار رحيقه ... بين الجيوش أولي الرشاد

ولا تعمر الدنيا إذا ... لم يترك الخلق العناد فالأرض تنبت زرعها ... لحياتنا بالاتحاد ومن محاسنكم التي تفخرون بها، ويعرف لكم بها الفضل، طاعتكم لأوامر الحكومة وامتثالكم لإشارتها، وربط قلوبكم بمحبة مولانها الخديو، ورجاله الكرام خصوصا هذا الرئيس البر والرءوف القائم بخدمة الأمة وبلادها. ثم ختم خطبته بقوله:- وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادي عند النوازل أن يقال -مات شهيد الأوطان- فنادى الجميع، رضينا بالموت في حفظ الأوطان، ووقاية أميرنا من كل ما يمس سلطته1. نماذج من كتابته: مما كتبه في العدد الأول من صحيفته "التنكيت والتبكيت" الصادر في 8 من رجب سنة 1298 هـ، الموافق 6 من يونيو سنة 1881م. إعلان إلى النبهاء، والأذكياء من أبناء بجدة اللغة العربية: إليكم يراعي فاستخدموه في مقترحات أفكاركم العالية، وصحيفتي فاملأوها بآدابكم المألوفة، وبدائعكم الرائعة، فاليراع وطني يخاطب القوم بلغتهم، ويطيعهم فيما يأمرون به، والصحيفة عربية لا تبخل بالعطاء، ولا ترد الهدية وأنتم كرام اللغة، وإخوان الوطنية فشدوا عضد أخيكم بالقبول والإغضاء عن العيوب، وساعدوه بأفكار توسع دائرة التهذيب، وتفتح أبواب الكمال، وكونوا معي في المشرب الذي أشربته، والمذهب الذي انتحلته: أفكار تخيليه، وفوائد تاريخية، وأمثال أدبية وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم

_ 1 مصر للمصريين لسليم خليل النقاش ج4 ص95.

الخرافات لنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثله في الوجود من ركوب متن الغواية، واتباع اللذين أضلانا سواء السبيل. وكتب فصلا عن الخطابة قال فيه:- ألسن الخطباء تحيي وتميت، حكمة إذا عقلت معناها وقفت على سر الخطابة وحكمة حدوثها، وعلمت أنها للعقول بمنزلة الغذاء للبدن، وكانت الخطابة في الأعصر الخالية غير معلومة إلا من أمتي العرب واليونان، فكانت ساحتها في جزيرة العرب عكاظا، ومنابرها ظهور الإبل، وهذه الساحة كانت معرضا للأفكار يجتمع فيه الخطباء والبلغاء، والشعراء وأمم كثيرة من المجاورة للجزيرة، فيرقى الخطيب ظهر ناقته، ويشير بطرف ردائه، وينثر على الأسماع دررا وبدائع، ثم يباريه آخر ويعارضه غيره، فتتضارب الأفكار وتتنبه الأذهان، وتحيا الهمم، وتتحرك الدماء، ويرجع كبار القبائل وأمراؤها لما يثير إليه الخطيب إن صلحا وإن حربا، ولم يقتصروا في خطاباتهم على مسائل الحرب والصلح، بل كانوا يخوضون بحار الأفكار، فلا يتركون حكمة إلا شرحوها، ولا يذرون فضيلة إلا حثوا عليها. وبلغه أن أستاذه المرحوم "الشيخ محمد العشري"، كان راكبا عربة مع بعض الناس في زمن المطر، فوقعت بهم ونجا الشيخ من بينهم وأصيب من كان معه، فكتب إليه هذه الرسالة التي تأنق وابتكر في سجعها. "منحتنا اللهم سلامة الروح، فلك الحمد على هذه المنحة حمدا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان فلك الشكر على هذه الصحة شكرا بلا حد، يلوح بدره ويفوح عطره روح هو عين الحياة ومدد العقل، ولب هو منطق الشفاة وسند النقل طال عمره، وجال أمره غذاء النفوس، وبهجة المهجة، ونور الشموس، ومهجة البهجة أمنا سره وعمنا بره. أستاذي وقدوتي وملاذي، وعمدتي محمد العشري قام ذكره، ودام شكره سيدي ومصيري ومؤيدي، ونصيري يخصك بالتحية غرس بستانك، وغصن

وقتك وزهر إحسانك، وثمر دقتك الطيبة الشهية، إن تكلم بلسان فبيان من جنانه، وإن خط ببيان فإحسان من فرقانه، وإن انتسب فنعم النسب مع الحسب، ولا عجب فإلى العرب فن الأدب. آباؤه الغر أهل الجود والكرم ... وكلهم غاية في الحلم والكلم وكيف لا يكون لساني قوس البديع، وكلامي السهم السريع، وأنت باريه وراميه، أو كيف لا يكون مقامي الحصن المنيع، وقدري العزيز الرفيع، وأنت معليه وبانيه، فوجه جمال العلم أنت غرته، وإنسان عين الحلم أنت قرته، وحاليه وجاليه، وجبين العقل أنت طرته، وكتاب الفضل أنت صورته، وطالبه وتاليه. على بابك العالي من الفضل راية ... على رأس أرباب المعارف تخفق فعلمك جنات وحلمك جنة ... وظلت خيرات وغيثك مغدق أرى غصن من يدعو إلى الفضل نفسه ... من الفضل عريانا وغصنك مورق إذا رمت إنشاء فعن صدق فكرة ... تهادي بأبكار وغيرك يسرق ثم أنهى لفضيلتك وحضرتك السنية، ما وصل إلي "فأوجب الشكر علي" ما دمت حيا، وهو سلامتك من تلك البلية، بمعرفة العربية، وقد وقع في الري من أدركه العي ولم يسع شيا، أدخله التقصير في جمع التكسير، فكنت في جمع السلامة تحية وكرامة إذ كنت نفيسا، وظهر ذراعه الكسير ظهور الضمير، ومذ رأى أولاده آلامه، وفهموا كلامه صاحوا بكيا، فقد أتى أهله فساءت دياره، إذ وهت رحله، وبانت يساره". وكتب بعنوان "الجنون فنون" في صحيفة التنكيت والتبكيت"، فقال: "جلس أحد المحتالين في قهوة، وأخذ يقرأ أكاذيب سماها قصة عنترة، فاجتمع إليه عدد كثير من الرعاع والهمج الذين ولعوا بسماع الأكاذيب

والخرافات، فلما رآهم منصتين إليه أخذ يفتري عبارات ينسبها إلى عنترة، وكلمات يعزوها إلى عمارة، وقد افترق القوم فريقين، وكل فريق منهم يدفع لهذا المحتال نقودا ليؤيد مشربه، ويمتدح بمن يميل إليهم، والمحتال مجد في التحريف متفنن في الكذب حتى قرب الفجر، فقال: -وبينما هم في قتال ونزال، وقد انكشف الغبار عن أسر عنترة: وسنخلصه الليلة القابلة- فقال أحد المجانين لا بد أن تخلصه الآن وخذ عشرة جنيهات، فأبى المحتال وسكت عن الكلام، فشتمه المجنون وهلت أصواتهما بالقبائح، وآل الأمر إلى الضرب والإهانة. ثم ذهب المجنون، وقد تذكر أن عنده قصة عنترة، ولكنه أمي لا يقرأ فقصد غرفة ولده وأيقظه من النوم، وهو يبكي وقاله له: يا ولدي أبوك رزيء بمصيبة عظيمة، فقال له ولده: هل مات أخي؟ قال: أهون، هل هدم البيت الجديد؟ قال: أهون، هل ماتت أمي؟ كان أهون، ما الذي أصابك يا والدي؟ يا ولدي في هذه الليلة أخذوا عنترة أسيرا، فهات الكتاب وخلصه وإلا قتلت نفسي. الولد: من عنترة يا ولدي؟ أتتكدر على حكاية مكذوبة، وقصة كلها تخريف وما لنا وعنترة؟ إن هو إلا عبد أسود أخذ شهرة بما صنعه من الشعر، وقتل بعض الناس بلاحق لولوعه بالنهب، وسعيه خلف مقاصده. الوالد: أنت تشتم عنترة يا ابن آل..... ونزل عليه بعصاه حتى أسال دمه، وحلف عليه بالطلاق لا يبيت عنده ولا يعاشره، فخرج المسكين، وهو يسب الجهل وأهله، ويعجب من فساد أخلاق والده الذي أحدثه عدم التهذيب حتى ألحقه بالبهائم، وسلخ عنه جلد الإنسانية، فعارضه أحد جيرانه، وسأله عن حاله فقص عليه قصته مع والده، فقال: طالما قلت لأبيك: فضك من عنترة وتعال اعمل "زغبي"، فما سمع كلامي فضحك الولد من سخافة عقل الاثنين، وقال: "لا شك أن الجنون فنون". ومن أسلوبه وصفه اللاذع التهكمي الذي طبع بطابع الجدة والطرافة

على فصاحته، وحسن وصفه ما أوصى به أحد أبنائه إذ قال: "أي بني -إني أعظك لئلا تكون من الغافلين، ولا أعظك بأحسن من مصادفاتي، وما لاقيته في حياتي من حسنات، وسيئات"، فقد طلبت الرزق بجدي وسعيي لا عن فاقة، ولا إلزام ولكن كرهت العجز، وأنفقت من التقاعد، فقضيت سنين عديدة أتقلب في الخدمات، وأتفنن في أسباب المعاش، وصحبت الكثير من أهل زمانك مع اختلاف المقامات والاعتبارات، فاستخلصت من جميع الأخلاق خلقا إن رضيته عشت به ناعم البال طيب الخاطر، وإن أبيته كنت مثلي في الحظ والطالع والصفات. خلق الإنسان ميالًا للتعاظم والتفاخر يزداد هذا الأمر بزيادة الجهل، ويقل بسطوة العلم، وسيف التهذيب، فإذ بليت بخدمة من لم يهذب صغيرا، فعانقه لتوافقه، وإياك أن تظهر علمك أمامه، وإن سئلت في أمر، فليكن جوابك بخشوع وخضوع، وإن كذبت فيه فاعترف بالخطأ ولا تجادل، وإن قويت حجتك، وإن خاطبك بما لا يعقل فاطرب، وتبسم واعجب من حدة الذهن ورقة المعنى وذم من يقول غير ذلك، وإن سمعت كذابا وكنت على يقين من كذبه، فكذب عيانك وخطئ حواسك وصدق ما يقول ... وإن علمت علما فانسبه إليه إن كان حسنا، وعنونه باسمك إن كان قبيحًا، وإذا غبنك في أجرتك، فأظهر له المدح ... وإذا افتخر فقل: أنت فوق ذلك، وإذا ادعى الفصاحة فعب كل متكلم دونه، وإن ادعى الكرم فذم حاتما، وإذا جبن فقل: هكذا تكون الحماسة، وإذا بخل فقل: هكذا يكون الاقتصاد، وإذا بغي فقل هكذا العدل، وإذا سفه فقل: اتقوا غيظ الحليم، ولا تلبس أمامه إلا ما يتفضل به عليك، ولا تزد في بيتك ما يدل على ثروتك، وألزم هذه الحال حتى يموت، أو يخليك من الخدمة، فاظهر ما شئت وافعل ما تريد. وهذا هو الخلاف المناسب لمن يريد أن يكون محبوبا عند الأغنياء مألوفا

لذي الجاه والمظهر الذين فسدت أخلاقهم بفقد التهذيب لا من تربوا على الآداب -وفطروا على محاسن الأخلاق". نماذج من شعره: قال متغزلًا: سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ... وكفوا إذا سل المهند حاجبه وعودوا إذا نامت أراقم شعره ... وولوا إذا دبت إليكم عقاربه ولا تذكروا الأشباح بالله عنده ... فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه؟ أراه بعيني والدموع تكاتبه ... ويحجب عني والفؤاد يراقبه فهل حاجة تدني الحبيب لصبه ... سوى زفرة تثني الحشا وتجاذبه؟ فلا أنا ممن يتقيه حبيبه ... ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه فلو أن طرفي أرسل الدمع مرة ... سفيرًا لقلبي ما توالت كتائبه ومن رواية "الوطن" التي مثلها بحضرة المرحوم "الخديو توفيق باشا"، قوله: أنوار عدلك تهدي حتى نادينا ... وحسن سيرك للعليا ينادينا لكننا في طريق ضل سالكه ... فمن يدل إلى الحسنى ويهدينا؟ أفتية ساءهم إنصاف سيدنا ... فاستقبحوا العدل والإحسان والدينا؟ كنا نناجي بألفاظ تقربنا ... صرنا ننادي بديناد يغادينا وكان يمشي على الديباج سالفنا ... فصار يمشي على النيران حالينا هل في القصور رجال غير من عظموا ... بما لدينا وكانوا من موالينا؟ أو في الديار أناس غير من وفدوا ... من القفار فصاروا في مبانينا؟ هذي معالمنا تبكي وتنشدنا ... قول "ابن زيدون" إذ قامت تعزينا

"بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا" لو أننا مثل أهل الأرض في همم ... ما قام يندبنا أحيا مغنينا قل للنفوس التي ماتت بلا أجل ... أين القلوب التي كانت تجاربنا؟ أين الشيوخ الأولى ساروا وسيرتهم ... مسك ذكي يباهي مسك دارينا؟ أين العلوم التي كانت توصلنا ... باب السعود فصارت من أعادينا؟ أين الصنائع أين العارفون بها ... أين الديار التي كانت لأهلينا؟ كانت وكانوا وصار الكل في عدم ... واستبعدتنا بما نهوى أمانينا نمشي حفاة على شوك القتاد فلا ... يؤذي النفوس وكان الخز يؤذينا أستودع الله قوما كان طبعهم ... يبدي لك الحالتين البأس واللينا شدوا الجياد وجابوا كل بادية ... كي يعمروها فعموا الأرض تمدينا وسيروا الحق في الآفاق أجمعها ... فاستحسنته ونادتهم سلاطينا واستخلفونا فكانوا شر من ورثوا ... إذا لم نحافظ على ملك بأيدينا إذا سمعنا خطيبًا ذاكرًا حكمًا ... قلنا له عزة الآباء تكفينا لا نشتري المدح لو جادت به فئة ... من السماء فإن الدم يرضينا وليتنا إذا رضينا هجو أنفسنا ... نستحسن البعد عما يوهن الدينا ماذا نرى في أناس لو تقربهم ... إلى العلا بعدوا مما يرقينا ما خالفوك ولكن خالفوا شرفا ... لو يعرفوا قدره مما يولينا فاجمع من القوم من ترضى خلائقه ... واجعل لكل من الأعضا قوانينا وشدد الأمر حتى لا يضيع سدى ... واجعل زمانك فيه العدل واللينا وطهر القطر ممن طبعه شره ... وخائن يحرق المأوى ويشوينا وكن لأهل الوفا حصنا وملتجأ ... وكن لأهل الهوى سيفا وسكينا واجعل رياضك للأفكار منتزها ... وسس بعزمك قاصينا ودانينا فالفخر يحسن من سامي المقام لدى ... "مبارك"، فهمه يبديه تبيينا

ولا يساير أرباب الفنون سوى ... "على" قدر يجل العلم تدوينا والله يحفظ "بالتوفيق" دولتنا ... "ويرحم الله عبدًا قال: آمينا" ومن شعره في الفخر، وقد تهافت في المحسن البديعي: أتحسبنا إذا قلنا بلينا ... يلينا أو يروم القلب لينا؟ ولسنا الساخطين إذا رزينا ... نعم يلقى القضا قلبا رزينا فإنا في عداد الناس قوم ... بما يرضى الإله لنا رضينا إذا طاش الزمان بنا حلمنا ... ولكنا نهينا أن نهينا وكتب إلى أحد أصدقائه مدة اختفائه: وبعد فهذا شرح حالة غائب ... عليه من اللطف الخفي ستور تدور به الأهوال حول مدارها ... فيصبرو القلب الرضي صبور عسى فرج يأتي به الله إنه ... على فرجي دون الأنام قدير ومن أبياته السائرة قوله: دع عنك لومي في شيء خصصت به ... وانظر لنفسك تعذر مثلك الجاني فتركك الشيء لا يغنيك منقبة ... بل ذاك للمرء يدعى حسن إيمان وقوله: أنظر لما تبديه من فعل يرى ... فعل الرجال لعقلهم عنوان والناس شتى في التنافر والمرا ... والكل إن ألفتهم إنسان

سعد زغلول

سعد زغلول: المتوفى سنة 1347هـ-1927م. بيئة سعد، ونشأته: ولد "سعد" في قرية من قرى مديرية الغربية تدعى "إبيانة"، وكان أبوه "إبراهيم زغلول" عميد بلدته، من سراتها، ووالدة "سعد" هي السيدة "مريم" بنت "الشيخ عبد بركات" انحدرت من أسرة عريقة اتصل آباؤها بالولاة منذ "محمد علي الكبير"، وجمعتهم المصاهرة بأمجد البيوت في إقليمي الغربية والبحيرة. وليس في سجلات المواليد تاريخ لميلاد سعد، ولكنه ذكر لبعض سائليه عن ميلاده أنه ولد في ذي الحجة سنة 1274هـ، أما التاريخ المرقوم بشهادة "الليسانس" التي حصل عليها من "باريس"، فيقال: إنه أول يونيه سنة 1890م. ورث "سعد" عن أبويه بنية الفلاح، وصدق العزيمة وصلابة الحق، وعوجل في السادسة من عمره بوفاة أبيه، فحرم عطف الأبوه، وعوض عنه الاعتماد على النفس. ربي "سعد" بعد موت أبيه في كفالة أخيه الأكبر الذي استطلع فيه منذ صغره مخايل الذكاء، وقرأ في محياه أمارات النباهة والطموح، فأدخله المكتب ليتعلم القراءةء ومباديء الدراسة، وحفظ القرآن كي يتهيأ لإشخاصه إلى الجامع الأزهر؛ ليتعلم به العلوم اللغوية والدينية. دخل "سعد" مكتب القرية في السادسة من عمره، وانتهى منه في الحادية عشرة من عمره، وامتاز من أقرانه بخلتين لزمتاه طوال حياته هما الفهم

والعزم، فكان كما قيل يصحح ما يكتبه بعد قراءة واحدة، ويفرض على نفسه واجبا دونه ما يفرضه المعلم. ولما أتم حفظ القرآن، وظل يتردد على الشيخ "أحمد أبي رأس" شيخ معهد دسوق الديني إذ ذاك، ويتلقى عنه دروسا في النحو والفقه، كما يتلقى أصول التجويد، ثم صحت النية على إيفاده إلى الجامع الأزهر ليجد فيه من الثقافة ما يتوق إليه، وقد طرب لرحلته إلى الأزهر، ووفد إليه إذ كان إصلاحه قد حان حينه، فقد كان ذلك في سنة 1871م، وهي السنة التي تولاه فيها الشيخ "محمد العباسي المهدي"، وشرع في إصلاحه وتنظيمه، وفي مطالع هذا العام قدم إلى القاهرة المصلح الخطير السيد "جمال الدين الأفغاني"، يحمل دعوته الجريئة التي ملأت الأذهان والقلوب، كان في الأزهر فريقان يتشاجران: فريق المحافظين على القديم المتشبثين به، وفريق النازعين إلى التجديد الداعين إليه. نهل "سعد" من علم "جمال الدين" والشيخ محمد عبده، وكان له من الانتفاع بعلمهما، وتوجيههما أبلغ الأثر في حياته، وكان زملاؤه في الأزهر إذ ذاك من طبقة الشيخ "عبد الكريم سلمان" والشيخ أبي خطوة"، فقيض له من هذه البيئة ما شجعه على المضي في الإصلاح المنشود للأزهر، ودعى سعد للعمل مع هذه الطائفة على تحقيق الإصلاح المرجو، فكتب منشورًا علقه في جنح الظلام على أعمدة الأزهر يبين الداء ويصف العلاج، وقد قال حين رأى "الأفغاني" لأول مرة هذا يغبتي"، ومما روى أن "السيد جمال الدين استكتب تلاميذه موضوعا عن الحرية، فبذ سعد أقرانه بكتابته، وأعجب "الأفغاني" به حتى قال "من علامة نشأة الحرية في هذه الأمة ألا يجيد الكتابة فيها إلا ناشئ كهذا الفتى". كان جمال الدين زعيما اجتماعيا مصلحا، البيان أقوى دعائمه، وأبلغ أسسه وتلاميذه، وشيعته يجرون معه في هذا المضمار، ومن ثم قد دلف سعد إلى هذا الميدان، وأقبل على الخطابة والكتابة، وتوفر على المطالعة قوى الرغبة صادق

العزم، وما هو إلا أن قرأ كتاب "ابن مسكويه" في تهذيب الأخلاق، فقام بتلخيصه وهو حدث لما يناهز العشرين، ثم نشط للكتابة في الصحف والخطابة في المجامع، ثم عين رئيسا للقسم الأدبي، بالوقائع المصرية ثم أشرقت كفايته، وتجلت مواهبه وظهرت قدرته على نقد الأحكام، وفهم القانون، فانتقل إلى وظيفة معاون بوزارة الداخلية، فنظر لقلم قضايا الجيزة. ثم اندلعت الثورة العرابية، فكان ممن أشعلوا نارها وخاضوا غمارها وهنا يبدأ جهاد تتقد فيه عزيمته، وتكبر رجولته. اشترك سعد في الثورة بقلبه الكبير وعزمه الجبار، وناله من أذى الاعتقال وفقد الوظيفة ما ناله، ولما نفي أصحابه الثائرون خطر له أن يعود إلى وظيفته، أو يجد في الحكومة عملا فلم يقيض له ما أراد، وإذ ذاك رغب في المحاماة على ما كانت توصم به إلى هذا الحين من التطاول والفحش، واتخاذها تجارة قد يكون ربحها بغير الشرف والعفة، وكأنه كان يريد أن يهيئ لها كرامة وشرفا جديدين. ثم اتهم بأنه ألف جماعة سرية سماها "جماعة الانتقام" لتقتل الجواسيس الذين خانوا الثورة العرابية، والرؤساء الذين نكلوا بالعرابيين فألقي القبض عليه، وعلى الرغم أن دليلا لم يقم على اتهامه ظل معتقلا أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن النية كانت متجهة إلى نفيه للسودان.

سعد المحامي 1: عاد "سعد" إلى المحاماة بعد خروجه من السجن، فكان الآية الناطقة بالكرامة، كما كان أبلغ الأمثال في قوة الحجة، ورصانة الجدل ورسوخ المادة، واتزان المنطق وانطلاق اللسان، وحسن الأداة وشدة العارضة، والعفة في القول ودقة الاستنباط وصحة الاستدال، وقد سأله "أحمد بليغ باشا" في لجنة الامتحان عن واجبات المحامي، فقال: "درس القضية جيدا والدفاع عن الحق، واحترام القضاء". كان ذلك هدفه في المحاماة لم يقم عن الباطل مدافعا، ولم يقف للحق قصما، وما تكفل بقضية إلا وهو دارس متأهل ليدافع عن بينة، وما درس قضية فوجد فيها القضاة، أو وكلاء النيابة، أو الخصوم ثغرة ينفذون منها إليه، ومن عجيب أنه إذا لاحت له فرصة للصلح انتهزها، وشجع موكله على المضي فيها ورد له "مقدم الأتعاب" الذي كان يقيده في "باب الأمانات" حتى إذا توفرت أسباب الصلح رد المال للموكل، وقال: هذه أمانتك ردت إليك". سما "سعد" بالمحاماة، وبلغ بها أقصى درجات العظمة والكمال بلاغة وقوة وبرهان، وأمانة عمل هي أسمى ما ينشده الشرفاء لهذه المهنة، والقائمين عليها وكان سعد تمثل في قضية الفرد قضية الأمة، وألهم أن لليوم ما بعده، فشرف في المسلكين، ووفى في القضيتين.

_ 1 مع أنه لم يكن يشترط في مزاولة المحاماة إجازة عليه بل مجرد امتحان يعقد في المحكمة يسوع النجاح فيه الاشغال بالمحاماة، ترى سعدا قد جد في تعلم الفرنسية، وما زال يتعلم في فرنسا في كل عام ليكتمل في مواد القانون، حتى أحرز شهادة الحقوق "الليسانس" من إحدى كلياتها.

وإنك لترى أثر الأزهر واضحا فيما تميز به "سعد" المحامي، فقد نضحت عليه البلاغة، وطلاقة اللسان، ودقة البحث وغزارة المادة، وترتيب المنطق، وتلك من أهم ما يمتاز به الأزهريون، وكان من خصائصه الأمانة والنزاهة اللتان هما من ألزم الصفات لرجل نشأ في ظلال البيئة الدينية. على أن دراسة الأزهريين، والتفرغ فيها بالتروي، والمثابرة للوصول إلى النتائج، والتقصي الدقيق الذي هو من لوازم الدراسة الأزهرية كان من أقوى الأسباب التي أنجحت "سعدا" في مهنة المحاماة، وجعلته سيد المحامين جميعًا. سعد القاضي: ظل "سعد" يزاول المحاماة ثماني سنين، أو تسعا كان فيها المثل الأعلى في الإيمان والبيان، ثم سعى له أستاذه الشيخ "محمد عبده"، فعين "سعد" نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وظل يرتقي في مناصب القضاء بما يعد طفرة ووثوبا، وقد ابتهج المحامون والقضاة بتعيين "سعد"، وكان في قضائه كما كان في دفاعه لم تسم إليه ريبة ولم يدنس يوما بظن. سعد وزير المعارف: كانت الأفكار مبلبلة والخواطر هائجة، والمصريون يضمرون للإنجليز شرا؛ لأن الإنجليز بدأوا بالشر، وبيتوا لهم أمرًا؛ لأن بني التاميز جاءوا بشيء إمر، وذلك عقب حادث "دنشواي"، واتجهت سياسة الاحتلال إلى تهدئة الخواطر، وتنحية النهم التي اكتنفت النيات البريطانية، وخاصة ما اعتقده المصريون من

أن الإنجليز يصدون عن تعليمهم، وينحون الشباب المصريين عن التربية الصالحة والثقافة النافعة، خشي الإنجليز خطر ما في الصدور، ورأوا خلل الرماد وميض نار، فعملوا على تهدئة الخواطر وتسكين الفتن، وكان أول ما فعلوه أن دعى سعد ليتولى وزارة المعارف، وهو الذي جاهر بنقد التعليم في مصر وصاح صيحات متصلة مطالبا بإصلاح التعليم، وكان في طليعة الذين أسسوا الجامعة المصرية، ولم تكن هذه أول مرة عرض فيها اسم "سعد" لتولية الوزارة، فقد كان من المصريين المعروفين بالنزاهة والفصاحة، وكان يخشى خطره من طول ما ينادي به في إنهاض الأمة والعمل على رقيها، كان ترشيحه للوزارة من المطالب التي اشترك في طلبها المستر "بلنت" الشاعر الأرلندي المستشرق، "والشيخ محمد عبده"، و"محمد المويلحي بك" في سنة 1891م، إذ كتبوا بذلك خطابا إلى "اللورد كرومر" ذكروا فيه اسمه مع تسعة آخرين من زعماء من الناهضين. ولي "سعد" وزارة المعارف سنة 1906، وكانت من قبله بيد المستشار الإنجليزي "دنلوب" يصرفها على هوى الاستعمار ومذهبه، ويؤازره في ذلك أعوان فرنسيون وانكليز، ويؤيده صنائع الاستعمار من المصريين الضعاف النفوس الذين رأوا السلطان في يد المحتل، فهابوه ولم يرقبوا في الوطن إلا ولا ذمة. أقام "سعد" في وزارة المعارف قرابة ثلاثة أعوام غير فيها وجه التاريخ، ومضى في عمله قويا جبارا ذا شخصية، ورأي ووطنية، وطامن بسطوته بغي المستشار فلم يحس له من أثر، ولن ينسى له الزمان أن نقل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، وقيض للدراسة ما تتطلبه من الكتب العربية النافعة، ومهد السبيل لتحقيق هذه الغاية، فترجمت كتب العلم الحديث إلى العربية، ونشط المتعلمون للتدريس، والتأليف فيها1.

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص294.

وزود المدارس بطائفة من المدرسين ليعاونوه على نشر الثقافة في صورتها العربية الجديدة، ونقل التعليم إلى مرحلة نافعة مثمرة بعد أن ظل جامدًا في ظل الاحتلال والعبودية. وكان من آثار "سعد" في وزارة المعارف أن أنشأ في سنة 1907م مدرسة القضاء الشرعي على نظام بديع وطريقة مثمرة، فخرجت طائفة من العلماء البارزين، والقضاة النابهين استمدتهم من نابغي الأزهريين. كما أثبت وجود المصريين في الوظائف الضخمة بعد أن لم يكن له ظل فيها، وهيأ لهم وظائف الإدارة، والتفتيش واختار منهم وكلاء للمدارس الثانوية تمهيدا لترقيتهم إلى وظائف النظار، وما بعدها. ولا ينبغي أن تتجاهل الروح المعنوية، والقوة الهائلة التي سكبها في نفوس المصريين من الاعتداد بالنفس والتربية الوطنية الصالحة، واستماعه لكل شكاة وإنصافه كل مظلوم. سعد وزير الحقانية "العدل": استقالت الوزارة الفهمية التي كان "سعد" وزير معارفها في أواخر سنة 1908م، وكانت وزارة الحقانية نصيب "سعد" في الوزارة التي خلفتها، وكان الغرض من إسناد "وزارة الحقانية" "لسعد" التحجير عليه، وتفادي الخلف معه؛ لأنها وزارة التشريع والقضاء، وهما من أعمال مجلس الوزراء مجتمعا لا من عمل الوزير وحده، والقضاء من عمل المحاكم، ولا شأن للوزير به إلا الإشراف من بعد عليه، وإذن فقيام "سعد" على هذه الوزارة يراد منه نشدان أمنه، وسلامه وتلافي ما يثيره وحي شخصيته، ووطنيته من عقبات ومشاكل.

ولكن سعدًا عاش في هذه الوزارة يحمل معه نفسه وطريقته، وظل يلبي ضميره، ويعمل برأيه وتصرفه الخاص، فجد في إصلاح نظم القضاء، وتعقب القوانين القائمة بالتهذيب، والتعديل حتى أصبحت تساوق الحاجة، وتدارج روح العصر. حفظ "سعد" للمحامي كرامته، وللقاضي حرمته، ولم يعبأ برأي متبع أو عرف مألوف، ووقف العدالة من كل مظلوم، ولم يتراجع، ولم يقف عند حد الحذر والمجاملة حينما عرضت قضية من القضايا لمصادمة مرهوبة جمعت عليه كل قوة من البلاد المصرية؛ لأنها مصادمة المال، ومصادمة "اللورد كتشنر"، ومصادمة الأمير "عباس الثاني"، وهما قابضان على كل قوة فعلية، أو شرعية في الحكومة1. وقصة هذه القضية أن أميرة مصرية تزوجت من فتى رومي مسيحي، فصدر أمر "الخديو" بمحو اسمها من الأسرة، وإحالة ملكها إلى قيم يشرف عليه، ويقدم حسابه إلى وزارة الحقانية، وكان هذا القيم من رجال الخديو، وكان إلى جانب ذلك من الأصدقاء المقربين من "كتشنر" يصاحبه في غدوه ورواحه، ويقضي معه شطرًا من شئونه، فقد اجتمع الخديو و"اللورد" على حبه تقديره. لاحظ "سعد" في حساب هذا القيم أثناء مراجعته خللا ظاهرا استوقفه، واستغضبه فأشار بعزله، وإذ ذاك عز على "كتشنر" أن ينال ذلك أحد الأوفياء له، وأن تذاع الهزيمة القاصمة للرجل الجبار، فاستعدى على "سعد" حكومة "لندن"، وبينما يترقب الرد وقعت بينه وبين "سعد" مشادة عنيفة خرج "سعد" منها ثائرا محنقا، وقدم على إثرها استقالته. وإذا كان بعض الناس يخضعون للمناصب، ويغضون الطرف عن بعض

_ 1 سعد زغلول للأستاذ عباس العقاد ص28.

الحقوق في سبيلها، فإن "سعد" كان الأسد حق الأسد، سما بالمناصب فجعلها أسباب خلوده، وسجل فيها كريم وقفاته وروائع جهوده. مراحل جهاده: صدر القانون بإنشاء الجمعية التشريعية، وتطلعت إلى التمثيل فيها مواهبه، واستشرقت إلى منبرها فصاحته، ونزل ميدان الانتخاب بعيدا عن الأحزاب لكنه وحده القوة الهائلة، وقد خطب في ناخبيه فشرح لهم بمنطقه الخلاب رسالته في الجمعية، وما هو فاعل لو توجوه بثقتهم "ولأول مرة في تاريخ الانتخابات بمصر سمعت الخطب الانتخابية، وتقرب المرشحون إلى الناخبين ببيان الخطط التي ينوون اتباعها1". ظفر "سعد" بالنجاح مع أنه رشح2 نفسه في دائرة من دوائر العاصمة، وكان في هذه الجمعية شعلة متقدة يخشى خطرها، وكان فيها وفي مجلس النواب بعدها يمثل صفاء الذهن، وإشراق الفكر فياض البيان، بليغ الأداء جم الأدب، عفيف اللسان، وقد قال عن نفسه في هذا العدد: "لست شتامًا بل أقر وأعترف أمامكم بأنني عاجزًا أمام كل شتيمة، فليس لي مطلقا قوة في هذا الميدان تدفعني، لأن أنازل فيه أضعف إنسان ... ". شبت الحرب العظمى، واندلع لهيبها في البلاد وأعلنت الأحكام العرفية، ثم الحماية على مصر ونقض الإنجليز ما عاهدوا المصريين عليه، وضيقوا الخناق على الأحرار، واسترسلوا في الكيد والأذى والانتقام، فدعا سعد ناديه، ونفخ في الأمة من روحه، وهو العلم الخافق والصوت المدوي، وفي

_ 1 سعد زغلول للأستاذ عباس العقاد ص155. 2 فلان يرشح للملك يربي، ويؤهل له "قاموس".

هذه الغاشية، وتلك الوحدة المجمعة، تألف الوفد المصري من أعلام الجهاد والوطنية، وكان "سعد" زعيم هذا الوفد ينفحه القوة من مضائه، والحكمة من بلائه، وكان يقول قبل نفيه من مصر بأسبوعين لا بد لنا من قارعة، وما هي إلا أيام قلائل حتى أعلن الإنجليز رغبتهم في تنقية الجو المصري من سعد، فنفي إلى "مالطة"، ومع نفر من أصحابه. الثورة الجامحة: سرى هذا النبأ فاندلعت الثورة في كل مكان، وفي كل وجدان، وكانت ثورة قومية انتظم في عقدها طلبة الأزهر والمدارس، وأفراد الشعب مسلمين ومسيحيين. وبدأت السلطات تسرح "سعدًا"، وأصحابه فشخصوا باريس "مثوى مؤتمر الصلح"، حيث وافاهم أعضاء الوفد جميعا، ولما لم يلق هذا المؤتمر لقضية مصر بالًا عاد بعض الأعضاء، وبقي "سعد" في "باريس". وفي سنة 1920 شخص إلى "لندن"، ومعه بعض زملائه بدعوة من الحكومة البريطانية لمفاوضتها في المطالب المصرية، وكان الإنجليز ممثلين في لجنة يرأسها لورد "ملنر"، ولتشدد الجانب المصري في حقوقه لم تثمر هذه المفاوضات، فعاد الوفد إلى مصر، واحتفلت به الأمة "كأنها طائر مد جناحيه لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله على كله1". وظل سعد مدوي الصوت موصول الثورة حتى اضطرت السلطة إلى نفيه ثانية مع بعض رفاقه إلى جزيرة "سيشل"، فلبثوا بها مدة نقل "سعد" بعدها إلى جبل طارق، وأطلق من معه فشخص هو إلى "فرنسا"، فمكث بها مدة، ثم

_ 1 من مقال للمرحوم مصطفى صادق الرافعي في الرسالة العدد 147.

عاد إلى البلاد المصرية حيث كان الجهاد قد آتى شيئا من أكله، فحصل على تصريح من الحكومة البريطانية في 28 من فبراير سنة 1922م يخلي بين مصر وشئونها، ويعترف فيه بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، إلا أن الإنجليز احتفظوا لأنفسهم ببعض الشئون، وأعلن أثر ذلك الملك فؤاد استقلال مصر، ثم أصدر "الدستور" في سنة 1923، وكانت هذه خطوات موفقة في سبيل الاستقلال، وبواكير طيبة من ممار الحرية لولا أن إحدى اليدين تسلب ما أعطت الأخرى. وفي مطلع سنة 1924 ألف "سعد" وزارته الشعبية حيث ظفر بالأغلبية النيابية، ثم اعتزل الوزارة في ذلك العام، وأسندت إليه رئاسة مجلس النواب، وظل فيها حتى أغمده المنون في 22 من شهر أغسطس سنة 1927، فجزعت نفوس، وفزعت قلوب، وكان رزء مصر به أجل رزق، وخطبها بوفاته أقدح خطب. زعامة سعد: لو تفرس الناس في "سعد" منذ صباه لطالعتهم زعامته المشرقة، ولو تفطنوا إلى مواهبه حدثا لاجتلوا رجولته الناطقة، ذلك؛ لأن "سعدا" لم تواته الزعامة بعد خمول وقعود، ولكنه شب كالزهر الناضر فواح الشذى ريان العود، ولم تكن زعامته رأيا واتاه في مصادفة الحوادث فجن به، وافتتن بل كانت إحساسا يخالط جوانحه، ويقينا يملأ جوارحه. كان الجهاد معنى في نفسه، والعظمة دما في جسمه، والقوة جوهرا في إرادته والحرية صرخة في دمه. عبد "سعد" الطريق الحياة الكريمة لمصر، وعلم الجيل كيف يفنى في سبيل المجد ليعيش ماجدًا، وكان يجاهد لا لمعاصريه بل لمن بعدهم، ويوقظ الجيل

الحاضر والمستقبل معا، ويعمل لتنهض مصر في اليوم والغداة، قال له الشيخ "المنفلوطي" في يوم من أيام جهاده في الجمعية التشريعية: ما الذي تستفيده يا مولاي من إجهاد نفسك في شئون قلما تنال فيها الأغلبية في الجمعية؟ فأجاب جواب الرجل الذي يعرف أين هو من عمله، ويعرف السلاح الذي يستخدمه في نضاله: سواء لدى أنجحت أم لم أنجح، فإني لا أخطب في الجمعية التشريعية وحدها بل في الأمة جميعها، ولا أخاطب الحاضر وحده بل أخاطب المستقبل أيضًا1. تفتحت عيناه على هضيمة مصر وتهدج في سمعه صوت الحرية المخنوق، وهاله أن يكون الوطن أسلابا يغنمها الدخيل. لقد تمثلت زعامة "سعد" في ثورته المبكرة التي أذكى روحها الأفغاني والإمام، فشب وهو حدث متمردا على كل فاسد، فإنه ليأبى وهو طالب بالأزهر مسايرة الجمود في بعض نواحيه، فيصيح فيمن يصيح طالبا الإصلاح والتهذيب. ثم تبدت زعامته في كل ما كان يكتبه، وهو طالب في مستهل صباه، ثم كانت الزعامة فيه محاميا منزها، وخطيبا مفوها وقاضيا عادلا ووزيرا مناضلا، ثم مجاهدا جبارا يوقظ الأفئدة المصرية، فلا يعيش أحد في عهده بغير روح ثائر وقلب خافق. دعا فتجاوبت الآفاق بدعوته، وهتف فرددت القصور والأكواخ هتافه، واستجابت لرغبته، وأنشد نشيده العذب فكان للعقول غذاء: إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا صادفت هوى في الفؤاد لقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حرب كبيرة، فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل

_ 1 سعد زغلول للعقاد ص149.

عرق السياسة كما يفور العرق المجروح من الدم1. وكانت زعامته قدوة المجاهدين في الشرق، فنهجوا نهجه وجروا مجراه، وقد قال غاندي زعيم الهند: "على هذا التقدير يكون سعد هو صاحب الفضل في السبق والابتداء، ثق أن الحركة الهندية سارت على أعقاب الحركة المصرية، إني اقتديت بسعد في إعداد طبقة بعد طبقة من العاملين في القضية الهندية، فلا تعتقل طبقة منهم إلا لحق بها خلفاؤها على الأثر، وعن سعد أخذت توحيد العنصرين، ولكني لم أنجح كما نجح فيه، إن سعدًا ليس لكم وحدكم، ولكنه لنا أجمعين2". دعابته وبديهته: من مستلزمات الزعيم أن يكون ذا دعابة تروح عن النفوس إذا لفحها حر السياسة، وبديهة ينفذ بها من المفاجآت والمآزق، وكثيرا ما يخيم في جو السياسة سحائب من الكآبة والهموم، فيبددها الزعيم بمزاحه المحبب ودعابته العذبة، وكثيرا ما تكون بديهته سلاحا يتقي به ما يحرجه، ويدفع به ما يسوءه، والزعيم القوي هو الذي يملك مواقفه، ويسيطر عليها فينشر في الجو فكاهة إذا شاء، ويكون ذا بديهة يلوذ بها ويعتصم، وكان سعد في الأمرين الزعيم كل الزعيم. فما روي من دعابته أن صحفيا إنجليزيا أنبأه أن "اللورد جورج لويد"

_ 1 من مقال للمرحوم صادق الرافعي في العدد 174 من مجلة الرسالة. 2 روى ذلك موظف مصري كبير لقيه غاندي في لندن حيث زارها لحضور المؤتمر الهندي فيها، والقصة في كتاب "سعد زغلول" للأستاذ العقاد ص506.

صاحب الأزمات المعروفة يقول: "إن صحة سعد باشا تتقدم على الأزمات" فقال "سعد" للصحفي: قل له "ربنا يطيل عمره". وجاءه من أنصاره في أثناء احتدام الخلاف بين الوفد، وإحدى الحكومات فشكا إليه من أنهم فصلوه، ولم يجن ذنبا بعد أن قضى سبعة عشر عاما في منصبه، فابتسم سعد وقال: "وهل ذنب أكبر من ذلك"، أو لم تسمع بعذر الرجل الذي طلق امرأته بعد عشرة طويلة في صفاء ووئام؟ طلقها فراحت تشكوه، وتعتب عليه ما ذنبي يا فلان؟ أبعد خمسة وعشرين سنة تفعل هذا؟ قال لها: مهلا يا أم فلان هداك الله، وهل ذنب أكبر من خمس وعشرين سنة في عيشة لا تتغير؟ وقيل له: إن صحفيا ممن يهاجمونه مريض فسأل: ماذا أصابه؟ فقالوا: عسر هضم ومغص معوي1، فقال: لعله بلغ مقالة من مقالاته. ومن بديهته التي كانت توائيه عفو الخاطر، ووحي الساعة أن خصومه كانوا يدسون عليه في المكان الذي يخطب فيه من يحدث الشعب في أثناء خطبته. وكان هذا الكيد عسير العلاج إذ إن الجمهور يحار في أمر الشاغبين، فلا يستطيع الضرب على أيديهم حرصا على روعة المقام، وجلال الموقف، وقد تمادى يوما أحد هؤلاء، وضاق الناس به ذرعا فأخذوا بتلابيبه، وهم مشفقون على هدوء الحفل ولا يدرون ما يفعلون، ولكن "سعدا" تساعفه البديهة، فيقول: "لا يضرب في بيتي"، ويترك مقام الخطابة، وفي اللمحة الخاطفة يفهم الناس، ويفعلون وينقطع كيد الشاغبين فلا يحاولون. وقال لبعض الحاضرين في مجلسه عقب عودته من المفاوضة مع "مستر ما كدونالد"، ماذا تروننا صانعين في مواجهة الإنجليز؟ فقال أحدهم: الإضراب

_ 1 المعي بالفتح وكإلى من أعفاج البطن وقد يؤنث، ج أمعاء، والعفج وبالكسر وبالتحريك، وككتاب ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ج أعفاج قاموس، فكأنها منسوبة إلى "معي".

العام يشترك فيه الموظفون حتى تجاب مطالب البلاد، فقال "سعد": وهل يقع هذا الإضراب؟ فقال بعض الحاضرين: يقع عاما، فقال فريق: يقع في بعض الجهات، وخالفهم آخرون، فقالوا: إنه لا ينتظر ولا يطول. فقال سعد: "الدليل على أنه لا يقع ولا يصعد طويلا إن وقع أنكم مختلفون فيه"، إن هذه الحركات لا تأتي إلا عفوا، وعندما يكون الجو مهيأ لن تختلفوا فيه بل تجيبوا بلسان واحد: إنها أمر واقع لا ريب فيه. سعد الأديب: كان لسعد فطرة الأدب، وموهبة البيان، وملكة النقد، اتفق له من روعة الخطابة ما تسامى إلى الإعجاز، وكان له الأسلوب الكتابي الرائع، وله في إصلاح الكتابة يد من أسبق الأيدي إلى التجديد في العصر الحاضر، ولم تشغله السياسة مع احتوائها مشاعره، وخواطره عن العناية باللفظ واختيار المعنى، وتجويد الأسلوب، وكانت له في الأدب حصافة رأي ورجاحة فكر وأصالة قول. وكانت مجالسه تضم الأدباء والكتاب والشعراء، جرى أمامه الحديث في أساليب بعض الكتاب، فقال رحمه الله: "إنني أتناول أساليب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة والتركيب، ولكنني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها، فلا أخرج منها بنتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها، فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون بالمفرق، ولا يبيعون بالجملة". وتحدث يوما عن الإيجاز والإطناب، فقال: "إن الإيجاز متعب؛ لأنه يحتاج إلى تفكير وتعيين، ولكن الإطناب

مريح؛ لأن القلب يسترسل فيه غير مقيد ولا ممنوع". وقص قصة رجل كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بقوله: "اعذرني من التطويل، فليس لدي وقت للإيجاز، ثم قال سعد: "إن هذا الاعتذار قد يبدو عجيبا لمن لم يمارس الكتابة، أما الذين مارسوها فهم يعلمون صعوبة الإيجاز وسهولة التطويل". وذكرت أمامه المحسنات البديعية، والتهالك عليها فقال: "إن المحسنات حلية والشأن فيها كالشأن في كل حلية ينبغي أن تكون في الكتابة بمقدار، وإلا صرفت الفكر عنها وعن الكتابة، وعندي أن المقال الذي كله محسنات كالحلة التي كلها قصب لا تصلح للبس ولا للزينة". وتحدث في مجلس ضم "حافظا والعقاد" و"صروفا"، ونخبة من أعلام الأدب فقال: "إن عيب صاحب هذا الكتاب كثرة الاستعارة"، ثم قال: "ما أظن صاحبه يريد ما يقول؛ لأن الذهن الذي يملك معناه عبارته بغير حاجة كثيرة إلى المجاز"، إنني أفهم الاستعارة للتوضيح والتمكن، ولكني لا أفهم أن تكون هي قوام الكلام كله، وكل استعارة عرفت وكثر استعمالها أصبحت كلاما واضحا، وذهبت مذهب الأفكار المحدودة؛ لأن الذهن يطلب الاستعارة ليستعين بها على التحديد، فإذا وصل إلى التحديد كان في غنى عن الاستعارة، وعن المجاز1. أما حديثه عن الشعر والشعراء، فإنه مقل فيه؛ لأن نفسه لم تستجب للشعر روي عنه أنه قال: "إنما أحب الشعر السهل الواضح البين، أما الشعر الذي يحوجني إلى التنجيم فلا أستطيبه"، وكان يرى أن شعر الحكمة أفضل الشعر وأعلاه ويقرأ للمتنبي ويحفظ له أبياتا كثيرة، ويستشهد بها في بعض الأحاديث

_ 1 روى عنه هذه الآراء الأستاذ العقاد، وأذاعها فيما كتبه في البلاغ الأسبوعي لسنة 1927 بعنوان "آراء لسعد في الأدب".

ومن الشعر الذي كان يجري على لسانه، ويستشهد به قول أبي العلاء المعري: هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول ومنه بيت عبد الله بن الزبير يريد مالكا الأشتر النخعي" اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي وقول البارودي: خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة ... علي يدا أغضى لها حين يغضب ومنه هذه الشطرة: بو بغير الماء حلقي شرق وبقية البيت: كنت كالغصان بالماء اعتصاري ومن رأيه من الأدب أيضا أنه لما كتب العقاد في كتابه: "مراجعات" عن المنفلوطي، وفضل الكتاب على المنشئين قال "سعد": إن الإنشاء فيما يبدو له أعلى من الكتابة؛ لأن الإنشاء خلق وابتداع، ولا يشترط في الكتابة أن تكون كذلك فالمنشئ كاتب وزيادة، والكاتب يأتي بشيء من عنده، وقد يأتي ببضاعة غيره. هذه آراء لسعد في البيان والأدب، وأوردناها لندل على أنه أديب لم يقتصر أدبه على ما ذاع من براعته، وتفوقه في الخطابة. ومهما يكن شيء فإن سعدا أعان على أسباب النهضة الأدبية، فإنه حرك عواطف أمه، وأيقظ أفئدة شعب، واستنهض بثورته السياسية الأقلام والألسن، وجعل من الصحف أسفارا أدبية قيمة، فهذه صحف الوفد تدعو دعوتها، وتبسط رأيها، ويجري على صفحاتها أسلوب الأدباء والكتاب البارعين، وتلك هي الصحف المعارضة تساجل صحف الوفد، وتذهب في رأيها السياسي مذاهب، فيحتدم خلف في الرأي، وتشتد ملاحاة في الفكرة، ويتبارى في هذا المضمار أعلام الأدب والبيان، ويمتعك من كل فريق شعر شعرائه..

وتلك هي الأندية السياسية كان فيها صيال بالخطب، وسجال البيان يتنافس فيها الأحزاب، ويجود فيها السياسيون والمتأدبون، فانفكت عقد الألسنة، ونشطت الأفكار والقرائح، وزخرت المنشورات والنداءات السياسية بأدب حي وبيان خصب. ومن آثار سعد الأدبية أن خلف ثروة من الكلمات الأدبية الخصبة تناقلها الناس وجرت مجرى الأمثال، كقوله: "أخجلتم تواضعي"، وكقوله في وصف بعض خصومه: "النكرات الشائعة والإمعات الضائعة". ومن تشبيهاته الرائعة ما حديث به بعد عودته من منفاه عن تصريح 28 فبراير على أسلوبه في سرد الأمثال إذ قال: "هو ناقة البدوي التي تباع بمائة درهم، وتباع التميمة التي في رقبتها بألف، ولكن لا تباع الناقة بغير التميمة فما أملحها من صفقة لولا الملعونة في رقبتها". ومن كلماته الشائعة: "الأمة مصدر السلطات، الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة، ويعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون". "يظهر لي أن العدالة الحقيقية لم توجد حتى اليوم في أي قانون من قوانين العالم، وإنما تتفاضل القوانين فيما بينها بالعدالة النسبية". "ليس للحكومة أن تغضب كلما قلنا لها: إنها مخطئة، فإننا ما جئنا هنا لننبهها على خطئها". "إن الحكومة لم تحتكر الصواب لنفسها، فلا ينبغي لها أن تستنكر مخالفتنا لها في رأيها، بل إن وقوع الخلاف بيننا وبينها لازم من لوازم وجودها معنا، وعرض مشروعاتها علينا، بل إنها في حاجة إلى وقوع ذلك الخلاف؛ لأنه هو الذي يكشف لها الصواب فيما يلتبس عليها وجه الصواب فيه من أعمالها، ويوصلها إلى الحقيقة".

سعد الخطيب: خطابة سعد أبلغ معجزاته، وأروع آياته، وأبرز صفاته، فقد كان خطيبا ساحرا، يخلب الألباب، ويهز المشاعر، ولم تر مصر بل الشرق في التاريخ الحديث مثل سعد خطيبا ندي الصوت، بليل اللسان، زاخر الخاطر، رائع البيان. كان جم البديهة، قاهر الحجة، بليغ اللهجة، يؤثر بفصاحته وسمته وهيمنته ويلائم بين الإقناع والامتناع، ويتصرف في أفانين القول، وغرائب الفكر، وأطايب البيان برقة أسلوبه، وجمال إيقاعه وتطريبه. يبلغ النفوس العاتية فتخضع، والرءوس المكابرة فتخشع، ويسمعه المظلوم فيثور، والظالم فيكاد يتقد غيظا، وبينما تراه هادئا كتغريد الطير إذا بك تراه هائجا كغضبة البحر، يجذب السامعين إليه، ويطيعهم على شعوره وإحساسه. فيضحكون مرة ثم يبكون أخرى، ويطمعهم ثم يؤنسهم، فما يزال يطوع أفكارهم، ويلين قيادتهم حتى لا يدع لهم إرادة، وذلك من بعض سحرة وأخذه. أما بديهته، وأما دعابته وجاذبيته فهو في كل ذلك آية الآيات. كان عذب المنطق، مسلسل الفكر، مجود العبارة، صحيح الإعراب، غزير العلم، يخطب فيهدي إليك ما يطربك من السياسة والقانون والأخلاق. وقد أنكر عليه خصومه كل مواهبه، ونالوا من فضائله ونواحي عظمته ما نالوا، ولكن واحدا منهم لم ينكر عليه فصاحة منطقه، وروعة خطابته، وقوة أسره، وعظيم تصرفه في البيان. ولقد يكون سقيما نهكته العلة، وليس له من القوة ما يمكنه من الحديث، ولو خفض الصوت ولم يكثر، ولكنه يحن إلى الخطابة على رغم دائه، ويلج به الشوق لها، فإذا به ينسل من علته، ويتهادى على إعياء إلى منبره، ثم

يبدأ على ضعف واحتباس صوت، فما يزال يعلو ويسترسل، ويرتفع ويجلجل حتى لتراه في أشد ما يكون قوة وفتاء، فكأنما لم يصبه من الداء قليل، ولا أقل من القليل. عاد من رحلة إلى الصعيد مكدود الجسم مجهود القوى، ورأى الأطباء أن يجافي الضجة، ويؤثر الصمت والراحة، فلما حان الاحتفال بذكرى عيد الجهاد القومي ألح في أن يحضر الاحتفال فتوقف الأطباء، ثم أدنوا على غضاضة على أن يكف عن القول مهما أوجز، وعهد إلى بعض زملائه أن يروي في الحفل جانبا من حديث الرحلة وعمل الحكومة، فقام أحد محامي أسيوط ليشرح ما طلب له، ولكنه استغضب بلاغة سعد واستنفر بيانه، وحرك فيه الخواطر فاندفع إلى المنبر بين شوق والحفل وإشفاقه، وارتجل خطابا ملهما ضاقت عنه ساعات ثلاث حتى كأنه استعاد شبابه واسترد صباه، ولم يكن به أثر من علة. وكان سعد بليغ الارتجال تفد إليه الوفود، وتفجأه المواقف فيصول ما شاء مرتجلا وهو الفصيح البيان، والمنطق اللسان، الخصب الذهن، القوي المنطق، ولم يعرف عنه يوما ما أن غلبه موقف أو ارتج عليه في جمع، أو خانه بيانه، وخذله لسانه. وكان يطرب إلى الخطابة خطيبا كان أو مستمعًا، وأول ما كان يتطلع في زائريه أن يستمع إلى خطيب منهم ذي فصاحة وبيان حتى ليسأل الوفد الزائر عن خطيبه حين مقدمه، فإذا لم يلق في الوفد خطيبا هز منكبيه، ولم يظفروا بترحيبه. ذكر الأستاذ "البشري" أنه كان بحضرته، وقد مثل أمامه وفد من الوفود، فمد بصره إليهم وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلا مناصرتهم، لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبها بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم

مظهر من مظاهر النهضة الوطنية المباركة، فسعد مدرسة لا تقفل أبوابها يؤمها الطلاب من أنحاء القطر1. وقد تأثر الخطباء بسعد، فنهجوا نهجه في اختيار الأسلوب، وتجويد العبارة، والميل إلى السهولة والسجاحة، وقد كان ذلك الوضوح في خطابة سعد، ومتابعة الخطباء والسياسيين له في هذا المنحى من ملائمات السياسة؛ لأنها تعتمد على هز المشاعر وتوضيح الغرض، والحث على الجهاد، ولا يتفق مع ذلك التعقيد والالتواء والالتجاء إلى التعالي والإغراب. وكان من أثر النشأة الأزهرية في سعد الخطيب أن جاءت خطبة قوية النسج، صحيحة الإعراب، قوية الحجة، منطقية في سياقها وتسلسلها. وأول خطبة ألقاها في الحركة الوطنية هي التي ألقاها في الاجتماع الذي عقد في دار المغفور له "حمد الباسل باشا" في يوم 13 من يناير سنة 1919م، وقد هيأ بها النفوس للجهاد المتصل، والنضال المستمر. وأما كلمته الثانية فهي التي ألقاها في دار جميعة الاقتصاد السياسي، والإحصاء والتشريع في يوم 17 من فبراير سنة 1919م بعد سماع محاضرة "مستر برسيفال"، إذ وقف في جمع حافل من خيرة المثقفين المصريين والأجانب، وقال كلمته المشهورة: "إن الحماية باطلة"، ثم تلت ذلك حياة كانت سلسلة من خطبه الرائعات وآيه البينات.

_ 1 في المرآة ص25.

نماذج من خطبه: خطب في حفل تكريم، فقال: "يقولون إنما تكرم المبادئ" "قول خطأ"، فإن المبادئ لا وجود لها إلا في الأشخاص، وإذا كرمنا الإنسان فإنما نكرمه؛ لأن هذا الإنسان نفذ ذلك المبدأ كما أننا إذا ذممنا شخصا، فإنما نذمه؛ لأنه اعتنق مبدأ رذيلًا، هكذا جرى الناس من القدم، وجاءت به الأديان، فإنما يعذب الشخص؛ لأنه ضل، ويثاب؛ لأنه أطاع ربه ولم يعصه، فلم تخلق الجنة لمثوبة المبدأ ولم تخلق النار لتعذيب المبدأ، ولو أن المبادئ هي التي تكرم وهي التي تعذب لرأينا جهنم مملوءة بالمبادئ، ولرأينا الجنة مملوءة بالمبادئ كذلك، ولو كنا نقيم مأتما لراحل، فالشخص يفنى والمبدأ باق. لماذا نبكي وننوح على موت الكرام والكرم باق من بعدهم؟ ذلك؛ لأننا نكرم الأشخاص الكرام ولا معنى لتكريم المعاني المجردة من الأشخاص". ومن خطبة له من حفل التكريم الذي أقامه له الطلبة في إبريل سنة 1921م":أفتخر بأن أكون على رأس أمة حية شاعرة مفكرة ذات آمال قوية في الاستقلال التام، وأتقبل أيضا أن أعاهدكم عهدا لا أحيد عنه بأني أموت في السعي لاستقلالكم التام، فإن فزت فذاك إلا تركت لكم تتميم ما بدأت به". "وليس لرئيس جنوده مثلكم أن يلحقه ضعف، أو يميل به ميل إلى غير الخطة التي رضيتموها". حرام علينا وكبير وزر، حرام علينا وكبير جرم، أن نأتي لكم بمشروع يخلد ذلكم جناية كبرى، نعم جناية كبرى أن تسلموا لنا أموركم، وأن نجعل المستقبل مظلما أعينكم، يجب علينا إما أن نحفظ حقوقكم، أو نترك العمل لكم، وما دامت الدول نفضت يدها منا، فلا يمكننا أن نأخذ منهم لاحقا، ولا باطلا؛ لأن طبيعة الكون تقضي بأن يتغلب اللون على الضعيف إذا شاركه

وعلى كل حال ستكون هذه الشركة كشركة الحصان مع الخيال، من يركب الخيال بلا كلام؟. وخطب في 13 من نوفمبر سنة 1921، فكان مما قاله: "نحتفل اليوم بهذا العيد في بلادنا، وسنحتفل به إن شاء الله في غير بلادنا، حيث ترفع أعلام الدول المتحابة احتراما لمعناه، وإكراما لمغزاه. ومهما تكن حالنا من سعادة أو شقاء، من سراء أو ضراء، فإن علينا إحياء ذكرى ذلك اليوم، وليكن بيننا يوم صدق وإخاء، يوم ثقة ووفاء، يوما يرجع فيه كل مصري إلى نفسه، فيحاسبها على ما قدمت من خير فيستزيد منه، ومن شر فيستغفر له، وإلى ربه فيطلب منه المعونة على تحقيق آماله وإعزاز بلاده، وإلى وطنه العزيز، فيحدد له قسم الصداقة والمحبة والفداء. عدنا وشعرت من نفسي أن ليس هناك محل، لأن يكون في صدري غل أو حقد أو غضب على أحد، وإنه يجب علي أن لا أكون لشخصي بل أكون لأمتي وحدها. ولم أشعر أن لي كرامة غير كرامة أمتي، ولا شخصية غير شخصيتها، أحسست بأني متفان فيها، وهي متفانية في. ورأينا من الواجب علينا أن نحسم كل خلاف، وأن نعمل على تأييد الاتحاد في الأمة، وأن نوجه كل مجهوداتنا للسير إلى الغاية التي ننشدها، ولهذا فإنه مع علمنا بما كان من المخالفين لنا من زملائنا بعد عودتهم من "باريس"، ومن دسهم الدسائس ضدنا والطعن سرا وعلنا في حقنا، ومن إسناد أشنع القبائح لنا، واختلاق أفظع الأكاذيب علينا، ومع حصولنا من الوفد على قرار بفصل من أخلوا منهم بمبدأ التضامن بيننا، وحنثوا في إيمانهم التي أقسموها أمامنا، رأينا نعتذر لهم عن خطاياهم".

سعد الكاتب: نمت موهبة البيان في سعد وهو طالب في الأزهر، وشبت معه القدرة على الكتابة، وهو حدث يافع فشرع في مدارج شبابه يكتب مقالاته القيمة في صحف "البرهان والحق" و"مصر المحروسة"، وغيرها من صحف ذلك العهد، ولما اتصل بالإمام أعجب الإمام بأدبه ومواهبه، وشخصيته واختاره لتحرير "الوقائع"، كما قلنا فوجد سعد منها منبرا يدعو منه إلى الثورة، والاستقلال الذي ملك عليه مشاعره، وكانت له في الكتابة، وترقيتها آثار ملموسة، وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدا في إصلاح الكتابة من أسبق الأيدي بالتحديد في الآداب العربية، فقد كتب في الوقائع طائفة من مقالاته الفذة، وأعاد البلاغ منذ سنتين نشرها، وإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التلفيق، والتكلف ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل1. ويتسم أسلوب سعد بالصفاء والوضوح، وقوة الحجة وسطوع البرهان وتسلسل المنطق، والتحلي بآيات من كتاب الله وأدب نبيه، وهو أسلوب يجمع إلى إشراق بيانه غزارة العلم ودقة البحث، ولعل للأزهر يدًا في توجيه يراعه وتزويدها بما هو من خصائص أهله قوة في الحجة، ودقة في البحث وفيضا في البيان، ومما أعاد البلاغ نشره من مقالات سعد كلمة نشرت في 12 من ديسمبر سنة 1881 بعنوان في الشورى، والاستبداد نقتطف منه ما يلي: "تكلمت بعض الجرائد في الشورى والاستبداد، وأشربت بعض جملها

_ 1 عباس محمود العقاد في البلاغ الأسبوعي الصادر في 2 سبتمبر سنة 1927م.

عبارات في الاستبداد أوهم ظاهرها، وعمومها بعض الناس أن القصد منها مدح الاستبداد الذي عرفوا من آثاره ما يكرهون، ولقوا من جرائه ما لا يودون، فشدوا على محررها نكيرا وولوا عنه نفورًا، وقالوا: مدحه ظلما وزورا، وكانوا في ذلك من المخطئين. وقد فرض على الأمة الإسلامية أن تقوم أمة أي طائفة وظيفتها لدعوة للخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظا للشريعة من أن يتجاوز حدودها المعتدون، وصونًا لأحكامها من أن يتعالى عليها ذوو الشهوات، فينتهكوا حرمتها، ويخلوا نظامها وتحرفهم عن العمل بها الأهواء إذا تركوا وشأنهم، ولم يأخذوا على أيديهم في الاسترسال مع داعيات الشهوات، فلم يجعل الله الشريعة في يد شخص واحد يتصرف فيها كيف يشاء، بل فرض على العامة أن تستخلص منها قوما عارفين لجلب كل ما يؤيد جانب الحق، ويبعد كل ما من شأنه أن يحدث خللا من نظامه، وانحرافا في أوضاعه العادلة. ولقد قلنا: إن الملوك والسلاطين داخلون تحت من يجب على تلك الطائفة إرشادهم، وذلك لتضافر الأحاديث الصحيحة، والأخبار الشريفة على وجوب نصيحة الأمراء قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة"، ثلاث مرات قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وقال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاة الله أمركم" الحديث. وقال تعالى مخاطبا نبيه الذي لا ينطق عن الهوى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، قال ابن عباس: وقد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد الله أن يستن به من بعده، وقال بعض المفسرين: إن الله تعالى لما علم أن العرب يثقل عليهم الاستبداد بالرأي، أمر نبيه بمشاورة أصحابه كيلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم.

فوضح من كل هذا أن تصرف الواحد في الكل ممنوع شرعا، وأن الرعية يجب عليها أن تجعل الحاكم والمحكوم بحيث لا يخرجون عن حد الشريعة الحقة، فمن رامها، فقد رام أمرا شرعيا قضت به الشريعة، وحتمته على المحاكم والمحكوم جميعا بحيث لو منعناه لا كتسبنا بذلك إثما مبينا.... إلخ. هذه الكلمة العذبة السائغة السهلة المتدفقة يغلب عليها الطابع الأزهري، بل هي أنطق المقالات بتأثر سعد بأدب الأزهر وأسلوبه، ففيها دقة وتشقيق، واستفاضة وفيها وقوة حجة وسلامة منطق، ويشيع فيها على طريقة الأزهر والتمثيل بكلام الله، وبكلام رسوله. مقالات سعد في البلاغ اليومي: وعلى ذكر مقالاته في الوقائع يلتفت الذهن إلى مقالاته في البلاغ اليومي فيما بعد، فإن له في كليهما آثارا في نضج الصحافة، وأدبها، وسمو أسلوبها وبلاغ رسالتها. رأى "سعد" أن وزارة زيور باشا أشد ما تكون عسفا، وتعنتا ورأى في عهده مجافاة لروح الدستور، وحكم الشورى، فنشر في البلاغ سلسلة مقالات عنيفة ملتهبة بعنوان "ثورة الوزارة على الدستور" بتوقيع "س. أ"، وكان البلاغ يشير إلى كاتبها بأنه: "إمام في البحث والبيان يشار إليه بالبنان"، وطالما تشوف الناس لهذه المقالات، ووقعت من نفوسهم موقع الإعجاب والرضى، ثم كشف "البلاغ" الستار عن سعد، وصرح بأنه صاحبها وأعاد نشرها تباعا، ومن مقاله الأول الذي نشر في البلاغ الصادر في 29 من سبتمبر سنة 1925 ما يأتي: "من المعلوم من الدسنور بالضرورة أن التشريع ليس من اختصاص

الوزارة التي تنحصر وظيفتها في الأمور التنفيذية دون سواها، وإنما هو من اختصاص البرلمان الذي لا يجوز إصدار قانون بغير إقراره، وبديهي أن تعديل القوانين تشريع، وعليه يكون تعرض الوزارة لتعديل قانون الانتخاب خروجا عن اختصاصها، واعتداء صريحا على وظيفة البرلمان، واغتصابا واضحا لسلطته. أيها الوزراء: أنتم الذين لا كفاية عندكم، ولا ثقة للأمة فيكم، فهي لم تنتخب من انتخبت فيكم إلا رغم أنها بالوسائل التي تعرفونها من إكراه وغيره، وأعمال الوزارة شاهد عليكم، وناطقة بأنكم قتلتم الحرية في مأمنها، وسلطتم على الناس عوامل الظلم والإفساد. إن وجهوا إليكم أيها الوزراء هذه الخطاب فبماذا تجيبون؟ إنكم لا تجدون من الحق جوابا؛ لأنكم خذلتموه في كل مواطن، فلم يكن إلا القوة تعتمدون عليها في تبرير أعمالكم، والقوة لا تغني من الحق شيئا".

أشهر الخطباء الدينيين من الأزهر

أشهر الخطباء الدينيين من الأزهر: الشيخ محمد مصطفى المراغي: المتوفي سنة 1364هـ-1945م. نشأته وحياته: ولد في التاسع من شهر مارس سنة 1881م في "المراغة" إحدى قرى مديرية جرجا بصعيد مصر الأعلى، ونشأ كما ينشأ عليه لداته، فحفظ القرآن بمكتب القرية، وكان أبوه على حظ من علوم الأزهر، فعلمه ما اتسعت له مداركه، فلما شب ألحقه بالجامع الأزهر، وشرع يتلقى العلم على شيوخه النابهين، وكان ممن انتفع بعلمهم، واغتذى بثقافتهم وأشرب روحهم في الحياة الكريمة، والإصلاح المغفور له الأستاذ "الشيخ محمد عبده"، فقد كان يغشى دروس التفسير التي يلقيها الإمام في الرواق العباسي، وكان "الشيخ المراغي" يتلقاها بشوق ورغبة لما تحمل معها من روح الاجتماع، والتوجيه فلم تكن دروس الإمام جافة تقف عند ما قاله العلماء، بل كانت تفيض بلاغة وسلاسة، وتنفذ إلى أغوار البحث، وتخرج للناس كنوزًا من الحقائق المجلوة الكريمة. ولم يكن الشيخ "المراغي" من أولئك الذين يستظهرون الكتب دون غوص على أسرارها، بل كان نفاذًا إلى الأعماق، لا يزال يبحث ويقلب حتى يجلي الرأي فينتفع به ويقف على صوابه، ومع ذكائه وحدة ذهنه، جمع بين الجد والفهم وآخي بين المثابرة وحضور الذهن، وكان أحد القلائل الذين يستذكرون الدروس قبل تلقيها، ويجمعون إلى ما يدرسون من الكتب في الأزهر كتبا أخرى تفسح في الذهي وتبسط في آفاقه. وما زال كذلك يعطي العلم نفسه، ويتفرغ له تفرغا حتى حصل في سنة 1322هـ-1904م على شهادة العالمية أي أنه كان في الرابعة والعشرين من عمره

ولما كان حنفي المذهب، وقد حصل على الدرجة الثانية كان مما تمتع به من المزايا أن يوكل إليه التدريس بالأزهر إلى أن ينفسح له مجال القضاء. ففي أول أغسطس سنة 1904م جلس الشيخ في حلقة التدريس بالأزهر، والتف الأزهريون الطلاب من حوله، وغصت حلقة الدراسة بهم، لما عرف به من دقة البحث، وعمق الفكرة وفصاحة العبارة، ولكن هذه الفترة لم تطل، ففي أول نوفمبر من عام 1904م عين الشيخ قاضيا لمديرية "دنقلا" في السودان، وكان قاضي القضاة صديقه المرحوم الشيخ "محمد هارون عبد الرازق"، ولم يطل بقاؤه بدنقلا أيضا، فقد نقل بعد قليل قاضيا لمدينة "الخرطوم". ثم قدم استقالته، وعاد إلى مصر أوائل هذا العام على أثر اختلافه مع "قاضي القضاة، والسكرتير القضائي" في اختيار المفتشين بالمحاكم الشرعية في السودان. وفي التاسع من شهر سبتمبر سنة 1907 اختير مفتشا للدروس الدينية بديوان الأوقاف بمصر، وقد تولى التدريس بالأزهر في هذه الفترة، فاكتظ درسه بالتلامذة النابهين، وجمع بين العملين. وفي سنة 1908م عين قاضيًا السودان، ولهذا التعيين قصة طريفة، فإن "سلاطين باشا" الذي كان وكيلا لحكومة السودان بمصر زار الشيخ، وتحدث معه في شغل هذا المنصب وافهمه أن حكومة السودان مقتنعة بأن الشيخ خير من يصلح لهذا المنصب، وطالب الشيخ أن يبين له ما يشترطه في هذا الصدد، فأصر الشيخ على أن يكون تعيينه بأمر الخديو فحسب، وكان أمرًا عسيرًا على "سلاطين باشا" أن يتخلف عن سعيه؛ لأنه مؤمن بصلاحية الشيخ لهذا المنصب كما كان عسيرا عليه أن يذلل هذه العقبة لدى حكومة السودان التي كانت وحدها المختصة بتعيين قاضي القضاة، ولكنه لم يدع هذا الأمر حتى عبد طريقه، وانتهى بتعيين الشيخ قاضيا للقضاة لا بأمر حكومة السودان بل بأمر الخديو.

وقد كانت له في السودان مواقف رائعة هي أبلغ الأمثال في بروز الشخصية وحفظ الكرامة، يشتجر معه السكرتير القضائي في حكومة السودان، ويحاول أن يغير لائحة المحاكم الشرعية، فينتصر عليه الشيخ بحجته وشخصيته وقوته، فلا تمس اللائحة بسوء، ويظل بها لقاضي القضاة ما يشاء من نفوذ وسلطان. ويدعى كبار موظفي السودان ليكونوا بالمرفأ حين يمر جلالة ملك الإنجليز في طريقه إلى الهند، ويقضي النظام المعد رسميا بألا يصعد إلى الباخرة سوى الحاكم العام، وأما من عداه فسيمرون بمحاذاة الباخرة، فيغضب "المراغي"، ويخبر الحاكم العام بأنه لن يذهب إلى حفل الاستقبال إلا إذا سمح له بالصعود إلى الباخرة، فيبرق الحاكم العام إلى حكومته، فتخبره بأن النظام عدل، وأن "المراغي" سيكون ثاني اثنين يصعدان إلى الباخرة المقلة ملك الإنجليز. كانت حياة "المراغي" عزة وكرامة كلها، وكان يتسم بسمة الجلال والوقار حتى ليرغم على إجلاله عظماء الدولة، وكبراءهم لا لمنصبه بل لهيبته، وشخصيته لقد أعز "المراغي" شرف العلم، وصان كرامة العلماء وسعى لاستماع درسه، وعظته الملك السابق فدان بإجلاله، وتوقيره الناس جميعًا فوق ما كانوا يدينون. ثم أججت الثورة الوطنية في مصر سنة 1919م، وفارت الأمة المصرية فورتها، وهز "سعد" نفوس الشعب هزًّا وسرت الحماسة من جنوب الوداي إلى شماله، فقام السودانيون يشاركون إخوانهم المصريين جهادهم، واندفعوا بشعورهم إلى التظاهر والجهاد، وقاضي القضاة "المراغي" يأبى إلا أن يكون في طليعة الوطنيين، فيجمع العرائض لتأييد "سعد"، ويجاهر براية الوطني غير مبال، وينفد صبر الإنجليز، ولا يغضون على بقائه بالسودان، فيعود إلى مصر كريما حفيا أبيا. وفي التاسع من أكتوبر سنة 1919م عين رئيسا للمفتشين بمحاكم مصر الشرعية، ثم رئيسا لمحكمة مصر الكلية في يوليو سنة 1920م، ثم عضوا

في المحكمة الشرعية في سنة 1921، ثم رئيسا للمحكمة العليا في 11 من ديسمبر سنة 1923. وفي الثاني والعشرين من شهر مايو سنة 1928 عين "المراغي" شيخا للجامع الأزهر، فجد في إصلاح الأزهر ورعاية شئونه، والنهوض به إلى المستوى الذي كان أستاذه الإمام ينشده له، ويجهد في سبيله فلم يمض عام حتى هيأ قانون الأزهر الذي جعل من التعلم العالي كليات ثلاثا، وشرع نظام التخصص الجديد، فجعل منه تخصص المادة وتخصص المهنة، ولكن اختلافا في الرأي يقف هذا القانون، ويستقيل صاحبه في العاشر من أكتوبر سنة 1929، ويتولى حضرة صاحب الفضيلة المغفور له الشيخ "محمد الأحمدي الظواهري" مشيخة الأزهر، فتنشأ الكليات ويمضي الشيخ في طريقه بأسلوبه، ولكن أحداثا تثور وفتنا تصطلي، وينتقض الأمر عل الشيخ فيؤثر الاستقالة ليمهد للشيخ المراغي العودة إلى الأزهر ليتم من الإصلاح ما بدأه، وكانت عودته إلى المشيخة للمرة الثانية في السابع والعشرين من شهر أبريل سنة 1935، ويظل الشيخ ناهضًا بأمل الأزهر مجاهدا في سبيل إصلاحه حتى يستأثر الله به في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 1364هـ، الموافق 22 من أغسطس سنة 1945 بلل الله ثراه. الأزهر في عهده: طفر الشيخ "المراغي" بالأزهر طفرة واثبة، ومضى به بعزم جبار إلى النهوض ومسايرة الحياة، وكان له من الملك السابق أكرم رعاية، وأسبغ عطف لقد اتسم عهد "المراغي" بالنشاط الثقافي، وتوغل شبابه في شئون الحياة المختلفة، وتهيأت لهم أسباب الاجتماع، وكانوا من قبل في عزلة وانقباض، وكان "الشيخ المراغي" أول من أغدق على مدرسي الأزهر، فأكرم حياتهم بالمرتبات بعد أن كانت سبب ضعفهم وانخذالهم. كانت تلك البعثة في عهد الظواهري، وعن طريق وزارة المعارف.

وفي عهده تفضل الملك فؤاد بإيفاد جمهرة من نابغي الأزهر إلى أوروبا للدراسات الأدبية والفلسفية والعلمية، ففي سنة 1932م أرسل البعث العلمي إلى "ألمانيا"، وكان من أعدائه من الأزهر "الشيخ عبد الحليم النجار" أول المتسابقين في اللغة العربية من معاهدها في مصر. بعث الشيخ محمد عبده: وفي سنة 1935م أوفد إلى ألمانيا بعث من الأزهريين تخليدا لذكرى "الشيخ محمد عبده"، وكان من بين أعضائه "الدكتور محمد اللمعاضي"، "والدكتور محمود البهي قرقر" اللذان درسا الفلسفة والتاريخ الإسلامي. بعث فؤاد الأول في سنة 1936: أرسل الأستاذ عبد العزيز المراغي"، والأستاذ محمود حب الله لدراسة التاريخ والفلسفة في "فرنسا"، وأرسل إلى "ألمانيا" الدكتور "علي حسن" لدراسة مقارنة الأديان. وأرسل إلى "فرنسا" الأساتذة "محمد عبد الله دراز" و"عبد الرحمن تاج" و"محمد محمدين الفحام"، و"عفيفي عبد الفتاح"، وانضم إليهم هناك الأستاذ "عبد الحليم محمود" الذي سافر على نفقته، فدرسوا مقارنة الأديان وفروع اللغة العربية، وأضيف إليهم أخيرا في هذا العام الأستاذ "محمد يوسف موسى" المدرس في كلية أصول الدين، وكان قد سافر على نفقته الخاصة لدراسة الفلسفة. وبعض هؤلاء المبعوثين لا يزال في أوروبا، وفريق منهم عاد إلى الأزهر بتوجيه جديد، وفكر حر، ورأي ناضج، مما جعل لهم أثرا ملحوظا في الدراسات والبحوث.

أدب الشيخ المراغي: شب الشيخ المراغي مفطورًا على حب الأدب مكثرا للاطلاع، والتروي من آثاره، وكان له هوى بالشعر، غير أن شيئا منه لم يؤثر عنه، وكثيرًا ما استظهر من الشعر خاصة لزوميات أبي العلاء. وكان خطيبًا بارع الحجة، حسن الأداء، متزنًا في إلقائه، فصيحًا في عبارته، إذا دعاه الموقف إلى ارتجال أحسنه، وإن أعد القول في المواقف الرسمية كان مجيدا مبدعا، وهو متخير اللفظ مشرق البيان في كل حال، وكانت له في خطبة سطوة وجزالة وهيمنة، وطالما نمت عن روح العزة المائلة في نفسه، والزعامة التي كان لها أهلًا، والحق أنه أعاد للخطابة الدينية مجدها الذي أسس الإمام "محمد عبده" بناءه، وشيد دعامته. وهو أول من ألقى هذه الدروس الدينية بين يدي الملك الشاب، فجاءت آية في لفظها وأسلوبها وتصويرها، لم تكن علما جافا ولا موعظة خالصة، بل كانت نماذج الأدب الرفيع، وإنه ليروقك منها تسلسلها واطرادها، وجميعها بين أدب القرآن والأدب النبوي، وبين أدب العرب الذي يتمثل به والعلم الحديث الذي يمزج به علم الدين. هذا إلى عذوبة صوته واتئاد خطاه، وروحه المشرف على السامعين المتخطي مجلسه إلى الشرق والمسلمين جميعًا. أما كتابته فتكاد تبلغ أعلى طبقات الكتابة، حسن ديباجة وجمال عبارة، وإشراق معنى وحسن سبك، كان إذا كتب لا يتعاظل ولا يلتوي، ولا يحاول أن ينهج نهج الساجعين المتكلفين، وكثيرا ما يتمثل بالشعر العربي الرصين في مواطن من كتابته. وإذا تناول بحثا علميا لم يخضعه أسلوب العلم لجفوته، ولم يبعد به عن روعة البيان، وصفاء العبارة.

آثاره ومؤلفاته: للشيخ "المراغي" بحوث فقهية متعددة تتعلق بقانون الزواج والطلاق، وهي مطبوعة، وله "رسالة الأولياء والمحجورين" حصل بها على عضوية جماعة كبار العلماء وهي مخطوطة، وله رسالة تتضمن بحوثا لغوية وبيانية، وضعها حين كان يدرس بكلية الشريعة في سنة 1936، وهي مخطوطة. وله بحث في جواز ترجمة القرآن مطبوع. و"رسالة الزمالة العالمية" -أرسلها إلى مؤتمر الأديان المنعقد بلندن، وهي مطبوعة. هذا عدا دروسه الدينية المطبوعة التي ألقاها في ثماني سنوات بين يدي صاحب الجلالة الملك، وفي جمعيات دينية فسر بها بطريقة بارعة سورة لقمان الحجرات والحديد والعصر، وطائفة من آيات متفرقة من القرآن الكريم. وقد فسر في الفترة التي اعتكف فيها في المصحة آخر حياته نحو نصف جزء تبارك، وسيطبع قريبا. وله مذاكرات قيمة في إصلاح المحاكم الشرعية، والأزهر طبع بعضهم، وبعضها الآخر في طريقة إلى الطبع. وله غير ذلك طائفة ممتعة من المقالات والخطب والأحاديث التي نشرت في مختلف الصحف العربية والإفرنجية. نموذج من خطبه: خطب في حفل التكريم الذي أقامه الأزهريون بمناسبة توليته مشيخة الأزهر للمرة الثانية، فقال:

حضرات السادة الأعزاء: أحمد الله جل شأنه على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم، وأشكر لحضرات الداعين المختلفين برهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية في قولهم وفعلهم، وفي شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين وتشريفهم، واحتمالهم مشقة الحضور الذي أعربوا به عن عطفهم وحبهم. ويسهل على قبول هذه المهن كلها، واحتمالهم إذا أذنتم لي في صرف هذه الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف الذي تجلونه جميعا، وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الدينية الإسلامية في مصر وغيرها من البلاد. ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم، لقد دل بالإشارة، والتبع على معان أسمى من غرض التكريم. دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة من ظواهر تغير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة، يجب أن تدرس وتعرف، وطرائق للتعليم يجب أن تحتذى، ويهتدى بها. ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة، والحديث عن الأزهر والأزهريين -ذلك الكوكب الذي انبثق منه النور الذي نهتدي به في حياة الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه، وذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية، والنشاط الفكري، ووضح المنهج الواضح لتفسير القرآن الكريم، وعبد الطريق لتذوق أسرار العربية وجمالها، وصاح بالناس يذكرهم بأن العظمة، والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى، ومكارم الأخلاق، ذلك الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره إلا بعد أن أمعن في التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام

"محمد عبده" قدس الله روحه وطيب ثراه، وقد مر على وفاته ثلاثون حولا كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين، ونحن نتحدث عن الأزهر أن نجعل لذاكره المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور، وباعث الإصلاح وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتدت الظمأ، والدوحة المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير. الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي أوجد أمما من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه، وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم بعروض صورية، ومعنوية يعدون مقصرين آثمين أمام الله، وأمام الناس إذا هم تهاونوا في أدائها، وإنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم، ولمعهدهم وأنفسهم إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفته لغته، وفهموا روح الاجتماع، واستعانوا بمعارف الماضين، ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو متصل بالدين وأصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال بآراء العلماء، والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام بين العلماء والطلبة، والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي مراحل السير في هدوء، ونظام وجد وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب العلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله. من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يعني العلماء بدراسة القرآن الكريم والسنة والمطهرة دراسة عبرة وتقديم، لما فيه من هداية ودعوة إلى الوحدة، دراسة من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه، وتجعل المؤمن رحب الصدر، هاشا باشا للحق، مستعدا لقبوله، عاطفا على إخوانه في الإنسانية كارها للبغضاء، والشحناء بين المسلمين.

قد أتهم بأني تخيلت فخلت، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود، ولفت النظر إليها، وفضل الله واسع وقدرته شاملة، وما ذلك على الله بعزيز. الآن وقد وضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر، ترون أيها السادة أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل، فإنه في حاجة إلى العون الصادق من كل من يقدر على العون، إما بالمال، أو بالعقل، أو بالمعارف والتجارب، وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات الطيبة المباركة. نموذج مما ألقاه من الدروس الدينية: مما ألقاه من هذه الدروس ما جاء في التعليق على تفسيره لسورة "لقمان" ليذكر الإنسان أن شربة الماء التي يروي بها ظلماه سخرت لها السموات والأرض، فحرارة الشمس سبب في تبخر الماء الملح الأجاج من البحر، وسبب في ارتفاعه إلى الطبقات العلوية، ومنها يتساقط على الأرض ماء عذب ينقع الغلة، ويحيي الأرض بعد موتها، وقرص الخبز يأكله الجائع سخرت له الشمس والأرض، وسخر له الحارث والحاصد والدارس، والتاجر والطاحن والعاجن، والخابز إلى غير ذلك من الوسطاء. سخر الله ما في السموات والأرض لمنفعة الإنسان، وسعادته ثم أكمل عليه النعمة وأوسعها وأتمها، فمنحه قوى ظاهرة، ومنحه قوى باطنة ومنحه العقل الذي استطاع به تذليل كل شيء، والذي هو وسيلة المعرفة، وأكمل طرق الهداية، والذي كشف به أسرار الوجود، واهتدى به إلى واجب الوجود واستعد به، لأن يتلقى الوحي عن خالق الخلق ومرسل الرسل، ولأن يكون خليفة الله في الأرض يعمرها.

وخلاصة هذه الآية1 أنها استدلال بالآفاق والأنفس بعد الاستدلال بالخلق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . سخر الله هذا كله للإنسان، وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة، ومع هذا كله فإن من الناس طائفة من الأغنياء الجهلاء الذين لم يستعملوا علهم فيما خلق له من النظر، والاستدلال والعظة والاعتبار، وتجادل في الله تعالى، وفي استحقاقه للتفرد بالعبادة، وتعبد الأصنام لا تضر ولا تنفع وتكذب بالبعث، وتكذب الأنبياء بعد قيام حجتهم، هؤلاء الأغنياء ليس لهم علم عن دليل، وأين يكون لهم علم عن دليل، والدليل قائم على خلاف مذاهبهم؟ قائم من الخلق ومن الآفاق، ومن الأنفس وليس لهم علم من هدى عن نبي معصوم تلقوا عنه ما هم عليه، وأين يكون الهدى والمعصوم بخير بغير آرائهم، ويسفه أحلامهم؟ وليس لهم علم من كتاب يستندون إليه، وأين يكون الكتاب الذي يستندون إليه؟ وجميع الكتب السماوية تقرر التوحيد وتقرر البعث، وهذه الأمور الثلاثة، وهي: العلم والهدى والكتاب المنير هي طرق العلم الصحيحة عند العلماء؟ فهم لا يستندون إلى شيء مما يليق بالعاقل أن يستند إليه إنما يستندون إلا جهالات، وضلالات تلقوها تقليدا عن آبائهم حتى إنهم إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. مثل هذه الطائفة عميت منها البصائر، وضلت السبيل السوي وحادت عن منهج الحق، وعن مسالك العقلاء، فطريقهم طريق الشيطان يوسوس لهم

_ 1 هذه الآية هي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .

ويزين لهم فيتبعون دعوته، والشيطان يدعو إلى عذاب النار؛ لأنه يدعو إلى الشرك والضلال، وهما هاديان إلى النار". نموذج من كتابته: كتب إلى الأمير شكيب أرسلان هذا الخطاب: صديق حضرة صاحب العطوفة الأمير شكيب أرسلان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": فمل يكن غيثك في أول أمره قطرًا بل كان بحرا زاخرا، فقد وصلتني اليوم كتبك الكثيرة غزيرة المادة، وافرة الفائدة في حللها القشيبة، ولغتها الساحرة، وتبويبها البديع ورصانتها القوية، فلك الشكر على هذا الكرم، ولك الشكر على هذه الجهد الذي خدمت به لغتك وأمتك، فوق الجهد المستور الذي ترجو بقائه في طي الكتمان زمنا طويلا تستمتع فيه الأمة بحياتك التي تعد عبرة في حياة المسلمين، وتعد مفخرة لعلماء المسلمين. وقد قرأت الصفحات التي طلبت مني قراءتها، وأدركت الغرض الذي من أجله طلبت هذا. تحياتي الخالصة، ودعواتي لك بالصحة والسعادة.

أشهر الخطباء القضائيين من الأزهر

أشهر الخطباء القضائيين من الأزهر: إبراهيم الهلباوي بك: المتوفى سنة "1359هـ-1940م". نشأته وحياته: نجم "الهلباوي" من إحدى أسر الغربية العريقة في المجد، وإن كانت رقيقة الحال، فلما يفع ألحق بالأزهر فتلقى به علوم الدين واللغة -وكان معروفًا بين أقرانه بالذكاء وحدة الذهن، والصبر على البحث، والمثابرة على الاطلاع كما عرف بجرأة الرأي، ولجاج الخصومة مع شيوخه إذا اختلف معهم في الرأي. ولما وفد إلى مصر "السيد جمال الدين الأفغاني" كان "الهلباوي" أحد التلامذة الذين هرعوا إليه، فانتفع بعلمه واهتدى بتوجيهه، وتفجرت ملكة البيان فيه بما هيأ له "الأفغاني" من الخطابة والحوار، وبما جرأه عليه من المجاهرة بالرأي، والذود عنه. ولم يتح "للهلباوي" أن يتم دراسته بالأزهر، ولكنه ظل على صلة بزعمائه ورجالاته، فهو في دروس "الأفغاني" مع أذكياء الأزهر، ونابغيه "كالإمام" و"سعد زغلول" و"الشيخ عبد الكريم سلمان". وحين فوض للشيخ "محمد عبده" بأن يشرف على تحرير الوقائع اختار "الهلباوي"، فيمن اختارهم لمعاونته في تحريرها، غير أنه فصل من التحرير لأمرها1، وقد شغل عدة وظائف كان من أهمها وظيفة كاتم السر لمجلس

_ 1 تاريخ الوقائع المصرية لإبراهيم عبده ص192.

النواب، والمستشار القضائي لوزارة الأوقاف، ووكالة الجمعية الخيرية الإسلامية التي شادها الإمام ودعمها "سعد"، و"قاسم أمين"، و"حسن عاصم". ولما شبت الثورة العرابية كان من أنصارها الثائرين وخطبائها الفحول، وقد حكم عليه بالنفي إلى النيل الأبيض ليقضي بقية عمره هناك، ولكن بعضهم شفع له لدى الخديو "توفيق"، فعفا عنه بعد أن ظل في السجن بضعة أشهر. ومن ثم انضم إلى طائفة اتخذت المحاماة مهنة لها فظل يمارسها، ويدوي صوته ويذيع صيته من براعته النادرة، وقوته التي لم تتح إلا لقليل من المحامين، وفي سنة 1936م انتخب لعضوية مجلس النواب عن دائرة "ثكلا العنب"، ثم انتخب نقيبا للمحامين سنة 1938م. ولما ألف الوفد المصري برياسة "سعد زغلول" كان "الهلباوي" أحد السياسيين البارزين، ثم لم يلبث أن اختلف مع "سعد"، والتأم مع حزب الأحرار الدستوريين، وكان يخطب في ناديه في مناسبات مختلفة. صفاته وأخلاقه: كان رحمه الله طويلا فارع الطول، وعظيم الهامة، قوي الجسم، مفتول العضل، أبيض الوجه في حمرة، عنيدًا أيلج في عناده، ويسرف في خصومته ولا يبالي بمن يخاصمه، وكان سديد العقل حاضر البديهة، قوي الذاكرة حتى إنه ليقض عليك جلائل الأعمال، وتوافهها من سنين تقضت دون أن ينسى واقعه، أو يحرف في حادثة. و"الهلباوي" محدث نادر عاصر أحداثا جساما، وصاحب محنا سياسية كان وثيق الصلة بها، فهو يحدثك عنها حديث مكابد، ويرويها رواية خبير مشاهد، فكأنه رهط مجتمع من الرواة والثقافة، وكنت تستمع إلى حديثه

فتدرك أنه يحمل في صدره تاريخ جيل لم يدون في كتاب1. وكان رحمه الله على جانب عظيم من البر والعطف، وقد ضرب مثلا من بره أنه صادف ذا حاجة على بابه في يوم ما، فشغله الحديث معه عن أن يقرئ خدمه السلام عند انصرافه، فلما تذكر ذلك وكان قد بلغ بسيارته "عابدين" أمر السائق، فقفل راجعا ليقوم لهم: إنه نسي السلام عليهم. خطابته: "الهلباوي" خطب قد عرف بأسلوبه وطريقته، وامتاز بطلاقة لسانه، وقوة حجته، حين يخطب تطالعك منه عدة شخصيات، فهو رجل التاريخ الذي عاصر أحداثه وصنعت على عينيه، وهو رجل القانون الذي نشأ في مهاده، وصاحب أطوار التشريع حتى آخر مراحل، وهو رجل الأدب المتمكن من العربية، النافذ إلى عميق أسرارها، الذي يعرف سر التراكيب، وموضع البلاغات، وموطن الإقناع وهو الفكه الظريف الذي يغير على العامية متى شاء، فيقتبس من أمثالها وفكاهاتها ما يطرب ويمتع. كان جهوري الصوت، فصيح اللغة، مشرق العبارة، يلوح للسامعين بنكتته فيطربون لها ويقبلون عليه، فيهتبل هذه الفرصة ليلقي بما يحب من المعاني، وما يريد من الأغراض. وكان في هجوم متلاحق مع سامعيه متدفقا في بيانه لا يكاد يخلص من غاية حتى يدخل بهم في غيرها، ولا يوشك أن ينتهي من غرض حتى يصله بغرض آخر، والسامعون في كل ذلك مشوقون مأخوذون بسحره مشددون إليه شداء. وكان متمكنا من القول متصرفا في فنونه، فمرة يحلو ومرة يمر وطورًا تسمعه هادئا كالنسيم، وآخر يزأر كالأسد الهائج.

_ 1 من مقال الأستاذ أحمد أمين بك في العدد 214 من مجلة الرسالة.

"وكان إذا خطب خطب بكله، بلسانه وبعقله، وبنخاعه وبعصبه، وبرأسه وبيديه وبرجليه أيضا، وله صياح يقد أصفق الحناجر، ثم تدلى عن المنبر بعد أربع ساعات كاملات في هذا البلاء، وهو أشد وأفتى من أكثر من سمعوه إن لم يكن أفتى ممن سمعوه جميعا1". هذا إلى حضور بديهته، وقوة ذاكرته وصفاء ذهنه، وشدة أسره. دفاعه: كان "الهلباوي" حاذقا في دفاعه قويا جبارا لا يكاد يلحقه في براعته إلا أقل من القليل من أقرانه، وقد اجتمعت له أسباب الدفاع كلها، فقد نشأ في الأزهر، وكان أحد أدبائه القادرين على الجدل، والراسخين في المنطق الذين يقهرون بالحجة الغلابة والبرهان الناقد، لا يخفى عليه من ملابسات القضية شيء أو يخلطه بشيء آخر، وقد استمكن من مواد القانون، فصرفها في كل مقام واتكأ عليها في كل موطن، على قوة في الاستشهاد بها، وأعانته طلاقة لسانه، وغزارة بيانه وفصاحة عبارته، وحضور بديهته على اتصال القول، وفصاحة العرض والتصرف في المواقف بتفطن غريب لا يدع منفذا إليه. كان في دفاعه قوة من قوى الطبيعة الغلابة، وأقوى ما تراه في المواقف الشاذة التي تعجز المتوسطين من المحامين، أرأيت إليه حين يدافع عن قاذف في حق الخديو، وهو مستشار للخديو، ثم أرأيت إليه حينما يلتمس "شفيق منصور" و"السورداني" معونته، وقد كان يناصبانه العداء؟ كان حاذقا في مثل هذه المواقف التي لم تألف غيره من المحامين. سأله رئيس المحكمة: كم ساعة تكفيك؟ قال: "لا أستطيع أن أضبط زمام عبارتي ما لم أفرغ من التعبير عن أفكاري، فلا أعدك الآن بشيء". وكان حريصًا على النزاهة في الدفاع لا يحاول الدفاع في قضية ما لم يجد لها من الحق حظا.

_ 1 الشيخ عبد العزيز البشري في كتابه في "المرآة" ص48.

حكى صديق عنه في دراسته قضية لم يقتنع فيها بعدل موكلته أن قال: إن من سوء حظ هذه السيدة أنها وكلتني، فأجابه؛ بل من حسن حظها، فقال: كيف؟ قال: لأنها ضمنت ألا تكون عليها. ومن عجب أنه قد يتعرض للدفاع عن قضايا ذات بال، وبينه وبين الدفاع لحظات لدارسة القضية، ثم يقف من الدفاع موقف ذي الحجة الغلاب. كان يوما على مائدة "البرنس حسين"، ثم استأذنه في الانصراف؛ لأنه مسافر للدفاع في قضية، فطلب إليه "البرنس" أن يحدثه فيها، فقال له: إنني لم أقرأها وسأقرأها في القطار، ثم مضت الأيام وراح المحامون الأهليون يطوفون بعرش السلطان ليهنئوه فقال لهم: ذاكروا قضاياكم ولا تقرأوها كالهلباوي في القطار، ويقول الهلباوي في ذلك: ليت "أفندينا" كان يعرف أنني قرأت هذه القضية في طريقي من كفر الدوار إلى قنا مرات ومرات. وإنك ليهولك أن تسمعه حينما يقاطعه خصمه، إذ ذاك يتفجر غضبه وتقدح بالشرر عيناه، ويدوي صولته حتى يكاد يقد الآذان، ثم يرجع إلى الوراء بصدره، ويشمخ إلى السماء بهدامته، ويدق على المنضدة دقات عنيفة، ولخصمه الوبل والثبور. كان يعمد إلى القضية فيكيفها وتملأ من دقائقها، فإذا انتهى من ذلك انقادت له، وأصبحت ملء خواطره وقبض بنانه. وكان جذابا إلى حد غريب في دفاعه، فهو يضم السامعين إليه ضمار، وينفعلون معه انفعالا، وتنظر إلى القاضي المعجب فيخيل إليه أنه ليس في موقف الحكم في جانب المتهم. وإلى جانب هذا كان حاضر البديهة سريع النكتة، عرض عليه رئيس المحكمة لطول إسهابه في الدفاع كوب ماء، فقال: أعطها للخصم الذي نشف ريقه. تولى الهلباوي الدفاع في أخطر القضايا في العصر الحاضر، فكان فارس حلبتها ودافع عن المحاماة التي كان شرفها، وفخارها، وعمل على تكوين نقابة لها.

ودافع عن الأمة المصرية في قتل "السردار" ذلك الدفاع الذي بكى له الرئيس، وبكى له سعد زغلول بكاء. موقفه من حادث دنشواي 1: تبدو في تاريخ "الهلباوي" نقطة حالكة السواد، فقد وقف من الأمة المصرية موقفا غير كريم، وتحدى شعور الشعب المصري كله في وقت بلغ الغيظ والحزن بالأمة مداه، فقد رضي لنفسه أن يقف موقف المدعي العمومي في هذه القضية الدامية، أي إنه أساغ أن يجمع الأدلة من هنا وهناك ليثبت اعتداء المصريين من دنشواي على الإنجليز، وواتته من الغلظة والقسوة ما تذوب له الأكباد، وأمعن في خصومة المتهمين المصريين حتى ليقول: "إنه لا يوجد مصري لا يشاركه في هذا الشعور، ولذلك يطلب الحكم على المتهمين بأشد عقوبة"، ويقول: إذا تقدمت إليكم وطلبت رفع كل رحمة من نفوسكم لمعاقبة هؤلاء المتهمين، وخصوصا رؤساء العصابة لا أكون مغاليا، "وأن المتهمين ارتكبوا عن إصرار، وإني أشرح لعدالة المحكمة الإصرار قانونًا". كانت النفوس تجزع من تحكم الإنجليز، وإزهاق الأرواح البريئة، و"الهلباوي" يصم أذنيه ولا يرعى وطنه ولا إخوته المصريين، ولا يلتفت

_ 1 خلاصة هذه الحادث أنه في يوم الأربعاء 13 من يونيه سنة 1906 قام خمسة من جند الإنجليز من معسكرهم، واتجهوا إلى بلدة "دنشواي" بإقليم المنوفية من أعمال مركز تلا لصيد الحمام، وهناك أصيب بعض الأهلين، فالتحموا بالإنجليز فأصيب بعض الجند بإصابات أفضت إلى الموت، فثار "اللورد كرومر" عميد البريطانيين في مصر إذ ذاك، وعقدت المحكمة المخصوصة لمحاكمتهم، وكان المدعي العمومي الهلباوي بك، وقضت هذه المحكمة بإعدام أربعة من الأهلين وجلد وحبس ثمانية منهم، ونفذ الإعدام والجلد على مرأى ومسمع من البلد وأهله بين البكاء والعويل، وكان في ذلك من الغلظة والقسوة ما أزعج النفوس، وأطلق ألسنة الوطنيين والزعماء بثورة دامية، وشكوى صاخبة.

إلى أهون مبادئ المجاملة، ومن ثم قد أثار سخط الناس عليه، وكالت له الصحف أعنف اللوم، ولم تتورع عن أن تحثى على عطفيه التهم والظنون، تحدثت مجلة "المجلات" التي أصدرت عددا خاصا بهذا الحادث، ورسمت على غلافه صورة "الهلباوي" في إطار من الجماجم فقالت: إن "عثمان بك غالب" التقى "بالهلباوي"، فلم يقو على رؤيته بل صاح فيه، وهو مستشيط غضبا: إني لا أستطيع رؤية جلاد مصر أمام عيني، بل يخيل لي أن الدماء التي أسلتها تلوث يديك، وتجري تحت أرجلك. وروت أن رجلين كانا يتكلمان في مطعم، فطال الجدال بينهما في مسألة شخصية، فقال أحدهما للآخر: ما أراك إلا كالهلباوي، فاعتبر المخاطب ذلك أكبر سب سمعه، وأشد ما مست به كرامته، واستل مدية الطعام وطعن بها صاحبه عدة طعنات. وتحدثت الصحف، وتحدث الناس أيضا أن الإنجليز، وعدو الهلباوي بأن يكون من رجال القضاء، وأنهم سيكفلون له مغانم طيبة، ونظم الشعراء في ذلك قصائدهم، وكان مما قاله المرحوم حافظ بك إبراهيم في هذا مخاطبا به الهلباوي بك. أيها المدعي العمومي مهلا ... بعض هذا فقد بلغت المرادا قد ضمنا لك القضاء بمصر ... وضمنا لنجلك الإسعادا فإذا ما جلست للحكم فاذكر ... عهد "مصر" فقد شفيت الفؤادا لا جرى النيل في نواحيك يا مصر ... ولا جادك الحيا حيث جادا1 أنت أنبت ذلك النبت يا مصر ... فأضحى عليك شوكا قتادا2

_ 1 الحيا: المطر. 2 القتاد شجر صلب له شوك كالإبر، يخاطب مصر بأنها أحسنت إلى بعض أبنائها، وبرت بهم فأساءوا إليها، وجحدوا نعمتها.

أنت أنبت ناعقا قام بالأمس ... فأدمى القلوب والأكبادا1 إيه يا مدرة القضاء ويا من ... ساد في غفلة الزمان وشادا2 أنت جلادنا فلا تنسى أنا ... قد لبسنا على يديك الحدادا كتابته: أما كتابة الهلباوي، فإنها دون خطابته ودفاعه شأنا، غير أنه اتجه فيها إلى السهولة والوضوح، وجانب الزخرف والصنعة، وكان أحد الأدباء الذين حرروا الكتابة من السجع والتكلف، وتوخوا بها الفكرة وأودعوها أغراضا جليلة، واتخذوها وسيلة للإصلاح في مختلف شئونه. نموذج من كتابته: خطب في الحفل الذي أقيم تكريما للمرحوم حفني بك ناصف حين عين رئيسا لمفتي اللغة العربية في وزارة المعارف. أيها السادة: أسمحوا لي أولا أن أشكر لجنة الاحتفال عمومًا، وحضرة رئيس هذا النادي خصوصا على تشريفي بالدعوة للاشتراك في هذه الحفلة؛ لأنها تعطيني فرصة أعرب فيها عن بعض ما عندي من شعائر الاحترام، والإخلاص لحضرة المحتفل به، وإني أعلم أن شعوري هذا يشترك في إخواني جمهوري المحامين، حضرة الأستاذ حفني بك: هذا العدد تراه حولك مهما رأيته عديدا، فهو

_ 1 الناعق: المدعي العمومي في هذه القضية، والنعيق: بالعين المهملة، وفي كتب اللغة بالعين المعجمة أفصح -صياح الغراب. 2 المدرة: خطيب القوم والمتكلم عنهم.

قليل جدًّا بالنسبة للعارفين بفضلك، والذين إن غابت عنا أشباحهم فهم معنا بأرواحهم يشتركون في تحيتك، وتهنئتك بمركزك الجديد في نظارة المعارف. حضرة الأستاذ: إن الفرح بترقيتك لم ينسنا الأسف على حرمان القضاء المصري من خدماتك له نحو ربع القرن، وأن لسان حال المتقاضين، وهم المحامون يعرفون لك هذه الخدمة السابقة التي أديتها بصبر، وذمة تليق بشأن القاضي الحكيم والعادل معا، وأحسن شيء مما يجب أن تعطر به هذه الحفلة، ويذكر لك عن لسان محام أنك كنت حريصا، وعادلا بالنسبة لقضائك بين المتخاصمين، فقد كنت فوق هذا، وأنت على منصة القضاء، وخارجها رقيق الحاشية عذب اللسان بشوش الوجه رحب الصدر. حفني بك: إن كنت بين إخوانك، وبين جمهور المتقاضين معروفا بالعدل في قضائك، فقد كنت معروفًا ألف مرة عند الجميع، وبالأخص المحامين بالأدب والتهذيب؛ فلا غرو وهذه شمائلك أن يبقى أثر من الأسف على فراقك لمنصة القضاء، نشرت في المؤيد بتاريخ 25 من شوال سنة 1330هـ الموافق 6 من أكتوبر سنة 1912م. نموذج من دفاعه: قطعة مما قاله في دفاعه عن الورداني قاتل بطرس باشا غالي: "خدمت نحو الخمسة والعشرين عاما محاميا، ولم يخطر ببالي يوما أن أسأل، أو أقرأ سبب اختيار الرداء الأسود حلة رسمية للمحامي الذي يتشرف بالدفاع بين يدي القضاء، ولا سبب انتخاب اللون الأخضر للوسام الذي تزدان به صدور من عهد إليهم إصدار الأحكام النهائية، أما الآن وقد أبعدت عن قلبي هذه القضية كل راحة، وجعلتني مرآة لتلك القلوب المتفطرة كأم المتهم، وشقيقته وباقي أهله قلت: إن كل مختار هذه الألوان أراد باللون الأسود رمز الحداد

والمصائب للمحامي الذي يمثل السقائم هو بالدفاع عنه، وباللون الأخضر الذي يتحلى به صدر القاضي الرمز إلى الطاووس ذي الريش الأخضر، وهو مثال ملائكة الرحمة، فنعم الاختيار. إلى أن قال مخاطبا المتهم: "اذهب إلى لقاء الله الذي لا يرتبط إلا بعدالته المجردة عن الطروف والزمان والمكان، اذهب مودعا بالقلوب والعبرات اذهب فقد يكون في موتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك"، اذهب فإن قلوب العباد إذا ضاقت رحمتها عليك، فرحمة الله واسعة. نموذج من كتابته: كتب وهو في "بروكسل" إلى الشيخ "عبد الكريم سلمان" يعزيه في وفاة الشيخ "محمد عبده"، فكان ما قاله: حضرة الأستاذ الشيخ عبد الكريم: ماذا أكتب لك، والخطب إذا عظم يبلبل الخواطر، ويجرح القلب ويمسك اللسان عن الكلام، ثم إذ أستطيع القول فماذا عسى أن أقول، وبأي عبارة أعزي؟ إن كان شيء من هذا فلمن يوجه العزاء في هذا الفقيد؟ ألعائلته وزوجته وبناته وإخواته مع أنها لم تكن أكثر حظا وفائدة من كثير من الطبقات الأخرى التي كانت مغمورة بفيوضات الأستاذ رحمه الله. ألعشيرته من رجال الدين والعلم بالجامع الأزهر المعمور على حرمانهم من رجل قضى فوق الأربعين عاما بين طالب، ومدرس وموظف، وهو يجتهد في تحسين حال أهل هذه الطبقة أدبيا وماليا، وإن المرتبات التي توالت عليهم من نظارة المالية، أو من مصلحة الأوقاف كانت من نتائج مساعيه؟

أللناشئة الجديدة من المدرسين والطلبة، ولقد كان شغوفا ولوعا بالعناية بتربيتهم، وبث روح الدين الخالي عن الخرافات، والأوهام في نفوسهم؟ كان أول مثال للوفاء مع أهله، وأصدقائه غير متغير في أمياله، ولا مبادئه للذين اتخذهم في أيام شبيبته الأولى أصدقاء، وأصفياء هم الذين بقي معهم إلى الأيام الأخيرة من حياته. كان من أولى الهمم الشماء والمروءة الكبرى، كان كما كان مقصودًا لكل قاص ودان لحاجة العلم -كان مقصودا للمساعدة على حاجات هذه الحياة الدنيا من مال، أو توظف أو أي مساعدة أخرى. إن رجلا كانت حياته لكل الناس كرجلنا الفقيد، إنما نعزي فيه الأمة بأسرها، وحيث كنت أيها الأستاذ منه بمنزلة هارون من موسى عضده، ومعينه ورفيقه الأول من عهد الطفولية إلى اليوم، وجهت كتابي هذا إليك معزيا في شخصك كل الذين أصيبوا بوفاته، والله يوفقك إلى إتمام ما بدأ به المرحوم، ويرزقنا، وإياك الصبر والسلام".

الكتابة في هذا العصر: أولا: الكتابة الديوانية: كانت التركية هي لغة الكتابة في مصر في العصر العثماني وصدر هذا العصر، نعم إن العربية صارت بعد قليل من حكم "محمد علي" هي اللغة الرسمية لدواوين الحكومة، ولكنها كانت عربية ركيكة ضعيفة متخاذلة، بل إنها كانت عامية غريبة عن العربية في لفظها، وأسلوبها وتركيبها. كذلك كنت تجد في لغة الدواوين في مستهل هذا العصر طائفة من الألفاظ الأعجمية تطالعك بين الحين والحين، وقد يكون ذلك راجعا إلى أن المترجمين الذين كانوا يتوسطون بين الفرنسيين، والأهلين في مصر فيما يترجمون من مراسلات ومنشورات لم يكونا عربا خلصاء، بل "كان بعضهم من غير أبناء هذه اللغة، فإذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب أعجمي، وما لم يجدوا له لفظا عربيا تركوه على لفظه الأفرنكي، أو وضعوا له لفظا عاميا1، وهذه الترجمة التي أدخلت على لغة الدواوين عجمة غريبة، وأنهتها إلى العامية أحيانا في عهد الفرنسيين هي نفسها التي فعلت فعلها عندما شرع "محمد علي" في إنشاء الدواوين، واحتاج إلى من يترجم بين حكومته وحكومات أوروبة، ومن ثم فقد حشد في مراسلات الحكومة، ومشوراتها ولوائحها ما لم يمت إلى اللغة العربية بسبب، وقد أبى الكتاب إذ ذاك، "فأعجموا وأنفوا أن يكونوا مفصحين في العامية، فصاروا معجمين في العربية2". وظلت الكتابة الديوانية على هذه الحال ردحا من الزمان أعان على انحطاطها فيه أن تتولاها قوم ناقصوا الثقافة لم يتموا تعليمهم، وأما الذين أتموه

_ 1 تاريخ أدب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص271. 2 مذكرة الأستاذ محمود مصطفى ص272.

فقد كان يعهد إليهم بغير العمل في هذه الدواوين، على أن كتابة الدواوين بقيت محتكرة في أيدي الأقباط مدة طويلة كاد يكون عملهم فيها متوارثا، وهؤلاء دون المسلمين عربية وفصاحة، فأما المسلمون فقد لانت بكتاب الله ألسنتهم، وهذبت بالحديث النبوي والأدب العربي ملكاتهم، ووجدوا من الأزهر، والمدارس التي على غراره عونا على الفصاحة وسلامة اللغة، ومن ثم كان شيوع العنصر القبطي في بعض المصالح الحكومية، وقيامه على شئونها الكتابية إلى اليوم مما أقعدها على النهوض، وشل أقدامها عن مسايرة النهضة الأدبية الحثيثة الخطا كوزارة المالية، ومصلحتي البريد، والسكة الحديد التي لا تزال هذه الطائفة ذائعة في كثير من أعمالها. وقد تنبهت الأفكار وفصحت الألسن، ونهض الأدب وجرت الأقلام في الصحف والمجلات بما يعجب، ويطرب واللغة الديوانية مثقلة بهذه القيود، لا تزال مشابهة لحالها في أوائل هذا العصر حتى قيض الله لها في عهد "إسماعيل" من ينقح لغتها وينقي عبارتها، ويسمو بأسلوبها، ويحاول جاهدًا أن يخلصها من ركاكتها وعيها، وهو المرحوم "عبد الله باشا فكري" إلا أن جهده تقاصر دون فسادها المستشري، ثم تهيأ للكتابة بعد من عوامل النهوض ما كفل لها التخلص شيئا، فشيئا من عيها وضعفها، فقد توفر المثقفون الذين أربوا على الأعمال الفنية التي كانت من قبل تستأثر بهم، وانخرط في سلك الدواوين منهم طائفة مهذبة القلم فصيحة العبارة، وكان لهم فضل يذكر في تحرير هذه الكتابة. الأزهر ولغة الدواوين: وكما أراد الله أن يكون أول تهذيب للغة الدواوين بيد أزهري نابه، وهو "عبد الله باشا فكري" أراد كذلك أن يتم ما بدأه، وينهج نهجه من هم إلى الأزهر نسبا، وفي أفقه مطلعا، فقد اتجه "سعد زغلول" إلى الإصلاح هذه الكتابة حين كان ناظرا للمعارف.

فعهد إلى الكاتب الفذ الشيخ "مصطفى لطفي المنفلوطي" بالإشراف على لغة الكتابة بنظارة المعارف حتى إذا ما أصبح ناظرًا للحقانية نقله معه لمثل هذه الغاية، فكان له أثر ملموس في نهوض الكتابة بهاتين النظارتين، وفي سبقهما غيرهما في هذه السبيل يضاف إلى الأثر البليغ الذي يحدثه إسناد الوظائف إلى القضاة، والمعلمين الذين لهم بالعلوم، والآداب، وأوثق الصلات1. هذا إلى الأثر العظيم الذي أحدثه نفوذ "الشيخ محمد عبده" باعتباره مديرًا لإدارة المطبوعات، فقد كان من أحكامها أن جميع إدارات الحكومة، ومصالحها وكذلك لمحاكم مكفلة أن تعد للنشر في الصحيفة الرسمية تقريرات بأعمالها وقراراتها، وما شرعت في إنقاذه من مشروعات، وما اعتزمت إنقاذه في المستقبل، وكان من حق "الشيخ محمد عبده" بهذا الوصف أن ينقد لغة هذه القرارات، وصوغ المشروعات، وكل ما يرسل إلى الصحيفة الرسمية. أحدث هذا النقد في نفوس الموظفين نوعا من اهتمامهم بلغتهم، وحاولوا تهذيب كتابتهم حتى اضطر كثير من الكتاب إلى تلقي دروس في اللغة العربية، وأنشئت لهذا الغرض مدارس ليلية يتعلم فيها الكتاب، ومحرروا الصحف، وبلغ من رعاية الإمام للغة، وحرصه على ترقية الكتابة أنه تطوع بإلغاء درس فيها، وقد بينا ذلك في موضعه. وقد غلب على لغة الدواوين من أثر هذه العوامل الإغضاء على السجع، وهجر البديع والمحسنات اللفظية، وإيثار الإيجاز والقصد إلى الغرض دون الترادف التكرار. أما ما كان في البدء والختام من رسوم، وتشبث ببراعة الاستهلال، فقد ذهب في مطاوي النسيان، ولم يعد يعول عليه في هذه الكتابة.

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص365.

ثانيا: كتابة التأليف كانت لغة التأليف في صدر ذلك العصر في أحد درجات الضعف، والتخاذل عدا ما يجهد المؤلفون فيه من الالتواء والتعقيد، والإسراف في الإيجاز بما يعي القارئ في الفهم، ويحول بينه وبين المراد، والغريب أن يكون ذلك طابعهم في جميع ما يؤلفونه من الكتب حتى لا تجد فرقا في التعقيد، والغموض بين تأليفهم في علم الكلام، أو علم البلاغة، وما ذلك إلا لنبو البيان عن طبعهم، وعدم تأصله في ملكاتهم، فإن ظهر لك شيء من بلاغاتهم، فإنما هو من ثمرة الاجتهاد والتشمير، وشدة الجهد حتى إذا أرسلوا أقلامهم على السجية جاءت مسفة1، وواتتك عبارتهم عامية، أو من العامية على شرف، وذلك هو مؤرخ العصر "الجبرتي" ينهض بالشعر، والنثر الرائع أحيانا، وذلك إذا تكلف، فإذا مضت نفسه في غير هذه الحدود كان ركيك التاليف، مرذول الآراء عامي التعبير. ولم يكونوا بمعزل عن السجع في كتابتهم، بل ورثوه من الماضي الزاخر به، ولم يعرضوا عنه إلا حيث تفتحت عيونهم على نهضة الغرب، ووافاهم من علمها ألوان من أدبها فنون، فكان من الحتم لمسايرة هذه النهضة العكوف على معجمات اللغة، واستخراج صيغها التي تؤدي إلى التعبير عن مقومات هذه النهضة، واستلزم ذلك أن تطبع الكتب الأدبية التي لم تحتفل بالسجع، والمحسنات بل عمدت إلى الفكرة، وصورت الرأي في سهولة، وحسن سبك وتمام ارتباط، فاضطر المؤلفون إلى تقليدهم، وهجر هذه الصناعات التي لم تعد ملائمة للعصر، وروحه كما تهيأ للأدب أمثال "السيد جمال الدين" والشيخ "محمد عبده"، ممن سلفوا هؤلاء الكتاب الصناع المتكلفين بألسنة حداد، فكان من آثار نقدهم أن تقلص ظل هذه الصناعة، وأن انطلق الكتاب يتوخون المعنى في يسر وسهولة، وليس أثر الصحف التي تقرأ بأسلوبها السهل المبين، والعناية التي تبذلها

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العرب ج2 ص365.

العطار" "ومرعيا" يكتبان كتابة لا روح فيها، فيعكف على رسائلهما كل من عي بالكتابة وضاق بالتعبير. وإذا كانت الكتابة الفنية تصورا للعواطف، وخوالج النفوس كما قلنا: فإن "محمد علي" كان منصرف العزم عن معالجة هذا النوع من الأدب فيما يعالجه من أسباب النهضة، إذ هو متوفر على ما يرى علاجه ضرورة، والنظر إليه من متبعات الحياة، ومن هنا كانت الكتابة الفنية في أوائل هذا العصر معدومة، أو على كثب من ذلك. ثم جاء عهد "إسماعيل"، فبدأت الكتابة الفنية تنهض لما تيسر لها من عوامل الحياة، وقد كان بالشام كثير من الجاليات الأوروبية، والأمريكية الذين نشروا ثقافتهم بها، ووفد إلى مصر كثير من كتابهم وأدبائهم، وفريق من أدباء الشام الذين تأثروا بهم، فأنشئوا صحفا وأذاعوا أدبا، ونشروا فكرا واهتم كثير من باعثي النهضة في هذا العهد ببعث الكتب الأدبية، ونشر الآثار البيانية بالطبع والاستنساخ، ووجد المتأدبون وعشاق الأدب في قراءتها، وروايتها ما غذى العقول، وقوم الألسنة وقلبوا أبصارهم فيما خلفه أعلام البيان من شعر رائع، ونثر محكم وخطب قيمة، ومحاضرات وأمثال روائع، وحداهم ذلك إلى متابعة هذه الأساليب، والأخذ بأسباب هذه الفصاحات، وانقبضوا عن المحسنات وهجروا الصناعة وعمدوا إلى تصوير الفكرة، وكان من العوامل ذات الأثر المحسوس في هذه النهضة ما تيسر للمتعلمين من الاطلاع على ما ترجم من آداب الغرب، وثقافتهم وما جد من صيغ مساوقة للحياة الجديدة تؤدي بها المعاني المحدثة، وإنه وإن كان ما يخرجه العلم الحديث من مخترع لا يزال محتاجا إلى ألفاظ عربية تعبر عنه، إلا أن المجمع اللغوي يبذل في سبيل ذلك أطيب الجهود ليخرج من ألفاظ العربية ما يؤدي المعنى الجديد.

وكان من أثر الاطلاع على العلوم والآداب الغربية المترجمة أن نحت الكتابة منحى السهولة، وتوخت الفكرة واتسعت أفق خيالها، وانبسطت أغراضها. فنون الكتابة الفنية: تجري الكتابة الفنية، أو النثر الفني في فنون ثلاثة. 1 نثر اجتماعي. 2 نثر صحفي. 3 نثر أدبي. النثر الاجتماعي: فأما النثر الاجتماعي، فهو ما تسيل به أقلام الكتاب معالجة فساد المجتمع محاولة إصلاح الحياة في مختلف نواحيها، ويمت إليه بأوثق الصلات الكتابة الدينية التي تنشر سعادة الناس من أقطار مختلفة عن طريق الدين، والنثر الاجتماعي إنما تعتمد على العبارة الفصيحة المتواضعة الواضحة التي لا مبالغة فيها، ولا تزيد والتي تقوم على الحجة القوية، والمنطق الصحيح ولا تتهافت على الزخرفة والصنعة. والنثر الاجتماعي هادئ في نسقه مترقوق في جدوله لا يثور، ولا يفور إلا حيث يستشرق الفساد الاجتماعي، فتغضب الأقلام وتصخب، أما جعجعة الأقلام في غير ذلك فهي من وضع الشيء في غير موضعه لاستناد هذا النوع من النثر في أغلب الأمر إلى حقيقة واقعة، أو قصة مشاهدة. النثر الصحفي: أما النثر الصحفي فهو ما تجري به أقلام الكتاب في الشئون السياسية

التي تهدف إلى نهضة الوطن رفعة شأنه منتزعة هذه الشئون من النظر السياسي لكل كاتب، والنثر الصحفي السياسي ينبغي أن يكون واضح الغرض سهل العبارة معتمدا على الأدلة الخطابية بعيدًا عن التعقيد، والغموض متجها إلى مخاطبة العواطف، وهز الميول وإثارة المشاعر. النثر الأدبي: وأما النثر الأدبي فهو ميدان التأنق في السبك والاتئاد في اختيار اللفظ، والتجويد في صحة العبارة، وتلاحم النسج حتى يجيء الكلام كالعقد المنظوم، ويكون بحسن رصفه، ورصانة تركيبه أقرب شبها بالشعر. ولا ضير على الناثر الأدبي أن يشرق البديع في كتابته، ولكن غير مرتصد له ولا مستكره، بل يرده عفوا لا تكلف فيه، وهذه الصناعة الدقيقة المحكمة تتطلب من الكاتب أن يكون وافر المحصول من الأدب غزير الرواية من الشعر كثر التقليب في آثار الأدباء والفحول، ملما بثروة لغوية يصرف فيها القول، على جانب عظيم من البصر بمواقع النقد، فيطرب لجمال الموقع، ويهتز لبارع النغم ويعينه ذوقه وحسه على التفطن لما لذ من الأدب وطاب. الأزهر والنثر: ما من نوع من أنواع هذا النثر إلا للأزهر فحول في ميدانه، كانوا ممن أعز شأنه وخلع عليه حلة بهيجة، ومكن له من أسباب الحياة والرفعة، وسنرى فيما نتحدث به بالدراسة، والتفصيل أن كل فن من فنون النثر أخذ بيده علم من أعلام الأزهر، فعبد له طريقا وهيأ له مجدا، ورفع منارا وكان في تجويده، وتخبره وبراعته مثالا يحتذى وقدوة، وسنقصر الحديث على أشهر الثائرين الأزهريين الذين ثقفوا بالثقافة الأزهرية الخالصة، والذين بدأوا

حياتهم في الأزهر، ولم يتموها في غيره كما اتبعنا هذه الطريقة، وسنتبعها في الكلام عن نابغي الأزهر في كل الأطوار الأدبية، فلا تتكلم عن فريق بدأ تثقيفة في الأزهر، ثم أتمه في دار العلوم أو مدرسة القضاء الشرعي، أو الجامعة المصرية حتى لا يوجد مجال لمنكر فضل الأزهر على النهضة، فيزعم أن نبوغه الأدبي إنما تواشي له من هذه السبيل، وإن كانت جميع هذه الهيئات الثقافية قد استمدت من الأزهر أدبها، واستعانت في مستهل نشأتها بأساتذة الأزهر وطلابه، وطريقته وكتبه أي أنها أول نشأتها كانت قسما من الأزهر أقيم في مكان غير مكانه، بعنون غير عنوانه. ارتقت الكتابة الديوانية، والنثر بأنواعه المختلفة بجهود الأزهريين، ونبوغهم وسنختار طائفة من أشهر الأدباء الأزهر الذين سمت بهم هذه الآداب، وكانوا فيها أفذاذا، سنترجم لأشهرهم ونبين طرفًا من حياتهم، وندرس أدبهم في شيء من البسط، ولا تسرف في الإسهاب، والإطالة حتى لا تمل ونسئم. وقد عرجنا في حديثنا عن الصحف العربية من أوائل هذه النهضة على مجهود الأزهريين، وما بذلوه في سبيل حياتها، والنهوض برسالتها وترجمنا لأدباء الأزهر الكتاب الذين كانت أبرز مواهبهم في الأدب، وأظهر آثارهم فيه في ميدان الصحف. أما من عدا الكتاب الأزهريين الصحفيين، فسنتناولهم واحدا فواحدا مراعيين في الكلام عنهم تاريخ وفاتهم -وها هم أولاء.

الشيخ عبد الرحمن الجبرتي

الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: المتوفى سنة "1240هـ-1825م". نشأته وحياته: عبد الرحمن بن حسن الجبرتي نسبة إلى جبرت من أعمال الحبشة. كان والده "الشيخ حسن الجبرتي" من كبار علماء الفلك والرياضة، وآثار جليلة فيهما كما كان عالما في كثير من علوم الأزهر على حظ من الأدب وروايته، وقد ترجم له ابنه "عبد الرحمن" في عجائب الآثار بين وفيات 1188م، وشرح عدة مؤلفات مودعة في المكتبة الخديوية. نشأ "عبد الرحمن" في بيئة علمية أدبية، فقد كان مجلس أبيه حافلا بالعلماء والأدباء يبحثون في العلم ويطارحون بالأدب، حدث "عبد الرحمن" أن والده كان يفاكه أخصاءه ويمازحهم، ويرفه عنهم بالمناسبات والأدبيات، والنواد والأبيات الشعرية، والمواليا، والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكت الطريفة1. وكانت لوالده شهرة علمية حتى إن كثيرا من الأقطار الإسلامية كان يراسله ويكاتبه كما كان له تلامذة، ومعجبون "وعبد الرحمن" بقية أخواته وإخوته الكثيرين الذين عجل الموت بهم، فكانت له في نفس والده مكانة مغمورة بالحب، والعطف مما جعله شديد العناية به كريم العطف عليه يضعه إلى مجلسه على رغم ازدحامه بالعلماء والكبراء، وهذا مما فتق ذهنه، ووسع أفقه ونمى رجولته. بدأ "عبد الرحمن" حياته العلمية، فانخرط في سلك الأزهر، وأخذ العلم

_ 1 عجائب الآثار ج4 ص396.

عن أبيه، وعن جمهرة من كبار الأساتذة، وعني بالأدب فكتب ونظم وراسل. وكان أحد الذين اتصلوا بالفرنسيين في مصر، فشاهد علمهم الحديث وأدواتهم الفنية وطرائفهم العملية، وأسلوبهم في التفكير والسياسة، وربما كان أكبر سبب لتطوره هو دخول الفرنسيين مصر، واتصاله الاتصال الوثيق بهم والتحاقه بديوانهم الذي أنشأوه، وقد كان ممن يترددون على المجمع العلمي، فوصف ما شاهده من مخترع حديث، وما أجري أمامه من تجارب. ولما خرج الفرنسيون من مصر، وانتهى ديوانهم الذي ألحق للكتابة فيه انقطع للتأليف، وتفرغ للكتابة التاريخية، وظل كذلك حتى وافته منيته. الاضطراب في تاريخ وفاته: وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته، إلا أن "جورجي زيدان" يذكر أنه وقف على نسخة من تاريخه في مكتبة "محمد بك آصف" بمصر، جاء في آخرها أنه أتم تبييضها سنة 1237 هجرية، وعلى هامشها ما نصه بخط واضح بلغ مقابلة وقراءة على مؤلفه من أوله إلى آخره في يوم السبت المبارك 14 ربيع الأول سنة 1240 هجرية بمرأى، ومسمع من مؤلفه متع الله الوجود بطول حياته ... رقعه بيده الفانية أحمد بن حسن الرشيدي الشافعي الشهير بصومع1. فهذا الذي نقله نص في أنه لم يمت قبل ذلك، فوفاته في سنة 1240هـ، أو فيما بعدها لا قبل ذلك كما رأى بعض المؤرخون2، أما مولده فهو سنة 1167هـ، ولم يكن كوفاته موضع اضطراب.

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية ج4 ص283. 2 وفي الكتاب الألماني الذي ترجمه المرحوم الشيخ عبد العزيز المراغي أن وفاته سنة 1824م.

آثاره: الجبرتي مؤرخ العصر ومدون أحداثه، ومسجل ما وقع فيه من اضطرابات سياسية، وفتن داخلية يشرح ذلك شرح محقق اطلع عليه وسمع به، فروايته رواية عليم، وحديثه حديث مكابد، ولقد مكن بتاريخه من إثبات ما يتصل بهذا العصر إثباتا لا شك فيه، ولا عناء في الحصول عليه. ويعتبر كتابه عجائب الآثار من أوفى المراجع لكثير من أدباء العصر، وعلمائه ولا سيما الأزهريين الذين خالط الكثير منهم، واتفقت له بمعاصرتهم، ومشاهدتهم دراسة أحوالهم ودراية شئونهم. وفي الكتاب كثير من آثار العلماء والأدباء والشعراء، وجمهرة من النثر والشعر يذكرها عقب ترجمته لهم، ويوافيك بها مقرونة بالحادث الذي قيلت فيه، ووردت بصدده -فهو كتاب أدب وتاريخ معا. ويحدث الجبرتي عما لقيه من الجهد في تدوين هذا الكتاب، واستيعاب حوادثه فيقول: "إني كنت سودت أوراقا في حوادث القرن الثاني عشر "الهجري"، وأوائل الثالث عشر الذي نحن فيه جمعت فيها بعض وقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن مما أدركناها، وأمور شاهدناها، واستطردت في ضمن ذلك إلى سوابق سمعتها، ومن أفواه الشيخة تلقيتها، وبعض تراجم الأعيان المشهورين من العلماء، والأمراء المعتبرين وذكر لمع من أخبارهم، وأحوالهم وبعض تواريخ ميلادهم، ووفياتهم". ولما عزم على جمع ما كان قد سوده أراد أن يصله بشيء مما قبله، فعز عليه إلا بعض كراسات سودها بعض العامة من الأجناد على اختلاف ترتيبها، وركاكة تركيبها، ونقص في وقائعها، وكان قد ظفر بتاريخ من تلك الفروع، ولكنه على نسق في الجملة مطبوع لشخص يقال له: "أحمد جلبي" بن "عبد الغني" يبتدئ فيه من وقت تملك بني عثمان الديار المصرية، وينتهي كغيره إلى خمسين ومائة وألف هجرية.

ثم إن القوم عبثوا بهذا الكتاب، ولم يعثر على شيء مدون في هذا الشأن، فرجع إلى الشيوخ يروي عنهم إلى صكوك الكتبة، وما نقش على قبور الراحلين عساه أن يجد ما يعنيه في هذه السبيل، ومن أول القرن إلى السبعين وما بعده أمور شاهدها، ثم نسيها وذكرها. وهكذا يتبين وجه الدقة والنقص في هذا التاريخ، ويستبين أنه ثقة فوق الظنون والأوهام. وقد طبع هذا الكتاب سنة 1297، ثم طبع بعد ذلك أكثر من مرة، "ويقال: إنه طبع طبعة قبل هذه صادرتها الحكومة لأن فيها طعنا في أعمال محمد علي باشا رأس الأسر الخديوية، ثم أصدرت الحكومة هذه الطبعة بعد حذف الطعن، وكل ما ظهر من الطبعات منقول عنها1". والحق أنه كان مسرفا في هجومه على محمد علي باشا، بل إنه ليقسو في مهاجمته، ويتتبعه خطوة فخطوة، وربما كان ذلك ناشئا من صداقة والده لبعض المماليك المصريين، ولعل ذلك يظهر عند خروج الفرنسيين من مصر، فإنه يشايع الألفي بك، وينصره على محمد علي باشا. هذا وقد سما الجبرتي بكتابه عن الغايات، وارتفع في رأيه فوق الريب إلا في قليل، فقد كتب تاريخه للعلم، ولم يقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم يداهن دولة بنفاق أو مدح، أو ذم مباين للأخلاق2. وربما حملته نشأته الدينية على أن يعف لسانه، فلا يطعن أو يجرح أو يذكر مثال الناس، وإذا ترجم لشخص عند وفاته، وذكر عيبا من عيوبه بادر بقوله: "ولكنه كان طيب السريرة، وفيه محبة الناس غفر الله له"، وقد يقول: "رحمه الله، وتجاوز عن سيئاته، اذكروا محاسن موتاكم". وقد يتسع مجال القول لنقد كبير، أو تناوله ولكنه يمسك، ويقول: "يضيق

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص284. 2 عجايب الآثار ج1 ص6.

صدري ولا ينطلق لساني، وليس الحال بمجهول، حتى يفصح عنه اللسان بالقول، وقد أخرسنى العجز أن أفتح فما، أفغير الله أبتغي حكما". وتجد على رغم تناوله محمدا عليا لا يغفل آثاره في التعمير والإصلاح، ولا يغضي عن جلائل أعماله، وعظيم نهوضه. والكتاب على سعته لا يتحدث إلا عن القاهرة، ولا يصف غير مباهجها وأحداثها، فلا حديث فيه عن الريف أو مدينة أخرى، ولعل ذلك لأن الجبرتي آثر في القاهرة وفتن بها وحدها، ولو أنه نزح إلى غيرها من مجالي القطر لأتاح لنا وصفه، وحدث عنه حديثه التاريخي المستطاب. موضوع الكتاب: يقع كتاب "عجائب الآثار في تراجم الرجال والأخيار"، في أربعة أجزاء ضمته حوادث مصر التي جرت من أواخر القرن الثاني عشر الهجري إلى سنة ست وثلاثين من الثالث عشر، مبينا أعظم الأحداث التي وقعت في هذه الفترة يوما فيوما حسب وقوعها. بدأ في كتابه يذكر مقدمة تاريخية إلى سنة 1142هـ، ثم حدث عن الوفيات من سنة 1100هـ إلى سنة 1142هـ، ثم جرى على سرد الحوادث تباعا حسب وقوعها يوما فيوما، وإذ ينتهي من سرد الحوادث لكل عام يقفي بذكر الأعيان المتوفين من علماء، وأمراء وكبراء مترجما لهم مبينا آثارهم؟ والكتاب يقع في أربعة أجزاء ينتهي الجزء الأول منها بالكلام عن الأحداث، والرجال إلى سنة تسع وثمانين ومائة ألف من الهجرة، وينتهي الجزء الثاني منها بالكلام عن الأحداث، والرجال إلى سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف من الهجرة، وينتهي الثالث بسنة عشرين ومائتين وألف، وينتهي الرابع وهو الأخير بسنة ست وثلاثين ومائتين وألف، وهو آخر ما كتبه. وقد نقل تاريخ الجبرتي إلى الفرنسية بهمة بعض فضلاء مصر، وهم "شفيق

بك منصور وعبد العزيز كحيل بك، وجبرائيل نقولا كحيل بك، وإسكندر بك عمران1، وطبع في القاهرة سنة 1888م. تلخيص العجائب: وقد ألف الشيخ عبد الله أبو السعود المتوفى سنة 1295هـ "1888م" كتابا اختصره من عجائب الآثار، ولخصه عنه، وسماه "منحة العصر بمنتقى تاريخ مصر". مظهر القديس بذهاب دولة الفرنسيس: يرجح "جورجي زيدان بك، وكاتب فهرس المكتبة الخديوية"، وقد نقل ذلك عنه لويس شيخو في كتابه الآداب العربية في القرن التاسع عشر أنه لعبد الرحمن الجبرتي، ونسبه له "المفصل" أيضا، وقد صدر هذا الكتاب بمقدمة موجزة في تاريخ مصر يبتدئ من المحرم سنة 1013هجرية، وينتهي إلى وقت لتأليفه سنة 1216، ثم تكلم على حادث احتلال الفرنسيين مصر في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وخروجهم منها من زيادات مما نمقه معاصر المؤلف، وصديقه الشيخ حسن العطار من منظومه ومنثورة، وكان الفراغ من تأليفه في شهر شعبان سنة 1216هـ، وهو نسخة في مجلد مخطوط بخط أحمد رزق، وفرغ من كتابتها سنة 1293هـ، وهناك نسخة أخرى مخطوطة تمت كتابتها سنة 1224هـ، والكتاب مترجم إلى الفرنسية والتركية. أسلوب الجبرتي: الجبرتي ممن عالج الأدب وأصاب منه حظا، وأبرز آثاره التي يتجلى فيها أسلوبه هو عجائب الآثار في تراجم الرجال والأخبار لسعته، وكثرة ما ضم من تحريره. ومن يدرس في هذا الكتاب أسلوبه يجده على نسقين، أما الأول

_ 1 الآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو ج1 ص21.

فإنه يتأنق في كتابته ويشمر في تحريره، وهو إذ ذاك مجار عصره في السجع غالبا يتخير لفظه، ويجود في تعبيره، فتراه إذ ذاك "مسلوكا في أعيان الكتاب والشعراء"، وترى له في كلا البابين البدائع بالنسبة لعصره1، وقد يترك السجع، ويرسل الكلام إرسالا لا صنعة فيه، فيكون أسلوبه ضعيفا لا أثر فيه لاجتهاد، أو تجويد. وهو حين لا يعني فيما يكتبه بالأسلوب، ولا يحرص على التأنق، وحسن العبارة تراه ركيك التعبير مختل الأسلوب نازل التركيب يهبط إلى العامية حتى ليكتب بها غير مهذب لها، أو متحاش طريقها. وإذا شفع له في بعض الأحيان أنه ينقل عن العوام، ومن ألسنتهم أحداثا بتعبيرهم، وتصويرا بعاميتهم، ومقالات شافهوا بها، وكان في قدرته أن يعبر بأسلوب عربي رصين -فليس من السائغ له أن يطرد ذلك في كتابته، وأن يمثل الجمهرة العظمى من أسلوبه. نماذج من كتابته: مما كتبه عن الأمير "مراد بك محمد": ...... وحظي عنده كل جريء غشوم عسوف ذميم ظلوم، فانقلبت أوضاعهم، وتبدلت طباعهم، وشرهت نفوسهم، وعلت رءوسهم فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذهم، وشمخت آنافهم عليه، وأغاروا حتى على ما في يديه، واشتهر بالكرم والعطاء فقصده الراغبون، وامتدحه الشعراء والغاوون، وأخذ الشيء من غير حقه، وأعطاه لغير مستحقه، كما قال القائل: وإنما خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما ثم لما ضاق المسلك، ورأى أن رضا الناس غاية لا تدرك، أخذ يتحجب عن الناس، فعظم فيه الهاجس والوسواس، وكان يغلب على طبعه

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص365.

الخوف والجبن مع التهور، والطيش، والتورط في الإقدام مع عدم الشجاعة، ولم يعهد عليه أنه انتصر في حرب باشره أبدا على ما فيه من الادعاء، والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم، والجور كما قال القائل: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر ومن أسلوبه الضعيف الذي يقرب من العامية، ويمتزج بها ما كتبه إذ دون حوادث شهر جمادى الآخرة سنة 1216هـ: "وفي يوم الخميس سابع عشرينه مروا بزفة بسوق النحاسين، وبها بعض أنكشارية، فحصلت فيهم ضجة، ووقع فيهم فشل فخطفوا ما على العروس، وبعض النساء من المصاغ المزينات به، وفي أثناء ذلك مر شخص مغربي، فضربه عسكري رومي "ببارودة"، فسقط ميتا عن الأشرفية، فبلغ ذلك عسكر المغاربة، فأخذوا سلاحهم وسلوا سيوفهم، وهاجت حماقتهم وطلعوا يرمحون من كل جهة، وهم يضربون البندق ويصرخون، فأغلقت الناس الحوانيت، وهرب قلق الأشرفية بجماعته إلى أن يقول: ورجعت القلقات إلى مراكزها، وبردت القضية، وكأنهم اصطلحوا وراحت على من راح".

عبد الله فكري باشا

عبد الله فكري باشا: المتوفة سنة 1307هـ، 1889م. نشأته وحياته: ولد في شهر ربيع الأول من عام 1250هـ -ووالده "محمد أفندي بليغ" بن "الشيخ عبد الله" بن "الشيخ محمد"، وكان جده من كبار العلماء المدرسين بالأزهر، ولما قدم الفرنسيون مصر رحل جده إلى "منية بن خصيب"، فلبث فيها حينا ثم عاد إلى "القاهرة"، واشتغل بتدريس العلم ما بقي من حياته، وقد نشأ على غراره في العلم، وتلقى الدروس في الأزهر والجد في التحصيل، ولده "محمد بليغ"، وكانت مصر قد ازدهرت فيها الحضارة بإنشاء مدارس العلوم الرياضية، والمدارس الحربية، فكان "بليغ" بين المبرزين فيها والذين انتظموا في سلك الجيش, وقد حضر مواقع حربية عدة أهمها حرب "المورة"، وتزوج من أهلها وعاد بزوجه إلى الحجاز، وأنجب بمكة "عبد الله"، "ومن غريب الاتفاق أن سنة ولادته وافقت مجموع جمل الآية {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} ، وقد أعجب هو أيضا بهذا الاتفاق، فلما شب وتعلم نقش هذه الآية على خاتم له كان يختم به كتبه"1، وقد كان اتخاذ أمثال هذه الخواتم من شارات الكتاب وذوي المناصب الوزارية في أيام العباسيين، ومن حذا حذوهم من الفاطميين والأيوبيين2، ثم عاد والده به إلى القاهرة، وتوفي ولما يبلغ "عبد الله" الحلم، فتولى رعايته بعض من أقارب أبيه، فأتم قراءة القرآن وحفظه وجوده، ثم التحق بالجامع الأزهر، وتلقى به علوم العربية والفقه والحديث والتفسير، والعقائد والمنطق، وكان مع تلقيه علوم الأزهر وإجادته فيها يجد في تعلم اللغة التركية حتى أتقنها، وعين في القلم التركي في الديوان

_ 1 تراجم مشاهير الشرق ج2 ص216 لجورجي زيدان. 2 شعراء مصر وبيئتهم ص79 للعقاد.

الكتخداني سنة 1267هـ على حين أنه يتردد لطلب العلم في الأزهر مغتنما ساعات فراغه قبل ذهابه إلى الديوان وبعد عودته منه، ثم انتقل من هذا الديوان إلى "المحافظة"، فالداخلية بوظيفة مترجم، ثم التحق بالمعيو الخديوية في حكومة "سعيد باشا"، وظل يعمل بالقلم التركي تارة، ويشتغل بالعلم تارة أخرى إلى أن توفي سعيد باشا سنة 1279هـ، ولما خلفه إسماعيل باشا رحل معه إلى "الآستانة"، وعاد معه واستمر في معيته، وسافر إلى إسلامبول مرارًا للاضطلاع بالكتابة مع "الحرم الخديو" "والجناب الخديو"، وبعض شئون أخرى1، ونال الرتبة الثانية بلقب "بك" سنة 1282هـ، وفي سنة 1284 قلده الخديو ملاحظة الدروس الشرقية، وهي العربية والفارسية والتركية بمعية أنجاله "محمود توفيق باشا"، "والبرنس حسين باشا"، فأشرف على تربيتهما، وكان أحيانا يباشر التعليم بنفسه، وأحيانا يقوم بمراقبة غيره من المعلمين، ومراقبة إلقاء الدروس، وتقويم طريقة التعليم، ولم يزل كذلك إلى أن رقى "توفيق باشا" إلى رتبة "الوزراء والعشيرية"، وتوجه إلى دار الخلافة العلية لإسداء الشكر فصحبه في رحلته، ولما عاد مصر نقل إلى ديوان المالية سنة 1286هـ، فأقام أياما بغير عمل، ثم عهد إليه النظر في أمر الكتب التي كانت للحكومة في ديوان المحافظة وإبداء رأيه فيها، فلبث زمنا يتردد على الديوان وينظر فيها، ثم قدم تقريرًا مفصلا أبان فيه رأيه في هذه الكتب، وذكر أن بقاءها على حالتها لا يفي بالغرض من حفظها، ولا يمكن من الانتفاع بها، وأشار بأن تجعل في وضع يمكن معه انتفاع الناس بها، واقترح إحالتها على ديوان المدارس لتودع في المكتبة التي كان يقوم بإنشائها، "سعادة علي باشا مبارك" ناظر المعارف إذ ذاك على سعة لا تضيف بهذه الكتب وأمثالها، وقد نفذ ما قرره، وبذلك استنفدت تلك الكتب النفيسة من التلف، والإهمال، وكشفت عنها حجب الخفاء، والإغفال ورفعت إلى منصات الظهور، وحسن النظام ورتبت ترتيبا حسنا في المكتبة المذكورة

_ 1 جزء 2 خطط ص47.

وهي الكتبخانة الخديوية المعروفة الشهيرة في قصر "درب الجمامير"1. ولما أتم هذا العمل كان المجلس الخصوصي الذي خلفه مجلس النظار فيما بعد مشتغلا بجميع القوانين، واللوائح التركية، فظل يقوم بعمله حتى فصل من الخدمة في أوائل سنة 1287هـ. وفي سنة 1288هـ عين وكيلا لديوان المكاتب الأهلية، ثم رقي إلى رتبة "المتمايز"، وفي رجب سنة 1296 أصبح وكيلا لنظارة المعارف العمومية، ورقي إلى رتبة "ميرميران"، وفي سنة 1295 ضمت إليه وظيفة الكاتب الأول بمجلس النواب مع عمله هذا حتى صار ناظرًا للمعارف العمومية سنة 1299هـ، ثم استقال مع زملائه النظار في هذا العام لفتنة سياسية، وفي أواخر هذا العام اتهم بالاشتراك مع الثورة العرابية، فسجن مع المتهمين، وقد ثبتت براءته فأفرج عنه وبقي موقوف "المعاش"، حتى التمس مقابلة الخديو، فلم يسمح له فنظم قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا مستعطفًا الخديو متنصلا مما نسب إليه، ولما عرضت على الخديو أجلها، وأحلها محلها وسمح له بالمثول بين يديه، وأقبل عليه وأعيد معاشه إليه2، ثم نظم قصيدة أخرى زادت عن سابقتها تسعين بيتا، وأشار عليه بعض أصدقائه من كبار الأمراء بالاختصار، فحذف جملة من أبياتها ثم أشار آخر بعدم مجاوزة العشرة ففعل، واقتصر على عشرة أبيات في وزنها ورويها. وفي سنة 1303هـ سافر إلى البلاد الحجازية لأداء فريضة الحج، فقوبل من علماء "مكة والمدينة" بحفاوة بالغة، وتكريم رائع وكتب في ذلك كتابا سماه "الرحلة المكية"، وشخص في السنة التالية لزيارة "بيت المقدس"، و"الخليل" بصحبة نجله المرحوم "أمين فكري باشا"، ثم اتجها إلى "بيروت"

_ 1 ص6 الآثار الفكرية. 2 ج2 خطط ص48.

فأما فيها شهرًا كانا فيه متجه الأنظار، وقبله الأباء والعلماء والمفكرين، ثم ارتحل إلى "دمشق"، "فبعلبك" وبعد أن زار آثارها عاد إلى "لبنان"، فقضى في ربوعه شهرين غادره بعدهما إلى مصر. وفي سنة 1306هـ، أوفدته الحكومة المصرية رئيسا للوفد العلمي المصري في المؤتمر العلمي الذي انعقد في "استوكهلم"، وصحبه نجله في هذه الرحلة أيضًا، وقبل مغادرته مصر إلى هذه الرحلة أنعم عليه الخديو "بالنيشان المجيدي" من الدرجة الثانية، وقد مر في طريقه إلى استوكهلم، وبتريستا البندقية، وميلانو، ولوسون، وباريس التي لبث بها عشرين يومًا اجتلى فيها مناظرها الحسان، ورأى من مفاتنها، وعجائب حضارتها طرائف، وغرائب ثم برحها إلى لندن، فنوتردام، ولاهاي، وليدن وزار مكتبتها، وشاهد مطبعتها المعروفة بالمطبعة الشرقية، ثم اتجه إلى كوبنهاجن عاصمة الدانيمارك، وقد أتيحت له من مشاهدة النمسا وإيطاليا، وسويسره، وفرنسا، وهولاندة والدانيمارك، والسويد، والنورويج، مشاهد نشطت خياله وغذت فكره، وزادت في حضارته وثقافته، وقد كان في هذا المؤتمر مرموق النبوغ موفور التكريم يشار إليه بالتقدير والإعجاب، وقد أهداه الملك "أسكار الثاني" نيشان "وازه" من الدرجة الأولى اعترافا بفضله. ولما حط رحاله "بمصر" عزم على تدوين ما اجتلاه في هذه الرحلة من ظواهر، ومشاهد وصور وحيوات، ولكن المرض عاقه عن اتمام هذا العمل الجليل، فأجله إلى شفاء يرتجيه، ولكن العلة ألحت عليه حتى أسلمته إلى المنية في 7 من ذي الحجة سنة 1307هـ، فعني نجله "أمين" بنشر هذه الرحلة في كتاب سماه "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا"، وهو مجلد ضخم طبع في مصر سنة 1892م، وفيه تصوير لهذه المسالك، وعاداتها وأخلاقها، وشيء غير قليل من نظم المؤلف، ونثره اللذين لم ينشروا في غير هذا الكتاب عدا بحوث لغوية، وأدبية قيمة، فقد حقق الولد ما فات والده، وكان الابن قد وافق أباه في رحلته.

كتابته: كانت الكتابة الديوانية في أوائل هذا العصر ضعيفة ركيكة يستعمل فيها الدخيل، والعامي متخلفة عن النهضة، وعبد الله فكري هو الذي شق لها طريق الحياة، ووهب لها شيئا من القوة والسلامة، وأصلح من فسادها، وبدل عيها نطقا وإفصاحا، وقد كانت من قبله تحرر بالتركية الخالصة، وإذا حررت بالعربية، فإنما هي عربية عامية نازلة إلى أحط الدرجات ركة، وتحاذلا "فلما اتصل بمعية الأمير جعل يصدر عنها الرسائل بلغة فصيحة قوية رصينة اتخذت بعد نموذجا للمكاتبات الديوانية، وتأثرها الكتاب من عمال الحكومة بقدر ما واتاهم الجهد، وانفسح لهم في صدر البيان"1. وقد ذهب في إنشائه مذهب البلغاء، وهو مبكر الشباب في عصر كانت أقلامه مسفة وأدبه غثا، وظل يسمو بأسلوبه، ويعلو في إنشائه حتى شهد بفضله في البيان أعلام لهم مكانتهم في الأدب من أمثال "أحمد أفندي فارس"، الذي يقول عنه في كتابه "سر الليالي"، "ومن برع في هذا العصر، وحق له به الفخر في الإنشاءات الديوانية، وهي عندي أوعر مسلكا من المقامات الحريرية الأديب الأريب العبقري الفاضل "عبد الله بك فكري المصري"، فلو أدركه صاحب المثل السائر لقال: كم ترك الأول للآخر"، ويقول "الشيخ حسين المرصفي في كتاب "الوسيلة الأدبية": "وأنفع ما أراه ينبغي لك أن تتخذه دليلًا يرشدك إلى كل وجه جميل من وجوه الفنون التي تحاول فيها أن تكتب الكتابة الصناعية المناسبة لوقتك، الذي تأمل أن تعيش في رضا أهله عنك، واعترافهم بظهور ما يعود منك عليهم نفعه منشآت الأمير الجليل صاحب الوقت الذي لو تقدم به الزمان لكان له بديعان، ولم ينفرد بهذا اللقب علامة همذان2 "عبد الله فكري بك".

_ 1 ج2 المفصل في تاريخ الأدب العرب ص384. 2 ج2 ص672.

ولم يكن "عبد الله فكري" يجري على أسلوب واحد في إنشائه، فهو إذ كتب في شأن من شئنون العملية، أو تقرير من التقريرات العملية، اتجه إلى المعنى دون اللفظ، ونحا منحى السهولة والوضوح، وغلب عليه الترسل، وهجر السجع والفواصل إلا قليلا، ومن ذلك ما كتبه "جوتمبرج" إلى الوزير "رياض باشا"، يذكره ما شهده في مؤتمر المستشرقين، إذ يقول: "ثم أشير إلي فقعدت وأنشدت قصيدة كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس، فأتممتها في الطريق، وبيضتها في "استوكهلم"، فابتدأت أقول: اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس نهارها أنوار ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب وبالجملة لي لما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسانها، وحضر كانت المؤتمر على أثر الفراغ منها، وسارني يطلب نسختها فأخذها في الحفلة، وخطب بعد ذلك أناس منهم المسيو "شفر" وافد فرنسا، وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية، ثم قام الملك وودع الحاضرين، وصافح البعض وصافحنا، وقال: حسنا وانصرف وانصرفنا، وانقضت الحفلة، وارفضت الجمعية. ولكنه يحتفل بالأسلوب، فيتأنق في عبارته ويزوق في صياغته، ويأتي بالسجع والمحسن، ولكن على غير استكراه ولا تعنت، ويترسم طريقة القاضي الفاضل، ومن نهج نهجه إذ يكتب في الأوصاف والمقامات، والرسائل والألغاز، وغير ذلك من الأغراض التي يتكلف لها "الديوانيون" جهدا واحتفالا، ومن ذلك ما كتبه إلى صديق له يهنئه بشهر رمضان -"أيها الخل الصديق، بل الشقيق الشفيق متعك الله تعالى وتبارك بهذا الشهر الشريف المبارك، وتقبل صيامك، وأسعد لياليك، وأيامك وبعد -فإني لو أجريت القلم في ميدانه، وأرخيت فضل عنانه على أن يبلغ وصف ما في الفؤاد، من الشوق وقديم الوداد، لقصر عن هذه البغية جهده، وقصر عن هذه

الغاية أمده، فكيف لو كلفته بشرك أفضالك، وذكر محامد شمائلك، ومدائح خلالك". فالله يبقيك كما تشتهي ... ترقى إلى أوج العلا والكمال" "وكتب إلي صديق له فقال": "سلام يمازج صفو الوداد آخره وأوله، وأثنية سنية لا تصدر إلا عن لسان أووله، مع أداء الدعاء الواجب، وشكوى شوق الفؤاد الواجب، قد بلغ الداعي توعك المزاج الكريم عافاه الله وشفا، وسر ببرئه نفوسا صارت من تلهفها على شفا، فقد أورث هذا الأمر قلب المحب أسى أساء، وثوى به، وتمنى العبد أن يتحمل عن مولاه ذلك الألم، ويكون لحضرة السيد خالص أجره وثوابه، فالله تعالى يعجل مسرة قلوبنا العافية، ويقرب ورود أخبار السلامة والعافية، والسلام". وأيا ما كان، فإن "عبد الله فكري" قد بلغ مبلغا رفيعا في إنشائه، وكان عظيم الشأن في أدبه يتوسم الكتاب أثره، ويجرون مجراه "وإن قليلا من الدوانيين من ضارع عبد الله فكري باشا في صحة اللغة، وبراعة التركيب وسلامة الفهم والتفكير1، وأن قدرته البيانية، وتمكنه من الأدب واقتداره عليه ألان القلم له فمرة يتوسل، ويأتي بلين القول وسهله، ومرة يتأنق فيجاري الأساليب الضخمة التي يحتفل بها الأدباء والمنشئون. شعره: يبدو شعره أقرب إلى السهولة وينزع في جملته إلى الوضوح، ويتناول أغراضا شتى بين وصف وعتاب، وغزل ورثاء وشكر وتهنئه واعتذار، وتنصل ووصايا وحكم، ولكنه مطبوع بالطابع الشعري لعصره على تخفف وتحلل منه في بعض الأحيان، وكان يضع في مطالع قصائده، وخواتيمها تواريخ

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم العقاد ص86.

بحروف الجمل، ومن ذلك ما قاله في فتح "إسباستبول"، وكل مصرع من مطلع القصيدة تاريخ للسنة. قد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأن يفتح القوم هان لنا الصعب 134 3404 66 568 163 ... سنة 1275هـ وقال يؤرخ زواج "الأمير حسين". بشرى بأحسن فأل ... يقول والقول يصفو أرخ لنحو حسين ... عين الحياة تزف 94 128 ... 130 450 487 سنة 1289هـ وهو مولع الجناس فيشيع في شعره، ومن ذلك قوله في مليح رآه أول الشهر: وبدر تبدي شاهرًا سيف جفنه ... فروع أهل الحب من ذلك الشهر وليلة أبصرنا هلال جبينه ... علمنا يقينا أنها غرة الشهر ويقول في مدح "أسكار" ملك "السويد" حين أوفدته مصر لحضور مؤتمر المستشرقين بها. وغدت لأرباب المعارف دولة ... غراء صاحب ملكها أسكار أسكار الثاني الذي اعترفت له ... الأقطار وارتفعت به الأقدار وقال في قصيدة أرسل بها إلى "الشدياق". تفديك نفس شيج عليل آس ... عز الدواء له وحار الآسي أضناه طول أسه حتى إنه ... يحكي لفرط ضناه داوي آس وتطالعك التورية كثيرًا في شعره كقوله: جاءت تطارحني الهوى فأجابها ... شوق يصابحني هوى ويماسي وغدت تذكر العهود ولم يكن ... فكري بناس عهد أوفى الناس

"فقد ورى بلفظ "فكري" عن معنييه -فكر- المضاف إلى ياء المتكلم، واسمه" كما يقول موريا أيضا: ويح شيخ زوجوه ... منهم ظلما صبيه فارق الدنيا سليما ... من أذاها وهي حيه "فقد ورى بلفظ "سليم" عن معنيه من سلم من الأذى واللدمع الذي سمته العرب بذلك تفاؤلًا، كما ورى بلفظ حية عن معنييها الوصف بالحياة والهامة المعروفة". وتظهر في شعره المصطلحات العلمية كقوله:- يا من دعائي له ومدحي ... فتفلي مدى مدتي وفرضي ويقول: أدت به واجبات للعلا ووفى ... معروفها بفروض البر والسنن "فتملي" و"فرضي" و"فروض" و"السنن" من ألفاظ الفقهاء ومصطلحاتهم. أما قصائده في الحكمة، فهي ألصق بوصايا المتآخرين ونصائحهم منها بالحكم المطبوعة، وهي بكلام المعلمين أشبه منها بكلام الشعراء، وبوصايا الآباء المحنكين أشبه منها بالخبرة المطبوعة التي تعتبر عنها قرائح أهل الفتوة1، ومن حكمه قصيدته الرائية التي يقول فيها: إذا نام غرفي دجى الليل فاسهر ... وقم للمعالي والعوالي وشمر وخل أحاديث الأماني، فإنها ... علالة نفس العاجز المتحير وسارع إلى ما رمت ما دمت قادرا ... عليه وإن لم تبصر النجح فاصبر ولا تأت أمرًا لا ترجى تمامه ... ولا موردا ما لم تجد حسن مصدر

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص82.

وقد يسترسل في شعره، فيأتي بالقصائد الطوال لا يعيبه طولها ولا يجهده رويها، حتى ليبلغ بالقصيدة تسعين بيتا، وهو في آخرها كأولها قوة نفس، ومتانة نسج واتزان روي. آثاره الأدبية: ومن آثاره الأدبية: المقالة الفكرية في المملكة الباطنية، وترجمها عن التركية وطبعت سنة 1289هـ، ومنها: الفوائد الفكرية، وجزء من شرح ديوان "حسان بن ثابت" رضي الله عنه، وتعليقات عن منظومة للمرحوم أحمد خيري باشا، وهي منظومة تضم مواعظ وحكمًا، وكتاب نظم اللال في الحكم والأمثال طبع سنة 1308هـ، ومنها: رسالة في الدينار ورسالة فيما اتفق لفظه، واختلف معناه من بلاد مصر، ومنها: كتاب آثار الأفكار، ومنثور الأزهار نشر جزء منه بمجلة روضة المدارس، واتحاف المشتاق بأخبار العشاق، لم يتم، والفصول الفكرية للمكاتب المصرية، وموارد القرآن وهي رسالة طبع بعضها متفرقا في روضة المدارس، ورسالة كتبها في المقارنة بين الوارد في منصوص الرع والمقرر في الهيئة الفليكية، كما نظم سلسلة رجال الطرق الصوفية في منظومة طبعت، وكانت من أول نظمه كما أن له رسالة مطولة إلى المرحوم سلطان باشا بحثه فيها على نشر العلوم في أرجاء الصعيد، ونبذه في محاسن آثار محمد علي باشا، وله في رواية الأحاديث، وأسانيدها طرق عديدة، وهذا عدا مراسلاته ومقالاته وشعره. الآثار الفكرية: وقد جمع نجله أمين فكري في كتابه: الآثار الفكرية ما أثر عنه من نظم ونثر، وشرحه للقصيدة الأولى من ديوان حسان كما ضم "تحصيل الحاصل" لأبيه، وترجمة أخرى كتبها له المرحوم الشيخ محمد عبده، والمرائي التي قيلت فيه.

الشيخ محمد عبده

الشيخ محمد عبده: المتوفى سنة 1323هـ-1905م. مولده وطفولته: كثرت الروايات في تاريخ مولده1، فقد قال في ترجمته لنفسه: "ولدت في أواخر سنة خمس وستين بعد المائتين والألف من الهجرة2، وفي رواية عنه أنه ولد سنة 1265، وهي المشهورة3. بلده: ولد "بمحلة نصر" من مديرية البحيرة، نجله والدان رقيقا الحال وأشرقت في طفولته مخايل نباهته، ودلائل نبوغه وبرع بين أقرانه الصبيان في السباحة والفروسية، ولعب السلاح4 واستهواه جمال الريف، فكان يحن إليه حتى في شيخوخته، نشأ مبكر الرجولة، نافذ الإدراك في صباه، وقد تحسنت حالة أبيه المادية، فاستطاع "أن يحضر إلى بيته معلما لتعليم أصغر أنجاله القراءة والكتابة، فتهيأ له بذلك فرصة التعلم التي حرم من ثمراتها أبناؤه الآخرون5".

_ 1 يظهر هذا الخلط في مراثية التي نشرتها الصحف والمجلات، كما جاء في الجزء الثالث من تاريخ الأستاذ "الإمام"، فنرى أن عمره يذكر مرة 60 سنة ص40، وأخرى 62 سنة ص38، وثالثة 65 سنة ص80. 2 تاريخ الإمام ج1 ص16. 3 تاريخ الإمام ج1 ص16 هامش. 4 المنار ج8 396. 5 الإسلام والتجديد ص22.

تعلمه: أوفده أبوه وهو في الثالثة عشرة من عمره إلى الجامع الأحمدي بطنطا، وبعد عامين قضاهما في الدرس شرع يتلقى قواعد اللغة العربية، ويتفهم أسرارها وقد صادفه الإخفاق في محاولاته الأولى إتقان هذه العلوم، وقال في ترجمته عن نفسه: "وقد وقع لي سنة ونصف لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يبادئوننا باصطلاحات فقهية، أو نحوية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها1". وإذا كانت عاطفة والده حملته على أن يكرهه مرة أخرى على الرجوع إلى هذا المعهد، فإنه فر في الطريق، واختفى عند بعض أقاربه في "كنيسة أورين"، وتهيأ له في هذه القرية رجل مسلم متصرف اسمه "الشيخ"، فجذب "محمد" إليه، وقرأ له بضعة أسطر بأسلوب سهل، وعبارة مشرقة وطريقة جذابة، ولقنه مبادئ الصوفية، وأفهمه طرفا من القرآن فهما صحيحا. بلغ "الشيخ درويش" من نفس "محمد عبده" مبلغ الإيمان، والإذعان، وبدل يأسه من العلم حبا فيه وإقبالًا عليه، وانتقل من الفرار منه إلى الشوق إليه، وهنا استأنف "محمد عبده" طلبه العلم بهذا المعهد، ولكن بروح جديد، وقلب جديد -وقد حدث "محمد عبده" عن شيخه الأول حيث قال: ولم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي، إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقييد إلى إطلاق التوحيد2. استمع بالمعهد إلى دروسه بعد أن أفاق من غشيته، وبعد أشهر قليلة رغب في تعلم العلم بالجامع الأزهر، فلمع بين أقرانه بذكائه الفطري، ونشاطه

_ 1 المنار ج8 ص381. 2 الإسلام والتجديد ص25.

الجم ومثابرته على الدرس التحصيل، وظل على هذا المنوال أربعة أعوام استنبط فيها لنفسه طريقة تأتلف مع روحه، وتتسق مع هواه، وهو كل حال الدائب على البحث والإفادة. قدوم جمال الدين: وفي سنة 1871م، وفد إلى مصر فيلسوف الإسلام، وبطل النهضة وإمامها الأول "السيد جمال الدين الأفغاني"، وكان "محمد عبده" قد ناهز الثلاثين؛ وتولى جمال الدين تعليم المنطق والفلسفة في الأزهر، فكان بين تلامذته ينهل من علمه، ويرتوي من فضله، وأدرك "جمال الدين" ما عليه "محمد عبده" من الذكاء الخارق، والفكر الناهض والعزم الوثاب، والتطلع إلى الإصلاح والتجديد فخصه بعطفه، وأخلص في توجيهه، وأقبل عليه ذلك التلميذ العبقري، فامتلأ من علمه وانتفع بهداه، حتى كان أسبق تلامذته، وأبرعهم علما وفضلا وأحرزهم شهادة العالمية سنة 1294هـ، وقد قال فيه "جمال الدين" يوم توديعه لمصر: "لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالما". مناصبه وتدريسه: كان ميله إلى التربية والتعليم يملك عليه نفسه، وقد قال: "إنما خلقت لكي أكون معلما"، فأقبل على التدريس بالأزهر، وقرأ به دروسا متنوعة علوم شتى، وإلى جانب هذا كان يقرأ في بيته درسا في الأخلاق، والسياسة لطائفة من عشاقه، فقرأ لهم كتاب تهذيب الأخلاق "لابن مسكويه" المتوفى سنة 1030م، وحاضرهم في السياسة معتمدا على كتاب "كيزو في تاريخ التمدن"1، ثم عين مدرسا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، فألقى محاضرات في مقدمة ابن خلدون، "ولم يكن هذا النوع من التدريس بدء عهد جديد في مصر فحسب، بل كانت طريقة التدريس أيضا مبتكرة لا عهد للبلاد بها من قبل2

_ 1 وكان قد نقل إلى العربية حديثا. 2 الإسلام والتجديد ص43.

وإذ كان مدرسًا للعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية يجمع بين العمل فيها، والعمل في الأزهر، ودار العلوم وجه همه في درس العلوم العربية إلى تنقيح طرق التعليم والتدريس، وتهذيبها فقد كانت الغاية التي يرمي إليها إيجاد نابتة من المصريين تحيي اللغة العربية، والعلوم الإسلامية، وتقوم عوج الحكومة1. وفي 25 يونيه سنة 1879م تنازل إسماعيل إلى ابنه توفيق، ونفي جمال الدين من مصر، وأقال محمد عبده من دار العلوم، ومدرسة الألسن وأمره بالاعتكاف في قريته لا يغادرها، وكان ما أصاب محمد عبده، إنما هو نتيجة لاتصاله بجمال الدين ولآرائه المتطرفة في الدين والسياسة تلك الآراء التي بشر بها في تدريسه، وأذاعها فيما كتبه في الصحف2. ولما عاد إلى البلاد رياض باشا ناظر النظار كان محمد عبده رئيسا لتحرير الوقائع المصرية في سبتمبر سنة 1880م، فنهض بالوقائع ورفع الصحافة إلى أسمى مكان. وقد أتيحت له بالإشراف على التحرير، والقيام على الصحف فرصة طيبة، فبث أفكاره، ونشر آرائه إذ كان أمام المطالبين بتقديم البلاد ورقيها، والمدافع عن الشورى والعامل على رفعة الإسلام، ومجد المسلمين والمناهض لاحتلال البلاد، والانتقاص من حقوقها وكرامتها، والعمل على تقيد سلطة الحكم بالشورى. والحق أن محمد عبده كان شعلة إصلاح، ونهوض تفتحت عيناه على عقم الأزهر، وطريقه في الحياة فذهب النهج، وعبد الطريق واقتحم العقبات بإيمانه وعزمه، ولم يبال بما حثى على عطفيه من التهم والظنون، وقد عاش

_ 1 المنار ج8 ص404. 2 الإسلام والتجديد ص44، وفي تاريخ الإمام للسيد رشيد رضا ج3 ص83 ما يشير إلى شبه واتهامات، وجهت إلى محمد عبده وأنصاره، وهي تفهم أن لكثير من رجال الأزهر في مصر أصبشا في تدبيرها.

ووكده طول حياته أن ينهض بالأزهر والوطن إلى مدارج الحياة الرفيعة، ومراقي العزة والكمال، وقد كان في الثورة العرابية، كما يقول اللورد كرومر روحا مدبرة للحركة، إلا أنه كان في رأيه منافيا للزعماء العسكريين، وحاول مخلصا بكل قواه أن يدير الحركة إلى ما فيه صلاح البلاد بأسلوب مثمر، وطريق منتج، وقد وصف السيد رشيد موقفه في دقة وإيجاز، فقال: "كان خصما للثورة العرابية، وإن كان الروح المحركة للحركة العقلية1"، ثم قال: إن الشيخ محمد عبده كان أول أمر هذه الثورة كارها لها منددا بزعمائها، وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها تحيط عمله الذي مضى فيه، وكل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد الأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد". ولما أخفقت الثورة قبض عليه مع زعمائها، وسيقوا إلى المحاكمة فحكم عليه بالنفي ثلاث سنين بعد أن حبس ثلاثة أشهر، ومنع من العودة حتى تأذن له الحكومة بذلك2، ويروي "جورجي زيدان" أنه نفي؛ لأنه أفتى بعزل الخديو "توفيق باشا"، وروى الرواية نفسها3، وترى "الجورنال دي كير" أنه نشر الفتوى. بارح "محمد عبده" مصر ميما وجهه شطر سورية، وبعد أن أقام نحو عام في "بيروت" كتب إليه "جمال الدين"، وكان في "باريس" أوائل سنة 1883م، يدعوه للعمل معه فيما سماه "المسألة المصرية4"، فلحق به حيث

_ 1 المنار ج8 ص467. 2 المنار ج8 ص416 يقول بلنت ص145 لما قدمت فرنسا وانجلترا مذكرتهما المشتركة في 8 يناير سنة 1882، وجد المصريون أنفسهم متحدين لأول مرة، وانضم إلى المتطرفين منذ ذلك الحين الشيخ محمد عبده من الأزهريين الذين كانوا يدعون إلى الإصلاح في روية وأناة. 3 تراجم مشاهير الشرق ج1 ص382. 4 المنار ج8 ص455.

مكث معه عشرة أشهر ترددًا خلالها على بلاد الإنجليز لمفاوضتهم في أمر "مصر" و"السودان"، وشرعا يعملان على تنظيم "جمعية العروة الوثقى" السياسية السرية لإثارة الأقطار الإسلامية لتتحد لمجدها ونهوضها، ثم أصدرا صحيفة باسم الجمعية لتنشر دعوتها، ولما أن تعطلت الصحيفة ذهب الأفغاني إلى "روسية"، و"محمد عبده" إلى تونس أواخر سنة 1884، ثم رحل الثاني متنكرًا إلى كثير من الأقطار يبث الدعوة إلى الالتفاف حول العروة الوثقى1. عودته إلى وطنه: ولما عاد إلى وطنه شمله عفو الخديو "توفيق"، فعينه قاضيا في المحاكم الأهلية الابتدائية، وحن إلى التدريس ولكن الخديو أبى خوفا من تأثير أفكاره السياسية في التلاميذ2، وقد أظهر من البراعة والعدل، والدقة في القضاء ما كان تاريخًا وحده، ثم عاد إلى التدريس بالأزهر، وألقى دروسا في التوحيد والبلاغة والمنطق، وتفسير القرآن. علمه في الإفتاء: ثم أسند إليه الخديو في 3 يونيه سنة 1889 منصب الإفتاء في مصر، فكساه ثوب الرفعه والجلال، وجعل للمنصب شأنا، ونفوذا لم يعرفا له من قبل، وظل متقلدا منصب الإفتاء إلى أن وافته المنية3، وكانت فتاواه مطبوعة بطابع الاستقلال، والرأي الذاتي والتحرر من التقليد.

_ 1 المنار ج8 ص462. 2 المنار ج8 ص467. 3 تراجم مشاهير الشرق ج1 ص282.

إصلاحه في الأزهر: اتجهت نفس الإمام إلى إصلاح الأزهر منذ كان طالبا، ولما كان الأزهر منارة العلم في مصر، وفي العالم الإسلامي أجمع، وكان يعتقد أنه إذا أصلح الأزهر، فقد أصلح حال المسلمين1"، وكان يتمنى أن لو استطاع إصلاح الإدارة والتعليم فيه ووسع في مناهجه حتى تشمل بعض العلوم الحديثة، وتقوى وجوه الشبه بينه وبين غيره من الجامعات الأوروبية2 -ولما عاد من منفاه استأنف جهاده، فسعى لإقناع الشيخ "محمد الأنبابي" شيخ الأزهر إذ ذاك بإدخال العلوم الحديثة في مناهجه، وقد واجه من المعارضة ما يدفع إلى اليأس لولا قوة إيمانه، وفطن إلى يواجهه من الكيد لتأييد الخديو لخطته، وظفر برضا "عباس" عن نهجه بعد أن انقبض "توفيق"، فوفق3 إلى استصدار قانون تمهيدي، فألف مجلس لإدارة الأزهر من كبار شيوخه الذين يمثلون المذاهب الأربعة، ومثل الحكومة فيه الشيخ محمد عبده، وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان دون أن يكون لشيخ الأزهر، أو لمجلس إدارته رأي في انتخابهما4، ومع تأييد الخديو له لقي من عنت الشيوخ ما حمله على بدل الجهد لاسترضائهم، فاستمالهم بزيادة رواتبهم، واستصدر قانون كسى التشريف -وكان مما عني به من وجوه الإصلاح اهتمامه بمساكن الطلاب، فزاد في عددها وجدد أثاثها، وجعلها ملائمة من الناحية الصحية، ثم وجه نظره إلى الشئون الإدارية، وزاد في مواد الدراسة والحساب والجبر، ومبادئ الهندسة، وتاريخ الإسلام والإنشاء، ومتن اللغة وآدابها وتقويم البلدان، وحدد أوقات الإجازات وقصر العطلة الصيفية، ونظم مكتبة الأزهر، واسترد ما غصب منها

_ 1 تراجم مشاهير الشرق لجورجي زيدان ج1 ص86. 2 تاريخ الإمام ج3 ص137 والمنار ج8 ص895. 3 في 17 رجب سنة 1312هـ الموافق 15 يناير سنة 1895م. 4 الإسلام والتجديد ص69.

وما بدد، وأنشأ في كثير من المعاهد مكتبات أخرى، ولما عاد إلى التدريس بالأزهر عمل على إحياء العربية الفصحى، وآدابها فاستعملها في دروسه، وخطبه وأحاديثه، وسعى لدى ديوان الأوقاف حتى قرر مبلغ مائة جنية مكافأة لأحد العلماء لتدريس أدب اللغة العربية الفصحى في الأزهر1 هذا، وقد غرس في نفوس تلامذته النابهين حب إصلاح الأزهر، والنهوض به، فقاموا من بعده على رسالته، وكان مجد الأزهر الحديث من جهدهم وسعيهم، فجزاه الله وجزاهم أبلغ الجزاء. أدب الشيخ محمد عبده: كان أدب الشيخ محمد عبده حلقة اتصال بين عهد الضعف والانحلال، والفراغ من المعاني والتخاذل، والتهالك على الصنعة اللفظية الذي كان طابع الفترة الأدبية الأولى من هذا العصر، وعهد القوة والجزالة، والتملؤ من المعاني، والاحتفال بالموضوعات، والإعراض عن الصنعة. وأدب الأستاذ الإمام في جملته قد تدرج في مراحل مختلفة كان لكل منها صبغة خاصة. ففي المرحلة الأولى: حين كان شابا حدثا يختلف إلى دروس الطلب في الأزهر بدأ في أسلوبه السجع مع ركاكة، وتكلف وخضوع للاصطلاح العلمي كما بدت فيه آثر الكتب الأزهرية القديمة التي تظهر في تعبير القدماء والمناطقة، ويتضح ذلك في مقالته الأولى المنشورة بجريدة "مصر"، تحت عنوان فلسفة التربية إذ يقول متحدثا

_ 1 تاريخ الإمام ج2 ص259.

عن التربية الصحيحة وأثر المربين في النفوس "أولئك هم المرشدون الحقيقيون، فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن رزئت بمطبين لا أطباء بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة، والأغبياء والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالفناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل يودع النفوس رزائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم إنها أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنا، ولا يريد إلا خيرا، ولكن جهله يعميه عن سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ رسائله، فتقع الأرواح في الجهل المركب، وهو شر من الجهل البسيط. وفي المرحلة الثانية: حينما زادت ثقافته الحديثة عن طريق الغرب، واتصل بالحياة الاجتماعية والصحف، واطلع على كثير من كتب الأدب كان ذلك تيارا جديدا نفع أدبه بروح التحرر من أغلال الصنعة اللفظية، واتجه إلى المعاني والموضوعات الحية، والأفكار الجديدة وهجر كثيرا من السجع والمحسنات البديعية، وكان مظهر ذلك ما جاء في بعض مقالاته في الوقائع المصرية، وكثير من رسائله، ومنها ما كتبه في الوقائع الصادرة بتاريخ 9 فبراير سنة 1881 تحت عنون "منتدياتنا" العمومية وأحاديثها"، جاء فيه: "نواصل الليل بالنهار في اللهو واللعب بلغت منا الخرافات، والهذيانات مبلغا جسيما حتى استحوذت علينا، فأنستنا ذكر الحقائق النافعة، والمصالح المهمة وصارت تلك الأخلاط الفاسدة كملكات للنفس يتعسر زوالها إلا بذهاب الأرواح والأشباح، تعقد عندنا بالمجالس، ولكن على ذكر أنواع الخمور، والمسكرات يطرب المجتمعون فيها بذكر أوصاف الغيد الحسان، ويصرفون ثلثي الليل على قهاوين، ويشربون فيها من المواد الممزوجة بالعقاقير المسامة قدرا لا تسوغه طباع الوحوش الضارية، ولا الأسود الكاسرة، وفي خلال ذلك يتشاقون ويتخاصمون، حيث أن كلا منهم بفضل مألوفه على مألوفات صاحبه، ويعدد أوصافه ويذكر محاسنة، ويشرح مزاياه من حور عيون ورقة خصور وعذوبة منطق، وما شاكل ذلك.

وأما مجالس ذوي الكمالات من أهل المدن، فإنها وإن اتفق وتجردت عن الحديث في منكر، فهي لا تخلو من وحشة، فإنه على الأقل لا بد أن يتشرف المجلس، ولو زمنا قليلا بحلول الغيبة، أو النميمة المرافقين لنا بمرافقة الشخص لظله إلا إذا سمحت الصدقة، وكان زمن المجلس قليلا جدًّا لا يسع سوى التحية دون ردها، وأنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا على خلاف ذلك، فإني قائل إذا لم يجلسوا مستمدين الصمت، ومنصرفين كذلك فبماذا ينطقون؟ هل ينطقون بعلم شرعي، وقد جهلوه أو تجاهلوه؟ أو بعلم صناعي وقد عادوه، أم فن طبي وقد تناسوه، أم حديث عن منفعة عمومية وقد أغفلوها، أم استفسار عن حوادث سياسية، وقد زعموا الاشتغال بها عبثا؟ المرحلة الثالثة: أما في هذه المرحلة، فقد تهيأ للأستاذ الأمام من الأحداث السياسية والاجتماعية ما أدى إلى نفيه، واغترابه، وتنقله بين بلاد الشرق والغرب، فاطلع على ألوان جديدة من حضارتها، واتصل بالحياة فيها وخالط المفكرين، فأكسبه كل ذلك مرانة فكرية، وبيانية هذبت أسلوبه، وصقلت تعبيره، وزادته تحررا من السجع والصنعة، وتوفرت له مادة الكتابة والتحرير، وجعل متجهه في الكتابة المعنى والفكرة يطنب في بسطها، وتوضيحها لا يلم إلا قليلا بالصناعة اللفظية، وقويت له الحجة والبرهان المنطقي، والأسلوب الجدلي لطول دفاعه عن الدين، وذوده عن الوطن والشعوب الشرقية جميعا، واستنهاضه العزائم حتى يسترد الشرق مجده المغصوب، وفي هذه الناحية تجلت مقدرته البيانية من قوة أسلوب، وجزالة تعبير وأحكام نسج، ودعم للحجة كما اتسعت أغراض الحديث لديه من تحرير في الاجتماع والدين، ورسائل إخوانية، وكتب يعبر فيها عن خوالج حسه المختلفة بأسلوب طلي فسيح جعل المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، يصف صاحبه في كتاب الحساب الأحمر، فيقول: "خلق فصيحا مبين اللهجة؛ لأن لسانه أعد لتفسير معجزة الدنيا في هذه اللغة، فكان لسانه ولا غرو معجزة في الألسنة، وكان له بيان ينبث من طبعه

المصقول بالشعاع الذي توامضك به المرآة إذا انقدحت جمرة الفلك عليها"، ومن أدبه في هذه المرحلة ما نقتطفه مما كتبه في جريدة "العروة الوثقى"، بعنوان "الشرف" ص307 ج2 تاريخ الإمام "خدع قوم بالأحلام، وغرتهم الأوهام ففرطوا في شئون بلادهم، وباعوا مجدهم الشامخ بتلك الأسماء التي لا مسمى لها، وزعموا وإن لم تطاوعهم ضمائرهم أنهم رقوا مكانة من الشرف، وإن كان خاصا بهم بعد ما علموا أن الرتب، والنياشين جاوزت حدها، ونالها غير أهلها، فلو أنهم أصغوا لما تحدتهم به سرائرهم، وتعنفهم به خواطر أفئدتهم، ورمقوا بأبصارهم ما يحيط بهم لعلموا أنهم في أحسن المنازل، وأبعد المزاجر وأدركوا خطأهم في معنى الشرف، وجورهم عن جادة الصواب في طلبة لو أحسوا بما رزئت به أوطانهم، وما لصق من الذل والعار بذراريهم لطرحوا الوشاحات، ونبذوا الوساءات ولبسوا أثواب الحداد، ونفروا خفافا، أو ثقالا لطلب الشرف الحقيقي. الشرف حقيقة محدودة كشفتها الشرائع، وحددتها عقول الكاملين من البشر، وليس لذي شاكله إنسانية أن يرتاب في فهمها، إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة ... من أتى عملًا من الأعمال له أثر من هذه الآثار فهو الشريف، وإن كان يسكن الخصاص والأكواخ، ويلبس الدلوق والأسمال، ويقتات بنبات البر ويبيت على تراب القفر، ويتوسد نشر الأرض، ويضرب في كل واد، ويتردد بين الربا والوهاد، هذا له حلية من عمله وزينة من فضله، وبهاء من كماله وضياء من جده يهدي إليه ضالة الألباب، وتائهة الأفئدة تعرفه المشاعر الحساسة ولا تنكسره، وتكتنفه ذرات القلوب المتطايرة إليه، ولا تنفصل عنه، له من روحه قصور شاهقة، وغرفات شائقة ومناظر رائقة، وجمال باهر ونور زاهر لا يكاد يخفى حتى يظهر، ولا يكاد يستر حتى يبصر، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه إلى أعلى عليين، حياة طيبة في القلوب، وغرة مشرقة في جبين الزمان، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ومن رده على "هانوتو" أحد وزراء فرنسا، وكتابها في العقائد1 ما هذا التمدن الآري الذي كانت عليه أوروبة عندما انتقص أطرافها المسلمون؟ هل كانت تلك المدنية هي المتسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله والاعتراف بالعمل؟ نعم هذا هو الذي كان معروفا عند الغربيين وقت ما ظهر الإسلام، وما حمل الإسلام إلى أوروبة؟ وما هي المدنية التي زحفت عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس، وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين الرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به ناصعا، يبهر به أعين أولئك الغافلين، والمتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون. إني أكيل "لمسيو هانوتو" أجمالًا بأجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به -إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين، فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها من قرون، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، واليوم يرعى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم بعد ما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم، والحرية، وطوالع المدنية الحاضرة". ونستطيع أن نحكم على الطابع العام لأدب الأستاذ الإمام بأن السطوة، والجزالة والميل إلى الإطناب ما احتاج إلى الشرح والإفاضة مع تخفف من الصناعة اللفظية التي لا تكلف فيها، كما يشيع في كتابته الاستشهاد بالقرآن، والحديث والتمثيل بالمأثور من كلام الحكماء الشرقيين والغربيين.

_ 1 تاريخ الإمام ج2 ص415.

أما أسلوبه العلمي التأليفي، فإنه يمتاز بالفصوح والسلاسة، والاطراد وحسن السبك وقوة البرهان، ومن ذلك ما كتبه في رسالة التوحيد بعنوان "القرآن". جاءنا الخير والمتواتر الذي لا تتطرق إليه الريبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نشأته، وأميته على الحال التي ذكرنا، وتواترت أخبار الأمم على أنه جاء بكتاب قال: إنه أنزل عليه، وأن ذلك الكتاب هو القرآن المكتوب في المصاحف المحفوظ في صدور من عني بحفظه من المسلمين إلى اليوم، كتاب حوى من أخبار الأمم الماضية ما فيه معتبر للأجيال الحاضرة، والمستقبلة نقب على الصحيح منها، وغادر الأباطيل التي ألحقتها الأوهام بها، ونبه على وجود العبرة فيها، حكى عن الأنبياء ما شاء الله أن يقص علينا من سيرهم، وما كان بينهم وبين أممهم، وبرأهم مما رماهم به أهل دينهم المعتقدون برسالاتهم آخذ العلماء من الملل المختلفة على ما أفسدوا من عقائدهم، وما خلطوا في أحكامهم، وما حرفوا بالتأويل في كتبهم، وشرع للناس أحكاما تنطبق على مصالحهم، وظهرت الفائدة بالعمل بها والمحافظة عليها، وقام بها العدل وانتظم بها شمل الجماعة ما كانت عند حد ما قرره، ثم عظمت المضرة في إهمالها والانحراف عنها، أو البعد بها عن الروح الذي أودعته، فقامت بذلك جميع الشرائع الوضعية كما يتبين للناظر في شرائع الأمم، ثم جاء بعد ذلك بحكم ومواعظ، وآداب تخشع لها القلوب وتهش لاستقبالها العقول، وتنصرف وراءها الهمم انصرافها في السبيل الأمم. نزل القرآن، عصر اتفق فيه الرواة، وتواترت الأخبار على أنه أرقى الأعصار عند العرب، وأغزرها مادة في الفصاحة، وأنه الممتاز بين جميع ما تقدمه بوفرة رجال البلاغة وفرسان الخطابة، وأنفس ما كانت العرب تتنافس فيه ثمار العقل ونتائج الفطن، والذكاء هو الغلب في القول، والسبق إلى إصابه مكامن الوجدان من القلوب، ومقر الأذعان من العقول، وتفانيهم في المفاخرة بذلك

مما لا يحتاج إلى الإطالة في بيانه -تواتر الخبر كذلك بما كان منهم من الحرص على معارضة النبي صلى الله عليه وسلم، والتماسهم والوسائل قريبها، وبعيدها لإبطال دعواه، وتكذيبه في الأخبار عن الله، وإتيانهم في ذلك على مبلغ استطاعتهم، وكان فيهم الملوك الذين تحملهم عزة الملك على معاندته، والأمراء الذين يدعوهم السلطان إلى مناوأته، والخطباء والشعراء، والكتاب الذين يشمخون بأنوفهم عن متابعته، وقد اشتد جميع أولئك في مقاومته، وانهالوا بقواهم عليه استكبارًا عن الخضوع، وتمسكا بما كانوا عليه من أديان آبائهم، وحمية لعقائدهم وعقائد أسلافهم، وهو مع ذلك يخطئ آراءهم ويسفه أحلامهم ويحتقر أصنامهم، ويدعوهم إلى ما لم تعهده أيامهم، ولم تخفق لمثله أعلامهم، ولا حجة له بين يدي ذلك كله إلا تحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة من ذلك الكتاب، أو بعشر سور من مثله، وكان في استطاعتهم أن يجمعوا إليه من العلماء، والفصحاء والبلغاء ما شاءوا ليأتوا بشيء من مثل ما أتى به ليبطلوا الحجة، ويفحموا صاحب الدعوة. أثر الشيخ "محمد عبده" في أدب العصر: سبق أن تحدثنا عن الأثر الملموس الذي كان للإمام في نهضة الصحافة، ولغتها وأنه كان عاملا قويا في تخليص الكتابة مما شابها من الضعف، والسجع المرذول والصناعة المستكرهة، وجعل ما أشرف عليه من الصحف تربة صالحة تنمو بها الكتابة ويتسع موضوعها، وتترامى آفاقها، وتتناول شتى شئون الإصلاح المساير للعصر ومقوماته، وهذا هو أدبه الذي ألقينا عليه نظرة دراسية موجزة يبين لك كيف سما به الشيخ "محمد عبده"، فهذب لغته وبسط موضوعه، وصقل أسلوبه وخلصه من قيوده وأغلاله، وكان في طليعة من نهضوا بالأدب في هذا العصر إلى مكان طيب. والحق أن حركة الإصلاح التي أذكاها الإمام كانت ثورة مشبوبة اهتزت لها النفوس، وسايرتها الأمم العربية، وكان لها حظ قوي في بث روح النهضة، فهي

لم تمدها بالكتاب والعلماء القادرين فحسب، بل إنها خلقت جوا صالحا يمكن أن ينشأ في عهد الكتابة من جديد، وأن الجهود التي بذلها الشيخ "محمد عبده" في سبيل تحرير العقول في مصر من أغلال التقليد، وفي التوفيق بين دين الإسلام وثقافته، وبين ما وصلت إليه المدنية الحديثة سهلت على الأدب العربي في عصرنا الحاضر سبل التجديد، دون أن تنفصم الروابط التي وصلت بين حاضره وماضيه في الإسلام، وليس من شك في أن الجيل الحديث من كتاب المسلمين يدينون بهذا الفضل للأستاذ الإمام1. عمله في جمعية إحياء الكتب العربية: بينا في الحديث عن الأزهر الصحافة جهوده التي بذلها في إشرافه على "الوقائع المصرية"، لإحياء اللغة العربية، والنهوض بها إلى المستوى الذي بلغته عندما كانت الثقافة العربية في أوج مجدها2. ومما امتاز به رحمه الله أنه كان شديد الغيرة على اللغة العربية دائم السهر على إحياء كتبها النافعة، ولم يكن هذا تطرفا منه في الحماسة للعلم، بل كان يرى "أن اللغة العربية هي أساس الدين3، وأن حياة المسلمين بدون حياة لغتهم من المحال4، وبجده وسعيه، ثم "للسيد رشيد رضا"، طبع كتابي "أسوار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" اللذين هما أنصع كتب البلاغة وأعذبها تأليفا، ولولا تصحيح الفقيد لهما، واستحضاره لنسختهما من الأقطار النائية لما تيسر طبعهما5.

_ 1 الإسلام والتجديد ص210. 2 الإسلام والتجديد ص80. 3 تاريخ الإمام ج3 ص243. 4 تاريخ الإمام ج3 ص259. 5 تاريخ الإمام ج1 ص753.

وقد أسست جمعية أحياء الكتب العربية في مصر سنة 1318 برئاسة الإمام لهذا الغرض النبيل، وكانت فاتحة أعمالها طبع كتاب المخصص "لابن سيده" في اللغة، وهو كتاب جليل القدر عظيم الشأن، وقد تولى رحمه الله تصحيحه مع علامة اللغة المرحوم الشيخ "محمد محمود الشنقيطي"، وإن الفضل في خدمة "الشنقيطي" لهذا الكتاب راجع إلى فقيدنا، فإنا لولاه لما أقام في هذه البلاد. نقلا عن حسن باشا عاصم1: ثم كانت للإمام جهود مشكورة في استحضار نسخ مدونة "للإمام مالك" من فاس وتونس، وغيرهما من البلاد، وقد تولت الجمعية نسخ هذا الكتاب، وبغير فضل الإمام لم يتم نسخه والانتفاع به. آثاره العلمية والأدبية: 1- شرح نهج البلاغة: نهج البلاغة كتاب بضم ما جمع الشريف الرضي من كلام الإمام وغيره، وقد دفعه إلى شرحه رغبته في تحصيل الفائدة لشباب ذلك الزمان "الذين يتدافعون إلى نيل الأدب من لسان العرب، ويبتغون أنفسهم سلائق عربية وملكات لغوية، ففسر غريب الألفاظ، ووضح ما استغلق من معاني المفردات والجمل، وعلق على بعض مفرادته شرحا وبعض جمله تفسيرًا، وذلك الجهد الذي بذله الإمام في شرح هذا الكتاب قد أظهر ذوقه في تفهم أسرار البلاغة، وتضلعه في لغتها، وقد طبع هذا الكتاب في بيروت "سنة 1302هـ-1885م"، وفي طرابلس ثم طبع في مصر كثيرًا.

_ 1 تاريخ الإمام ج1 ص745.

2- شرح مقامات بديع الزمان الهمزاني: احتفل الإمام بهذا الكتاب، فوضع غامضة وفسر مبهمة، وأخرجه للناس جم النفع قريب الفائدة، وهو مطبوع في بيروت "1306هـ-1889م"، ولم يعرف لغيره شرح لهذه المقامات. 3- رسالة الرد على الدهريين: كتبها بالفارسية "السيد جمال الدين الأفغاني"، ثم ترجمها الإمام إلى العربية بمساعدة "عارف أفندي أبي تواب" أحد أصدقائه من الأفغانيين، وقد طبعت للمرة الأولى في بيروت سنة 1313هـ -وطبعت للمرة الثانية في القاهرة "1312هـ-1895م"، ثم تكرر طبعها وكان آخره سنة 1344هـ-1925م. 4- الإسلام والرد على منتقديه: وهو سلسلة مقالات نشرها في صحيفة "المؤيد" سنة 1900 يرد بها على "المسيو هانوتو"، أحد وزراء خارجية فرنسا السابقين التي نشرها في صحيفة "دي باري"، وقد ترجمها إلى الفرنسية، وطبعة مرة ثانية بالعربية بعد أن أضيفت إليها مقالات أخرى للإمام، وذلك في سنة 1327هـ 1909م، وطبعت غير مرة، وكان آخر طبعها في سنة 1343هـ 1924م. 5- الإسلام والنصرانية: مجموعة مقالات ظهرت في "الأهرام" سنة 1901ردا على ما كان يكتبه "فرج أنطون" في مجلة الجامعة، ثم طبعت في القاهرة "1320هـ 1902م"، وصدرت الطبعة الثالثة سنة "1341هـ-1922م". 6- تاريخ إسماعيل باشا: لم نر هذا الكتاب، ولكن "السيد رشيد رضا" الذي لم يره أيضا يذكر

أن أحد تلاميذ الإمام أخبره به، وقال: إن "السيد عبد الله نديم" كان قد أخذ من الفقيد نسخته في أثناء الثورة العرابية، ونشر منه فصولا في جريدة الطائف بتصرف، أو بغير تصرف، ولم أسمع منه رحمه الله ذكرا لهذا الكتاب1. 7- فلسفة الاجتماع والتاريخ: كتاب ألفه أيام تدريسه مقدمة ابن خلدون في مدرسة دار العلوم، "وقد فقد هذا الكتاب عندما عزله توفيق باشا من المدرسة، ونفي السيد جمال وأخذت أوراقه، وكان طيب الله ثراه يقول: أتمنى لو يحفظ هذا الكتاب من وقع في يده، وينعيه لنفسه ولو بعد موتي لينتفع به الناس2". 8- نظام التربية والتعليم بمصر: رسالة في أبلغ الطرق للتربية والتعليم نشرها صاحب تاريخ الإمام في باب لوائح التربية والتعليم من منشأته "صفحة 533 ج1 طبعة ثانية". 9- رسالة التوحيد: تعد هذه الرسالة من أبلغ النماذج للغة التأليف في أسلوبها، وقوة حجتها قرأها الإمام دروسا طريفة تهافت عليها الناس، ويرى "السيد رشيد" أنها "لم ينسج ناسج على منوالها، ولم تسمح قريحة بمثالها" قد كانت ذات أثر عظيم في نفوس العلماء، والمفكرين "لا من المسلمين وحدهم بل صرح بعض المستقلين من نصارى سورية بالثناء عليها حتى قال بعضهم: إذا كان الإسلام هو ما بينته هذه الرسالة، فأنا أول مسلم3، وقد ترجمت في الهند، "وأصبحت من الكتب التي تدرس في جامعة عليجرا وغيرها4.

_ 1 تاريخ الإمام ج1 ص777. 2 تاريخ الإمام ج1 ص777. 3 تاريخ الإمام ج1 ص779. 4 الإسلام والتجديد ص116.

وقد كتب الإمام في تقديمه لهذه الرسالة وصفا تاريخيا موجزا لتطور العقائد في الإسلام، يمتاز من بين ما كتبه علماء الإسلام بقربه من المنهج النقدي الحديث، وكلامه عن تطور الفلسفة في هذه المقدمة يكشف عن رأيه فيها، ويصور أيضا نزعته العامة في التفكير1. 10- رسالة الواردات: رسالة في الكلام أو التوحيد على نهج الصوفية، وأسلوبهم نشرها صاحب المنار في الطبعة الأولى للجزء الثاني من منشآت الإمام ثم طبعها مستقلة، وقد رجع الإمام عن بعض ما قرره فيها، كما يعلم من رسالة التوحيد له2. 11- رسالة في وحدة الوجود: كتبها يبين بها مراتب الوجود وتعددها، ونظامها العام ووحدتها: 12- حاشية عقائد الجلال الدواني: ألفها في علم الكلام وشرح مسائله، وتحرير الخلاف بين المتكلمين، وهي طبعة ذائعة طبعت في القاهرة "1292-1876"، ثم طبعت ثانية في سنة "1322-1104". 13- شرح كتاب البصائر النصيرية: شرح مختصر في المنطق أطلق عليه لفظ التعليقات، وهو مكتوب بأسلوب رفيع كان قد قرأه درسا في الأزهر، وطبع للمرة الأولى في القاهرة سنة 1316-1896 مع تعليقات للإمام.

_ 1 الإسلام والتجديد ص116. 2 طبعت في القاهرة "1210هـ-1874م".

14- تفسير سورة الفاتحة: طبع في القاهرة سنة "1323هـ-1905م"، وصدرت الطبعة الثانية في سنة "1330هـ-1911م". 15- تفسير سورة العصر: نشر أولا في المنار، ثم طبع في القاهرة "1321هـ-1903م"، وطبع بعد ذلك كثيرًا. 16- تفسير جزء عم: نشر أولا في المنار، ثم طبع في القاهرة على انفراد سنة "1322هـ-1904". 17- القرآن الحكيم: ويسمى تفسير المنار كان في نية الإمام أن يفسر القرآن كله، ولكن قضاء الله لم يمهد له فوصل ما فسره إلى الآية 125 من السورة الرابعة، ومما يتسم به تفسير الإمام سلاسة الأسلوب، وغزارة العلم، ومساوقته لروح العصر في حرية من البحث لا تخرج عن شرع الله بلغة مشرقة، وتعبير فصيح. 18- تاريخ أسباب الثورة العرابية: نشر جزء منه في تاريخ الإمام ج1 ص59، وما يليها هذا عدا ما خلده، من مقالاته الرائعة التي نشرها في الأهرام، والوقائع المصرية والعروة الوثقى، وثمرات الفنون، والمؤيد والمنار وغيرها.

الشيخ عبد الكريم سلمان

الشيخ عبد الكريم سلمان: المتوفى سنة "1336هـ-1918". نشأته وحياته: ولد رحمه الله في القاهرة يوم الخميس غرة شعبان سنة 1265هـ، من أبوين ألباني الأصل، فقد وفد إلى مصر من "ألبانيا" جده لأبيه المرحوم "سلمان أفندي أغا" في عهد "محمد علي باشا"، ووظف بجنده، وكان ابنه "حسين أفندي" قد اتصل بأسرة من جنسه بقرية "جنبواي" من أعمال مركز "إيتاي البارود" بمديرية "البحيرة"، فأصهر إليها ولبث بهذه القرية على هوى منه، وزهد في وظيفته بما اشتراه من عقار في هذه الجهة، وقد رزق عدة بنين كان المرحوم الشيخ "عبد الكريم" ثانيهم سنا، وقد أصيب الشيخ "عبد الكريم" بالجدرى، وهو طفل، فكاد يذهب ببصره لولا أن القدر هيأ له أخاه في الطفولة، فبينما كان يعلبان على سطح الدار إذا بأخيه يقذف به، فيهبط من حالق وتشج جبهته وحاجبه، ويتدفق منها دم غزير انكشفت به غشاوة عن إحدى عينيه، فأبصر بها. وقد حال ضعف بصره دون إلحاقه بالمدارس، فالتحق بكتاب القرية، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وأتم القرآن به ثم أشرب حب الأزهر، وتملكه هواه فتسلل خفية إليه، وقد التقى في طريقه إلى الأزهر برجل من قريته، فسأله الرجل عن مقصده فعي جوابه، وإذ ذاك عاد ب الرجل إلى القرية وأسلمه لوالده، ولم يشأ والده أن يصرفه عن حبه الأزهر، فأوفده إليه في سنة 1288هـ، فانكب على العلم وطالعه برغبته وشوق، وكان معروفا بالذكاء والتفوق على الأقران، وجمعته صداقة الصبا بجمهرة من نابغي الأزهر كالطلاب "سعد زغلول"، و"محمد عبده"، و"إبراهيم الهلباوي"، وغيرهم.

وفي أواخر داسته بالأزهر، وفد إلى مصر "السيد جمال الدين الأفغاني"، فوصل بينهما "الشيخ محمد عبده"، وأكد ودهما فتلقى "الشيخ عبد الكريم" عن الأفغاني ما كان ينشده بمصر من العلوم، ودرب فيمن دربهم على الكتابة ومعالجة الشئون، ومنذ ذلك الحين شرع يكتب في الصحف، ويتناول النواحي الوطنية، والخلقية والاجتماعية، وذاع اسمه بين الكتاب النابهين، وكان قلمه يدر عليه اليسر والرغد، ونال شهادة العالمية من الدرجة الأولى في سنة 1315 هجرية. أعماله: اتجهت رغبة المرحوم "رياض باشا"، وكان ناظر النظار إلى إصلاح جريدة الوقائع المصرية، فقلب بصره باحثا عن نحارير الكتاب، وجهابذتهم فاختاره فيمن اختارهم لتحريرها "كسعد زغلول"، و"سيد وفا"، وغيرهما تحت رئاسة الشيخ "محمد عبده" سنة 1880م، وكان "رياض باشا" قد اهتدى إليه بمقال كتبه قبل ذلك تناول فيه بالنقد بعض أعمال الحكومة، فدعاه على أثر ذلك، وخيره بين الكف عن الكتابة والتزام قربته، فآثر الثانية، ثم دعاه منها لهذا العمل، فكان أحد الذين سموا بلغة الوقائع، ونهضوا بتحريرها، وخلصوها مما كانت ترسف في أغلاله من السجع المرذول، والصناعة المستكرهة. ولما حوكم "الشيخ محمد عبده" عقب الثورة العرابية، وقضى بنفيه إلى "الشام" حل "الشيخ عبد الكريم" محله في رئاسة الوقائع، وظل بها إلى أواخر سنة 1897، وهي السنة التي ألغي فيها القسم الأدبي من الوقائع، فعادت إلى ما كانت عليه صحيفة أوامر وقوانين. ثم عين في أول يناير سنة 1898م عضوا بالمحكمة الشرعية العليا، وقد حصل على شهادة العالمية في فقه الأحناف؛ لأنه نشأ شافعي المذهب، ولا يتقلد

قضاء مصر إلا الحنفية، وقد أبدى ذكاء غريبا في دراسة فقهه الجديد، فإنه تضلع فيه، واستمكن في وجيز من الزمن. وفي أول أبريل سنة 1810م عين مفتشا عاما بالمحاكم الشرعية، وطاف بمحاكم البلاد جميعها، وكتب تقريرا مبدعا بين فيه ما شاهده من علل، ونقص وأشار بكثير من ضروب الإصلاح والعلاج الإداري والفقهي، ثم لقي عنتا آثر به الاستقالة في نوفمبر سنة 1912م. صلته بالشيخ محمد عبده: وقد نشأ ملازما للشيخ "محمد عبده" متآخيا معه لا يغادر أحدهما الآخر منذ صباه، ولقد ضرب الشيخ "محمد عبده" في أثناء دروسه مثلا يصور به تلازمهما، فقال: "كأن يسأل السائل هل رأيت الشيخ "محمد عبده"؟ فتقول: ولا الشيخ "عبد الكريم سلمان"، وكان بينهما تقارب في الرأي، وتناسب في الفكر وتشابه في الشعور، وكأنهما أراد أن تدوم صلتهما في الآخرة كما دامت في الأولى، فابتنيا قبرا واحد ضم رفاتيهما، فما أبلغ ذلك وفاء. لازم الشيخ "عبد الكريم" صديقه الإمام أكثر من عشر سنين بذلا فيها جهودا موفقة في خدمة الأزهر، وإصلاح شئونه, وكثيرا ما عاون الشيخ "عبد الكريم" زميله الإمام في مشروعاته المثمرة، وعاضده في أنجاحها على رغم ما يدبر له من كيد أعدائه، وأعداء الإصلاح، حتى أنجز في ظلالهما ورعايتهما للأزهر إصلاح واسع الأفق، فصله "الشيخ عبد الكريم" في كتابه الذي سماه "أعمال مجلس إدارة الأزهر"، وقد طبعه المرحوم "السيد رشيد رضا" مجردا من اسم صاحبه لما حواه من حقائق تتصل بالخديو إذ ذاك، ولما قدم الإمام استقالته من مجلس إدارة الأزهر قدم هو الآخر استقالته في الأسبوع نفسه1، ومما قاله الإمام في تقديره: "وأكننته كنى فأدنيته منى، وجعلته

_ 1 تاريخ الإمام ج3 ص165، وقد تبعهما بالاستقالة عضو آخر هو الشيخ. سيد أحمد الحنبلي كما تلا هذه الاستقالات استقالة الشيخ علي الببلاوي شيخ الأزهر لعهده، وسبب ذلك معارضة الخديو لمحمد عبده في إصلاحات الأزهر؛ لأنه كان يريد أن يتخذ منه أداة لتقوية نفوذه السياسي، وكان محمد عبده يقف في سبيل ذلك -تاريخ الإمام ج1 ص562-566.

في مكان النحو من ابن جني". وما زال كذلك حركة دائبة في الإصلاح، وآية فذة في العلم والأدب حتى قبض رحمه الله في يوم الجمعة السابع عشر من مايو سنة 1918 على أثر نوبة قلبية لم تملهه، وقد نقل جثمانه من الرحمانية إلى القاهرة في حفل رهيب سعى إليه سعد زغلول، وعلماء الأمة وعظماؤها، وأدباؤها وكبراؤها. أخلاقه: هذا وقد كان رحمه الله أبلغ الأمثال في الإباء، والاعتزاز بالكرامة رحيما يرثي للمنكوبين، ويغدق خفيه على المعوزين، ويسعى لقضاء مصالح الناس، فلا ترد له كلمة ولا تنتكس له شفاعة، ويؤثر غيره على نفسه، ولو كان به خصاصة ويقدم سواه فيما هو أهل له، رجا صديقه الإمام، وسعدا يوما ما في تعيين بعض الأصدقاء، وقد توسط به من منصب كبير، قال له الإمام: إنني "وسعدا" ندخر هذا المنصب لك، وأنت أجدر الناس به، فقال: لا، لن أقبله إنما هو لصاحبي فقد أعطيته كلمة. وبلغ من الرثاء للمحتاجين البائسين أنه كان يجمع من كثير من الأغنياء صدقة يوزعها عليهم ترفيها عنهم. كتابته: اشتغل رحمه الله بالكتابة والتحرير في الصحف، وهو يطلب العلم في الأزهر، وبكر صيته بالكتابة الأدبية القيمة التي نشرها في "الوقائع المصرية" و"المقطم"، و"الجريدة" و"الآداب"، و"المؤيد"، وغيرها من الصحف.

ومما يذكر له بالفضل ما بذله من صادق الجهود في تلخيص الكتابة من ربقة السجع، والمحسنات، والزخرف، وكان أشد الناس بغضا للتهويل، والمبالغة ميالا إلى القصد والاعتدال في الكتابة، واضح الغرض، سهل العبارة، فصيح التعبير، مسلسل الفكرة، قوي الحجة، سليم المنطق. وإننا لنجد في كتابته طرفا من السجع، ولكنه قليل ضئيل بالنسبة لما كتبه مما استرسل فيه، وأتى به طلقا مشرق الديباجة، أبلج الغرض مسايرًا لسجيته، وطبيعته التي لا تميل إلى السجع إلا أن وافاها عفوا دون طلب. نماذج من كتابته: كتب إلى كريمته "السيدة رابعة"، وقد انتقلت إلى منزل زوجها في بلد آخر، وكان يحبها حبا لم يطق معه توديعها. عزيزتي رابعة، سلام عليك وعلى من تحبين. وبعد: فيعلم الله يا عزيزتي أنني ما سافرت لمنفعة أستجلبها، ولا لمضرة أتنكبها، ولكنني أشفقت أن أراك وأنت تبرحين بيتي إلى بيتك الجديد، وهذا لا يستغرب مع شيخوختي، وضعف عزيمتي، عن مقاومة التأثرات، ولقد أحسست اليوم عند خروجي بما عراك، ثم رأيته بعيني عندما قبلتك قبلة التوديع، ووجدت من نفسي هزيمة كبيرة أمام هذه الحالة، ولكنني عدت فآمنت بأن هذه سنة الدهر، وأدركت أن هذه الفرقة إنما هي فرقة الجسم، أما الصلة القلبية، والمودة الأبوية والشفقة والحنان، فكل هذا دائم لا يزول. ولقد كنت أخفيت أمر سفري وجعلته لسبب، والحقيقة ما كاشفتك به، وهو خشية ذلك الموقف الخطير، والصدق يا عزيزتي هو أفضل الفضائل،

وأنت تعلمين محافظتي عليه، ولذلك لم أستطع بقائي مصرا على الكتمان فأعلمتك بأمري، وانهزام صبري، وعلى الله أجري، والسلام. وكتب في صفحة أخرى من الخطاب إلى صهره. إنني وضعت أمانتي بين يديك، ورضيتك لها حافظا أمينا، فعليك بتقوى الله في العناية والاهتمام بشأنها، وما أريدك إلا آخذًا بحقك قائما بواجبك، ولم أوصها بمثل هذه الوصية؛ لأنها منك بمنزلة الأمانة، وليس للوديعة في يد المودع إلا الحفظ، وما عليها وهي في يده إلا أن تكون حيث يضعها من أمكنة الحفظ والصيانة، وقد سهل علي أمر فراقكما أن هذه سنة الله في خلقه، واحترام كل منكما صاحبه كامل الاحترام، أدام الله لكما هذا التوفيق السار، المخفف لآلام البعد وصعوبة الافتراق. وأهدي كتابا إلى صديق له، وكتب إليه: "الإنسان الكامل والمولى الفاضل دام كماله وزاد إقباله. "كتابي إلى الأستاذ والهدايا تزيد في التواد، وتوسع في قوة الارتباط، إن كانت لغير من حظرها عليه الشرع القويم، والشيخ مني بمنزلة الأخ من أخيه، وأنا منه بمثابة الولد من أبيه، ولا داعية إليه سوى الصلة به، ولا أريد منه غير الوداد، قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى، وقد اخترت لك من كتب الأدب العربي القديم كتابا حديث العهد بالوجود، بعثته إلى حضرتك معترفا بأنه نموذج فضلك، ومعنى أدبك، ويعترف لك مهديه بأنه لاحظ المناسبات، ونظر إلى الرغبات، وقبل أن تشتغل بالبحث فيه عن اسمه والأوصاف، أعلمك بأنه كتاب المنسوب والمضاف، فهنيئا له الشيخ يقدره حق قدره، وهنيئا للشيخ به يزيده في أمره، وأن قبول الأستاذ لهديتي مكفول بحسن أخلاقه وطهارة أعراقه، وبعلمه بأن النفع بها، وهي عنده أهم وأوفى، فله الحمد على ما قبل، والشكر على أولى".

عبد المجيد الشرنوبي: المتوفى سنة 1348هـ-1930م. ولد بشرنوب، وهي قرية من قرى البحيرة ينسب إليها العارف بالله سيدي أحمد عرب الشرنوبي صاحب تائية السلوك. وكان مولده سنة ثلاثين وثمانمائة وألف من الميلاد، وتوفي والده وابنه في الثانية من عمره، وأتم حفظ القرآن، ولما يتجاوز العاشرة. وكان شديد الرغبة في العلم مفتونا بالأخذ في أسبابه، فالتزم أن يكتب بخطه ما فرض بالأزهر على طلاب السنين الأولى، وحفظ متونها وتلقى نهج هذه الدراسات عن الشيخ عبد الفتاح وهيبة من علماء شرنوب، حتى إذا أتم الخامسة عشرة استأذن والديه في السفر إلى القاهرة؛ لينهل من علم الأزهر وثقافته، فقالت له: إنك يا بني يتيم وليس لك عائل يقول على شأنك في طلب العلم، فقال لها: إنني أعددت من الكتب والزاد ما يكفيني عاما، وفي هذا العام ما يكفيني لبلوغ حظ من العلم، وبعدئذ يفعل الله ما يشاء. وإذ ذاك أذنت له، ونزل بالقرب من الجامع العظيم، وظل ينشد ضالته من الشيوخ الأعلام حتى هداه الله للعالم الفذ الشيخ حسن العدوي، فتلقى عنه فقه الإمام، واستمع له وهو يدرس شرح الزرقاني على متن العزية، ولما طلب الحاشية من أستاذه لينسخها بخطه -وكان ذا خط جميل رشيق- امتحنه الشيخ، فالقى خطه منظما وحروفه منمقة، ووجده متمكنا في الفقه والنحو على الرغم من صغر سنة، وأنه في بداية الطريق، وهنا يفصح الشيخ عن إعجابه بالتلميذ الناشيء، وعن حبه له وإقباله عليه، فيقول له: أنت قد ساقك الله إلينا ومحفظتنا هي محفظتك، فانقل منها ما تريد، وقد أذنتك أن تكون القارئ لنا في جميع دروسنا.. ويمضي الأستاذ العدوي في تشجيع تلميذه النجيب، فيقول له: لله علي نذر إن تمت الحاشية التي تكتبها على شرح الزرقاني

لتذهبن معي -هذا العام- لحج بيت الله الحرام، ولما أتمها الشرنوبي في رمضان من تلك السنة ذهب شيخه العدوي إلى "توفيق باشا" خديوي مضر في ذلك العهد، فأعطاه إذنا بالسفر إلى بيت الله يحج به هو، ومن يحب من حاشيته على نفقة الحكومة. وطلب العدوي من تلميذه الشرنوبي أن يستأذن والده في الحج مع أستاذه، فبكى الشرنوبي؛ لأنه يتيم وكان أخفى ذلك عن شيخه، فحمله الشيخ هدية لوالدته لتمنحه ذلك الإذن. وفي مكة المكرمة كان العدوي يدرس بها في جمع من محبي العلم وعشاقة، وكان الشرنوبي هو الذي يقرأ له، فرغب مفتي مكة إلى العدوي في أن يكون الشرنوبي ضيفا له، فلبى دعوته ولما ذهب إلى بيته عرض المفتي على الشرنوبي أن يكون زوجا لابنته، ولم يكن له ولد سواها، فأبى الشرنوبي لعلمه أن العدوي قد تبناه، وليس في وسعه التخلي عنه. وحين رجعا من مكة رغب العدوي في بناء مسجده المشهور بشارع الشنواني بالدراسة، وفي بناء الحمام الملاصق له لينفق من دخله على المسجد.. وهنا يخشى الشرنوبي على أستاذه من جشع "المقاولين" هذه الفئة التي فطن الشرنوبي إلى وجوب الحذر منها، حتى لا ينفد المال قبل اكتمال البناء، فينفضح شيخه، ويحذره بهذين البيتين. أتيت بالنصح والتحذير من فئة ... وإنني عالم بالدار والجار عساك تسمع نصحي غير متهم ... فتملأ السمع من وعظى وإنذاري ولكن شيخه العدوي يمضي -مع الثقة بتلميذه الناصح- فيما تهيأ له، ويقول: ألم يقل الله فإذا عزمت، فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. وبهذا العزم تم بناء المسجد والحمام، وتم بناء خلوتين اختص العدوي تلميذه بهما، وكانتا بجوار مقام العدوي في نفس القبة التي هي على يسار باب

المسجد، وقد أقام فيهما الشرنوبي راضينا جوار شيخه حيا وميتا. هذا وعلى الرغم من شهرته العلمية، وتفوقه على أقرانه لم ينل شهادة العالمية، وسر ذلك أن هذه الشهادة، إنما كانت تمنح للمبرزين في العلم بغير امتحان المعول عليه في ذلك شهادة الأساتذة، وتصدى المقتدر من الناشئين للتدريس واستهتارة بالإجادة.. وقد أدرك الشرنوبي هذه السنة غير أنه فوجئ بسن قانون الامتحان، فامتنع منه، وقال: كيف أجلس في الامتحان بين يدي من هم أقل مني علما، بل ربما منحوني أقل من الدرجة الأولى، وفي ذلك من جرح كرامتي ما فيه؟ وكان ولده الأكبر الأستاذ محمد عبد المجيد الشرنوبي قد أغرى والده باعتزال الحياة في خلوة المسجد، هذه الحياة التي يؤثرها على الإقامة في مسجده الذي كن يملكه في بولاق، وأعرض عنه اثنتى عشرة عاما، ومن ثم اشترى الأستاذ محمد لوالده منزلا بشارع الشنواني، ثم آخر بشارع الدوداري، وانتقل إليهما بقية أسرة الشرنوبي بعد أن ظل الشيخ ملازمًا خلويته بمسجد العدوي إلى سنة 1325هـ الموافقة لسنة 1907م. وقد كان الشرنوبي معروفا بالذكاء والجد، والمثابرة على تحصيل العلم، وطارت شهرته بالأدب والشعر حتى سعى صاحب المؤيد ليكون الشرنوبي شريكه في تحرير ملكية هذه الصحيفة الضخمة، ولكنه أبى، ولعل لصلة الشرنوبي بالخديو إذ ذاك أثرًا في إعراضه عن هذا العمل الذي يدر أخلاف الرزق، وتطير به شهرة القائم عليه. وليس من شك في أن الشيخ كان على صلة وثيقة بربه مؤثرا العبادة، وجانب الله على الناس، وقد حدثنا نجله الأكبر الأستاذ محمد الشرنوبي، وكان مطيعا والديه بارا بهما أنه لما اشتدت العلة بأبيه ذهب إلى قبره الذي أعدله، وطلا جدارنه وكساه رونقا، وبهجة فلما عاد والده في مرض موته، قال له: حسنا ما فعلت يا محمد: أهكذا احتفلت بقبري.. ولقد ظل سليم الحواس.

قوي البناء، موفور العافية حتى أربى على المائة، وكانت وفاته في السادس عشر من شهر مارس سنة 1930م. وقد أنجب ثلاثة أولاد أصغرهم أحمد الواعظ بوزارة الأوقاف، وأوسطهم محمود الذي كان كبيرًا لكتاب المحكمة الشرعية العليا وأحيل إلى المعاش، وأكبرهم محمد الذي كان أستاذًا بكلية الشريعة، وأحيل إلى التقاعد، وقد عرف بغزارة العلم ودماثة الخلق، والحرص على الدعوة لدين الله.. وقد حصل على الشهادة الأهلية بعد خمس سنوات دراسية، وكانت درجته الأولى بامتياز، وكان ثالث الناجحين في امتحان الشهادة العالمية، وامتاز بعفة اللسان والورع. هذا وقد قام مدير البحيرة سنة 1949م بتقديم لوحة شرف لأعلام هذه المديرية إلى المعرض الزراعي الصناعي العام لذكرى هؤلاء المبرزين، ومع الشرنوبي من هؤلاء في هذه اللوحة الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ سليم البشري، وعلي الجارم، وعبد القادر حمزة. منزلته العلمية: أشرنا في الترجمة له إلى شغفه المبكر بالعلم، والسعي الحثيث في طلبه، وما اكتشفه فيه أستاذه العدوي من قدرة قادرة، وقد كانت هذه المواهب بداية ناهضة ظهر بعدها تملؤه من العلم، وتمكنه من فنونه، حتى صح أن يلقبه السيد جمال الدين الأفغاني "بالسنجق"، وهي كلنة تركية يقصد بها أنه علم فيما يتلقاه عنه من العلم، فلم يكن عجبا أن يكون بهذه المثابة، وهو تلميذ السيد جمال الدين، والمنتفع بأعلام العصر وفحوله من أمثال الشيوخ إبراهيم السقا، ومحمد عليش، وعبد الهادي نجا الإبياري ومحمد الإنبابي، وعبد الرحمن الشربيني وأحمد ضياء الدين، وزين المرصفي، وأحمد شرف الدين المرصفي، وحسن المرصفي وموسى المرصفي، ومحمد البسيوني، وغيرهم من الفحول1

_ 1 الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرة للأستاذ زكي محمد مجاهد.

وعلى ذكر تلقيه للعلم عن السيد جمال الدين الأفغاني، يقول: إنه عدل عن تلقي العلم عن هذا الإمام، واعتزل حلقة درسه التي جمعته مع فحول العصر أمثال محمد عبده، وعبد الكريم سلمان، ولم يكن هذا الاعتزال إلا صدعا بأمر أستاذه العدوي، وقد ظل الشرنوبي يحن إلى هذا المجلس الحافل بالعلم، وأسراره حتى قال حين نفي الإمام موجها شعره لمحمد عبده، وعبد الكريم سلمان: يا عصبة كانوا على ... أوج البها ما حالكم كنتم بدورا في الورى ... فاسود نور جمالكم ولقد طارت شهرة الشرنوبي العلمية في جميع آفاق البلاد الإسلامية، ولا يزال إلى اليوم لمؤلفاته الكثيرة الضخمة صدى ودوي، فيجتذب الناس إليها ما اتسمت به من الدقة والاستيعاب، والعمق في إشراق أسلوب، ووضوح فكرة، ترى ذلك في سائر مؤلفاته في الشريعة والتصوف واللغة العربية، وغيرها من الفنون. ولعل مما يستطرف أن نسوق تلك الحادثة الدالة على ذيوع صيته في الأقطار العربية: فقد طلب منه بعض علماء المغرب شرح ديوان ابن الفارض، وكتبوا عنوان الخطاب الذي بعثوا به "حضرة صاحب الفضل والفضيلة شيخ الإسلام والمسلمين بالأزهر"، فسلم الخطاب إلى شيخ الأزهر، فلما فضه وجده باسم الشيخ عبد المجيد الشرنوبي، فاستدعاه وقام وأجلسه مكانه1، وقال له: اجلس حيث أجلسك مشايخنا علماء المغرب. ومن أشهر مؤلفاته: 1- شرح مختصر البخاري. 2- شرح الأربعين النووية.

_ 1 كان شيخ الأزهر إذ ذاك المرحوم الشيخ أبو الفضل الجيزاوي.

3- مختصر الشمائل المحمدية للترمذي. 4- مناهج السعادات على دلائل الخيرات. 5- ديوان خطب مربع السجعات. 6- ديوان خطب آخر مثلث السجعات. 7- تحفة العصر الجديد، ونخبة الأدب المفيد. 8- إرشاد السالك على ألفية ابن مالك في النحو والصرف. 9- المحاسن البهية على متن العشماوية. 10- الكواكب الدرية على متن العزية. 11- تقريب المعاني على رسالة أبي زيد القيرواني. 12- مختصر الصحيح والحسن من الجامع الصغير. 13- دلالة السالك على أقرب المسالك. 14- مناهج التسهيل على متن سيدي خليل. 15- مناهج التيسير على مجموع العلامة الأمير. 16- شرح حكم ابن عطاء الله السكندري. 17- شرح تائية السلوك لأحمد عرب الشرنوبي. وتستطيع أن تستأنس لدراسة هذه المؤلفات والوقوف على أثرها، وما دلت عليه من تمكن صاحبها وفيض علمه، بطف مما جاء في تقريظ الجهابذة الفحول لبعض هذه الآثار العلمية. يقول السيد عبد الهادي نجا الإبياي في تقريظ شرح تائية السلوك: "رأيته شرحا ينشرح به صدر كل ذي قلب سليم، جمع من لطائف العوارف وعوارف اللطائف، ما به تقتطف النفوس المطمئنة قطوف الأنس في روض القدس الوارف، ورفع منار الطريق المريدي حسن السلوك، ونظم من جواهر الطريقة والحقيقية ما يعز مثله من الفرائد عند الملوك". ويقول الشيخ محمد البسيوني البيباني1:

_ 1 هو أستاذ أمير الشعراء أحمد شوقي.

"وأنى يدرك بعض فضله الفاضل، وذاك لغزارة علمه، وجودة ذكائه وفهمه، كما يشاهد من أدبه، وكما يطالع في كتبه، فلو رأه ابن عيينة لقبله بين عينيه، ولو شامه قدامه لترك بأثر قدميته، فشرحها شرحا زاد محاسن الأوصاف، عادلا عن التعسف مائلا إلى الإنصاف". منزلته الأدبية: يعتبر عبد المجيد الشرنوبي إلى جانب علمه الجم، ومؤلفاته الضخمة، أحد دعائم النهضة الأدبية في العصر الحاضر، فقد أسهم في بناء المجد الصحفي الأول في النهضة الحديثة، "صحيفة الوقائع المصرية"، إذ كان ذلك أول أعماله التي قام بها مع الإمام محمد عبده، وقد أتاح له عمله في مكتبة الأزهر الاطلاع على الأسفار الأدبية، وأن يتأثر بأساليبها، وينهج نهج من حفلة المكتبة بتراثهم الأدبي الخالد، فنضجب بذلك موهبته، وأشرق أسلوبه، ونمت ملكته في الشعر، وأغرم بالمطارحات والمعارضات، حتى ترك لنا من ذلك ثروة تجعله من طلائع الأدباء الشعراء. أما نثره، فيتجلى فيه إشراق الأسلوب، واستواء العبارة، ووضوح القصد، والتئام الفقر، وحسن السبك مع ميل شديده إلى السجع، وكلف واضح بالصفقة، والمحسنات شأنه في ذلك شأن هذه الطبقة التي اتسمت بهذا الطابع في عصره، ومن يقرأ كتاب "تحفة العصر الجديد ونخبة الأدب المفيد" يلمح هذه الخصائص في أسلوبه، كما يقول في باب الاحتراس من أشرار الناس: "أيها الراغب في معالم المعارف، الطالب لمطالب العوارف، قد أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، فشنف سمعك بما ألقه إليك، ولا تكن من الغافلين، وأول منا أبديه إليك، وألقي معانيه عليك، ألا تحسن الظن بإنسان، إلا بعد التجربة والامتحان، ولا تثق بسماع أخباره، قبل نقده واختباره، فإني رأيتك قد عولت على ظواهر الرجال، فلم تفقد ما هم عليه من تقلبات الأحوال.

فأكثر من تلقى يسرك قوله ... ولكن قليل من يسرك فعله وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي ... فأدبني هذا الزمان وأهله فأنت ترى التزامه السجع، وحرصه على التضمين، والاقتباس المحكم من القرآن، واتباعه ذلك بغرر من الشعر. ويقول السيد عبد الهادي نجا الإبياري معبرا عن ارتياحه لأسلوبه: "عبارات هي أحلى من النسيم، وأحلى من البدر الشريق في الليل البهيم، وأرق في إيراد الرقائق من مر النسيم، وأشوق من سمر الغانيات لمن بها يهيم". ويقول الأستاذ محمد البسيوني: "تعجز البلغاء بلاغته، وتفحم الفصحاء فصاحته، اختلب بما جلب القلوب بملاحته، واستلب العقول بفصاحته وصباحته، فالصحاح درر ثغره، والقاموس بعض فيض نهره، والبيان من سحر كلامه، والرياض من بشاشته وابتسامه". أما شعره، فلنقرأ له قوله: قد تعدى بنو الزمان وصاروا ... في زوايا طغيانهم يعمهونا واستحلوا ما يغضب الله جهرًا ... وعلى ما يرضى الورى عاكفونا وقوله: ألا إنني جربت أهل مودتي ... فألقيت أن البعد أولى أو سلم وأيقنت أن الصحب ألف بواجد ... فلم أبق غير اللب والله أعلم وقوله: إذا بليت بأقدام ذوي حسد ... سود القلوب لهم ذم الورى قوت فإن نأيت فدع أحشاءهم بلظى ... وإن أتيتهموني الحي قل موتوا وقوله: تجمعت زمرة الأعادي ... وجددوا ألسن النكايه

وحسدي بادروا بهجوي ... بغير جرم ولا بدايه أغواهم فضلنا فهاموا ... بكل واد من السعايه وليس حصني سوى مقالي ... مولاي حسبي وذا كفايه تجد شعره مقطوعات صغيره خفيفة، لا غموض فيها ولا تعقيد، يصور في معظمها أخلاق الناس، ويعرض تجاريبه في الحياة، وخبرته بالزمان وأهله، فهي حافلة بالحكم والتجاريب والنصح، ويتسم شعره بالسهولة، وإحكام النسج والقوافي، والحرص على التضمين والاقتباس من القرآن، كما يمتاز بالطابع العلمي الذي يتسم به شعر العلماء والفقهاء، كقوله: "فلم أبق غير اللب، والله أعلم". ومن العجيب أنه مع قدرته الواضحة في صوغ الشعر، واستقامة أوزانه له، وظهور مكلته فيه، لا نجد له قصائد مطولة، مع ما يبدو لنا من قدرته عليها لو أراد، ولعل عذره في ذلك هو انصرافه إلى العلم وخدمته، واشتغاله بفنون شتى منه. فكان كما ترى يدع كتابته العلمية بكثير من مقطوعاته هذه القصار التي تحمل في إيجازها واسع المعاني والتجارب. وتراه كذلك في رسائله يودعها الشعر؛ ليجمع بين الفنين، ويلائم بين الصنعتين، كقوله لأحد أبنائه، وكان قد طلب للتدريس في جاوه، وكتب إلى والده يستشيره، فكتب له نظما ونثرًا: "فلا تجعل فراقك لفقد حياتي، وحياة والدتك سببا، فتكون عاقا لوالديك، وأنا أدعوك لأمر سهل، وأما أريد أن أشق عليك، فانتظرنا يا ولدنا لما، وبعد ذلك تأكل التراث أكلا لما، ومنفعتك في نفس بلادك تلوح عليه البشائر، إذا حسنت منك السرائر وما مصر إلا جنة قد تزينت ... وأنهارها تجري وسكانها تدري وأما سواها فهو لا شك دونها ... سوى طيبته والبيت والقدس والحجر

ولست إلى هند أميل صبابة ... وإن ملأت بالتبر أو غيره حجري طرف من نثره: كتب في مقدمة شرخه تأتيه السلوك "لما كان علم التصوف مما يصفى الفؤاد، ويوصل السالك بالجد إلى بلوغ المراد، وكان من أجمل ما ألف فيه هذه التائية الفريدة، التي هي في بابها بديعة وحيدة، نسيجة قطب الوجود وعمدتي في خطوبي، سيدي وسندي السيد أحمد عرب الشرنوبي، بادرت إلى ارتشاف حميا كاسها الشهي، وطفقت أنظم لؤلؤا في جيدها البهي، ليكون ذلك شرحا بديع المثال، مفصلا لتلك الدراري التي نسجت على أحسن منوال، ملتقطا تلك اللآلئ البهية، من بحار السادة الأعلام ذوي الكئوس الوفية، فاني خادم أعتابهم، وتراب أقدامهم". وفي تحفة العصر الجديد قوله: "إثارة الفتن نار، والكذب على الإخوان عار، ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى أمين والصدق أفضل قرين؛ لا تقولن كذبا يوافق هواك ويغضب أخاك، وإن خلته لهوا وقلته لغوا، فرب لهو يوحش منك حرا، ولغو يجلب لك شرا ما عز ذو كذب، ولو أخذ القمر بيديه، ولا ذل ذو صدق ولو اتفق العالم عليه، وإياك وقبيح الكلام، فإنه ينفر عنك الكرام، ويغري عليك اللئام، ويوجه إليك الملام". ومن شعره قوله في شأن الحسد: غني يا نديم جهرا فإني ... للمعالي قد سرت حثيثا لا تعدلي مذمة من حسود ... إن فضلي يرى قديما حديثا وإذا كنت موقنا أن عزمي ... قاصم ظهر من تراه خبيثا كيف أرتاع من مذمة قوم ... لا يكادون يفقهون حديثا

ويقول: إذا زل الكريم فكن حليما ... فإن الحلم حينئذ مزية وإن جاء اللئيم إليك عمدا ... بما كسبت يداه من الأسية ولم يخضع لعفوك باعتراف ... فعجل بالمكافأة القوية فإن الحر يكفيه ملام ... وإن العبد تصلحه الأذية فعامل كل إنسان بحكم ... وفي هذا ترى فصل القضية وفي البيت الأخير ظاهرة من شعر العلماء حيث تناول ألفاظ العلم ومصطلحاته، ففي المنطق "الحكم" و"فصل القضية"، ويقول: أقول للحاسد الباغي علي إذا ... أتى الحمى وغدا عندي من الأسرى عزمي شديد وجاهي واسع لنا ... مكارم بين أعيان الورى تترا وجل قدري أن أجني عليك بما ... جنت يداك، فلا تشغل لنا الفكرا بل أنت حل وهذا الفضل عادتنا ... لقد مننا عليك مرة أخرى وفي النهي عن الكذب قوله: لو يعلم الباغي بسوء مقاله ... أن الجحيم نعيمه في المنتهى لأبان بين الناس نير صدقه ... وعن المعاصي والأكاذيب انتهى وفي أخلاق الناس قوله: رأيت الناس بالدينار هاموا ... وباعوا الدين بالدنيا وساموا فأورثهم نفاقا في قلوب ... إلى يوم به اشتد الزحام ترى عند اللقاء جميل بشر ... وبعد البعد تأتيك السهام وحسبي من خطوب الدهر طه ... لكل المرسلين هو الختام

ويقول في ختام تحفة الأدب الجديد: رب إني من فيض فضلك أرجو ... محو ذنبي بجاه خير الأنام وأنا المخطئ المقر بأني ... ليس لي غير جاه بدر التمام فأقل عثرتي إلهي وهبني ... للشفيع المجاب يوم الزحام وأجرني من الجحيم فإني ... لذت بالمصطفى رفيع المقام وإذا العبد كان عبد مجيد ... فله في العلا بلوغ المرام فبجاه الحبيب تنجح قصدي ... ببلوغ المنى وحسن الختام

السيد مصطفى لطفي المنفلوطي

السيد مصطفى لطفي المنفلوطي: المتوفى سنة "1342هـ-1924م". نشأته وحياته: "السيد مصطفى المنفلوطي" بن "محمد المنفلوطي"، ولد في سنة "1876م" بمدينة "منفلوط" واليها ينتسب، وقد انحدر من أسرة عريقة، عرفت بالوجاهة والحسب، وتوارثت القضاء الشرعي، ونقابة الصوفية زهاء مائتي عام، وأما أبوه فعربي واضح النسب يمتد إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأما أمه فهي وثيقة القرابة بأسرة "الجوربجي" التركية الضاربة في الشرف والمجد. حفظ القرآن بالمكتب، ثم اتجه إلى الأزهر فتلقى علومه به، وكان معروفا بين أقرانه بحدة الذكاء، وسلامة الذوق وصفاء الفكر، وقد نزع إلى طريقة ارتضاها لنفسه غير الطريقة التي درج عليها أبناء الأزهر، فكان يطالع الدروس على طريقة يخلص منها إلى تحرير الفكرة وتحديد الجوهر، غير مبال بما يعترضه من جدل ونزاع لفظي، وأكب في صباه على كتب الأدب يغذي هواه ويروي فطرته، فقد نشأ شغوفا بالأدب مفطورًا على التقليب في آثاره، والتروي من روائعه ومحاسنه ودرس فيما درس طائفة من كتب الطبيعة والحكمة والأخلاق، وأقبل على الأشعار يحفظها، والشوارد بتصيدها، ونظم الشعر وحرر الرسائل، وذاع صيته بين الناس وبين الأزهريين خاصة، فقربه الإمام المرحوم "الشيخ محمد عبده"، ووجد في ظلال الإمام التوجيه النافع والهدى الموفق، وما لبث "المنفلوطي" أن اتسع له صدر الإمام، فلازمه وصاحبه وتردد على درسه، وتمشى منزله، ودامت هذه الصلة الوثيقة عشر سنين، كانت "المنفلوطي" غذاء لروحه وتوجيها لفكرة، وتعبيدا لطريق حياته، وأثمرت صلته بالإمام معرفته بالمرحوم "سعد باشا زغلول"، فهش له وقدر مواهبه، وتفطن لما شب عليه من صفاء القريحة، وسلاسة الأسلوب

فقربه ورعاه. وقد بلغ من حب "المنفلوطي"، للإمام وتعلقه به أنه انتبذ مكانا قصيا إلى أهله "بمنفلوط"، حين استأثر الله بالإمام، وأظلمت الدنيا في محياه، وابتأس حين أوحشت حياته من لقائه. ثم بدد عزلته النائية التي بكى فيها أستاذه، وموجهه "الشيخ محمد عبده"، فراسل "المؤيد" برسائله الممتعة التي طالما أتلع الناس إليها أعناقهم واستشرفوا للقائها، وتزاحموا على ورودها. وقد كانت ترد إليه رسائل من أقاصي البلدان تسأله أن يعالج موضوعا، أو يجلي حادثا، أو يعلق على أمر ذي بال، والناس لمطلعها مشوقون. وقد تأثر "المنفلوطي" بالشيخ "محمد عبده" فطبع بطابعه، ونهل من شعوره، وانصرف منصرفه في معالجة الشئون، وتناول الإصلاح الوطني، والخلقي والاجتماعي. ويتجلى تأثره به في الحملة التي شن غارتها على المفاسد التي دخلت على الإسلام، وفي دعوته إلى الإصلاح، تلك الدعوة التي اصطبغت بالصبغة التي نجدها في كثير من كتابات الشيخ "محمد عبده"1. وقد نسب إليه في أثناء طلبه العلم بالأزهر أنه هجا الخديو السابق بقصيدة نشرتها إحدى الصحف الأسبوعية، فحكم عليه بالسجن، وقضى به مدة عقوبته ثم شفع له بعض المقربين لدى الخديو فعفا عنه، ويرى بعض الأدباء أن القصيدة من عمل غيره، ونسبت له. ولما ولي "سعد زغلول باشا" نظارة المعارف عينه محررا عربيا لها، فأصلح من أسلوب الكتابة بها، وأشرف على لغة الكتبة، وتعهدهم بالرعاية، والإرشاد حتى إذا ما حول "سعد" إلى نظارة الحقانية استصحبه معه لمثل

_ 1 الإسلام والتجديد ص206.

هذا العمل فكان له فضل عظيم في ترقية الكتابة، وتقدم لغتها وتخلصها من الركة والعجمة، والضعف بقدر ما وسعته الجهود، وبعد عامين فصل من هذا العمل. ولما انعقد "البرلمان" عين كاتم سره، وكان القدر قد أراد أن تنطفئ شعلته، فمضى إلى ربه في العقد الخامس من عمره عام 1924م. وكان رحمه الله عالي النفس عزيزا متوقرا، يجافي صغائر الأمور ولا يتعلق إلا بجلائل الأعمال، نزاعا إلى الحرية عيوفا من كل ما يدنس صفحته كريم الخلق طيب السريرة في تواضع جم، وكرم نفاح. وقد عاش طول حياته لم يلوث يده بأجر على ما كان يكتبه على جلالة شأنه، ونباهة ذكره ما يهيئه من الرفعة، وعلو المكانة لمن يحظى بقلمه مؤيدا ومعاضدا. وقد اجتمعت عليه عداوات، وأرثت أحقاد من طول ما لقيه من الشهرة بأدبه وبعد الصيت بقلمه، وتألبت عليه الأقلام تنوشه، وتنهشه حقدا وموجدة، وهو ثابت كالطود موفورًا الحلم والأناة، واسع العفو والإغضاء، فكان كما قال: إذا ما سفيه نالني منه نائل ... من الذم لم يحرج بموقفه صدري أعود إلى نفسي فإن كان صادقا ... عتبت على نفسي وأصلحت من أمري وإلا فما ذنبي إلى الناس أن طغى ... هواها فما ترضى بخير ولا شر وقد صور المرحوم "أحمد شوقي بك" أمير الشعراء خصومة حساده، وكلفهم بتتبعه، وأنصف حلمه وسعة صدره، وعفوه عن خصومه اللد، فقال في رثائه له. سكن الأحبة والعدا وفرغت من ... حقد الخصوم ومن هوى الأشباع كم غارة شنوا عليك دفعتها ... تصل الجهود فكن خير دفاع

والجهد مؤت في الحياة ثماره ... والجهد بعد الموت غير مضاع فإذا مضى الجيل المراض صدوره ... وأتى السليم جوانب الأضلاع فافرغ إلى الزمن الحكيم فعنده ... نقد تنزه عن هوى ونزاع أدب المنفلوطي: لقي الأدب "بالمنفلوطي" حياة جديدة، وتهيأت له بقلمه جدة وروعة، فأينع وانتعش، كان رشيق القلم عذب البيان، فصيح التعبيير مشرق الديباجة محكم الرصف متين النسج، وكان مرهف الحس دقيق التفطن لمواطن البلاغة طروبا للتعبير الفخم، والتركيب المحكم، يحتفل بأسلوبه، ويجود في صياغته إذا هبطت عليه سجعة، فذاك وإلا لم يتكلف طلبها، ولم يتعمل1. وإذا جاز أن يكون الأدب العربي المعاصر قبل "المنفلوطي" دائرا على اللفظ يغل الفكرة، فلا يتوخاها ويغضي عن المعنى، فلا ينفذ إلى روائعه، فإن "المنفلوطي" كان أحد أولئك الأدباء القلائل الذين أدخلوا المعنى، والقصد في الإنشاء بعد أن ذهب منه كل معنى، وضل به الكاتبون عن كل قصد2. وقد حدث المستعرب "أغناطيوس"، فيما قاله عن الأدب العربي الحديث، ورجال له، فقال: "امتاز مصطفى لطفي المنفلوطي، وهو أصغر تلاميذ الشيخ عبده سنا بالجهود الموفقة لابتكار أسلوب جديد شائق، ويمكننا أن نقول: إنه نجح كثيرا عن جدارة، واستحقاق3". وكان المنفلوطي صاحب طريقة في الأدب وذا مكان ملحوظ فيه، ولقد بهر الناس أدبه وفتنهم روعته وجذبتهم طريقته السهلة المشرقة المتدفقة حتى كان محفوظ التلاميذ مرقوب المتأدبين، وكان بحيث لو لم يذكر المنفلوطي مع ما يكتبه لنم أسلوبه عنه، وهدى إشراقه إليه.

_ 1 المفصل ج2 ص388. 2 مراجعات العقاد ص170. 3 ترجم الأستاذ أمين حسونه النواوي هذا البحث في مجلة الرسالة ص2086 "السنة الرابعة".

ومن أهم ما يسر له هذه المكانة بعد روائع أسلوبه الذاتية بروز شخصيته فيما يكتب، ويصور حتى قال المرحوم "سعد زغلول باشا": إني لأرى لك في كتابتك شخصية أتمنى أن أجدها كثيرا في أقلام الكاتبيين". وكان رفيع الأدب في كل ما يكتب، فلم يسف في مقال ولم يتدل في موضوع بل كان" الكاتب الفريد الذي يحافظ على أسلوبه في جميع حالاته، وشئونه سواء في ذلك المعاني المطروقة لكتاب العربية الأولى، أو التي لم يكتبوا عنها شيئا، ولم يرسموا لها أسلوبا مما يدل على أن السليقة العربية ملكة من ملكاته لا عارية من عواريه1. ولم يكن مفتونا بالصنعة، متهافتا على تجويد الأسلوب، بل كان طبعه يغلب صناعته، ولم تكن الصنعة لتخلق أديبا "كالمنفلوطي" في نباهة شأنه، وروعة أدبه، ولو رجحت الصنعة في أدبه لضل في ثناياها الغرض، وغمرت الفكرة وعز عليك أن تجد له هذه الأفكار الحية، وتلك الموضوعات الاجتماعية التي يتهم فيها وينجد، التي عبر فيها عن خلجات النفوس، وخفقات القلوب ومسارح الفكر والشعور، وصور بها الآلام والأحزان صورة يرتسم فيها الأسى حتى كان من أشد الأدباء تأثرا بالأدب الغربي، واصطباغا بصيغته. وأول ما بهر الناس من أدبه، وفتنهم من جمال أسلوبه ما نشره من "نظراته" في صحيفة "المؤيد" سنة "1908"، فقد اهتزت لها القلوب والأسماع، "ورأى الأدباء والقراء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ، وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة، وركاكة الترجمة فأقبلوا عليها إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب2".

_ 1 أشهر مشاهير أدباء الشرق للسندوبي ج2 ص186. 2 أحمد حسن الزيات من مقال له في "الرسالة" السنة الخامسة العدد 210.

هذه "النظرات" التي كان الأدباء يتشوقون إليها، ويعدون لها أيام الأسبوع يوما بعد يوم، ويترقبون لرؤيتها ما يترقبه الضال في ظلمة الليل البهيم من الفجر الطالع، والظاميء في المهمة القفر من الغيث الهامع1. امتازت هذه المقالات بطابعها الأنيق، ومعالجتها شئونا مختلفة بأسلوب رشيق جمع بين الأدب العالي، وإرضاء الذوق؛ لأنها كتبت بلغة موسيقية صافية، فكانت بمثابة الوحي يهبط على جمهور تعود قراء الكلفة والتصنع، وقد انتشرت انتشارا واسعا بين قراء العربية من بغداد إلى مراكش، وهذا مما يدل على أنهم ألفوا فيها شيئا قيما، كما كانت تمثل الشعور الذي تردد صداه في العالم الإسلامي أبلغ تمثيل2. كان "المنفلوطي" رحمه الله رحيم الفؤاد رقيق العاطفة، يهتز لكل مأساة، ويبتئس لكل كارثة، وتسيل عبراته على ما تقع عليه العين من شقوة أو بأساء، ومن كتب في البؤس والمأساة فبلغ ما لم يبلغه أحد، وصور ما يعتلج في الأفئدة من هموم وأحزان بقلم باك، وبراعة دامية وقال فيه عارفوه ومن صاحبوه: "إنه لم يكتب إلا عن فيض شعوره وحسه، وإن كتاباته صورة حقيقية لنفسه". المنفلوطي القصصي: ثم إن "المنفلوطي" تناول القصة فمهد لها في الأدب العربي طريقا، وفسح لها في فنونه مكانا وبلغ بها منزلة سامقة، وذلك أنه كان يستعين بإخوانه ممن يعرف لغة أجنبية، فيستوحيه معاني القصة، فإذا ما استقرت في نفسه

_ 1 أشهر مشاهير أدباء الشرق للسندوبي ج2 ص181. 2 من مقال لمستعرب إنجليزي في مجلة "إسلاميك كلنشر".

صاغها بعبارة الساحرة، وزانها بقالبه الجميل1، ولم يكن يتقيد إذ ذاك -بعبارات المؤلف ومعانيه. ولهذه الطريقة حسنات أهمها أنها تمكن الناقل من إظهار ما لديه من شخصية، ومقدرة وعبقرية، ولكنها من الجهة الأخرى قد تخطئ الغرض الأصلي إذا كان الغرض نقل الأثر الغربي إلى اللغة العربية2، فالقصص التي ينقلها "المنفلوطي" بهذه المثابة قد تبعد عن الأصل في ترجمتها، أما إذا اعتبرت من وضعه على أنه استعان بواضعها الغربي، فهي من جهده الذي يفاخر به. وأيا ما كان فقد كانت القصص، والروايات التي تناولها "المنفلوطي" مرآة تنطبع عليها العيوب، والمآسي الخلقية والاجتماعية بأسلوب مؤثر وعبارة فصيحة، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول: إن "المنفلوطي" في عصره كان أبرع القصاص، وأنبغ الرواتيين، فإنه لا ريب من خير من عبد هذه الطريق، ومن طلائع الذين أودعوا خيال الغرب، وذلك لا يعفيه من ضعف الأداء، والتحريف في التعبير أحيانًا. المنفلوطي الناقد: "المنفلوطي" إذا نقد الأحوال السياسية أو الشئون الاجتماعية، أو الأدبية أو تناول نقدا شخصيا بينه وبين مصاول كان بارع النقد لماح الفكر يعالج الموضوع في تحليل مستوعب، وإلمام شامل، ولا يجمح قلمه فيما ينقد، أو يتجاوز العفة والنزاهة، وتوخي الحق فيما يرى، وقد أثر عنه كرم القلم

_ 1 مذكرة المرحوم الأستاذ محمود مصطفى في الأدب الأندلسي والمعاصر، وما بينهما ص349. 2 مجلة الهلال العدد الصادر في 12 من شعبان سنة 1338هـ، أول مايو 1920.

وترفع الأسلوب، ونزاهة الرأي على رغم ما ارتصد له من عقارب تنفث سمومها على الصحف وفي المجتمعات، ولكنه كان يعتصم دائما بقوله: "إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يغير طبيعة الإنسان". ومهما يكن من شيء "فالمنفلوطي" في الأدب أمة وحده، نهج فيه نهجا رفيعا مبتكرًا، وخلد بهذا الفن الرائع ذكره، واستحق أن تصفه صحيفة "الهلال" بأنه "أمير النثر العصري"، وأن يقول فيه الأستاذ "أحمد الزيات": "فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره، وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلا من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر1". شعره: "للمنفلوطي" شعر جمع بين الجزالة والسهول، رصين القافية فخم التعبير، وله قصائد رائعة متينة السبك محكمة النسج لطيفة المعنى بارعة الوصف، وله في الوجديات غرر وفي الحكم بدائع، غير أنه مقل لم يتجه إلى الشعر اتجاهه إلى النثر الذي ملك عليه نفسه، واستأثر بقلمه، ولو أن ولعه بالنثر ترفق به وخلى بينه، وبين الشعر أحيانا أخرى لكان من أبرع الشعراء، وأنبه الفحول. آثاره الأدبية: النظرات: وهي مقالات الفذة الرائعة الأسلوب التي كان ينشرها في المؤيد تباعا، ويعالج فيها شئون المجتمع، وقد كانت مثار شهرته وبعد صيته، وهي

_ 1 مجلة الرسالة السنة الخامسة العدد 210.

العبرات: مجموعة روايات موجزة وضع فريقا منها، وترجم فريقا آخر وقد ساقها عظة وتذكرة، وهي اليتيم، والشهداء، والححاب، والذكرى، والهاوية، والجزاء والعقاب، والضحية ومذكرات "مرغريب"، وهي مطبوعة تكرر طبعها. الشاعر أو "سرانو دي برجراك": رواية أدبية تهذيبية غرامية تمثيلية استخلصها من روايات "ادمون اوستان" تكرر طبعها أيضًا. ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون: ألفها الكاتب الفرنسي "ألفونس كار"، ونقلها عن الفرنسية إلى العربية "المنفلوطي" في قالب قصة خيالية تخيل وقائعها في ألمانيا، وأملي عليها ترجمتها الحرفية صديقة الأستاذ "محمد فؤاد كمال بك"، ثم تصرف فيها "المنفلوطي" بأسلوبه، وهذبها بحذف ما يجافي الذوق العربي منها مع حفاظه لطابع الرواية ومغزاها1. وقد كتب الأستاذ "خلاصة شعرية لهذه الرواية، وهي نسخة في مجلد واحد تكرر طبعها. الانتقام: رواية أدبية اجتماعية أخلاقية تصور حكاية المسيو "كابريني"، وكيف قضى شطرا طويلا من حياته سعيدا بزوجته وثروته، حتى عصف الدهر بهما مع تصوير ما وقع لابنته مع زوج أبيها من بؤس، وتعس إلى غير ذلك من مشاهد، طبعت بمطبعة المكتبة التجارية سنة 1923م غيرها.

_ 1 إذا قلنا نقل هذه الرواية من الفرنسية إلى العربية المنقلوطي، نعني أنه كلف من نقلها لجهله الفرنسية.

في سبيل التاج: ألف هذه الرواية الشاعر الفرنسي الشهير "المسيو فرانسو كوبيه"، ثم نقلها "المنفلوطي" إلى العربية، وقد وقعت أحداث هذه الرواية في القرن الرابع عشر بين العثمانيين وشعوب البلقان، وأراد مؤلفها أن يجاري بها "كروفي" و"راسين" عميدي الشعر التمثيلي في القرن السابع عشر طبعت بالمطبعة الرحمانية بالقاهرة سنة 1920م، ثم توالى طبعها. الفضيلة: رواية ألفها الكاتب الفرنسي الشهير المسيو "برناردين دي سان بير"، ثم نقلها "المنفلوطي" إلى العربية بتلخيص وتهذيب، وهي من الروايات الأدبية الأخلاقية الاجتماعية التي تؤرخ لحوادث غريبة كتب عن جزيرة "موريس" إحدى جزر أفريقية الواقعة في المحيط الهندي قريبا من "مدغشقر"، وقد وصفت طبيعة هذه الجهة، وصورت الاستعمار الأوروبي بها، وتحدثت عن أشخاص عاشوا بهذه الأصقاع، وبآخر قصيدة في العظة والعبرة خاطب بها "بول"، و"فرجيني" اللذين هما بعض سكان هذه الجزر التي شاهدها المؤلف في رحلاته، طبعت بالمطبعة الرحمانية سنة 1923م، ثم أعيد طبعها. مختارات المنفلوطي: هي روائع من النظم والنثر مما استجاده، واهتز له فؤاده ووقف عنده معجبا بأسلوبه وتصويره، وقع عليها من كثرة ما يحيل النظر في الكتب العربية وآدابها، وهي دالة على حسن ذوقه، وروعة اختياره.

نماذج من نثره: الحرية: نبذة مما كتبه بهذا العنوان: "إن كثيرًا من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به هذه الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصص الجناح من ألم الأسر، وشقائه بل ربما كان بينهم من لا يفكر في وجه الخلاص، أو يلتمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن ويأتي به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه. من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها أن يكون الحيوان الأعجم أوسع في الحرية ميدانا من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤما عليه، وعلى سعادته؟ وهل يجعل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بحريته؟ كما كان قبل أن يصبح ذكيا ناطقا؟. ....... ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته بل جنايته الكبرى أنه أفسده عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها. ولو عرف الإنسان قيمة الحرية المسلوبة منه، وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من السلاسل، والقيود لا نتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرًا له من حياة لا يرى فيها شعاعا من أشعة الحرية، ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها. لا سبيل إلى السعادة في هذه الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا لا يسيطر على جسمه، وعقله ونفسه، ووجدانه وفكره إلا أدب النفس.

الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش منها محروما عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر. الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة التماثيل المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية. ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثا جديدا، أو طائرا غريبا، وإنما هي فطرته التي فطر عليها مذ كان وحشا يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار. إن الإنسان الذي يمده يده لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقا من حقوقه التي سلبته إياها المطالع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده. مضى الليل إلا أقله و"سوزان" جالسة إلى نافذة قصرها المشرقة على النهر تلتفت إلى سرير ابنتها مرة، وتقلب وجهها في السماء مرة وأخرى، وكان القمر في ليلة تمه، فظلت تناجيه، وتقول: "أيها القمر الساري في كبد السماء ها أنذا أراك في ليلة تمامك للمرة الرابعة والعشرين، فهل يعود إلي "خطيبي جوستاف"، فيراك معي كما كان يفعل من قبل؟ لقد كنت لي أيها الكوكب المنير نعم المعين في ليالي الموحشة على همومي وأحزاني، فهل تستطيع أن تحدثني عن "جوستاف" أين مكانه ومتى يعود؟ وهل نلتقي فتتم بذلك يدك عندي؟ حدثني عنه هل يذكرني كما أذكره، ويحفظ عهدي أحفظ عهده، وهل يجلس إليك حينا، فيسألك عني كما أسألك عنه؟ فإن فعل فقل له: -إن ابنته جميلة جدا جمال الابتسامة الحائرة في فم الحسناء، بيضاء بياض الفطرة

الصافية فوق الزنبقة الناصعة تحت الأشعة الساطعة، وقل له: إنها لا تهتف باسم غير اسمه، ولا تبتسم لرسم غير رسمه، وإن رآها أغنته رؤيتها عن المرآة المجلوة؛ لأنه يرى صورته في وجهها كما تتشابه الدميتان المصبوبتان في قالب واحد. ولم تزل تناجي القمر بمثل هذه النجاء حتى رأته ينحدر إلى مغربة، فودعته وداعا جميلا، وقالت: إلى الغد يا رفيقي العزيز، ثم قامت إلى سرير ابنتها، فحنت عليها برفق وقبلتها في جبينها قبلة المساء، وذهبت إلى مضجعها، وما هو إلا أن غشت بجفنها السنة الأولى من النوم حتى أسلمتها أحلامها إلى أمانيها وآمالها، فرأت كأن "جوستاف" قد عاد من سفره، فاستقبلته هي وابنتها على باب القصر، فنزل من مركبته، وضمهما معا إلى صدره ضما شديدا، وظل يقبلهما، ويبكي فرحا وسرورًا. فإنها لمستغرقة في حلمها إذ شعرت بيد تحركها، فانتبهت فإذا صدر النهار قد علا، وإذا خادمتها واقفة على رأسها ضاحكة منطلقة تقول لها: بشراك يا سيدتي فقد حضر سيدي، فاستطارت فرحا وسرورا، وقالت: أحمد اللهم فقد صدقت أحلامي، وأسرعت إلى غرفة ملابسها، فبدلت أثوابها ثم دخلت عليه في غرفته باسمة متهللة تحمل ابنتها على يديها، فرأته واقفا في وسط الغرفة متكئا على كرسي بين يديه، فهرعت إليه ولكنها ما دنت منه حتى تراجعت حائرة مندهشة؛ لأنها رأت أمامها رجلا لا تعرفه، ولا عهد لها به من قبل، بل هو بعينه، ولكنها رأت وجها صامتا متحجرا لا تلمع فيه بارقة ابتسام، ولا تجري فيه قطرة بشاشة، فأنكرته، إلا أنها تماسكت قليلا، ومدت إليه يدها تحييه، فمد إليها يده بتثاقل وفتور، كأنما ينقلها من مكانها نقلا، ولم يلق على وجه الطفلة، وكانت تبتسم إليه، وتمد نحوه ذراعيها نظرة واحدة، وكانت أول كلمة قالها: -أباقية أنت في القصر حتى اليوم، فازدادت دهشة وحيرة ولم تفهم ماذا يريد، وقالت له: وأين كنت تريد أن تراني يا سيدي؟ في القصر كما تركتك، ولكني أظن أنك لا تستطيعين

البقاء في بعد اليوم قالت: ولماذا؟ قال: لأن زوجتي قادمة إليه، وربما كانت لا تحب أن ترى فيه من يزعجها وجوده. ...... ثم سقطت على يده تقبلها، وتبللها بدموعها، وتقول: -ها أنذا "يا جلبرت" جاثية تحت قدميك فارحمني، واغفر لي ذنبي فقد أصبحت امرأة بائسة شقيقة ليس على وجه الأرض من هو أحق بالرحمة مني، وكأنما أحس بنغمة صوتها فارتعد قليلا، ثم مال بنظره إليها شيئا فشيئا، حتى رآها فسقطت من جفنه دمعة حارة على يدها كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى. ولما دنا مني السياق تعرضت ... إلي ودوني من تعرضها شغل أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت يوصلي حين لا ينفع الوصل ومما كتبه بعنوان "الشرف". لو فهم الناس معنى الشرف لأصبحوا كلهم شرفاء -ما من عامل يعمل في هذه الحياة إلا وهو يطلب في عمله الشرف الذي يتصوره، أو يتصوره الناس إلا أنه تارة يخطئ مكانه، وتارة يصيب- يقتل القاتل، وفي اعتقاده أن الشرف في أن ينتقم لنفسه، أو عرضه بإراقة هذه الكمية من الدم، ولا يبالي أن يسميه القانون بعد ذلك مجرما؛ لأن البيئة التي يعيش فيها لا توافق على هذه التسمية وهي في نظره أعدل من القانون حكما وأصدق قولا، يفسق الفاسق وفي اعتقاده أنه نفض عن نفسه بعمله هذا غبار الخمول والبله الذي يظلل الأعفاء والمستقيمين، وإنه استطاع أن يعمل عملا لا يقدم عليه إلا كل صاحب حيلة وشجاعة وإقدام........ هكذا يتصور الأدنياء أنهم شرفاء، وهكذا يطلبون الشرف ويخطئون مكانه، وما أفسد عليهم تصوراتهم إلا الذين أحاطوا

بهم من سجرائهم وخلطائهم، وذوي جامعتهم ... لولا فساد التصور ما جلس القاضي المرتشي فوق كرسي القضاء يفتل شاربه، ويصعر خديه، وينظر نظرات الاحتقار والازدراء إلى المتهم الواقف بين يديه موقف الضراعة والذل، ولا ذنب له إلا أنه جاع، وضاقت به مذاهب العيش فسرق رغيفا -ولولا فساد التصور ما تصور ذلك اللص الكبير أنه أشرف من هذا اللص الصغير، ولولا فساد التصور لوقف هذان اللصان في موقف واحد أمام قاض عدل يحكم بإدانة الأول؛ لأنه سرق مختارا ليرفه عيشه، وببراءة الثاني؛ لأنه سرق مضطرا لإنقاذ حياته من براثن الموت. نماذج من شعره: قال في الوجديات، وشعره فيها أشبه بشعر البدو: سقاها وحيا تربها وابل القطر ... وإن أصبحت قفراء في مهمه قفر طواها البلى طي الشحيح ردائه ... وليس لما يطوي الجديدان من نشر مرابض آساد ومأوى أراقم ... تجاور في قيعانها الفيل بالجحر يكاد يضل النجم في عرصاتها ... ويزود عن ظلمائها البدر من ذعر لقد فعلت أيدي السواقي بنؤيها ... وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر وقفت بها وحشية الليل وقفة ... أثار شجاها كامن الوجد في صدري ذكرت بها العهد القديم الذي مضى ... ولم يبق منه غير بال من الذكر وعيشا حسبناه من الحسن روضة ... كساها الحيا منه أفانين من زهر

فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى ... إلى أن رأيت الصخر يبكي إلى الصخر وما حيلة المحزون إلا لواعج ... تفيض بها الأحشاء أو عبرة تجري إلى أن قال: وفي القصر بين الظل والماء غادة ... تميس بلا سكر وتنأى بلا كبر تريك عيونا ناطقات صوامتا ... فما شئت من خمر وما شئت من سحر لهوت بها حتى قضى الليل نحبه ... وأدرجه المقدار في كفن الفجر لعمرك ما راحت بلبي صبابة ... ولا نازعتني مهجتي سورة الخمر ولا هاجني وجد ولا رسم منزل ... عفاء ولكن هكذا سنة الشعر ومن كان ذا نفسي كنفسي قريحة ... من الهم لا يعني بوصل ولا هجر كأني ولم أسلخ ثلاثين حجة ... ولم يجر يوما خاطر الشيب في شعري أخو مائة يمشي الهوينى كأنه ... إذا ما مشى في السهل في جبل وعو إذا شاب قلب المرء شاب رجاؤه ... وشاب هواه وهو في ضحوة العمر حييت بآمالي فلما كذبتني ... قنعت فلم أحفل بقل ولا كثر وأصبحت لا أبغي سوى الجرعة التي ... أذوق إذا ما ذقتها راحة القبر وقال في الشيب: ضحكات الشيب في الشعر ... لم تدع في العيش من وطر يا بياض الشيب ما صنعت ... يدك العسراء بالطرر ليت سواد الشباب مضت ... بسواد القلب والبصر هن رسل الموت سانحة ... قبله والموت في الأثر أنت ليل الحادثان وإن ... كنت نور الصبح في النظر فالصبا كل الحياة فإن ... مر مرت غبطة العمر

وقال في الإمام المرحوم "الشيخ محمد عبده": بدأ وقد حفت به هيبة ... كأنما عثمان في برده ما فيه من عيب سوى أنه ... محمد الناس على مجده ما حيلة الحساد في نعمة ... أسبغها الله على عبده وقال يصف القلم: يا يراعي لولا يد لك عندي ... عفت نظمي في وصفك الأشعارا يا يراع الأديب لولاك أصبـ ... ـح حظ الأديب يشكو العثارا غير أني أحنو عليك وإن لم ... تك عونا في النائبات وجارا أنت نعم المعين في الدهر لولا ... أن للدهر همة لا تجارى يتجلى في النفس شمس نهار ... في دجى الليل تبعت الأنوارا1 جمع الله فيك بين نقيضـ ... ـين فكان الظلام منه نهارا فهو حينا نارا تلظى وحينا ... جنة الخلد تنشر الأزهارا وتراه ورقاء تندب شجوا ... وتراه رقطاء تنفث نارا2 وتراه مغنيا إن شد حر ... ك بين الجوانح الأوتارا وتراه مصورا رسم الحسـ ... ن ويغوي برسمه الأبصارا فتخال القرطاس صفحة خد ... وتخال المداد فيه عذارا هو جسر تمشي القلوب عليه ... لتلاقي بين القلوب قرارا صامت يسمع العوالم منه ... أي صوت يناهض الأقدارا فهو كالكهرباء غامضة الكنـ ... ـه وتبدو بين الورى آثارا كم آثار اليراع خطبا كمينا ... وأمات اليراع خطبا مثارا قطرات من بين شقيه سالت ... فأسالت من الدما أنهارا

_ 1 النقس بالكسر المداد -والجمع أنقاس. 2 الورقاء الحمامة -الرقطاء حية خبيثة.

كان غصنًا فصار عودا ولكن ... لم يزل يحمل الأثمارا كان يستمطر السماء فحال الأ ... مر فاستمطر العقول والغرارا يسعد الناس باليراع ويلقي ... ربه منه ذلة وصغارا واشقاء الأديب هل وتر الد ... هر فلا زال طالبا منه ثارا؟ أرفيق المحراث يحيا سعيدا ... ورفيق اليراع يقضي افتقارا ما جنى ذلك الشقاء ولكن ... قد أراد القضاء أمرا فصارا ليس للنصر من جناح إذا لم ... يجد النسر في القضاء مطارا حاسبوه على الذكاء وقالوا ... حسبه صيته البعيد فخارا أوهموه أن الذكاء شراء ... فمضى يسحب الذيول اغترارا يحسب النقد للقصيدة نقدا ... ويرى البيت في القصيدة دارا ليس بدعا من هائم في خيال ... أن يرى كل أصفر دينارا إن بين المداد والحظ عهدا ... وذماما لا يلتوي وجوارا فاللبيب اللبيب من ودع الطر ... س وولى من اليراع فرارا

الشيخ محمد شاكر

الشيخ محمد شاكر: المتوفي سنة "1358-1939": نشأته وحياته 1: هو، "السيد محمد شاكر" بن "أحمد" بن "عبد القادر" من أسرة "أبي علياء" من أشراف الصعيد. ولد بمدينة "جرجا" في منتصف شوال من سنة 1282هـ، الموافق مارس سنة 1866م، وحفظ كتاب الله، ثم رحل إلى القاهرة"، فتعلم بالأزهر. وفي منتصف رجب سنة 1307هـ الموافق 4 من مارس سنة 1890م عين أمينا للفتوى مع مفتي الديار المصرية أستاذه الشيخ "محمد العباسي المهدي"، وفي السابع من شعبان سنة 1311هـ الموافق 13 من فبراير سنة 1984م، ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية، ومكث به أكثر من ست سنين، وقد اطلع خلال الفترة التي قضاها في المحاكم الشرعية على وجوه النقص فيها، وما يتطلب العلاج منها سواء منها ما كان متعلقا بإجراءاتها المعقدة، أو نظمها الملتوية، فوضع تقريرا فيما أوحت به غيرته، وأملته خبرته، ورفعه للأستاذ الإمام "الشيخ محمد عبده"، مفتي الديار المصرية إذ ذاك في أوائل سنة 1899م، وهذا التقرير مصور ضوئيا ومحفوظ بدار الكتب"، ولما طاف الإمام بكثير من محاكم الوجه البحري متفقدا أحوالها دارسا شئونها كان رأيه في الإصلاح متفقا في كثير من الأمر مع ما اهتدى إليه المترجم، ولعل الأستاذ الإمام لاقتناعه بوجاهة نظرة في الإصلاح رأى أن يمهد له ليشغل منصب قاضي قضاة السودان، فاقتنع ولي الأمر بذلك، وأسند إلي هذا المنصب

_ 1 رجعنا في بعض ترجمة إلى مقال نشره الأستاذ "أحمد شاكر" في المقتطف الصادر في أغسطس سنة 1939م.

في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ، الموافق 11 من مارس سنة 1900م. ظل الشيخ "شاكر" في السودان أربعة أعوام يمثل الرئيس الديني الجريء الذي يستمد سلطانه من حاكم مصر الأعلى، وكان معتزا بهذا السلطان يغار على كل مظهر من مظاهره، فقد أعاد تعيين القضاة الشرعيين الذين تسلموا عملهم قبل حضوره، ولم يعترف بتعيينهم من قبل، وبعث لكل منهم بإذن يباشر بمقتضاه عمله الشرعي متضمن إجازة ما أصدر من قبل من الأحكام الشرعية1. ومن اعتزازه بمكانته، وذوده عن حقوق عمله التي يخولها له منصبه شجر خلاف بينه، وبين كاتم السر القضائي في السودان، ولكن الشيخ اقترن موقفه في هذا الخلف باللباقة والكياسة، وبراعة الحجة وقوة المنطق، وتم له النصر في كل نزاع دون أن يثير حنفا على مسلكه، أو موجدة من تصرفه. وفي سنة 1902 قام قاضي محلة "الرباطات" الشرعي بالإجازة من غير أن يستأذن "الشيخ شاكرًا"، فلما علم بذلك كتب إلى كاتم السر القضائي يلفته إلى خطأ ذلك التصرف، وأرسل بالبرق إلى قاضي "الدامر" يأذن له بمباشرة الأحكام الشرعية في محكمة "الرباط" في أثناء غياب قاضيها، ولكن كاتم السر كتب إلى الشيخ شاكر ينبهه إلى أن محكمة العموم التي يرأسها الشيخ بصفته قاضيا القضاة موغلة في التدخل "إداريا" في شئون المحاكم التابعة لها -ولم يكن قاضي القضاة القوي العنيد يغضي على هذه اللفتة، فجرد قلمه ورد عليه ردا يحفظه التاريخ كان في ختامه، وإلى هذا الحد أرجو أن تعيدوا النظر في هذه الملاحظات، وتقدروا موضوعها حق قدره، فإن بقاءها على ما هي عليه يذهب بكثير من الثقة التي هي عماد الاشتراك في المصالح، والتي إن فقد الموظف

_ 1 من مذكرات خطية للشيخ.

شيئا منها، فخير له أن يفقد مركزه ليحتفظ بها، وأنا أول رجل يسخو بمركزه في سبيل الثقة بنفسه1. فقد مكث في السودان رجلا مصلحا يرعى الحدود في تقية، وكرامة، واستحدث به من التشريع ما مست الحاجة إليه حتى كان السودان أسبق حظا في الإصلاح بسبب ما تهيأ له من جهد هذا الرجل الذي بث فيه أفكاره، ونشر في ربوعه هداه، فضلا عما نفح فيه من العلم، وألقى من الموعظة فقد كان يلقي خطبا محكمة يدعو بها إلى الدين والفضيلة، ومما يذكر أنه قرأ للسودانيين صحيح البخاري بأسلوبه العذب، وطريقته الحبيبة. وحين عاد إلى القاهرة كان قد رؤي قبل عودته بعام أن تخضع الإسكندرية للجامع الأزهر في التدريس والامتحان، وكان الجامع "الأنور الإسكندري" موقوفا للتدريس من قبل "الشيخ إبراهيم الباشا" الجد الأعلى للشيخين "محمود الباشا"، و"أحمد الباشا"، وأبى أبناء الواقف أن يتبعوا مجلس إدارة الأزهر في نظامه وإدارته2. وقرر مجلس الأزهر تعيين شيخ لعلماء الإسكندرية غير "الشيخ محمود الباشا" إذ ذاك فكر "الشيخ محمد عبده" المصلح الذي يقول على هذا العمل الجليل، ونثر كنانته، فلم يجد أصلح من "الشيخ شاكر" همة نفس، وكفاية عمل وقوة عزم، "فاختبر رغبته فلقي منها تلبية، وواقفت حكومة السودان على نقله إلى عمله الجديد، ورضي الخديو بتعيينه، وصدر الأمر العالي به في 26 من إبريل سنة 1904"2". صدع الشيخ بالأمر، وتلفت هؤلاء الشيوخ في الإسكندرية، فإذا هم أقل من القليل، ولهذا المعهد فإذا هو صورة ضئيلة متواضعة، إذ ذاك فكر في إيجاد معهد ديني جليل، وبعد أن طاف بمدارس الثغر الوطنية، والأجنبية، ودرس

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص470. 2 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص470.

مناهجها ونظمها، وعكف على إعداد ميزانية هذا المعهد، وأعد العدة لوجوده وعرض الأمر على الخديو "عباس"، فوافق على تفكير الشيخ الذي يتطلب من مال الدولة سبعة آلاف جنيه، واختار جامح "أبي العباس" مكانا للدراسة، وأعلن قبول الطلاب بامتحان يحرر لهم، فأمه النشء من كل صوب، ولم يهل أول العام إلا وعلى مقاعده ثلاث مائة طلب، وكان خلف "أبي العباس" فراغ تابع لمصلحة البحرية، فارتأى الشيخ أن يقيم عليه مساكن للطلاب، وتفضل الخديو بتنفيذ رغبته، كما اتجه إلى إقامة بناء فخم يضم طلبة المعهد، وإدارته فطلب من البلدية قطعة أرض تبلغ 18 ألف متر بجهة "الورديان"، وإذ تقوم في طريق مشروعاته العقبات، وتقف في مجرى إصلاحه السدود يجد من لباقته البارعة، وحيلته الواسعة، وعطف ولي الأمر ما يمضي به إلى النجاح قدما. أذكى الشيخ في هذا المعهد نهضة علمية متوثية، وبث في الطلاب روح الجد والمثابرة، وقام على شئونهم بعزيمة نافذة، وفكر موفق، فألف الطلاب النظام ودرجوا عليه، والأساتذة ضبط المواعيد ورعوا حدودها، وواظبوا على إلقاء الدروس، وتنظيم ساعات العمل، والتقيد بمنهاج مرسوم1. وكان يرفع كل عام تقريرًا عن أعماله لولي الأمر أولا، ولمن يهمهم التعليم الديني ثانيا يعد هذا التقرير بنفسه، ويصوغ بأسلوبه، ويتحدث فيه عن الامتحان والمتقدمين له، والناجحين فيه وبضمته خطبتة التي يلقيها في نهاية العام الدراسي، ويوضح في مناهج الدراسة مما يدل على فهمه، وتمكنه من أساليب التربية والتعليم. من سننه الحميدة في الإسكندرية أنه كان يقيم آخر العام الدراسي حفلا جامعا تمنح فيه الجوائز للناجحين، وكان يوزعها عليهم نائب الخديو، أو رئيس مجلس النظار حثا للطلاب، وتشجيعا لعزائمهم، ويظهر حبه الأدب في إيثاره

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام ج1 ص471.

كتبه وآثاره واختياره أسفاره، وأمهاته جوائز للطلاب فيمنحهم ما يفيدهم في اللغة والأدب، وعلومه كمقدمة ابن خلدون، والمثل السائر، وديوان الحماسة ونهج البلاغة، وتاريخ أبي الفداء، وديوان المتنبي، وفقه اللغة وغيرها. وكان كبار المفكرين، ووجوه الناس في الثغر لصلتهم به، وإعجابهم بنهوضه يهدون الطلاب كتبا ذات قيمة في الأدب والتاريخ كالمرحوم "محمد طلعت حرب باشا" -الذي أهدى إليهم مائة نسخة من كتاب تاريخ دول العرب والإسلام"، "ومحمود بك أبي النصر" أحد كبار المحامين بالإسكندرية إذ ذاك الذي أهدى إليهم تسعين نسخة من كتاب "إرشاد القاصد لابن ساعد الأنصاري". ومما يؤثر أن اللورد "كرومر" المعتمد البريطاني في مصر إذ ذاك كان قد تعرض للإسلام، فآثر الشيخ أن يرد عليه في هذا الحفل الجامع، وكان يومًا ذا خطر عظيم إذ يفد لسماع خطابه الكبراء والعظماء والأعيان، والعلماء فبعد حديث طويل في خطابه اتجه إلى العلماء، وقال: "إن هذا الدين القويم الذي استضاء بنوره أبناء الإنسان منذ أربعة عشر قرنا لا تزال مزاياء القاضلة محجوبة عن أعين كثير من الناس حتى من الذين اقتضت الإدارة الإلهية أن تمزجوا بأهله، إن احتجاب هذه الفضائل الإسلامية عن العيون، وإعراض الكثير من المسلمين عن التمسك بها، وتقاعد العلماء عن التنويه بشأنها، والحث عليها سوغ لرجال نظروا إلى أحوال الأمم الإسلامية الحاضرة، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن حقيقة فضائل الإسلام، وآدابه أن ينسبوا إلى الإسلام عيوب هذا العصر، وأن يعلنوا في مشارق الأرض، ومغاربها أن التعاليم الإسلامية هي التي وقفت تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام1.

_ 1 التقرير الرابع من أعمال مشيخة الإسكندرية، مطبعة الملاجئ العباسية صفحة 20.

وظل الشيخ يعرض أقوال المهاجمين، وينفذ إليها قولا قولا، ويسفهها فكرة فكرة حتى خلب العقول، وأخذ بنواصي الألباب. هذه بعض الجهود التي بذلها الشيخ، وتلك آثاره الجلية في إنشاء هذا المعهد الجليل وسهره على العلم فيه. ولا بأس بالإشارة إلى ما كان بينه وبين الخديو من وثيق الصلة، وثابت الود فقد كان الخديو يجزل له الحب، ويغمره بالثقة الكريمة، ويستشيره في أخطر المسائل، ويقدر رأيه حق قدره، ويحرص على إيثاره بالإجلال والتكريم. ومما يذكرونه في ذلك أن الشيخ اختلف مع "الشيخ محمد بخيب الطيعي"، الذي كان إذ ذاك رئيسا لمحكمة الإسكندرية الشرعية، وكان الشيخ شيخا لمعهدها اختلفا في مناسبة من المناسبات الخاصة بالتشريف الرسمية بأيهما يسبق الآخر في مصافحة الخديو، يقول الشيخ شاكر: أنا نائب شيخ الأزهر، وهو مقدم على جميع العلماء، ويقول الشيخ: بحيث أنا نائب قاضي القضاة، وقاضي القضاة يعين بأمر السلطان، ويحتدم النزاع بين الشيخين، ويعنف الخلف دفاعا عن الكرامة، ويسمع الخديو بحديثهما إذ كان قد نقل إليه، فيتقدم ويفتح الباب بيديه، ويقول: "تقدم يا شيخ شاكر". وفي أواخر سنة 1324هـ ندب للقيام بأعباء مشيخة الأزهر نيابة عن الشيخ "عبد الرحمن الشربيني" شيخ الأزهر إذ ذاك، "فجمع بين ذلك وبين مشيخة المعهد الإسكندري، حتى كان التاسع من ربيع الآخر سنة 1327هـ، الموافق 29 من أبريل سنة 1909م، فصدر الأمر العالي بتعيينه وكيلا للجامع الأزهر، فمضى في طريق إصلاحه بفكر موفق، ورأي مسدد، وهمة لا تعرف الونى أو الفتور. وفي عهد وكالته صدر قانون النظام في الأزهر سنة 1911م الذي قسمت بمقتضاه الدراسة إلى مراحل لكل منها نظام ومواد خاصة، وعهد إليه بتطبيق القانون الجديد، فأنشئ القسم الأولى، وعين شيخا له مع بقائه وكيلا

للجامع الأزهر. وقد قام برحلة إلى الصعيد، وجال في كثير من قراه ومدنه متفقدا الدراسة الدينية في مساجد توطئة لإنشاء معاهد دينية تتبع الأزهر وتخضع له، وقد نفذ ذلك بإنشاء معهدي أسيوط وقنا. ولما شرع قانون الأزهر في سنة 1911م، وأنشئت فيه "هيئة كبار العلماء" كان أحد أعضائها، وظل يرفع صوته مناديا بالإصلاح مدافعا عن الوطن بما خلد في العاملين ذكره. وفي سنة 1913م أنشئت الجمعية التشريعية، وكان قد زهد في المناصب لما يجد فيها من العناء، وما يرتصد له من سعي السعاة وكيدهم، ولم يكن يستطيع أن يطلب إحالته إلى المعاش إذ كان في السابعة والأربعين من عمره، وذلك ما لم يبحه القانون، فاهتيل إنشاء هذه الجمعية فرصة، وحدث "محمد سعيد باشا" ناظر النظار إذ ذاك، وكان صديقا له فعين عضوا بها. ولما اشتعلت الثورة المصرية سنة 1919م، صال فيها وجال ذكاها بقلمه ولسانه، ورأيه حتى إذا وافت سنة 1931م أعرضت عنه الدنيا، ولزم داره لمرض "الفالج" الذي أصابه، وظل ينتظر المنون حتى دعاه مولاه، فلباه في صباح الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 1358هـ، الموافق التاسع والعشرين من يونية سنة 939 غفر الله له، وأكرم في جنته مثواه. وكان رحمه الله وثيق الدين، طيب الخلق، مخلصا في عمله، جريئا في رأيه، كما كان فقيها ضليعا في الفقه وأسراره، واسع الأفق في تفسير كتاب الله مدركا لدقائقه متفطنا لكريم مغزاه متمكنا من الأصول والمنطق والحديث، وله في كل ذلك لفتات دالة على بعد غورة، وصفاء ذهنه. وقد ديج بقلمه الرشيق الدقيق، بحثا ضافيا سماه "القول الفصل" في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وهو مجموعة من مقالاته الممتعة التي نشرها

في الصحف مؤيدًا بها رأيه في هذه المسألة التي كان ينكر على مجيزيها أشد نكير، ويراهم "لولا حسن الظن -فئة من ملاحدة هذا العصر، عصر التجدد والانتقال"، وقد طبع هذا البحث سنة "1343هـ-1925م". كتابته: كتب عدة مقالات في السياسة والعلم والاجتماع، والقانون، فأشرقت على صفحات الصحف، والمجلات كمجلة الأحكام الشرعية التي صدرت أربع سنوات مبتدئه من سنة 1902م، وكان ينقد في هذه المجلة بعض أحكام المحاكم الشرعية، ويوجهها الوجهة الصالحة. وأكثر الصحف التي حفلت بمقالاته، وبحوثه هو صحيفة المقطم، فقد كانت له بها جولات موفقة، وكلمات في السياسة لا تزال ملء الأسماع. وكانت الأقطار العربية تتلقف كتابته، وتستشرف لها حتى قال بعض البغداديين: "فحينما يصل المقطم في البريد نفتح أعداده بلهفة شديدة، وتتصفح مقالاته لعلنا نجد مقالة لحضرة الشيخ مذيلة بإمضائه، فإذا وجدنا ذلك عددنا اليوم من أسعد أيامنا". ومن عجيب أنه يتحدث في شئون السياسة العامة، ويتناول القضية المصرية ويدرس ما يجد من أحداثها، وما يظهر كل يوم من مواقفها وتطورها، فتستشف مما يكتبه روح الخبير الدارس الملم بأطوار الحياة السياسية العارف دقائقها جملة وتفصيلا، فيهدي برأيه، وينير بفكره، ويوجه بعقله، وتراه في كل ذلك كأحد الزعماء السياسيين الذين يخبون في السياسة ويضعون، والذين يحيون في بر السياسة وبحرها، ويقضون فيها صباحهم والمساء. هذا إلى روحه الوطني الغيور، وضميره اليقظ المؤمن الذي تسمع صوته في كل حرف، ويناديك في كل خطرة وهاجسة. وأسلوب الشيخ يمثل الأسلوب الأدبي المصفى من كل تعقيد الذي لا تشوبه

شائبة من التواء أو معاظلة، والذي يطول ويطول، ولكنك لا تعثر فيه على لوثه الجناس التورية، ولا يوافيك منه في قليل، ولا كثير شيء من آثار الصنعة والطلاء. وهو منطقي في أسلوبه، بارع في حجته، يغمرك بالأدلة ويفيض عليك بالبراهين حتى لا يدع إلى الشك مجالا فيما يذهب إليه من رأي، أو ينفذ إليه من غرض. وتجد كتابته الشابة الثائرة كأنما خطها، قلم شاب متحمس جريء، فلا تحفظ ولا خوف ولا تمليق، وهي مع ذلك لا تفوت الرصانة والاتزان. وقد جمعت طائفة قيمة من مقالاته التي رفعها لحضرة صاحب المعالي رئيس الوفد المصري باسم "الشرح التفصيلي لمذكرة الاتفاق"، الذي قدمه الإنجليز للمصريين، وبيان ما تضمنه من الشروط التي تتعارض مع الاستقلال، وقد "أحصى منها ثلاثين شرطا سوى التنصيص على إلغاء الحماية، وسوى مسألة السودان التي هي الجزء الحيوي المتسمم لمصر". كما جمعت طائفة أخرى من مقالاته الممتعة التي سبق نشرها في الصحف، فضمها كتيب بعنوان "من الحماية إلى السيادة"، يقول في مقدمته: "أقدم هذه الكلمات إلى كل عامل في سبيل الاستقلال التام لوادي النيل من منبعه إلى مصبه، بدون أي تدخل أجنبي في شئونه الداخلية والخارجية". واطلعت على تقرير كتبه بخطه الجميل الأنيق سنة 1899م، إذ كان نائبا لمحكمة بنها الشرعية، "حينما كانت مديرية القليوبية"، وقد أودع هذا القرار خلاصة آرائه، ومشاهداته وما يراه من إصلاح شامل في المحاكم واللوائح والنظم، وختم التقرير بفصل ضاف يبين حالة ديار المحاكم الشرعية، وما هي عليه من سوء الإهمال.

نماذج من كتابته: مما كتبه بعنوان "من الخماية إلى السيادة": يقول مكاتب التيمس: -والطريق الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو إيجاد حكومة برلمانية بقدر ما يمكن من السرعة عمليا، ويقول فخامة اللورد في خطابه: أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف، والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم، وإلى الشعب المصري من ذا الذي لا تطربه هذه النغمات، ولا تستهويه رشاقتها؟ ولكن الشعب المصري لا يسره الخروج من هذه الأزمة بالسرعة التي يريدها مكاتب التيمس، فدعونا زمنا ما حتى نتعرف هذا المصير الذي تسوقنا الحوادث إليه، لقد أنكرنا الحماية وعالجناها حتى ألقيناها من عواتقنا، وضحينا في سبيل الخلاص منها ما ضحينا، فليس من السهل، ولا من الميسور أن نستشفي من داء الحماية بداء السيادة، وما ترك أبو الطيب المتنبي في مصر رجلا، ولا امرأة إلا، وقد عرك أذنه حتى أدماها، وهو يعظه بقوله: إذا استشفيت من داء بداء ... فاقتل ما أعلك ما شفاكا لا والله ما كنت أحب لبريطانيا أن تضرب على رءوس المصريين بنا قوس السيادة البريطانية، وهي ترى ماذا يفعل الشرق والشرقيون، وإلى أية غاية يسير ويسيرون، وكان عليها أن تتريث في الاتهام نصيبها من تراث الرجل المريض، حتى تنظر بعيني رأسها إلى موضع أنيابه من أحشاء خصومه وأعدائه. إلى أن يقول: -وها هي الآن قد اضطرت إلى الظهور بما كانت تضمره، وإن كانت لا تزال تحاول كتمانه، وإلى هذه الحقيقة تشير "التيمس"، حيث تقول: -ولا شك أن نتيجة هذا الاتفاق ستقيم علاقاتنا مع القطر المصري على قاعدة جديدة، وستقوى نفوذنا الذي تقلص تقلصا خطيرا بالنظر إلى ما حدث في غضون السنوات الأخيرة من سوء التفاهم، ولقد رفعت المسألة برمتها إلى مستوى أسمى من ذلك المستوى الذي تدلت إليه من خلال المفاوضات التي دارت بين الحكومة الإنكليزية، وبين ممثلين مختلفين من قبل

مصر -وحسبنا في هذا الموقف الدقيق أن نتمثل بقول الشاعر العربي: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فلنصبر ولننتظر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ومما كتبه للرد على مبيحي ترجمة القرآن الكريم وحدثونا أيها القوم بما تعملون، لماذا نجد من بين الدعاة إلى تعميم نشر الترجمة الإنجليزية للقرآن الكريم في مختلف الجهات من أقاموا السنين الطوال، وهم ينشرون دعوتهم هذه مستعينين بكبار المتضلعين من اللغتين العربية والإنجليزية. ولا يزال هؤلاء على طول عهدهم بالإسلام يؤدون الصلاة المفروضة بالقرآن الإنكليزي الذي يلحون في الدعوة إلى تعميم نشره، ولو شاءوا لتعلموا من القرآن العربي المبين ما لا تصلح الصلاة بدونه، وهو لا يتجاوز فاتحة الكتاب، وأقصر سورة من سوره كما تعلموا من اللغة العربية العامية ما ليس لهم من تعلمه بد في مختلف الأحاديث، فهؤلاء وأمثالهم يعتبرون من القادرين على القراءة بالعربية لا من العاجزين عنها، فإن الامتناع عن التعلم لا يسمى عجزا. ولذلك فإنا نحكم حكما قاطعا ببطلان كل صلاة صلوها بهذا القرآن الإنكليزي، وهم قادرون على تعلم ما لا تصح الصلاة بدونه من القرآن بنظمه العربي. لا خلاف بين الأئمة المجتهدين في بطلان القرآن بغير العربية، وهم قادرون على أن يتعلموا منه بالعربية ما لا تصح الصلاة بدونه. الله يشهد أننا فيما كتبنا لم نذهب إلى أن "نضيق على الناس سبيل تفهم أصول الدين"، كما يقولون، وكان حقا عليهم أن يعرفوا ما بين الترجمة والتفسير من الفروق المعقولة حتى يعلموا أن أئمة الإسلام الذين أجمعوا على تحريم ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية، لم يختلفوا في جواز تفسيره اللغات الأعجمية، كما أجازوا تفسيره باللغة العربية. تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث.

فهرست الجزء الثاني

فهرست الجزء الثاني: صفحة الموضوع 3 الخطابة في العصر الحاضر 6 الأزهر والخطابة 8 الأزهر والخطابة السياسية 14 الأزهر والخطابة الدينية 16 الأزهر والخطابة القضائية 18 أشهر الخطباء السياسيين بالأزهر 18 السيد عبد الله نديم 49 سعد زغلول 76 أشهر الخطباء الدينيين من الأزهر 76 الشيخ محمد مصطفى المراغي 88 أشهر الخطباء القضائيين من الأزهر 88 إبراهيم الهلباوي بك 99 الكتابة في هذا العصر 99 الكتابة الديوانية 100 الأزهر ولغة الدواوين 102 كتابة التأليف 103 الكتابة الفنية 106 الأزهر والنشر 108 الشيخ عبد الرحمن الجبرتي 116 عبد الله فكري "باشا"

صفحة الموضوع 126 الشيخ محمد عبده 146 الشيخ عبد الكريم سلمان 152 الشيخ عبد المجيد الشرنوبي 164 المنفلوطي 255 الشيخ محمد شاكر

المجلد الثالث

المجلد الثالث تابع الأزهر والنشر الشيخ عبد العزيز البشري ... الشيخ عبد العزيز البشري: المتوفى سنة "1362-1943": نشأته وحياته: الشيخ "عبد العزيز" بن الأستاذ الأكبر المرحوم "سليم البشري"، الذي ظل شيخا للأزهر مدة من الزمان، وكان من المتبحرين في فقه المالكية، وكان إخوة الشيخ عبد العزيز "علماء وطلابا في الأزهر، فاقتضت هذه البيئة الأزهرية العلمية التي تنشأ في ظلالها أن يتجه متجهها، وأن يكون أحد طلاب الأزهر فألحق به في بواكير حياته، بعد أن قضى فترة في المكتب ألم فيها بمبادئ القراءة والكتابة وأتم القرآن حفظًا، وظل يوالي دراسته في الأزهر حتى نال شهادة العالمية، ولم يكد يحصل عليها حتى طلبته وزارة المعارف، وجعلته محررا فنيا بها لما ذاع من أدبه وطار من شهرته، ثم ولي القضاء الشرعي حينا من الدهر1، واختبر في مناصب أخرى حتى أصبح وكيلا لإدارة المطبوعات، فسكرتيرا برلمانيا لوزير المعارف، ثم عين رئيس تحرير لمجلة المجمع اللغوي الملكي، وكان المرحوم "محمد جاد المولى بك" مراقبا إداريا للمجمع، فلما نقل الثاني إلى وزارة المعارف عين "البشري" بدلًا منه، وظل بهذا العمل حتى استأثر الله به في صباح الخميس الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1943م. صفاته ومواهبه: وقد نشأ رحمه الله مجبولا على حب الأدب نهما في الاطلاع، عكوفا على

_ 1 وإذ كان قاضيا بمحكمة "إمبابة" الشرعية ندب لتدريس الأدب في الأزهر، وكان يفد إلى درسه طلبة دار العلوم من أمثال الأستاذ "صالح هاشم"، والأستاذ "عبد الوهاب حمودة"، وغيرهما.

البيان العربي يروي نفسه من روائعه، ويستظهر من غرره، وقد سمعت من أهله وخلصائه الذين اندسست فيهم للوقوف على ما خفي من سيرته، فرووا أنه عكف ليلة على كتاب الأغاني لأبي الفرج، وكان من عشاقه المتوفرين على قراءته فظل مستغرقا في الاطلاع يضيء له مصباح نفط، ولم يرعه إلا أن والدته دخلت عليه، وقالت له: "أطفئ المصباح إذ لا حاجة لك به فقد طلعت الشمس". وكان من فنونه بالأدب أن عزف به في كثير من الأحيان عن الدروس في الأزهر أيام الطلب، وشغف بالتفرغ للكتابة الأدبية يروي بها ظمأه، وأقبل على الصحف الأدبية يكتب لها، وهو حدث كما افتتن في صباه بحب الفن وأغرم بأهله، رويت عن أحد خلطائه الأدباء أنه لم يفته مجلس من مجالس الطرب التي كان يقيمها المطربون في شبابه من أمثال: "عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وغيرهم"، ومع أنه من هذه البيئة الدينية التي يلزمها مجانبة اللهو واللعب كان يحتال برشوة يقدمها للخدم للخلاص من القيود، فلا يزال يجول في القاهرة، ويتحسس مواقع السمر ومواطن الطرب حتى يعود مع الفجر، وقد أثر في نفسه طول ما غنمه من أوقات اللذة والسرور، وما استمتع به من الفن والتطريب، فزاد في إحساسه وهذب مشاعره، على ما نشأ عليه من رقة النفس وإرهاف الحس. وكان البشري حاد الذكاء، حاضر البديهة، صفي الذهن، لماح الخاطر ذواقا إلى أبعد الحدود، قوي الحس إلى درجة ناردة حقا لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما يخالطه مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منه1. وكان سريع التأثر أيضا حتى لقد عرف بذلك بين أصدقائه، فكانوا يتقون مواطن تأثره، ويحسبون لها حسابا، وإذا تأثرا بشيء لم يكد يطيق

_ 1 الدكتور طه حسين في مقدمة المختار الجزء الأول.

احتماله بل يتبرم بكتمانه، ويسعى لأحبابه وخلانه فيلقي به إليهم، ويعالنهم بما ضاق به فإذا هم صفحة من نفسه، وقسيم في شعوره وحسه. ومما امتاز به حلاوة فكاهته، وحسن محاضرته وسعة اطلاعه على المجتمع وأخلاق الناس وأحوالهم، وإلمامه بأسرار الجيل التي واتته من طول المداخلة وحسن المخالطة حتى إذا حدث في هذا المقام، كان خبيرا بما يقول. وقد عنى عناية خاصة واحتفل احتفالا بالغا "بكتاب الأغاني"، فقلب فيه النظر وأدمن الاطلاع عليه، وتروى كثيرا من أدب الجاحظ، وتردد على مطالعته وجرد له جانبا من وقته، وكان الاطلاع على "الأغاني" وكتب "الجاحظ" حبيبا إلى نفسه متسقا مع هواه، ترم "أبا الفرج" "وأبا عثمان"، وتأثر بهما وانطبع على طريقتها وتحدث بلغتهما، وخاصة "الجاحظ" الذي يحيل عليه في كثير من المواطن، ويشير إلى الأخذ عنه والتهدي إليه، ويصرح في مطالع ما كتبه "في البخل" بأنه قرأ كتاب البخلاء "للإمام الجاحظ" أكثر من مرة، ويذكر حين يتحدث عن المداعبات، والأفاكيه بأنه قرأ للإمام "الجاحظ" شيئا في هذا المعنى، وحين يصور الشيخ "التفتازاني" في المرآة يقول: "أنه لو نجم في عهد "الجاحظ"، أو اطلع عليه "كارليل" لخصت به الرسل، وأفردت له الأسفار، ولكن أنى لنا جزالة قلم "الجاحظ" أو دقة ذهن كارليل، لنقول في الشيخ كل ما ينبغي أن يقال فيه1". وإذ يتحدث في تمهيده للكتابة في المرآة عن النكتة يقول: "وللإمام الجاحظ" في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه البخلاء". وممن تأثر بهم "البشري" في طريقتهم وأولع بأدبهم، وأسلوبهم "المويلحي الكبير"، فقد كان ينهج في رسائله "في المرآة" نهجه في تحليل الشخصيات دون

_ 1 في المرآة ص121.

خدش في الأعراض أو إسفاف في الأداء1". ولم يكن ذلك وحده هو ما تأثر به من "المويلحي"، فقد كان منذ شب على الكتابة يكتب إلى صحيفته الأدبية "مصباح الشرق"، ويكلف بالمصباح الذي أصبح في الأدب العربي فتحا جديدا، وأمسى مصباحا حقا يهتدي المتأدبون بسناه، بل صار أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد، بل إن "البشري" يدل صراحة على أنه اهتدى بالمصباح في نشأته الأدبية، فيقول: "لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان مصباح الشرق عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي، وبهذا كنت شديد الإكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه، وطرائف عبارته حتى لقد كنت أشعر بأنني أترشفهما ترشفا لتدور في أعراقي، وتخالط دمي وتطبع على هذا اللون من البيان الجزل السهل النافد الطريف2. "والبشري" نظم الشعر في شبابه، وكثيرا ما نظمه في هجاء المرحوم الشيخ "علي يوسف"، ونشره في جريده "الظاهر"، ولكن شعره قليل على جودته، وقد استأثرت الكتابة بعبقريته، فلم تدع للشعر مجالا في نفسه، حتى إذ توفي صديقه المرحوم "حلمي المنشاوي" الطبيب، وهو غض الشباب جرت عاطفته بشعر نشرته "الرسالة" في حينه. أسلوب البشري: اتسم أدب البشري بالجزالة والفصاحة التي ترجع بالكتابة إلى العصر

_ 1 المويلحي الكبير هو "إبراهيم بك المويلحي" الأديب الكاتب كان من أول من اهتدوا في هذه النهضة إلى الأدب العربي القديم، وفتنوا بروعته وسحر بيانه ترسم الجاحظ في أسلوبه، وامتاز بجزالة اللفظ، ودقة الوصف وجمال العبارة وتوفى سنة 1906. والمويلحي الصغير هو ولده الكاتب العالم "محمد بك المويلحي" صاحب حديث عيسى بن هشام توفي سنة 1930. 2 المختار ج1 ص296.

العباسي الأول، وتجلت في أسلوبه كثرة الترادف والآن دواع وتكرار المعنى في كثير من صوره، وفي أسلوبه كثير من السجع، ولكنه مقبول لا يعل سماعه ومن لا يستكره ترديده، على أنه يوافيك بثروة لغوية خصبة ليس لها أثر من التوعر تواتت له من غزارة مادته، وسعة إطلاعه وكثرة ما رواه من البيان العربي وأساليب القدماء، وقد ظهر في أدبه دقة الوصف، وإيفاؤه حقه ولا سيما حين يصف الأشخاص، كما يظهر للمطلع على مقالاته التي كتبه في "المرآة"، وقد تأثر فيها بأساليب الغرب في تحليل الشخصية، والإفاضة في وصف الأشخاص والتسلل إلى مداخلهم النفسية فضلا عن أوصافهم الظاهرية. وإنه ليروعك من "البشري" تفطنه إلى عادات الناس وأخلاقهم، وشذوذهم وخواصهم البعيدة التي لا يلتفت إليها إلا الذواقون من الأدباء المرهفون حسا، حتى إنه ليعرف الشخص فيرسم له صورة دقيقة منعطفا فيها إلى سماته الخلقية والخلقية بما يعز اكتناهه على أحد، وهو يجرد قلمه الرشيق، فيصور به كل خاطرة تخطر أو حادثة تقع، أو فكرة تملك عليه نفسه. ولقد أتيح له من مخالطة العظماء، ومصادفة الكبراء وغشيانه كل مجلس وناد واقتحامه ميادين المختلفة من سياسية، واجتماعية أن يلم بمظاهر الحياة فيها، وأن يقف على كثير من صورها. وكثيرًا ما يتمثل بالشعر العربي الرصين في كتابته حتى ليستفتح بالشعر أحيانا كتابته. وما من شك في أن أسلوب "البشري" كان متشددا في السجع، واستعمال الكلمات العربية الغريبة، وإن كان ذلك عن طبع منه لا أثر للتكلف والقصد فيه لكنه حينما طلبت إليه الصحف أن يكتب لها، والإذاعة أن يلقي بها أحاديث للناس ألان حينئذ أسلوبه، وطوع بيانه، وقصد أن يزيد وضوحه

وإشراقه ليلائم الغرض، ويشاكل القصد وينتفع بأدبه خاصة الناس وعامتهم، وإذ ذاك خلف غريبه وقل سجعه، وكان أنصع ديباجة وأوضح تعبيرًا. وكان من الأسباب التي ألانت قلمه وزادت أسلوبه سهولة ونصاعة، وجعلته لمشايعة الحياة أكثر قربا ما تكاثر عليه من مطالب الوزراء والكبراء الذين يريدون أن يخطبوا، أو يكتبوا في مناسبات اجتماعية رسمية تتطلب التجويد الذي لا يسمح وقتهم -على الأقل- به فاضطره ذلك إلى أن يجاري بقلمه ما يتسق مع الطابع العصري السمح، وما يوائم الخطيب أو الكاتب من السهولة والإشراق. وأسلوب "البشري" قريب من كل روح مداخل لكل نفس يجد كل فيه غداءه الروحي، ومتعته السائغة. وهو يوائم فيما يكتب بين الكلمة العربية الرصينة، والكلمة الأوروبية المستلزمة والعامية الشائعة على ألسنة العوام إذا اقتضت النكتة سوقها، على أنك تجد الائتلاف، والالتئام بين هذه الكلمات سواء تقاربت أم تلاحقت. "وأخص ما يمتاز به أدب "عبد العزيز" إنه حلو سمح خفيف الروح لا يجد قارئه مشقة في قراءته، ولا جهدا في فهمه، ولا عناء في تذوقه وتمثله1". النكتة من مظاهره: كانت النكتة البارعة من الأمور التي جبل "البشري" عليها، وشغف حبابها ولم يكن يستطيع مغالبتها فهي تقهره، وتدفعه إلى المفاكهة بها دفعا، وقد اشتهر بها عند الناس حتى لا يلقونه إلا وهم يترقبون تنادره، ومطايبته بها ويفجؤه بها الخبثاء، فلا يعجز عن نكتة تقع موقع الارتياح والعجب، وتكون أبلغ من غيرهما جمالا وروعة.

_ 1 الدكتور طه حسين بك في مقدمة المختار ج2.

يخلع جبته ليتوضأ ويضعها على المشجب1، فيرسم أحد الظرفاء عليها وجه حمار، ويزعم أصحابه أن "البشري" يرتج عليه من هذه المفاجأة، فما أن يقع بصره على الجبة حتى يقول: "من منكم مسح بالجبة وجهة؟ "، وهكذا لا يعيا بنكتة، ولا يغيض معينها في حادثة. ولم يعرف أنه اغتاظ لنكتة، وما استغضبه إلا ما وقع بين بائعي الأكفان وبينه في طريقه إلى داره، فقد كان يمر كل يوم بعمال "محل الأكفال" الذين يقول الشيخ فيهم: "وجزت بهم مصبح يوم وعيناي تنضحان بالدمع من أثر رمد فأتلعوا إلى أعناقهم، ورأيت البشر يشيع في وجوههم، وسرعان ما تحركوا جذين للقائي، وهم يدعون الله في أنفسهم أن يجعل استفتاحي "لبنا"، فصحت فيهم استريحوا يا أولاد الـ ... فما بي والله بكاء ولكنه الرمد، وكلنا والحمد لله بخير وعافية، وقطع الله أرزاقكم، ولا أدخل عليكم النعمة أبدًا2. وتراه يلبي داعي النكتة، ويرسلها في غير تحرج في شتى المواقف ومختلف المناسبات، ولا يكتمها مهما كلفته من ثمن، أو حملته من تبعة. كان "علي باشا إبراهيم" قادما من الإسكندرية بالطريق الصحراوي في سيارته ليحضر مجلس الجامعة المصرية الذي كان رئيسه إذ ذاك، وكان "البشري" معه في سيارته، وقد بقي على انقعاد المجلس زمن قصير ذهب به توقف السيارة مرات متعددة لإصلاح خلل في "سلوكها"، أو ترميم في "سيرها"، وبينما الرجل مغيظ محنق من التوقف، والتأخير إذا "بالبشري" يغادر السيارة، ويقول له: "لن أركب معك بعد اليوم إلا إذا قدمت لي شهادة بحسن "السير والسلوك"، فيذهب غيظ الرجل، ويستلق من الضحك.

_ 1 المشجب خشبات منصوبة توضع عليها الثياب. 2 المختار ج2 ص256.

دخل مأتمًا ليعزي أحد الناس في أحد بنيه، فصفع سمعه صوت القارئ، وكان منكرا مزعجا، وقد أشيع حينئذ أن "الإذاعة" تختار أردأ الفقهاء لإذاعة القرآن وكان بمجلس العزاء طائفة من الكبراء، والعظماء بينهم مدير الإذاعة، فخف الشيخ على مرأى ومسمع من هؤلاء إلى رئيس الأسرة المعزى، وجعل يستحلفه بالله أن "يتوه" هذا الفقيه عقب التلاوة مباشرة حتى لا يأخذ عنوانه مدير الإذاعة ويرمي الناس به، فقد لبى داعي النكتة دون حرج من موقف العزاء: والعجيب من أمر "البشري" أنه يرسل النكتة تضحك الثكلى، وهو عابس ليس به أثر من الضحك أو المداعبة، فكان مجلسه نادرة من طربه ومرحه، وكان كبراء الناس يتشهون حديثه لما فيه من خفة الروح وحلاوة الدعابة، وروعة النكتة. النكتة في أدبه: ولم تكن النكتة لتشيع في حديثه فحسب، ولكنها تنضر أدبه الذي يكتبه أو يلقيه في الإذاعة، أو ينشره في الصحف، وخاصة ما كان ينشره في "المرآة"، فإنه ميدان فسيح لنكاته الأدبية الرائعة، وطالما وضع النكتة مع صورة من يتحدث عنه كأنما هي عنوان الموضوع، كأن يكتب تحت صورة "حافظ رمضان باشا" المتخيلة التي رسم في أعلاها وجه "مصطفى كامل باشا" "ومحمد فريد" "وجه مصطفى كامل"، ووجه فريد كلاهما لازم لوقت الشعل فقط، كما يكتب تحت صورة "إبراهيم وجيه باشا" الذي كان وزيرا للخارجية معروفا بالمبالغة في الأناقة والعناية بالمظهر، على مفوضينا وقناصلنا، في جميع أقطار العالم موافاتنا "تلغرافيا" بآخر "مودة"، وكما يصور المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ "أبا الفضل الجيزاوي"، ويكتب تحت صورته "الحمد لله لم يبق لي إلا مائة ألف جنيه و 5000 سهم بنك عقاري قديم حتى أنقطع

إلى عبادة الله والزهد في الدنيا1. وكما يصور "أبا نافع باشا" عمدة "سان استيفانو" بصورة ضخمة، وأمامه حماره الصغير مذعورا، ويكتب تحتهما "لا تخف فإني والله مخيف". ولعل أحفل ما كتبه بالنكتة الأدبية هو موضوع "في الطيارة" يتحدث عن ساقة السيارة، فيقول: "وإني لأسأل الرجل منهم أن يتريث فلا يسمع، وإذا فعل طوعا لرجائي أو لزجري فلثانية أو اثنتين، ثم عاد أجري وأسرع مما كان، وإني لأقول: "يا سيدي لست مستعجلا أمرا، والله ما أنا ذاهب لاطفاء حريق، ولا لإنقاذ غريق صدقني والله ما أنا ماض لقيادة الجيش في المعركة الحاسمة، ولا أنا مدعو لتأليف الوزارة، ولا لشراء "النمرة" الرابحة في سباق الدربي كل هذا ولا حياة لمن تنادي، حتى يقول حين أفزعه ركوب الطائرة: "تعودت إذا ركبت القطار أو السيارة أن أقرأ حزب البر، فإذا علوت السفين قرأت حزب البحر فمن لي اليوم بحزب الهواء"؟ ويتحدث في موضوع آخر عن الثقلاء الذين يزعجون الناس، فيقول: "يراك منهمكا والدهن يسيل من يديك كلتيهما، فيمد يده بورقة "اليانصيب" حتى تحول بينك وبين طعامك، وحتى تكاد أصبعه تفقأ العين آدي اللي فضلت، السحب النهارده، اللي تكسب متين جنيه". ويحدثك عن شاب أنيق الملبس التقى معه، فيقول: قال لي: "يا عم كم الساعة

_ 1 تنصل "البشري" في مقدمة "المرأة" مما كتب عن المغفور الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في مقالات، وادعى أنه من قلم أديب آخر، وهذا التنصل إنما هو رعاية للصلة الأزهرية بينه وبين الشيخ وبين الشيخ ووالده، ولكن ذلك لا يغني من نسبة المقال له شيئا، وإلا فما الذي حمله على أن يثبت في كتابه حديثا لغيره، وفيه تجريح لرجل ذي مقام عظيم على البشري أن يقدره ويجله؟ على أن المقال مطبوع بطابع البشري موسوم بسمة أسلوبه ناطق بأنه له، وإن تبرأ منه.

الآن؟ فطالعت ساعتي، وقلت له الساعة اثنتان وسبع دقائق، فحسر كمه الأيسر فانكشف عن ساعة يد ذهبية، ونظر فيها وقال: لا. لا. ساعتك مؤخرة أربع دقائق، ثم خلى بيني وبينه الطريق وانطلق لطيته، وبعد أن أجلت ظني في شأنه أدركت أنه ربما كان مفتش عموم الساعات". وهكذا يفيض أدبه بروائع النكت الطريفة التي تهتز لها النفوس، وتطرب لها الأسماع "فالبشري" لا يجاريه أحد في صوغ النكتة الرائعة، "وهو أكثر الكتاب المحدثين اصطناعا للنكتة البلدية يصطنعها بلغته العامة في غير تكلف، ولا تحفظ ولا احتياط، يأخذها من حي السيدة زينب، أو من حي باب الشعرية، فيضعها في وسط الكلام الرائع الذي يمكن أن يقاس إلى أروع ما كتب أهل القرن الرابع والثالث للهجرة، فإذا النكتة البلدية العامية مستقيمة في مكانها، ومطمئنة في موضعها لا تحس قلقا، ولا نبوا ولا يحس قائلها قلقا ولا نبوا، ولكنها تفجؤ القارئ فتعجبه، وتملأ نفسه رضى، ثم هو يحس أن الكلام ما كان ليستقيم لولا أن هذه النكتة قد جاءت في هذا الموضع، واستقرت في هذا المكان1. وقد اضطر "البشري" أن يسوق النكتة باللغة العامية الخالصة إذا أراد أن يجلو على القارئ صورة كاملة من حيث قوم في مناقلاتهم، ومناوراتهم، وما تطارحوا من فنون الكلام، إذ يقتضي الحديث أن يورد كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، وإلا لو أدى بفصيح اللغة فسد الغرض، واختل نظام الكلام2. ولأن النكتة إذا سبكت في العربية الخالصة، فقد ينضب ماؤها ويحول بهاؤها3.

_ 1 من كلام الدكتور طه حسين في الجزء الثاني من المختار. 2 من كلام البشري في مقدمة "في المرآة". 3 البشري في المختار ج2 ص120 من حديثه عن النكتة.

هذا هو الذي حدا بالبشري أن يسوق النكته بالعامية، ولم يكن الدافع له عجزه عن العربية الفصيحة، وهو أبو عذرتها وابن بجدتها، وهو أحد الذين ردوا إلى الأدب العربي في النهضة الحاضرة قوته وجزالته، وكان على جانب عظيم من معرفة اللغة العربية والتضلع فيها، حتى ليفيض أدبه بثروة لغوية خصبة، ويقتدر على التعبير عن كل ما يريد بأفصح لغة، وأبلغ تعبير. آثاره الأدبية: المختار: هو مجموع ما نشره في الصحف وما حاضر به وألقاه في الإذاعة مما أبدعه أسلوبه وافتن فيه بقلمه، فكان آية في إشراق الأدب وغزارة البيان، وفصاحة العبارة، وسعة الأفق، ضم هذا الكتاب صورًا من الأدب الرفيع يعزر رسمها على غير يراعه والحق أن "المختار" كما يقول الأستاذ "خليل مطران بك" في مقدمته للجزء الأول: متحف حافل بالمفاخر، وكل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر ورية. أما الجزء الثاني فقد كتب في مقدمته عميد الأدب الدكتور طه حسين بقلمه الرشيق، وأدبه العذب فزاد في بهائه وأعلى من مكانته، والجزءان مطبوعان طبعا مصقولا مهذبا. في المرآة: يضم هذا الكتاب ما اختاره "البشري" مما كان ينشره في مجلة السياسة الأسبوعية مع جمهرة أخرى من القطع الأدبية الساحرة التي دبجها قلمه المبدع، والكتاب يتضمن صورا دقيقة لعظماء مصر، وكبرائها وساستها وعيونها، رسمها بريشته التي يعيا المصور عن توضيحها كما أوضح وانطاقها كما أنطق، فقد تدسس على جميع ما يختص بهؤلاء الناس، فوصف نفوسهم وطباعهم، وشرح

أخلاقهم وعاداتهم، وتفطن إلى مواطن الشذوذ فيهم، واكتنه ما خفي من أمورهم حتى على المتصلين بهم، فكان نفاذا في وصفه بارعًا في تصويره، ولم يدع شيئا مما يتصل بهم، وبخلقهم وخلقهم إلا وقد أنطقه، وجلاه بأوضح بيان كل ذلك بأسلوب مرح خلاب، وعبارة جزلة فصيحة، وبيان مشرق منطلق، ونكتة أخاذة تثير العجب والطرب. وقد كان لما يكتبه "البشري" في هذه "المرائي" أكبر الأثر في نفوس الناس، وكانوا ينتظرونها، ويخشى كل عظيم أن يكون في مرآته، وإذ يكتب عن كبير أو ذي شأن، فإنما يمنحه الرفعة ونباهة الشأن، أو ينزل به إلى مكان سحيق ويدعه مضغة الأفواه، وحديث الألسن. وقد وضع لكل شخص يتحدث عنه في هذا الكتاب صورة متخيلة، ولا يخلو الحديث عن واحد من الذين تناولهم في المرآة من نكتة بارعة يلصقها به، فتسير وتذيع وتتناقلها الأفواه. وقد نسج على منواله كثير من الأدباء، فكتبوا مرائي مختلفة نهجوا فيها نهجه في التحليل، ولكن شتان بين ما كتبوا وما كتب. كتاب التربية الوطنية: وللبشري كتاب في التربية الوطنية تناول فيه موضوعات مختلفة تتصل بالوطن وشئونه والتربية وفنونها، وأسلوبه في هذا الكتاب ناصع يبين الموضوع في وضوح وسلاسة. آثار أخرى: واشترك بتكليف من وزارة المعارف في تأليف كتاب "المفصل في تاريخ الأدب العربي"، وهو جزءان و"المنتخب من أدب العرب"، وهو جزءان أيضا"، والمجمل في الأدب العربي" لطلبة المدارس الثانوية، أسهم في هذه الآثار الأدبية، وهي ذات قيمة وأثر ملموس لما نشرته من الأدب في تحقيق دقيق صيغ بأسلوب سهل فصيح.

وللبشري أيضا كتاب "القطوف"، وهو مجموع مقالاته التي نشرها في الصحف، وألقاها في الإذاعة مما لم يطبع قبل، والقطوف لا يزال غير مطبوع. نماذج من أدبه: مما أذاعه عن "الراديو" المذياع كما يصفه أعرابي قادم من البادية. وأقل على صاحبي يعرف لي الرجل قال: إنه من إحدى بوادي نجد، وهو يتنخس في الدواب1 على أنه لم تهيأ له رؤية الحضر من قبل بل لقد كان يرسل على إبله وخيله إلى مصر، وغير مصر ولده وبعض معشره، ثم بدا له أن يفد معهم هذا العام ليشهد عيش الحضر قبل أن يدركه الأجل، ووافق مقدمه حاجتي إلى بعض الجياد، وسألته أن يقيم عندي ما أقام في مصر لما رأيت من ظرفه، وخفة روحه، ولطف حديثه، وحسن بديهته. ولقد بعثت "الراديو" ذات عشية في حضرته فارتاع رشده، وذهب الرعب بلبه كل مذهب، ثم اطمأن صاحبي فترة قصيرة، وقال: وعلى الشيخ عدلان أن يقص بقبة الحديث، والتفت إلي الرجل وسأله أن يتكلم فتعذر، وتمنع فعزم عليه ألا تكلم، فأكرم الضيف وأومأ إلي. تنحنح الرجل وسعل سعالا رقيقا، ثم أنشأ يتحدث في لهجة بدوية كثيرا ما كان يلتوي علي فيها اللفظ، فيسويه لي بعض من حضر. سيداتي سادتي: الآن أنقل إليكم حديث ذلكم الأعرابي بعد أن علقته، وقيدته بقدر ما واتاني الجهد، فإن كنت قد عالجته بعض العلاج ففي شيء من الصياغة بتقويم

_ 1 يتنخس في الدواب يتاجر فيها.

ما لا يستقيم في آذاننا من لهجة أولئكم الأعراب قال: دعاني صاحبك ذات عشية إلى أن أصعد إليه، فلما استوينا في مجلسنا من إحدى الغرف أومأ إلى ركنها، فحولت بصري فإذا دمية1 من خشب بتر ساقاها، فأقعدوها على منضدة لها أنف صغير، ولها أذنان دقيقتان وقد توسط ما دون الجبين عين لها واعجباه -واحدة تمزقت حدقتها فتناثرت في بياضها تناثر أكارع النمل على صفحة الرمل، ولها فم -يا حفيظ- قد استهلك نصف وجهها مشجوه بديباجة من حرير، وليتهم سدوا عليه مسامير من حديد، وما أحسب والله هذه الدمية إلا صنعت على صورة الجن لم تطبع على صورة إنسان. ثم قامت صاحبك إليها فحرك أذنها، وسرعان ما أحمدت حدقتها فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم سمعت لها حسيسًا2 ما لبث أن استحال زمزمة3 وهمهمة4، فخلت والله أن الأرض قد زلزلت علي وأحسست قلبي يتمشى من الروع في صدري حتى يصك حنجرتي، فجمعت ثوبي للهرب، فجذب صاحبك فضل ردائي ولو قد أطلقني ما أصبت المهرب، فلقد تخاذلت عني ساقاي، وأظلم ما بيني وبين وجه الطريق، وجعلت ألتمس آية الكرسي أستعصم بها من هذا الشيطان، فأذهبها الرعب عني، وكأني لم أحفظ منها في دهري الأطول إلا كلمة واحدة، ولما رأى صاحبي ما بي قال لي: خفض عليك يا شيخ، فقلت: وهذا العفريت -قال: لن ينالك منه مكروه إن شاء الله، فقلد قيدوا ساقه وشدوا وثاقه، فما يجد له من أساره فكاكا، ولا يستطيع في محبسه حراكًا، قلت-: أفيسجن سليمان المردة في قماقم نحاس أو من ذهب، وأنتم لا تبالون أن تسجنوها في جماجم من خشب؟

_ 1 الدمية بضم الدال وسكون الميم -الصورة المزينة، والمراد بها هنا تمثال. 2 الحسيس -الصوت الخفي. 3 زمزمة هي ضجيج الرعد، وصوت النار في الوقود. 4 همهمة -بفتح الهائين مصدر همهم الرعد سمع له دوي.

طرب: ومما كتبه بهذا المعنى: غنانا "صالح" ولست أدري أكانا مغنيا يرسل الصوت فيقع حقا في الآذان، أم ساحرا يتلعب بألبابنا، فيخيل إلينا أنا في الجنان، نتمايل على النسيم بين الآس والريحان، ونسمع من شدو القماري على أيكها أبدع الأنغام وأروع الألحان. حدثني يا فتى -أي روض جاز به صوتك قبل أن يبلغني، وكم نسمة اختلطت به مما نفث فيه صب مشوق، وحمل عاشق من زفرات كبده إلى معشوق، حتى أخذ فينا كل هذا الأخذ، وفعل بقلوبنا كل هاتيك الأفاعيل. آه -وفي آه لذة وألم، وفيها برء وسقم، وفي آه راحة وهناء، وفيها يأس وفيها رجاء. أشاكر أنا أم شاك، وضاحك أنا أم باك، وراض أم غضبان، وسال أم ولهان وناعم أم بائس، وراج أم آيس؟ قد غرني أمري فسلوا صوته ونبئون. يا ليل وما عساك تبغي من الليل؟ لقد نام الخليون، هنيئا لهم، وأمعنوا في المنام. نعم، إن فيك يا ليل عيونا تسيل بالدم شئونا، وإن فيك يا ليل جراحات تفيض بالدمع عيونها، وكم فيك يا ليل من فؤاد تحلل نسما، وكم فيك يا ليل من أكباد تطايرت حسما، هذا عان يشكوا بثه وحزنه وأساه، وهذا صب يبثك وجده وجواه، وهذا مشدوه لا يتخذ الرفيق إلا من بين كواكبك، ونجومك وتلك والهة لا تجد الأنس إلا في وحشتك ووجومك.

إن تحت الضلوع عواطف تئن من طول احتباسها، أطلقها "يا ليل" تمزج أنفاسك بأنفاسها، أطقلها تملك الجو عليك طربا وشدوا، وتملأ هذا الهواء تحنانا وشجوا، ففي العواطف بلبل وكنار، وفيها يا ليل فاخت وهزار، أطلقها بالله يا ليل لتغني الثريا، وتشكو وجدها لسهيل: أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلما قمت منتهضا ... بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا لأخرجن من الدنيا وحبهم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد يا عين -وقل يا عين حقيقة أردتها أم مجازا، ورجعها صباغنيتها أم حجازا، فإنه: هوى بتهامة وهوى بنجد ... قد أعيتني التهائم والنجود عن يا فتى غن، فالله أكرم من أن يثير هذا كله في صدور الناس، ويحرمهم غناءك يا صالح. الشيخ: وما كتبه في المرآة بعنوان "الشيخ": صديقي أو غير صديقي أو هما معًا، الأستاذ الشاب أو الكهل أو الشيخ، أوكل أولئك في وقت واحد. الشيخ أو السيد فلان: وأنا أشهد أنه ما اطلع على مجلس إلا حللت له الحبوة "1، ولا جلس إلى

_ 1 الحبوة -احتبى بالثوب اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة، ونحوها والاسم الحبوة ويضم.

إلا آثرته بتكرمتي، ولا أرسل يده إلى إلا أسرع بتقبيلها؛ لأني أرى في الشيخ عظيمًا، وإن لم ير غيري أن فيه عظيمًا. هو شيخ طريقة وهو على صداقته، وملازمته لشيخ مشايخ الطرق لا نرى على ما يزعم شانئوه لطريقته في سجلات مشيخة مطرق الصوفية عينا ولا أثرًا. ثم هو رجل جمع بين أقصى مطالب الدنيا، وأقصى مطالب الدين، فتراه كما يظهر الأصيل في حلقة الذكر يظهر العشاء في بار "ارستومين". ثم هو سعدي وعدلي وحر دستوري، وحزب وطني واتحادي ومحايد، ومستقل وغير هؤلاء جميعًا. ثم هو لا يفتر عن أداء حقوق القصر ولا يني عن التوافي في كل موسم لدار الوكالة الإنجليزية، ولا يترك جريدة السياسة إلا إلى بيت الأمة. ثم هو يحسن العربية ويحكم الإنجليزية، فلا تعرف إن كان غربيا مستشرقا، أو شرقيا مستغربا. ثم هو مصري وفي الوقت نفسه مطاف الجالية الفرنسية في مصر يتحدث عن أمورها، ويدلي بمهمتها في هذه البلاد، فلا تعرف أن كان عربيا مستعجما ثم هو إذ تقضيت أصله، وقصصت منشأه ومنجمه رأيته من المنوفية، ومن الشرقية ومن البحيرة، ومن الدقهلية ومن القيلوبية، ومن الجيزة ومن المنيا، ومن أسيوط ومن جرجا ومن قنا، ومن هؤلاء جميعا، وهو يلاغي بلغاهم جميعا فترى في لسانه حديث أهل البحيرة، وجشوبة1 منطق أهل الصعيد، فتسمعه إذا نادا "محمدا" قال: "يا محم"، وإذا عبر عن الفم قال: "الخشم". هو ولا شك عصبة أمم تجول في قفطان وجبة.

_ 1 جشوبة هي الغلظة والخشونة.

وإذا حضرك في هذا المقام أن الشياطين تتشكل، فلا يذهب عنك أن الملائكة كذلك تتشكل، وأن أولياء الله يتشكلون، وللأقطاب والأبدال في التشكل أحاديث طوال1. وإذا كنا نحتفل في هذه الدنيا بشخصية واحدة، ونتخذها موضع الحديث فكيف بسبع وثمانين شخصية قوية اتسقت كلها لرجل واحد. ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

_ 1 الأبدال الزهاد "أساس البلاغة"، وفي القاموس "الأبدال قوم بهم يقيم الله عز وجل الأرض وهم سبعون: أربعون بالشام وثلاثون بغيرها لا يموت أحدهم إلا قام مكانه آخر من سائر الناس" كذا.

أزهريون لغويون أدباء

أزهريون لغويون أدباء مدخل ... أزهريون لغويون أدباء: عني الأزهريون باللغة "أو أكثرهم"، فيما عنوا به من أصول النهضة الأدبية عناية بالغة فتوفورا على دراستها، وجدوا في معرفة خفاياها، وأسرارها ومن مظاهر عنايتهم بها دراستهم علم الصرف، فما هو إلا تصريف للكلمات اللغوية، وبيان ما فيها من إعلان، وقلب، وحذق، وغير ذلك. ثم هم قد أكبوا على دراسة غريب القرآن، وغريب الحديث، وغريب الشواهد العربية، وأطالوا البحث في الوقوف على المعاني اللغوية في الأدب العربي بمختلف فنونه، فلذلك هم يقلبون مجفوات ما يرونه من الألفاظ اللغوية للوقوف على معانيها المختلفة، بل هم ينحون إلى اللغة في غير علومها، فتراهم يذكرون بصدد المصطلحات العلمية في شتى العلوم معانيها اللغوية، ويستطردون في شرحها، وترى الشروح والحواشي تتغالى في بيان مدلولاتها، والإفاضة فيها. ومن مظاهر عنايتهم باللغة أيضا تصحيح كتبها، وتحرير معاجمها وقواميسها وتناولها بالنقد والتعليق، والتوسع في ذلك. علاقة اللغة بالأدب: وغير خاف ما بين علم اللغة والأدب من وشيج الصلة، وما يتطلبه الأدب والإضلاع في اللغة والغوص في أسرارها، فإن ذلك يعين على شرح غريب الأدب من شعر أو نثر، ويمكن من تفسير غامضه، وتجلية مبهمة، وقد درج المؤلفون في علم الأدب العربي، المتتبعون نهضته في مظاهرها المختلفة أن يتحدثوا عن اللغة واللغويين، وأن يتقصوا بالدراسة آثارهم، لما بين اللغة والأدب من شديد التآخي. وقد تحدث "ابن خلدون" في مقدمته عن علاقة اللغة بعلم الأدب، فقال

"هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية1. على أن هؤلاء الذين نعقد لواء هذا البحث لهم، ونتحدث في هذا الوضع عنهم، لم تكن اللغة وحدها مناط نبوغهم، ومجال تبريزهم، والسمة التي استموا بها وحدها، فهم أدباء مبرزون، وأعلام في البيان مجلون، وما فيهم إلا من هو شاعر معروف أو كاتب مشهور، إلا أن النزعة اللغوية ظهرت في أدبهم، وغلبت على آثارهم، وكانت لهم باللغة شهرة وفي ميدانها سبق، ومن ثم أفردناهم بعنوان وخصصناهم ببحث -وقد جعلناهم بين الكتاب والشعراء لما أنهم واسطة العقد تتنازعهم الناحيتان، ويشرف بهم الفنان معا. هذا وقد سبق لنا الحديث عن جمهرة من المضلعين في اللغة العربية وعلومها فيما بعنوان "الأزهر والتصحيح"، لما أن تصحيحهم الكتب والصحف كان أظهر آثارهم. وسنترجم لأشهر اللغويين الأدباء مبينين فضلهم على النهضة الأدبية وآثارهم اللغوية، مرتبين الكلام عنهم حسب وفاتهم.

_ 1 ص553.

الشيخ حسن قويدر الخليلي

الشيخ حسن قويدر الخليلي: المتوفى سنة "1362هـ-1845م". نشأته وحياته: هو، "حسن بن علي قويدر" كان مولده بمصر سنة 1204هـ، وأصل أسرته من المغرب، استوطن أحد أفرادها "الخليل" من بلاد فلسطين، واشتهرت ذريته هناك بالمغاربة، ثم نزح منها إلى "مصر" والده "علي" في تجارة وأقام بها، ووهب المترجم فلما بلغ أشده ألحقه والده بالأزهر لطب العلم فيه، فتلقى العلوم والآداب على كبار شيوخه، وجلة أساتذه من أمثال الشاعر الناثر "الشيخ حسن العطار"، والشيخ "إبراهيم الباجوري"، فتخرج عليهم في اللغة وعلومها والأدب وفنونه، ولا سيما الأول الذي كان من أنبه الأزهريين في الأدب شأنا، وأبعدهم في فنونه صيتا، وكان "لقويدر" رغبة فطرية في الأدب، وهوى للغة وعلومها ومعرفة خفاياها، واكتناه دقائقها فبرع في ذلك وجود، وأنشأ الفصول ونظم الشعر وحرر الرسائل، ودارت بينه وبين كتاب العصر محاورات، ومراسلات وأمه الناشئون من عشاق الأدب والشعر، فأفادوا منه ونشروا فضله. ولم يعرف أن "قويدرًا" شغل منصبا أو زوال عملا حكوميا، ويظهر أنه كان عزوفا عن الوظائف وقيودها فلم يسع لها، وربما واتته دون عناء لو انصرف لها، ولكنه كان يتجر فيما أورثه والده من المال شركة مع بعض السوريين الذين كانوا يرسلون إليه بضاعة سورية، ويرسل إليهم أخرى مصرية. ولم تكن التجارة لتشغله عن العلم والأدب، فنال منهما حظا وافرا وأعطاهما فراغ وقته، فصنف الكتب وشرح المؤلفات.

وكان رحمه الله جوادًا سخيًّا يبذل كثيرا مما يفد إليه من ربح تجارته الوارفة الظلال، كما كان عفيفا أمينا يرعى الود ويصون لسانه عن الخوض فيما يؤذي الناس، اللهم إلا إذا استفزه الدفاع عن نفسه، فإن له إذ ذاك لشأنا كما فعل مع "عاقل أفندي" في رسالة "الأغلال والسلاسل". وقد كانت وفاته في شهر رمضان سنة 1262هـ، فرثاه الشعراء وبكاه الأدباء، ومنهم تلميذه الشاعر المشهور "محمود صفوت الساعاتي" الذي زعموا أنه رأى قويدرًا" في منامه قبل وفاته بثلاث ليال ميتا، فانتبه قائلًا: رحمة الله على حسن قويدر فحسب ... جملها فكان تاريخا لسنة وفاته1 648 11066 118 320 والساعاتي هو الذي رثاه بقوله: بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من بعدك الكتب ونكست رأسها الأقلام باكية ... على القراطيس لما ناحت الخطب ويقول فيه أيضا: قالوا قضى حسن المناقب فارثه ... فأجبتهم ومدامعي تتحدر لا أستطيع رثاء من لمصابه ... أضحى لساني في فمي يتعثر نثره: نثر الشيخ "حسن قويدر" يجري مجرى الصنعة، ويبدو عليه أثر التعمل والتكلف، ويلتزم الجناس فلا يفلت منه، وليس بعجيب أن يكون أدبه كذلك وأن يكون طابعه الزخرف والطلاء، وقد كان ذلك أدب العصر، وطريقته الملتزمة على أنه تلميذ "الشيخ حسن العطار"، وثمرة من ثماره، وكان "العطاء" أستاذه ممن يلتزمون السجع في رسائلهم، ويولعون بالصنعة في كتابتهم، وكتاب "إنشاء العطار" على ذلك شهيد.

_ 1 أعيان البيان للسندوبي ص18.

ولكن "قويدرًا" رغم متابعته للعصر ومسايرته لأستاذه غير ممعن في التعقيد، ولا مفرط في الاستغلاق، بل إن نثره أقرب -على قيوده وتكلفه إلى الوضوح والرصانة. نموذج من نثره: ومن نثره ما قاله في خطبة شرحه لكتاب "ومن شغفي بتلك العرائس الخواطر، حملتني بواعث الخواطر على أن أكتب عليها شرحا، وأبني على دعائمها صرحا، وأشد نطاق البلاغة لها كشحا فوقفت على أقدامي مترددا في تأخري وإقدامي ... وشددت نطاق العزم، وتقلدت بصارم الحزم، وقومت سنان يراعي، وبسطت في حومة هذا الميدان باعي، وإني لأرى التوفيق يقوم أمامي -والعناية تقود زمامي". شعره: شعر "قويدر" يميل إلى الزخرف والطلاء، ولكنه يتفاوت قوة وضعفا حسب إغراقه في التكلف، أو لطفه في تناوله، "وكلما كان أكثر تعملا كان أكثر تعقيدا، وهو غير ملتزم طريقة واحدة، ولا نهجا واحدا. فمن شعره الذي يميل إلى السهولة، ولا يغرق في المحسن والصنعة، ما قاله ناصحًا. يا طالب النصح خذ مني محبرة ... تلقى إليها على الرغم المقاليد عروسة من بنات الفكر قد كسيت ... ملاحة ولها في الخد توريد كأنها وهي بالأمثال ناطقة ... طير له في صميم القلب تغريد احفظ لسانك من لغظ ومن غلط ... كل البء بهذا العضو مرصود واحذر من الناس لا تركن إلى أحد ... فالخل في مثل هذا العصر مفقود بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت ... فالشر طبع لهم والخير تقليد

هذا زمان لقد سادت أراذله ... قلنا لهم: هذه أيامكم "سودوا" ويقول في شرحه على منظومة "العطار" منظومة الفاضل العطار قد عبقت ... منها القلوب بريا نكهة عطره لو لم تكن روضة في النحو يانعة ... لما جنى الفكر منها هذه الثمرة في ظلمة الجهل لو أبدت محاسنها ... والليل داج أرانا وجهه قمره قالوا جواهر لفظ قلت: لا عجب ... بحر البلاغة قد أهدى لنا درره فأنت ترى أن تخفيفه من المحسنات البديعة أكسب شعره طلاوة، ولم ينفر الذوق منه، أو تتصرف النفس عنه. ومما قاله وأسرف في الجناس فيه قوله: فشمر الغصن عن الساق وقد ... جرد سيفا لرقابهم وقد وقال جمري بكلامكم وقد ... أنا الذي أشبه أعطافا وقد أحملكم وتجهلون قدري "فقد" دارت كلمة "وقد" في هذه الأشطر خمس مرات بالواو وبغيرها، فكانت حرفا مقرونا بالواو في الشطر الأول، أما قوله: "وقد" في الشطر الثاني، فيحتمل أن يكون اسما بمعنى النار واقعا صفة لسيفًا أي سيفًا وهو النار لرقابهم، وأن يكون فعلا بمعنى اتقد أي سيفا اتقد، وقوله بكلامكم "وقد" محتمل أيضا المعنيين أي جمري نار أو اتقد، وقوله في الشطر الرابع: أشبه أعطافا، وقد جاءت فيه هذه الكلمة على معناها الحرفي مع الاقتران بالواو، وقد الأخيرة جزء من قدر المضاف إلى ياء المتكلم. فقد أرهق الشاعر نفسه وشعره بهذه الكلمة التي وضعها خمس مرات في خمسة أسطر وضعا مختلفا فيه تهافت عبث بالمعنى وعقده، وتكلف ذهب بجمال الشعر وأفسده. ولقويدر مزدوجات افتن في صياغتها، وبرع في نظمها إلا أنها محتملة كثيرًا

من التكلف موسومة بالنزعة العلمية في غير موضع، ومنها قوله: رأيت بدرا فوق غصن مائس ... يخطر في خضر من الملابس ويسحل العقل بطرف ناعس ... وهو بشوش الوجه غير عابس كأن ماء الحسن منه يجري خاطرت لما أن رأيته خطر ... وحار فكري في بها ذاك الحور وقلت: لا والله ما هذا بشر ... ومن بشمس قاسه أو بقمر فليس عندي بالقياس يدري وكلمة القياس هنا من مصطلح علم المنطق الذي تأثر الشاعر به. فلفظه العذب لقلبي قوت ... كأنه الدر أو الياقوت وسحره إلى السهى "مثبوت" ... يعجز عن مثاله هاروت وهو الحلال من صنوف السحر الحسن شيء ما له مثيل ... وكل وجه حازه جميل والنفس دائما له تميل ... وصاحب العز له ذليل في قيد أسر نهيه والأمر والنهي والأمر كلاهما من مصطلح علم النحو كما ترى، وشعره متفرق لم يجمع في ديوان. آثاره العلمية والأدبية: للشيخ "حسن قويدر" آثار لغوية قيمة ومؤلفات أدبية جليلة، غير أن كثيرًا من هذه الثروة القيمة لا يزال مخطوطا لم يطبع، وكثير منها عبثت به الأيام، فحرمت الانتفاع به الأفهام والأقلام -ومن أهم هذه المؤلفات:

نيل الأرب في مثلثات العرب: وهو كتاب جليل جمع فيه المؤلف ما يثلث من الألفاظ العربية بالحركات نظمه في أرجوزة حسنة السبك محكمة النظم يقول في مطلعها: يقول من أساء واسمه حسن ... لكن له ظن بمولاه حسن فكم لمولاه من منن ... بالعد لا تدخل تحت الحصر وهي سهلة الحفظ واضحة غير معقدة، وبهامشها فوائد قيمة فيها غنية لكل أديب، طبعت بمصر سنة 1302، وفي صدرها ترجمة للمؤلف بقلم الأستاذ "محمد فني"، وترجمت هذه المثلثات إلى اللغة الإيطالية بقلم "فيتو" المستعرب وطبعت الترجمة في بيروت1. ويقول في مقدمتها: جمعت فيها الكلمات اللاتي ... تكون في الشكل مثلثات أبدأ بالمفتوح ثم آتي ... بالضم لكن بعد ذكر الكسر ثم يقول: رتبتها كمعجم على الولا ... معتبر اللباب حرفا أولا بذا أتت غريبة في الوضع ... يعشها كل رقيق الطبع وعدد أبياتها 221 بيتا. ومن مؤلفاته شرح منظومة العطار: وهي منظومة في النحو أستاذه الشيخ "حسن العطار"، وقد شرحها

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص258.

هو شرحا دقيقا قيما، والمنظومة مشهورة يتداولها أبناء الأزهر. وله كتاب يسمى "زهر النبات في الإنشاء والمراسلات" غير مطبوع. وشرح على مزدوجته البديعة غير مطبوع أيضا، ويقال: إنه كان واقعا في مائة ونيف كراسة ذهبت بها الأيام1. هذا عدا شعره المتفرق ومزودجته المطبوعة المتداولة بين الأدباء.

_ 1 أعيان البيان للسندوبي ص18.

الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري

الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري: المتوفى سنة "1306هـ-1888م": نشأته وحياته: هو، "عبد الهادي" بن "السيد رضوان" نجا الإبياري نسبة إلى "إبيار" إحدى قرى الغربية الشهيرة، ولد بها سنة 1236هـ 1821م، وما أن تعلم القراءة والكتابة حتى دفعه هواه إلى المطالعة والدرس، وكان والده أحد علماء الأزهر وفضلائه، فلما تنسم ذلك الميل فيه شرع يلقنه العلم، ويعبد له طريق الأدب وعلوم العربية، فبلغ منها في زمن يسير الحظ الموفور، وقد حدث المترجم أنه حضر على والده "في الحديث الجامع الصغير والبخاري والمواهب، وفي التفسير الجلالين، وفي الفقه إلى المنهج، وفي النحو إلى الأشموني، وفي الفرائض والتوحيد وغيرها جملة1. وألحقه والده بالأزهر فتلقى علومه على الأساتذة الفحول أمثال الشيخ "محمد الباجوري"، والشيخ "محمد الدمنهوري"، والشيخ "محمد عليش" شيخ المالكية وغيرهم. وقد نبغ في سائر العلوم الأزهرية من دينية ولسانية، وكان دائم الجد موصول الاطلاع لا يشغله عن التوفر على العلم شاغل حتى ذاع صيته، وتحدث الناس بعلمه وأدبه وفضله، وأنهى إلى مسامع الخديو "إسماعيل" علو شأنه فاستقدمه، وأثنى عليه وعهد إليه في تعليم أنجاله خاصة، وفيهم "توفيق" فثقفهم وعلمهم الآداب العربية، وأدى ما كلف القيام به أبلغ أداء. ولم يكن ذلك ليصرفه عن التدريس في الأزهر، ومجالس العلم والأدب

_ 1 الخطط التوفيقية ج8 ص30.

يعقدها في بيته، ويأوي إليها النابهون ممن كان لهم بعد شأن، يذكر كالشيخ "حسن الطويل"، والشيخ "محمد البسيوني البيباني". ويؤخذ مما كتبه في بعض رسائله أن الود بينه، وبين "إسماعيل صديق باشا" الشهير "بالمفتش" لم يكن ثابت الدعائم، ومن ثم ألقى في نفس الخديو ما أغضبه، فأوعز الخديو إلى بعض خاصته أن يكتب إليه ليرحل عن القاهرة، فأقام ببلده حتى نكب "إسماعيل صديق"، فعاد الخديو فاستدعاه، وغمره بفضله. ولما ولي الخديو "توفيق" عرش مصر بعد "إسماعيل" لم ينس فضل أستاذه عليه، فأدناه منه وقربه إليه وأجله، وأحله رفيع المكانة وأقامه للمعية مفتيا وإمامًا، فظل كذلك حتى استأثر الله به. مواهبه: عرف الشيخ "عبد الهادي نجا" في عصره بغزارة العلم وسعة المادة، والتبحر في اللغة وعلومها، حتى كان ثقة يرجع إليه في حل المشكلات1. وهو إلى جانب هذا "الشاعر الناثر الحافظ الماهر2". وقد طارت شهرته في العالم العربي كله فدارت المكاتبات والمراسلات بينه وبين العلماء والأدباء، والشعراء من أمثال الشيخ "الأحدب"، والشيخ "أحمد فارس الشدياق"، والشيخ "ناصيف اليازجي"، وغيرهم. وكانت له أياد غر، وأقلام حداد في فنون الأدب العربي تذكر له بالشكر، وتؤثر بالثناء3.

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص263. 2 الخطط التوفيقية ج8 ص29. 3 أعيان البيان للسندوبي ص224.

نثره: مسرف في التكلف مولع بالصنعة مفتون بالزخرف والطلاء حريص على السجع مفرط فيه مترصد له يجتهد في حشد المحسنات البديعة، ولو نبا بها الكلام، ومن ثم مال أسلوبه إلى الإغراب، وجنح إلى التعقيد، وربما ضلت الفكرة في ثنايا ما تهالك عليه من هذا التعمل، ولو أنه ارتضى لنفسه السهولة والوضوح، وآثر البعد عن ذلك التكلف، أو مسه برفق لكان له من غزارة مادته ومن كرم موهبته ما يسمو به إلى مصاف الكتاب البارزين الذين ترتاح النفوس لأدبهم، ولكنه أغرق في مجاراة العصر وغالى في متابعته. فمن نشره ما كتبه إلى الشيخ "الأحدب": "السيد حفظه الله شيخ الأحدب، وفارسه الذي من خطاه في حلبته، فقد أخطأ وأساء الأدب، كيف لا وهو الذي بنى قصوره وشيدها، وبين معالمه بعد الأندراس وجددها، ورفع في سبيل البيان مناره، ونصب أعلامه ابتداء ورفع أخباره، وجلى عرائسه للخطاب من الخطبا، وأبرز خرائده من الخدور أترابا عربا، وتجمل بتفصيل ما أجمل من جمله، وتفضل بتبيين ما تشابه منه توضيحا لسبله، واستخرج من معدنه إبريزه فصفاه، واستنتج ما ترشحت به العضلاء عن نتائج قضاياه، إذ تمكن من تصريف رياح المعاني، فهي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وتميز من بين سادة العصر بأنه من أتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، فمتى فاه فاح عرف الحكم، ورأيت لسان الحال له بالتفرد في لسان العرب قد حكم. ..... إلى أن قال وبعد فما هذه الرسالة البديعة المثال البعيدة المنال؟ اللآلئ في نحور حور أم كواكب مشرقة في ديجور، وحدائق أزهار، أم رقائق أشعار، ومعاني كواكب أتراب، أم معاني فرائد آداب، وثغور باسمة عن جمان، أم زهور بديع في رياض بيان؟ ... إلخ.

ومن رسالة كتبها إلى "السيد الحلواني". سيد ما الذي أوجب تناسيك لحبك الذي لم ينس لعهدك، والذي لا يزال على ممر الأيام يرقب إلك ويرعى ودك، وما الذي توهمته في صديقك الفقير الصادق، حتى قطعت صدقات رسائلك عنه، وهو بها وامق وبك واثق سيدي ما هذا التجني، والإغضاء عني، سيدي ما لعرائس كتبك عني استأخرت ولأوانس فضلك مني استنفرت، وأني بها لرءوف، شغوف بحسنها الشفوف. فأنت ترى أنه حريص على الجناس حتى ليحتال عليه ليوقعه في الكلمتين المتجاورتين مع تهافته على الطباق، وتصيده ما استطاع من المجاز قبل أو نبا وتهالكه على الاستعارة، ولو مجها الذوق كقوله في الرسالة الأولى تمكن من تصريف رياح المعاني، وهو أيضا كثير الاقتباس من القرآن ليحلي به رسائله، وتدور في كتابته المصطلحات العلمية متأثرًا بها، ثم إذا نظرت في كلامه الذي يطول لم تجد فيه رفيع معنى ولا كبير غناء، إنما هي ألفاظ محشودة، للتقريظ وترادف متصل أعانه عليه غزارة مادة اللغة، وتمكنه من أسرارها ودقائقها. شعره: وشعره ميدان يتبارى فيه بحشد الزخرف اللفظي، والمحسن البديعي ما عبدت له طريقه وأرخى له عنانه، وقد عبث هذا الطلاء الذي يكلف به بالمعنى الشعري وضلت الفكرة في بيداء صنعته المسرفة، ويلوح من تهالكه على المحسنات، وإفراطه فيما يتناوله من المجاز، والاستعارة أن ذلك مقصده الأسمى من الشعر وأنه لا شيء من التصوير الشعري بذي بال عنده، وذلك مما لم يدع شيئا من شعره يستهوي النفوس، وتتروح منه نسيم الشاعرية. فمن شعره ما قاله متغزلا: اقطف ورود خدود الغيد بالقبل ... وقل وفاء بحق للهوى قبلي

واخلع عذارك في خال العذار ولا ... تبال فالعذر عند الخال منه خلي1 وكن على حذر من أسهم عرضت ... لمن تعرض للألحاظ والمقل من أعين ما رنت ألا رمت مهجا ... تبيت في وهج منها وفي وهل2 تحيك ما غزلت ثوب الضنا فترى ... منها الحماسة للألفاظ في الغزل واهصر قد ودا زهت ممشوقة فغدت ... معشوقة لغصون البان والأسل3 واضمم فؤادك فوق الحصر مختصرًا ... واجعل لنفسك كفلا ما من الكفل4 وان تشأ فارتشف من مبسم ضربا ... ولا تخف ضرب جد الشارب المثل5 وكرر الرشف تشف النفس من كيد ... وتطف من كبد نارا من القلل6 فهذه الأبيات لا يعفيك بيت واحد منها من محسن بديعي، ولا يخلو أحدها من جناس خف أو ثقل، وقد يتكرر تبعا لضرورة الشاعر، وهي بعد ذلك خالية من الخيال الشعري الخصيب، والروعة الشعرية التي تستهوي النفوس -غير أن مادته اللغوية من أهم الأسباب التي مكنته من الألفاظ يصرفها على مقتضى هواه، ومن ثم لم يعدم الجناس لتوفر مادته. ومما قاله موجها إلى الشيخ "ناصيف اليازجي:- بنصيف قد أنصف الدهر بيرو ... ت فأضحت تتيه في ثوب سؤدد ولئن أصبحت تفاخر كل المـ ... ـدن أضحى لعمري الحال يشهد ما سمعنا بمثله عيسوبا ... يتحدى بمثل معجز أحمد

_ 1 عذار: الدابة السير الذي على خدها من اللجام، ويطلق العذار على الوسن، وعذار اللحية الشعر النازل على اللحيين. 2 وهل كفرح ضعف وفزع فهو وهل ككشف. 3 الأسل: نبات معروف والرماح والنبل وشوك النحل. 4 الكفل بالكسر الضعف والنصيب والحظ والكفل محركة العجز أو ردفه. 5 الضرب -العسل الأبيض. 6 الغلل محركة وكأمير العطش أو شدته أو حرارة الجوف.

نظم الدر والدراري في أحسـ ... ـن سمط من البيان ومهد ألمعي لكنه عيسوي ... كان أولى بفضل دين محمد لو تروى ارتووى بكوثره العذ ... ب وأروى ظماء من بات يجحد حكم مولى يقضي علينا بما شا ... ء تعالى عن التولد سرمد دم حليف العلا نصيف بفضل ... لا يوازي وحسن حمد مؤيد والشاعر في هذه الأبيات أقل تهافتا على المحسنات، ومن ثم كانت أغزر معنى وأوضح غرضا، وأشهى مذاقا مع قلة حظها من الروعة. وكثرا ما يخضع الشعر للعلم، فيقيد به مسائله ويودعه جواب سؤال، أو دفع إشكال كما جاء في كتابه "عقود الكواكب الدرية"، قوله:- ويقضي واجب قد فات إلا ... بعشر قد أتت كالدر نظما فناذر حج دهر فات عاما ... وناذر صوم دهر فات يوما ونذر صلاة أول وقتها في ... أواخره بها يوما ألما وإحرام لداخل مكة إن ... نقل هو لازم من رام حتما وناذر أن يحرر كل عبد ... له والبعض مات ففات رغما ومن بجماع أفسد حجة ثـ ... ـم أفسد للقضا لم يقض حزما وناذر التصدق كل يوم ... بفاضل قوته فرآه عدما آثاره العلمية: له آثار كثيرة يذكر "علي مبارك باشا" في خططه أنها تنيف عن أربعين كتابا منها. سعود المطالع: فقد كان للأبياري رسالة تضمنت لغزًا في اسم الخديو "إسماعيل"، فأودع كتاب "سعود المطالع" شرح هذه الرسالة، وحل ذلك اللغز الذي تعجب إذ تراه استخراج منه خمسة وأربعين فنا على نسق غريب، وهو كتاب قيم

دل على قدرة مؤلفه، ووقوفه على شوارد اللغة وأسرارها، وهو واقع في سفرين كبيرين مطبوع في مطبعة بولاق سنة 1238هـ. النجم الثاقب: كتاب وضعه في الفصل بين صحيفة "البرجيس" التي كان يحررها بالعربية في باريس المرحوم "سليمان الحريري التونسي"، وصحيفة "الجوانب" التي أنشأها الشيخ "أحمد فارس" في الآستانة، وذلك في مؤاخذات لغوية، وانتصارت في فنون إنشائية حكم "الإبياري" فيها بالتبريز لمنشيء الجوانب على محرر البرجيس، وقد طبع هذا الكتاب على الحجر سنة 1279هـ. الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية: وهو كتاب يضم طائفة من مراسلاته الأدبية، وما وقع بينه وبين الأدباء المعاصرين من مراسلات ومكاتبات، ولا سيما الشيخ "الأحدب" و"السيد الحلواني" طبع سنة 1301هـ -وقد صدره بخطبة ابتدأها بقوله: الحمد لله الذي أنزل علينا كتابا نقرأه، وبشرنا بأنه تعالى على ممر الأيام يكلأه، والصلاة والسلام على من حثت رسالته على اتباع ملة إبراهيم، وأوتي من البلاغة والفصاحة ما لم يبلغ أحد من العالمين مبلغه العظيم، وعلى آله الأجلة، وصحبه الذين حذوا من الفضل حله، ثم يقول: وأبهى ما ورد به خد الكتابة والخطابة ما دار بيني وبين نادرة العصر، الذي تفعل آدابه البديعة بالعقول ما لا تفعله سلافة العصر، حضرة المولى الأجل أديب الشام "السيد إبراهيم الأحدب" بلغه الله من الحظوظ كل مطلب، فأليكها عرائس مجلوة، من كشف لثامها، ورشف رضابها استكمل الظرف والفتوه موسومة بالوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية، واستطردت في خلالها ببعض ما كتب لي من أبناء العصر أو كتبته لبعض، مما رأيت أن ترك قيده عبث محض، وربما فسرت في خلال بعض الرسائل ما أودعته فيها من الإشارات لبعض المسائل الحكمية، وأوضحت ما أومأت إليه من

الفوائد التاريخية والأدبية والكتاب يقع في خمسين ومائة صفحة تقريبا من القطع المتوسط. نفحة الأكمام في مثلث الكلام: وهو نظم رقيق يشتمل على الكلمات العربية المستعملة بفتح أولها وكسره وضمه -يقول في مقدمته:- قد نظمت منه ما وجدته ... مثلثا من بعد أن هذبته وما تركت حسبما ظننته ... شيئا وإن كان فبعض النزر معولا على أصول الأسما ... وتارك المختلفات رسما كمثل واوي مع بائي إذ ما ... هذا مثلث على ما أدري وهو يبدأ بذكر المفتوح، ثم المكسور ثم المضموم كما قال:- أبدأ بالمفتوح فيها أولا ... وبعده ذو الكسر فالضم ولا ثم أزيد البعض منها حيث لا ... حاجة للتكميل حسب اليسر وربما تركت ما قد اشتهر ... من المعاني أن يكن ثم أخر رتبتها على الحروف للنظر ... فيها لدى الحاجة لا بعسر والنظم واقع في 119 صفحة، وتم طبعه في السادس عشر من جمادى الأولى سنة ست وسبعين ومائتين وألف من الهجرة. وله متن "الكواكب الدرية" في نظم الضوابط العلمية لعلوم وفنون مختلفة بذل فيه من العناء والتدقيق ما يستحق العجب، فإنه ضبط مسائل في الفقه والنحو والصرف واللغة والسيرة والتاريخ والفلك، وغيرها في نظم دقيق بارع دل على قدرة ناظمه، وتبحره في شتى العلوم، وفي آخره ما نصه كتبه ناظمه الفقير إلى رحمة سيده الغني "عبد الهادي نجا الإبياري" الشافعي، غفر الله له ولوالديه والمسلمين آمين، في يوم الجمعة الحادي والعشرين من

شعبان سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف". وله "كتاب المواكب العلية في توضيح الكواكب الدرية في الضوابط العلمية"، وهو كتاب قيم شيح به هذا المتن شرحًا دقيقا مستفيضا دالا على قدرته في علوم شتى. والمتن والشرح مطبوعان في سفر واحد وله "باب الفتوح لمعرفة أحوال الروح": وهو كتاب يبحث في أمر الروح وحكمة خلقها قبل الأجساد، وأصل نشأتها هذه الأمور التي كان المؤلف دائم التفكير فيها ضيق الصدر بها حتى أسفر له من الهند كتاب الأسفار للصدر الشيرازي، وفيه من ذلك فوائد جمة وفرائد مهمة إلا أنها متفرقة فيه أيدي سبا؛ بعبارات صعبة تشتت بها أفكار من لها صبا، فلخصها المؤلف وقربها للأفهام، وضم بعضها إلى بعض مراجعا في ذلك كتاب جليلة كالمواقف وشرحه والطوالع، وشرح الإشارات وكشاف الاصطلاحات والمقاصد والتفسير والكبير، وكبير اللقاني على جوهرته وغير ذلك، فاجتمع عنده من كل ذلك ما شفى غليله، وأودعه هذا الكتاب القيم، وهو مطبوع بالمبطعة الخيرية سنة 1304هـ، واقع في ستة وتسعين ومائة صفحة من القطع المتوسط. وله غير ذلك كتاب "نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني" والقصر المبني على حواشي المغني: "ودروق الأنداد في أسماء الأضداد" جمع فيه أسماء الأضداد يقول عنه، وهو كتاب جمعت فيه أسماء الأضداد، ونظمتها في بسيطية سميتها دروق الأنداد في أسماء الأضداد1.

_ 1الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية ص100.

وله "ترويح النفوس على حواشي القاموس" و"صحيح المعاني في شرح منظومة البيباني، ورشف الرغاب في المصطلح أيضا، و"الحديقة في البيان"، ولها شرحان "وشرح كشف النقاب" "وزهرة الروابي" شرح وضعية الإنبابي "والمورد الهني" "وشرحه سرور المغني" "والفواكه الجنوية في الفوائد النحوية" "وسعود القرآن في نظم مشترك القرآن" "والثغر الباسم" في مختصر حاشية الباجوري على ابن قاسم "وزكاة الصيام في إرشاد العوام" "وفاكهة الإخوان في مجالس رمضان" "والبهجة التوفيقية في اللغة والأدب"، "وزهرة الحمدلة في الكلام على البسملة" "وحاشية حصن الحصين في علم الحديث"، "وحجة المتكلم على متن مختصر النووي لصحيح مسلم". هذه آثار أدبية ولغوية دالة على أبلغ قدره، وأعظم براعة وأغزر مادة، ولو أن هذه الكتب القيمة كانت مطبوعة معبدة السبيل لكان فيها أعظم النفع، وأبلغ الجدوى، ولكن كثيرًا منها لا يزال مخطوطا رهن مكتبة المؤلف.

الشيخ حسين المرصفي

الشيخ حسين المرصفي: المتوفى سنة 1307هـ-1889م: نشأته وحياته: هو، الشيخ "حسين المرصفي" نسبة إلى "مرصفا" بلده بالقليوبية أنجبت بجمهرة من أعلام الفقه واللغة والأدب، وكان والده الشيخ "أحمد حسين المرصفي" من أئمة العلم في عصره. ولد المترجم له في مصر ونشأ بها، وبعد أن أتم حفظ القرآن التحق بالجامع الأزهر، فتلقى العلم على كبار شيوخه، وما زال يكد، ويبحث حتى صار من العلماء الفحول، وتصدر للتدريس، فقرأ بالأزهر أمهات الكتب في العلوم العربية كمغني اللبيب في النحو لابن هشام. وكان رحمه الله مكفوف البصر، وقد عرف منذ صغره بحدة الذهن، وتوقد الذكاء، وإذا صح ما قيل من أن والده حفظ القرآن في ستة أشهر، فإن ذكاءه موروث عن أبيه، وكان إلى ذلك جادا مثابرا شديد التوافر على كتب الأدب يرتوي من محاسنها، ويستظهر من روائعها، لم يسترح إلى الأدب الشائع في عصره ولم يرقه نهجه، بل كان من أوائل من تفطنوا في هذه البلاد إلى قدر الأدب القديم1. وكان من حبه للأدب العربي القديم، وقدرته على تفهم أسراره، وتذوق بلاغته يقرأ كثيرًا في كتب البلاغة العربية، ودواوين الشعراء الفحول ويبذل جهده في استظهار ما يهتز له، ويجيل قلمه على غرار ما بهره من هذه الآداب حتى استقام له بيانه الرصين. وكان إلى جانب هواه بالأدب شديد الميل إلى العلوم العربية، دائم البحث

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص398.

في أسرارها وتفهم دقائقها، واكتناه خفاياها حتى صار في العلم بها حجة ثبتا. وقد قرأ الخط العربي والفرنسي في أقرب زمن مع انكفاف بصره، وهو حروف اصطلح عليها اصطلاحا جديدا تدرك بالجس باليد1. وتولى تدريس الأدب وعلوم العربية بمدرسة دار العلوم، وتخرج على يديه طليعة الناهضين من أبنائها الشعراء والأدباء. أثره في النهضة الأدبية: الشيخ "حسين المرصفي" شيخ الأدباء في ذلك العصر، وأستاذ الطبقة الأولى من دار العلوم، فقد تخرج عليه طلائع النابهين في هذه المدرسة من أمثال "حفني بك ناصف"، وأترابه. وكان قبلة الشعراء والأدباء في هذا العصر ينهلون من علمه، وأدبه، وينتفعون بتوجيهه وإرشاده، صاحبه ولازمه أعيان البيان العربي، فعرضوا عليه منظومهم ومنشورهم فنقح ما شاء له ذوقه وعلمه، وهذب كثيرا من بيانهم، وراضهم على ما تهدي إليه من الأدب العربي القديم الرصين. انتفع بتوجيهه "عبد الله فكري باشا"، فكان أحد تلامذته الذين أفادوا منه، بل إن "البارودي" نفسه، وهو زعيم النهضة الشعرية، ورافع لوائها في العصر الحاضر كان أحد تلامذته الذين صاحبوه ولازموه، علم المرصفي زعيم الشعراء اللغة العربية الفصيحة، وهداه إلى الأساليب المجودة الفحلة، وعرض عليه شعره فهذبته قريحته التي صقلها الأدب العربي وطبعها بطابعه الجميل، وإن لصلة البارودي به لحديثا طريفا نمر به سراعا، ولكنا أفضنا فيه حين تكلمنا عن شعر الأزهر، وكيف أن الأزهريين كانوا أساتذة زعماء الشعر في العصر الحاضر. وكان من أثره في الأدب فصوله الممتعة التي كان ينشرها في صحيفة

_ 1 الخطط التوفيقية ج14 ص40.

"روضة المدارس"، فقد رسم بها للأدباء أمثل الطرق في ممارسة البيان العربي الجزل، وكان قدوة الكاتبين بطريقته العذبة التي تجمع بين الجزالة والسهولة. أما أسلوبه فطلي رصين واضح فصيح لا يلم بالسجع إلا إلماما، ولا تستهويه الصنعة التي يكلف بها أصحاب الأدب الفارغ، فيستروا بزخرفها نقص أدبهم وفراغه، وهو في سلاسته، وترتيبه المنطقي أقرب ما يكون شبها "بابن خلدون" في مقدمته، فهو بحق من أولئك الأفذاذ الأعلام الذين ردوا على اللغة في العصر الحديث ما كان لها من البهاء القديم في العصر القديم1. ومن حديث المرحوم "الشيخ عبد العزيز البشري" عنه قوله، ويقوم ذلك الكاتب الأديب المجدد، فيلفت جمهرة الأدباء عن ذلك الأدب الضامر، ويوجه أذهانهم وأذواقهم جميعا إلى الخالص المنتخل من أدب العرب في جاهليتهم، وفي إسلامهم، ويبعث لهم شعر أبي نواس، وأبي تمام والبحتري وغيرهم من فحول الشعراء، كما يدل على بيان ابن المقفع والجاحظ، والصولي، وأحمد بن يوسف وأضرابهم من متقدمي الكتاب فسرعان ما يصفو البيان ويجلو، وسرعان ما يجزل القول ويعلو، وسرعان ما تنفرج آفاق الكلام، وتنبسط أسلات الأقلام في كل مقام وناهيك بغرس يخرج من ثماره "إبراهيم المويلحي" في الكتاب، "ومحمود سامي البارودي" في الشعراء2. آثاره ومؤلفاته: ألف كتاب "الوسيلة الأدبية للعلوم العربية"، وهو كتاب جليل القدر لا يستغني عنه أديب، وقد شاع الانتفاع بما فيه من الآداب والعلوم، ولا يزال منتجع الأدباء إلى يومنا هذا، والكتاب جزآن يقع الثاني منهما في صفحات تربى على ثلاث أمثال الجزء الأول.

_ 1 المنتخب من أدب العرب ج2 ص583 هامش. 2 المختار ج1 ص41.

"والوسيلة الأدبية" مجموعة من الآداب والعلوم المختلفة من نحو، وصرف وفقه وبيان ومعان وبديع، وتاريخ ساقها المؤلف لتعليم الكتابة الإنشائية، وترويض الملكات البيانية على غرارها، ونهجها العربي الصحيح، وهو يتبع في هذه الكتابة طريقة الشرح والإفاضة، والتتابع والاستطراد، فإذا ألم ببحث علمي وفي جوانبه وبسط في آفاقه، ولم يدع فيه ما يحتاج إليه الباحث المتعقب، وإذا أورد قصيدة أو خطبة شرح معانيها اللغوية شرحا دقيقا متمكنا، ثم بين مراد الأديب مما قاله، وتعرض له بشيء من أخباره وآثاره، وقد يستطرد فيقرن المعنى بمشابه له، أو مقارب منه، أو مضاد له يفيض في كل ذلك بأسلوب رصين واضح فصيح، وقد عمد فيما اختاره من آثاره عربية إلى روائع الأدب من شعر ونثر، وخطب ورسائل، فهو حسن الذوق في كا ما يهتدي إليه، غزير المادة بما يفيض فيه، قريب الشبه في مسلكه بالكتب التي هي أصول للأدب من أمثال "الأماني"، و"الكامل" و"العقد" إلا أنه لم يغلب عليه ناحية خاصة تستأثر به، وتدعه ضعيفا في غيرها مما يقدم عليه بحثه وشرحه ونقده وتعليقه، وإنما هو في هذه النواحي جميعا المتمكن الذي يعدل بينها. والوسلة بجزئيها تتضمن تمهيدًا وأربعة مقاصد، يشتمل كل منها على فصول ومقالات -فالتمهيد في باين فضل العلم وتقسيم العلوم، وتعريفات لعلوم العربية والأدب مع إفاضة بذكر الأمثلة، والمقصد الأول في العقل وشرح أنواع المعقول، والمقصد الثاني في تعريف اللغة، وبيان الداعي لوضع علوم العربية ونهايته نهاية الجزء الأول، والمقصد الثالث وهو أول الجزء الثاني يحتوي فنون البلاغة بإسهاب وشرح، وإفاضة مع دقة وتحليل، والمقصد الرابع، وهو أوسع المقاصد، وأكثرها بسطا يتضمن المكاتبة، والتربية الأدبية، والأدعية التي جرى السلف على استعمالها في مكاتباتهم، ومكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومكاتبة الملوك والأمراء والأدباء، وفي الأمثال العربية، وغير ذلك من البحوث الأدبية الممتعة، وقد ختم الجزء

الثاني بكلمة ضافية عن المرحوم "عبد الله فكري باشا"، ومن أهم ما حواه الجزء الثاني حديثه عن البارودي الشاعر العظيم -والكتاب مطبوع بمطبعة المدارس الملكية بمصر من سنة 1289 إلى سنة 1292هـ. وله كتاب "الكلم الثمان": وهو رسالة شرح فيها كلمات جرت على ألسنة الناس في عهده، وكثر ترديدهم لها ولهجوا بذكرها مما دعاه إلى بسطها، وتبيينها كلفظ الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسية، والحرية والتربية والإنسان والمربي، وكيف يجب أن يكون وما به تكون التربية، كتبها بأسلوبه الرصين الرشيق، وهي مطبوعة بالمطبعة الشرقية بمصر سنة 1298هـ. وله أيضًا "دليل المسترشد في الإنشا": وهو كتاب وضعه لتعلم طرق الإنشاء وأساليبها، وكيفية افتتاح المراسلات والمكاتبات والموضوعات الإنشائية المختلفة، وأورد فيه طائفة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ومكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب خلفائه الراشدين إلى القياصرة، والأكاسرة والعرب خاصتهم وعامتهم، وجمهرة من القصائد، والمقاطيع لمشهوري الشعراء من الطبقات الأولى الثلاث. والكتاب يتضمن مقدمة تحتوي على ما يحتاج إليه المنشئ من معرفة مبادئ العلوم، وتمييز بعضها عن بعض، ثم يحتوي بحوثا قيمة في تعريف الكتابة، وبيان طرق التعليم، والأغراض التي يحاول المنشئ أن تحسن بها صناعته، ويجود بها إنشاؤه -والكتاب مخطوط لم يطبع.

نماذج من إنشائه: كتب في الوسيلة الأدبية بعنوان "تمهيد": "اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محسوبًا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على أهل أرضه من القول في موضعه المناسب له، فإن لكل قول موضعا يخصه بحيث يكون وضع غيره فيه خروجا عن الأدب، كما قال "جرول" الشاعر المشهور "بالحطيئة": فإن لكل مقام مقالا. ومن الصمت وهو السكوت المقصود في موضعه، فإن للصمت موضعا يكون القول فيه خلاف الأدب يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ قال خيرا، فغنم أو سكت فسلم". وفي لامية الطغرائي: ويا خبيرا على الأسرار مطلعا ... أصمت ففي الصمت منجاة من الزلل ولبعضهم: عجبت لأزراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالعلم أحزما وللصمت خير للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما والكلام المنبه على مواضع الأقوال، وعلى مواضع الصمت كثير. ومن الأحوال التي يكون التخلق بها أدبا، وضع الأفعال في مواضعها كما قال الله تعالى، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح، فأجره على الله فتنبه سبحانه وتعالى على أن المطلوب العفو المصلح دون المفسد، وقال النابغة الجعدي" بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... لبيب إذا ما أورد الأمر أصدرا والناس في الأدب متفاوتون تفاوتا عظيما، فمن قرأ العلوم وطاف في

البلاد وعاشر طوائف الناس بعقل حاضر، وتنبه قائم وضبط جيد حتى عرف العوائد المختلفة، والأهواء المتشعبة وميز الحسن منها، وتخلق به يكون بالضرورة أكثر أدبا ممن قرأ وخالط، ولم يطف وممن قرأ وطاف ولم يعاشر، وموافقة جميع الناس أمر غير ممكن، فإن الدين والعقل يمنعان من ارتكاب أمور لا يسر بعض ذوي الأهواء غيرها، وأولئك هم السفهاء الذين لا ألباب لهم، فهم بمنزلة قشور الأشياء التي لولا لبها لم تصلح إلا للنار، أو ما أشبه". وكتب في التخلق ببعض الأخلاق، فقال: غير خاف أن التخلق بالكبر والخيلاء والعجب، والتعاظم على الناس بما أفضل الله به على الإنسان من علم وجاه ومال أمر غير حسن، لما حيلت عليه النفوس من الأباء، والنفرة عمن يتعاظم عليها، فما أكثر ما بدل حسن الود، والتآلف بأشنع العداوة والتنافر، لكن لذلك موضع يكون فيه حسنا. وبيانه أن من المشاهد كون النوع الإنساني محتاجا في حسن تعيشه، وتحصيل أغراضه إلى ألفة ومودة، وإنصاف بأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا خرج بعض الناس من الجمعية، وسعى في الأرض فسادا، وجب على الناس تأديبه بما يعيده إلى الصلاح، وربما كان التكبر والزهو عليه أنكى له وأرجى لمئاب فكره، وانحيازه إلى حيز الاستقامة، كما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فارسا من أصحابه يمشي بين الصفين مختالا يميل يمينا وشمالا، فقال: "هذه مشية يكرهها الله تعالى إلا في هذا الموضع"، فقد علمنا أن للتكبر موضعا يكون فيه حسنا.

الشيخ حمزة فتح الله

الشيخ حمزة فتح الله: المتوفى سنة 1336هـ-1908م: نشأته وحياته: ينحدر من سلالة مغربية، ولكنه ولد بثغر الإسكندرية سنة 1266هـ "1849م"، وشب بها فحفظ القرآن في أحد مكاتبها، ودرس العلوم الشرعية واللغوية بجامع "الشيخ إبراهيم باشا"، ثم ألحق بالأزهر فأتم به دراسته، وتوفر على الآداب واللغة، فتمكن منهما وأصاب حظا كبيرًا، ودبج الرسائل الأدبية ونظم الشعر، ثم عاد إلى "الإسكندرية"، ورحل إلى "تونس"، فلبث فيها بضع سنين تولى في أثنائها تحرير جريدة "الرائد التونسي"، فأكسبه مرانه، ودربه على معالجة الكتابة الصحفية والسياسية، ثم عاد إلى "مصر"، فألفى نار الثورة العرابية مشبوبة، فاتصل بالخديوي، وكان من أعوانه ومناصريه، فأوحى إليه أن يحرر جريدة "البرهان" لمنشئها "معوض فريد"، وقد كانت أسبوعية تصدر في الإسكندرية، وتعلن أنها صحيفة الخديو، وتفاخر بأنها حلت من أعتابه العليا محل القبول. كانت الصحف المصرية تحبذ الشوى وتدعو لها، والكتاب يعضدون هذا المسلك، ويجهدون في سبيله، ولكن الشيخ "حمزة" رحمه الله دعا دعوة رجعية تنافي ما أجمع عليه الصحف في ذلك الحين، ولم يقتصر في مناصرته الخديو على تحريره جريدة "البرهان"، بل أصدر جريدة "الاعتدال" عام الثورة العرابية ذيادا عن العرش، وكثيرًا ما كان يخطب معاضدا هذه السياسة. وفي سنة 1886م ندبته الحكومة المصرية لتمثيلها في المؤتمر العلمي الشرقي الذي عقد في "فينا"، كما ندبته مرة أخرى لتمثيلها في مؤتمر العلوم الشرقية الذي اجتمع في "استكهلم" سنة 1889.

ثم رأى أن يزاول التعليم، فعين في سنة 1888م بمدرسة الألسن ثم مدرسا بمدرسة دار العلوم العليا، وتخرج عليه طائفة من المضلعين1 في اللغة والأدب. وفي سنة 1910م عين مفتشا أول للغة العربية، وظل كذلك إلى أن خرج بحكم الستين في سنة 1912م، فعكف على البحث والاطلاع والتقليب في كتب اللغة والأدب، حتى وافته المنية في إبريل سنة 1918م، بعد أن كان كف بصره. أثره في اللغة والأدب: كان رحمه الله حجة في اللغة متمكنًا من أصولها، وفروعها ملما بأسرارها، ودقائقها غيورًا عليها شديد الحفاظ لها يلتزمها في حديثه مع جميع الناس حتى مع خادمه، ولم ينزل عن غريبها في جميع ما كتبه من شعر، أو نثر، أو حديث أو مراسلة أو تقرير، حتى كان بعض الأدباء يضع بعض النوادر في أسلوب غريب، وينسبها إليه لتلصق به. وكان شديد الحفظ قوي الذاكرة ملما بطائفة عظيمة من شعر الفحول، وقصصهم، وأحاديث السلف وما يتعلق بهم، فما تذكر له حادثة إلا يفيض في تقريرها، وبيانها والتعليق عليها، والانتقال منها إلى أخرى مشابهة لها. هذا إلى عذوبة حديثه وصحة عبارته، وحلاوة محاضرته، وجمال دعايته، وما يتدفق منه من بيان، وعلم غزيرين. وكانت له على المدرسين هيمنة واسعة، وإشراف دقيق في أثناء تفتيشه بوزارة المعارف، فقد كان يحاسبهم حسابا عسيرا على هفواتهم، ويرشدهم إلى زلاتهم، وينبههم إلى مواطن الخطأ والصواب حتى اضطرهم إلى مراجعة معاجم اللغة والبحث في مجفواتها، وما طال هجره من الألفاظ، فأخرج كنوزها

_ 1 أضلع بالأمر -قدر عليه.

ورد إليها بهجتها، ونفى عنها ما يداخلها من الأغلاط، وخلصها من أدران العامية والدخيل، ونقاها من عجمة الأساليب، وفساد التراكيب. ويحدث الأستاذ "عبد العزيز البشري" رحمه الله عن أثره في اللغة، فيقول: "وفي أعقاب نهضة "المرصفي" يقبل العالمان الأديبان "الشيخ حمزة فتح الله"، و"الشيخ إبراهيم البازجي"، فيكشفان عن مجفو العربية، ويستظهران من أواضعها، وصيغها ما يدل على الكثير من الأسباب الدائرة، ويتعقبان الأخطاء الشائعة ويدلان على الصحيح الناصح1 من كلام العرب، فيأخذ الكتاب والشعراء أنفسهم بالتحري في التماس الصحيح حذر النقد، والتشهير، وكذلك تصفو اللغة، وتشرق ديباجتها2. كان من أثر هذه العناية، وما أخذ به المدرسين من شدة المراقبة، وعسر الحساب أن طبع كثير منهم بطابعه، فتشددوا تشدده، ونسجوا على منواله، ووقفوا عند السماع وعكفوا عليه، بل تغالى بعض المفتونين منهم، وتعدوا طورهم فجعلوا يقولون، لا توجد هذه الكلمة في اللغة، ولو وجدت في شعر فحول الأدباء من أهل القرون الأولى3. والحق أن هذه طريقة خدمت اللغة، وكان لها أثر طيب في سلامتها، ولكن الإمعان في التشدد، وهجر ما سهل من الألفاظ إلى الغريب المتوعر ربما أورث الكتابة تعقيدا وغموضا. وكثيرًا ما كانت تعرض عليه وزارة المعارف ما تطبعه من كتب العربية، فيقوم بتصحيحها، ويخرجها سليمة من الأخطاء اللغوية والعربية.

_ 1 نصح خلص، والناصح الخالص. 2 المختار ج1 ص41. 3 الوسيط في الأدب العربي ص340.

مؤلفاته: ترك الشيخ حمزة فتح الله، آثارًا دالة على غزارة علمه، ودقة بحثه وتمكنه من أسرار العربية وإلمامه بدقائقها، وقد اتسمت هذه المؤلفات بالبحث المنظم والنسج المحكم، والاستيعاب الدال على سعة العلم. ومن هذه المؤلفات: "المواهب الفتحية في علوم اللغة العربية": التي أحيا بها ما اندثر من آثار السابقين، وجرى فيها على طريقة الجاحظ والمبرد والقالي والمرتضى في أماليهم، وهي فنون من اللغة والأدب -والعلم دالة على سعة اطلاعه، وطول باعه في علوم مختلفة من أدب ونحو وصرف، وبلاغة وتاريخ، وغير ذلك فهي أخذ من كل فن بطرف، وجمع لما يوسع المدارك ويثقف الأذهان، وهو إذ يعرض خطبة من خطب العرب، أو قصيدة من قصائدهم، أو رسالة من رسائلهم يترجم للخطيب أو الشاعر، أو الأديب ويذكر شيئا من خبرهم، ثم يشرح أثره الشعري أو النثري شرحا لغويا دقيقا، ويستطرد إلى إعراب الشعر، ويعرج بذكر طرف من النحو أو الصرف، أو البيان مقابلا بين هذا المعنى، وما ذهب إليه غيره، وهكذا لا يزال يتهم في الأدب والعلم وينجد، ويطوف بك بين رياضه، ويهدي إليك من ثماره، وأنت مفتون بما أهدى إليك، معجب بطريقته في البحث، ومنحاه في الدراسة وحسن تنظيمه، وترتيبه "والمواهب" جزءان حافلان بالنكت الأدبية، والبحوث المختلفة التي تقوم الألسنة، وتمد الأقلام وتنفع الأديب بما لا غنية له عنه. والكتاب مطبوع متداول. ومن مؤلفاته رسلة في المفردات الأعجمية التي وردت في القرآن الكريم، وهي بحث طريف أعان عليه سعة عمله، وله رسالة أخرى في "الرسم" سماها

"هدية الفهم إلى بعض أنواع الرسم"، تحدث فيها عن وسم الخيل وغيرها، وأسماء ذلك عند العرب مما عثر عليه في كتاب المخصص لابن سيده وغيره من كتب اللغة، وفي أول الرسالة فهرس بأسماء السمات مرتب على حروف الهجاء، والرسالة محلاة بصور بعض الإبل الموسومة، طبعت في بولاق سنة 1313هـ، وله رسالة في التوحيد نهج فيها نهجا عقليا في البحث والاستدلال. وله رسالة سماها "باكورة السلام في حقوق النساء في الإسلام"، وهي مطبوعة أيضا. كتابته: كانت له في الكتابة طريقتان -طريقة وعرة متكلفة، وأخرى سهلة مرسلة، فهو يلتزم السجع أحيانا، ويفتن في استعمال الغريب، ويعمد إلى الزخرف والصنعة فتجيء كتابته ثقيلة متوعرة غامضة تنفر النفس من طول ما بذل فيها من التعمل والتكلف، ولكنه يعمد أحيانا إلى السلامة والسهولة، ويتجنب السجع فلا يرد في كلامه إلا عفوا غير مطلوب، ويتضح معناه ويشرق تعبيره. وهو في كلتا الحالتين فصيح العبارة محكم النسج شديد السطوة، ويغلب أن يكون النوع الأول في رسائله، ومعاطاته الوصف، ومجاراته أساليب القدماء وأشد ذلك في توقيعاته، "ويغلب أن تكون السهولة والوضوح في كتابته الصحفية، وما يتناول به لشئون الاجتماعية. شعره: أما شعره فهو غريب مشدود لا يجري مجرى الطبع، والارتياح بل يناوله على استكراه، وتكلف ويعني فيه بالزخرف والصنعة، ولا تشم منه روح الشعر المطبوع، ولم نعثر على شيء من شعره إلا قليلا.

نماذج من كتابته: كتب إلى بعض الفضلاء يطلب وده، وهو من نثره المتكلف الجاري مجرى الصنعة، والتعمل كما أن شغف1 الجنان2، بالحسن والإحسان تكون داعيته المشاهدة، وتسريح الأنظار في محيا3 الكمال، ومجتلى4 الجمال فترى العين من تلك الغرة5 ما يملؤها غرة6، فكذلك السماع يستدعي هذا الشغف، فيتأثر الفؤاد بما يشنف7 الآذان مما تهديه إليه طرائف8 الأخبار حتى كأن حاستي السمع والبصر في ذلك صنوان9، بل أخوان في هيكل هذا الجثمان10. ألا وأن محاسن السيد الأجل لما سارت بها الركبان، وأثنى عليها كل لسان ما بين أخلاق أبهى من الروض النضير11، وأعراق12 أشهى من عذيب النمير13 قد احتلت من فؤادي لا أقول منزلا رحيبا، ولا

_ 1 الشغف -شدة الحب. 2 الجنان بالفتح -القلب. 3 المحيا بضم الميم وتشديد الياء -الوجه. 4 مجتلاه -منظره. 5 الغرة -الوجه. 6 نزت العين -جف دمعها وبردت من السرور والاسم منه القرة بضم القاف. 7 يشنف الآذان -يطربها. وأصله من لبس الشنف وهو القرط. 8 الطرائف -الأحاديث المستملحة. 9 الأخوان الشقيقان. 10 الجثمان -بضم الجيم الجسم. 11 النضير -الحسن. 12 الأعراق هنا -بمعنى الطباع والصفات. 13 النمير -الكثير الماء.

واديًا خصيبا بل منزلة شماء1 ودارة2 علياء وأوجا3 بطوالعها السعيدة يسعد، ويلوح بها من ذكراه كل حين فرقد4، فلم أنشب5 أن قدمت كتابي هذا لمولاي بين يدي اللقاء عله إن يسمح به الزمان، وتشعر6 عنه الليالي والأيام ليتاح7 لي ري الفؤاد بما أرويه من حديث زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقال له ما وصف لي أحد، فرأيته إلا وجدته دون ما وصف لي سواك، وإن فيك خصلتين يحبهما الله "الحلم والأناة8" مقتديا بالإمام "محمود جار الله9" في تقديم هذا الحديث الشريف على ما أنشده إياه الشريف ابن الشجري أول ما لقيه، وكانا قد تحابا بالسماع. كانت مساءلة الركبان تخبرنا ... عن جابر بن رباح أطيب الخبر حتى اجتمعنا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري ومن كتابته السهلة الواضحة التي لا التواء فيها ولا تعقيد، ما كتبه بعنوان "الشورى، ومجلس النواب المصري"، فمما قاله: ونحن وإن كنا نعلم ما يترتب على الشورى من الفوائد العميمة، والمنافع الجسيمة، وما ينجم عن التفرد بالرأي من سوء العاقبة، غير أن ذلك لم يمنعنا من إبداء ما نراه من الملاحظات في الأمر بين كليهما، أعني الشورى والتفرد بالرأي المعروف بالاستبداد، فأما الشورى، فإنها وإن كانت ممدوحة عقلا

_ 1 شماء -عالية. 2 دارة -دار ويراد بها المكانة. 3 الأوج -العلو. 4 الفرقد -نجم قريب من القطب الشمالي. 5 لم أنشب -لم ألبث. 6 تشعر -نكشف. 7 يتاح لي -يتهيأ لي. 8 الأناة -الوقاء والحلم. 9 هو الإمام الزمخشري العالم المفسر المشهور.

وشرعًا بما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة في غير موضع، إلا أن ذلك ليس على معنى أنها واجبة حتما على أولي الأمر، بحيث لا تمضي بدونها بيعتهم، ولا تنفذ أحكامهم؛ لأن هذا ما لا يقول به أحد، بل إن مبلغ العلم فيها أنها من الأمور التي ندبت إليها الشريعة المطهرة من قبل اتمام مكارم الأخلاق. وأما الاستئناس بأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ترك الأمور شورية فهو غلط ظاهر. ألا وأن الملوك ظل الله في أرضه لا يجوز الخروج عن طاعتهم، ولا البغي عليهم ولا تخفر ذمتهم، ولا تنكث بيعتهم، ولا ينقض عهدهم في حال من الأحوال، اللهم إلا بكفر صريح لا يحتمل التأويل1. نموذج من توقيعاته: وقع لبعض المدرسين على قطع المحفوظات التي أرسلت إليه ليقرأها، وكان قد ضرب على بعضها فقال: وهو غاية في الغموض والإغراب. لم أراد بذلك الترميج2 إلا الرعوي3 على النشء، فإن قلا مع حفظ المبني خير من كثر يطوح4 به في موامي5 المنبت6. نموذج من شعره: قال في مؤتمر العلوم "باستكهلم"

_ 1 نشرت بجريدة البرهان الصادرة في أول ديسمبر سنة 1881م. 2 الترميح -إفساد السطور بعد كتابتها. 3 الرعوي ويضم النزوع عن الجهل، وحسن الرجوع عنه. 4 يطوح به -يرمي به. 5 الموامي -جمع مواه وهي الصحراء. 6 المنبت -المنقطع عن السفر.

حمد السرى يا أخي العود1 والناب2 ... أنساك وعثاء3 إغباب4 وإخباب5 ولو شهدت عبابا خضت لجثه ... على سفين6 بجنح الليل خباب7 يطفو إذا خفقت فيه بأجنحه ... من تحتها كل غواص ورساب تجر في اليم أذيالا مصبغة ... كالخود8 تختال في أذيال جلباب9 ومنها: طفقت أختلها10 شزرا11 وقد سفرت ... عنها اللثام ونضت12 فضل أثواب تقول ما للنوى بي مولعا دنفا ... يا ليتما بعذولي في الهوى ما بي

_ 1 العود -البعير المسن. 2 الناب: الناقة المسنة. 3 الوعثاء -المشقة. 4 أغباب: أغب الإبل صاحبها إذا ترك سقيها يوما وليلتين. 5 الإخباب -الإسراع. 6 سفين -جمع سفينة. 7 خباب مضطرب. 8 الخود -الحسنة الخلق الشابة أو الناعمة ج خودات وخون. 9 الجلباب -كسرداب القميص، وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما تغطي به ثيابها فوق كالملحفة أو هو الخمار. 10 أختلها -أخدعها. 11 شزرا -شزره واليه يشزره نظر منه في أحد شقيه، أو هو نظر فيه إعراض أو نظر الغضبان بمؤخر العين، والنظر عين يمين وشمال "قاموس". 12 نضت -خلعت.

ومنها: وهو الذي كان أغرابي بنظرته ... فاعجب له كيف أغراني وأغرى بي فهو الذي إن كتمت الحب باح به ... وهو الذي في مهاوي الحب ألقى بي ومنها في الحكم: كما جامح بالثريا راضه1 سفر ... فوق الثرى بين أكوار2 وأقتاب3 إن الثواء4 ثواء والقصور قبور ... العاجزين ولا إيراء5 للخابي6 ومن بغى نيل مجد وهو في دعة ... فقد بغى من صفاه7 در أحلاب8 والمرء في موطن كالدر في صدف ... والتبر في معدن والتبع في غاب وقال يمنع الوزير "خير الدين باشا" بقصيدة مطلعها: آلاوك9 الغر أو آناؤك10 الغرر ... زها بها في الزمان الجيد الطرر11

_ 1 راضه -ذلله. 2 الأكوار -الرحال أو بأداتها جمع كور. 3 الأقتاب -الأكف التي توضع على نقالة الأجمال جمع قتب. 4 الثواء -ثوى المكان وبه يثوي ثواء وثوى نزل وأثوى به أطال الإقامة به وأنزل. 5 الإيراء -أورى الزند إذا أخرج ناره. 6 الخابي -خبث النار سكتت أو طفئت. 7 الصفاة -الحجر الصلد الضخم لا ينبت فيه. 8 أحلاب -الحلب ويحرك استخراج ما في الضرع من اللبن والحلب محركه والحليب اللبن المحلوب. 9 الآلاء النعم واحدها إلى والى والى والى. 10 الآناء جمع اني واني وأنا وانوا -الوهن والساعة من الليل، أو ساعة ما منه وانى كالي وعلى- كل النهار والجمع آناء وأنى وانى وأنا كهنا. 11 الطرر -جمع طره جانب التوب الذي لا هدب له، وشفير الوادي والنهر وطرف كل شيء وحرفه والناصية، وأن تقطع للجارية في مقدم ناصيتها كالعلم تحت التاج.

الله ملجأنا إذ ليس يعجزنا ... شر الخطوب وخير الدين لي وزر حبر1 له همة أعلى وأرفع من ... هام2 الثريا ومجد ليس ينحصر وسيرة سرت الدنيا بشائرها ... وضمخ3 الكون عرفا4 مسكها الذفر5 لا زال كهفا لمن يأوي بساحته ... في ظله تعقد الآمال والوطر وكعبة وزراء الفضل أنجمها ... تزهو به وهو فيما بينهم قمر

_ 1 الحبر بالكسر ويفتح العالم أو الصالح. 2 الهامة رأس كل شيء ج هام، وطائر من طير الليل وهو الصدى، ورئيس القوم. 3 الضمخ -لطخ الجسد بالطيب حتى كأنه يقطر كالتضميخ. 4 العرف الريح الطيبة. 5 الذفر -مسك ذفر جيد إلى الغاية، والذفر محركة شدة ذكاء الريح.

الشيخ سيد المرصفي

الشيخ سيد المرصفي: المتوفى سنة 1351هـ-1931م: نشأته وحياته: هو، الأديب العالم الجليل الشيخ "سيد" بن "علي المرصفي"، ولد "بالمرصفا" إحدى قرى "القليوبية"، وهي بلدة أنبتت كثيرًا من الأدباء والعلماء النابهين، نشأ بها وأتم القرآن حفظا، ثم التحق بالجامع الأزهر فنهل من علمه وارتوى من ثقافته، و"شب مطبوعا على الجد والمثابرة بهمة لا يتطرق إليها الملل، وكان ذا ميل شديد إلى كتب الأدب العربي يقلب فيها نظره، ويمتع بروائعها نفسه، وكثيرا ما حفظ من شعر العرب الفحول، وتزود من أدبهم القديم الرصين، كما أكب على دراسة الكتب اللغوية، فدرسها دراسة دقيقة ووقف على أسرارها، واكتنه دقائقها من أمثال كتاب "الكامل للمبرد" "والأمالي لأبي علي القالي" "والحماسة لأبي تمام"، وغيرها. وظل يتلقى العلم على فحول العلماء من أمثال "الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر الأسبق"، ومن شيوخه أيضًا الشيخ "المبلط"، والشيخ "عبد الهادي نجا الأبياري"، وكان يقول أخذت اللغة عنه. وقد كتب كثيرًا من كتب الشربيني بخطه منها شرح البخاري، وتقرير له على الأطول في البلاغة، وظل كذلك حتى تقدم لامتحان العالمية، فحصل عليها من الدرجة الأولى الممتازة. الوظائف التي شغلها: وأول عمل تولاه هو تدريسه اللغة العربية بمدرسة "عباس باشا الابتدائية" ببولاق، ثم عتب عليه "الإنباني" شيخ الأزهر أن يحرم الأزهر فضله، وعمله فشكا "المرصفي" من أن مرتبات الأزهر لا تغنيه، فتفضل "الإنبابي"

ومنحه مرتب التدريس بالأزهر على أن يلقي درسا في جامع الزاهد "بجهة باب البحر" بين المغرب والعشاء، فيجمع بينه وبين التدريس بمدرسة "عباس باشا الابتدائية"، فكان يؤم درسه الأدباء والفضلاء، وحين كان مدرسًا بهذه المدرسة تأخر قليلا عن الموعد المقرر، فاستدعاه الناظر فكان جوابه تقديم الاستقالة، ومما أثر عنه أنه قال: ذهبنا إلى المدارس، فوجدناها نظاما بلا علم، وجئنا إلى الأزهر فوجدناه علما بلا نظام، فآثر العلم على النظام وتولى "المرصفي" التدريس في الأزهر. وكان الناهضون بالأزهر الراغبون في ترويج الآداب العربية به، قد اتجهت عزائمهم إلى التوفر على دراسة الأدب العربي في الأزهر، وبذل عناية خاصة به بعد أن كان نافلة ينساق الحديث إليه استطرادًا. فلما نهض المرحوم الشيخ "محمد عبده" بإصلاح الأزهر، ومكن من تنفيذ خطط الإصلاح فيه، وكان من أجل ما عني به توسيع آفاق الأدب العربي في الأزهر، والعمل على أن يأخذ الأزهريون بحظ غير يسير منه، فاقترح أن يطلب من ديوان الأوقاف مبلغا لترقية التعليم في علوم اللغة العربية، وأجيب هذا الطلب، وقرر مبلغ مائة جنيه سنويا لهذا الغرض1. وكان الشيخ "سيد المرصفي"، قد اشتهر بالتمكن من الأدب العربي، والاضلاع في علوم اللغة العربية، فعهد إليه بتدريس كتاب "الكامل للمبرد"، ثم درس "الأمالي لأبي علي القالي"، "والحماسة لأبي تمام"، كما درس غيرها من كتب اللغة العربية، والأدب العربي وزيد مرتبه عن غيره من المدرسين لاضطلاعه بتدريس الأدب، ثم جمع بين التدريس في الأزهر، والتدريس بمدرسة السلحدار الابتدائية، ولما عين الشاعر العالم "الشيخ عبد الرحمن قراعة" مديرا للأزهر، والمعاهد سعى في منحه عضوية جماعة كبار العلماء، "والمرصفي" فيما نعلم أول عالم أزهري تمحض درسه للأدب في الأزهر.

_ 1 تاريخ الإمام الجزء الثالث ص592 من تأبين الشيخ أحمد أبي خطوة.

وفي سنة 1913 عين مصححا بدار الكتب المصرية، فصحح "كتاب أساس البلاغة للزمخشري" "وكتاب الطراز" في البلاغة. مسلكه في التدريس: كان يشرح ما في كتاب من شعر أو نثر شرحا دقيقا، وينقد ما فيه من غلط أو مجافاة، ويتجه اتجاها لغويا أكثر منه فكريا، وإذا نقد تبسط في نقده، ونفذ إلى الأعماق فيما يرمى إليه، وكان شديد الطرب للشعر القديم المتوغل في القدم، شديد الكره للتعبيرات النحوية أو الصرفية، أو غيرها مما يجري عليه مؤلف الكتب الأزهرية، يؤدي مراده بأسلوب أدبي رصين، ويحمل تلامذته على متابعته والاقتداء به، ولم يكن ليخفي نفوره من الشعر المصري الحديث الذي لا يجري في تركيبه على الأساليب العربية الجزلة. وكانت دراسة أشبه بدراسة القدماء من اللغويين والأدباء، أمثال أبي العباس تعلب والمبرد والرياشي، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم من أعلام اللغويين ورواة الشعر، ويقول عنه تلميذه "الدكتور طه حسين باشا" في مقدمة كتاب "الأدب الجاهلي"، وكان يفسر لتلاميذه في الأزهر ديوان الحماسة لأبي تمام، أو كتاب الكامل للمبرد، أو كتاب الأمالي للقالي، ينحو في هذا لتفسير مذهب اللغويين والنقد من قدماء المسلمين في البصرة والكوفة، وبغداد مع ميل شديد إلى النقد والغريب، وانصراف شديد عن النحو والصرف. وكان طروبا لرقة الحديث وعذوبة المنطق، وحسن صوت المتكلم، تعجبه الكلمة الهادئة الرصينة المستقدة في موضعها التي لا نبو في استعمالها، وأكثر ما يؤذيه الكلمة الخشنة والصوت الأجش: وإذا استحسن كلمة أو عبارة في بيت بالغ في استحسانها، وإظهار التأثر والإعجاب بها وأعادها جملة مرات في صوت رقيق ونغمة عذبة، وطلب إلى تلامذته أن يسمعوا أو يعجبوا ويشاركوه في عجبه، وبذلك تولدت عندهم

حاسة النقد الذوقي، ونشأت عند كثير منهم ملكة الشعر الغنائي، والنثر الرقيق الذي يشبه الشعر في لطف موسيقاه. وكان ملحنا في طريقة أدائه حتى ليظهر طربه ويستخف تلامذته من موسيقى توقيعه، ويرى أن الأوزان الشعرية ترجع في توقيعها، ونغمتها إلى ضروب السير للرجالة والركبان والفرسان، ويجتهد في تمثيل ذلك بصوته وتوقيعه وحركته. أثره في الأدب وتلامذته: كان "المرصفي" يعقد درسه في الرواق العباسي، وقد حدثنا أحد تلامذته الخلصاء الأدباء1 أن حلقة درسه كانت مهرجانا يضم الأدباء والشعراء على اختلاف بيئاتهم وألوانهم، فلم تكن مقصورة على الأزهريين فحسب، بل كانت ندوة يؤمها عشاق الأدب جميعا، وكان يقيم بجهة باب الفتوح على مقربة من الأزهر، وبلغت الصلة بينه وبين تلامذته وعشاقه حدًّا غريبا فهم لا يقنعون بما انتفعوا به في دروسهم، ولكنهم يصحبونه إلى منزله فلا يزالون في حديث أدبي موصول، ودراسة طريقة ممتعة، ويشق عليهم أن يدعوا لأستاذهم فرصة ينفرد بها، والحق أن "المرصفي" كان خفيف الروح جذابًا"، يميل إلى الدعابة والمفاكهة، ويتبسط مع تلامذته فيزيل ما بينه وبينهم من الفوارق، ويشعرون بجو روحي خالص تمتزج فيه مشاعرهم بمشاعره وخواطرهم بخواطره. وكان يهتز للسؤال الأدبي اهتزازا، ويخف له ويرتاح لموقعه من نفسه

_ 1 هو العالم المحقق الأديب القد الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية، وقد شرح مقامات البديع وعرضه على أستاذه المرصفي، فقرظه كما شرح بعد ديوان الحماسة، وديوان الشريف الرضي، وسيرة ابن هشام وشرح ديواني أبي نواس والبحتري، وهما في طريقهما إلى الظهور، وله مؤلفات قيمة في النحو والصرف وغيرهما.

ويقرظ صاحبه حتى ليسمو بسؤاله، فإن سأله أحد تلامذته بما هو من النحو، أو علي شرف منه أعرض عنه، وقال: "نعم يا بن خروف". تخرج علي الشيخ "سيد المرصفي"، فحول الأدباء والشعراء في مصر حتى ليجزم بعض تلامذته بأنه رأى جميع الأدباء والشعراء في درس "المرصفي"، ينتفعون بأدبه وتوجيهه. ومن هؤلاء الذين غذاهم "المرصفي" بأدبه وعلمه، وبصرهم بمواقع الأدب، ومواطن الجمال فيه، وعلمهم النقد الأدبي الصحيح "السيد مصطفى لطفي المنفلوطي"، "والشيخ عبد العزيز البشري" "محمد مصطفى الهيهاوي" "والدكتور طه حسين باشا"، "والدكتور زكي مبارك" "والأستاذ أحمد حسن الزيات"، "والأستاذ محمد حسن نائل المرصفي" الذي أخرج مجلة الجديد وشهر زاد، وصحح كتاب كليلة ودمنه، وعني بضبط غريبه وتفسيره، وبيان ما فيه من أسماء الحيوان والطير، وكتب مقدمة الكتاب، وترجم لعبد الله بن المقفع الذي نقله إلى العربية، ومنهم أيضا "الأستاذ حسن السندوبي" صاحب صحيفتي "الثمرات والجوانب"، وصاحب كتاب "أعيان البيان"، والشعراء الثلاثة "وشرح المفضليات"، "وشرح البيان والتبيين"، "وشرح المقابسات" "وأدب الجاحظ" "ورسائل الجاحظ"، "وشرح ديوان امرئ القيس"، "وأخبار المراقسة وأشعارهم" "وأبو العباس المرسي"، ومنهم الأستاذ أحمد الزين الأديب الشاعر "والشيخ حسن القاياتي" الأديب الشاعر، "والشيخ محمود الزناتي" الذي شرح مختارات ابن الشجري، وبعض كتب أبي العلاء المعري، كما أنه له تصحيحات قيمة على كثير من كتب الأدب. كما أن من تلامذته الأستاذ "محمود شاكر" الأديب الباحث الذي أخرج رسالة ممتازة عن المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته. ومن تلامذته المجيدين الكاتب المعروف "المرحوم محمد إبراهم هلال"

الذي كان يكتب في "الكشكول" بعنوان "المرآة"، وكتب به "البشري" فيما بعد. ومنهم الأديب الشاعر المؤلف الأستاذ "كامل الكيلاني"، كما أن منهم المرحوم الأستاذ "فهيم قنديل" صاحب مجلة عكاظ. هؤلاء جميعا وغيرهم نهلوا من أدب "المرصفي"، واهتدوا بهديه واتجهوا متجهه في النقد الأدبي الصحيح. وكان "المرصفي" صاحب الفضل العظيم في لفت الأنظار إلى الأدب العربي القديم، واستخراج كنوزه، والاقتباس من روائعه. ومما قاله أحد تلامذته "الدكتور طه حسين "باشا" أستاذنا الجليل "سيد بن علي المرصفي" أصح من عرفت بمصر فقها في اللغة، وأسلمهم ذوقا في النقد، وأصدقهم رأيا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر ولا سيما شعر الجاهلية، وصدر الإسلام، وقال: "حب الأستاذ ودرسه قد أثر في نفسي تأثيرا شديدا، فصاغاها على مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقا على مثال ذرقنه". إيثار للبدوي الجزل على الحضرمي السهل، وكلف بمناحي الأعراب في فنون القول، ونبوعن تكلف المولدين لأنواع البديع، وانتحالهم لألوانه الفلسفية والمنطق، وتفطن شديد لحكم الضرورة في الشعر واللفظ السهل المهلهل يقع بين الألفاظ الجزلة الفخمة إلى غير ذلك، مما هو إلى مذهب القدماء من أئمة اللغة، ورواة الشعر أدنى منه إلى مذهب المحدثين من الأدباء والنقاد1. وكان "المرصفي" شديد التمكن من رواية الشعر العربي القديم متوثقا من كل ما يرويه، مفاخرًا بذلك بين تلامذته، حتى لقد كان يقول: "إن أبا تمام

_ 1 من مقدمة كتابه تجديد ذكرى أبي العلاء.

اختار من هذه القصيدة هذه الأبيات، وترك ما هو أجود منها وأكثر روعة. وكان ينتقد أبا تمام في تصرفه في بعض القصائد بتقديم بعض أبياتها إذ يراها مروية على ترتيب آخر في كتب الأدب التي هي أوثق رواية مما اطلع عليه أبو تمام، كما كان يفعل مثل ذلك في شرح الكامل للمبرد. استظهاره شعر اللصوص: ومما امتاز به استظهاره شعر اللصوص، وكان يقول: إن لسان هؤلاء لم تشبه شائبة؛ لأنهم لم يتصلوا بالحضر، ولم تفسد ملكاتهم. وهو يحب الشعر ويكلف به، ويحفظ من روائعه ما وسعه الجهد ويقول: تعلموا الشعر فإن لم تكونوا شعراء تكونوا لغويين". نكاته ونوادره: وكان رحمه الله حاضر البديهة، محبا للنكتة طريف النادرة، وقد أثر عنه من ذلك العذب السائغ، لقيه في الطريق رجل فاستوقفه قائلا: "طلقت امرأتي ثلاث فما ترى أيها الشيخ؟ فصاح في وجهه لا أدري، لا أدري فلما كلمه من معه قال: أتريدون أن ينكحها على قفاي؟ ". وفي أحد أعياد المسلمين أقيم حفل قريب من منزله، واجتمع الناس به فقام قس، وأخذ يقول: إن عيسى أفضل من محمد، فثار الجمع لذلك وألحوا في استحضار الشيخ -وكان قريبا من الحفل لمحاجة القس، وأرهفت الأسماع واشرأبت أعناق- فقال له "المرصفي": أليس عيسى بن مريم؟ قال: نعم قال: أليس محمد بن عبد الله؟ قال: نعم -قال: أتفضل ابن المرأة على ابن الرجل؟ وحين كان مصححا بدار الكتب طلب منه "السيد محمد الببلاوي" كتاب تهذيب اللغة للأزهري، فقال: "تريد تهذي باللغة؟ ولعل هذه النكتة وفدت عليه من اطلاعه على قول الأول

لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تبالغ قبل في تهذيبها فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها وقال لأصحابه يومًا: كانوا يقولون: إن البلاغة في طبع المصريين أتدرون أن المنطق في طبعهم أيضًا؟ قيل: كيف ذلك؟ لقيتني فتاة فسألتني نشوقا هي كونت في نفسها قياسا، كأنها قالت: هذا شيخ وكل شيخ يستنشق فهذا يستنشق. علمه في كتب اللغة والأدب: عمد إلى كتاب "الكامل للمبرد"، "والأماني لأبي علي القالي"، فبذل أكبر الجهود في شرحهما، وهما من أمهات الكتب العلمية الأدبية، وأغزرها مادة وأوسعها علما وأكثرها نفعا، وهما ميدان للبلاغة على مختلف فنونها والأساليب في شتى ألوانها، والأقلام في أخصب عصورها. تصدى "المرصفي" لهذين الكتابين، فتجلت مادته اللغوية ودرايته بالرواية، وقدرته على الشرح، وبعد غوره في النقد وشدة تفطنه لمواطن البلاغة وروعة البيان، وطريقته في تناول هذين الكتابين أن يتم القصائد، ويشرح الغريب شرحا دقيقا، ويتعرض لنسبة الشعر إلى قائله، ويراجع من أخطأ في النسبة، ويترجم لصاحب الشعر كما يترجم للخطيب أو الكاتب. ومن أهم ما عنى به تصحيح الرواية، وتخطئة الشراح السابقين. ومما يظهر في شرحه إكبابه على دراسة الغريب، والتقصي عن وجوه استعمال الكلمة الواحدة، فيفرق بين معنى الكلمة في أسلوب، ومعناها في أسلوب آخر فرقا دقيقا لا يهتدي إليه الأمثلة من غزيري المادة اللغوية، وممارسي الأساليب العربية. وشرح الأمالي والعقد كلاهما مخطوط، أما شرح الكامل فقد طبع في ثمانية أجزاء.

وقد تعقب "المرصفي" أبا العباس فيما رآه خطأ في الرواية، أو اللغة أو المعنى أو النحو أو شرح الغريب أو تفسير الغامض، وكثيرا ما كان يقسو في نقد المبرد، فيرسل جملا فيها من الجرأة مما لا يتفق مع مقام هذا الإمام الجليل، كأن يقول: كذب المبرد في هذا والمبرد كاذب في هذا، وهذا مما تفرد به. إلخ. "والمرصفي" يقول في مقدمة الرغبة: أسميته رغبة الآمل من كتاب الكامل مهتما ببيان ما حاد فيه أبو العباس عن سنن الصواب من خطأ في الرواية، وخطل في الدراية، ولا ينبئك مثل خبير، فمن تخطئته المبرد1 قوله أبو العباس قوله صلى الله عليه وسلم: المتفيهقون، إنما هو بمنزلة قوله: الثرثارون توكيد له قال المرصفي ذلك صواب لو كان معناهما واحد، وليس كذلك وكأن أبا العباس ذهل عما ذكر من اشتقاقه، وبيان معناه وهو الامتلاء2، ومما خطأ به رواية المبرد قوله حين روى أبو العباس البيت. إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقود قال المرصفي كذا أنشد أبو العباس، فغير لفظه ورواية الديوان فمنهم جواد قد تلفت حوله ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقود3 وفي الرغبة كثير من هذا التغليظ وغيره، والحق أن المرصفي لم يطرد صواب ما أخذه على المبرد، وربما نزع في غير قوسه فراغ عن القصد سهمه كما وصف المبرد بذلك في مقدمة الرغبة، ومن ذلك ما أتى به المبرد هجاء، فجعله المرصفي مدحا، إذ قال -: قال أبو العباس المبرد-: ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا -يريد ابن خلف- قوله في الحسن بن سهل.

_ 1 رغبة الآمل ج1 ص23. 2 رغبة الآمل ج ص178 وقوله: أقود يريد لا يلتفت إذ طعن مخافة أن يرى شخصا فيدعوه فوجهه مستقيم على زاده لا يكاد يصرفه، المرصفي في الرغبة في الصحيفة نفسها. 3 رغبة الآمل ج4 ص132.

باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفاعلي ذقن قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمين كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب ... يفيء دارك يستعدى على الزمن إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن في الله منه وجدوى كفه خلف ... ليس السدى والندى في راحقا لحسن "في الحسن بن سهل" يريد ابن عبد الله السرخسي، وزير المأمون بعد أخيه الفضل بن سهل، "باب الأمير" كأنه يريد أميرًا غير الحسن "ولا تلقى أخا طلب ... إلخ يريد الإرجاء السدي، وهو ندى الليل "والندى" ندى النهار ضربهما مثلا لجوده، وقد أخر هذا الاستثناء عن موضعه فيقل1، وقد عنى بتخطئته في مثل ذلك الأستاذ أحمد شاكر في تعليقه على الكامل. على أن "المرصفي" وإن كان مضلعا في اللغة بارعا في النقد ثقة في الرواية لم يكن أول من وجه إلى المبرد ما وجه، فقد سبقه إلى ذلك كثيرون، ومنهم "أبو القاسم علي بن حمزة البصري" في كتابه التنبيه على أغاليط الرواة ما غلط فيه المبرد، ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب، وبالمكتبة نسخة منقولة عنها "والمرصفي"، قد يشير إلى نقد أبي القاسم المبرد وقد لا يشير. أسرار الحماسة: شرح هذا الكتاب على طريقته التي نهجها في الكتب الثلاثة، وقد رأى كما قال في المقدمة: "إن أبا تمام سامحه الله تعالى كثيرا ما يعتمد على ذوقه، فأحيانا يقدم ويؤخر في أبياته، وأحيانا يبدل بعض كلمات العرب بكلماته، وبما حذف ما يحتاج

_ 1 رغبة الآمل ج4 ص132.

إليه المعنى، فيختل المبنى"، كما رأى أن أيدي الرواة عبثت بجميع ما اختاره أبو تمام، فمنهم من ابتدأ بشعر قيس بن الحطيم الأنصاري، ومنهم من افتتحه بشعر قريط بن أنيف العنبري، وكثيرا ما يفرقون بين أشعار القبائل، ويذكرون الأواخر أثناء الأوائل -وربما فرقوا بين كلمتين قيلتا في حادثة واحدة لشاعر، وباعدوا بين أنساب العمائر، وأحساب العشائر. لذلك رتبه "المرصفي" ترتيبًا آخر، فقسم أشعار الحماسة قسمين أولهما: الموضوعات الأدبية وثانيهما: شعر الوقائع الجاهلية والإسلامية، قدم الشعر الجاهلي على الإسلامي، والأموي على العباسي ملتزما إيراد القصيدة متى عثر عليها كاملة، منبها إلى ما وقع فيه أبو تمام، مفسرا المعنى مبينا المغزى، غير تابع لقوم مدوا أيديهم على ذلك الديوان بالكتابة، وظنوا أنهم فوقوا سهام الصواب، وقد أخطأوا غرض الإصابة. ولغزارة مادته اللغوية وسعة أفقه، وفيض علمه كان كثير النقد والتعليق والتخطئ، والتصويب لكثير من كتب اللغة والأدب، وقد اطلعت في مكتبته على طرف مما يقتنيه من هذه الكتب، فوجدته قد طرز هوامشها، وحواشيها بغرر من العلم وفنون من النقد، كتبها بخطه الأنيق البديع الذي يضارع أروع الخطوط المحدثة. ونسخته من لسان العرب قد زينت هوامشها بكثير من التصحيحات والنقد والمحاكمة خصوصا فيما نقله "ابن منظور"، عن "ابن بري" "والجوهري" إذ كان "لابن بري" شرح على "صحاح الجوهري" يتعقبه فيه، ويكثر من تخطيئه "وابن منظور" ينقل العبارتين، فيقف "المرصفي" موقف الحكم بينهما. وقد نقل "المرصفي" بخطه الجميل كثيرا من كتب الأدب، ودواوين الشعر في مختلف العصور، ونسخ كثيرا من كتب اللغة العربية والبلاغة، والفقه وغيرها، وقد كان يكتب المتن بمداد ذي لون، والشرح بمداد من لون آخر والتقرير بخط يخالف في حجمه، كل ذلك في شكل مقبول ووضع طريف،

وكثيرًا ما كلف أبناءه وتلامذته بنسخ ما يروقه من الكتب والدواوين. ومما اطلعت عليه بخطه كراسة وضع في أطارها بالخط الضخم الرائع كلمات غربية عربية، ثم وضع داخل الصفحة شواهد من الشعر العربي المشتمل على هذه الكلمات منبها إلى مراجع هذه الأبيات، وقد يكتب الكلمات في الإطار، ويدع مقابلها فارغا من الشواهد، انتظارا للعثور عليه ومما كتبه. الزرجون: قال أبو دهبل: ثم ماشيتها إلى القبة الخـ ... ـضراء تمشي في مرمر مسنون وقباب قد أمرجت وبيوت ... نظمت بالريحان والزرجون الجفن: قال النمر التولبي "من مجموعة التعالبي": ألم بصحبتي وهم هجود ... خيال طارق من أم حصن ألم ترها تريك غداة باتت ... بملء العين من كرم وحسن سقية بين أنهار ودور ... وزرع ثابت وكروم جفن لها ما تشتهي على مصفى ... إذا شاءت وحواري بسمن أسلوبه: أما أسلوبه الأدبي فهو الأسلوب الرصين الفصيح العبارة المتخير اللفظ الحسن السبك الذي يطالعك منه غزارة البيان، وفيض اللغة والافتتان في الأخذ بأساليبها، ويغلب على "المرصفي" أن يتناول السجع في كتابته لكنه في رفق، ولطف لا غضاضة فيه ولا ثقل. شعره: أما شعره ففصيح التعبير متلائم النسج قوي الديباجة لكنه شعر علماء، وقد ينحو به نحو الصنعة، ويجهد في الجناس والتورية، ويتناول التاريخ في شعره

كسنة السابقين، ولكن ذلك لا يخرجه عن الوضوح والجزالة، وإيثار المعنى وتوخي الغرض. نموذج من نثره: مما قاله في مقدمة "أسرار الحماسة". أما بعد. فلولا ما يؤثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، لما كتبت في اللغة العربية آية تذكر أو حديثا يؤثر، أو حكمة غراء، أو رجزا تحدو به حداة الإبل، أو قصيدة تسير مسير المثل، ومعاذ الله أن يكون ذلك ضنة وبخلا، أو بما وجب سفاهة وجهلا، ولكن رأيت نفوس القوم مصروفة إلى تحقيق المسائل العلمية والمباحث العقلية، والعليم عندهم من نظر إلى الاستدلال، وأكثر طرق الاحتمال، وولد من الكلام ما لا يولد، وأوجد من الأفهام ما لا يوجد، ولو علموا "هداهم الله تعالى" ما علمناه من خصائص اللغة وأساليبها، وما أودعت من لطائف الأسرار في تراكيبها، لهجروا تلك الكتب ذوات التنافر والتعقيد، واغتنموا لغة القرآن المجيد، والحديث الحميد. على أنها لغة أمين أميين لا يعلمون القراءة والكتابة، ويعلمون ما تحت السحاب وما فوق السحاب، ما تركوا من أودية المعاني واديا إلا بحثوه، ولا طرقوا من مبهمات الكلام غامضا إلا استنبئوه، وهم مع ذلك لم تجمعهم جامعة كلية، ولم تحوهم مدرسة نظامية، وإنما كان العربي في بدايته يتلقى من أمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، حتى غذا بلغ أشده واستوى طفق ينتقل في الأحياء، تنقل الأفياء، يستمع ما يترنم به الفتيان وتشدو به الركبان فيحفظ منهم ما سمعه، ويعي ما جمعه. فيتفتق بذلك لسانه، ويقوى جنانه، "وإنما العلم بالتعلم وملاك الفهم التفهم".

نموذج من شعره: قال في عرس: أهذه أنجم تزهو على الأنس ... أم ذي بدور بدت من مطلع الأنس أم ذي محاسن أنوار تنظمها ... أيدي السرور تحلى بهجة العرس لله ليلة أنس في ملاحتها ... وحسن بهجتها أقصى منى النفس يريك منظرها من لطف رونقها ... روضا تنور زهرًا أطيب العرس أعجب بها ليلة ما رامها أحد ... إلا تكشف عنه شقوة النحس تقارن البدر فيها وهو مكتمل ... في دارة العز والإيناس بالشمس وقال مقرظا كتابا في علم الإملاء ألفه "الشيخ حسن شهاب"، وسماه "دليل الكاتب". لله حسن مؤلف في وضعه ... صور الحروف كفاية للطالب يهدي إلى طرق الكتابة رسمه ... يا حبذا الهادي دليل "الكاتب ومدح الخديو "عباسا" الثاني بقصيدة مطلعها: سل النجم عن جفني محبك والكرى ... كفى شاهدا من سائل الدمع ما جرى جرى فوق خدي ناحل رق جلده ... فأمسى ولا صبر لديه فيصبرا وهنأ "الشيخ الإنبابي" إذ ولي مشيخة الأزهر بقصيدة كان يسميها المعلقة الثامنة -قال في مطلعها: ملاك العلا في غرة ملكت يدي ... أمن شأن مثلي في العزازة أن يدي أبت عزمتي أن آخذ الحمد هينا ... بغير سنان أو لسان محدد إلى أن يقول: أمرت العلا أرخ بسامي كماله ... تهنأت الدنيا ودين محمد ................... ... 856 66 70 92 1314 هـ

وكان الشعراء هنأوا "الشيخ الشربيني" بتوليته مشيخة الأزهر، فكتب له مهنئا فكان مما قاله: تحجب البدر يا للناس عن نظري ... هل عارف فيكم بالعين والأثر؟ ردوا علي فقلبي في هواه مضى ... وحلف الجفن في التسهيد والسهر يا شيء ما لي فما أدري تحجبه ... أساحر بي وشي أم رمية القدر1 ولما قرأها "الشربيني"، وكان قد قرأ القصائد جميعا قال: علقوا قصيدة "المرصفي" فوق رأسي. وللمرصفي ديوان مخطوط يجمع طائفة ضخمة من شعره الذي قاله في مختلف الأغراض، وله تخميس سماء "الدر الذي انسجم على لامية العجم"، التي قالها الوزير الكاتب مؤيد الدين "الحسين بن علي الطغرائي"، وأول اللامية: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل ويقول "المرصفي" في مقدمة التخميس: إنه نظمه "قياما بواجب الأدب، وأخذا بنصرة لغة العرب وامتثالا لإشارة أعزائي الإخوان من بني الإنسان، وما هو إلا خطرات فكر نزهته في روض اليراع، فجنى من أدبه الغض ما استطاع، سميته بالدر الذي انسجم على لامية العجم" متخليا عن وصمة الخائل متحليا بحكمة القائل: وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد ومن التخميس قوله:

_ 1 يا شيء كلمة يتعجب بها تقول: يا شيء ما لي كياهئ ما لي "قاموس"، وفي الأساس روى الكسائي يا شيء ما لي في التلهف على الشيء، وأنشد: يا شيء ما لي من يعمر يفنه ... مر الزمان عليه والتلقيب وقال زهير بن مسعود: يا شيء ما هم حين يدعوهم ... داع ليوم الروع مكروب

أنا الإمام وكل الناس لي تبع ... لم يلحقوا شأو مجدي أن هم انتجعوا لي المفاخر فيما بينهم جمع ... "مجدي أخير أو مجدي أولا شرع والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل" مجدي تعزز حتى اعتز بي وطني ... وتاه كبرا على بغداد أو عدن لا أبتغي غيره والعز ينشدني ... "فيم الإقامة بالزوراء لا سكنى بها ولا ناقتي فيها ولا جملي" ويقول في آخره: ويا بصيرا بحال الدهر أهله ... للأمر أهل النهى حتى تأمله إن وشحوك بما استوضحت مشكله ... "قد رشحوك لأمر إن فطنت له فارنا بنفسك أن ترعى من الهمل" وقد طبع التخميس سنة 1312هـ، ويليه في كتيب واحد تخميس تلميذه "السيد طه أفندي أبو بكر" الذي سماه "بث الشجن على عينة أبي الحسن"، التي أنشأها ابن رزيق ومطلعها: لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقا، ولكن ليس يسمعه

الشيخ حسين والي

الشيخ حسين والي: المتوفى سنة "1362هـ-1943م": نشأته وحياته: نشأ في بيت كريم الأصل عريق في المجد، فهو ابن المرحوم الشيخ "حسين والي" بن "إبراهيم والي" بن "إسماعيل والي" بن "وهدان والي"، و"وهدان والي" الجد الثالث للمترجم له ينتسب إلى "السلطان عامر" ابن "مروان الحسيني"، وينتهي نسب "السلطان عامر"، هذا إلى الإمام علي كرم الله وجهه. وقد ولد الفقيد ببلدة "ميت أبي علي" الملحقة بمركز "الزقازيق" من أعمال الشرقية سنة 1896م -وكان والده من علماء الأزهر الفحول المعاصرين "للأشموني"، والإنبابي" "والطويل" وغيرهم، وكان مدرسا بالمدرسة التجهيزية، تثق به وزارة المعارف، فتسند إليه رياسة الامتحانات العامة، وتعهد إليه بتفتيش المدارس، كما كان من المقربين للخديو "توفيق باشا". تعلم المترجم في مكتب القرية وحفظ فيه القرآن الكريم، ولما أوفى على التاسعة من عمره استصحبه والده إلى القاهرة، حيث كان يقيم بقصر عمه المرحوم "مصطفى بهجت باشا" بحي "السيدة زينب"، وهناك أدخل مدرسة ابتدائية أتم بها دراسته، ثم ألحق بالأزهر حول الثالثة عشرة من عمره، فتلقى العلوم على أساتذته بجد ومثابرة حتى نال شهادة العالمية، وقد عرف طول درسه بالبحث والتدقيق. وعين بعد ذلك مدرسا في الأزهر، فدرس كثيا من علوم الفقه والشرع، وخاصة كتاب "الأم" في مذهب الشافعية إذ أذن له بتدريسه أستاذه

"الأشموني"، ولما يتجاوز الثلاثين من عمره، وكانت حلقة درسه مقصد الطلاب لثقتهم به، وتمكنه من مادته. ولما كان من العلماء الأثبات الراسخين في الإفتاء كان المغفور له الشيخ "محمد عبده"، يحيل عليه استفتاءات ترد إليه من مختلف الأقطار الإسلامية، فكان مثار الإعجاب بدقته، وعمله ورسوخ قدمه حتى إن "مجلة المنار" أشارت إلى ما كان له من جهود في تحري الحقيقة، وتوخي الصواب فيما كان يصدره من فتاوى للمسلمين في شتى الأقطار. ولما أنشئت مدرسة القضاء الشرعي اختير مدرسا لعلوم الأدب العربي، والإنشاء والمنطق وأدب البحث، والمناظرة، وبعض العلوم الشرعية، فتلقى عنه هذه العلوم طائفة من نابغي القضاء الشرعي، "ومما يذكر عنه بمناسبة اشتغاله بالتدريس في مدرسة القضاء أنه كان جلدا على العمل دقيقا في مراجعة ما يكتب تلامذته، حتى إن حضره صاحب العزة الأستاذ "أحمد إبراهيم بك" رحمه الله -وصف الفقيد لنا بهذا الوصف في مقام ذكر حسناته قال: إنه كان أحد اثنين عرفا بالتدقيق في العمل، والقيام بالواجب المدرسي، وهما الفقيد العظيم، والمغفور له الشيخ "محمد المهدي" الذي كان وكيلا لمدرسة القضاء الشرعي1. على أنه كان موصول الأواصر بالأزهر، وهو يدرس بمدرسة القضاء إذ شغل منصب المفتش العام للأزهر، والمعاهد الدينية حين أنشئت وظائف التفتيش في الأزهر. ومما يذكر أن له في الأزهر تشريعا صدر به قانون في سنة 1911 لا يزال هذا التشريع متبعا حتى الآن في المعاهد الدينية -ثم إنه نقل من التفتيش إلى معهد طنطا حيث عين وكيلا له، وقد أظهر من حسن الإدارة، وبراعة التوجيه ما زاد في فضله.

_ 1 من كلمة منصور فهمي باشا في تأبينه في المجمع اللغوي.

وإذ تولى المغفور له "السلطان فؤاد" عرش مصر اختير لمنصب كاتم السر العام للأزهر والمعاهد الدينية، فاضطلع بأعماله الضخمة، وأعبائه الجسام على غير وجه، ومما يذكر له بالحمد والتقدير أنه في أثناء توليه هذا المنصب قررت لجنة 1 إصلاح المعاهد الدينية، وضع الأزهر تحت تفتيش وزارة المعارف كفاء عشرين ألف جنيه تأخذها المعاهد الدينية من وزارة المالية، وكان ذلك في وزارة المرحوم "يحيى إبراهيم باشا"، ولما رفع قرار اللجنة إلى مجلس الوزراء أصدر رأيه بالموافقة عليه، إلا أن "واليا" حملته الغيرة على استقلال الأزهر، فغضب له واستطاع بنفوذه البالغ، ولباقته الساحرة أن يصرف الأمر عن وجهه بعد ما تهيأ له من أسباب التنفيذ. عضويته في جماعة كبار العلماء: وفي سنة 1924 تقدم ببحث علمي لينال عضوية الجماعة، فصدرت الإرادة الملكية بتعيينه في عضوية هذه الجماعة الموقرة. في مجلس الشيوخ: ثم اختير بعد ذلك عضوا في مجلس الشيوخ، فمثل الأزهر أكرم تمثيل ودوى صوته الديني في جنبات المجلس، فقاوم التبشير وحض على العناية بالقرآن الكريم في المدارس الإلزامية، ووقف للغة العربية موقف المدافع الغيور، فكان يثور حين يجد خطأ في الأداء منبها صاحبه إلى الصواب مهما علا شأنه. ومما يذكر في هذا الصدد أنه دخل المجلس يوما، فقال لأعضائه: فيم تبحثون؟ فقالوا: نبحث قانون التسول، فقال لهم: التسول معناه الاستكراش واسترخاء البطن، فهل تريدون في ذلك بحثا؟ وكانت ملاحظة لغوية طريفة دلت على براعته التي شهد بها الجميع في كل مواقفه.

_ 1 اللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر ويرضونه.

في المجمع اللغوي: ولما أنشىء مجمع فؤاد الأول للغة العربية في ديسمبر سنة 1932م كان أحد عشرين عضوا، وقع الاختيار عليهم للقيام برسالة المجمع، وقد شهد له بالفضل والتمكن في اللغة جميع علمائها الذين عرفوا فيه الدقة، وغزارة العلم وسعة الاطلاع. صفاته وأخلاقه: هذا وقد كان رحمه الله جم الذكاء حاضر البديهة عذب الحديث آخذا بأسباب الجد عظيم الخلق، عفيف اللسان نزيه الرأي كريم التواضع، فأكرم بهاتيك أن تكون صفات العلماء. مكانته اللغوية وأسلوبه: كان رحمه الله دائم البحث والتنقيب في كتب اللغة وعلومها والأدب وفنونه، وكان شديد الغيرة على اللغة العربية حريصا على تنقيتها مما يشوبها من الخطأ والدخيل، دائب السهر على سلامتها من كل يشوبها. وقد أثر عنه إذ عين وكيلا لمعهد طنطا أنه كان نافذ الرقابة على العلماء والطلاب، ولما لاحظ بعض الخطأ في عبارتهم أراد أن ينقيها من هذا الزيف، وأن يضع حدا لما يشوب الألسنة من الخطأ، فكان يكتب ما يتداول من الكلمات على اللوح مبينا الخطأ هاديا إلى الصواب، وقد ظل يعرض هذه الكلمات في فناء المعهد مرتين في كل أسبوع، وذلك مما كان له أعظم الأثر في صحة العبارة، وسلامتها من كل شائبة. وكان آية الآيات في غزارة المادة، ودقة البحث والتملئ من العلم، والتهدي إلى وجه الصواب فيما يتناوله من البحوث. ومن يطلع على محاضر الجلسات للمجمع اللغوي، ويستقرئ ما دار فيها

من بحث وتنقيب يجده صاحب الفصل الضخم، والعلم الجم والرأي السديد، ويجد له من الجهد الموفور ما يرمي على جهد جماعة مجتمعة. وكان الحكم الفصل في المجمع فيما يطرح من بحث، ويتناول من دراسة، قوى الحجة متين البرهان، مكنته سعة أفقه وطول اطلاعه على أسرار العربية، ودقائقها من أن يكون "فيصل هذه المناقشات يقول حين يدور الجدل في الاصطلاح، أو القاعدة القول الذي يقطع الشك، ويقف المناقشة على ما يحسن السكوت عليه1". وقد شهد بوفرة علمه، وشدة تمكنه في اللغة وعلومها، وبراعته في البحث وتفوقه فيه، ما نشره في صحيفة المجمع من أبحاث لغوية بارعة، وخاصة ما كتبه بعنوان "سبيل الاشتقاق بين السماع والقياس"، المنشور في الجزء الثاني من صحيفة المجمع، فإنه نموذج القدرة الفائقة، والدرس الحصيف والبحث المتين. وكان إلى جانب هذا أديبا عذب الأسلوب متخير اللفظ، فصيح العبارة محكم النسج، رائع البيان حتى فيما يكتبه من بحوث ودراسات علمية. شعره: وكان ينظم الشعر ويجيده على إقلال، إلا أنه كان منقطع النظير في التاريخ الشعري، فقد أنشأ فيه القصائد الطوال، وبلغ من البراعة فيه أن يجعل أحد مصراعي القصيدة رمزا للتاريخ الهجري، والمصراع الآخر رمزا للتاريخ الميلادي، ومن ذلك قصيدته التي سماها "شوارة عكاظ"، قالها في مدح الشيخ "محمد عبده"، وبدأها بالفخر بنفسه وهي تبلغ خمسين بيتا، يؤرخ المصراع الأول من كل منهما عام 1898م، والمصراع الآخر عام 1316هـ، كما أن عنوانها يؤرخ عام إنشائها بالتاريخ الميلادي.

_ 1 من كلمة منصور باشا فهمي في حفل تأبينه في المجمع اللغوي.

وللشيخ كتاب لم يطبع سماه "عصا موسى" في قريض العرب، والمولدين ذكر في هذا الكتاب قصيدة له سماها "مليكة شعر الدهر"، وتؤرخ هذه التسمية بحساب الجمل عام إنشائها، وهو 1310هـ -ويقول عن هذه القصيدة: إنها مائة تاريخ في ستين بيتا كل ثلاثة أبيات خمسة تواريخ تكتب في الأصل خطا واحدا، فتكون القصيدة عشرين خطا، وحينئذ تقرأ على أوجه متعددة لو قرأت على أصل كتابتها كانت مسدسة، وكان المصراع الأول منها، وما تحته من كل تسديس عشرين تاريخًا لعام 1310هـ، والصراع الثاني وما تحته كذلك عشرين تاريخا لعام 1892م، والمصراع الثالث وما تحته كذلك عشرين تاريخا إلى سنة 1906 قبطية، والمصاريع الثلاثة المذكورة مصرعة إلى انتهائها، والمصراع الرابع وما تحته كذلك عشرين تاريخا لسنة 2204 رومية لازمة فيه قافية النون، كل مصراع ما ذكر تاريخ، والمصراعان الخامس والسادس، وما تحتهما كذلك عشرين تاريخ لسنة 5653 عبرانية كل مصراعين تاريخ واحد لازمة في الخامس قافية الدال الموصولة بالهاء، وفي السادس قافية اللام. ولست أدري إلى أي حد احتمل الشيخ عناء هذه الطريقة، وكيف أطاق هذا الجهد المضني، ولكنها قدرة وولوع. مؤلفاته: ترك الشيخ مؤلفات قيمة كثيرة أعانه على تأليفها طول مثابرته، وفيض علمه وبعض هذه المؤلفات مطبوع ككتاب أدب البحث والمناظرة، وكتاب الاشتقاق ورسالة في التوحيد، ورسائل في الإملاء، وله غير ذلك مؤلفات جليلة لا تزال مخطوطة في فقه الشافعية الذي كان إماما فيه، وفي علم الحيوان، وفي علم الكلام وتاريخه، كما ألف في اللغة كتابا ضخما تناول فيه اللغة، وعوامل نشأتها وتطورها واختلافها ونمو اللغة وتعدد لهجاتها، وما أدخل على اللغة العربية من ألفاظ غريبة عنها مع تبيين أصل هذه الألفاظ.

هذه المؤلفات ثروة ذات خطر، وحبذا لو أتيحت مراجعتها، وطبعت لينتفع الناس بكنوزها. نموذج من نثره: مما نشر في الجزء الثاني من مجلة المجمع بعنوان "سبيل الاشتقاق بين القياس والسماع". كان للعرب في الجاهلية كلام كثير، وشعر كثير لم يكن لهم علم أصح منه، ولم ينته إلينا جميع ما قالوه؛ لأن اعتمادهم كان على الرواية لا على دواوين معروفة، فإنهم كانوا أميين لا يعلمون الكتاب، ومن علمه منهم فهو قليل. ولما جاء الإسلام لفت العرب عما كانوا عليه، وبهرهم القرآن بأساليبه وشغلهم بأحكامه، وتكاليفه، وغادر القادرون منهم الأرض الجرز إلى غيرها في شلمنون ساقتهم فشرقوا وغربوا إلى أن هلك منهم من لا يحصون موتا وقتلا، بيد أنه كان لمن بقي في بلاد العرب، ومن خرج فترات أو فرص حصل فيها إثبات طرف من الرواية، وطرف من الكلام والشعر عليه من الرونق ما لم يكن من قبل. هذا ما صارت إليه لغة العرب من الكثرة، فلم ترثها من العرب إلا كما يرث الرجل من أبيه نحو الكفاف من الرزق. ثم حدثت أطوار عبثت فيها يد الحدثان بطائفة من هذا، فبعضها أصابه الفناء، وبعضها أصابه التفريق، ولولا حسن التصرف وسعة الحيلة لكشفت الحاجة عن وجهها العابس. إننا نجد مواطن غير تامة الإفادة، أو البيان في أمهات الكتب اللغوية التي بين أيدينا، وقد حشدت ما يرى كثيرا وهو قليل من الكثير الذي ذهب، ولو وصلت إلينا اللغة وافرة، لوجدنا طلبتنا فيما نحسب، ومن هذه المواطن ما انساقت إليه الفكرة الآن.

قد يذكر اللغوي الكلمة التي من شأنها أن تشتق، أو يشتق منها ولا يذكر الأصل أو الفرع، أو يقول مثل كلمة كذا لا فعل لها، أو المصدر ممات أو لا تقل كذا، والفطين المستنبط لا يقف عند ذلك، بل ينبعث للإحاطة بأسبابه وتوسيع البحث عنه، والنظر في الاشتقاق وأصول العربية، فإذا سلك هذا المنهج رأى أن بعض المحظور يصير غير محظور، وأن الشيء قد يمنع من جهة، ولا يمنع من جهة أخرى، وأن هناك ما يقدر على القياس، ولا يتكلم به لوجود مانع، وأن هناك ما يؤتي به على القياس، ويتكلم به وإن لم تتكلم به العرب؛ لأنه لا مانع، وما قيس على كلام العرب وسلم من موانع الاستعمال فهو من كلام العرب، وعلماء العربية لم يضعوا أصولهم لما سمع من العرب، وإنما وضعوها لما لم يسمع. ومما ألقاه في إحدى جلسات المجمع ما يأتي: سادتي: أتشرف بأن أقوم بينكم لألقي كلمة في القرارات السبعة التي رآها مجمع اللغة العربية الملكي في دور الانعقاد الثاني، وبيان مأخذها وسبيل الانتفاع بها، وما رآها إلا عن نظر صحيح وحجج قائمة، وقد دعت إليها الدواعي وبعثت عليها البواعث، وإن المجمع لا تفتر له همة عن خدمة اللغة، ومعالجة إنمائها بالاشتقاق وغيره، وقيامها بالأغراض التي يتطلبها الزمان مع المحافظة عليها، حتى لا يكون هناك ميل عن سنن الطريق. وإذا كان المجمع نعمة على اللغة وأهلها من نعم صاحب الجلالة، مولانا المعظم أيده الله وأبقاه، فإن من شكر النعمة الدأب في العمل، وإن شاء الله رأى الناس أن الطل صار وابلا. وإنما ألقى كلمتي في ضوء من بحوثي التي سمعها المجمع، وعول عليها عند النظر في المسائل.

لقد سن المجمع طريقة لإكمال المواد اللغوية التي ورد بعضها، ولم ترد بقيتها حتى ينتفع بها يجيزه القياس من هذا. إن كتب اللغة هي مثابة اللغويين والأدباء وغيرهم، وقد جمعت كثيرا وبينت كثيرا، وإن لبعضها إصلاحا مرشدا، ولكن فيها وراء ذلكم أصولا لم تذكر مشتقاتها، ومشتقات لم تذكر أصولها، وقد يذكر في بعض هذا أنه لا يقال كذا أو لا فعل لكذا، أو أن المصدر ممات، أو ما شأنه أن يمنع من سد الثلمة، ومرجع هذا الكلام العرب، والعرب أمراء الكلام يتصرفون فيه بالسليقة يتكلمون تارة بالكلمة، ومشتقاتها وتارة يتكلمون ببعض دون بعض، وطورا يحيون الكلمة يم يميتونها كالمرء يتذوق الشيء، فإذا لم يعجبه طعمه طرحه. فهمنا هذا كما في كتب اللغة، وإن من اللغويين ذوي أحلام كشفوا الغطاء عن بعض ما نظن أنه محظور، فإذا هو مباح ولو من طريق القياس، فكان ذلكم من أسباب التكملة التي رآها المجمع، أما ترك الأمر على حاله، فإخفار لذمة اللغة. ومن بحث في كتب اللغة بحث استقصاء، وكان بصيرا بأصول العربية والاشتقاق عرف مواطن الاتفاق والاختلاف، ومنزلة كل من المختلف فيه، وعرف أن كثيرا مما أشرت إليه يجوز في القياس، وإن لم تتكلم به العرب، فمما قيس على كلام العرب، ولم يمنع من التكلم به مانع كان من كلام العرب، فما وضعت أصول العربية والاشتقاق لما فاتوه، وإنما وضعت لما لم يقولوه. لما رأى المجمع رأيه جعل المذكور في كتب اللغة سبيلا إلى غير المذكور، وآوى إلى ركن شديد مما حقق علماء العربية، فأزال توهم بعض الناس أن ما لم تنص عليه كتب اللغة مطروح، وأفاد أن أصول العربية هي الأدوات التي تستخرج بها الثروة اللغوية المذكورة.

ومن الأمثلة قول لسان العرب، "بخن فهو باخن" "طال"، والخاء من بخن مفتوحة، فإذا بحثت في كتب اللغة عن ضبط عين المضارع، وعن المصدر لم تجد، فيفهم من تفسير بخن بطال أن بخن فعل لازم، ويفهم من فتح عينه أن مصدره هنا على مثال فعول قياسًا، ويفهم من كون عينه حرف حلق أنها تفتح في المضارع قياسا، كدأب يدأب دءوبا، فيقال بخن يبخن بخونا. نموذج من شعره: قال يقرظ كتاب "شذا العرف في فن الصرف" لمؤلفه الشيخ الحملاوي، وهو من تاريخه الشعري: شذا العرف بالطبع مبناه رق ... 1001 381 114 98 300 وبرق اطصفا الصرف لطفا برق ... 308 181 401 120 302 كتاب نقي أغار الحسود ... 423 160 1202 109 وأخمل كل كتاب سبق ... 677 50 423 162 كتاب كريم عظيم مقام ... 423 270 1023 181 صفا مثلما رق لطفا ورق ... 171 611 300 120 110 كتاب تباهي بأقعد وضع ... 423 270 1020 871 وأضحى حليفا لحسن نسق ... 825 129 148 210 به الصرف وافاه أسمى افتخار ... 7 501 93 111 1183 فأبدى زهاء عظيم الأفق ... 97 13 1020 182 غوى الصرف زلفا فأرجعه ... 1016 401 118 359 فصار برجعته كالفلق ... 371 680 261 صنيع أخي الفضل وافى الأيادي ... 23 611 941 65 57 وأرقى جليل شريف الأرق ... 317 73 590 332

أغر البرايا النبيل الفريد ... 1201 245 133 325 من البدر دون زكاء اتمحق ... 90 237 60 726 199 غياث العلا الحملاوي العزيز ... 1511 132 126 125 مناط النهى من به الفخر حق ... 100 96 90 7 911 108 لعمرك هذا الذي عز جاها ... 360 706 741 77 10 يبث ثناء المديح نطق ... 504 556 93 159 سنة 1893 ... سنة 1312 وقال يهنئ الشيخ "حسونه النواوي" بتوليته مشيخة الأزهر من قصيدة عدتها خمسة وعشرون بيتا صدورها للتاريخ الهجري "1313"، وأعجازها للتاريخ الميلادي "1895" على طريقة الرسم الكوفي. لعمرك مجد الدهر حسونة الأسمى ... أخو المجد خدن العز رب العلا قدما أشم الورى رأيا ومجدا ومحتدا ... وأفخمهم فضلا وأطودهم علما وقال يهنئ الشيخ "محمد عبده" من قصيدة طويلة صدورها تاريخ لسنة "1317هـ"، وأعجازها لسنة "1899م"، وهي على طريقة الرسم الكوفي أيضا: توحد عزك لاذ ونهى ... جناه سواك ولاذ وعظم فأنت مآل القوافي تزفم ... فرائد طالت بأغلى الكلم منيع الذرى ووطيد السعو ... د منيع العلا وأغر الشيم مسدد رأي إذا الرأي ند ... م وشهم عزيز إذا الخطب عم

الشعر في العصر الحديث

الشعر في العصر الحديث مدخل ... الشعر في العصر الحديث: مر بالشعر في هذا العصر ثلاثة أطوار، أو مراحل كان في كل منها مغايرًا للأخرى في ظواهرها تبعا لعوامل النشاط والخمود التي تهيأ له -فالطور الأول من ولاية "محمد علي باشا" سنة 1805 إلى ولاية "إسماعيل باشا" سنة 1863م، والطور الثاني من ولاية "إسماعيل باشا" إلى الاحتلال الإنكليزي سنة 1882م، والطور الثالث من الاحتلال الإنكليزي إلى يومنا هذا. الشعر في المرحلة الأولى: وفدت هذه النهضة والشعر صورة من ماضيه في العصر السالف لا ابتكار في أغراضه، ولا تهذيب في أسلوبه، ولا تجديد في معانيه وأخيلته، وظلت مواهب الشعراء مجدبة لا تخصب، جامدة لا تلين وذلك؛ لأن عوامل النهضة المستحدثة لم تكن قد أثرت في الاتجاه الأدبي واللغوي في بواكيرها؛ ولأن ما جرى من الإصلاح لم يكن في وجازة مدته، وضيق أفقه يؤثر في طريقة التفكير، أو يغير من أسلوب الكلام. ولم يكن "محمد علي" منصرف الهمة إذ ذاك إلى الآداب بله الشعر، فهو أمي ليس للشعر موضع من تفكيره، ولا نصيب من تقديره، وما كانت حكومته حينئذ عربية الصبغة، بل كانت تركية في كثير من مظاهرها، ولم يكن الوالي ذلك الوقت يعني إلا بتشجيع العلوم التي هي أساس الإصلاح المادي، ولم يلتفت إلا لإنهاض البلاد، وإنقاذها مما انحدرت إليه من تأخر إداري، وحيوي تمخض عنه العصر السابق. بقي الشعر في هذه المرحلة على ما كان عليه من ارتصاد للبديع، وتهالك على الزخرف، وولوع بالتاريخ الشعري الذي اخترع في العصر الماضي، وأغرم الشعراء به، بل من القصائد ما يكون كل بيت، أو شطر منها تاريخا.

ولعل لرغبة الأمراء في تسجيل أعمالهم، وضبطها بسني حدوثها أثرا في إكثار الشعراء من ذلك، فقد رأينا التواريخ تكتب بالشعر على القبور، والمنشآت من مساجد ومنازل وسفن وغيرها، ويسجل بها ما يكون من قران، أو ختان حتى طبع الكتب كان يؤرخ بالشعر أيضا. ومن شعراء الأزهر في هذه الفترة "السيد إسماعيل الخشاب"، "والسيد علي الدرويش"، "والشيخ حسن العطار" "والشيخ محمد شهاب الدين المصري". الشعر في المرحلة الثانية: كان عصر "إسماعيل" نهضة مشبوبة في شتى مظاهر الحياة، نهضة في العلم والفن والأدب، وقد أعان على ذلك نشاط المطابع في إخراج الكتب المؤلفة والمترجمة، وإحياء ما اندثر من الأدب العربي الخصب، وما تم من إنشاء دار الكتب التي سهلت للأدباء الاطلاع، ووفرت لهم اتساع الثقافة، وقد مكن الخديو "إسماعيل" الإفرنج، وغيرهم من التروح إلى وادي النيل والإقامة فيه، ونشط الأدباء وقربهم، وأنعم عليهم فتكاثر الشعراء والأدباء، ودخل الأدب شيء من صبغة المدنية الحديثة، والخيالات الشعرية التي نقلت بالمخالطة أو الأسفار، أو بمطالعة كتب الإفرنج الشعرية1. وشاعت الحرية في عصر "إسماعيل"، وأحس الشعراء والأدباء بالقدرة على التعبير لا يحد من حريتهم عنت، ولا يحبس عواطفهم تضييق، أو إرهاق وبشيوع الحرية استيقظت الأفكار، ونهضت القرائح وتيسر للأديب، والشاعر أن يعبر عن إحساسه، وخوالج نفسه بألوان من التعبير وفنون من التصوير. ونزع شعراء هذا العصر أيضا إلى تقليد الأساليب الغربية، وتأثروا بالحضارة الحديثة والعلم الجديد، وامتزجت خيالاتهم بخيالات الغرب التي

_ 1 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص221.

نقل منها إذ ذاك جانب غير قليل. ولم يكن "إسماعيل" ليجفو الأدباء أو ينأى بجانبه عن الشعراء، بل كان هاشا لهم بارا بهم، يفيض عليهم في غير عسر ولا تضييق، حتى لقد ذكروا أنه أعطى بطرس البستاني ألفا وخمسمائة جنيه معونة له على طبع دائرة المعارف، وأجرى على "السيد جمال الدين الأفغاني" عشرة جنيهات شهريا من مال الدولة تقديرًا لفضله، وعوض على "إبراهيم المويلحي" خسارته التي خسرها في التجارة1. وبلغ من حب "إسماعيل" للشعراء خاصة أن اصطفى منهم شاعرين لخاصته هما الشاعران الأزهريان "الشيخ علي الليثي، والشيخ علي أبو النصر المنفلوطي، بل لقد وكل تربية أبنائه إلى العالم الشاعر الأديب "الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري". وكان ذلك حاثا للشعراء على أن يمتدحوا "إسماعيل"، وأن ينظموا الشعر في الولاء له، حتى لم تخل صحيفة الوقائع، وهي الصحيفة الرسمية من شعر يمدح به في شتى المواسم، والأعياد والمناسبات. على أن هذه العوامل كلها لم تكن كفيلة بأن تغير صفحة الشعر تغييرا تاما، بل لقد ظل متورطا في الصناعات اللفظية والمحسنات البديعة، ولم يزل الشعراء عاكفين على التاريخ في قصائدهم، وإن كانوا قد اتجهوا نحو الفكرة في الشعر وتوخوا المعنى شيئا ما، واتسعت أفكارهم، وخفت تناولهم الزخرف وتزيينهم الألفاظ والأساليب. أما "توفيق باشا"، فقد منح الأدب عناية، وتشجيعا عظيمين وأجدى على الشعراء وكافأهم، بل دل على ولوع بالشعر وارتياح له، وقد حدث "عبد الله فكري باشا" أن "توفيقا" أمره بأن يجمع من الحكم والأمثال، وجوامع الكلم أبياتا تكون زينته في المسامرة، وعونه في المطارحة والمحاضرة،

_ 1 مذكرة المرحوم الأستاذ محمود مصطفى ص395.

ومرشد المحاسن السجايا الفاخرة. وارتياح "توفيق" للشعر هو الذي بدل عضبه على الثائرين على حكومته صفحا ورضا، واستجاب للشعر فعفا به وأغضى، كتب إليه "عبد الله فكري باشا"، وكان متهما باشتراكه في الثورة العرابية، ومشايعته الثائرين يستعطفه بقصيدته التي يقول في مطلعها: كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا وقف خاشعا واستوهب الإذن والتمس ... قبولا وقبل سدة الباب لي عشر وبلغ لدى الباب الخديوي حاجة ... لذي أمل يرجو له البشر والبشرى فلم يلبث "توفيق" أن هش له وعطف عليه، ورد إليه معاشه الذي كان قد حرمه إياه. ويدل صنيع "توفيق" مع "السيد عبد الله نديم" هذه الدلالة فقد شفع له إذ مثل بين يديه بعد أن كان جاد في تعقبه مكافئا على العثور به، وهو خطيب الثورة الذي هيج النفوس وملأها حماسة وثورة، عفا عنه "توفيق" ارتياحا لأدبه وتقديرا لبيانه، وذلك هو المرحوم "أحمد شوقي بك" يحدث عما تقلب في أعطافه من رعاية "توفيق"، وحدبه إذ أمره بألا يتجه إلى والده في شيء من حاجاته، ورغائبه وأن يتجه بها جميعا إليه. وكان من آثار شيوع الثقافة وانتشار التعليم والصحابة، وسعة الحرية تلك الثورة العربية التي هزت الأفكار، وأيقظت القرائح والعقول. ومن شعراء تلك المرحلة "محمود صفوت الساعاتي"، و"السيد علي أبو النصر المنفلوطي"، "والسيد صالح مجدي بك"، "وعبد الله فكري باشا" "والشيخ علي الليثي"، "وعثمان بك جلال".

المرحلة الثالثة: اقترن عهد "توفيق" بالثورة العرابية التي كانت أثرا من آثار الشعور بالكرامة الوطنية، والنزوع إلى الحياة الكريمة، وكان الاحتلال الإنجليزي يدا امتدت إلى الحرية فسلبتها، وإلى العزة فجرحتها، وإذ ذاك صرخت الدماء، واشتعلت العزائم وهب الشعب المصري ينادي بالحرية، والحياة فطفق الأدباء والشعراء يعبرون عن نكبة الوطن بمختلف الأساليب، ويصورون حال الشعب بفنون من القول، ونزح كثير من المصريين إلى أوروبا لطلب العلم بها، والتحدث عن قضية مصر فيها، فنجم عن ذلك الاختلاط امتزاج في الفكر، والخيال كان مما ساعد على بلوغ هذه النهضة. وكان لهذا الاحتلال السياسي أثره في نفوس الأدباء والشعراء، فصوروا هذه الكارثة السياسية، وحضوا على الجهاد والتحرر ما ساعفهم، والمجال وأصبحت السياسة غرضا جديدا من أغراض الشعر يتوخاه كل شاعر حسبما تسمح ملابساته وشئونه، والتفوا إلى ماضيهم الخالد ينشرون مجده، ويعرضون منه صفحات عساها تحفز الهمم لتصل الحاضر بالماضي. وكان "للبارودي" أبلغ الأثر في توجيه النهضة الشعرية في هذا العصر فراح الشعراء يجرون على طريقته، ويترسمون سبيله ويتوخون محاكاته، فعكفوا على شعر الفحول من شعراء العرب في الجاهلية والإسلام، واستظهروا ما راق وطاب، فتهيأت لهم ملكات سليمة، وطباع طيعة "وجرى الشعر جزلا شريف اللفظ مشرق الديباجة متلاحم النسج، رصين القافية"1. وبدأ الشعراء يهجرون الطلاء اللفظي، ويجافون الزخرف والمحسنات، لا يعملون فيها فكرا، ولا يبذلون لتحصيلها جهدا، إلا إن واتتهم عفوا ووفدت إليهم دون استكراه، وأصبح الشعراء على الإجمال يستنكفون من القيود التي كان سلفهم مقيدين بها من حيث الاستهلال، والتخلص

_ 1 المفصل ج2 ص340.

والجناس وصاروا إذا اهتموا بمديح، أو رثاء أو غزل، أو حكمة بدأوا بها رأسا، وإن كان كثير منهم لا يزالون يتحدون أساليب القدماء1. أما معاني الشعر فقد زادت جدتها، واتسع أفقها بما تيسر لها من مظاهر جديدة ونهضة محدثة، وأدب أجنبي يفسح في الثقافة، ويزيد في ألوانها ويمد في خيالاتها، كل هذا كان نبعا صافيا نهل منه الشعراء، فأغناهم عن مجاراة الأقدمين في بكاء الأطلال، والديار والحنين إلى الظباء والعيس، فأصبحوا يصفون ما جد من المخترعات، وما استحدث من العلم وابتدع من الفنون. وقد حفلت هذه الفترة بالشعراء الفحول الذين رفعوا مكانه الشعر، وردوا إليه حياته، وجماله من أمثال "محمود سامي البارودي"، "وأحمد شوقي" "وحافظ إبراهيم"، "وحفني ناصف"، "ومحمد عبد المطلب". التجديد في الشعر: كان من الطبعي أن يساير الشعراء روح العصر، وأن يتأثروا بالحضارة الحديثة التي وافتهم من الغرب، فيجددوا في أفكار الشعر وأساليبه، وخيالاته وطرق تصويره، ويجانبوا الغموض والتعقيد، ويعالجوا وصف المخترعات المحدثة والحياة الجديدة، ويتوخوا المعاني فيجعلوها موضع احتفالهم، والأغراض فتدور على شرحها والتعبير عنها أفكارهم، دون كلف باللفظ أو ولوع بالطلاء. وكان من الشعراء المصريين في هذا العصر من بلغوا في هذا الشأن مبلغا سما به الشعر والشعراء، فكانوا مثلا كريما للشعراء الذين جمعوا إلى جزالة القديم، ورصانته تطور الحديث في كل مظاهره، وكان منهم جمهرة يعقد عليهم الأمل ويناط بهم الرجاء من أمثال "شوقي وحافظ وإسماعيل صبري" لولا

_ 1 تاريخ أدب اللغة العربية لجورجي زيدان ج4 ص226.

أن الموت استأثر بهم فقام من بعدهم فريق من الشعراء يهتدي مرة، ويضل أخرى، وتستقيم له الطريق حينا، وتلتوي به آخر. وكان من آثار النهضة الجديدة في الشعر أن التفت كثير من الشعراء عن العكوف على طريقة العرب القديمة، فلجأوا إلى السهولة، ومجاراة العصر في الوصف، وتصوير الحضارات الطارفة، واستعملوا في شعرهم ما يتصل بشئون العصر من تعبير، أو تفكير، أو خيال، أو غرض، غير أن بعض الشعراء لا يزالون يتحدثون عن الأطلال والد من والأربع الخوالي، والناقة البيداء، والعرار وصبا نجد، وكأنهم لم يجدوا من بيئتهم الخصبة بخيالاتهم، ومشاهدها وصور الحياة فيها ما يشغلهم، ويكون مجالا لتفكيرهم، وأداة لخيالهم ومناطا لتصويرهم، وكأنهم يعيشون في عصر غير عصرهم، ويحدثون قوما لا صلة لهم بهم في الشعور والتصوير. نحب تراثنا العربي المجيد، ونود أن نفاخر به في كل حين، وأن يستزيد الشعراء من استظهار هذه الثروة الخصبة ليستمدوا منها القوة والجزالة، ويستعينوا بها على تقوية الملكات وتنمية القرائح، لكن على أن يعين ذلك كله الشعراء على تأدية رسالتهم في هذه الحياة، فيوائموا العصر ويسارقوا الشعور، وإلا عاش الحاضر بماضي الآباء والأجداد، وعقم المعاصر عن إيجاد نهضة شعرية تكون للأدب حياة، وللشعراء مجدًا. وهناك فريق من شعراء مصر انصرفوا عن القديم برمته، وأغضوا عن كل ما أعقبه الماضي من ثروة، وهاموا بالجديد وانفضوا عن القديم؛ لأنه قديم، كأن الجدة وحدها هي البريق الذي يخطف أبصارهم، نأى هؤلاء عن الشعر العربي القديم، وتخلوا عن أساليبه ففاتتهم جزالة النسج وأخطأوا النهج الواضح، وضلوا الأسلوب الرصين، وأصبحوا فراغا من القديم والجديد معا؛ لأن ما وافاهم من الجديد لم يكن إلا تخبطا وعثارا، وما كان هذا المسلك منهم إلا عيا في الملكات، وجمودا في القرائح، والمرهوبون من الشعراء الفحول من يجمعون بين جزالة القديم، وروعته وجدة المحدث وطرافته.

وإنك لتجزع لما يطالعك من شعر هؤلاء من خيال سقيم، وغرض تافه وإدعاء ممقوت، ومعنى سمج، وفكر ناب، وقد ملأوا الدنيا ضجيجا، ومفاخرة بدواوينهم الغثة التي يخلعون عليها ألقاب المجد ونباهة الشأن ورفعة المنزلة، مدعين أنها دراسات فنية دقيقة، وتصويرات رائعة رقيقة، وأنها الهامات من لدن الوحي الصادق، والعبقرية الملهمة. وأول ما تشاهده في هذه الدواوين بوجه عام ذلك التنوق الظاهر في اختيار الأسماء، واختلاق الألقاب للدواوين والأشعار، فإنك تجد فيها "الينبوع والشفق الباكي، واللحن الضائع والغمام الحائر والأعشاب، وتجد بين أسماء القصائد والمقطوعات الحزن الوديع، وزهر الحب، واللهفة الخالدة والبسمة الحزينة، وحلم العذارى، وأنشودة الهاجر"، وهي ترجمة لبعض ما يترامون عليه ويدعون دراسته، والمعرفة برجاله من الأدب الأجنبي مما يصح أن يشعرك أيضا باتهامهم لأدبهم حتى احتاجوا إلى تزيينه بمثل الكلمات المجلوبة، والألقاب المموهة1. هذه هي الألقاب التي يفتنون في اطلاقها على دواوينهم، وقصائدهم ومقطوعاتهم وذلك هو مظهر التجديد عندهم، على حين أن شعرهم من المعاني الخصبة، والأغراض الكريمة خواء.

_ 1 الأستاذ محمد هاشم عطية من بحث في صحيفة دار العلوم العدد الثاني من السنة الأولى.

شعراء الأزهر والتجديد في الشعر

شعراء الأزهر والتجديد في الشعر: ومن التجديد المثمر الذي أدخل على الشعر العربي في العصر الحديث ما فعله الشيخ "رفاعه رافع الطهطاوي"، أحد زعماء النهضة الأدبية العلمية في هذا العصر، فإنه لما عاد من بعثه إلى "باريس" حاول إدخال نوع جديد في الشعراء المصري، إذ كان قد تعلم الفرنسية وآدابها، وأراد محاكاة بعض الشعراء هناك، وكان من أول آثره في ذلك أن نقل قصيدة "المارسيليز" التي هي تشيد فرنسا القومي إلى العربية في شعر تصرف فيه بعض التصرف، حيث قال: فهيا يا بني الأوطان هيا ... فوقت فخاركم لكم تهيا أقيموا الراية العظمى سويا ... وشنوا غارة الهيجا مليا عليكم بالسلام أيا أهالي ... ونظم صفوفكم مثل اللآلى وخوضوا في دماء أولي الوبال ... فهم أعداؤكم في كل حال وجودكم غدا فيكم جليا ... فماذا تبتغي منا الجنود وهم جمع وأخلاط عبيد ... كذا أهل الخيانة والوفود كذاك ملوك بغي لم يسودا ... تعصبهم لنا لم يجد شيئا إلخ. وقد جرى على هذا النهج في إنشاء أناشيد وطنية مصرية، ومدائح لحكام مصر مزجها بذكر مجد البلاد، ومن ذلك منظومة طبعت بمطبعة بولاق سنة 1227 من الهجرة قال فيها يمدح "سعيد باشا" الخديو: بشرى لمصر سعدها بالعز لاح ... وسعيدها بالفوز ساعده الفلاح أبناء مصر نحن موطننا أصيل ... حسب عريق زانه مجد أثيل

وفخارنا في الكون جل عن المثيل بشرى لمصر.......... ... .......................... نحن السراة وشأننا حب الوطن ... ولشأننا السامي نزاحم من قطن شاني حمانا ليس من أهل الفطن ... فهو الدعي وعرضه شرعا مباح بشرى لمصر............ ... ............................ وطن عزيز لا يهان ولا يضام ... وحمى تعزز من علا علياه حام مجد له لا زال يخترق الغمام ... عين السها لفخارة ذات التمام بشرى لمصر............... ... ............................... إلخ. فكان الشيخ "رفاعة" من المجددين في الشعر على هذا النمط. وكان صاحب الفضل في إضافة هذا اللون من الشعر الذي يمثل الحياة المصرية من بعض وجوهها. لقد غرس "رفاعة" في الشعر الحديث هذا الغرض الذي كان نواة للأناشيد القومية التي تودع كل معاني الحماسة، والغيرة على الوطن والتي هي رمز لكفاح الدولة. وكان من تجديد الأزهريين في الشعر الحديث أيضا ما اقتدر عليه المرحوم "السيد عبد الله نديم"، من إخضاع الزجل لمعاني الشعر الرفيعة، وإيداعه خيالاته الرائعة، وألوان الأدب في شتى صورها -واستخدامه الزجل في توجيه الشعب، وتقويم الأمة ودعوتها للنهوض سياسيا، وخلقيا واجتماعيا.

الثورة على الأوزان الشعرية

الثورة على الأوزان الشعرية: ومما جنح إليه كثير من الشعراء المحدثين الثورة على الأوزان الشعرية زاعمين أن التزام وزن واحد، وقافية واحدة يصدعن الإطالة، ويعوق دون إحداث الملاحم في الشعر العربي، وقد أطلقوا على القصيدة التي تجمع أوزانا مختلفة "مجمع البحور"، والتي تضم أكثر من قافية "الشعر المرسل"، ولست أعرف لمذهبهم هذا من سبب، ولا لثورتهم تلك من علة، إلا عجزهم عن الإطالة وإعياء نفسهم عن الاسترسال، وضعف معينهم الشعري عن الإفاضة، والتدفق فيما اتحد نغمة ولحنا. وقد كان من أثر ذلك أن اختلت نغمة الشعر واضطربت ألحانه، ومجتها الأسماع ولو أن هؤلاء الشعراء قنعوا بما استحدث من الأنواع التي يستريح الشاعر فيها من التزام القافية كالموشح، والمزدوج والمسمط التي اخترعت من قبل لحفظوا جمال الشعر، وأبقوا على روعته. نعم إن المرحوم "شوقي بك" ارتضى لنفسه الجمع بين الأوزان المختلفة، والتنقل من بحر إلى بحر في رواياته الشعرية، ولكن ذلك مذهب في الشعر سائغ لا ينكسر، إذ أن "شوقي" لم يعمد إلى ذلك عن تقاصر منه أو إعياء، وهو صاحب المطولات التي تطول، وتطول حتى يخيل إليك أن صاحبها لا يفرغ منها، وهو في آخرها كأولها قوة وصفاء لفظ، وإشراق ديباجة، ولكنه عمد إلى ذلك في رواياته التمثيلية التي هي أداة التسلية ومجال التلهي، ومن شأن ما هو كذلك أن لا يكون على الطول الممل، والإسهاب المسئم. على أن "لشوقي" مندوحة في هذا الصنيع إذ أن الروايات إنما تقوم على ألسنة مختلفة، وأبطال متعددة، ولكل منهم أن ينشد على وزن غير ما ينشد عليه الآخر، وأن يغاير بقافية غير قافيته.

والذي نراه صالحا، ومحققًا لما يريد المحدثون من استطاعة نظم الملاحم والقصص الطويل هو أن يجعل الشاعر ملحمته، أو قصته فصولا، وأبوابا يختار لكل فصل أو باب الوزن والقافية المناسبين له، وبذلك يجمع بين صيانة القصيد العربي، وما يريد من طول النفس، ويكون كل فصل من قصته قصيدة واحدة بوزنها1.

_ 1 الأستاذ محمود مصطفى في مذكرته في الأدب في العصر الحاضر صفحة رقم 408.

نظر علماء الأزهر إلى الشعر

نظر علماء الأزهر إلى الشعر: رسالة الأزهريين دينية خلقية، ينشرون دين الله في الأرض، ويحضون على الفضائل جهدهم، ويدعون إلى مكارم الأخلاق بكل أسلوب، ومن ثم كان طابعهم الجلال وسمتهم الزماتة والوقار، وحديثهم النقي العفيف، يحرصون كل الحرص على أن يكون شعرهم بعيدًا من الفحش لإمامتهم في الناس، ويجهدون أنفسهم في مجانبة ما لا يتفق مع هذه النزعة، أو يجافي ذلك الاتجاه. وفي هذا الأفق ينظر علماء الأزهر إلى الشعر، وبهذه المثابة يرون رأيهم فيه، فلم يكن من الجائز في نظرهم أن يسرفوا في قول الشعر هجاء وملاحاة، أو يمنعوا في قرضه خوضا في عرض. أو تأريثا لعداوة، ولم يعهد فيهم أن يقولوا الشعر لا يتحرزون فيه عن ذكر الغافلات المقصورات في خدورهن، ورأوا من كرامة العلماء أن يعفوا عن المبالغة في المدح والإطراء، والتدلي إلى الكذب والتجني على الناس، وإذا حاموا حول ذلك في شعرهم، فبقصد واعتدال دون إغراق ولا مغالاة، وهذا الشعور من العلماء، وتلك النظرة منهم إلى الشعر كانت جناية في كثير من الأحيان على كثير من فنون الشعر وأغراضه، فقد أنفوا أن تفيض شاعريتهم في ألوان مختلفة تهتز لها الأسماع، وتخفق لها القلوب، فكان ذلك مضعفا لشعرهم فوق ما ضعف به من ضيق خيالهم، وأفقهم المحدود الذي يعيشون فيه. والشعر في رأى الشاعر الذي لا يتزمت، ولا يتعفف خيال وتصوير وافتتان لا تحرج ولا تصون فيه، وأعذبه في رأيه أكذبه كما يقولون، ولكنه عندهم في هذا المتجه مجافاة لرسالتهم وزراية بمكانتهم، وذلك هو الذي حمل العلماء على أن يطووا صفحة فيها مجون وطرب، وفيها خفة وغزل، وألا ينشروا

من ذلك إلا الهين المقتصد، وذلك هو الذي حضهم على أن يخفوا عن الناس شعرا أو دعوه مكنون صدورهم، ومجلى أخيلتهم وخفقة أفئدتهم، وجعلهم يشعرون بأن من الشعر ما هو عورات يجب أن تستر، واستهتار لا ينبغي أن يظهر. وهذا هو "السيد عبد الله نديم" الأزهري الخطيب الكاتب الشاعر تبحث عن شعره الذي تدفقت به شاعريته الفياضة، فلا تهدتدي إلا إلى غيض من فيض وقل من كثر حدث الأستاذ "أحمد سمير المترجم له في صدر مختاراته المعروفة "بسلافة النديم"، أن له ديوانين منظومين يشتملان على سبعة آلاف بيت. ويقول في تصديره للسلافة، "ولما كان في يافا أول مرة بعث إلى محررًا يكلفني به أن أطلب "ديوان شعره الصغير" من صديقه المرحوم "عبد العزيز بك حافظ"، فلما قصدته وجدته مصابًا في قواه العقلية بما لم يدع للطب مجالا، ثم كتب إلى ثانيا بأن ديوانه الأوسط عند "م. بك. ف"، فطلبته منه فاعتذر بأنه ضاع، فلما أنبأت المترجم بذلك أرسل إلي في مكتوبه الثالث أنه إنما طلبهما ليحرقهما براءة منهما، ومن أمثالها؛ لأن فيهما هجوا كثيرا، وختم المكتوب بهذه العبارة، "وقد خلعت تلك الثياب الدنسة، وليست ثوب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ". ذلك هو رأي أحد علماء الأزهر في الشعر، وتلك هي نظرته له فالهجاء في نظره رجس والملاحاة في رأيه ثوب من الدنس، ومن ثم فهو يريد أن يحرق هذا الشعر، وأن يجعل هذه الثروة القيمة حطبا للتاركي يذهب الله عنه الرجس ويطهره تطهيرًا. وهذا شاعر آخر من شعراء الأزهر الفحول، وهو المرحوم "الشيخ علي الليثي" يلعن من يطبع ديوانه المخطوط المحفوظ؛ لأنه يخشى حسابه على ما أودعه من قول يزعم أن فيه منافاة للورع والتقية.

ولعلي لم أسمع أن شاعرا آخر معاصرا غير أزهري طاوعته نفسه أن يحرق شعره؛ لأن فيه هجوا، وملاحاة مهما كان شعره من الغثاثة، والضعف والانحلال طلبا للتطهير وبعدا من الرجس والدنس، ولعلي أيضا لم أسمع أن شاعرًا آخر غير أزهري لعن من يطبع ديوانه المخطوط المحفوظ لسبب من الأسباب. بل إن كثيرًا من الشعراء غير الأزهريين يقيمون حول شعرهم ضجة هائلة من الدعاية والترويج، ويجتهدون في طبع شعرهم محتالين على أرباب اليراعات أن يقدموا دواوينهم بعبارات التقريظ، والإطراء المبالغين، بل إن كثيرا من الشعراء غير الأزهريين يسعون لدى الشفعاء أن يتوسطوا لطبع لشعرهم، وعساهم ألا يقتصروا على طبع الشعر، بل يقدموا لكل قصيدة بصورة رمزية تمثل فتاة عارية أو صبيا ضارعا، أو منظرا مسرفا في فحشه وخلاعته، ويرى الأستاذ العقاد أن القدوة عند شعراء الأزهر في هذا المذهب ما يروى عن الإمام الشافعي، إذ يقول: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد1 وقد يكون القدوة عندهم في ذلك ما حكم الدين به على الشعر، فهم يعلمون أن الإسلام إنما جاء بالجد الذي يحض على الثواب في الآخرة، ويحرم على المسلمين فضلا عن علمائهم الكذب في القول، وإشاعة الفاحشة، وقذف المحصنات والحديث عن الخمر والمحرمات، والولوع في الأغراض، وتأريث العداوات. وهم يعلمون أن الله نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الشعر، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، وأن الله ذم الشعراء بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف

_ 1 شعراء مصر، وبيئاتهم للأستاذ عباس العقاد ص90.

أحدكم فيريه خير له من أن يمتلئ شعرا. وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر حكما"، وأنه خلع على كعب بن زهير بردته التي اشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم، وتوارثها الخلفاء من بعده يلبسونها في الجمع والأعياد. وأنه كان يكثر من استنشاد الخنساء في رثاء أخيها صخر، ويقول: "هبه يا خناس"، وأنه دعا إلى الشعر واستعان به في دعوته، واتخذ حسان شاعرا له ينافح عنه، وكان يقول له: "شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع الحسام في غبش الظلام"، وأنه استحسن شعر النابغة الجعدي ودعا له، وذلك حيث يقول النابغة: "أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين المظهر يا أبا ليلى؟ " فقلت: الجنة يا رسول الله، فقال: أجل إن شاء الله. ثم قال: أنشدني -فأنشدته قولي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر2 تحمى صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجدت لا يفضض الله فاك"، قال الراوي: فنظرت إليه فكأن فاه البرد المنهل ما سقطت له سن، ولا انفلت3 ترف غروبة4.

_ 1 وروى القيح جوفه كوعي أفسده، وروى فلان فلانا أصاب رثته. 2 بوادر جمع بادرة وهي الحدة، أو ما يبدر من الإنسان عند الحدة من الخفة إلى الانتقام بالقول أو الفعل. 3 انفلت انثلمت -ترف تبرق وتلمع- غروب الأسنان ماؤها وظلمها. 4 دلائل الإعجاز ص18.

كما يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أثابه ودعا له، وأن الشعراء أنشدوا بين يديه واهتز لما أنشدوه، فهذه هي قتيلة أخذت النضر بن الحارث الذي كان غالبا في عداوة المسلمين بمكة يكثر أذاهم، ويلقن فتيان قريش الشعر في هجائهم أسره النبي في بدر وقتله، فجاءته أخته وأنشدته: يا راكبا إن الأتيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق1 أبلغ به ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق2 مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق3 هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق4 ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله ارحام هناك تشقق5 صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد وهو عان موثق6 أمحمد ولدتك خير نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق7 ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق8 فالنضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق لو كانت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يغلى به من ينفق9

_ 1 الأثيل واد قرب بدر، وهو الموضع الذي دفن به أخوها. 2 تخفق كتضرب -تسرع. 3 وكف المطر والد مع سال. 4 أم للأضراب -أي بل إنه لا يسمع؛ لأنه لا ينطق. 5 تنوشه -تتناوله. 6 يقال: قتله صبرا -وصبر الإنسان على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت، العاني الأسير الموثق المقيد بالوثاق. 7 الفحل -كناية عن الأب، والمعرق الأصيل. 8 المحنق -المغتاظ من أحنقه إذا أغاظه. 9 غلا بالشيء وغالى به -طلب فيه ثمنا غاليا أو اشتراه كذلك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو سمعت هذا قبل قتله لمننت عليه". وهم قد عرفوا أيضا أن كثيرا من شعراء الإسلام أنشدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم غزلا، ومن ذلك ما أنشده كعب بن زهير إذ يقول: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول1 وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول2 هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول3 كما عرفوا أن الخلفاء ارتاحوا للشعراء، واهتزوا له وحضوا على الحرص عليه وتأديب النشء به، فهذا عمر بن الخطاب يقول: رووا أولادكم ما سار من المثل وحسن من الشعر، وكتب إلى أبي موسى الأشعري يقول: مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الراي ومعرفة الأنساب. ويروى أن السيدة عائشة كانت تحفظ شعر لبيد وتقول: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم"، بل كانوا يجدون تعلمه ضروريا لتفهم القرآن، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا قرأتم شيئا في كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب".

_ 1 المتبول -من تبله الحب إذا أضناه وأفسده أو ذهب بلبه وعقله، والمتيم المذلل المعبد، والمغلول من وضع الغل في عنقه، وفي رواية مكبول وهو المقيد بالكبل أي القيد. 2 الأغن الذي يتكلم من قبل خياشيمه. غضيض الطرف من غضه إذا خفضه. 3 العوارض جمع عارضة، وهي السن التي في عرض الفم، الظلم شدة صفاء منون الإنسان المنهل، النهل محركة أول الشرب والمنهل المشرب والشرب، والمنزل يكون بالمغارة، معلول -العلل محركة الشربة الثانية أو الشرب بعد الشرب تباعا.

هؤلاء العلماء عرفوا ذلك كله فيما توافد إليهم من التاريخ، والأدب فهم يعرفون أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر، وموقف الخلفاء منه لم يكن بغضا كله ولا حبا كله، لم يرتاحوا للشعر في كل حال، ولم ينكروه وينفضوا عنه في كل حال، بل اهتزوا لما دعا منه لنصرة الدين، ومكارم الأخلاق وحض على المروءة والوفاء، والنجدة والأخذ بأسباب الفضائل، وارتاحوا لما كان غزلا عفيفا، وهوى بريئا لا يفضح النساء، ولا يكشف عن العورات ولا يتصل بالأعراض، بل يرمي إلى نبل الغاية وبراءة الهوى، وعفة القصد ولا يراد منه امرأة خاصة يكون الحديث عنها قذفا، وإفحاشا. اهتزوا لهذا كله ولكنهم لم يستمعوا للشعر المفحش، ولم يطربوا لما تدلى إلى ضعة الأخلاق، ودناءة الأغراض. فعلماء الأزهر الذين هم ورثة الأنبياء، والقائمون على دين الله سلكوا طريق الشعر على هذا النهج، وأباحوا منه لأنفسهم ما أباحه الإسلام، وحرموا منه على أنفسهم ما حرمه الدين، فنظرهم إلى الشعر فيه تقية وتورع، ومن ثم خلا شعرهم غالبا مما ينافي هذه المبادئ، ويحيد به عن الجادة. ومن كانت رسالته بهذه المثابة، ومكانته على هذا الوضع، ونظرته في هذا الأفق لا يسمح لنفسه أن يشبب فيفحش، أو يهجو فيقذع، أو يمدح فيتضع أو يمعن في الحديث عن المحرمات والمجاهرة بالدعوة إلى الخمر، وهو العليم بأن ذلك تأثم واستهتار، فإن استجابت نفس بعض منهم لدواعي الشعر، وترنحت أعطافه بهوى ذلك الفن، وانساق في شعره مساق غيره من غير المتحرزين، فإنما يخفي ما يقوله ويكتمه عن الناس، وما ذلك فيهم إلا أقل من القليل. وإني لأسائل نفسي هل كان شعراء الأزهر من فطرة غير فطر الناس، وهل خرجوا عن طبيعة البشر، فكان لهم إحساس خاص؟ هل يجمدون

حيث ترق العواطف، وينقبضون إذ ينطلق المحيا، ويعبسون للجمال إذا ابتسم له فم الزمان؟ هل مكنوا من الحواس والمشاعر فحرموها حسن التعبير، وعاشوا بها دون شرح وتصوير؟ هل حبسوا الخيال أن يطير في مجاليه، والقلب فلم يخفق بحب من يستهويه؟ أنا أفهم أن فريقا من شعراء الأزهر أحنقهم بعض الناس، فامتلأت نفوسهم بغضا له فهجوه، وصوروا بغضهم في شعر لاذع وهجر مرير، ومنهم من أحب من يجدر بحبه وإجلاله، فأفاض في شرح مكارمه وتصوير خلاله، وخلع عليه من ألقاب الرفعة وحلل الكمال ما يشاء الشعراء، ومنهم من ترنحت عواطفه لمعاني الجمال، وخفق فؤاده لإشراق القسمات ونور المحيا، وحومت روحه حول الخرد الغيد والظباء الكنس، وعبر عن ذلك بصور من شعره، وألوان من فنه -لم يكونوا جمادا ولا تماثيل ولم تكن لهم قلوب من الحجارة، ولا عواطف من غير عواطف الناس، هم أحبوا كما يحب كل إنسان، وهووا كما تهوى كل روح، وائتلفوا مع بعض الخلائق كما يأتلف كل خليل مع خليله، ولكن حبهم حب فضيلة ونبل، وهواهم هوى عفة وشرف، وغزلهم غزل كمال محتشم، وصبابة مخدرة، يتخيلونه في مطلع القصائد حينا، ويعبرون به عن شعورهم حينا آخر. ولقد كان العلماء الشعراء في حيرة من أمرهم، فدينهم يدفعهم إلى التوقر وعواطفهم تحضهم على العزل والتشبيب، وحياة أمثالهم "تتطلب تجاهل الحب، وعدم الانسياق فيه وغض النظر وكبت النفس، وترك ذلك لأهل الخلاعة"، ولكن ما جريرتهم، "وليس مرد العشق إلى الرأي فيملك، ولا إلى العقل فيدرك، إنما هو كما قال الشاعر: ليس أمر الهوى يدبر بالرأ ... ي ولا بالقياس والتدبير إنما الأمر في الهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور لا تدرك الأبصار مداخله، ولا تعي القلوب مسالكه، وهو كما قال

القائل -إن لم يكن طرفا من الجنون، فهو عصارة من السحر- فسواء أكان صاحبه فقيها أم دينا ورعا، أم داعرا فاجرا فهو إذا مس قلبه صرعه، وأذله: لقد كنت ذا بأس شديد وهمة ... إذا شئت لمسا للثريا لمستها أتتني سهام من لحاظ فأرشقت ... بقلبي ولو أسطيع ردا رددتها1 ومن ثم لم يكن لهم بد على رغم تدينهم من تصوير عواطفهم، وشرح وجدانهم بالشعر، ولكن لم يظهر من شعرهم الغزلي في أغلب الأمر إلا ما نقيت صفحته وطهر غرضه وشرف مغزاه، وعسى أن يكون من ذلك ما يقوله "عبد الله باشا فكري"، أحد شعراء الأزهر ممثلًا إلى حد كبير براءة شعره الغزلي، ومجانبة الإفحاش والإسراف، وذلك حيث يقول: ما أحيلي يوم اجتمعنا بروض ... أوردتنا ظلا ظليلا غصونه كان فيه الرقيب غير قريب ... والزمان الخئون نامت عيونه فهجرنا مر المدامة فيه ... بحديث مستعذب مضمونه إن في سكرنا من اللفظ واللحـ ... ـظ غناء عما تدير يمينه فقد تهيأ له لقاء الحبيب في الروض الناضر وظل غصونه الظليل، وليست عين الرقيب قريبة، فترى ما عساه أن يكون بين المحب وحبيبه من لهو الهوى، وعبث الغرام، ولكنه كان في صون وتحرز وهجر "مر المدامة" إلى عذب حديثه، وآثر "السكر" من لفظه ولحظه على سكر الكأس تديرها يمينه. "وعبد الله فكري باشا"، هو الذي يحدث في شعره بأن أسباب الفتنة تواتت له، وتيسرت له بالمحب مفاتن تغري النفس، ومباهج تنحل معها أواصر العفة والتصون، ولكنه لم يجاف الشرف، ولم ينأ عن التعفف، وذلك حيث يقول:

_ 1 من مقال للأستاذ أحمد أمين بك في مجلة الثقافة عدد 364 بعنوان "إمامان فقيهان عاشقان" هما "محمد بن داود الظاهري، وعلي بن حزم".

فقالت وقد مال الكرى بقوامها ... كما مال بالنشوان صرف من الخمر وماست تزجي ردفها في مورد ... من اللاذقد وشته بالدر والتبر1 وتمسح عن أجفانها النوم سحرة ... فيرفض عنها كل فن من السحر2 وبتنا كما شاء الهوى في صيانة ... وعفة ثوب لم يزر على وزر وهذا هو "رفاعة رافع الطهطاوي" أحد علماء الأزهر وشعرائه يمثل عفة العلماء وقناعتهم في الملذات، ويمر مر الكرام بما يطيل الشعراء الوقوف عنده، وتسريح النظر فيه وذلك حيث يقول: قد قلت لما بدا والكأس في يده ... وجوهر الخمر فيه شبه خديه حسبي نزاهة طرفي في محاسنه ... ونشوتي من معاني سحر عينيه فهو يقنع بنزاهة طرفه في محاسن محبوبه عن التمتع بهذه المحاسن، فلا يقبل فما ولا يهصر عودًا، ولا يذهب مذاهب العشاق، من الضم والعناق، ويغنيه من حبيبه النظر إلى مواطن جماله، والنشوة بمعاني سحر عينيه عن كل ما يلتمس سواه من لذة ومتاع. وهذا هو "عبد الله فكري باشا" الذي يعف في الهجاء، ويتدلى إلى الملاحاة، ويذهب مذهب القصد والاعتدال، فيتحرج من الإسفاف في الهجاء والإقذاع فيه، انظر إليه إذ يقول: رماني بهجر القول لا دردره ... ولو رمت هجر القول لم يستطع في

_ 1 اللاذ جمع لاذة، وهي ثوب حرير أحمر صيني -وشي الثوب نمنمه، ونقشه وحسنه. 2 السحرة بالضم السحر الأعلى.

ولو شئت حكمت القوافي بيننا ... بماضي شباة القول فيهم مصمم1 ولكنني أنهى اللسان عن الخنا ... وألوي عنان الأعوجي المقوم2 سأضرب صفح القول عنهم نزاهة ... وأطويه طي الأتحمي المسهم3 وهذا مذهب فيه تقية وتورع وصون "للسان عن الهجر، والإفحاش حتى لو رام هجر القول لأباه فمه على رغم أن القوافي ماضية كالسيف". "وعبد الله فكري" أيضا يضرب أبلغ الأمثال في صون قريضه عن مدح من لا يجدر بمدحه، وهو بمثل مذهب العلماء الشعراء في التسامي بشعرهم عن مدح من هان شأنه من الناس، والضن بالإطراء على غير من هو أهل لإطرائه، فهو يقول: ولذت بأعطاف القريض وطالما ... رميت ذراة بالقلا والتجهم ولكنني أرويه عن غير أهله ... وأهديه مدحا للخديو المعظم كما يمثل مذهبهم أيضا في صدق الشعر، والنأي به عن الكذب والنفاق، وقصره على ما الحب داع من دواعيه: فخر القصائد أني لست أنظمها ... إلا وللحب داع من وداعيها

_ 1 شباة كل شيء حده، والجمع شبا وشبوات. صمم في الآمر تصميما مضى كمصمصم، وعض ونهب والسيف أصاب المقصل، وقطعه أو طبق. 2 "الأعوج السيء الخلق"، وبلا لام فرس لبني هلال تنسب إليه الأعوجيات. 3 الأتحمي -برد معرف- المسهم لمعظم البرد المخطط.

ولا تجافيت عنها قبل من حصر ... بحمد ربي ولا ضنت قوافيها لكنها نفس حر لا تهم بما ... لا يستوي فيه باديها وخافيها وعسى أن تجد بعض هؤلاء الشعراء يمدح من هان شأنه من الناس، ويهدي قصيده لمن هو غير أهل لمدحه، ولكن ذلك من بواعث الحاجة، ودوافع الحياة التي تتجاوز معها هذه المعاني، وتدفعهم إلى تقحمها دفعا.

الصبغة العامة في شعر الأزهريين

الصبغة العامة في شعر الأزهريين: لشعر الأزهريين طابع يسوده، وصبغة تتمثل فيه، تطالع من يبحث في دواوينهم، ويمعن النظر في شعرهم. ولما كانت الحياة العلمية هي التي شغلتهم، واستنفدت جهدهم رأيناهم قد تأثروا بالعلم في أسلوبه وتعبيره، ونضجت أقلامهم بهذه النزعة العلمية، واستعملوا ألفاظها في تصوير خيالهم الشعري، كل حسب ما تأثر به من نحو أو صرف أو بيان، أو منطق أو فلسفة أو فقه، أو غير ذلك مما شغلوا به متفاوتين في هذا التأثر. وكان ظهور هذه الأساليب، والمصطلحات العلمية في شعرهم طبعيا؛ لأنها ملكت عليهم قواهم، وكانت حديث ألسنتهم، ومجال دراستهم وأداة ثقافتهم، فلم يكن من المستطاع لهم أن يتخلوا عنها مهما جهدوا، ولا أن يتحرروا منها التحرر كله مهما حاولوا ذلك. شاعت الألفاظ العلمية في شعرهم، وظهرت في قصائد هو فذهبت بغير قليل من جمال الشعر وبهائه، وروعته وروائه، فإن الألفاظ العلمية جافة غليظة لا تعطيك من الروعة والأخذ، وحسن الموقع ما تجده من الألفاظ الشعرية الرقيقة العذبة، وقد يكون لنضوب معينهم الشعري، وجدب خيالهم وافتقارهم من المعاني ما دفعهم إلى التحلي بهذه الألفاظ بجانب تأثرهم بها ظنا منهم أن في تناولها دليلا على قدرتهم وتمهرهم، على أن هذه النزعة سرت إليهم من شعراء المماليك، فقد كانوا مغرقين في إدخال المصطلحات العلمية في شعرهم. هذا وقد حرر "ابن خلدون" في ذلك بحثا ممتعا ذهب فيه إلى أن "الفقهاء، وأهل العلوم قاصرون في البلاغة، وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلئ به من القوانين العلمية، والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة

والنازلة عن الطبقة؛ لأن العبارات عن القوانين والعلوم لاحظ لها في البلاغة. فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر، وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور". ويقول: "وأخبرني صاحبنا الفاضل: "أبو القاسم بن رضوان" قال: -ذكرت يوما صاحبنا "أبا العباس بن شعيب" كاتب السلطان "أبي الحسن"، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنبها له وهو هذا: لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه. فقلت: ومن أين لك ذلك؟ فقال: من قوله: من الفرق إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب. فقلت: لله أبوك إنه ابن النحوي1. وإنا نسوق أمثلة من شعرهم ناطقة بصحة هذه الدعوى. يقول الشيخ "حسن قويدر الخليلي": خاطرت لما أن رأيته خطر ... وحار فكري في بها ذاك الحور وقلت: لا والله ما هذا بشر ... ومن بشمس قاسه أو بقمر فليس عندي بالقياس بدري فلكمة "بالقياس" من مصطلحات علم المنطق استعملها الشاعر في شعره، وهو الذي يقول أيضا: والنوفر الرطب يقول جسمي ... كجسمه في حده والرسم لكنني مخالف في الاسم ... من أجل هذا حكموا بوسمي وغرقوني وسط هذا البحر فكلمة "الحد والرسم" من أدوات علم المنطق عدا ما أشار إليه الشاعر

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص578.

من قياس، فخلاصة المعنى تشير إلى تركيب الكلام تركيبا منطقيا على طريقة القياس الذي صغراه الشطران الأولان أي جسمي يماثله في الحد والرسم، وكبراء مطوية قائلة -وكل ما يماثله حدا ورسما يغرق في البحر، والنتيجة المشار إليها بالشطر الأخير قائلة-، فهذا النبات يغرق في البحر، ويقول الشيخ "مصطفى الصاوي" المتوفى سنة 1216هـ. وغدا بنطق كماله يبدي لنا ... عين النتيجة ضمن شكل أنور فالنتيجة والشكل كلاهما من مصطلحات علم المنطق. ويقول الشيخ "محمد شهاب الدين المصري" في قصيدته التي أنشأها لتكتب على جامع القلعة: عروس كنوز قد تحلت بعسجد ... مكللة تيجانها بالزبرجد أم الجنة المبني عالي قصورها ... بأبهج ياقوت وأبهى زمرد أم المكرمات الآصفية أبدعت ... هيولي أعاجيب بصورة مسجد ويقول أيضا: شخص ولكن هيولي روحه ملك ... وجسمه صورة في شكل قديس فكلمة "هيولي" المتكررة إنما هي من مصطلح علم الفلسفة. ويقول الشيخ "مصطفى الصاوي": نزلنا بهذا القصر والنيل تحته ... فلله قصر قد تعاظم بالمد وروي بالقصر عن معنييه ضد المد، وهو من مصطلح علم الصرف والبيت العظيم، كما روي بالمد عن معنييه ضد القصر الذي هو من مصطلح علم الصرف، وارتفاع الماء الذي هو ضد "الجزر". ويقول "عبد الله فكري باشا": جمعتهم الأقدار جمع سلامة ... والله في أقداره مختار فقد روي "بجمع سلامة" عن معنييه جمع المذكر السالم الذي سلم بناء

مفرده من التغير وهو من مصطلح الصرف، وجمع السلامة من كل ما يسوء. ويقول الشيخ "حسن العطار": كر القلب وما كان التقى ... فيه من حين هواه ساكنان وقد أخذ هذا المعنى من قول الشاعر: يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثان بأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان ويقول الشيخ "حسن العطار" أيضًا: وكيف أعبر عن حالة ... ضيرك مني بها أعرف فقد روي في البيتين بمصطلحات النحو. ويقول الشيخ "محمد شهاب الدين" المصري مادحا "مصطفى بك المختار" مدير ديوان المدارس إذ ذاك: رأيت "حالا مضى" "فعل" ... "أبرز" في "شأنه" "الضمير" فقد روي بالكلمات "حالا" و"مضى" و"فعل"، و"أبرز" و"شأنه" و"الضمير" عن معانيها النحوية. وتدور في شعرهم أيضًا الألفاظ المصطلح عليها في علم الحديث، ومن ذلك ما يقوله الشيخ "مصطفى الصاوي". "ويسند" "إرسال" السحاب لدمعه ... "مسلسل" أحزان بوجد مجدد فالكلمات "يسند" و"إرسال" و"مسلسل" مصطلح علم الحديث، وألفاظه الشائعة فيه. ومن ألفاظ علم الحديث المستعملة في شعرهم ما قاله الشيخ "محمد شهاب الدين" المصري يمدح "إبراهيم رأفت بك" الذي كان وكيلا لديوان المدارس: إني على دعوى الهوى ... والحب لي حجج قويه وحديث أشواقي إليـ ... ـك مسلسل بالأولية

ويقول الشيخ "عبد الهادي نجا الأبياري": فارفع حديثك في ضعيف لحاظها ... يا عاذلي فحديث وجدي أرفع وصحيح حبي مسند لضعيف جفنيها يعنعنه الهوى، وينعنع1 الأبيات الأربعة حافلة بالألفاظ الشائعة في هذا العلم التي هي من مصطلحاته وتعبيره. وتجري في شعرهم ألفاظ علوم البلاغة، وتعبيراتها الخاصة بها كقول الشيخ "محمد شهاب الدين المصري": ما لأيديه في الحقيقة "شبه" ... إذ "مجاز" النوال فيهن "مرسل" فالحقيقة والمجاز، والمرسل من مصطلح علم البيان، ويقول: هو الفلك المحيط بكل معنى ... وفياض الفضائل في الأنام "بيان" حلى "معناه" "بديع" ... وسحر حديثه حكم الكلام فالبيان والمعاني الذي أشار إليه بمعناه، والبديع إنما هي أسماء لعلوم البلاغة. وتجد في شعرهم كثيرًا من الألفاظ الفقهية، وما يجري على ألسنة الفقهاء كقول الشيخ "حسن قويدر الخليلي": دعواكم يأيها الزهور ... كما زعمتم باطل وزور وكلكم بنفسه مغرور ... وواجب في حقه التعزير من جملة التعزير لوم الحر فالتعزير الواجب الذي تحدث الشاعر عنه، إنما هو من تعبير الفقهاء، ويقول "السيد علي أبو النصر المنفلوطي": وحبكم كل وقت ... فرائض لا نوافل فلفظا الفرائض والنوافل من الألفاظ الجارية على ألسنة الفقهاء. ومما استعملوه من مصطلح العروض في شعرهم ما يقوله "عبد الله فكري باشا" في الخديو "توفيق"، ووصف بوارجه.

_ 1 النعنعة: حكاية صوت -والتنعنع الاضطراب والتمايل والتباعد.

دوارع يلقين المخاوف آمنًا ... بها سر بها من كل هول ومرغم1 من اللاء لا يتركن حصنا محصنا ... ولا أنف برج شامخ غير مرغم يطارحن أسلوب المدافع في الوغى ... بكل رجيح "وزنه" عير أخرم2 فقد روي بالوصف أخرم الذي يحتمل أن يكون مرادًا به ما هو من ألفاظ العروض، أو كمال القذيفة التي يطلقها مدفع البارجة. بل إنك لتعثر في شعرهم على الحوار الذي يجري على ألسنة العلماء في تشقيق البحث، وتفريع المسائل بقولهم فإن قيل، وقلنا، واستمع إلى الشيخ "حسن قويدر الخليلي إذ يقول: إن قيل: بدر قلت: ذا قريب ... وكامل في الحسن لا يغيب والبدر فيه كلف يعيب ... وذا الرشا جماله عجيب3 والفرق ظاهر لدى من بدري فهاتان الكلمتان "إن قيل وقلت" كلتاهما مما يدور في أفواه العلماء الأزهريين في دراسة المسائل، وتقرير البحوث العلمية، ولا ننسى كلمة والفرق ظاهر أيضا، فإنها تنحدر من هذا الوادي. ومما يحسن أن نشير إليه أن هذا الشاعر أخذ هذا المعنى من قول البهاء زهير في مثل هذا الغرض، وهو الموازنة بدره وبدر السماء، إذ قال: "البهاء زهير": يهنيك بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر حتى يبين لناظري ... من منهما زاه وزاهر بدري أرق محاسنا ... والفرق مثل الصبح ظاهر

_ 1 في الأساس رغم أنفه، ولأنفه الرغم والمرغم الذلة. 2 الخرم: أنف الجبل وفي الشعر ذهاب الفاء من فعولن، أو الميم من مفاعلن والبيت مخروم وأخرم "قاموس". 3 كلف الوجه كلفا تغيرت بشرته بلون علاه قال الأزهري: ويقال للبهق كلف، وخد أكلف أي أسفع.

وهذا التعبير "والفرق ظاهر" مع أن فيه تورية بين فرق الشعر، والفرق والذي هو الفصل بين الشيئين هو من مصطلح العلم وأسلوبه. ويقول الشيخ "حسن قويدر الخليلي" أيضًا: فقال: لا بد من الفراق ... ولو رقانا اليوم ألف راق قلت: إذن يا ناعس الأحداق ... فهل يكون بعده تلاق فقال: إن العسر ضد اليسر فكلمة "فقال" المكررة وقلت: من سدى التشقيق العلمي ولحمته مع ملاحظة أن لفظ الضد علمي أيضا. وتلك هي كلمة نفرض فرضا التي هي مما يشيع في دراستهم، وتتناولها ألسنتهم وكلمة "والله أعلم" التي يختم بها العلماء الأجلاء بحوثهم العلمية تأليفا، ودراسة للتواضع ومجانبة الزهو يستعملها أحد شعراء الأزهر، وهو المرحوم الشيخ "محمد الأمير" المتوفى سنة 1332هـ، حيث يقول في الحث على الزهد: دع الدنيا فليس بها سرور ... يتم ولا من الأحزان تسلم ونفرض أنه قد تم فرضا ... فغم زواله أمر محتسم فكن فيها غريبا ثم هيئ ... إلى دار البقاء ما فيه مغنم وإن لا بد من لهو فلهو ... بشيء نافع والله أعلم وهذه كلمة على فرض أن ذلك قد كان، وتسليم قولك يستعملها الشيخ "عبد الهادي نجا الإبياري" في شعره كاملة غير منقوصة، وذلك حيث يقول: أين كانت قل لي لديكم جوار ... من لدن آدم لهذا النهار وعلى فرض أن ذلك قد كا ... ن وتسليم قولك الفشار1

_ 1 في القاموس -الفشار "كغراب" الذي تستعمله العامة بمعنى الهذيان ليس من كلام العرب.

ما الذي كان لي بهن من الآ ... راب حتى إذ بان بان مزاري وبتسليم أن ذلك قد كا ... ن فقل لي فداك عصية جاري وهاتان كلمتا زيد وعمرو الشائعتان في أفواه الأزهريين، وفي كتبهم للتمثيل للفاعل والمفعول، وغيرهما يأبى كثير من شعراء الأزهر إلا أن يسلكهما في شعره، ويديرهما في قريضه، كما يقول "عبد الله فكري باشا": ترقت حلالها عن سواك وراقها ... علاك فلم تجنح لزيد ولا عمرو ويقول "السيد علي الدرويش": خليلي فيها غنياني على الطلا ... ولا تذكر إلى "حال" زيد ولا عمرو فهو يريد أن يمتع نفسه بالغناء ليستمع له على الطلا، ولا يود أن يحدث بشيء عن حال زيد وعمرو من الناس، فقد سئم الحديث عنهما، وأراد أن يهجره إلى هذا المتاع، وقد يكون المعنى أنه يريد أن حرمة الغناء والشراب دون الغيبة بالحديث عن زيد وعمرو، أو أراد أن يفر من الجد، والدرس والكلام عن زيد وعمرو في مسائل النحو إلى ما ذكره من متعة الغناء والطلا، وأيا ما كان فقد تأثر بهذين اللفظين اللذين يدوران في المسائل النحوية، فتسللا إلى شعره. استخدامهم الشعر في مسائل العلم: ولما كان العلم هو شغل العلماء الأول، ومناط حرصهم ومثار اهتمامهم والمالك قواهم وجهودهم، بذلوا في تقييده وسائل مختلفة، واتخذوا الشعر إحدى هذه الوسائل، فأخضعوه للعلم وأودعوه مسائله ومشاكله، وعبروا به عن شوارده، وضمنوه ألغازا وحوارا وقواعد، وعساه أن يكون بهذه المثابة نظما لا شعرا، إذ أنه مقفر من الخيال، خلو من الفن عار من الروعة والسحر، ومن هذا الوادي كل ما نظموه في علومهم المختلفة.

فمن حوارهم العلمي الذي اتخذ الشعر أسلوبا له ما وقع بين الشيخ "محمد الأمير"، والشيخ "العوضي" المتوفى سنة 1214هـ، إذ يقول الأول: حي الفقيه الشافعي وقل له ... ما ذلك الحكم الذي يستغرب نجس عفوا عنه فإن يخلط به ... نجس فإن العفو باق يصحب وإذا طرا بدل النجاسة طاهر ... لا عفو بأهل الذكاء تعجبوا ويجيبه الثاني بقوله: حييت إذ حييتنا وسألتنا ... مستغربا من حيث لا يستغرب العفو عن نجس عراه مثله ... من جنسه لا مطلقا فاستوعبوا والشيء ليس يصان عن أمثاله ... لكنه للأجنبي يجنب وأراك قد "أطلقت ما قد قيدوا" ... وهو العجيب وفهم ذلك أعجب اقتباسهم من القرآن والحديث: ومن الظواهر العامة في شعرهم إشراق القرآن في مجاليه، وظهوره في كثير من نواحيه، واقتباسهم من القرآن في شعرهم أمر طبعي؛ لأنهم أشد عناية بحفظ القرآن، ودراسة تفسيره واستنباط الأحكام الشرعية منه، واكتناها لأسراره وفهما لمغزاه، وتأدبا بأدبه وتذوقا لبلاغته، كما اقتبسوا من الأدب النبوي كثيرا من آياته البينات التي جرت على ألسنتهم من طول ما أخذوا من أحكامه الشرعية وآدابه الرفيعة، فمن اقتباسهم من القرآن قول الشيخ "حسن قويدر الخليلي": فقال طب نفسا فقد زال الألم ... والصفو من كل الجهات قد ألم كأنه يتلو على القلب ألم ... نشرح لك الصدر بهذه النعم روض ووجه حسن ونهر

ويقول الشيخ "حسن العطار": مرج البحرين فيضا دمعه ... إذ رأى جفنيه لا يلتقيان ويقول "السيد علي درويش" يمدح المرحوم محمد علي باشا، ويؤرخ مجيء الجراد عام البقر سنة 1259هـ: لواحة للأرض لا ... تبقي البنات ولا تذر وصغيرة في حجمها ... لكنها إحدى الكبر ويقول "عبد الله فكري باشا": أليس بكاف عبده وهو قائم ... على كل نفس بالقضاء المحتم كما يقول: فمن بالعفو إني ... منه على غير ياس وإن عتبت فحق ... "وما أبرئ نفسي" ومن اقتباسهم من الحديث النبوي قول الشيخ "مصطفى الصاوي": فالصبر عند الصدمة الأولى رضا ... ما حيلة المحتال إن لم يصبر وقول "عبد الله فكري باشا": ألا إن أوساط الأمور خيارها ... مقال نبي عن هدى الله مخبر وخير عباد الله أنفعهم له ... كما جاء في قول النذير المبشر وقول "السيد عبد الله نديم": دع عنك لومي في شيء خصت به ... وانظر لنفسك تعذر مثلك الجاني فتركك الشيء لا يعنيك منقبة ... بل ذاك للمرء يدعى حسن إيمان

شعراء الأزهر

شعراء الأزهر مدخل ... شعراء الأزهر: قامت دولة الشعر في هذا العصر على كثير من الأزهريين، وكانوا المرحلة التي عبرها الشعر إلى مجده الذي بلغه "بالبارودي" و"شوقي" "وحافظ" "وإسماعيل صبري"، وغيرهم من شعراء العصر الفحول. وفي الأزهر اليوم جمهرة من الشعراء النابهين، وفي شبابه من يعقد به الأمل، ويناط به الرجاء، ولولا أننا التزمنا الحديث عن الراحلين، وكففنا عن التحدث عن الأحياء، خشاة أن نتهم بالمجاملة، ونرمى بالتجني "وحاشا للمنصف أن تحثي على عطفيه تلك الظنون"، لولا ذلك لبسطنا شعر الأحياء الأزهريين، وأفضنا في دراسة نابهيهم وأفذاذهم. ومما التزمناه في الحديث عن الشعراء أن قصرنا القول على أشهرهم، وأيسرهم ذكرا وأعظمهم قدرا، فلم نتبع كل نابه ولم نستقر كل مجيد، كما أننا توخينا في الشعراء الذين نتناولهم بالدرس والتحليل أن يكونوا أزهريين أقحاحا بدأوا ثقافتهم في الأزهر وأتموها فيه، ومن ثم لم نعرج على من كانت خاتمته الدراسية في المعاهد الأخرى، رغم أنها فروع من الأزهر، وأغصان من دوحته، فلم نتكلم عن المرحوم "حفني بك ناصف"، والمرحوم "محمد عبد المطلب"، والمرحوم "أحمد مفتاح"، وغيرهم ممن أتموا بعد المرحلة الأولى دراستهم في غير الأزهر. وسنبدأ بذكر أشهر شعراء الأزهر حسب وفياتهم.

الخطأ والعامي في شعرهم: ومن الإنصاف أن نقرر أن العامية قد تتسرب إلى شعرهم، والخطأ في النحو الصرف قد يجري على ألسنتهم، ولكن ذلك في قلة وندرة، فأما العامية في شعرهم فكما جاء في شعر السيد علي درويش، إذ يجمع "سقف" على "سقفان" في قوله في مسجد: إذا سجدت حيطانه فهي ركع ... وتسمع تسبيح الحصا منه سقفان وكإطلاقه لفظ "برادن" على من أصابه البرد، وذلك إذ يقول: بردان لا نفع "للبردان" عندهما ... وجبة البرد تكسو كل عريان فكلمة بردان عامية والفصيح بارد وبرد وبرود. ومن العامية في شعرهم قول الشيخ محمد شهاب الدين: وتفضل بجبر خاطر من هم ... أتقنوا صنعه وخذ منه شيا ويقول السيد علي درويش: ولا عجب إذا كان المربي ... مربي الروح بالعقل المصان فهو يخطئ في مجيء اسم المفعول من صانه على مصان بدلا من مصون. ويخطئ كذلك إذ يستعمل الفعل أحرمه من كذا بدلا من حرمه، وهو الفصيح ولا يقال: حرمه من كذا بل حرمه كذا، وذلك حيث يقول.

السيد إسماعيل الخشاب

السيد إسماعيل الخشاب: المتوفى سنة "1230هـ-1815م" نشأته وحياته: هو، "السيد إسماعيل" بن "إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب"، كان أبوه نجارًا ثم أنشأ متجرًا للخشب بالقرب من باب زويلة بالقاهرة، وولد له الشاعر المترجم وهو أصغر إخوته، وشب مولعا بحفظ القرآن راغبًا في العلم مشوقا لتحصيله، فطلب العلم في الأزهر حتى صارت له مشاركة في كثير من علومه1. وكان رقيق الحال حتى اضطر للتكسب في المحكمة الشرعية، وكان عاكفا على مطالعة الكتب الأدبية والتصوف، والتاريخ يستظهر كثيرا من أشعار العرب والمراسلات، والمكاتبات الأدبية، ويلم بطرف من حكايات المتصوفين وأقوالهم حتى أصبح فريد عصره في المحاضرات، واستحضار البدائع في المناسبات، وكثيرا ما يصفه "الجبرتي" بأنه البليغ النجيب، والنبيه الأديب نادرة الزمان فريد الأوان المتقن العلامة يتيمة الدهر، وبقية نجباء العصر. وعرف بالشعر الرائق والنثر العذب، وكان نبيها أديبا عظيم الأخلاق لطيف السجايا كريم الشمائل، خفيف الروح، وذلك مما يسر له مخالطة الرؤساء والأمراء، ومصاحبة الكبراء والعظماء، فتنافسوا في صحبته وتباهوا بمجالسته حيث يرتاحون لخلقه، ويستطيبون منادمته، ويجدون من طيب فكاهته ولطف عبارته، وعذب بيانه ما يدفعهم إلى طلبه، والحرص عليه كما كان رقيقا مهذبا كريم النفس محبا للمجد متطلعا لمعالي الأمور. وكان له قوة استحضار في إبداء المناسبات بحسب ما يقتضيه حال

_ 1 المفصل في تاريخ الأدب العربي ج2 ص334.

المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور في الخطاب، ويخلب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب1. ولما أنشأ الفرنسيون ديوانا للقضاء بين المسلمين عين في كتابة التارخي لحوادث الديوان، وما يقع فيه؛ لأن الفرنسيون كانت لهم عناية بالغة بتسجيل الحوادث يوما فيوما، وتدوين ما يجري منها في الدواوين، ومقر أحكامهم ثم يجمعون هذه الحوادث، ويطبعون منها نسخا يوزعونها على الجيش في مختلف مواضعه ومواطنه في الأمصار والقرى، فلما رتبوا ذلك الديوان كان الخشاب هو الذي يتولى كل ما يتصل بعمله، وظل ف يهذه الوظيفة إلى أن ولي "جاك منو"، وعلى رغم ذلك لم يتخل عن التكسب بالشهادة في المحكمة. ولما عاد المرحوم "الشيخ حسن العطار" من طوافه بالبلاد التي كان قد ارتحل إليها امتزج بالخشاب، فصفا ودهما وطابت مخالطتهما، وصارا لا يفارق كل منهما صاحبه حتى ليحدث "الجبرتي"، بأنهما كثيرا ما كانا يبيتان معا، ويقطعان الليل بحديث أرق من نسيم السحر، وألطف من اتساق نظم الدرر، وكثيرًا ما كانا يتنادمان بداره لما بينهما من الصحبة الأكيدة، والمودة العتيدة ثم يتجاذبان أطراف الكلام، فيجولان في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات. ومع أن "الخشاب" أدرك في أواخر حياته "محمد علي باشا"، نراه لم يل في عهده عملا من الأعمال مع شهرته الأدبية، وبعد صيته في البيان؛ لأن والي مصر لم يكن إلى هذا العهد قد اتجه إلى استصناع الأدباء والشعراء، إذ كان مصروفا لغير ذلك من شئون الدولة، وإصلاحها الداخلي، وتأثيل ملكه الذي خلفه المماليك منهوك القوى محلول العزائم. وبرح الداء "بالخشاب" فلزم فراشه حتى غلبه المنون في يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة من سنة ثلاث ومائتين وألف من الهجرة.

_ 1 تاريخ الجبرتي ج4 ص238.

وقد جزع عليه صديقه الوفي الشيخ "حسن العطار"، وجمع ما تفرق من شعره، فأودعه ديوانًا طبع في الآستانة. شعره: "الخشاب" أقدم شعراء العصر الحديث، وأقلهم حظا من الحضارة الغربية التي وفدت إلى مصر، ونبهت الأذهان والقرائح بعد أن استقر الحكم "لمحمد علي"، وأبنائه واتصلت مصر بالغرب اتصالا مختلفا، ولم يكن "الخشاب" قد تعلم اللغات الأجنبية، فيستعين بها على الاطلاع على ثقافة الغرب، وعلمه الجدي فتتسع مداركه وتترامي آفاقه خياله، وتأتيه من هذه الآداب سهولة الطبع ورقة التعبير، وعلى رغم ذلك يتسم شعره بالوضوح والسلاسة، ومجانبة التعقيد والإقلال من البهرج والطلاء، وهذه ظاهرة واضحة في شعره، فهو لم يتهالك على البديع، ولم يكلف بالصناعة ولم يتورط فيما تورط فيه غيره من الشعراء الصناع على قربه من الشعر الضعيف المنحل في عهد المماليك، ووثيق اتصاله بآداب ذلك العصر الواهن المتخاذل. والذي يبدو أن في طبع "الخشاب" ميلا فطريا إلى الإشراق، والوضوح والبعد من التعمل، وقد تهيأ له من الاتصال بالفرنسيين في مصر ما طوع أدبه، وجلى شعره، ونحا به نحو السهولة والانطلاق، فقد أقاموه في ديوان القضاء أمينا لمحفوظاته، وكاتبا سلسلة التاريخ فيه ومسجلا لأحداثه تباع، وعاش طول حياته شديد المخالطة للكبراء والأمراء، والعظماء بين منادمة ومطارحة ومفاكهة، ولا ريب أن ذلك كله هيأ له تطويع أدبه، وسهولة قريضه وإشراق ديباجته، وصفاؤه من التعقيد والزخرف والصنعة. وقد حدث "الجبرتي" أنه علق شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين كان لطيف الطبع جميل الصورة عالما ببعض العلوم العربية، مائلا إلى اكتساب النكات الأدبية، فصبيح اللسان العربي يحفظ كثيرًا من شعر العرب، فلتلك المجانسة مال كل منهما للآخر، ووقع بينهما تواد وتصاف حتى لا يقدر أحدهما

على مفارقة صاحبه، فتارة يذهب الخشاب إلى دار صديقه، وتارة يذهب الشاب الفرنسي إلى دار الخشاب، فيتجاذبان أطراف الأحاديث، ويقع بينهما من لطف المحاورة ما يتعجب منه، يقول "الجبرتي": -وعند ذلك قال "الخشاب" الغزل الرائق والنظم الفائق1. أفلام تكون هذه المخالطة من أسباب تنشيط شعره، وانطلاق قريضه وسعة خياله؟ وهل لنا أن نذهب إلى أن هذه المخالطة دلت "الخشاب" على كثير من أخلاق الفرنسيين، وعادتهم وأحوالهم، وطبائعهم فبسط ذلك في فكره وفسخ في مخيلته؟ يقول الخشاب في صديقه الفرنسي: علقته لؤلؤي الثغر باسمه ... فيه خلعت عذاري بل حلا نسكي ملكته الروح طوعا ثم قلت له ... متى ازديارك لي أفديك من ملك فقال لي وحميا الراح قد عقلت ... لسانه وهو يثني الجيد من ضحك إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت ... منه عساكر ذاك الأسود الحلك فجاءني وجبين الصبح مشرقة ... عليه من شغف آثار معترك في حلة من أديم الليل رصعها2 ... بمثل أنجمه في قبة الفلك فحلت بدرا به حفت نجوم دجا ... في أسود من ظلام الليل محتبك3 وافى وولى بعقل غير مختبل ... من الشراب وستر غير منهتك4

_ 1 تاريخ الجبرتي ج4 ص239. 2 رصعها: ملأها. 3 محتبك: موثق محكم. 4 منهتك: هتك الستر جذبه فقطعه من موضعه، أو شق منه جزءا فبدا ما وراءه وهتك ستر فلان فضحه.

فهذه أبيات عذبة سائغة لا تعقيد فيها ولا التواء، لم تشبها شائبة الصنعة، ولم يفسد جمالها المحسن البديعي الذي أسرف العصر في تناوله، وتاه في فيافيه. هذا إلى ما ذهب إليه من غزو الفجر جيش الليل وانهزام عساكره، وقدوم صاحبه وصد أشرق جبين الصبح يبدو عليه من شغفه آثار معترك، وتشبيهه في حلته التي كأنها من أديم الليل تلمع فيها الأنجم التي رصعتها وحلتها بالبدر أشرق نوره، وحفت نجوم الدجى به في الليل الحالك الذي وثق سواده وأحكم. هذا ويجوز أن تكون كلمة شغف محرفة، وأصلها "شفق" أي أن صاحبه وفد إليه، وعلى جبين الصبح آثار معترك من الشفق، لما بينهما من المنازعة والمغالبة، ويستأنس له بما ذهب إليه من قبل من غزو الفجر جيش الليل، وانهزام عساكره. غير أنا نلاحظ أن الشاعر وصف جبين الصبح بلفظ مشرقة، فلم يطابق بين الموصوف والصفة في التذكير والتأنيث، وكان يجب أن يقول "مشرق" ففي اللسان "الجبين يذكر لا غير"، إلا أن يقال: إنه أنث الوصف باعتبار الجبين جبهة، وبذلك تتأتى المطابقة أو جرى على ما يذهبون إليه من أن كل ما لا يعقل يجوز تذكيره وتأنيثه؛ أو تقول: إن كلمة آثار فاعل "مشرقة"، ويكون مرجع الضمير لجبين الصبح لا لفاعل جاء. وقال في فرنسي آخر اسمه "ريج". أدرها على زهو الكواكب والزهر ... وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر وهات على نغم المثاني1 فعاطني ... على خدك المحمر حمراء كالجمر وموه لجين الكأس من ذهب الطلا ... وخضب بناني من سنا الراح بالتبر ومزق رداء الليل وامح بنورها ... دجاه وطف بالشمس فينا إلى الفجر

_ 1 المثاني: من أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى.

وأصل بنار الخد قلبي وأطفه ... ببرد ثناياك الشهية والثغر أ "ريبج" ذكي أنفاسك التي ... أريج شذاها قد تبسم عن عطر معنبرة يسري النسيم بطيبها ... فتغدو رياض الزهر طيبة النشر رشافاتك1 الألحاظ عيناه غادرت ... فؤادي في دمعي دما سائلا يجري طويل نجاد السيف ألمى2 محجب ... شقيق المها3 زاهي البها ناحل الخصر رقيق حواشي الطبع يغني حديثه ... عن اللؤلؤ المنظوم والدر والنثر ولما وقفنا للوداع عشية ... وأمسى بروحي يوم جد النوى سيري تباكي لتوديع وأبدى شقائقا4 ... مكللة5 من لؤلؤ الطل بالقطر فهذا شاب فرنسي آخر خالطه الخشاب وأدمن الود معه، وكانت لهما مجالس وسمر، وغدو ورواح، فصفا أنسهما، وطابت مودتهما ووجد الشاعر فيه ما ارتاح له وبهره منه فتك ألحاظه، وطول نجاده، وسمرة شفته وتحجبه، وأنه شبيه بالمها زها بهاؤه ونحل خصره، ورق طبعه، وأغنى عن اللؤلؤ المنظوم والدر المنثور عذب حديثه، ووصف يوم الوداع وما لقيه من هوله، وأن صاحبه تباكى فبلل بدمع كاللؤلؤ خدودا حمرًا كالشقائق. هذه صورة ناطقة رسمها الشاعر فجاءت رائعة فاتنة، ولم تتعثر ريشته أو ينب رسمه، والشاعر في إيداعه هذه المعاني تلك الأبيات، وفي تعبيره عن هذا

_ 1 رشا: الرشأ محركة الظبي إذا قوي ومشى مع أمه. 2 ألمى: اللمى مثلثة اللام سمرة في الشفة. 3 المها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية. 4 الشقائق: جمع شقيقة -وشقائق النعمان معروفة. سميت بذلك لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق أضيف إلى ابن المنذر؛ لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم تبته من أصفر وأحمر، وفيه من الشقائق ما راقه فقال: ما هذه الشقائق احموها وكان أول من حماها، وقيل: النعمان اسم للدم وشقائقه قطعه، فشبهت حمرتها بحمرة الدم "شارح القاموس". 5 مكللة: الروضة المكللة المحفوفة بالنور.

كله لم يحم حول تعقيد أو التواء، ولم تهده صنعة أو طلاء اللهم إلا أنه يشك المحسن البديعي شكا خفيفا، ويتناوله برفق ولطف، فيستعمل الجناس بين كلمة زهر الكواكب التي هي جمع أزهر، والزهر للذي هو النبت المعروف. ويلهمه اسم صديقه "ريج"، فيوقع الجناس بينه منادى بالهمزة، وبين أريج الشذى، وهو إن كان بهذا الجناس المتكرر يجاري شعراء عصره، لم يظهر بمظهر المتكلف، والمتهالك عليه. ونلاحظ على أن الشاعر عبر بلفظ تباكى لتوديع -وكان المفهوم أن يقول "بكى"؛ لأن ذلك موقف البكاء لوجود دواعيه، أما "تباكى"؛ فتعبير يفيد أن صاحبه تكلف البكاء، ومن شأن هذا الوصف أن ينفي عنه صفة التأثر بالرحيل إلا أن يقال: إن صاحبه لشدة هول التوديع جمدت عيناه، فلم تبكيا فتكلف البكاء ليوائم بين حاله، وحال المودعين وفي الحديث: $"فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا"، أي تكلفوا البكاء وتكلف البكاء يستدعيه، وهذا الوجه يثبت لصاحب الخشاب تأثرا أبلغ من تأثره، وأنه بلغ من الحزن ما جمدت به عيناه، ولم تسمح بالبكاء إلا أن يتكلفه تكلفا. ومما قاله يتغزل به: يا شقيق البدر نورًا وسنا ... وأخا الغصن إذا ما انعطفا بأبي منك جبينا مشرقا ... لو بدا للنيرين انكسفا بغيتي منك رضاب1 ورضا ... وعلى الدنيا ومن فيها العفا2 فهذه أبيات رقيقة عذبة حلوة الروح خفيفة المذاق لم يشبهها تعقيد، ولم تتأثر بصنعة إلا الجناس المقبول في "رضاب"، و"رضا". وقال يمدح الشيخ "محمد الأمير" العالم الفقيه المتوفى سنة "1232 إلى 1817".

_ 1 الرضاب -كغراب الريق المرشوف، أو قطع الريق في الفم، وفتات المسك. 2 العفاء: الهلاك والدروس ومن معانيه التراب.

أدر لي في الربا القدحا ... وكن للعذل مطرحا ونبه صاح ساقيها ... فضوء الصبح قد وضحا وثغر الدهر مبتسم ... وشادي الورق قد صدحا وخذها من يدي رشا ... مليح قد حوى ملحا غزال إن يلح للبد ... ر أو غصن القا افتضحا وأطرب مسمعيك بما ... به أستاذنا امتدحا "محمد الأمير" المر ... تجي كم آملا منحا إمام إن تزنه بكل ... م مولى ماجد رجحا سراج في ذكائه الوها ... ج ليل المشكلات محا فهذه الأبيات تقطر سلاسة ورقة، ويفيض ماء الشعر من أعطافها وتبدو صفحتها نقية من الزخرف، والطلاء حتى لتشبه أعذب ما ينظم الآن من الشعر العربي السهل على ما فيها من معان خصبة وتصوير بديع، كرجحان الإمام الممدوح حين تزنه بكل مولى ماجد، وجعل الشاعر ذكاء الممدوح سراجا وهاجا يمحو المشكلات التي جعل لها ليلا. وكان "محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب" المتوفى سنة خمس ومائتين وألف من الهجرة شاعرا يلتزم في شعره ما لا يلزم، فلما جمع شعره في ديوان كتب الخشاب على ظاهر هذا الديوان يداعب صاحبه، فقال: قل للرئيس أبي الحسن محمد ... خدن1 المعالي والسرى الأمجد والحاذق2 الفطن اللبيب أخي الذ ... كاء اللوذعي3 الألمعي4 الأوحد ألزمت نفسك في القريض مذاهبا ... ذهبت بشعرك في الحضيض الأوهد

_ 1 الخدن والخدين الصاحب. 2 الحاذق الماهر البارع. 3 اللوذعي: الخفيف الذكي الظريف الذهن الحديد الفؤاد، واللسن الفصيح كأنه يلذع بالنار. 4 الألمعي الذكي المتوقد.

وتركت ما قد كان فيه لازما ... هلا عكست فجئت بالقول السدى كدرت منه بما ضعت بحوره ... فغدت مشارع1 ليس ينحوها الصدى2 فإذا نظمت فكن لنظمك ناقدا ... نقد البصير بذهنك المتوقد أولا فدع تكليف نفسك واسترح ... من قولهم ما شعره بالجيد ولئن عنفت عليك فيما قلته ... فلقد بذلت النصح للمسترشد فلما قرأ صاحب الديوان هذه الأبيات ضحك، ولم يزد على أن قال: "أنت في حل"، وكان "محمد بن الحسن" قد علق غلاما، فكتب إليه الخشاب. إني أجلك أن تصبو بمبتذل ... على تسنمك العلياء من صغر أمسك عليك وحاذر من إخاء فتى ... قميصه مذ نشا ينقد من دبر وهذه قطعة رائعة تزخر بالمعاني الكريمة، وتفيض سلاسة ولطافة فلا ينبو منها لفظ، ولا يقلق فيها تعبير وتطرد أجزاؤها، وتتسلسل حتى لتكون كالعقد انتظمت حباته قالها يرثي بها المرحوم الشيخ "أحمد بن موسى بن داود" المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف من الهجرة. تغير وجه الدهر وازور حاجبه ... وجاءت بأشراط المعاد عجائبه وكدر صفو العيش وقع خطوبه ... وقد كان وردا صافيات مشاربه فمالي لا أذري المدامع حسرة ... وأفق سطء المجد تهوي كواكبه3 وما لي لا أبكي على فقد ذاهب ... موصلة لله كانت مذاهبه أغرسنا شمس الضحى دون وجهه ... وفوق مناط الفرقدين مراتبه حليف ندى كالسيل سيب يمينه ... وكالبحر تجري للعفاة مواهبه له عفو ذي حلم ورأي أخي نهى ... يضيء لدى محلولك الخطب ثاقبه على نهج أهل الرشد عاش وقد مضى ... مطهرة أردانه وجلاببه

_ 1 المشارع -موارد الشرب. 2 الصدى -الظامئ.

فمن ذا الذي ندعو لكل ملمة ... وترجو إذا ما الأمر خيفت عواقبه لقد هد ركن الدين حادث فقده ... وشابت له من كل طفل ذوائبه وغادر ضوء الصبح أسود حالكا ... كأن الدجى ليست تزول غياهبه ألم تر أن الأرض مادت بأهلها ... وأن الفرات العذب قد غص شاربه سطت نوب الأيام بالعلم الذي ... تزال به عن كل شخص نوائبه عجيب لهم أنى أقلوا سريره ... وفد ضم طودا أي طود يقاربه وكيف ثوى البحر الخضم بحفرة ... وضاق بجداره الفضا وسباسبه خليلي قوما فابكيا لمصابه ... بمنهل دمع ليس ترقا سواكبه لقد آد1 إذا أودى2 وأعقب مذ مضى ... أسى يجعل الأحشا جذاذا3 تعاقبه وأي شهاب ليس يخبو ضياؤه؟ ... وأي حسام لا تفل مضاربه؟ وأي فتى أيدي المنية أفلتت؟ ... وأي فتى وافته يوما مآربه؟ وماذا عسى نبغي من الدهر بعد ما ... أصمت4 وأصمت5 كل قلب مصائبه؟ فانظر كيف جاءت هذه القصيدة سهلة مشرقة لم تعكرها صنعة، ولم يذهب بروائها تكلف. نقاء شعره من التاريخ: ومما امتاز به "الخشاب" أنه لا يميل إلى التاريخ الشعري، ولا يتصل بل

_ 1 آده الحمل أثقله. 2 أودى هلك. 3 جذاذ قطعا. 4 أصمه سد أذنه. 5 أصمى الصيد رماه فقتله مكانه.

في قليل أو كثير، وعلى رغم أنه أقرب شعراء العصر الحاضر إلى العصر السالف، وكان مقتضى ذلك أن ينحو منحى الشعراء في ذلك العصر فيفتن في التاريخ الشعري، ويولع به كما أولعوا ويستعمله في الشطر أو البيت، أو القصيدة على رغم من معاصرته لهؤلاء الذين كلفوا به خلا شعره منه، فلا تكاد تعتر على تاريخ له في حادث أو أمر ذي بال، وإن هذه لحسنة من حسنات "الخشاب"، فقد نجا من قيوده وأغلاله، وكم طغت هذه الصناعة على الشعر، فذهبت بجماله وكسبته الغموض والتعقيد، والالتواء واستبدت بالشاعر فصرفته عن روعة التصوير وجمال المعنى، وحسن الأداء، ولكن "الخشاب" نجا من هذا، وكره هذه الطريق الملتوية فحاد عنها، وسلك مسلك السهولة والإشراق والوضوح.

الشيخ حسن العطار

الشيخ حسن العطار: المتوفى سنة "1250هـ-1834م" نشأته وحياته: ولد بالقاهرة سنة نيف وثمانين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها في ظل أبيه الشيخ "محمد كتن"، ويمت بنسبه إلى أسرة مغربية، وفدت إلى مصر وكان أبوه رقيق الحال "عطارا"، ملما بالعلم كما يدل عليه ما يقوله في بعض كتبه "ذاكرت بهذا الوالد رحمه الله"، وكان يستصحبه إلى متجره، ويستعين به في صغار شئونه -نشأ حاد الذكاء قوي الفطنة، إلى التعليم هواه، شديد الغيرة والتنافس، إذ يرى أترابه يترددون على المكاتب، ومن ثم يتسلل إلى الجامع الأزهر مستخفيا من أبيه، وقد عجب والده إذ رآه يقرأ القرآن في زمن وجيز، فشجعه ذلك على أن يدع ابنه الذكي الفطن المحب للعلم يختلف إلى العلماء، وينهل من وردهم ما يشاء، فجد في المثابرة والانتفاع من الفحول أمثال الشيخ "محمد الأمير"، والشيخ "الصبان"، وغيرهما حتى بلغ من العلم والتفوق فيه ما أهله للتدريس بالأزهر على تمكن وجدارة. ولكن نفسه لم تقنع بهذه الغاية، بل مال إلى التبحر في العلوم، واشتغل بغرائب الفنون، والوقوف على أسرارها. وكان منذ صباه ذا شغف بالأدب، جادا في مطالعته والتزود منه حتى أجاد النظم، والنثر في ريعان صباه وبواكير حياته. وعني بالأدب الأندلسي عناية فائقة فأخذ يدرسه ويحاكيه، وكثيرا ما كان يأسف على انحطاط الأدب في عصره، ويصف شعراء زمانه بأنهم "اتخذوا الشعر حرفة، وسلكوا فيه طريقة متعسف، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدح والاستجلاب والمنح، حتى مدحوا أرباب الحرف الجمع الدراهم، وكان منهم

من كان يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص، ثم يغيرها في مدح آخر، وهكذا حتى يمتدح بها كثيرًا من الناس، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم والقافية، وما أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق الكدية1 بين صفوف المصلين في المساجد، وهكذا كان حال الرجل، فلا يكاد يتخذ وليمة أو عرسا أيبني بناء أو يرز بموت محب إلا بادره بشيء من الشعر قانعا بالشيء النزر". ولما كانت تلك نظرته إلى الشعر والشعراء رأيناه قد أغفل شعره، ولم يحتفظ بما قاله في المدح، والهجاء اضطرارًا ورجا ألا يحفظ عنه، إلا ما لطف من النسيب"، مما ولع به "أيام الشباب حيث غض الشبيه، والزمن من الشوائب محض، ولأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة، وتثني قدود الغيد تظل له أعين الأحبة وامقة. ذاك وقت قضيت فيه غرامي ... من شبابي في ستره بالظلام ثم لما بدا الصباح لعيني ... من مثيبي ودعته بسلام" ولما اضطربت الفتن بدخول الفرنسيين مصر رحل إلى الصيعد، ومعه جماعة من العلماء، ثم عاد إلى مصر بعد أن استقرت الأمور، وقد أداه حبه الحياة الاجتماعية وميله إلى المخالطة، وما عرف به من خفة الروح، وطيب المعاشرة، إلى الاتصال بالفرنسيين العلماء فاستفاد من فنونهم، وأفادهم اللغة العربية وكان يقول: "إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها"، وكان يتعجب مما وقف عليه من علوم الفرنسيين، ومن كثرة كتبهم وتحريرها وقربها من العقول وسهولة الاستفادة منها، وقد تحدثنا عن ذلك في صلة الأزهر بالحملة الفرنسية. وهو الذي وقف في امتحان مدرسة الطب خطيبا يشيد بفائدة الطب في تقدم الإنسانية، ويفخر بأن أتيح للأزهر في تاريخ مدرسة الطب أول نشأتها

_ 1 الكديسة: السؤال.

أثر جليل إذ كان جل تلامذتها الأول من الأزهر، وكان لهم في مدرسة الطب من الذكاء، وحسن الاستعداد ما راع وبهر. والشيخ "حسن العطار" هو الذي قدم الشاب الشيخ "رفاعة رافع" "لمحمد علي"، ليكون إماما للبعث الذي أرسل إلى فرنسه في سنة 1826م. وهو الذي أوصى "رفاعة" أن يقيد مشاهداته في بلاد الغرب من الأمور التي يرى فيها فائدة لبني وطنه، كي يظهرها على النواحي المختلفة للحضارة الأوروبية، حتى إذا أطاع "رفاعة" أستاذه، وأتم رحلته "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" أوصى العطاء بها حتى قامت الحكومة على طبعها ونشرها. تنقله: ثم إنه ارتحل إلى الشام، وأقام بدمشق زمنا كان يقرض فيه الشعر حينا بعد حين، قال: "وقلت وأنا بدمشق هذه القصيدة، وسببها أن صاحبنا العلامة محمد المسيري كان قدم من بيروت لدمشق، فأقام بالمدرسة البدرية حيث أنا مقيم، ومكث نحو شهرين فوقع لي به أنس عظيم". ثم عاد إلى بيروت وأرسل مكتوبا لبعض التجار فيه قصيدة تتضمن مدح دمشق، وعلمائها وتجارها الذين صاحبوه مدة إقامته، فكان جزاء تلك القصيدة أنها لم تقع منهم موقع القبول، وساروا يهزأون بكلماتها، وقوافيها فانتدبت لنظم هذه القصيدة على بحرها، ورويها انتصار للشيخ "المسيري"، وقد ذكرت بعض متنزهات دمشق في أول قصيدتي، وأتيت فيها بفنون من الغزل، والهجاء وغيرها، فقلت: بوادي دمشق الشام جزبي أخا البسط ... وعرج على باب السلام ولا تخطي ولا تبك ما يبكي امرؤ القيس حوملا ... ولا منزلا أودى بمنعرج السقط

هنالك تلقى ما يروقك منظرا ... ويسلي عن الأخوان والصحب والرهط عرائس أشجار إذا الريح هزها ... تميل سكارى وهي تخطر1 في مرط2 كساها الحيا أثواب خضر تدثرت ... بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط3 ومنها: وقف بي بجسر الصالحة وقفة ... لأقضى لباتات الهوى فيه بالبسط وعرج على باب البريد تجد به ... مراصد للعشاق في ذلك الخط4 وحاذر سويقات العمارة أنها ... مهالك للأموال تأخذ لا تعطى فلو أن قارونا تبايع بينهم ... لعاد فقيرًا للخلائق يستعطي ولست لما أنفقت فيها بآسف ... ولا بالرضا مني أمازج بالسخط وجاء في بعض كتبه أنه أدى فريضة الحج، واتفق له بعد أدائه أن توجه مع الراكب الشامي إلى معان تم بلدة الخيل فأقام بها عشرة أيام، ثم ارتحل يمم القدس فنزل دار نقيبها، وهنأه بعودته إلى منصبه بعد عزله منه، ثم ارتحل إلى بلاد الروم وأقام بها طويلا، وسكن بلدًا من بلاد الأرنأود، وتأهل بها وأعقب، ولكن لم يعش عقبه.

_ 1 تخطر -خطر في مشيته اهتز وتبختر. 2 المرط -كساء من صوف أو خز. 3 القرط -ما يعلق في شحمة الأذن. 4 الخط بالضم موضع الحي والطريق والشارع ويفتح، وبالكسر الأرض لم تمطر، والتي تنزلها ولم ينزلها نازل قبلك.

عودته إلى مصر: ولما عاد إلى مصر تولى تحرير الوقائع المصرية، فكان أحد الأزهريين الأدباء الذين نهضوا بها، وكانت له شهرة علمية أدبية، ومكانة أذعن لها معاصروه من العلماء، والأدباء، والأفذاذ. كان يعقد مجلسا لقراءة تفسير البيضاوي، فيتوافد الشيوخ عليه تاركين حلق دروسهم، وقد أهلته هذه المكانة العلمية والأدبية، وما اتسم به من النبوغ، وما طار من شهرته، وبعد صيته أن يكون شيخا للأزهر بعد وفاة الشيخ "أحمد الدمهوجي الشافعي". ولما قدم إلى مصر عام سبعة وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة كبير الدروز، وكانوا قد انتقضوا عليه ملتجئا إلى "محمد علي باشا"، وكان في صحبته "بطرس النصراني" اجتمع به، وكان بينهما اتصال ومودة ورأى المترجم فيه تمكنا من الأدب والمحاضرة، ومعرفة بالتواريخ والأنساب وعلوم العربية، وقد حدث1 بذلك، وبأن "بطرسا" امتدحه بقصيدة منها: أما الذكاء فإنه ... أذكى وأبرع من إياسه في أي فن شئته ... فكأنه باني أساسه أضحى البديع رفيقه ... لما تفرد في جناسه مواهبه: كان رحمه الله طموحا محبا للاجتماع والتنقل، ومشاهدة الحضارات المختلفة، وكان معروفا بالجد والذكاء معًا، حدث عنه معاصره المحروم الشيخ "محمد شهاب الدين المصري"، الشاعر بأنه كان آية في حدة النظر وشدة

_ 1 الخطط التوفيقية ج4 ص39.

الذكاء، وأنه ربما استعار منه الكتاب في مجلدين، فلا يلبث عنده الأسبوع، أو الأسبوعين ثم يعيده إلي وقد استوفى قراءته، وكتب في طرره1 على كثير من مواضعه2، ومما عرف عنه أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية. آثاره: له تآليف عدة منها حاشيته على جمع الجوامع نحو مجلدين، وحاشية على الأزهرية النحو، وحاشية على مقولات الشيخ "السجاعي"، وحاشية علي السمرقندية، ورسائل في الطب والتشريح "والرمل"، "والبازرجة" وغير ذلك، وقد شرح جزءًا من الكامل للمبرد. شعره: لم يجمع شعر العطار في ديوان، وقد أراد هو كما قلنا ألا يحتفظ بشعره الذي نظمه في المدح والهجاء، ورغب ألا يحفظ عنه إلا ما كان غزلًا رقيقا نظمه في صباه حيث العيش غض، والزمن من الشوائب محض، وأن مما يؤسف له أن يفقد كثير من ثروة العطاء الشعرية النفيسة، ولو توفر جميع شعره لارتسمت فيه صورة ناطقة لشاعريته، ومواهبه وشخصيته، ووضحت هذه القصائد مجتمعة كثيرا من أحوال العصر إذ الشعر مرآته المجلوة. ومهما يكن من شيء ففي القصائد المتناثرة التي وقعنا عليها ما يعين -ولو في جهد- على دراسة شعره، وطريقته واتجاهه الشعري. يدل ما بين أيدينا من شعر "العطار" على السهولة، ووضوح الغرض وإشراق المعنى وسعة الأفق، وغزارة مادة التشبيه، ولعل مما بسط في أفقه الشعري، ومد في خياله، ومال به في الشعر إلى الوضوح والرقة والسجاحة

_ 1 الطرر جمع طرة، وهي جانب الثوب الذي لا هدب له، وشفير النهر والوادي وطرف كل شيء وحرفه والناصية. 2 الخطط التوفيقية ج4 ص39.

ما تهيأ له من مخالطة الكبراء والعظماء، وما كلف به من حب الحياة الاجتماعية وغشيانها في شتى مجاليها، ومختلف ميادينها وما اجتلاه في الممالك التي ارتحل إليها وجال في ربوعها من مشاهد وحضارات، وأخلاق وعادات، وما اطلع عليه من ألوان الحياة المتقاربة والمتباينة، فإن كل ذلك من مقومات الشعر، ومن أسباب بسيطه وتلوينه، على أن هذه المخالطات، وتلك الاتصالات التي وثق "العطار" أسبابها صرفت شعره عن التعقيد، والغموض والالتواء. ويظهر أن العطاء يميل بطبعه إلى السلاسة، وينحرف بفطرته إلى الإشراق والسهولة، وإذا رجعت إلى أقدم ما عثر عليه من شعره لم تفتك منه هذه الصفات، وطالعتك منه صفحة نقية من الغموض والالتواء. فمن أقدم شعره قصيدته التي رواها "الجبرتي"1 يمدح بها الشيخ "شامل أحمد بن رمضان" المتوفى سنة خمسة عشر ومائتين وألف من الهجرة، حينما ولى مشيخة رواق المغاربة إذ يقول: انهض فقد ولت جيوش الظلام ... وأقبل الصبح سفير اللئام وغنت الورق على أيكها ... تنبه الشرب لشرب المدام والزهر أضحى في الربا باسما ... لما بكت بالطل عين الغمام وللغصن قد ماس بأزهاره ... لما غدت كالدر في الانتظام وعطر الروض مرور الصبا ... على الرياحين فأبرا السقام كأنما الورد على غضنه ... تيجان إبريز على حسن هام كأنما الغدران خلجان أغصـ ... ـان النقا والنهر مثل الحسام2 كأن منظوم الزراجين بها ... قوت غدا من نظمه في انسجام3

_ 1 الجزء الثالث ص113. 2 النقا -القطعة من الرمل تنقاد محدود به. 3 الزرجون، كقربوس شجر العنب أو قضبانها والخمرة، وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة.

كأنما الآس1 عذار2 على ... وجنته وقد علاها ضرام كأنما الورقاء لما شدت ... تتلو علينا فضل هذا الإمام بشراك مولاي على منصب ... كان له فيك مزيد الهيام وافاك إقبال به دائما ... وعشت مسعودا بطول الدوام فقد رأينا فيك ما نرتضي ... لازلت فينا سالما والسلام هذه الأبيات من أقدم شعره الذي عثرنا عليه، وهي متسعة بالسهولة ووضوح الغرض ومجافاة الغموض، مع حسن صياغتها وتسلسلها، وكثرة تشبيهاتها المحكمة السائغة. ومما قاله متغزلا: إلى متى أشكو ولم ترث لي ... أما كفى أن رق لي عذلي؟ يا باخلا بالوصل عن عاشق ... بعسجد الأجفان لم يبخل أنفق في حر الهوى عمره ... وعن أمانيه فلا تسأل لم يبق في الصب سوى مهجة ... أمست بنيران الهوى تصطلي ومقلة ترعى نجوم الدجى ... شقيقك الزاهر عنها سل تبيت تبكي شجوها كلما ... هاج بذكراك فؤاد بلي ما أطول الليل على عاشق ... فارق محبوبا عليه ولي كأنما الصبح اتقى سطوه ... من كافر الليل فلم ينجل فهذه القطعة من أرق أبيات الصبابة وأعذبها، أودعها الشاعر عواطفه وشجونه فعبرت عنها أصدق تعبير، فهو يعتب على محبوبه عتاب الشاكي، ويسائله إلام يغضي من شكواه، وقد رثى العذل لحاله؟ ثم يتجه إليه فيخاطبه قائلا متى بخل بالوصل على عاشق جاد بعسجد أجفانه لطول بكائه، وأنفق

_ 1 الآس نبت معروف من الرياحين. 2 عذار اللحية الشعر النازل على اللحيتين.

عمره في حر الهوى، وأنت معرض لا تسأل عن أمانيه، لم يبق في محبك إلا مهجة تصطلي بنار الهوى، ومقلة تبيت ساهرة ترعى النجوم، فسل شقيقك ينبئك عن حالها، إنها تبيت تبكي كلما هاج بذكراك الفؤاد البالي، ثم ينتقل الشاعر إلى التبرم من طول الليل على العاشق الذي فارق محبوبا ولى عليه، وينتظر الصبح فلا يطلع، فيخيل إليه أنه يخشى سطوة الليل الكافر، فمن ثم لم ينجل، وهو مسبوق إلى هذا المعنى يقول البهاء زهير: لي فيك أجر مجاهد ... إن صح أن الليل كافر المحسنات في شعره: والمحسنات البديعية تبدو في شعر "العطار"، وتبدو أنواعها في شعره كما تدور في شعر أقرانه المعاصرين. ففي شعره الطباق كقوله: أسروني وأطلقوا دمع جفني ... وأثاروا في القلب نار الجحيم وهو بين "أسروا" و"أطلقوا". والتقسيم كقوله: فطرفي إلى رؤياكم متشوف ... وقلبي إلى لقياكم متشوق مع ما في البيت من الجناس بين متشوف ومتشوق. وتجد في شعره الاقتباس كقوله: مرج البحرين فيضا دمعه ... إذ رأى جفنيه لا يلتقيان وهو اقتباس من قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} . ويستعمل الثورية في شعره، وتطالعك كثيرًا كما في قوله: حلمه الروض جناه يجتني ... ويرجي العفو منه كل جان فقد روي بلفظ "جان" بين معنيه الآثم والقاطف.

وكما في قوله: وكيف أجوز في ميدان قوم ... حقيقة فضلهم أرجو مجازه فقد روي بلفظ "مجاز" المضاف إلى الضمير يبين معنيه مقابل الحقيقة، والمصدر الميمي الذي هو بمعنى الاجتياز. وكما في قوله: كسر القلب وما كان التقى ... فيه من حين هواه ساكنان فلفظ "ساكنان" مورى به بين مثنى اسم الفاعل من سكن بمعنى حل، أو سكن بمعنى لم يتحرك، ويحسن أن نشير إلى أن "العطار" أخذ هذا المعنى من قول الشاعر: يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثان بأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان أما الجناس فإنه مولع به، مفتون بفنونه، يستعمل منه في شعره ألوانا مختلفة ويدور في شعره في صور شتى، وكأن "بطرسًا" الذي قدم إلى مصر ضيفا مع كبير الدروز لم يقل في "العطار". أضحى البديع رفيقه ... لما تفرد في جناسه إلا حيث كانت "العطار" شهرة بإدمان الجناس والافتتان فيه، وتلوينه بألوان مختلفة، فقد يعمد إلى الجناس في الكلمة الواحدة، فيوردها ذات معان شتى وفي صور متغايرة قد تصل أحيانا إلى أربع كقوله يمدح "إبراهيم باشا": سمهري1 ينثني أم غصن بان ... أم قوام دونه صبري بان صان بالعسال2 معسول اللمي ... وتهادي هادما ما أنا بان

_ 1 السمهري -الرمح الصلب، والمنسوب إلى سمهر زوج ردينة، وكانا مثقفين للرماح، أو إلى قرية بالحبشة. 2 العسال الرمح الذي يهتز لينا، والمعسول المخلوط بالعسل.

يا مليك الحسن رفقا بشبح ... كلما حاول كتم الشجو1 بان فكلمة "بان" في هذه الأبيات كررها الشاعر أربع مرات، وهي على ترتيبها "اسم" للشجر، وفعل ماض بمعنى تعد، واسم فاعل من بني بمعنى أقام وشيد، وفعل ماض بمعنى ظهر، وولوعه بالجناس هذا هو الذي أوقعه في هذا التكرار الذي غاض معه جمال الشعر وبهاؤه، وجاء متكلفا لا تنفتح الأسماع له، وهو لا ينسى في غمار هذه الضجة التي أثارها بجناسه، "وبان" تكلفها في شعره أن يسوق جناسات أخرى في سياق هذه الأبيات، كما بين "العسال" "ومعسول" اللمي "وتهادى" و"هادما" و"شج" و"شجو". وهذا الجناس الذي يغرق "العطار" في تناوله، ويسرف في استعماله يحلو أحيانا، فيكون مقبولا سائغا لا نبو فيه كقوله: وصفا لي زمان أنس صفا لي ... بحبيب غض وراح قديم وقوله: وما لي إن منعتكها اقتدارا ... وما لي إن منحتكها إجازة وقوله: يمم اليم ورد ما تشتهي ... وعلى المورد يا صاح الضمان وقوله: وغنت الورق على أيكها ... تنبه الشرب لشرب المدام وقوله: همم فوق السموات سمت ... ومعال دونهن الصعب هان فالجناس بين "صفا" و"صفا" و"منعتكها"، و"منحتكها" و"يمم" و"اليم" و"الشرب" جمع شارب و"الشرب" مصدر شرب و"السموات"، و"سمت" و"دونهن" و"هان"، وهذه جناسات سائغة لا تمجها النفس

_ 1 الشجو -شجاه حزنه وطرفه كأشجاه فهما ضد.

ولا تتكره لها ومن جناسه ما يسمح، وينسبو وتسمعه الآذان بغضاضة، وتسخط لما يبذله له من التكلف والتعسف كقوله: وحلى حلت وجلت غاية ... أيجاري من له سبق الرهان وقوله: فهو كالشمس سمت آفاقها ... وسناها كان في كل مكان هذه جناسات موسومة بطابع التكلف ارتصد لها الشاعر، فلم تخف على الأسماع. حسن الانتقال في شعره: والشاعر يحسن الانتقال من معنى إلى معنى، فلا تحس بقلق بين المعنيين أو اقتضاب، أو تنقل من الأول إلى الثاني بل نجد تمام الالتئام، وحسن السبك وأحكام التآخي كقوله: يا نديمي قم وباكرها وطب ... هذه الجنة والحور الحسان وأدر لي بنت كرم عتقت ... نورها الباهر يحكي البهرمان بالنهى قد فعلت كاساتها ... فعل إبراهيم سلطان الزمان فقد انتقل من أثر الكؤوس في النهى، وما تفعل به إلى أثر إبراهيم الممدوح في نفوس الناس دون مجافاة بين المعنى الأول والثاني، أو تعثر أو فجوة بينهما. أغراض شعره: هو واسع الأفق في شعره يتناول فيه جميع الأغراض الشعرية من غزل، ومدح وهجاء وفخر ورثاء، ووصف وتهنئة وحكم وغير ذلك. ومن حكمه قوله: قد يطلب الحسناء من لم يكن ... كفؤًا لها للحمق في عقله

قد يتساوي اثنان في منصب ... وإنما التفريق في سبله ويفخر المرء بأفعاله ... لا بالذي قد مات من أهله المصطلحات العلمية في شعره: تبدو المصطلحات العلمية في شعره، ولكن على قلة فمن ذلك قوله: فمنصب المرء قرين له ... والشكل مجذوب إلى شكله وقد ترى فرعين من دوحة ... تخالفا في الحكم مع شكله التاريخ الشعري وبراءته منه: أما التاريخ الشعري الذي تهافت عليه الشعراء المعاصرون له، فختموا به قصائدهم وسجلوا به كل حادث، وافتنوا في تناوله، فقد تحرر "العطار" منه ولم نعثر فيما وقع بين أيدينا من شعره على استعماله هذا النوع. نثره: جرى "العلطاء" في إنشائه على طريقة عصره، وخاصة في أوائله فالتزم السجع حتى لم تفلت منه جملة، وتكلف الصنعة ما طاوعه جهده، فكان نثره عكس شعره قيودا، والتزامات في النثر وسهولة وانطلاقا في الشعر في أغلب الأمر، وقد أودع ما كتبه في كتاب سماه "إنشاء العطار"، وقسمه قسمين "كتابة الشروط والصكوك، وإنشاء المراسلات الواقعة بين السوقة والمملوك، وأثبت في هذا الكتاب" من كل فن منهما قدرا به اللبيب عن غيره يستغني، فهو لكل كاتب عن الافتقار لسواه مغني". وكان له في صباه أغراض دونها في أوراق تلاعبت بها الأيدي، ولم يبق منهما إلا النزر القليل، فلخص منها ما يحسن إيراده في "المخاطبات"، وترك "ما لا يتعلق به غرض في المكاتبات".

ولما كانت الأقلام في هذه الفترة متقاصرة عن تصوير المشاعر، وتسجيل الخواطر، وتدوين الرسائل في مختلف الأغراض، وضع "العطار" لشتى المناسبات إنشاء مختلفا يستعمله كل كاتب في غرضه، مراعيا مقام المكتوب إليه، فإن كتب رسالة ترفع إلى أمير، أو سلطان حشن له المدح والثناء، أو لمرجو في حاجة بسط إليه أكف الضراعة والاستجداء، واستدر عطفه ونداه، وإن خاطب عالما كان خطابه متسقا مع ما عرف به المخاطب من نوع علمه، وراعى في رسالته إليه ما يناسب من العبارات، والتراكيب مستشهدا بالشعر حينا من نظمه، وحينا آخر من محفوظه. وبعد أن حشد في القسم الأول من هذه المخاطبات طائفة من الرسائل المتنوعة، عقب بخاتمة "تشتمل على أبيات تورد في أوائل الصدور، ويستشهد بها في أثناء السطور"، وبطائفة أخرى من "شطور أبيات تحلى بها السجعات". ثم كتب في القسم الثاني ما يلائمه من رسائل أعدها لمن يعجز عن الكتابة، فيستعين بها من صور مبايعات، وصلح وحوالة وشركة وشفعة، ووكالة ونحو ذلك. نماذج من إنشائه: مما كتبه في رسائل الإخوان: "الإخاء بيننا أدام الله سعدك وأثل مجدك، وأورى زندك، وأهلك ضدك، وأجرى على الألسنة شكرك وحمدك. فالناس أجدر من أن يمدحوا رجلًا ... حتى يروا عنده آثار إحسان

قوى الارتباط بعيد الانحطاط، متزايد متصاعد، عتيد أكيد، لا يطمع واش في نثر عقده، ولا يوجب طول التباعد تناسى عهده، كيف وأنت الجليل الذي عليه المعول، والحبيب الذي آخر شوقي إليه أول، لي بلقياك أنس وارتياح، وبدارك غدو ورواح، ومبيت ومقيل، في ظل عيش ظليل قوبل بإجلال، وعومل بإفضال: وقيل له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مكان صالح ومقيل يجد منك القاصد إليك، والمستقر لديك، ما تقر به عينه، ويستقر أينه من نفيس كتاب، ولذيذ خطاب، وجليس أنيس، ونديم نفيس. مجلس تكثر الفوائد فيه ... وتسر العيون والأسماع وكتب لعالم نحوي "يقبل الأرض إجلالًا ويشرح ما ... يحس من حرق الأشواق والقلق ويشتكي بعض ما يلقى وأعجب ما ... رأيت أن تخمد النيران بالورق ويبدي غراما تحرك سواكنه عوامل الاشتياق، وحبا أضرمت ناره في الضمير فكاد يشعله الاحتراق، وينعت ودا ممتزجا بتوابع الثناء والمدح، ويرفع أدعية صارت بها الأكف مبنية على الفتح، ويصف أشواقا سكنت في صميم الضمير، وسلم جمعها من التكسير، بعد دعاء إذا قصد باب القبول قيل: ادخلوها بسلام، وسلام أعطر من حديث النسيم بأخبار زهر الكمام، وينهى بعد بث أشواق أصبحت بها الدموع في محاجر العين معثرة، ولو لم يقرأ إنسانها بمرسلات الدمع لقلقت في حقه قتل الإنسان ما أكفره. إنه إن تفضل المولى بالسؤال عن حال هذا العبد المخلص، والمحب المتخصص، فهو باق على ما تشهد به الذات العلية، من صدق المحبة ورق العبودية، ويخبركم بكذا وكذا ... إلخ".

السيد على درويش المصري

السيد على درويش المصري ... السيد علي الدرويش المصري: المتوفى سنة "1270هـ-1853م" نشأته وحياته: هو، "السيد علي الدرويش" بن "حسن" بن "إبراهيم الأنكوري"، ولد بالقاهرة في غرة شهر المحرم سنة 1211هـ، ولما شب ألحق بالأزهر، فتلقى علومه على جلة من شيوخه، وكان منذ صباه ميالا إلى الأدب وفنونه، فأقبل على كتبه يغذي ملكته بقراءتها ويرتوي من محاسنها، ويستظهر ما يستطيبه منها، وقلب في كتب اللغة فعرف أسرارها، ووقف على مكنونها، وكان هواه إلى الهندسة والحساب أيضا فأجال فيهما نظره، ثم تفرغ للكتابة وقرض الشعر، وحرر الرسائل ونظم جمهرة من الأصوات "أدوار الغناء"، واشتهر بصناعة المواليا والموشحات، وتهيأت له بأدبه وشهرته منزلة رفيعة لدى الوجوه، وأمراء العصر حتى أصبح شاعر المرحوم "عباس الأولى". وكان غنيا بماله وعقاره عن التكسب بشعره معروفا بميله إلى اللهو، والطرب غزير المدح لمن يحبه لاذع الهجاء لمن يبغضه، ولعله امتاز بهذين من الشعراء الأزهريين الذين لم يكونوا في ذلك مسرفين، كما كان حاضر البديهة عذب المفاكهة، حلو المنادرة، كانت وفاته في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وألف من الهجرة. شعره: عصر الدرويش عصر صناعة وزخرف وطلاء، وتعمل وكلف بالبديع وإغراق فيه على تفاوت الشعراء في ذلك، ولو أن الدرويش اقتصر في شعره على الحظ الذي تناوله المعاصرون له من الصناعة، والمحسنات لكان من أجودهم شعرًا إلا أنه أغرق في البديع، وكلف بالزخرف يحشده حشدا، ويشده شدا،

ويسرف فيه إسرافا، ويتصيده بسهولة ويرتقبه رضيه الذوق أو أباه، وبذلك استغلق شعره، والتوى قصده، وانحط نسجه، وضت معانيه فيما أغرى به من صنعة، وما سهر عليه من زينة. فمن جناسه الذي يستعمله في شعره قوله: أيام أفراح هي الحسن ... صدق اليمين بأنها يمن فالجناس بين اليمين واليمن، وهو متكلف إلا أنه غير موغل في الثقل. وقوله: كالروض مختلف الثمار مهذبا ... أفنانه من عنده فن فالجناس بين أفنان جمع فنن "وفن". وقوله: أملي وعلم مآله أعياني ... أو لم تكن منقولة أعياني فالجناس بين أملي ومآله، وبين "أعياني" بمعنى أثقلني و"أعيان" المضافة إلى ياء المتكلم جمع عين. وقوله: صفو الليالي أحسنا ... يمن تراهم أحسنا فالجناس بين أحسن ضد أساء وأحسن وصفا من الحسن. هذه الجناسات ليس فيها ما واتاه عفوا، أو انساق إليه دون استكراه بل احتفل الشاعر بها، فشدها شدا أضاع المعنى الشعري، وجرد الشعر من الجمال والروعة. ومما أسرف فيه من الجناس، وكان غاية في الثقل والتعمل والنبو والقلق قوله: جسمي لعري غدا بالبرد مكتسيا ... ليلا وشمس نهاري بردي الثاني بردان لا نفع "للبردان عندهما ... وجبة البرد تكو كل عريان أخاف أطلب بردا أستغيث به ... يرده بردا بالغيث حرماني

لا أسأل الحظ بردا أن يحرقه ... والبرد والبرد في التحرير سيان فإنه ما زال يكرر لفظ "البرد"، ويديره في شعره في أوضاع مختلفة طلبا للجناس حتى قبح نسج الشعر وسمح نظمه، وأصبح غاية في السخف و"البرودة"، ولعل كلفه بالجناس أوقعه في الخطأ باستعمال كملة بردان العامية، وفصيحها بارد وبُراد وبَرُود وبَرْد. ومن الطباق الذي يستعمله قوله: بيت جديد قديم المجد عن سلف ... بسعد أنجالهم قد شرف السكن فقد طابق بين جديد وقديم وقوله: فكم قالت لها الأخرى هلمي ... وكم قالت لها الدنيا تأني فقد طابق بين الأخرى والدنيا: ومن أنواع البديع التي يستعملها في شعره مراعاة النظير كقوله: لهم جامع من غير باب فكم عوت ... عليهم من المحراب في الصبح جرذان إذا سجدت حيطانه فهي ركع ... وتسمع تسبيح الحصا منه سقفان وقد أخطأ إذ جمع سقف على سقفان، والصحيح سقف وسقوف. ومما أولع به من التورية في شعره قوله في مليح اسمه رضوان. قد أكثر البعض في إنكاره سفها ... يوم القيامة جنات ونيرانا فأبطل الله في الدنيا أدلتهم ... لما أراهم من الجنات رضوانا فيحتمل أن يكون أراد "رضوان" خازن الجنة، أو المليح المسمى "رضوان"، أو الرضوان مصدر كالرضا من رضى "ورضوان من الله أكبر". ويروى في كتاب اسمه "مراتع الغزلان" فيقول: يا واردا سلسال ذا البستان ... منك الدعاء لصادر ظمآن

واسمع قمارى الحب في أقمارها ... فلقد سقاها كأسه وسقاني واسترحم المولى شهيدا في الهوى ... أبدا صريع "مراتع الغزلان" فالتورية في قوله "مراتع الغزلان"، إذ يحتمل أن يكون اسم الكتاب أو مواطن النساء الشبيهات بالغزلان. وهو يغرى بالبديع أيضا في الموشحات و"الأدوار" الغنائية، فتراه يلتزم الجناس فيها، ويستعمل التورية ما استطاع، كقوله: بافاتك الفتان ... ناسي ناسي أهواء وخده النعمان ... كاسي كاسي آه ... وآه فقد أوقع الجناس بين ناسي اسم فاعل و"ناسي" بمعنى أهلي، وأوقعه بين كاسي اسم فاعل من كسا و"كاسي" التي هي إناء الخمر مضافة إلى ياء المتكلم، كما أوقعه بين أهواه، فعلًا بمعنى أحبه، وآه، وواه اسمي فعل بمعنى أتألم، وفي ذلك من التكلف والتشدد ما فيه، ويقول: يا من على خده دينار ... صرفت فيه فضة دمعي جد لي ببوسه قال دي نار ... والبوس محرم في شرعي ففي كلمة "دينار" الثانية تورية إذ يحتمل أن تكون مكونة من "دي" اسم الإشارة بالعامية "ونار" أي هذه نار لا تطيقها، وأن تكون النقد المعروف من المذهب، والمعنى هات دينارا إن أردت القبلة. ولوعه بالتاريخ الشعري: وهو مفتون بالتاريخ الشعري، وما زال يستعمله في شعره حتى عرف به، ومهر فيه حتى ما كانت تمر به حادثة إلا أرخها عفو الساعة1.

_ 1 أعيان البيان للسندوبي ص46.

فمن ذلك ما قاله يؤرخ به إنشاء قنطرة: إنشاء ممدوح الملا ... من عدله الدنيا ملا أعني الوزير محمدا ... رب المحامد والولا لقبوله قد أرخوا ... إنشاء قنطرة العلا 352 759 132 ... سنة 1243هـ ويؤرخ لتجديد القصر العالي، فيقول: قصر به نور السعادة آهل ... إسعاد منشئه به متواصل فكأنه الفردوس في أوصافه ... ظل وفاكهة وماء هاطل وبلابل الأغصان فيه ترنمت ... فرحا فنقطها اللجين الوابل والسعد نادي بالسرور مؤرخا ... قصر به نور السعادة آهل ............................... ... 390 7 526 568 36 سنة 1257هـ ومما كتبه ليؤرخ به تاريخه كمولد السيد أباظه حسن 100 105 105 109 118 سنة 1232هـ. وهو يستعمل الشعر في التاريخ للمناسبات التافهة، فإذا مات حماره قال: الدرويش مات حماره سنة 1246هـ. وإذا مات حمار "خليل" قال: قد نفق حمار خليل سنة 1253هـ.

ويموت خادمه في ذلك العام الذي مات فيه حماره، فيؤرخ كما أرخ له فيقول: قد مات خادمي أحمد سنة 1253 وإذا جدد منظرته كان تجديدها عمارة تستحق التاريخ، فيقول: جدد أحمد منظرة سنة 1259 هذا وسنورد أبياتا متصلة من شعره لتكون أنطق دلالة على مذهبه في الشعر، وأكثر توضيحا لمسلكه فيه، مما هو من أغراض شعره المختلفة. فمما قاله يمدح المرحوم "محمدا عليا"، ويؤرخ لامتحان المدارس. أيجهد في سوى العلم المعاني ... ومعنى الأنس إدراك المعاني؟ كفاني أن رب العلم باق ... على الدنيا وهل باق كفاني؟ فلو عرف الكمي مجال علم ... لزاجمنا عليه باليماني وسن يراعه بسمت بنجح ... متى عبس البنان من الطعان بديوان المدارس نعم يوم ... ولا أنساه يوم المهرجان بأنجاب جميعهم تحلى ... بعقد النجم مسعود القران وقال لهم نزال لدى المعاني ... وراهنهم فجالوا في الرهان ترى شجعانهم بثبات جأش ... إذ عرف الجبين من الجبان1 وهم يتنافسون بكل فضل ... ليمتحنوا وعند الامتحان كأن جوابهم لمغالطيهم ... "عتاب بين جحظة والزمان" فهم سادوا بمسودات فضل ... بها قد بيضوا وجه الزمان

_ 1 يقال امرأة جبينة وجبين وجبانه.

معانيهم تصرف نحو فقه ... ومنطقهم بديع في البيان ولا عجب إذا كان المربي ... مربي الروح بالعقل المصان خديو عدله في كل دان ... وفضل علائه في كل آن معان من معالي أريحي ... أريح من زهور في جنان به الأوطان مثل الروض أضحت ... وفيها مدحه كالأقحوان قد اكسب هيئة الدنيا جمالا ... وجمل مصر منه بامتنان بترجمة العلوم وكن عجما ... وتأليف اللآلى والجمان ينظم فوق صدر الفضل عقد ... ونثر ذاك منه النيران بلين تمدن وشديد دين ... فريد ما له مثل يداني به الإفضال نادي الفضل أرخ ... أجل كرامة للامتحان ......................... ... 34 661 560 سنة 1255هـ. فهذه الأبيات حشد الشاعر فيها ما قدر عليه من أنواع البديع المشدود، وألوان الصنعة المتكلفة المستكرهة حتى لكأنها مقصده الأول، وغرضه الأسمى فجاءت فجة مقفرة من جمال الشعر، لا تتنسم منها روح الشاعرية الخصبة، بل لعلي لم أهتز لبيت واحد منها بخيال يطرب، أو تصوير يعجب. ودعاه صديقه "السيد أباظه" لمقابلته أحد الأمراء، فكتب إليه: غيري تلفته تلك الخيالات ... فهل لخطك فوق الماء إثبات لا تحسب الفضل عند الكل منقبة ... إحسان قوم لدى قوم إساءات وحاسب النفس عن ساعات ما اشتغلت ... في أي نفع مضت تلك السويعات

_ 1 يقال امرأة جبينة وجبين وجبانة.

قرب صديقك وابعد عن عدوك في ... سر إذا منعتك الجهر حاجات الناس بحر فمن والى سباحته ... لا بد يعيا وفي البر السلامات فوحشة الناس أنس أو يمازجهم ... فتى بضاعته في الناس مزجاة إن عاتب الدهر غيري لا أعاتبه ... إذ موجب العتب في دهري سجيات فأكثر الناس لم أفرح لعيشتهم ... في أي حال ولم أحزن إذا ماتوا ولا أضر إذا غابوا وإن حضروا ... فلا أسر ولم أنظر إذا فاتوا فللدراويش حالات مناقضة ... وللمجانين أوقات وساعات وفي الحق أن هذه الأبيات لم تخل من المعاني الشعرية، ففيها دلالة على مذهب الشاعر في الحياة، وأنه لا يعبأ بكبار الناس، ولا يتهافت عليهم فما ذلك في رأيه إلا خيالات، هي أشبه عنده بخطك فوق الماء لا ثبات له ولا أثر، وأنه لا يحمل لأكثر الناس فرحا إذا عاضوا في أي حال، ولا يحزن عليهم إذا رحلوا عن الحياة، وإن غابوا فلا يضره غيابهم، وإن حضروا لا يسره حضورهم، وإن فاتوا لم يكلف نفسه نظرًا. وهو يلتمس لنفسه العذر بأنه من "الدراويش"، "وفي ذلك تورية باسمه لطيفة"، وللدراويش حالات مناقضة، ويحسب نفسه في المجانين ليقوم جنونه عذرا عند صاحبه، وذلك عدا ما في الأبيات من حكم جرت على لسان مجرب خبر الحياة وعرف الناس، وأنه وإن لم يدع في هذه الأبيات ما جبل عليه من حب الزخرف، والطلاء كان غير مسرف، وذلك مما أبقى لها كثيرا من الجمال وأهلها لغير قليل من التقدير، وحسن الوزن. ومن شعره الذي فيه شيء من الطرافة، وحسن السبك ما قاله من قصيدة يعتذر بها للشيخ "البديري": بدر صفا بعد تكدير النوى فيه ... وجاد لي بعد أن زالت نوافيه فروح الروح وأغنم نور بهجتها ... بمفرد قد سما عمن يحاكيه قل "للبديري" واستعطف أصالته ... فإن عوني عليه في معاليه

قد يهمل النقع في البيدا لخسته ... ويرجم الغصن إن طابت مجانيه فإذا أغضيت عن الجناس في البيتين الأولين، أعجبك من الشاعر تعبيره "استطف أصالته"، وأنه جعل عونه عليه في معاليه، وراقك تشبيهاه المحكمان في البيت الأخير. وقال مضمنًا: وغادة غار مني زوجها فسعى ... يريد قتلي وفي أحشائه ضرم يا زوجها كف عن قتلي مسامحة ... بيني وبينك لو أنصفتني رحم وقال مضمنا أيضًا: قد قلت لما بدا يختال في خفر ... وهز عطفا كغصن البان ممشوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا ومما قاله متغزلًا: تعالى من أعار الغصن لينا ... وأحرم من جناه العاذ لينا يهنأ العاشقون بطيب عيش ... فما أحلى عذاب العاشقينا سعدنا بالتواصل بعد هجر ... وقد كنا بجفونه شقينا فقل للصابرين على هواه ... دعوا العذال فيما يفترونا "سيخزيهم وينصركم عليهم ... ويشف صدور قوم مؤمنينا" أرى لي في محبته يقينا ... فهل من لحظه شيء يقينا إذا ما كنت تهوى البحر فينا ... فدع هذا لقوم آخرينا فمن هدب ومن شعر وخال ... يوالي المسلمون الكافرينا فإنا في هواك عبيد رق ... على حب وما كنا سبينا فإن تمنن بإحسان علينا ... "فإن الله يجزي المحسنينا" فقل للجاهلين بجاه حسن ... لظبي لم يضف للجاه لينا رأيتم طرة سلبت فؤادي ... بصفراء تسر الناظرين

وهذه أبيات تمثل غزل العلماء الجاف، فليس فها من لوعة ولا صبابة، وإنما هي شعر جدب لا تهتز له نفس، ولا يمس عاطفتك أثر منه، عدا ما فيها من الجناس الذي حرص عليه، والاقتباس الذي سعى إليه وساقه في غير موضعه "سيخزيهم وينصرهم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنينا"، و"إن الله يجزي المحسنينا". ولكن شعر الدرويش لا يخلو أحيانا من شعر مقبول، ونظم على طرف من الجمال والحسن، ويظفر بذلك كلما تحرر من قيود التكلف، وآثر السهولة والتطلق. ومن ذلك قوله: ألا محب يلاقيني أطارحه ... هوى حبيب منيع الدار نازحه رأيت في الغصن شيئا من رشاقته ... فكدت من فرط أشواقي أصافحه حتى يؤجج نار الحب في كبدي ... ظلما وقلبي مع هذا يسامحه كأن شمس الضحى من طوقه شرقت ... لنا ومن فرعه عادت بوارحه وإن جفاني لبعدي عن منازله ... واعتاض بي مائقا يهجوه مادحه فطالما قصرت أوقاتنا معه ... في ظل بان يثير الوجد صادحه ورب ماض من الأعراب ذي شرف ... تصافح الهام في الهيجا صفائحه سابقته للمعاني ثم قدمني ... قلب إلى الذروة العليا مطامحه وبات يسري إلى شأو ليدركه ... كالوعل يمشي إلى طود يناطحه ومهمه نازح الأرجاء ذي محن ... كأنما لجج خضر مناوحه قطعته وركاب الركب واقفة ... سيان سانحه عندي وبارحه

حيا العقيق من الوسمي صوب حيا ... وجاد مغناه غاديه ورائحه فكم فؤاد أبى فيه منطرح ... وعاشق سفحت فيه سوافحه فما من ريب في أن في هذه الأبيات غير قليل من الرصانة، وجمال الشعر وقوة التصوير، ولم يتهيأ ذلك الشاعر إلا بتخلصه شيئا من الأغلال التي كان يرسف فيها من التعسف، وكريه الصناعة. ومن أبياته الرقاق ما قاله في الهرمين: أنظر إلى الهرمين واعلم أنني ... فيما أراه منهما مبهوت رسخا على صدر الزمان وقلبه ... لم ينهضا حتى الزمان يموت ديوان شعره: وقد جمع تلميذه "مصطفى سلامة النجاري" شعره ونثره في كتاب سماه "الإشعار بحميد الأشعار"، وطبعه على مطبعة الحجر سنة 1284هـ، ورتب الديوان على ثلاثة أبواب -الأول: في الصناعات مرتبة على السنين، والثاني: في غير المصنع مرتبا على حروف الهجاء، والثالث: في الثنر والأدوار، وقد نظم الدرويش جملة متون، وأراجيز منها متن التنوير ومنظومتان في العروض والقوافي افتتح الأولى بقوله: إلهي لك الحمد فصل مسلما ... على المصطفى والآل والصحب تفضيلا واستهل الثانية بقوله: لك الحمد فاللهم صل مسلما ... لطه وآل فضلهم مد أبحرا وبعد ففي نظم عروضا قوافيا ... على هو الدرويش وازن أسطرا وهو نظم ضعيف منحل السبك كما ترى:

نثره: أما نثره فهو صورة من شعره في التكلف والتعسف، يلتزم فيه السجع حسن أو ساء، "ولولا ما كانت تجره إليه الأسجاع من الحشو والخروج لعد من كتاب الطبقة الأولى في منشئ ذلك العصر1". وقد تضمن نثره الباب الثالث من كتاب "الإشعار بحميد الأشعار"، وله مقامات ورسائل فيها روعة ورصانة، فمن نثره ما كتبه أحد أصدقائه، وقد دعاه للحضور. "سيدي كان مأمولي الحضور، لأحظى بالحبور، لكن قابلني القدر بنحسه وحضر لي من قد بناه بنفسه، فكادت النفس تحس لي أن أقتله بسيف علي ولو كنت من شيعته، لحضر لأعتابكم العبد من ساعته، ولما لم تكن لي وسيلة حتى أشاهد بطرفكم كل حيلة، قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، واعتكف على إسماعيل. ومن مقامة الفضيلة والرذيلة قوله: "وفقك الله لما يرضاه، وعصمك من موجب الذم ومن لا يتحاشاه، وإن الفضيلة والرذيلة صفتان متضادتان، ونوع الإنسان مجبول على الميل للأولى والفرار من الأخرى على حسب آراء العباد وعوائد البلاد، فربما كانت الفضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين، وكانت الرذيلة عند أمم فضيلة عند غيرهم من المتأخرين، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، مع تفاوتهم في طبائعهم وأشكالهم وصنائعهم، فمنهم ذو الطبع السليم، ومنهم الذميم، ولا سبيل إلى ترغيب الأول ليجتهد في الازدياد، والترهيب للثاني ليتطبع على أن يتحاشى بالاعتياد، إلا باللسان الآتي بسحر البيان، فقد جاء في الحديث أن إيمان المرء ليربو إذا مدح، وربما يصح الجسم إذا جرح". مؤلفاته: من مؤلفاته كتاب الدرج والدرك، وهو كتاب وضعه في مدح من

_ 1 أعيان البيان للسندوبي ص47.

اشتهر في أيامه بكريم الصفات وجميل المزايا، وذم ذوي الدنايا والمثالث على ما هداه ميله وأوحى إليه عقله، جعل الدرج للممدوحين والدرك للمذمومين روى تلميذه "مصطفى النجاري" أن هذا الكتاب استعاره منه صديقه "حافظ بك مصطفى"، ولم يرده. وله كتاب آخر اسمه "تاريخ محاسن الميل لصور الخيل"، وهو كتاب وضعه تلبية لرغبة الخديو "عباس الأول" ذكر فيه محاسن الخيل، ومساوئها وله رحلة لم تطبع ولم يتيسر الاطلاع عليها، وله سفينة الآداب، استعارها منه صديقه "على أغا الترجمان"، ولم يردها.

الشيخ محمد شهاب الدين المصري

الشيخ محمد شهاب الدين المصري: المتوفى سنة "1274هـ-1857م" نشأته وحياته: هو، "محمد" بن "إسماعيل" بن "عمر المصري" الشهير بشهاب الدين، ولد بمكة سنة 1210هـ، ثم وفد إلى القاهرة صبيا، ونشأ بها والتحق بالأزهر، فطلب العلم على شيوخه، واختصر منهم بالشيخ "حسن العطار" والشيخ "العروسي"، وكان مفطورا على حب الأدب، بارع النظر في فنونه دائم التوفر على مطالعته، ونال حظا وافرا من علوم الرياضة كالهندسة والحساب والموسيقى والألحان، وكاتب أدباء عصره، ويعمه الطلاب للاقتباس من أدبه، والانتفاع بمعارفه، وممن تخرج عليه في فقه اللغة والبيان الأديب المعروف المرحوم الشيخ "أحمد فارس الشدياق". وقد تولى "شهاب الدين" تحرير الوقائع المصرية، فكان أحد من رفعوا شأنها، وهذبوا لغتها، حيث كان الشيخ "حسن العطار" رئيس تحريرها، فلما تولى الأخير مشيخة الأزهر، وترك رياسة التحرير أسندت إلى "شهاب الدين"، فأطلق يد الشيخ "أحمد فارس الشدياق" في إنشاء الفصول وتحبير الرسائل، وظل هو مشرفا على تحريرها حتى سنة "1252هـ-1836م"، ثم جعل مصححا بالمطبعة ببولاق. وكان مداخلا للكبرار موصولا بالعظماء نديما مسامر فكها، ومحاضرا ذا نكتة بارعة وبديهة مساعفة، وحديث طلبي، وقد تسامع الناس بهذه المواهب، ونمى للخديو "عباس الأول" براعته وسعة روايته وخفة روحه فقربه وأدناه من مجلسه، وجعله صاحب أسماره وكبير ندمائه، وأباح له الدخول دون إذن عليه، وبلغ من الخطوة والمكانة ما لم يبلغ شاعر معه "إذ جعل في كل قصر من قصوره حجرة يبيت فيها الليلتين والثلاث إذا طلبه

للمجالسة والمنادمة1"، فأفاض عليه من نعمه وأغدق عليه من كرمه، وصار شفيعا لديه فيما جل من الأمور. وكانت له مع "عباس" نوادر ومفاكهات منها ما رواه صاحب أعيان القرن الثالث عشر، وذلك أن "شهاب الدين" كان جالسا في حجرته بأحد القصور، ومعه بعض جلساء الوالي ينتظرون الإذن بالدخول عليه، فقال في عرض الكلام. يقولون: إن البغلة لا تحمل أفلا يكون ذلك بسبب رطوبة، أو ما أشبهها مما يمنع الحمل، وعند الأمير أطباء كثيرون فلو أنه أطال الله بقاءه أمر بعضهم بالبحث عن سبب هذه العلة وإزالتها، فلست أشك في أنها تحمل بعد ذلك وأسرع بعض العيون، فأبلغ عباسا كلامه فجاء بعد هنيهة أحد رجال القصر، وقال له: يا أستاذ يقول لك "أفندينا" أننا سنأمر بعض الأطباء بما أشرت، ولكن إذا لم تحمل البغلة ماذا يكون؟ فبهت القوم لنقل الحديث بهذه السرعة إلا شهابا، فإنه وقف وقال: أبلغ مولاي أن شهابا له كذبتان كل سنة أيام الباذنجان هذه إحداهما1. ويرجع اتصال "شهاب الدين" "بعباس الأول" إلى ما قبل ولايته على مصر حيث كان "كتخدا" لجده، فقد كانت للشاعر تهان متعاقبة لفتت نظر "عباس" إليه، حتى إذا ما صارت الولاية إليه قربه وأدناه. ولما صارت الولاية "لسعيد باشا" اتصل الشاعر به، وأجزل له المدح، وأزجى له التهاني في كل مناسبة إلا أنه لم يجد من خصب جنابه ما وجده من "عباس"، فقد كان الثاني أشد حدبا عليه، وتكريما له وبرًّا به. ثم بدأ المترجم ينقطع للدرس، ويعكف على التأليف، وينشر أدبه على الناس حتى استأثر الله به.

_ 1 أعيان القرن الثالث عشر لأحمد تيمور باشا ص138.

وكان ذكيًّا عبقريًّا ممتازًا بقوة المناظرة، ورصانة الجدل وقدرته على الحوار راوية كثير الإنشاء يتنادر في مجالسه بطرائف من شعره، ويطرف مجالسيه بألوان فاتنة من أدبه، فلا يمل له حديث ولا يغمض عنه جفن. شعره: شعر "شهاب الدين" من أجود الشعر في هذا العصر، وهو صورة صادقة للحياة الاجتماعية في زمنه، ومرآة صافية تتمثل فيها حياته وصفاته، وهو يقول الشعر غير مستعص عليه، وإنما يواتيه طيعا وينقاد إليه غير متأب. وأكثر ما في شعره إنما هو المدائح التي وجهها "لمحمد علي ولعباس" الذي كان شاعره، ثم "لسعيد" من بعده، بل إنه ليمدح كثيرًا ممن لهم مقام كريم وجاه رفيع، فيمدح "أدهم باشا" و"مختار بك" ناظري المعارف، ومديري إدارة المدارس، ويمدح "عارفا بك" شيخ الإسلام بتركية، والشريف "محمد بن عوان" وأستاذيه الشيخ "حسن العطار"، والشيخ "محمد والعروسي"، كما يمدح الشيخ "أحمد الصائم"، والشيخ "محمد العباسي المهدي" المفتي والشيخ "محمد عليش" شيخ المالكية، "والسيد محمد البكري" نقيب الأشراف وغيرهم، ولعل لرقة حاله سببا يتصل بإفراطه في المدائح، فقد نشأ وزانا صغيرا يزاول ذلك في أسواق البيع، فاتخذ من هذه المدائح عنوانا له ليحيا حياة رغد وكرامة. وقد كانت له مدائح نبوية إلا أنها لم تبلغ شيئًا من شعره بجانب ما بلغه المدح الآخر. فمما قاله يمدح به "محمدا عليا"، وليكتب على مسجد القلعة الذي أنشأه سنة 1261هـ. مليك جليل الشأن ليس كمثله ... جليل بعلياه اقتدى كل مقتدي محمد آثار على مآثر ... عزيز افتخار ساد كل مسود هو المنهل العذب الذي دون ورده ... تزاحمت الأقدام في كل مورد

هو الغيث يحيي كل قطر بجوده فيخضل من قطر الندى وجهه الندى هو الشمس لم تحجب سناها غمامة ولا أنكرت أضواءها عين أرمد له همم تسمو إلى هامة العلا إذا حددت لا تنتهي بالتحدد مبان إذا أمعنت فيها مؤرخًا تريك على قدر العزيز محمد 630 110 304 125 92 سنة 1261هـ. ومما امتاز به شعر "شهاب الدين" السلاسة والسهولة، وخضوعه للشاعر يصرفه في كل أمر، ويطوعه لكل غرض فينساب بين يديه عذاب رقيقا، ويشف عن المعنى الذي سيق له بلطف وسلاسة، وذلك الذي جعل "شهابا" يستخدم شعره في التعبير عن رغائبه، والإفصاح عن آماله ومطالبه، وهو في هذه الأغراض لا تعقيد فيه ولا غموض، يحتاج إلى بغلة يركبها وله على "عباس" دالة، فيرفع إليه هذه الأبيات الطريفة، فيهتز لها ويجيب رغبته، وذلك حيث يقول: تبت عن مدح غير بابك يا من ... أنت ذخري وموئلي وثمالي وتجردت عن سواك لعلي ... أكتسي خلعة ألسنا المتلالي وترجيت من جميل العطايا ... بغلة حالها يليق بحالي أن بدا لي ركوبها تهت عجبا ... في ازدهار وبهجة واختيال أو بدا لي ارتباطها فاجتلاها ... في مجالي الجمال زين مجالي فتفضل وامنن وأنعم على من ... هو عبد من بعض بعض الموالي وترق حاله، ويشتد عسره فيكتب إلى "عبد الباقي بك" خازن خزينة الخديو، فيقول: أصبحت في مضايق ... من فاقة وعطب وصرت محتاجا إلى ... نوالك المستعذب

وأنت باقي الكرما ... وخير سامي الرتب فاصرف إلى ما تشا ... من فضة أو ذهب حتى أعود ساعيا ... في جمع شمل الحسب ويكتب إلى "أدهم باشا" يشكو إليه ضيق يده، فيقول من قصيدة طويلة: فبادر إلى الشكوى وقل: إن صاحبي ... محا رسمه عصف الرياح الروامس وقد ضاقت الدنيا عليه وأظلمت ... وكان شهابا في الدياجي الدوامس فوسع عليه بالذي أنت أهله ... وخلصه من أشراك ضيق المنافس ولم يكن "شهاب" يقرض الشعر يطلب به بغلة، أو ينشد فضة أو ذهبا فحسب بل كان ينظمه كلما عرضت له حاجة أو دفعته مسألة، فإنه لينظمه ملتمسا به من أمين "جمرك" بولاق "علي بك حسيب" شيئا من السمن لندرته، فيقول له: ألية بالسمن أو بزبدة ... لله در أصلها الحليب لأعرضن الحال للفتى الذي ... رجاء من يرجوه لا يخيب وهكذا طوع الشعر فنظمه في حاجته ومسألته، وعبر به عن شكايته وأمله وأودعه مطامح نفسه جلت أو هانت. "وشهاب الدين" يخضع في شعره لما شاع في عصره من طلب الزينة، ونشدان الصنعة والجرى وراء الطلاء، فيغرى بالجناس وخاصة في مطالع القصائد، فيقول في مطلع قصيدة يوجهها إلى "عباس" ويستهديه "بغلة": أكؤس تجلي ببنت "الدوالي" ... أم شهي الرضاب فيه "الدوالي" فيوقع الجناس بين "الدوالي" بمعنى العنب، وكلمة "الدوالي" الثانية المركبة من "الدوا" مقصورا مضافا إلى اللام المقرونة بياء المتكلم.

ويقول في مطلع قصيدة يهنئ بها عباسا بنجاته من مرض. تاب الزمان وقال: إني "نادم" ... فادعوا الندامى والمدام و"نادمو" فقد أوقع الجناس بين "نادم" من الندم، وفعل الأمر "نادموا" من المنادمة. ويقول أيضا في مطلع قصيدة يهنئه بها على أثر عودته من الأستانة. شرح الصدور قدوم أعدل "وال" ... فأدر مدام الإنس صاح و"وال" فالجناس بين "وال" الأولى بمعنى راع، والثانية فعل أمر من الموالاة. ويولع بالتورية لا سيما في "شهاب" كنيته، فيستعملها في شعر طبعة حينا وعصية حينا، ومن ذلك قوله: هاك مني وصيفة بنت فكر ... مثلها خادم ومثلك يخدم حرست في سماء حسن حلاها ... "بشهاب" به الشياطين ترجم ويقول في مدحه "عباسًا الأول". هاك مني فريدة بنت فكر ... ما اعترتها يد الخنا بمساس لو أتاها الشيطان يسترق السـ ... ـمع رماها "شهابها" بانتكاس ويقول إذ يمدح الشيخ "أحمد الصائم" أحد شيوخ الأزهر. هذا شهابك بالمرصاد يثقب من ... يسمعون وترديهم قوافيه فقد استعمل كلمة "شهاب" موربا بها بين معنييها "كنيته"، "والشهاب الذي ترجم الشياطين به المذكور في قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} . ويتناول المصطلحات العلمية متأثرا بها، فيقول: رطيب قوام أهيف القد لم تدع ... ليانة عطفيه قياسا لقائس فإن قسته بالبان فالفرق ظاهر ... وإن بالعوالي فهي غير موائس

فالقياس هنا من مطصلح علم المنطق. ويشير إلى علل الصرف، فيقول: علل الصرف في الضرورة تلغي ... كيف ذو الصحة اختيارًا يعل ويغرق في مصطلحات علم النحو فيوري بها ويقول: رأيت "حالا" "مضى" "فعل" ... "أبرز" في شأنه "الضمير" فكل هذه الكلمات مصطلحات نحوية ودى بها الشاعر عن معانيها النحوية وغير النحوية. ولشهاب الدين كتابا لطيفة يعبر بها مبتكرا لها، فهو يكنى عن المطر "بابن السحاب"، فيقول: زوجوها "بابن السحاب" فجاءت ... من دراري حبابها بذراري ويكنى عن "الخمر" ببنت الكرم" فيقول: "بنت كرم" عذراء شهد لماها ... كشذا المسك في مذاق العقار وعن القصيدة "ببنت فكر" و"وليدة فكر" و"وصيفة"، فيقول: هاك مني خريدة "بنت فكر" ... ما اعترتها يد الخنا بمساس ويقول خدا "وليدة فكر" راق منظرها ... كأن ريقتها ضرب من الضرب ويقول أرجو قبول "وصيفة" قد قلدت ... بحلاك عقدا لم تنله وصائف وشعر "شهاب الدين" من أوضح الشعر في هذا العصر وأسهله طريقا وأرقه حاشية، وهو أقل متكلفي الصنعة وطلاب المحسن تعقيدا وغموضا، وهذه المحسنات التي تشيع في شعر "شهاب الدين" لا تؤثر في جمال شعره كثيرا، فتراه على غير قليل من السلاسة والوضوح، وجمال المعنى -ومن رقيق شعره ما قاله متغزلا.

بروحي من لغصن البان شابه ... ومشروب الطلاب بلماه شابه مليح لم يخط له عذار ... وفي رقي له أبدا كتابه بدا العقد الفريد بفيه نظما ... وحكم في ديوان الصبابة ومر فلم أجد صبرا عليه ... وأحشائي ترى عذابا عذابه رمى قلبي بسهم قد مضى في ... رميته ولم يخطئ مصابه وراح وقد بدا برق الثنايا ... ودمعي هاطل يبدي انسكابه يلوح وجهه بدر ولكن ... عليه من ذوائبه سحابه بخد روضة يرعاه طرفي ... وقلبي بالجوى يصلي النهاية يدير من الحديث عتيق خمر ... فيسكرني ولم أطعم شرابه أراه في محاسنه عليا ... ولكن ما تنزل للصحابة سعيت فزرته فازاداد تيها ... وولى معرضا يولي اجتنابه أنا الجاني على نفسي لأني ... دخلت على عزيز الغاب غابه فبدلني بنوم الليل سهدا ... وعوضني الشجون على الدعابة سألقى منه غايات الأماني ... وسوف تكون عقباها عتابه ولا شك أن هذه الأبيات على حظ غير قليل من الجودة والرقة، والوضوح وخصب المعاني. ونظم الأبيات الآتية لترسم على مائدة الطعام: أيها السيد الكريم تكرم ... وتنازل ما شئت أكلا شهيا وتفضل بجبر خاطر من هم ... أتقنوا صنعه وخذ منه شيا وتحدث على الطعام وآنس ... واحدا واحدا بشوش المحيا واستزدهم أكلا وقل: إن هذا ... طاب نضجا وصار غضا طريا

فهلموا بنا ومدوا إليها ... أيديا باعها ينال الثريا ثم قل: يا أحبتي هل لكم في ... بعض شيء من النبيذ المهيا ولئن ساغ شربه للتمري ... وكلوا واشربوا هنيئا مريا وإذا ما أكلت ضيفا فأرخ ... أن هذا لرزقنا كل هنيا ................................ ... 51 706 388 50 66 سنة 1261هـ. وهذه الأبيات متوسطة الجودة إلا أنها طريفة الموضوع. آثاره: ديوان شعره: ديوان شعره الكبير الحجم الواقع في 380 صفحة المشتمل على شعره الرقيق بالنسبة لعصره، وهو مرتب على حروف المعجم طبع بمصر سنة 1277هـ. سفينة الملك ونفيسة الفلك: وهو كتاب جليل اشتهر الشهاب به أودعه كثيرا من الموالي والموشحات والأهازيج، والأزجال التي يتغنى بها، وقد جدد بهذا الكتاب دارس الغناء العربي، "وافتتح مغالقه بعد إيصادها من عهد الأصبهاني، ومن سار على نهجه ممن جاء بعده، وأوضح معالمه وأبان ما استعجم من آياته، فكان فيه المبرز من بين أدباء المتأخرين والمعلم الأخير الذي لم يأت مثله إلى الآن1، وهو مرتب

_ 1 أعيان البيان للسندوبي ص36.

على ثلاثة أبواب -الأول في الموسيقى، والثاني فيما نظمه فيها، والثالث في الألحان- وقد طبع بمصر غير مرة، ولما أتمه سنة 1259هـ، قال في تاريخه: هذي سفينة فن بالمنى شحنت ... والفضل في بحره العجاج أجراها وإذ جرت بالأماني فيه أرخها ... سفينة البحر باسم الله مجراها ............................... ... 600 241 102 66 250 سنة 1260هـ. وله رسالة في التوحيد ورسالة في الآوفاق

السيد على أبو النصر المنفلوطي

السيد علي أبو النصر المنفلوطي: المتوفى سنة 1298هـ-1880م نشأته وحياته: ولد بمنفلوط من أعمال مديرية أسيوط، وقدم إلى القاهرة صبيًّا، ثم التحق بالأزهر بطلب العلم فيه، وقد شب مفطورًا على حب الأدب والتزود من فنونه، فبرع في قرض الشعر يافعا، ونظم الأزجال حدثا، ولم يلبث أن ذاع صيته وتسامع الناس به، وكان طيب المفاكهة والمجالسة لطيف المسامرة والمؤانسة، حاضر الذهن قوي الجدل لا يغلب في حوار، ولا ينهزم في مناظرة وكانت له مطايبات حافلة بالنكت الأدبية مع الحشمة، والحذر بما تأباه النفوس الأبية1، فكانت له مكانة عند أولي الأمر، وذوي الجاه يجلون قدره، ويلبون شفاعته، اتصل بالبيت العلوي من عهد محمد علي إلى توفيق، ورحل إلى القسطنطينية رحلتين أولاهما في عهد "محمد علي" سنة 1262هـ، حيث احتفل السلطان عبد المجيد بإعذار2 أنجاله، وطلب من محمد علي أن يوفد للحفل وفدا من العلماء والأمراء، فكان الشاعر في طليعة الذين أوفدهم "محمد علي" إلى القسطنطينية، وقد مدح شيخ الإسلام بقصيدة استجادها إذ قدمها إليه، وبكى متأثرا ببعض أبياتها، ثم سأله هل قلت في القسطنطينية شيئا؟ فأجابه بأن له "بيتين يستحي أن يعرضهما "لكونهما من زيف الكلام"، فقال: نسمعهما إن شئت فقال: وكنا نرى مصر السعيدة جنة ... ونحسبها دون البلاد هي العليا فلما رأت دار الخلافة عيننا ... علمنا يقينا أنها لهى الدنيا فتبسم شيخ الإسلام، وقال له: "إن البيتين جيدان من جهة الأدب،

_ 1 مقدمة الديوان للمحروم "أحمد باشا خيري". 2 أعذر الغلام ختنه كعذره يعذره: وللقوم عمل طعام الختان.

ولكنك في مدحك القسطنطينية فضلت مصر عليها؛ لأنك جعلت مصر هي العليا والقسطنطينية هي الدنيا، وفي علمك أن الدنيا تأنيث الأدون، فيفيد النظم أن القسطنطينية دون مرتبة مصر، فقال الشاعر مجيبا: "حب الوطن من الإيمان". وأما رحلته الثانية إليها، فكانت في عهد الخديو "إسماعيل" سنة 1289هـ، حيث استصحبه إليها في خلافة السلطان عبد العزيز، وكان مقدمهما القسطنطينية مثقفا مع الاحتفال بعيد الجلوس، فأنشأ الشاعر قصيدة بليغة مطلعها: تبسمت الآمال عن لؤلؤ القطر ... ففاح شذاها في الحدائق كالعطر وكان مصراع تاريخها "جلوسك عيد الدهر أم ليلة القدر". 119 84 240 41 470 335 سنة 1289هـ. ومما اتسم به أنه كان راجح العقل نافذ الرأي عالما بالأحوال السياسية خبيرا بشئون الأمم، محبا لتربية الأمة داعيا لتثقيفها ونضتها. وكان شعره شتيتا غير مجموع حتى قيض له المغفور لهما "محمد باشا سلطان"، و"وحسين بك حسني" ناظر المبطعة الأميرية إذ ذاك، فجمعا أشتاته وضما متفرقة وعهدا إلى المرحوم "محمد أفندي الحسني" رئيس مصححي المطبعة بجمعه في ديوان صدر بخطبة الأخير، وبترجمة للشاعر بقلم المرحوم "أحمد باشا خيري" ناظر المعارف العمومية في ذلك الحين. هذا عدا ماكان له من الطرف والملح والمواليا، والأزجال وغير ذلك مما عبثت به يد التفريط والإهمال. شعره: أقيس شعره بشعر عصره، فأراه شبيها به موافقا له يتجه متجه وينزع نزعته، وهو يميل إلى الجناس لكن في غير استكراه، ويطلبه لكن في غير

تكلف شديد، ويوري غير أنه لا يلحف في رجاء التورية، ولا يرتصد لطلبها، وتدور الصنعة في شعره غير مفتون بها، وإن تهيأت له فبغير إفراط ولا إسراف، أما التاريخ الشعري، فهو مغرى به متافت عليه، ملتزم له في الجمهرة العظمى في شعره، فمن تجنيسه قوله: في الحان قد جس معسول اللمي وترا ... فانهض لتسمع ألحان الصبا وترى فقد أوقع الجناس بين "الحان"، وهو محل بيع الخمر و" ألحان" الصبا جمع لحن، كما أوقعه بين الوتر الذي هو شرعة القوس، ومعلقها الواقع مفعولا والفعل المضارع و"ترى" مقرونا بوار العطف، ويبدو لك تكلفة الجناسين إلا أنهما أقرب إلى القبول، ومن تجنيسه أيضًا قوله: أبدًا تقلب فكرتي أبدى الأسى ... طوعا لأمر الدهر أحسن أو أسا فقد أوقع الجناس بين لفظ الأسى بمعنى الحزن، والفعل الماضي "أساء" محذوف الهمزة ليتم الجناس بحذفها، والجناس هنا مقصود للشاعر إلا أنه لم يبلغ من الثقل مداه، ومن تجنيسه أيضًا قوله: كم ذا أحاول نصحا بالعظات وفي ... ظني وجود سميع بالعهود وفي فالجناس بين حرف الجر "فى" مقرونا بالواو، ولفظ "وفى" الصفة المحذوف إحدى يائية، وهو أقل ثقلا من صاحبه الماضي، ومن جناسه المقبول قوله: رياض المجد أهدت نفح طيب ... فقلت مهنئا يا نفس طيبي ويغرب أن يلتزم الجناس في مطالع قصائده، وهو في هذا الموضع أكثر طلبا له واستشراقا إليه.

ومن التورية التي يستعملها في شعره: على مضض صبرت وكم أداري ... بتاريخ الغرام وأنت داري يجاذبني الهوى فأذوب وجدا ... ويسلبني النوى ثوب اصطباري وهذا لي دروا ما بي فلاموا ... كأن هوى الأحبة باختباري وإن سألوا عن اللآحي ودمعي ... اقبول كلاهما لا شك جاري فقد ورى يقوله "جاري" عن اسم الفاعل من جرى بمعنى سال، والاسم الذي هو بمعنى مجاور مضافا لياء المتكلم. ويقول في رجل يدعي العلم يسعى "النخلي": بروض الفضل أغصان ... خلت عن حلية الفضل سألناها أجابتنا ... دهتنا غلطة التخلي فيحتمل أن براد "الشجر" أو اسم الرجل، ومما يؤدي به قوله: حروف ودي وسائل ... والد مع جار وسائل أي أن قطرات دمعة الشبيهة بالحروف وسائل تترضى الحبيب، فقد جانس بين "وسائل" الأولى جمع وسيلة و"سائل" الثانية التي هي اسم فاعل من سال بمعنى جرى مقرونا بالواو، ثم في وسائل الثانية تورية إذ يحتمل أن تكون اسم فاعل بمعنى جار، أو اسم فاعل من سأل بمعنى طلب. ومن شعره التاريخي قوله: يا من بطالعه الأسعى حوى شرفا ... يزين بدر علاه قبة الفلك أنت الذي بحلي الأخلاق زدت علا ... لا زلت ترقى بفضل المنعم الملك إسعاد نجمك إذ لاحت بشائره ... أرخت أوليت بكباشي وأنت زكى ...................... ... 447 335 457 37

ولا شك أن هذا التاريخ أضعف هذا الشعر، وحال دون روعته وجماله، ولكنها سنة العصر الذي أغرق فته وغالى وله في تاريخ لحية. لماذا ازدهى روض المحاسن والبها ... وبدا به الريحان وهو شريف خط العذار كما تحب صحيفة ... تاريخها صان الجمال نظيف ................... ... 141 105 1040 سنة 1286هـ وهو شعر ضعيف متهافت كما ترى، ومما لا أسيغه وصف الريحان بالشرف، ولست أدري متى يكون الريحان شريفا، أو غير شريف فلعل علم ذلك عند الشاعر، وقد يقصد أن الريحان وهو أخضر الأغصان يبدو كالعمائم الخضر التي هي سمة الأشراف. وقد يولع بالتاريخ، فيجعل في كل شطر تاريخا كما قال: بشير الهنا لا حب بيمن قدومه ... بدور بها نور البثائر قد صفا 512 87 439 102 155 ... 212 8 256 544 104 171 سنة 1295هـ. وشعره إذ ذاك لا روعة فيه، ولا تتنسم منه روح الشعر بحال، غير أنه يتناول كثيرا من الأغراض في شعره، ويتسع أفقه لألوان مختلفة من الشعر فيمدح، ويهنئ ويرثي ويعتب ويشكو ويشكر، ويتغزل ويصف وينصح، وتجد في شعره الحكم والمدائح النبوية، والقصائد الوطنية والخمريات بغير إغراق كما تجد فيه الوداع والحماسة، ويتناول الألغاز يكثر منها فيجيء شعره بها معمى مستغلقًا، ويطول نفسه في بعض القصائد حتى لتبلغ مائة بيت إلا أن شعره أقرب إلى شعر العلماء منه إلى شعر الفحول من الشعراء، وشعره وسط بين الإجادة، والغثاثة والضعف والقوة. فمما قاله متغزلا: إلى الأوطان يجذبني الهيام ... ولي قلب يقليه الغرام وفي دمعي غرقت ونار وجدي ... بتذكار الديار لها ضرام ولى في كل منزه حديث ... إذا كررته ناح الحمام

وما عندي من الأشواق خاف ... ولو أبديته لبكى الغمام ويوم وداعهم كانت حياتي ... مكابرة وللدمع انسجام أراهم أينما كانوا بقلبي ... وزفي نومي وهي يغني المنام وقائلة إلام تحن شوقا ... وتعلو جسمك المضني السقام أتحسب أن من تهواه باك ... عليك ولو أضر بك الهيام؟ فقلت له: فديتك إن نومي ... علي لبعدهم أبدا حرام وهل يجدي أخا الوجد المعنى ... إذا ضنوا بزورته اعتصام؟ دعيني فالنصيحة لو أفادت ... لضاع الحب وانقطع الملام كلفت بحبهم فألفت سهدي ... ولم يخطر على جفني المنام أهيم بهم ولي فيهم شجون ... إذا ظعنوا بقلبي أو أقاموا أخلائي احفظوا عني حديثا ... يسر به المقلد والإمام قتيل الشوق يحييه التداني ... وينعشه التواصل لا المدام فإن مر النسيم بكم سلوه ... فأخبار الهوى منه ترام وساعات الوصال كلمح طرف ... لدى المضني ويوم البعد عام هذه أبيات ساقها الشاعر متغزلًا، فجاءت من أجود ما قاله رقة وخفة روح ووضوح أسلوب لم يسع الشاعر فيها وراء صنعة لفظية، أو محسن من المحسنات البديعية، ولم يمس طرفا من ذلك إلا الجناس الذي شكه شكا، وتناوله برق في عجز البيت الأول بين "قلب" "ويقلبه". ومما قاله في شكوى الزمان: بشكوى الليالي كيف لا أتعلل ... وديمة دمعي دائما تتهلل رماني زماني في مكايد مكره ... وفي وهمه أني له أتذلل أكابد ما لا يستطاع من الأسى ... وأحمل منه فوق ما يتحمل وجربت أبناء الزمان بأسرهم ... فلم أر منهم من عليه يعول

وسالمت إخواننا بدا لي أنهم ... على نقض بنيان الصداقة عولوا فيا دهر ماذا تبتغي من مجرب ... وقد شاع في الآفاق أنك تجهل تقدم من لا يستحق وتزدري ... بمن هو أولى بالجميل وتعجل تبرأ من أهل المعارف والتقى ... وهم دولة الإسعادان كنت تعقل وقربت أرباب الجهالة للعلا ... كأنك لاستظارهم تتجمل فهذه الأبيات من أجود ما قيل في شكوى الزمان صدرت من الشاعر مصورة عبث الزمان به، وتجهمه له وما يكابده من أساه الذي لا يستطاع، وما يحمله مما يشق حمله، وما لقيه من إخوان جربهم فلم ير فيهم من عليه المعول، وما سالمهم لما بدا له من تعويلهم عن نقض الصداقة ونكث العهد، وكان جميلا من الشاعر ما بينه ومن جهل الزمان من تقديم من لا يستحق، والزرارية بمن هو أولى بالجميل، وبراءة الزمان من أهل المعارف والتقى، الذين هم دولة الإسعاد لو ك ان يعقل ذلك، وتقريب أرباب الجهالة، وإيثارهم بالعلا كأنه يتجمل لاستظهارهم، فهي أبيات صادقة في شكوي الليالي، وصدق التجربة، وغدر الإخوان وعبث الزمان، كل ذلك مسوق بأسلوب غير نازل، ورصف رصين لم يتهالك على محسن ولا زخرف. ومما قاله يمدح به النبي صلى الله عليه وسلم. إذا هتف بمدحتك الموالي ... وأنشد شعره فيك البديع وحدث عنك من يروي حديثا ... وصاغ من الثنا ما يستطيع فما بلغوا اليسير ولو أطالوا ... وكيف وأنت في الأخرى شفيع؟ إليك شكايتي من كل ذنب ... وحصن حماك في حرز منيع ومن يرجوك يسعف بالأماني ... ومن قصد المشفع لا يضيع ملأت سرادقات الكون فضلا ... وجاهك سيدي جاه رفيع فمن للمذنبين سواك يرجى ... إذا ما استعظم الهول الفظيع؟

وهو شعر سهل رصين تتمثل فيه روح الشاعر المؤمن الذي يلتمس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون له حرزا منيعا، وشفيعا يغفر به كل ذنب، وإن كان في نفسي شيء من اللفظ الأخير "الفظيع". وقال يعاتب بعض أصحابه: لعمرك ما البواتر كالعصي ... ولا الطرف المذلل كالعصي1 ولا فلق الصباح إذا تبدى ... لذي بصر يقابل بالعشي أراك رفعت أدنى الناس قدرًا ... وآثرت الدنى على علي شققت عصا الوفاق وبعت غبنا ... صواب الرأي بالخطأ الجلي وبدلت الأعزة من قريش ... وأبناء الأماجد بالبذي2 ستعرف ما جهلت إذا التقينا ... وبان لك الجبان من الكمي3 ولعل هذه الأبيات من أحسن شعره وأبلغه، وأحفلها بالتشبيهات المحكمة، وفيها جناس مقبول بين حرف الجر "على"، و"على" تورية لطيفة في لفظ "على" الذي يحتمل أن يكون وصفا مقابلا "للدنى"، وأن يكون مشيرا إلى اسم الشاعر "السيد علي" ومن رثائه قوله: أمطري أعيني الدوامي دواما ... إن غيث الكرام يأتي ركاما4 واستمدي من حبة القلب دمعا ... فلعل الدموع تروي أواما5

_ 1 البواتر السيوف القاطعة -الطرف الكريم من الخيل- المذلل السهل المنقاد. 2 البذي -كرضى الرجل الفاحش. 3 الكمي -كفنى الشجاع أو لابس السلاح. 4 الركام -السحاب المتراكم. 5 الأوام كغراب العطاش أو حره، وأن يضج العطشان.

ومن المهد للجفون اكتحالًا ... ودعى عنك في الدياجي المناما واسكبي الدمع خفية وجهارا ... واستحلي من البكاء الحراما واقرئي في صحيفة الدهر سطرا ... نمقته يد القضا فاستقاما واكتبي ما جنته أيدي المنايا ... حيث لم تبق للأنام إماما فهذه من أصدق المرثيات، وأرقها وأخصبها معنى وأحلفها تصويرا للجزع والأسى، ولم يكن الشاعر منصرفا فيها إلى الطلاء اللفظي اللهم إلا ما يكلف به من الجناس في مطالع قصائده، فإنه أوقع الجناس المتكلف بين "الدوامي" و"دواما" و"الكرام" و"ركاما"، ولكنه لم يستنفد جمال الأبيات، ولم يذهب بروعتها.

الشيخ علي الليثي

الشيخ علي الليثي: المتوفى سنة 1313هـ-1896م نشأته وحياته: هو، الشيخ "علي" بن "حسن" بن "علي"، ولد في بولاق مصر سنة 1236هـ، وتوفي والده وهو حدث يافع، فانتقلت به أمه إلى جهة الإمام "الليث"، فكان يطلب العلم بالأزهر، ثم يعود إليها للمبيت بها، وظل على ذلك بضع سنين، ثم قدم إلى مصر الشيخ "السنوسي الكبير" قاصدا الحج، فاتصل به وحج معه، ولما رجع "السنوسي" إلى مصر لم يدعه، بل استصحبه إلى "جغبوب"، ولبث بها مدة يطب العلم ويفيد حتى فارق "السنوسي"، وعاد إلى مصر فاتصل بوالدة "عباس باشا" الوالي، فألحقته بوظيفة متواضعة في القصر، وازدلف إلى الأمير "أحمد باشا رفعت" بن "إبراهيم باشا الكبير"، فأدناه منه ومكنه من تقليب النظر في خزانة كتبه، فأفاد منها سعة أفق وخصب مادة. ومن الطريف أن سفره إلى المغرب كان سببا في اتهامه بمعرفة الكهانة، والعرافة حتى إذا ولي "سعيد باشا" على مصر أمر بنفي هؤلاء الذين يحتالون على الناس إلى السودان، فكان المترجم من بينهم، وقد ظل بالسودان حتى عفا الخديو عنه، فعاد إلى مصر. وقد طارت شهرة "الليثي" وذاع صيته، وعرف بحضور البديهة وحسن المنادمة، فلما ولي "إسماعيل باشا" على مصر قربه إليه، واتخذ منه ومن الشيخ "علي أبي النصر المنفلوطي" نديمين يستمتع بشعرهما، ويستطيب حديثهما. فلما عزل "إسماعيل" وخلفه "توفيق" درج على ما كان عليه سلفه من إيثار "الليثي"، وإجلاله واصطفائه حتى إذا شبت الثورة العرابية كان "الليثي" بين من خاضوا غمارها، وأججوا جمراتها، ولكن "توفيقا" شمله بعفوه وصفح عن زلته، وهش له إذا تبرأ بقصيدته التي يقول في مطلعها:

كل حال لضده يتحول ... فالزم الصبر إذ عليه المعول بل إنه بعد أن تبرأ من الفتنة العرابية، وأبان عذره في مسايرة العرابيين زاد قربا من نفس "توفيق"، وأحله مكانة ترمقها الأبصار، وترنو إليها العيون فقد شيد لنفسه قصرا "بحلوان"، وكان يتردد عليه مرتين في كل شهر، فيركب من حلوان سفينة بخارية تقله إلى ضيعة "الليثي" "شرق اطفيح"، فيؤاكله ويقيم عنده، ومن ثم عني "الليثي" بهذه الضيعة، فغرس بها أطيب الكروم والأشجار، وأقام بها قصرًا أنيقا يكون للأمير وأتباعه نزلًا. وقد كانت هذه الضيعة مقصد الأدباء، وكعبة للشعراء والعلماء يجدون فيها غذاء للروح والجسد من ثمار، وفاكهة وطيب مفاكهة، وقد كان مسرفا في كرمه حتى أن ضيفانه ليقيمون عنده أيامًا وأشهرًا. ولما نزل بمصر "السلطان برغش" ملك "زنجبار" انتدبه الخديو "إسماعيل" لمرافقته ومجالسته، فاتراح السلطان لخلقه، وخفة روحه وعذوبة حديثه، حتى إنه لما عاد إلى بلاده كان يمنحه الهدايا الفاخرة كل عام مما تمتاز به هذه البلاد من عنبره وغيره، فيكون لأصدقاء "الليثي"، وخلطائه من هدايا السلطان نصيب. وإذ قضى "إسماعيل" تقلص العطف الكريم الذي كان "الليثي" في ظلاله، وانقبض "عباس" عنه، ولم يكن "لليثي" من خصب جنابه بعض ما كان له من "إسماعيل"، فعكف على ضيعته يشتغل زرعها، ويدمن الاطلاع في مكتبته الضخمة التي ما زال يضم إليها من الأسفار النادرة، وأمهات الكتب الأدبية ما طبع منها، وما نسخ حتى كان من أوفى الخزانات، وأحفلها علما وأدبا، ولم يزل كذلك إلى أن تآمرت عليه العلل، فناء بها أشهرا حتى قضى في العاشر من شعبان سنة 1313هـ، فانطوت به صفحة من الأنس والصفاء، وطول المتاع. منادمته: كان "الليثي" خفيف الروح، عذب الحديث، حسن المحاضرة، سريع

البديهة، مواتي الجواب، معروفا بطيب السمر ورقة المنادمة حتى أطلق عليه "سيد الندماء". والمنادمة فن دقيق يعتمد على مواهب وفطر خاصة، ويحتاج في تناوله إلى لباقة وكياسة، وتفطن إلى مواطن النكتبة وموقعها من النفوس، وتفرس فيما يطيب من القول، ويلذ لسامعه، هذا إلى سرعة البديهة، والحذق في معرفة الطبائع والبصر بمختلف الأخلاق، وتمييز كل موقف من صاحبه، والتملؤ من أدب المفاكهة والإلمام بما يهش له السامع في شتى أحواله، وما يرفه به عن نفسه إذا غشيها الملال. على أن النديم قد تحاك حوله الدسائس لتصرف عن جمال نكتته، وتصد عن التبسم والبشاشة له، وقد يرتصد له بعض الخبثاء، فيفسد عليه غرضه بالتصريح أو بالإيماء، فإذا لم يكن حاضر البديهة، ومواتي الجواب لبقا في الأخذ بالشيء والإنصراف عنه، قادرًا على أن ينتقل من حديث إلى حديث، ومن مقام إلى مقام فشل في جر السرور، والمفاكهة الذي يهيئه، ويشرق الأنس منه. وقد كان ذلك من مواهب "الليثي" في منادمته، فإنه ليجمع إلى طلاقة لسانه، وفيض خاطره وحلاوة حديثه، وحسن بصره بمواطن الحديث، وتهديه إلى ما يحسن أن يأخذ به من القول، وما يدع روائع من الأدب، وأطايب من البيان يصرفها في كل مجلس، ويديرها في كل مناسبة، ويعرضها إذا استشرقت لهما الأسماع، واهتزت لها العواطف والوجدانات، فيملأ النفوس أنسا وراحة والقلوب -بهجة ولذة. ولا نحسب أن من شعراء الجيل الحاضر شاعرا يمثل مدرسة الندماء، كما كان يمثلها الشيخ "علي الليثي" الذي ارتقى في هذه الصناعة حتى نادم "إسماعيل" "وتوفيقا"، وبقي من نوادره، ودعاباته ما يذكره المتأدبون والمعنيون بأخبار القصور حتى في أقصى الصعيد1.

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص103.

وقد بلغ من شغف "إسماعيل" به أن أعد له، ولصاحبه الشيخ "علي أبو النصر المنفلوطي" قاعة خاصة بديوانه يجلس بها كأنه أحد رجال القصر الذين توكل إليهم أعمال، كما قلنا من قبل أن "توفيقا" كان ينزل بضيعته حبا لمنادمته، وإيثارًا لمفاكهته. ولم يؤثر فيما تقل إلينا عن نوادر "الليثي"، ونكاته أنه فرط في كرامته، أو أغضى على هيبته على ما تتحيف به هذه الصناعات من أقدار، فقد ظل "عالما" من علماء الأزهر لم تجرح هذه الصناعة كبرياءه، ولم تتدل به إلى ما يتدلى إليه المضحكون والممالثون. وقد خلف "الليثي" من نوادره وأدبه الضاحك الباسم ما فيه أبلغ المتع واللذاذات، وما هو في هذا الأدب الرقيق غرة وجمال، ولكن ذهب أشتانا لم يعن بجمعه، أو يخلد بإيثاره، وكان في مثله لوحواه كتاب ما تستروح به نفوس، وتبتهج به صدور، وتتبدد كآبة ويذهب ملال. طرف من نوادره: كان أحد الكبراء يفرغ بالمدية تفاحة ليشرب فيها، فانقصفت المدية خلال ذلك فرنا إلى "الليثي"، كأنما يطلب القول منه فإذا به يرتجل البيتين. عزت على الندماء حتى أنهم ... تخذوا لها كاسا من التفاح ولدي اتخاذ الكأس منه بمدية ... لان الحديد كرامة للراح وهما آية على صفاء ذهنه وحضور بديهته، واستجابة الشعر له. ودخل يوما معه الشيخ "علي أبو النصر المنفلوطي" على الخديو "إسماعيل"، وهو منقبض، وكان الرجلان طويلي القامة دميمي الخلقة فاحمي السواد، فلما أبصرهما "إسماعيل" أخذ يقلب فيهما الطرف، وينظر إلى طولهما وعرضهما فما أن رآه "الليثي" كذلك حتى شرع يقلب كفا على كف، فقال له "إسماعيل": ما بالك تفعل هذا؟ قال: "أفكر في أمر أقوله إذا صفح عنه مولاي مقدما" قال: "قد صفحت فقل" قال: "أراني أستغرب ما الذي أعجب به مولاي في

مدخنتين مثلي وزميلي هذا"، فضحك الخديو وسرى عنه. ولما أمر "إسماعيل" أن يكتب على حجرات القصر لافتات تشير إلى وظيفة من فيها أشار "المهردار"، أحد كبار رجال القصر بأن يكتب على حجرة الشعراء التي كان "الليثي بها": {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ، وإذ سأل الليثي عمن أشار بذلك قيل له أنه "المهردار"، فأراد أن ينتقم لنفسه فانتهز فرصة جلوسه مع الخديو، وحضور المهردار، وقال للخديو: إن حادثة وقعت لي اليوم فقال: ما هي فقال: صغتها زجلا، قال: ما هو؟، قال: لي طاحونه في البلد ... غلبت منها وعقلي دار عقلت فيها الطور عصى ... علقت فيها المهردار ومر به كبير من رجال القصر فحياة تحية الغربيين بخفض رأسه، فلم يرقه ذلك فهر رأسه كمن يقول: لا فشكا الأول للخديو زراية "الليثي" به، فلما سأله الخديو عما صنع معه، قال: يهز رأسه كأنه يقول: تناطحني فقلت له: لا. شعره: خلف "الليثي" ديوان شعر ضخم لدى صهره الأستاذ "محمد سعودي" الخبير، ولكنه أبى أن يطبعه لعلم أهله، وخاصته بأن الشاعر لعن من يقوم على طبعه، ولعل "الليثي" فعل ذلك تحرجا من نشر ما عسى أن يكون قد تورط فيه كشأن أكثر الشعراء من دعابة، أو غلو في مديح أو ذم أو نحو ذلك، فلقد كان في الرجل تقية وورع، فهو يخشى حسابه على ما نظم، ولو كانت هذه الثروة الشعرية لشاعر غيره ممن يغربهم المظهر، والشهرة لجاز أن يحرص على طبع شعره وتدوينه، والمفاخرة به. ولو تهيأ لنا الاطلاع على هذا الديوان، والتفرس فيما حواه من شعر، وفيما بين دفتيه من قصائد نظمها في أغراض مختلفة، وألوان متنوعة لاستطعنا أن ندرس شعره دراسة بحث، وتقص ولكن احتجاب ديوانه ألقى على شعره ستارا كثيفا من الغموض والإبهام، وجعل الحكم عليه مقرونا بالعناء، والجهد

وذلك مما دفعنا دفعا إلى مراجعة الصحف القديمة والمجلات المعاصرة له، وتتبع الكتب الأدبية المختلفة بما عساه أن يضم طرفا من شعره وجانبا من خبره، ونستطيع بعد أن تعبت أناملنا من التصفح والتقليب، وبعد العثور على جمهرة من قصائده المتنوعة أن نحكم على شعره جملة بأنه في المنزلة الوسطى من منازل الشعر1. وكان القدر الأعظم من شعره في المدائح، فلقد اصطفاه "إسماعيل"، وخلع عليه لقب "شاعر الخديو" ولازمه ونادمه، كما أدناه "توفيق" وأحله مكانة من نفسه، وقد دعاه ذلك إلى أن ينظم فيهما مدائحه ملتمسا لها شتى المناسبات آية على ولائه ودليلا على وفائه، كما مدح المطصفين لهذين الأميرين من ذي جاه أو شفاهة أو حظوة لديهما، وكان "الليثي" حريصا في هذه المدائح وخاصة ما لإسماعيل وتوفيق على أن يجودها، ويكسوها حلة من الروعة وجمال الشعر، ولكنه على كل حال يدور فيها جميعا مع تباين أسبابها على معان متقاربة وطريقة متشابهة، فهو يبدأ بالغزل متأنفا في صوغه لينتقل منه إلى مدح الأمير حاشدا من معانيه، وألوانه ما شاء له الأسلوب، وما واتته القريحة واستتبع مدحه الأميرين الذي هو ثمرة لصلته بهما، وحدبهما عليه أن يقول مهنئا أو مواسيا، أو معزيا، فإن وفاءه الباعث على الإطراء والمديح هو نفسه الدافع على قرض الشعر في كل ما جل أو هان من مختلف المناسبات. ولقد جهدت فيما تتبعته من الشعر كي أعثر على المنادمة في شعره، وأتبين أثر هذا الفن لأرى ما أبدع منه في نظمه، فلم يواتني منه شيء، فلعلها كانت منادمة مجلس وسمر يصورها حديثا يرويه، وقصة يسوقها ونكتة يرسلها ونادرة يفاكه بها، وبديهة مواتية لا تستلزم الشعر أسلوبا ولا أداة.

_ 1 المفصل ج2 ص339.

نماذج من شعره: مما قاله في عيد جلوس الخديو "عباس الثاني": خل الملام فقلبي ليس بالسالي ... يا عاذلا لج في لومي لتضلالي دعني ووجدي وما ألقاه من وصب ... أبيت أرعى الدياجي بائس الحال ظننت لومك يثني قلب ذي شجن ... هيهات لومك لم يخطر على بالي أنا الوفي وقلبي ليس يشغله ... عما عليه انطوى تنميق عذال أرح فؤادك واحذر ما أكابده ... أما نظرت إلى سقمي وإعلالي دمع يسيل وقلب ذاب من كمد ... وفكرة شتتها لوعة البال عدتك حالي لا ذقت الهوى أبدًا ... ولا رمتك اللواحي فيه بالقال إلى أن قال: قد قال لي القلب لكم حملتني نصبا ... من الغرام وقد ضاعفت أثقالي هلا التفت وألزمت اليراع بما ... يخف عني به وجدي وبلبالي فقلت: يا قلب صادفت المراد فذا ... عيد جلوس الخديو المفرد العالي عباس مصر الذي ضاءت بغرته ... أرجاؤها وغدت روضا لحلال صفو النفوس بتشريف النفوس بدا ... كالبدر يعطي ائتناسا عند إهلال فادخل بنا في تهانيه بموسمه ... وإن تعاظم فاسلك نهج إجمال ثم قال: هذا الأبي الذي أمضت عزائمه ... ما أوهن اللب من قول وأفعال زند الشبيبة يوري رأي مكتهل ... منه ويهدي لرشد عند تسآل فيه لرائيه إيناس ومرحمة ... وكم لراجيه منه نور آمال فهذه أبيات تبتدئ بالغزل على عادة الشعراء، ثم تنتقل إلى ذكر الممدوح

بما شاع المدح به، وما ألف نظم الإطراء فيه، وهي وإن كانت أقرب إلى التوجيد في نظمها، وصوغها لا تحمل من روعة الشعر، والطابع الشخصي ما يسمو بصاحبها إلى مصاف المجيدين. ومما قاله في ليلة عرس: لله ليلات أنس عن سنا سفرت ... وبالمراد إلى أسمى حمى وصلت كأنها ليلة القدر التي نزلت ... فيها الملائك والدنيا بها ابتهجت سرت بحسن صفاها مصر وازدهرت ... يا طيب عين بمرآها قد اكتحلت فما رأى مثلها الرائي فقد شرفت ... في خير دار بها الأفراح قد رسمت دار بسدتها الأمجاد واردة ... مثل الظماء فكم علت وكم نهلت إن شئت قل جنة أو جنة وجنى ... فيها الغياث وفيها الغيث مذ نبتت نعم سويداك أو سود العيون بما ... يروح الفكر فاللذات قد حضرت وارع المثاني وراع العنب ليب بها ... فيوسف الحسن أعطاها الذي طلبت إلى أن يقول: ولا أصرح بالداعي ولي أمل ... يشيده من حلى أوصافه كملت فاهنأ فهذا القران السعد أرخه ... شمس البهاء بمحمود الصفا اقترنت ........................... ... 400 39 100 202 1151 سنة 1892م. فهذه مظاهر للحسن والسرور والأنس، والبهجة حشدها الشاعر حشدا ونظمها بصورة تقليدية لا أرى فهيا روحا للشعر العذب الرائع على أنه عنى فيها بالزخرف والطلاء، فأشار إلى الاقتباس في "ليلة القدر" التي نزلت فيها الملائك، وجنس بين "جنة" و"جنى" و"الغياث" و"الغيث"، و"سويداك" و"سواد العيون" و"ارع" و"راع"، وبذل لذلك شيئا من جهده وطلبه، ثم ختم أبياته بالتاريخ الذي فتن به معاصروه والسابقون عليهم، وحرص

عليه هو أيضًا، ومن ولوعه بالمحسنات البديعية، وتكلفها وسعيه لها ما قاله للشيخ "الإنباني" ينفي ما وشى به إليه. نبئت أني قد ذكرت بحضرة ... تسمو بكوكب عصره "الإنبابي" وعذلت أن لم أهد ساحة مجده ... غرر التهاني عذل من أنبابي ولقد نبا بي عن سمو مقامه ... عز المهابة وازدحام الباب فغدوت أدعو الله أن يرقى إلى ... أسمى المعالي في أعز جناب كيما يعز الدين منه بناصر ... وتقر عين الشافعي بمهاب فبمثله الإسلام يظهر نوره ... وتقوم حجته على المرتاب لا زال شيخ المسلمين محجبا ... بمهابة الإعزاز والإرهاب حتى يقول العلم سدت مؤرخا ... بولي الأزهر شيخه الإنبابي .................... ... 48 244 915 97 سنة 1304 فقد كلف بالتجنيس في قوله "الإنبابي" فأدارها غير مرة مما "نبا" بها، ووضها موضع القلق، كما شد الجناس في قوله "بمهابة" والإرهاب وختمه بالتاريخ كدأبه. ومن أبياته الرقيقة ما قاله حين زارته سائحة أمريكية، وهو في ضيعته بالصف. وزائرة زارت على غير موعد ... غريبة دار تنتحي كل مورد تبدى لنا وقت الظهيرة نورها ... ونحن على روض زها بالتورد من اللاء لم يدخلن مصر لحاجة ... سوى رؤية الآثار في كل مشهد لها في أميريكا انتساب ودارها ... ببستن إذ تعزى لمسقط مولد فحيت وقالت والمترجم بيننا ... لنا: فاذنوا نحظى يروضكم الندي فقلنا ونور البشر أزهر ببيننا ... على الرحب والإقبال مشكورة اليد

ودارت أحاديث التساؤل بيننا ... فجاءت بدر من حديث منضد إلى أن قال: عن البحر حدث إذ وردنا وقد غدا ... بصفو يصافينا فيا طيب مورد سفينتنا تعلو على فلك السما ... بما حل فيها من شموس وفرقد1 هناك مراد العين والسمع والهوى ... مع العفة العلياء في كل مقصد فقمنا وودعنا القلوب فهل درت ... بما نابنا عند الوداع الممهد2

_ 1 الفرقد - نجم قريب من القطب الشمالي. 2 المعهد - المهيأ.

الشيخ عبد الرحمن قراعة

الشيخ عبد الرحمن قراعة: المتوفى سنة "1349هـ-1930م" نشأته وحياته: ولد بأسيوط قرابة سنة 1825م من أسرة عريقة في العلم والدين، فحفظ القرآن في صباه وكان والده أحد علماء الأزهر يحب الأدب، ويقرض الشعر وقد نظم في النحو خمسمائة ألف بيت تدارك فيها ما فات ابن مالك في ألفيته مما نبه إليه الشراح من قيود، وشروط وغيرها، فتأثر "عبد الرحمن" بأبيه واتجه متجهه، وتلقى العلم عنه في صغره، ولقي من رعايته وتوجيهه ما غذى قريحته بالأدب، وطبع ملكته على حبه. ولما أصاب حظا من الثقافة الناشئة ألحقه والده بالأزهر، فانتظم في عقده وتلقى فنونه على أساتذته من أمثال الشيخ "حسن الطويل"، والشيخ "محمد الإنبابي" والشيخ "الأشموني" وأضرابهم، وقد قضى فترة في الطلب ناهزت عشر سنين، وكانت شهرته بالأدب قد ملأت الأذهان، وطوف صيته في ربوع الأزهر وخارجه، ووسم بالشعر الرصين والنثر المحكم، حتى كان علما بين شعراء الأزهر وأدبائه في ذلك الحين، وكان قد تقدم لامتحان العالمية، فحدثت في الأزهر فتنة كان من أثرها أن عين المرحوم الشيخ "محمد الإنبابي" شيخا للأزهر بعد سابقه المرحوم الشيخ "محمد المهدي العباسي"، ويقول بعض الرواة: إن "الإنبابي" غضب على قراعة ونفاه من القاهرة إلى أسيوط؛ لأنه أنشأ قصيدة هجاه بها قال في مطلعها: خذوا حذركم فالأمر قد جاء بالضد ... لقد ظهر الدجال واختبأ المهدي ومما قاله الرواة - إن قراعة كان صديقا للمهدي، وكان المهدي يؤثره ويوليه حبه، فنظم قراعة هذا الشعر ولاء للمهدي، وزراية بالإنبابي، فأجرى

معه تحقيق كانت نتيجته النفي إلى أسيوط التي ظل بها قرابة أربعة عشر عاما كان يرسل فيها قصائد الاعتذار، والتنصل للإنبابي حتى عين الشيخ "حسونه النواوي وكيلا للأزهر، فاستوفده إلى القاهرة. وقد رجعت في تحقيق ذلك إلى أسرته والأدنين منه ومن خالطوه، لأجلو الأمر واستوضح غامضه، فقيل: إن قراعة لم ينظم هذه القصيدة بل نحلها له خصوم الإنبابي اعتمادا على شهرة قراعة بالشعر وطلبا لذيوعها له، أما هو فبرئ منها لم يخط فيها حرفا، كيف وهو تلميذه المنتفع بعلمه المغتذى بثقافته؟ على أن فيما وجهه قراعة إلى الإنبابي من شعر ونثر ما يدل على نقاء صفحته، وبراءته من هذا الشعر، هذا ولم يكن ارتحال قراعة إلى بلده جزاء وعقوبة، وإنما كان انصرافا منه لكدر الجو من الدس والسعاية، ومهما يكن من شيء، فإن القصيدة سواء نظمها، أو نسبت إليه سارت على الألسن، وطوفت في الآفاق وعلقت بالأذهان. وإذ ارتحل "قراعة" إلى أسيوط هذه الفترة الطويلة أكب على دراسة الأدب ونظم الشعر، وتوفر على التفسير والحديث، فتمكن من دراستهما واجتمع بجمهرة من علماء الأزهر الذين رحلوا إلى أسيوط وطنهم، فاتصل بهم وكان بيت أبيه شبيها بندوة أدبية، ودرس علمي يجمعهم، فعلا في هذا الندى صوته وتألق بين رواده نبوغه، فكان فيمن يفدون إلى هذا المجلس المرحوم "محمد بك أبو شادي" الذي أنشأ جريدة الظاهر فيما بعد، وكان من أبرع المحامين بأسيوط، كما كان منهم المرحوم "عبد الله هاشم" الأديب المطلع الذي وصفه "قراعة"، فقال: "أخذ هاشم نهايتنا فجعلها بداية له"، والمرحوم "حسين بك فهمي" الأديب أحد كبار محامي أسيوط، "وإمام بك فهمي" أحد أعلامهم أيضا، وما زالت شهرة "قراعة" تنمو، وتتطاير حتى كثر عشاقه، وأقبل عليه أنصار الأدب من كل حدب، فإذا بيته مقصد كل عظيم، وأديب من رجال القضاء والإدارة والتعليم، ومما قرأه على عشاقه في هذه الفترة

كتاب "الكشاف" للزمخشري "والنسائي" في الحديث، كما قرأ عليهم كتاب "الأغاني" على طوله واتساع جنباته. بقى "قراعة" في أسيوط حتى استدعاه الشيخ "حسونه النواوي"، وكيل الأزهر إلى القاهرة فتقدم للامتحان، ونال شهادة العالمية، ثم اشتغل بتدريس الفقه والنحو في الأزهر حتى إذا وجهت العناية الخاصة إلى تدريس الأدب في الأزهر تولى تدريس مقامات الحريري، فجمع في شرحها بين اللغة، والأدب بأسلوبه العذب وبيانه الرائع، وكان "السيد مصطفى المنفلوطي" أحد من غشى درسه الأدبي. ولم تطل هذه الفترة حتى عين مفتيًا شرعيا بمدينة سوهاج، فمكث بها عدة سنين عقد في أثنائها بأحد مساجدها درس التفسير الذي كان يلقيه بطريقة جذابة مشوقة، وأمه كثير من رجال العلم والأدب، واتخذ من بيته منتدى أدبيا يضم كثيرا من الأدباء، مثل المرحوم "الشيخ محمد عبد المطلب" الشاعر الذي لازمه، وانتفع به وبتوجيهه الأدبي، ولقي منه تشجيعا ورعاية، وكان أكثر عشاقه ملازمة له وترددًا عليه، كما كان من عشاقه أيضا، والمصاحبين له المرحوم "محمد أبو النعمان بك"، والمرحوم "يحيى أبو بكر باشا"، وكانا أديبين من أعلام القضاء الأهلي امتازا بمراعاتهما في تطبيق أحكام القانون موافقته، أو قربه لأحكام الشريعة الإسلامية، كما كان منهم المرحوم "أحمد أفندي عبد الباري طاهر" الأديب الذي كان مدرسًا بمدرسة سوهاج مع زميله الشيخ "محمد عبد المطلب. ومما اقترحه الأدباء أن يشرح قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي مطلعها: أمن آل أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر وقد أفاض "قراعة" في شرحها ونقدها، والتعليق عليها فقام هؤلاء بطبعها والاحتفاظ بها. ثم نقل إلى وظيفة قاض بمديرية أسوان في فبراير سنة 1905م، وظل بها إلى سنة 1906م، حيث نقل قاضيا بمديرية المنصورة، فرئيسا لمحكمة بني سويف

الكلية الشرعية، ثم عين عضوا بمحكمة مصر العليا، فمديرا للأزهر والمعاهد الدينية، وقد بذل جهده في الإصلاح ما استطاع إليه سبيلًا. وكان أول ما عمله منذ شغل هذا المنصب أن سعى لمنح الشيخ "سيد بن علي المرصفي، عضوية جماعة كبار العلماء، فكان ذلك إنهاضا للأدب ويدا تشجع على المضي فيه "ولا يؤخذ إلا من مصادره". ثم أصبح مفتيا للديار المصرية، وذلك هو آخر ما تولاه من أعمال، وما أسند إليه من مناصب، حتى لستأثر الله به سنة 1349هـ، الموافقة 1391م. شعره: الشيخ "عبد الرحمن قراعة" شاعر مطبوع مشرق الديباجة متلاحم النسج متين السبك رائع التشبيه جزل العبارة رقيق المعنى واضح الغرض، يتدفق فيضه، ويجري بيانه في رقة وسلاسة ووضوح، فلا تعقيد في لفظه ولا التواء في غرضه ولا إغراب في معناه. وكان الشعر قد طوع له وأرخى له عنانه، وأسلس قياده فهو بوافيه على غير تكره وينقاد له وكلما، خطرت له خاطرة، أو بدت له بادرة، أودع ذلك شعره الرصين الفخم، وكم كان للعربية من هذه الثروة الضخمة من نفع وجدوى ولقراء الأدب وعشاقه من لذة ومتاع، لو مكنت لهم رواية شعره جملة والوقوف على ما خلفه جميعا، ولكن شعره تفرق بددا، وذهب شتيتا، فلم يجمعه أو يطلبه من الصحف والمجملات، وصدور الناس حريص عليه، وكل ما رأيته في ذلك كتيب صغير جمع طرفا من نثره، وشعره بعنوان "عبد الرحمن قراعة كأديب". وأيا ما كان فإنا لم نحكم هذا الحكم على شعره، إلا بدراستنا ما عثرنا عليه، وبتقليب النظر في كل ما تيسر لنا من مصادر مختلفة نثق بها. فمما قاله يبرئ نفسه مما رمى به لدى أستاذه الشيخ "محمد الإنبابي": أما آن أن تنسى الرباب وزينبا ... وتقلع عما كان في زمن الصبا

ألا تعتبر إذ كنت أجرد أمردا ... ودهم الليالي قد تركنت أشيبا ضلال وغي أن يلج بك الهوى ... فتقتعد الأخطار للهو مركبا إذا لم يكن شيب الفتى رادعا له ... فإن عناء أن تلوم وتعتبا وإن أحق الناس باللوم من دعا ... سواه إلى طرق الرشاد ونكبا تركت التصابي ضنة بمناقبي ... وصونا لعرض أن يشان ويثلبها وما أنا من طعن الحسود بآمن ... على أنه ما قال إلا ليكذبا أبت همتي أني أقارف سبة ... على مثلها لم ألف عما ولا أبا جزى الله بالحسنى عداتي فإنهم ... إذا حاولوا نقصي أزيد تأدبا ورب صديق قد تجنبت سخطه ... وآثرت ما يهوى خبيثا وطيبا تحرش بالعدوان في وقت حاجتي ... إليه وطبع المرء قد كان أغلبا وألب أعدائي بما وصلت له ... يداه ومنهم صار أنكى وأحربا ومن ضرسته الحادثات بنابها ... رأى أهوان الأشياء صديقا تألبا ومن خبر الأيام لم ير باقيا ... تمر به الأيام إلا تقلبا سأضرب صفحا عن مساويه أنني ... مقبل لعثرات الصديق إذا كبا وأدرك بالصبر الجميل مآربي ... فإن فات منها مأرب نلت مأربا وأركب متن الرمح في طلب العلا ... إذا لم أجد إلا الأسنة مركبا وأطرح كل الناس إن علقت يدي ... بحبل أمام الدين شرقا ومغربا ملاذي وأستاذي وكهي ومعقلي ... ووالد روحي البر إن شاء أو أبى "محمد الإنبابي" أبدى الورى يدا ... وأقومهم في نصرة الحق مذهبا وأوضحهم عند الدراية حجة ... وأعذبهم عند الرواية مشربا إلى أن يقول: خدمتك بالمدح الذي أنت فوقه ... وما أبتغي إلا رضاك مطلبا لعلك بالعفو الذي أنت أهله ... تمن علي من لم يكن لك مذنبا وهب أنني قارفت ما زعم العدا ... فاعراضك الماضي كفاني مؤبا حنانك إن الدهر صوب سهمه ... إلي فأصماني بما كان صوبا

وخلفني عن ساقة القوم بعد ما ... سبقتهمو نفسا وأصلا ومنصبا وصبرني ما بين أهلي ومعشري ... غريبا لفقدي ما ألفت معذبا فخذ بيدي تحمد صنيعك إنني ... رأيتك للمعروف أدنى وأقربا وكف يد الأيام عني فإنها ... لعمرك أبقت في نابا ومخلبا بمن أحتمي منها إذا أنت لم تجب ... ندائي وبعد الغيث لم ألف معتبا فكن يا رعاك الله بالموضع الذي ... عهدنك فيه أن تجيب وتطلبا ودم سالما للدين تحمي ذماره ... وللمجد توري زنده بعد ما خبا فهذه الأبيات من خير ما قيل في براءة النفس والتنصل من الذنب، وطلب الرضا والتماس العفو، وهي تجلو عليك صورًا كريمة من خلق الشاعر وغير سجاياه، فقد أبت همته أن يقارف سبة لم يقترف مثلها عمه، أو أبوه وهو يدعو بمجازاة الحسنى أعداءه، ويزيد معهم تأدبا كلما حاولوا انتقاصه، وما أروع تأثر النفس بما قصه من صديق تجنب سخطه، وآثر هواه إن خبيثا أو طيبا جازه في وقت حاجته، فأذاه بالتحرش بالعدوان، وألقى في نفوس أعدائه، وصار أشد منهم حربا وأنكى إيلاما، ويعرج بعد ذلك بنفس مكلومة، وقلب جريح إلى أبلغ العظات وأروع الحكم محدثا عن الصديق، والزمان متذرعا بالصبر يدرك به مآربه التي لا بد هو موف على طرف منها، ساعيا إلى العلا ولو كان مركبها الأسنة. ثم يتجه إلى أستاذه، فيخاطبه بكل ما يلين عطفه، ويلفت إليه قلبه ملتمسا منه صفحا لم يكن عن ذنب، وإذ يفترض نفسه مذنبا، فإنما يستعطفه بأبلغ الأساليب تأثيرا في النفس، فقد يكفيه مؤدبا إعراض أستاذه الماضي عنه، ثم يعرض عليه ما قد أصابه من فعل الوشاة، وما تخلف به عن ساقة القوم، وقد سبقهم بنفسه وأصله ومنصبه، وما زال يكرر له هول ما أصابه، وشدة إعراضه عنه، وتنكره له حتى أوفى على الغاية التي لا يصلها إلا الشعراء الفحول في قوة أسلوب، وبلاغة تصوير، وإشراق ديباجة، وحسن عبارة.

وإنك لتقرأ شعره، فتحس بروح الشاعر تطل عليك من خلال قصيدة، وتصافحك عاطفته الرقيقة، ويتمثل لك صدق إحساسه، حتى لتنطبع على شعوره، وتشاركه فيما ذهب إليه: واستمع إليه إذ يرثي صديقه "محمد سلطان باشا"، فيقول: كفى بي حزنا أنني صرت ناعيا ... لنفسي نفسا في فناها فنائيا فيا دمع أنجدني فما لي منجد ... سواك فأنى قد فقدت اصطباريا ويا حزن لا ترحل فما لك موطن ... تقيم به إلا صميم فؤاديا ويا حسرتى في كل يوم تجددي ... ويا لوعتي لازدت إلا تماديا ويا كبدي حزنا وبؤسا تقطعي ... ويا جلدي إن كنت لا زلت واهيا ويا صرف هذا الدهر جهدك إنني ... أمنت الذي قد كنت من قبل حاشيا فانظر كيف بلغ به الأسى مداه، وصور بك فجيعته بموت صديقه الذي نعاه لنفسه التي فناؤها في فنائه، وكيف استنجد بالدمع بعد أن فقد اصطباره واستبقى الحزن ليقيم بفؤاده، وأوصى الحسرة أن تتجدد، واللوعة أن تزيد تماديا، والكبد أن تتقطع حزنا وبؤسا، والجلد أن كان لا يزال واهيا، صرف الدهر أن يجهد ما شاء فقد أمن ما كان يخشاه "إن الذي تحذرين قد وقعا"، ثم انظر إلى هذه المعاني الرقاق التي يصور بها غفرانه زلات الدهر ما دام لم يكف عن صاحبه، وإغضاءه جفنه على القذى ما دام "أبو سلطان" باقيا: غفرت لك الزلات قبل؛ لأنني ... بكفك عن شخص العلا كنت راضيًا وأغضيت عما فات جفني على القدى ... لأن "أبا سلطان" قد كان باقيا ثم يمضي الشاعر، فيصور عظم الخطب فيه، وبلاغة الخسران بفقده فيقول: لك الويل كل الويل يا هر إنما ... تعطلت مما منه قد كنت حاليا عدوت على روض العلا فتركته ... هشيما ومن بعد الضارة ذاويا وأقفرت ربعا كان بالفضل آهلا ... فأصبح -لا كفران لله- خاليا

إلى أن يقول: فقدنا الندى لما فقدناه والحجا ... وفصل القضايا والتقى والمعاليا وكنت أرى نفسي وقيا فمذ قضى ... ولم أقض قد أيقنت أن لا وفا ليا وهذا المعنى الأخير من أبلغ المعاني الشعرية، وأروعها وأصدقها دلالة على الوفاء. ومما قاله يهنئ به الشيخ "محمد عبده" إذ عين في الإفتاء. بهديك للفتيا إلى الحق تهتدي ... ومن فيض هذا الفضل نجدي ونجتدي نمت بك للعلياء نفس أبية ... وعزمة ماض كالحمام المجرد ورأى رشيد في الخطوب وحنكة ... وتجربة في مشهد بعد مشهد وعلم كنور الشمس لم يك خانيا ... على أحد إلا على عين أرمد فضائل شتى في الأفاضل فرقت ... ولكنها حلت بساحة مفرد إلى أن يقول: أمولاي يا مولاي دعوة مخلص ... تقول فيصغي أو تؤم فيقتدي لكل زمان من بنيه تجدد ... لما أبلت الأهواء من دين أحمد وقد علم الأقوام أن محمدا ... مجد هذا الدين في اليوم والغد فهذا شعر رائق عذب سائغ مقبول، لا نبو فيه ولا قلق ولا غموض، ولا التواء وكان صديقه الشيخ "محمد عبد المطلب" قد أرسل إليه إذ نقل إلى أسوان شطر البيتين المشهورين: أمر على الديار ديار سلمى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا فكتب إليه "قراعة" هذا التشطير الرائع الرقيق فقال: أقضي الوقت أجمعه ادكارا ... لمن عنهم ترحلت اضطرارا

وأطفئ بالمدامع نار قلبي ... فتذكي أدمعي في القلب نارا وأطلب الاصطبار وأين مني ... منال الاصطبار ولا اصطبارا وألتمس الديار على التنائي ... كما قد كنت ألتمس الديارا ديار سكينة وأبى سكين ... ألا يا نعم ذاك الجار جارا1 رعى الله الوفاء ومن رعاه ... دنا أو شط راعيه مزارا ولا قرت عيون فتى يوالي ... جهارًا ثم لا يوفى سرارا ليهنك أن عهدك عهد صدق ... وإنك خير من حفظ الذمارا2 وإنك إن تمر بدار ليلى ... أحاد فقد مررت بها مرارا أمر بخاطري ومناي إني ... أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ... فأمسح بالدموع لها ثرارا وما همي الركون إلى الأماني ... ولكن حب من سكن الديارا وأرسل إلى صديق له يمدحه ويشكره إذ بعث إليه خطابا رقيقا حين كان عليلًا. شقيق الروح أهداني "سلامه" ... فألبسني به حلل السلامة فلم أر قبله أبدًا سلاما ... إذا وافى العليل شفى سقامه سكرت بطيب رياه فلولا ... تقاه لقلت أهداني المدامة فيا لك ناظما عقدا ثمينا ... يد الأفكار قد نسقت نظامه لقد أحرزت غاية كل سبق ... فما "عبد الحميد" وما "قدامه" إذا همت دعاة المجد يومًا ... بمكرمة تكون لك الزعامة ومن يحكي "سليمان" إذا ما ... دجى ليل الخطوب جلا ظلامه

_ 1 سكينه -كريمة الشيخ محمد عبد المطلب الشاعر. 2 الذمار -ما يلزم حفظه.

عزائمه تفل يد الليالي ... إذا امتدت لبغي أو ظلامة يسدد سهمه نحو المعالي ... فيدركها فما أمضى سهامه إلى أن يقول: كتابك للعليل وفي فوافي ... على قلبي الهنا وروى أوامه به عبرت عن حالي فشوقي ... على أشواقكم أبدا علامه به ابتدأ الشفا مما أقاسي ... وأرجو الله مولانا تمامه فهذه القطعة من أطايب الشعر، ورقراقه وأكثره ماء وأعذبه مذاقا، وقد استهل الأبيات بالتورية في لفظ "سلامه" هن معنيها سلام الصديق مضافا إلى الضمير، وسلامة التي هي بمعنى العافية -وختم الأبيات ببراعة المقطع في قوله "تمامه". ومن توريته اللطيفة ما كتبه على مسجد اليوسفي الذي أنشأه بأسيوط صديقه "أحمد شكري باشا"، إذ قال: مسجد اليوسفي تم بناه ... وفق أمر الخديو توفيق مصر فأقيموا الصلاة لله فيه ... واشكروا من بناه "أحمد شكر" فقد روي بأحمد شكر عن معنييه اسم صديقه وأبلغ الشكر. وقد يستعمل التاريخ في شعره لكلن بقلة كما في قوله يهنئ "محمود بك رياض" مدير أسيوط إذ ذاك. رياض المجد محمود رضاها ... ومن يحمي العدالة لا يهاض إلى أن يقول: تلقيا البشائر أرختنا ... يديم العدل محمود رياض .................................. ... 64 135 98 1011

ولعلك تلاحظ أن حرصه على التاريخ أضعف الشعر الذي حواه، وذهب بالجمال الذي ألف في شعره. وأرسل إليه أيضا مهنئا بعيد الفطر، فكان مما قاله: مولاي عيد الفطر أورق روضه ... وجرت مياه سروره بحياضه وسعى ليخدم منك أكرم ماجد ... وليستميح الجود من فياضه فاهنأ به في ظل والدك الذي ... بالعدل داوى القطر من أمراضه فبشيره بك قد أتى تاريخه ... العيد محمود بعز رياضه ....................... ... 115 98 79 1016 سنة 1308 وهي أبيات ضعيفة واهية، وعسى أن يكون "التاريخ" هو المسئول عن تهافتها، وربما أودع شعره مسائل من العلم، وجوابا عنها وهي إذ ذاك نظم ليس فيه روح الشعر ولا روعته، ولكنك تجده مقبولا سائغا كما في سؤال وجهه المرحوم الشيخ "محمد الأمير"، وأجاب عليه فنسج "قراعة" برد السؤال والجواب، فقال في السؤال: على قبر نعمان همت ديمة الرضا ... وعمت أهاليه وجملة حزبه فهم حرموا عرسا إذا مس أمها ... بغير جماع بل بشهوة قلبه فلما حمى حر الوطيس بقلبه ... وفار وفاض الماء من عين سكبه نفوا عنه تحريما فما السر أرشدوا ... فتى في فتاويكم شفاء للبه وقال في الجواب: ألا أيها المولى الذي بحر فضله ... تزاجمت الألباب في ورد عذبه سألت عن المعنى الدقيق وطالما ... كشفت الغطا عن مشكل الأمر صعبه

فخذ مدرك النعمان عني وإن أكون ... إذا ذكر الأتباع أضعف حزبه همو أثبتوا تحريم عرس بمسه ... لابنتها اشتهاها بقلبه لأن مساس البنت داع لوطئها ... وبالوطء داعي الجزء قام فخذ به ولم يثبتوا التحريم إن كان مسه ... لها باشتهاء مع إفاضة عزبه لتحقيقنا أن المراد بمسه ... إذن شهوة تقضي تدور بصلبه وهذا الذي أدركته من كلامهم ... وأبصرتهم قد قرروه بكتبه وقد يطول نفسه في الشعر، ويتدفق معينه كما في قصيدة الحج التي يقول في مطلعها: على حقوق للمطي الرواسم ... تطالبنيها كل حين عزائمي فقد بلغت ستة وسبعين بيتا نثره: ولقراعة النثر الرائع الرصين الذي يضارع أرقى الأساليب في فصاحة تعبيره، وروعة معناه وحسن رصفه، وصفاء مائة، وبعده من التكلف ونقائه من الطلاء والزخرف. ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذه الشيخ "الإنبابي" ينفي عن نفسه ما رمي به من عقوق، وما اتهم به من طعن. كتابي إلى المولى أطال الله بقاءه، وأنا أحمد من جثا على ركبتيه وانتفع بعلمك، وأخذ عن تلامذتك، وعرف لك جزيل حقك، حين تفاقم الخطب واشتد الكرب، وشمخ بأنفه الحاسد، وصغر خده الشامت، وسيدي وقاه الله ما يكره -يعلم أن الأعراض هي الزجاج لا يجبر كسرها، ولا يرأب صدعها والدنس إن لحقها لا يغسل بالأشنان، ولا يزول بتقادم الزمان، ومولاي أعزه الله هو الوالد المبرور، والناقم المشكور والعاتب الذي نتوخي

رضاه والغاضب الذي نخشى أن يحر غضبه علينا غضب الله، وهو القدوة الذي يتبع في فعله، ويتيمن برأيه، ويرجع إلى قوله، فلا أظن أن يرضى بأن يمزق في مجلسه أديمي، ويستباح ما حرم الله من عرضي، وأقذف بما أوجب الله فيه الحد وينتهك من حرمتي ما الله يعلم أنني منه براء، ولو شاء لعاملني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} -الآية- "فوضح له الحق الذي لا يجهله والرشد الذي لا ينكره، وعلم أن من وسموا أنفسهم بتتبع العثرات، وكشف العورات إنما صنعوا هذا الصنيع حين علموا أن النقلة أمثالهم، والسفلة أشباههم أشاعوا عني لهذه الحضرة سابقا أني أسأت الأدب بشعر صنعته، وهجو قلته فانتهزوا هذه الفرصة الآن، وذهبوا مذهبا آخر يغبرون في وجه الحق، ويدفعون في صدور اليقين، والله من ورائهم محيط ... إلخ. وإنه وإن كان السجع يتمثل في مثل هذه الكلمة تجد أنه سجع مطبوع لا يتسم بسمة التكلف والقصد، ولا يطلبه الكاتب على تكره واستعصاء، وقد يبذل جهدا في طلب السجع، ويحرص عليه لكن ذلك غير ملتزم في الموضوع كله، ولا ينفر الذوق منه، أو تنبو الأسماع عنه، كما قال في رسالة أرسلها لبعض أصدقائه الشيوخ يستعطفه، ويطلب مساعدة محتاج في طلبته. أخي - أبى الله إلا أن أكاتبك إذا عرضت مهمة، وعنت حاجة، كلمة بالغة، وقدر لا مفر منه ومحنة منيت بها، وسمتني بميم الجفاء، الذي طالما كنت أنبو عنه، ولعل اعترافي بجنابتي يوصلني للإغضاء عنها، وهنا أعجل بعرض حاجتي. رافع هذا "فلان" كاده الشيطان من "فلان" بالخبل الخابل، والبلاء النازل العاجل، والداهية التي تصفر منها الأنامل، فلم يستجب لراق ولم ينفع في سمه درياقي، فسدت في وجهه السبل وأعيته الحيل، إلا ما كان من الأمل في الأستاذ الأعظم شيخ الجامع الأزهر، فرغب إلي في مخاطبتكم فأجبته مستمنحا شافعا لجوابكم السابق، وواجب مساعدته بما في الوسع، وقد نبهتك ورقدت، ودعوتك للخير وما دعوناك له إلا أجبت والسلام.

الأزهريون أساتذة شعراء العصر

الأزهريون أساتذة شعراء العصر مدخل ... الأزهريون أساتذة شعراء العصر: كان جل شعراء العصر الحاملون لواء الشعر المعبرون به عن معاني الحياة حسبما تواتي لهم من القرائح، وتهيأ لهم من الأسباب من الأزهر، رضعوا أفاويقه واغتذوا بثقافته العربية، ومن الطبعي أن يكونوا وهم بهذه المثابة قدوة الناشئين، وإمام المبتدئين يهتدون بتراثهم، وينشأون على غرارهم وينزعون في قوسهم، ولو جهدوا في المخالفة وجدوا في المجافاة، وليس ينكر أثر المتابعة والاقتداء في الأفكار والأساليب، وشعراء الأزهر إذ ذاك زعماء يوجهون وقادة يتبعون، فليس بدعا أن يسايرهم غيرهم وأن يدرجوا على أساليبهم، ويمضوا في طريقهم صعدا، وإذا ساغ لفريق من الشعراء المعاصرين أن يتخطوا الأجيال، والعصور إلى شعراء الجاهلية، فيقلدوهم في طريقتهم، وينزعوا إلى محاكاتهم، ويديروا شعرهم على أسلوب العرب الضاربين في الفلا والبيد، فيتغنوا بالعيس ويخاطبوا النؤى ويسائلوا الدمن والأطلال، ويتشمموا الشيح والعرار على طول الزمن وترامي الأمد إذا ساغت المتابعة على انقطاع ما بين التليد والطارف، والماضي والحاضر، فأولى بها أن تكون بين معاصر ومعاصر وأولى بالتأثر أن يكون بالشاعر الذي يرى ويشاهد، ويقول ويسمع، ويغشى ناديه ويتلقى أدبه بالمشافهة والاستماع. وإن الأبصار لتقلب في دواوين القدامى، وتغوص في آثار الراحلين على انقطاع الصلة طلبا للاقتداء والتماسا للمحاذاة، وأقل من ذلك عناء للشاعر أن يلي داعي المسايرة لشعر يطرق سمعه بالرواية المعاصرة، ويصافح إذنه من ألسنة قائليه، ويتهادى إليه في الصحف كلما سنحت فرصة، أو واتت مناسبة. هذا وقد كان فريق من فحول اللغة والأدب في الأزهر أساتذة الرعيل الأول من نابهي الشعراء في هذا العصر الرافعين علمه المقيضين له أسمى وأرفع المنازل، أخذ هؤلاء الشعراء الذين تفاخر بهم العربية، وتباهي بهم

مصر حواضر الأدب في أزهى عصورها عن أساتذة من الأزهر، فانتفعوا بعلمهم واسترشدوا بنقدهم وتملأوا من روايتهم، ونزعوا منزعهم، وجروا مجراهم في تفهم الشعرا، واكتناه اللغة والتفطن لمواطن البلاغة، وتيسر لهم بهؤلاء الأساتذة ضروب من التوجيه وألوان من التشجيع، بل وجدوا منهم ما خلق من ملكاتهم الخصبة أسباب الخلود مما لا لولاه لظلوا مغمورين، وعاشوا غير مجلين. وسنبين في هذا البحث كيف استمد هؤلاء من أساتذتهم الأزهريين حياتهم، وكيف نهلوا من فضلهم وعلوا.

المرصفي والبارودي

المرصفي والبارودي: كان الشيخ "حسين المرصفي" ذا شهرة بالعلم وصيت بالأدب، وكانت الزعامة قد انعقدت له في التوجيه والنقد، وغزارة العلم والبيان يؤمه كتاب وشعراء ويقصده علماء وأدباء، ويعرض أدبهم عليه فحول الأدب البيان. "والبارودي" ممتلئ منذ نعومة أظفاره حبا للأدب، وإيثارًا للشعر وهوى للبيان، وما من شك في أن هواه هو الذي احتثه على "المرصفي" احتثاثا، واجتذبه اجتذابا يجد في درسه وتوجيهه، ونقده ما ينقع غلته ويروي صداه. ولقد جهدت في تحديد الصلة التي كانت بين "المرصفي"، و"البارودي" وعنيت بها كيف نشأت وعلى أي وجه كانت، وأين كان الرجلان يلتقيان؟ ولكن جوابا عن شيء من ذلك لم يتيسر لي فيما قرأت واستقرأت، فقد يعرف كثير من الأدباء أن "للبارودي" صلة "بالمرصفي"، وأن للأول بالثاني انتفاعًا، فقد استفاض الحديث عن ذلك حتى تحدث الشاعر نفسه به، ولكن تحديد هذه الصلة وبدءها وكنهها غامض، فلعل "البارودي" ليساره، ونعمته كان قد سعى لاستقدام الشيخ في منزله، والانفراد به في كل مكان هادئ يمكن للتلميذ من الانتفاع بأستاذه، ويهيئ له أسباب النفع والتوجيه، ويجد من أستاذه كلما وفد إليه معلما يعلمه، وهاديا يهديه، ومهذبا يصقل أدبه ويجلو بيانه. ويتحدث الأستاذ "الرافعي" عن صلة "البارودي" "بالمرصفي"، فيقول: ومن عجيب أمره "البارودي" ما تراه فيما يكتبه عنه الشيخ "حسين المرصفي" منذ ثلاثين سنة، وهو أستاذه1".

_ 1 المقتطف الصادر في 26 من ذي القعدة سنة 1322 الموافق 1 فبراير سنة 1905م.

ويقول الأستاذ "عباس العقاد" أن "المرصفي" أستاذ البارودي، وحافظ وقدوتهما في الرأي والنقد، وتذوق الكلام1. ويقول المفصل: "وأخذ عن "المرصفي" كبار المتأدبين في عصره من البارودي، فصاحبوه ولازموه، وعرضوا عليه بيانهم فهدى ونقح وهذب". "والمرصفي" حين يتحدث عن "البارودي" يدل على أن "البارودي" "تلقى عنه وتعلم منه، فإنه يقول": إن "البارودي" لم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية غير أنه لما بلغ سنة التعقل، وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع لبعض من له دراية، وهو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة قصيرة هيئات التراكيب العربية، ومواقع الموفوعات منها والمنصوبات، والمخفوضات حسبما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن"، ولم نعرف أن "البارودي" اتصل بغير "المرصفي" ممن له دراية، أو قرأ بحضرته دواوين الشعر. ويقول: وسمعته مرة يسكن ياء المنقوض والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعرا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدا شريفها من خسيسها، واقفا على صوابها وخطأها، مدركا ما ينبغي وفق الكلام وما ينبغي1. "فالمرصفي" يتحدث عنه حديث خبير به، ويدل على أن "البارودي" كانت له معه دراسة، وانتفاع وأن "المرصفي" كان يراجعه، ويوجهه وينقده وما أظن إلا أن "البارودي" قرأ هذه الدواوين الضخمة عليه، وسمعه ينقدها ويعلق عليها، ويبدي رأيه فيها -"والبارودي" يقدر صلته بأستاذه، وبفي حق الوفاء له، يقول "المرصفي": وكان حرسه الله كتب لأبناء وده كتبا، وهو في

_ 1 الوسيلة الأدبية الجزء الثاني ص474.

حرب الروس ولم تصل إليهم، وظن وصولها وتقصيرهم عن المبادرة بالإجابة، وقد وصل إلى أحد كتابين كتبهما لي يوم قدومه إلى مصر بعد مدة من كتابته1، ومطلع هذه الأبيات. يا ناعس الطرف إلى كم تنام ... أسهرتني فيك ونام الأنام ويقول فيها: طال النوى من بعدكم وانقضت ... بشاشة العيش وساء المقام مولاي قد طال مرير النوى ... فكل يوم مر بي ألف عام إلى أن يقول في ختامها: فتلك حالي لا رمتك النوى ... فكيف أنتم بعدنا يا همام؟ ويقول "المرصفي"، وقد شرفت عناية وده أسمى بهذه القصيدة التي يقول فيهما: بلوت ضروب الناس طرا فلم يكن ... سوى "المرصفي" الحبر في الناس كامل همام أراني الدهي في طي برده ... وفقهني حتى اتقتني الأماثل أخ حين لا يبقى أخ ومجامل ... إذا قل عند النائبات المجامل بعيد مجال الفكر لو خال خيلة ... أراك بظهر الغيب ما الدهر فاعل طرحت بني الأيام لما عرفته ... وما الناس عند البحث إلا مخايل فلو سامني ما يورد النفس حتفها ... لأوردتها والحب للنفس قائل فلا برحت مني إليه تحية ... يناقلها عني الضحى والأصائل ولا زال غض العمر ممتع الذرا ... مريع الفنا يطوى إليه المراحل يقول "المرصفي": وعلى أن ليس من طبعي أن أقول الشعر، إما لفوت أوان تحصيل وسائله، ولم تكن إذ ذاك دواع ترشد إليه، وإما؛ لأن الاستعداد

_ 1 الوسيلة الأدبية ج2 ص497 -وأرسل الباوردي إلى المرصفي قصيدة أخرى يقول في مطلعها: هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوجد

الذي لا بد منه لم يكن في خليقتي أنطقني حبه بأبيات أجملت فيها صفته وهي: زكا أميري طبعا واعتلى شرفا ... فدار حيث تدور الشمس والقمر ونال ما نال عن كد الرجال فلا ... من عليه لشخص حين يفتخر بفضله كل أهل الأرض معترف ... كما تصادق فيه الخبر والخبر لا يجهل الرتبة العلياء يعمرها ... ولا يتيه بها ما أعظم الخطر صحبته وهو سر في مخايله ... حتى تخير من أعلائه الكبر فما أخذت عليه شبه بادرة ... ولا تخيلت أمرا منه يعتذر أدامه الله نقني من فضائله ... ومن فواضله ما أنبت الشجر

الشيخ البسيوني وشوقي

الشيخ البسيوني وشوقي: قل أن نتكلم عن انتفاع أمير الشعراء المرحوم "أحمد شوقي بك" بثقافة الأزهر، والأخذ من بعض من أساتذته نقدم بكلمة عن الشيخ "محمد البسيوني" أستاذه، فإن الحديث يدور عليه. من هو "البسيوني"؟: الشيخ "محمد البسيوني البيباني" ينسب إلى "بيبان" قرية من قرى "البحيرة"، ولد بها في منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبا، وبعد أن حفظ القرآن أشخص إلى القاهرة لطلب العلم في الأزهر، وما أن استقر به المقام بين جدرانه حتى طفق يدرس على أساتذته مختلف العلوم العقلية والنقلية، ولازم شيوخه بالأزهر سنين يقرأ عليهم أمهات الكتب في الفنون التي كانت تدرس إذ ذاك حتى حذقها، ولما نضجت كفايته، واكتملت مقدرته تصدر للتدريس، فكان معدودا من جلة الأساتذة، وامتاز الشيخ بنوح خاص في دراسة العلوم العربية، فكانت له طريقة في التدريس لم تكن

معهودة في ذلك العصر إذ يعمد إلى جوهر الموضوع، فيبرزه في أبهى حلة ويجليه الطلاب غاية التجلية باحثا في سره دون التعرض للضجة اللفظية، ولغط الكاتبين، وقد ظهر أثر هذه الطريقة في كتابه "حسن الصنيع" الذي ألفه في المعاني والبيان والبديع، وكتبه بأسلوب أدبي رقيق. وجاوزت شهرته العلمية والأدبية المحيط الأزهري إلى أفق غير الأزهر، فأسندت إليه نظارة المعارف تدريس علوم اللغة العربية بالمدرسة التجهيزية "الخديوية". واختاره الجالس على العرش الخديو "توفيق" إماما لحضرته ومدرسا لأنجاله، فقام بما عهد إليه خير قيام. ثم أسند إليه مع عمله هذا تدريس اللغة العربية بمدرسة الإدارة التي سميت فيما بعد "مدرسة الحقوق"، وكان من بين تلامذته النابهين في هذه المدرسة المرحوم "أحمد زكي"، والمرحوم "أحمد شوقي بك"، وكان يدرس علوم البلاغة في مصنفه المسمى "حسن الصنيع". ثم عين الشيخ "البسيوني" مفتيا للمعية السنية، وظل في وظيفته هذه إلى أن جاور ربه في ليلة الخميس 13 من ربيع الآخر سنة 1310هـ، الموافقة 3 من نوفمبر سنة 1812م في عهد الخديو "عباس الثاني" رحمه الله تعالى. شعره والعوامل المحيطة به: في أثناء هذه الحقبة التي قضاها "البسيوني" في خدمة بيت الملك كان يقرض الشعر في مدح الخديو، كلما حل موسم أو أهل عيد، أو بدت فرصة وقلما نظم الشعر في غير هذه الأغراض. ولم يكن من الميسور له وهو من رجال الملك، وخلصائه أن يتعرض في شعره إلى السياسة إلا بقدر يسير جدا، كما لم يكن من المستطاع وهو من رجال الدين أن يتحدث إلا قليلا عن اللهو والخمر والنساء، وما لا يتفق مع جلال الدين ووقار العلم، لذلك جاء شعره في دائرة ضيقة، فلم نعثر له على

شعر إلا في المدائح والتهاني، وغيرها مما تنشره له الوقائع المصرية مما كان يزجيه لصاحب العرش. وفيما وقفنا عليه يهنئ بها الخديو "توفيق" بعودته من الإسكندرية إلى العاصمة بعد إخفاق الثورة العرابية، ووقوع الثوار في قبضته. وفي هذه القصيدة يؤرخ العودة بسنة 1299 هجرية، ويضفي على وليه حللا من الثناء، ثم يعرض إلى الثوار فينال منهم ويسفه أحلامهم، وإلى الثورة فيصف مآسيها وشرها، وأخيرا يكل أمر هؤلاء الخارجين على طاعة ولي الأمر في أسلوب جيد بالنسبة لعصره، ويقول في مطلعها: رجوعك يا توفيق مصر هناؤها ... وشمس بهاها دائما وضياؤها 1299هـ. فأنت خديويها وأنت مليكها ... وأنت لها من كل سقم شفاؤها وأنت لها حصن على رغم حسد ... وأنت لها بدر وأنت سماؤها وما في إلا روضة وفكاهة ... وما أنت إلا حسنها وازدهاؤها وأنت لها إنسان عين حياتها ... ولولا تلاقيها لخيف عناؤها وما هي إلا جثة أنت روحها ... وما أنت إلا مجدها وملاؤها وما مثلها إلا لمثلك ينتمي ... فيسمو بها بين الأنام انتماؤها لبعدك كم قاست لعمري شدائدا ... فاضت إلى أن تستباح دماؤها ولولا تلافيها لأصبح تالفا ... بقية أهليها وعز نماؤها وأضحت لأرواح الرياح ملاعبا ... وما طاب فيها للمقيم هواؤها ومنها: على عصبة البهتان لا تأس إذ هوى ... بها في مهاوي الموبقات افتراؤها فقد خلعت ثوب النجاة مذ اكتست ... ثياب الردى جهلا وبئس اكتساؤها

وحيث أبت إلا هواها سفاهة ... وساق لها الأخذ الوبيل شقاؤها رأيت لها رأي الملوك فأصبحت ... وقد ساءها إصباحها ومساؤها فإن شئت فاصفح أو إذا شئت فانتقم ... فمنك بقاها لو تشا وفناؤها شوقي ثمرة البسيوني: حين تولى الشيخ "البسيوني" تدريس اللغة العربية بمدرسة الإدارة "الحقوق"، كان بين تلامذتها، "أحمد شوقي بك"، "وأحمد زكي باشا" كما قلنا فانتفعا بعلمه وغنيا بثقافته، وتفطن الأستاذ إلى الموهبة الشابة في نفس شوقي، فأقبل عليها بالتوجيه، ويحدثنا "أحمد زكي باشا" في حفل تأبين شوقي الذي أقامته وزارة المعارف في ديسمبر سنة 1932م، بأن الشيخ البسيوني أستاذهما في فنون البلاغة كان لا تخطئه النكتة البارعة اللاذعة، أو الساحرة الساخرة، وما لبث أن رأى في تلميذه شوقي بواكير العبقرية وبوادر المواهب الربانية، فأنشا يعرض قصائده على تلميذه شوقي بواكير العبقرية، وبوادر المواهب الربانية، فأنشا يعرض قصائده على تلميذه قبل أن يرسلها إلى المعية السنية، وإلى جريدة الوقائع المصرية وغيرها من الصحف العربية، وكان شوقي ببساطة التلميذ الناشيء يشير بمحو هذه الكلمة، وتصحيح تلك القافية، وحذف هذا البيت، وتعديل ذياك الشطر والأستاذ يغتبط بقوله، وينزل على رأيه. ويقول "أحمد زكي باشا"، وأحسن ما أذكر لأستاذي البسيوني رحمه الله أنه كان يتحدث بذلك إلينا، وإلى الفرق المتقدمة علينا، "وفيها أصحاب السعادة عثمان باشا مرتضى، وأبو بكر يحيى باشا، وعلي ثاقب باشا، وشاكر بك أحمد" دون أن تأخذه العزة بالإثم، وأن يغريه الكبرياء اللازم للمدرس بإنكار الفضل الذي منحه الله للدارس، فهذه أول سعادة أحرزها "شوقي". أجل هذه أول سعادة أحرزها، فما من شك في أن إقبال الشيخ البسيوني على شوقي، وتنزله معه إلى هذا الحد قد ملأ نفسه ثقة بشاعريته، وإيمانا بموهبته وكان أول ما أخذه بيده إلى النهوض، وشجعه على المضي في سبيل مجده صعدا ناشئ يدني الأمل من نفس التلميذ، ويوطئ له أسباب المجد والسعادة مثلما

تفعله رعاية أستاذه البار الكريم الطيب النفس النزيه المسلك، الخبير بأسلوب التربية وطرق التشجيع. على أن الأستاذ البسيوني تحدث بهذا النبوغ الباكر إلى صاحب العرش، وأفهمه أن بين أثواب هذا الفتى الناشئ براعة نادرة، وذكاء فذا، وأنه خليق بالرعاية العالية ليكون زهرة يتضوع شذاها في مشارق الأرض، ومغاربها وكانت هذه الشهادة من أكبر الأسباب التي حفزت الخديو "توفيق" في سنة 1887 إلى إيفاد شوقي إلى باريس ليتم دراسته على نفقته الخاصة، ولتغذية مواهبه بروائع الغرب وبدائعه، وقد تحققت به وفيه الآمال، فكانت هذه ثانية السعادات. ومن هنا نرى أن الأزهر ممثلًا في شخص الأستاذ "البسيوني"، هو الذي كشف عن هذه القوة الكامنة في نفس شوقي، وهو الذي تهدى بشاعرية أشد أبنائه وفراسته إلى عبقريته أكبر الشعراء، فوجهها التوجيه الصالح، وتعهدها حتى نمت وأزهرت وأنبتت نباتا حسنا، وأثمرت ثمرًا لا يفنى ولا يبيد. وجميل حقا أن يتفطن شيخ أزهري لم ير مفاتن الغرب، ولم يكتحل بمشاهده ومجاليه، إلى ما يجب لشوقي أن يطلع عليه من روائع باريس وحضارتها، ومباهجها ومفاتنها، فيشير على ولي الأمر بإرساله إليها ليتسع أفقه، ويخصب خياله ويمتلئ خاطره بأسباب القول ودواعي الشعر. فلا عجب إذن أن يكون شوقي أمير الشعراء من أفق الأزهر، وثمرة من ثماره أو فكرة من أفكاره. اعتراف شوقي: ولشوقي حديث آخر بصدد الأزهر يشهد بحسن تقديره لهذا المعهد العظيم، وإجلاله لمهبط أساتذته، فقد أقيم حفل لتأبين المرحوم "عاطف

بركات باشا" بمدرسة المعلمين العليا في الخميس الثالث عشر من صفر سنة 1343هـ، الموافق الحادي عشر من شهر سبتمير سنة 1924، وأرسل أمير الشعراء قصيدته لتلقي في الحفل، وكان مما قاله فيها: وحارب دونها صرعى قديم ... كأن بهم على الزمن انقطاعا إذ ألمح الجديد لهم تولوا ... كذي رمد على الضوء امتناعا وكان في الحفل صفوة من رجال مصر، وجمهرة من شيوخ الأزهر منهم فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وفضيلة مفتي الديار المصرية إذ ذاك، فعدوا ذلك جرحا لكرامتهم وطعنة في صدورهم، وكتب أحد علماء الأزهر إذ ذاك مقالًا بعنوان "أمير الشعراء"، ورجال الأزهر -للحقيقة والتاريخ. "نشرته جريدة الأخبار بتاريخ 17 من صفر سنة 1343هـ المواهفق 6 من سبتمبر سنة 1924"، وقد كانت براعته رمحا رد بينيا شك أمير الشعراء الذي نفى عنه الكاتب أن يكون كنادبة المسجي التي تجامل الحاضرين بذكر شيء من محاسن موتاهم، وقد ظهرت جريدة الأخبار بعد هذا المقال بيوم واحد، وفي صدرها حديث لأمير الشعراء ينفي ما فهمه صاحب المقال من تنكر شوقي للأزهر، ورجاله فكان مما قاله، "وما أنا من ينسى أن معظم أساتذة مدرسة القضاء نفسها في العلوم الشرعية بوجه خاص، كانوا من شيوخ الأزهر ورجاله، وليس من المعقول أن يكون هؤلاء الأفاضل حربا عليها، وهم في النهوض بها شركاء. إن للأزهر عندي حرمة لا أحب أن يتشكك فيها الأستاذ، وأعتقد أن الأزهر قد سد فراغا كبيرا كان التعليم في مصر، والبلاد الشرقية جميعا لا يرجو له بدون الأزهر من سداد. وسأظل فخورًا دائما بأن من أساتذتي شيوخا من صميم الأزهر الشريف، وكبار علمائه. ذلك هو ما قاله شوقي تلافيا لما عساه أن يكون قد فهم من قصيدة التأبين.

وإفصاحا عن تقديره الأزهر الذي يفخر أمير الشعراء بأن فيه أساتذة من شيوخه. على أن أمير الشعراء أراد أن يزيد في تأكيده تقدير الأزهر، وينفي عنه مظنة النيل من أبنائه، فالتمس إصلاح الأزهر في أقرب فرصة، ونظم آيته الكبرى التي قالها في نفس العام الذي أدلى فيه بحديثه عن الأزهر، ويقول فيها: قم في فم الدنيا وحي الأزهرا ... وانثر على سمع الزمان الجوهرا واجعل مكان الدر إن فصلته ... في مدحه خرز السماء النيرا واذكره بعد المسجدين معظما ... لمساجد الله الثلاثة مكبرا1 واخشع مليا واقضي حق أئمة ... طلعوا به زهرا وما جوا أبحرا كانوا أجل من الملوك جلالة ... وأعز سلطانا وأفخم مظهرا زمن المخاوف كان فيه جنابهم ... حرم الأمان وكان ظلهم الذرا2 من كل بحر في الشريعة زاخر ... ويريكه الخلق العظيم غضنفرا ثم يقول: يا معهدا أغنى القرون جدارة ... وطوى الليالي ركنه والأعصرا ومشى على يبس المشارق نوره ... وأضاء أبيض لجها والأحمرا إلى أن يقول: عين من الفرقان فاض نميرها ... وحيا من الفصحى جرى وتحدرا ما ضرني أن ليس أفقك مطلعي ... وعلى كواكبه تعلمت السرى وهو يشير في هذا البيت إلى أنه، وإن لم يكن طلع في أفقه، ودرج في رحابه فقد اهتدى بأساتذته، وتعلم السرى على كواكبه ثم يقول: لا والذي وكل البيان إليك لم ... أك دون غايات البيان مقصرا

_ 1 المسجد الحرام والمسجد الأقصى. 2 الذرا الملجأ.

شوقي وكتاب الوسيلة الأدبية: وما دمنا بصدد انتفاع أعلام الشعر بأساتذة الأزهر، وجهودهم الأدبية في هذا العصر، فقد يطيب الحديث عن هذا الكتاب الذي نهل منه "شوقي"، و"حافظ" وكان الكتاب الأول الذي راض خيال شوقي، وصقل طبعه، وصحح نشأته الأدبية، كما كانت منه بصيرة "حافظ". وليس سر هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة، ومختارات الشعر والكتابة فقد كان ذلك في مصر قديما، ولم يخرج لها شاعر مثل شوقي، ولكن السر في هذا الكتاب من شعر "البارودي"؛ لأنه معاصر والمعاصرة اقتداء ومتابعة، وقد تقضت القرون الكثيرة، والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره، ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره، ولا يستفتح غير الباب الذي فتح له إلى أن كان البارودي، فجاء بذلك الشعر الجزل الذي نقله "المرصفي" بإلهام من الله تعالى ليخرج للعربية "شوقي وحافظ"، وغيرهما، فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشيء، فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في نفسه ما فيه ذكاء وطبع، وبهذا ابتدأ "شوقي وحافظ" من موضع واحد، وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر1.

_ 1 من مقال للمرحوم مصطفى صادق الرافعي في المقتطف الصادر في 2 من رجب سنة 1351 "أول نوفمبر سنة 1932م".

الشيخ محمد عبده وحافظ

الشيخ محمد عبده وحافظ: "حافظ" رحمه الله أحد الشعراء الذين تفخر بهم العربية في هذا العصر، ولواء من ألوية الشعر الخفاقة في هذا الجيل، وقد كان هبة الإمام "محمد عبده" إلى الحياة، وغرسه الذي نما في رعايته. فحين عاد "حافظ" من السودان إلى مصر واستقال من الجيش، اتصل بالشيخ "محمد عبده" وفرغ للأدب، فبدأ من ثم تكوينه الأدبي المندمج المحكم، وكان شعره من قبل ظاهر المتكلف، واهن النسج مضطرب الفكرة لم تنضج موهبته، ولم تشرق عبقريته. درس في مدرسة الشيخ "محمد عبده" من سنة 1899م إلى سنة 1905م، وهذا الإمام رحمه الله كان من كل نواحيه رجلا فذا1، وكأنه نبي متأخر عن زمنه فأعطى الشريعة ولكن في عزيمته، ووهب له الوحي ولكن في عقله، واتصل بالسر القدسي ولكن من قلبه، ولولا هو ولولا أنه بهذه الخصائص لكان "حافظ" شاعرًا من الطبعة الثانية، فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب الإلهام من كل عظيم يعرفه، وكان له من أثرها الشعر المتين في وصف العظماء العظائم. إلا أن حافظا وجد في الإمام ما هو أسمى من ذلك في النفس والجاذبية، وبهره منه ما هو عليه من ذوق الأدب والبلاغة، وحضر دروس الإمام في المنطق وأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، فنضج منها أسلوبه المتكن، وذوقه الدقيق ولازمه وحضر مجالسه، فكانت مادة موضوعاته الاجتماعية وأغراضه الوثابة، وكشف له من الشيخ عن آراء في الفكر والسياسة، والمسائل التي تشغل مصر والشرق، فطبع عليه متأثرا بها، وحضر نظرات عينية، وخرج

_ 1 نقلنا ذلك عن بحث للمرحوم مصطفى صادق الرافعي في المقتطف "20 من ذي القعدة سنة 1343هـ -أول يونيه سنة 1926م".

منها بروحانية قوية هي التي تتضرم في شعره إلى الأبد، فحافظ إحدى حسنات الشيخ على العالم العربي، وهو خطة من خططه في عمله للإصلاح الشرقي الإسلامي والنهضة المصرية الوطنية، وإحياء العربية وآدابها، وإذا ذكرت حسنات الشيخ، أو عدت للتأريخ وجب أن يقال أصلح، وفعل وفسر القرآن، وأنشأ حافظ إبراهيم. على أن إذن الإمام هي التي أتمت ملكة الشعر في "حافظ"، فقد ألف أن يسمعه شعره، واعتاد أن يعرض على ذوقه الأدبي المصقول كل ما يقرضه، وصار ذلك طبعا في "حافظ" حتى إنه ليستحسن مواطن الأدباء والشعراء في المجالس، والأندية كي يسمعهم نظمه. وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد نظم أول عهده بالشعر قصيدة في مدح الإمام، وأنفذها إليه ثم لقي "حافظا" فقال "حافظ": إنه تلاها على الإمام وإنه استسحنها، فقال له الرافعي: فماذا كانت كلمته فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها فاضطرب شيطان الرافعي من الغضب وقال: إن الشيخ ليس بشاعر فليس لرأيه في الشعر كبير معنى، فقال له "حافظ": ويحك إن هذا مبلغ الاستحسان عنده، قال الرافعي -قلت "لحافظ": وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال: أعلى من ذلك قليلًا، فأرضاني والله أن يكون بيني وبين "حافظ" "قليل"، وطمعت من يومئذ، وأنا أرى أن "حافظ إبراهيم" إن هو إلا ديوان الشيخ محمد عبده لولا أن هذا لما كان ذلك1.

_ 1 الرسالة المجلد الثاني ص1882.

منتدى للشعراء يقرضون شعرهم على أذنه الموسيقية التي يؤذيها نبو الوتر، وكذلك كان "قراعة" اتخذ من بيته كلما حل ناديا للأدباء والشعرا، وكان "عبد المطلب" ألصق الناس وأكثرهم ملازمة له، وهو يحدث بذلك في ديوانه إذ يقول: "وكانت بيني وبين الأستاذ الكبير الشيخ "عبد الرحمن قراعة" صداقة انعقدت بيننا منذ سنة 1897م، وكنت من الذين يعرفون فضله في العلم والأدب، فلا غرو أن ترى لي فيه قصائد عدة". أهديت إليه خلعة تشريف العلماء، فقلت أهنئه: أجد عهدك بالتشبيب بالغيد ... وجد يجد يتحنان الأغاريد ويقول في هذه القصيدة مادحًا "قراعة": وللفصاحة من ألفاظه درر ... تعلو فرائدها من غير تنضيد1 تجلو المعاني للأسماع صافية ... تروي النفوس بمحلول ومعقود2 وللبلاغة في أسلوبه نغم ... يغني الأديب بها عن نغمنا لعود بكل معنى جرى حسن البيان به ... مع البلاغة جري الماء في العود ويقول -وكان صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ "عبد الرحمن قراعة" جارا لي بسوهاج، فلما نقل إلى أسوان ونازعني الشوق إلى رؤيته كتبت إليه مشطر البيتين أمر على الديار ديار سلمى ... إلخ. وقد رد عليه "قراعة" بشعر رقيق لطيف، وفي ديوان "عبد المطلب" كثير من شعره الذي قاله في صديقه "قراعة". ومن الطريف أن أو قصيدة في ديوان "عبد المطلب" في حرف الألف، وجهها إلى "قراعة" ردا على كتاب ورد منه، وأن الديوان يكاد يختم

_ 1 الفرائد -الجواهر النفيسة واحدها فريدة، وتنضيدها ضم بعضها إلى بعض في اتساق. 2 المحلول من الشراب الرقيق، والمعقود الغليظ التخين.

بقصيدة قالها "عبد المطلب" في توديع الشيخ "قراعة" يوم نقل من سوهاج إلى أسوان في فبراير سنة 1905م -ومما جاء فيها: فيا قاضيا بالدين تجري فعاله ... ويرضاه في أحكامه العمران ويا نائبا في دينه عن نبيه ... نيابة فضل لا تشان لشاني ويأيها البحران كيف افترقتما ... وقد مرج البحرين يلتقيان تقاسمتما منا قلوبا قد اغتذت ... بسوهاج من آدابكم ببيان وغير هؤلاء كثيرا من ألوية الشعر في هذا العصر راض شعراء الأزهر، وأدباؤه بيانهم وصقلوا شعرهم، وهذبوا فكرهم، ووجهوهم إلى الأدب الناصح والبيان الكريم، من أمثال: "محمود صفوت الساعاتي"، "وحنفي بك ناصف" وغيرهما. فقد وجدوا من فحول البيان في الأزهر معينا لا ينصب وهدى لا يضل.

قراعة وعبد المطلب

قراعة وعبد المطلب: فضل الأزهر على المرحوم "محمد عبد المطلب" الشاعر معروف لا يجحد فقد اغتذى بثقافته في الصبا سبع سنين قضاها بين طلابه، وهي فترة ليست قصيرة في حساب ذوي الملكات والموهوبين، ثم التحق بمدرسة دار العلوم فدرس كتب الأزهر فيها، وتلقى العلم على أساتذه الأزهر بها كالشيخ "حسن الطويل" والشيخ "حسونه النواوي"، والشيخ "سليمان العبد"، وغيرهم من العلماء والأدباء الذين أمدوا هذه المدرسة بالحياة، ولولا أننا قصرنا حديث دراستنا على الأزهريين بدءا ونهاية لكان "عبد المطلب" أحد الذين نتناول حياتهم بالإسهاب، وشعرهم بالدراسة والتحليل، ولكنا نلمح إلى اغتذاثه بثقافة الأزهر، وانتفاعه بعد مرحلة الطلب به بعلم من شعرائه الأفذاذ، وهو المرحوم الشيخ "عبد الرحمن قراعة". حين تخرج "محمد عبد المطلب" من مدرسة دار العلوم أصبح مدرسا بمدرسة سوهاج الابتدائية حيث قضى بها بضع سنين، ذاع صيته فيها بين كبار الحكام والأعيان، وتعطرت مجالسهم بخطبه وقصائده، واختصه منهم بصداقته علامتنا الفاضل الشيخ "عبد الرحمن قراعة" فاقتبس كثيرا من علمه وأدبه، وطيب أخلاقه وسجاياه1. وانعقدت الصداقة بين الرجلين، والمرحوم الشيخ "قراعة" أديب كبير، وعالم فذ وشاعر ضخم، فكان ذلك قادحا فكر عبد المطلب، باعثا على نمو قريحته وببسط أفقه وتنشيط موهبته، ولا شك أن "قراعة" كان أسبق منه قرضا للشعر، وأكثر منه دراية بالعلم والأدب وفنونه، وهو بهذه المثابة أولى بتوجيه "عبد المطلب"، وتهذيب فكره وتقويم شعره، ولعلنا لا ننسى أثر المرحوم إسماعيل صبري باشا في ترويج الشعر، وتهذيبه وصقله، فقد كانت

_ 1 من كلمة الأستاذ السكندري في تأبين عبد المطلب، وهي في مقدمة ديوانه.

خاتمة

خاتمة: أما بعد: فهذا بيان لأثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة، وعلى رغم الجهد الموفور الذي بذلته والبحث المضني الذي اضطلعت به أعد عملي هذا الذي أرضيت به ضميري، وأبنت به عن وفائي لمعهدي محاولة إن لم تبلغ الكمال، فقد قاربته وإن لم توف على التمام فقد شارفته، وحسب هذه البراعة أنها خطت في هذا البحث أول مكتوب، ونقشت في صفحته أول بيان. ولعل من اليمن أن يكون فراغي من الحديث عن فضل الأزهر في مثل اليوم الذي تم فيه إنشاء الأزهر في التاسخ من شهر رمضان المبارك، فعسى أن يكون ذلك بشير خير، ويمن وفأل بركة وإسعاد. وأسأل الله أن يجعل فضل الأزهر على العلم والأدب موصولا، وأن يظل أبناؤه للدين والأدب العربي أعضادا، وحماة يفيئون إلى رعاية الله.

الفهارس

الفهارس فهرست الجزء الأول ... الفهارس: فهرس الجزء الأول: صفحة الموضوع ج المقدمة 1 أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة 7 الفاطميون في مصر 8 إنشاء الأزهر 8 تاريخ إنشاء الأزهر 9 المعز وجوهر 13 المساجد الجوامع 16 الغرض من إنشاء الأزهر 16 تطور تسمية الجامع الأزهر 17 مكان الأزهر 17 عناية الفاطميين بالأزهر 20 صلاة الجمعة في الأزهر 22 تاريخ التعليم في الأزهر 24 نشأة الحياة المدرسية في الأزهر 27 تأثر الأزهر بإنشاء دار الحكمة 29 طريقة التعليم في الأزهر 32 مواد الدراسة في الأزهر 35 الكتب التي كانت تدرس بالأزهر 37 العصر الحديث 38 الحملة الفرنسية على مصر وأثرها الفكري 41 صلة الأزهر بالحملة الفرنسية 46 محمد علي باشا واستعانته بالأزهريين

صفحة الموضوع 47 خلفاء محمد علي باشا 53 كلمة عامة في فضل الأزهر 57 الأزهر مصدر الثقافة 59 اعتماد محمد علي في إنشاء المدارس على الأزهر 59 الأزهر ومدرسة الطب 61 الأزهر ومدرسة الألسن 63 إمداد الأزهر للمدارس الابتدائية، والتجهيزية والخصوصية 65 فروع من دوحة الأزهر 66 دار العلوم -الجامعة المصرية 68 مدرسة القضاء الشرعي 69 البعوث العلمية 73 الأزهر والبعوث 75 أثر المبعوثين من الأزهر في النهضة 75 البعث الأول والثاني والثالث ... إلخ 82 الترجمة والتأليف ونهوض الأزهر بهما 85 أثر الأزهريين في الترجمة والتأليف 86 إبراهيم النبراوي - أحمد حسن الرشيدي 85 أبو السعود 90 رفاعة بك ربافع الطهطاوي 115 الأزهر والتحرير 116 محمد عمر التونسي 120 محمد عمران الهراوي 121 الأزهر والتصحيح 123 محمد فطه العدوي

صفحة الموضوع 127 أبو الوفا نصر الهويني 130 إبراهيم الدسوقي 137 مصححون آخرون أزهريون 140 لمحة تاريخية عن طباعة الصحافة بمصر 142 الأزهر والصحافة 144 الوقائع المصرية 146 تحرير القسم العربي بالوقائع المصرية 149 الوقائع في عهد الإمام 150 إنشاء قسم أدبي في الوقائع نفوذها الجديد 157 صحيفة وادي النيل 158 صحيفة روضة المدارس 161 صحيفة أبو نظارة 163 صحف النديم 163 التنكيت والتبكيت - الطائف - الأستاذ 166 العروة الوثقى 170 الشيخ علي يوسف وصحفه 171 مجلة الآداب - المؤيد 189 الأزهريون والصحف الحاضرة

فهرست الجزء الثاني

فهرست الجزء الثاني ... فهرس الجزء الثاني: صفحة الموضوع 3 الخطابة في العصر الحاضر 6 الأزهر والخطابة 8 الأزهر والخطابة السياسية 14 الأزهر والخطابة الدينية 16 الأزهر والخطابة القضائية 18 أشهر الخطباء السياسيين بالأزهر 18 السيد عبد الله نديم 49 سعد زغلول 76 أشهر الخطباء الدينيين من الأزهر 76 الشيخ محمد مصطفى المراغي 88 أشهر الخطباء القضائيين من الأزهر 88 إبراهيم الهلباوي بك 99 الكتابة في هذا العصر 99 الكتابة الديوانية 100 الأزهر ولغة الدواوين 102 كتابة التأليف 103 الكتابة الفنية 106 الأزهر والنشر 108 الشيخ عبد الرحمن الجبرتي 116 عبد الله فكري "باشا"

صفحة الموضوع 126 الشيخ محمد عبده 146 الشيخ عبد الكريم سلمان 152 الشيخ عبد المجيد الشرنوبي 164 المنفلوطي 255 الشيخ محمد شاكر

فهرست الجزء الثالث

فهرست الجزء الثالث" صفحة الموضوع 3 الشيخ عبد العزيز البشري 21 أزهريون لغويون أدباء 23 الشيخ حين قويدر الخليلي 30 الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري 40 الشيخ حسين المرصفي 47 الشيخ حمزة فتح الله 58 الشيخ سيد المرصفي 74 الشيح حسين والي 85 الشعر في العصر الحديث 90 التجديد في الشعر 93 شعراء الأزهر والتجديد في الشعر 95 الثورة على الأوزان الشعرية 97 نظر علماء الأزهر إلى الشعر 109 الصبغة العامة في شعر الأزهريين 119 شعراء الأزهر 121 السيد إسماعيل الخشاب 132 الشيخ حسن العطار 147 الشيخ علي الدرويش المصري 160 الشيخ محمد شهاب الدين المصري 170 السيد علي أبو النصر المنفلوطي 179 الشيخ علي الليثي 189 الشيخ عبد الرحمن قراعة

صفحة الموضوع 202 الأزهريون أساتذة شعراء العصر 204 المرصفي والبارودي 207 الشيخ البسيوني وشوقي 215 الشيخ محمد عبده وحافظ 217 قراعة وعبد المطلب 220 خاتمة

أهم مراجع البحث

أهم مراجع البحث: 1- خطط المقريزي. 2- الخطط التوفيقية لعلي "باشا" مبارك 3- وفيات الأعيان لابن خلكان. 4- صبح الأعشى للقلقشندي. 5- السلوك في دول الملوك للمقريزي. 6 عجائب الآثار في تراجم الرجال والأخبار للجبرتي. 7- تاريخ الأزهر لمصطفى بيروم. 8- كنز الجوهر في تاريخ الأزهر للشيخ سليمان رصد. 9- تقويم النيل لأمين "باشا" سامي. 10- دائرة المعارف للبستاني. 11- تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان "بك". 12- تراجم مشاهير أدباء الشرق لجورجي زيدان "بك". 13- المفصل في تاريخ الأدب العربي. 14- الوسيط في الأدب العربي. 15- الآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو. 16- أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر لأحمد تيمور "باشا". 17- تاريخ التعليم في عهد محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم. 18- المختار لعبد العزيز البشري. 19- المرآة لعبد العزيز البشري. 20- الوسيلة الأدبية للعلوم العربية للشيخ حسين المرصفي.

21- أعيان البيان لحسن السندوبي. 22- أشهر مشاهير أدباء الشرق لحسن السندوبي. 23- مرآة العصر لإلياس زخوره. 24- الإسلام والتجديد لتشار لزاد مس. 25- تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي. 26- الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي. 27- تاريخ الأستاذ الإمام للسيد رشيد رضا. 28- البعثات العلمية للأمير عمر طوسون. 29- تطور الصحافة المصرية لإبراهيم عبده. 30- تاريخ الوقائع المصرية لإبراهيم عبده. 31- تاريخ الصحافة العربية للكونت دي طرازي. 32- مصر للمصريين لسليم خليل النقاش. 33- تجديد ذكرى أبي العلاء للدكتور طه حسين. 34- حديث الأربعاء للدكتور طه حسين. 35- شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد. 36- مراجعات في الآداب والفنون للعقاد. 37- تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات. 38- مذكرات الأدب العربي للأستاذ محمود مصطفى. 39- رغبة الأمل من كتاب الكامل للسيد المرصفي. 40- مقدمة ابن خلدون. 41- الأزهر لمحب الدين الخطيب. 42- تاريخ الأزهر للدكتور عبد الواحد وافي

هذا عدا كتب أخرى تتصل بالبحث من بعيد، أو قريب وعدا جميع الصحف والمجلات التي هي سجل لآثار النهضة من مستهل نشأتها، وعدا الوثائق والمحفوظات، والمخطوطات المودعة في خزائن الكتب المختلفة، والدواوين الرسمية التي أودع فيها رسائل، ومكاتبات مما هو مرآة للحياة الثقافية في مظاهرها، ومراحلها المختلفة يضاف إليها دواوين الشعر، وآثار الأدباء والشعراء الذين تدور عليهم الرسالة ما طبع من هذه الآثار، وتلك المؤلفات وما لم يطبع.

§1/1