الأذكار للنووي ت الأرنؤوط

النووي

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد للَّه الواحد القهَّار، العزيز الغفَّار، مقدِّر الأقدار، مصرِّف الأمور، مُكوِّر الليل على النهار، تبصرةَ لذولي القلوب والأبصار، الذي أيقظ من خلقه ومن اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار، ووفَّق من اجتباه من عبيده فجعلَه من الأبرار، وبصَّرَ من أحبَّه فزهَّدهم في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته والتأهُّب لدار القرار، واجتناب ما يُسخطه والحذر من عذاب النار، وأخذوا أنفسهم بالجدِّ في طاعته وملازمة ذكره بالعشيّ والإِبكار، وعند تغاير الأحوال في آناء الليل والنهار، فاستنارت قلوبُهم بلوامع الأنوار. أحمده أبلغَ الحمد على جميع نعمه، وأسألُه المزيد من فضله وكرمه، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللَّه العظيم، الواحد الصمد العزيز الحكيم، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، وصفيُّه وحبيبه وخليله، أفضلُ المخلوقين، وأكرمُ السابقين واللاحقين، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى سائر النبيّينَ، وآل كلٍّ وسائر الصالحين. أما بعد: فقد قال الله العظيم العزيز الحكيم: (فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] وقال تعالى: (وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا ليَعْدون) [الذاريات: 56] فعُلِم بهذا إِنَّ مِنْ أفْضَلِ - أو أفضل - حال العبد، ذكره لرب العالمين، واشتغاله بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين. وقد صنَّف العلماء رضي الله عنهم في عمل اليوم والليلة والدعوات والأذكار كتباً كثيرةً معلومةً عند العارفين، ولكنها مطوّلة بالأسانيد والتكرير، فضَعُفَتْ عنها هممُ الطالبين، فقصدتُ تسهيل ذلك على الراغبين، فشرعتُ في جمع هذا الكتاب مختصراً مقاصد ما ذكرته تقريباً للمعتنين، وأحذف الأسانيد في معظمه لما ذكرته من إيثار الاختصار، ولكونه موضوعاً للمتعبدين، وليسوا إلى معرفة الأسانيد (1) متطلعين، بل يكرهونه وإن قَصُرَ إلا الأقلّين، ولأن المقصود به معرفةُ الأذكار والعمل بها، وإيضاح

_ (1) الأسانيد: هو جمع إسناد، وهو الإخبار عن طريق المتن. (*)

مظانّها للمسترشدين، وأذكر إن شاء الله تعالى بدلاً من الأسانيد ما هو أهم منها مما يخلّ به غالباً، وهو بيان صحيح الأحاديث وحسنها وضعيفها ومنكرها (1) ، فإنه مما يفتقر إلى معرفته جميعُ الناس إلا النادر من المحدّثين، وهذا أهمّ ما يجب الاعتناء به، وما يُحقِّقهُ الطالبُ من جهة الحفاظ المتقنين، والأئمة الحُذَّاق المعتمدين، وأضمُّ إليه إن شاء الله الكريم جملاً من النفائس من علم الحديث، ودقائق الفقه، ومهمات القواعد، ورياضات النفوس، والآداب التي تتأكد معرفتُها على السالكين. وأذكرُ جميعَ ما أذكرُه مُوَضَّحَاً بحيث يسهلُ فهمه على العوام والمتفقهين. 1 - وقد روينا في (صحيح مسلم) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ دَعا إلى هُدىً كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئاً) . فأردت مساعدة أهل الخير بتسهيل طريقه والإِشارة إليه، وإيضاح سلوكه والدلالة عليه، وأذكر في أوَّلِ الكتاب فصولاً مهمة يحتاجُ إليها صاحبُ هذا الكتاب وغيره من المعتنين، وإذا كان في الصحابة مَن ليس مشهوراً عند مَن لا يعتني بالعلم نبَّهتُ عليه فقلت: روينا عن فلان الصحابيّ، لئلا يُشكَّ قي صحبته. وأقتصر في هذا الكتاب على الأحاديث التي في الكتب المشهورة التي هي أصول الإِسلام وهي خمسة: (صحيح البخاري) ، و (صحيح مسلم) ، و (سنن أبي داود) ، و (الترمذي) ، و (النسائي) . وقد أروي يسيراً من الكتب المشهورة غيرها. وأما الأجزاء والمسانيد فلستُ أنقل منها شيئاً إلا في نادر من المواطن، ولا أذكرُ من الأصول المشهورة أيضاً من الضعيف إلا النادر مع بيان ضعفه، وإنما أذكر فيه

_ (1) والصحيح في الأصل من أوصاف الأجسام، ثم جُعل وصفاً للحديث، ثم هو قسمان: صحيح لذاته، وهو ما اتصل سنده برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علّة فادحة، وصحيح لغره: وهو كان رواية دون ذلك في الضبط والإتقان، فيكون حديثه في مرتبة الحسن فيرتقى بتعدد طرقه إلى الصحة. والحسن قسمان كذلك: حسن لذاته، وهو أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة لكن لم يبلغ درجة الصحيح في الحفظ والإتقان، وهو مرتفع عن حال من يُعَدُّ تفرده مُنكراً، وحسن لغيره: وهو أن لا يخلو الإسناد من مستور لم تتحقق أهلية، وليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذب في الحديث، ولا ظهر منه سبب آخر مُفسِّقٌ، ويكون الحديث معروفاً برواية مثله أو نحوه من وجه آخر والضعيف: ما لم تجتمع فيه صفات الصحيح، ولا صفات الحسن المذكورة، وهو على ما رتب متفاوتة بحسب شدة ضعف رواته وخفته، وهو أنواع، منها المنكر. (*)

الصحيح غالباً، فلهذا أرجو أن يكون هذا الكتاب أصلاً معتمداً، ثم لا أذكر في الباب من الأحاديث إلا ما كانت دلالته ظاهرة في المسألة. والله الكريم أسألُ التوفيق والإِنابة والإِعانة والهداية والصيانة، وتيسير ما أقصده من الخيرات، والدوام على أنواع المكرمات، والجمع بيني وبين أحبابي في دار كرامته وسائر وجوه المسرّات. وحسبي الله ونِعم الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العزيز الحكيم، ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، توكلتُ على الله، اعتصمتُ بالله، استعنتُ بالله، وفوَّضت أمري إلى الله، واستودعت ديني ونفسي ووالديّ وإخواني وأحبائي وسائر من أحسن إليّ وجميع المسلمين، وجميعَ ما أنعمَ به عليّ وعليهم من أمور الآخرة والدنيا، فإنه سبحانه إذا استُودع شيئا حفظه ونعم الحفيظ.

[فصل] : في الأمر بالإخلاص وحسن النيات في جميع الأعمال الظاهرات والخفيات

بسم الله الرحمن الرَّحِيمُ [فصل] : في الأمر بالإِخلاص وحسن النيّات في جميع الأعمال الظاهرات والخفيَّات. قال الله تعالى: (وَمَا أُمِروا إلاَّ ليعبُدوا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدّين حُنفاء) [البيِّنة: 5] وقال تعالى: (لَنْ يَنالَ الله لُحومُها وَلاَ دِماؤُها ولكنِ ينالُهُ التَّقوى مِنكمْ) [الحج: 37] قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه ولكن يناله النيّات. أخبرنا شيخنا الإِمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن الحسن بن سعد بن الحسن بن المفرّج بن بكار المقدسيّ النابلسيّ ثم الدمشقي رضي الله عنه (1) ، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عليّ الجوهري، أخبرنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، حدّثنا أبو نُعيم عبيد بن هشام الحلبي، حدّثنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقّاص الليثيّ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: 2 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرئ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ ". هذا حديث صحيح متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإِسلام، وكان السلف وتابعوهم من الخلف رحمهم الله يَستحبُّون استفتاح المصنفات بهذا الحديث، تنبيهاً للمُطالع على حسن النيّة، واهتمامه بذلك والاعتناء به.

_ (1) في (طبقات الحفّاظ) للذهبي 4 / 1447: خالد بن يوسف بم سعد بن حسن بن مفرج الإمام المفيد المحدّث الحافظ زين الدين أبو النابلسي ثم الدمشقي، ولد سنة (585 هـ) وسمع من القاسم بن عساكر، ومحمد بن الخصيب، وحنبل الرصافي وغيرهم، وأخذ عنه النووي، وتقي الدين القشيري، وأبو عبد الله الملقن، والبرهان الذهبي، وغيرهم، توفي رحمه الله سنة (663 هـ) . (*)

روينا عن الإِمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: مَنْ أَرَادَ أنْ يُصنِّفَ كتاباً فليبدأ بهذا الحديث. وقال الإِمام أبو سليمان الخَطَّابي رحمه الله: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث (الأعمال بالنيّة) أمامَ كل شئ ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها. وبلغنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما يحفظ الرجلُ على قدر نيته. وقال غيرُه: إنما يُعطى الناسُ على قدر نيّاتهم. وروينا عن السيد (1) الجليل أبي عليّ الفُضيل بن عِياض رضي رحمه الله عنه قال: تركُ العمل لأجل الناس رياءٌ، والعمل لأجل الناس شِركٌ، والإِخلاصُ أن يعافيَك الله منهما. وقال الإمام الحارث المحاسبيُّ رحمه الله: الصادق هو الذي لا يُبالي لو خرج كلُّ قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل صَلاح قلبه، ولا يحبُّ اطّلاع الناس على مثاقيل الذرِّ من حس عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله. وعن حُذيفة المَرْعشيِّ رحمه الله قال: الإِخلاصُ أن تستوي أفعالُ العبد في الظاهر والباطن. وروينا عن الإمام الأستاذ أبي القاسم القُشَيريّ رحمه الله قال: الإِخلاصُ إفرادُ الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يُريد بطاعته التقرّب إلى الله تعالى دون شئ آخر: من تَصنعٍ لمخلوق، أو اكتساب محمَدةٍ عند الناس، أو محبّة مدحٍ من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى. وقال السيد الجليل أبو محمد سهل بن عبد الله التُستَريُّ رحمه الله: نظر الأكياسُ في تفسير الإِخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركتُه وسكونه في سره وعلانيته الله تعالى، لا يُمازجه نَفسٌ ولا هوىً ولا دنيا. وروينا عن الأستاذ أبي علي الدقاق رحمه الله قال: الإِخلاصُ: التوقِّي عن ملاحظة الخلق، والصدق: التنقِّي عن مطاوعة النفس، فالمخلصُ لا رياء له، والصادقُ لا إعجابَ له. وعن ذي النون المصري رحمه الله قال: ثلاثٌ من علامات الإِخلاص: استواءُ المدح والذمّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاءُ ثواب العمل في الآخرة. وروينا عن القُشَيريِّ رحمه الله قال: أقلُّ الصدق استواءُ السرّ والعلانية.

_ (1) فيه إطلاق السيّد على غير الله تعالى، وهو جائز، وقيل بكراهته إذا كان بأل. (*)

وعن سهل التستري: لا يشمّ رائحة الصدق عبدٌ داهن نفسه أو غيره، وأقوالهم في هذا غير منحصرة، وفيما أشرت إليه كفاية لمن وفّق. [فصل] : اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شئ في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرّة واحدة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه، 3 - لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بشئ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ ". [فصل] : قال العلماءُ من المحدّثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُستحبّ العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً (1) . وأما الأحكام كالحلال والحرام والبيع والنكاح والطلاق وغير ذلك فلا يُعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن (2) إلا أن يكون في احتياط في شئ من ذلك، كما إذا وردَ حديثٌ ضعيفٌ بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المستحبَّ أن يتنزّه عنه ولكن لا يجب. وإنما ذكرتُ هذا الفصل لأنه يجئ في هذا الكتاب أحاديثُ أنصُّ على صحتها أو حسنها أو ضعفها، أو أسكتُ عنها لذهول عن ذلك أو غيره، فأردتُ أن تتقرّر هذه القاعدة عند مُطالِع هذا الكتاب. [فصل] : اعلم أنه كما يُستحبُّ الذكر يُستحبُّ الجلوس في حِلَق أهله، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، وستردُ في مواضعها إن شاء الله تعالى، ويكفي في ذلك حديث ابن عمر (3) رضي الله عنهما قال:

_ (1) قوله: ما لم يكن موضوعا: وفي معناه شديد الضعف، فلا يجوز العمل بخبر من انفرد من كذاب ومتهم، وبقي للعمل بالضعيف شرطان: أن يكون له أصل شاهد لذلك، كاندراجه في عموم أو قاعدة كلية، وأن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط. (2) أي سواء كان ذلك لذاته في كل منهما أو لغيره بان انجبر ضعف ضعيف الحديث الصدوق الامين بمجيئه من طرق متعددة، فصار حسنا لغيره فيحتج به فيما ذكر. (3) نسبه المؤلف كما ترى إلى ابن عمر، ولم يذكر من خرجه عنه، وهو في المسند، والترمذي، والبيهقي في (شعب الايمان) عن أنس، والطبراني في الكبير عن ابن عباس، والترمذي عن أبي هريرة، وابن ابي الدنيا، وابي يعلي، والطبراني، والبزار، والحاكم، والبيهقي من حديث جابر، وقد قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: لم أجده، يعني، الحديث، من حديث ابن عمر، ولا بعضه لا في الكتب المشهورة، ولا في الاجزاء المنثورة. قال الحافظ السيوطي في (تحفة الأبرار بنكت الاذكار) (1) : قال الحافظ ابن حجر ى (أمالي الاذكار) وانما وجدتُه من حديث جابر بمعناه مختصرا، قال: وأخرج أبو نُعيم في (الحلية) من طريق يوسف القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا زائدة بن ابي الرقاد - في الاصل: الزنا، وهو تحريف - حدثنا زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا = (*)

4 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا. قالُوا: وَمَا رِياضُ الجَنَّةِ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: حِلَقُ الذّكْرِ، فإنَّ لله تعالى سَيَّارَاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ ". 5 - وروينا في (صحيح مسلم) ، عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: (خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: " ما أجْلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكُر الله تعالى ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجْلَسَكُمْ إلا ذاك؟ أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ الله تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ ". 6 - وروينا في (صحيح مسلم) أيضاً، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُون اللَّهَ تَعالى إلا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَليهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرََهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيمَنْ عِنْدَهُ ". [فصل] : الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل، ثم لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ الله تعالى، وقد قدّمنا عن الفُضَيل رحمه الله: أن ترك العمل لأجل الناس رياء. ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق العارفين. 7 - وروينا في (صحيحي البخاري ومسلم) ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية (ولا تجهر بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بها) في الدعاء. [فصل] : اعلم أن فضيلة الذكر غيرُ منحصرةٍ في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كلُّ عاملٍ لله تعالى بطاعةٍ فهو ذاكرٌ لله تعالى، كذا قاله سعيدُ بن جُبير رضي الله عنه وغيره من العلماء.

_ = مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارتفعوا، قالوا: واين لنا برياض الجنة في الدنيا؟ قال: إنها في مجالس الذكر) وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا زائدة بن ابي الرقاد، عن زياد النميري عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ لله سيارة مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بهم وبعثوا رائدهم الى السماء الى رب العزة سبحانه، فيقول وهو أعلم: أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألون لاخرتهم ودنياهم، فيقول: غشوهم رحمى، هم القوم لا يشقى جليسهم) قلت: الظاهر أن الحديثين حديث واحد لاتحاد الرواة، فجمع النووي بينهما، واختصر بقية الحديث، وأراد أن يقول: حديث أنس، فسبق قلمه إلى ابن عمر. أقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهده، ولذلك حسنه الترمذي وغيره. (*)

وقال عطاء رحمه الله: مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا. [فصل] : قال الله تعالى: (إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ) إلى قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد اللَّهُ لَهُمْ مغْفِرَةً وأجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 35] . 8 - وروينا في (صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سَبَقَ المُفرِّدونَ، قالُوا: ومَا المُفَرِّدونَ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: (الذَّاكِرُونَ الله كَثِيراً وَالذَّاكرَاتُ) . قلت: روي (المفرِّدون) بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد. واعلم أن هذه الآية الكريمة مما ينبغي أن يهتمَّ بمعرفتها صاحبُ هذا الكتاب. وقد اختُلِفَ في ذلك، فقال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس: المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ الله تعالى. وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء: من صلَّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول الله تعالى: (والذَّاكِرِينَ الله كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ) هذا نقل الواحدي. 9 - وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا - أَوْ صَلَّى - رَكعَتينِ جَمِيعاً كُتِبَا في الذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ " هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم. قال المصنف رحمه الله: حديث مشهور. قال السيوطي في (تحفة الأبرار الاذكار) : قال الحافظ ابن حجر: قول الشيخ يعنى النووي - هذا حديث مشهور: يريد شهرته على الألسنة، لا أنه مشهور اصطلاحا، فانه من أفراد علي ابن الأقمر عن الأغرّ. وقوله: (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم) . قال الحافظ ابن حجر: هو كما قال، لكنهم ذكروا أبا هريرة مع أبي سعيد، فما أدري لِمَ حذفه، فإنهما عند جميع مَن أخرجه مرفوعاً، وأما من أفرد أب سعيد فإنه أخرجه موقوفا. وسئل الشيخ الإِمام أبو عمر بن الصَّلاح رحمه الله عن القدر الذي يصيرُ به من الذاكرينَ الله كثيراً والذاكرات، فقال: إذا واظبَ على الأذكار المأثورة (1) المثبتة صباحاً

_ (1) المأثورة: ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدّم عند التعارض الأصحّ إسناداً: أي: أو نزل منزلته كالاتي عن الصحابة، فانه نزل منزلة ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الطواف، ففضل الاشتغال به فيه على = (*)

ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً - وهي مُبيّنة في كتاب عمل اليوم والليلة - كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم. فصل: أجمع العلماءُ على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحْدِث والجُنب والحائض والنفساء، وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء وغير ذلك. ولكنَّ قراءة القرآن حرامٌ على الجُنب والحائض والنفساء، سواءٌ قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراءُ القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النَّظَرُ في المصحف، وإمرارُه على القلب. قال أصحابُنا: ويجوز للجُنب والحائض أن يقولا عند المصيبة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعند ركوب الدابة: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقرنين (1) ، وعند الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، إذا لم يقصدا به القرآن، ولهما أن يقولا: بسم الله، والحمد لله، إذا لم يقصدا القرآن، سواءٌ قصدا الذكر أو لم يكن لهما قصد، ولا يأثمان إلا إذا قصدا القرآن، ويجوزُ لهما قراءةُ ما نُسخت تلاوته ك (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) . وأما إذا قالا لإِنسان: خذ الكتاب بقوّة، أو قالا: ادخلوها بسلام آمنين، ونحو ذلك، فإن قصدا غيرَ القرآن لم يحرم، وإذا لم يجدا الماء تيمَّمَا وجاز لهما القراءة، فإن أحدثَ بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث. ثم لا فرق بين أن يكون تَيمُّمُه لعدم الماء في الحَضَر أو في السفر، فله أن يقرأ القرآن بعده وإن أحدث. وقال بعضُ أصحابنا: إن كان في الحضر صلَّى به وقرأ به في الصلاة، ولا يجوزُ أن يقرأ خارجَ الصلاة، والصحيحُ جوازه كما قدّمناه، لأن تيمُّمَه قام مقام الغسل. ولو تيمَّمَ الجنبُ ثم رأى ماء يلزمُه استعمالُه فإنه يحرمُ عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجُنب حتى يغتسل. ولو تيمَّم وصلَّى وقرأ ثم أراد التيمّم لحدثٍ أو لفريضةٍ أخرى أو لغير ذلك لم تحرم عليه القراءة. هذا هو المذهب الصحيح المختار، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يحرمُ، وهو ضعيف. أما إذا لم يجد الجُنبُ ماءً ولا تُراباً فإنه يُصلِّي لحُرمة الوقت على حسب حاله، وتحرمُ عليه القراءة خارجَ الصلاة، ويحرمُ عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة. *

_ = الاشتغال بالقرآن فيه، وكما تقدم أن صنيع المصنف يقتضي أن ما جاء من الوارد من الذكر في مكان يسن الاتيان به، وسبق ما فيه. (1) أي: مطيقين، ويضم إليها الآية الاخرى، وهي (وإنَّا إلى رّبنا لمنقلبون) أي: مبعوثون. (*)

وهل تحرمُ الفاتحة؟ فيه وجهان: أصحُّهما لا تحرمُ بل تجبُ، فإن الصَّلاةَ لا تصحُّ إلا بها، وكما جازت الصلاةُ للضرورة تجوزُ القراءة. والثاني تحرمُ، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها مَن لا يُحسن شيئاً من القرآن. وهذه فروعٌ رأيتُ إثباتها هنا لتعلقها بما ذكرتُه، فذكرتها مختصرة وإلا فلها تتمّات وأدلة مستوفاة في كتب الفقه، والله أعلم. فصل: ينبغي أن يكون الذاكرُ على أكمل الصفات، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس مُتذلِّلاً مُتخشعاً بسكينة ووقار، مُطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهةَ في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل. والدليل على عدم الكراهة قول الله تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وَقُعوداَ وَعلى جُنوبِهمْ وَيَتَفكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ.) [آل عمران: 190 - 191] . 10 - وثبت في (الصحيحين) ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: (ورأسه في حجري وأنا حائض) . وجاء عن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: (إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعةٌ على السرير) . فصل: وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خالياً (1) نظيفاً، فإنه أعظمُ في احترام الذكر المذكور، ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة. وجاء عن الإِمام الجليل أبي ميسرة رضي الله عنه قال: (لا يُذكر اللَّهَ تعالى إلاَّ في مكان طيّب) وينبغي أيضاً أن يكون فمه نظيفاً، فإن كان فيه تغيُّر أزاله بالسِّواك، وإن كان فيه نجاسة أزالها بالغسل بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروهٌ ولا يَحرمُ، ولو قرأ القرآن وفمُه نجسٌ كُره، وفي تحريمه وجهان لأصحابنا: أصحُّهما لا يَحرم. فصل: اعلم أن الذكر محبوبٌ في جميع الأحوال إلا في أحوال وردَ الشرعُ باستثنائها نذكرُ منها هننا طرفاً، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء الله تعالى، فمن ذلك: أنه يُكره الذكرُ حالة ض الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجِماع، وفي حالة الخُطبة لمن يسمعُ صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغلُ بالقراءة، وفي حالة النعاس. ولا يُكره في الطريق ولا في الحمَّام، والله أعلم. فصل: المرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودُ الذاكر فيحرص

_ (1) أي: عن كلِّ ما يشتغل البال ويحصل من وجوده الاشتغال والوسواس. (*)

على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيح المختار استحباب مدَّ الذاكر قول: لا إله إلا الله، لما فيه من التدبر، وأقوالُ السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة، والله أعلم. فصل: ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرّضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعها في وقتها. 11 - وقد ثبت في (صحيح مسلم) ، عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شئ منه فقرأه ما بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من اللَّيل) . (فصل: في أحوال تعرضُ للذاكر يُستحبّ له قطعُ الذكر بسببها ثم يعودُ إليه بعد زوالها) : منها إذا سُلِّم عليه ردّ السلام ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا عطسَ عنده عاطس شمَّته ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا سمع الخطيبَ، وكذا إذا سمع المؤذّنَ أجابَه في كلمات الأذان والإقامة ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا رأى منكراً أزاله، أو معروفاً أرشد إليه، أو مسترشداً أجابه ثم عاد إلى الذكر، كذا إذا غلبه النعاس أو نحوه. وما أشبه هذا كله. فصل: اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبةً كانت أو مستحبةً، لا يحسب شئ منها ولا يُعتدّ به حتى يتلفَّظَ به بحيثُ يُسمع نفسَه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. فصل: اعلم أنه قد صنَّف في عمل اليوم والليلة (1) جماعةٌ من الأئمة كتباً نفيسة، رَووا فيها ما ذكروه بأسانيدهم المتصلة، وطرَّقُوها من طرق كثيرة، ومن أحسنها (عمل اليوم والليلة) للإِمام أبي عبد الرحمن النسائي، وأحسن منه وأنفس وأكثر فوائد كتاب: (عمل اليوم والليلة) لصاحبه الإمام أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني رضي الله عنهم. وقد سمعتُ أنا جميعَ كتاب ابن السني على شيخنا الإمام الحافظ أبي البقاء خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن رضي الله عنه، قال: أخبرنا الإمام العلامة أبو اليَمن

زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن الكِنْدي سنة اثنتين وستمائة، قال: أخبرنا الشيخ الإِمام أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سَهْل الأنصاريّ، قال: أخبرنا الشيخُ الإِمام أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الدُّوني، قال: أخبرنا القاضي أبو نصر أحمدُ بن الحسين بن محمد بن الكسَّار الدَّينوري، قال: أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمدُ بن محمد بن إسحاق السُّني رضي الله عنه. وإنما ذكرتُ هذا الإسناد هنا لأني سأنقلُ من كتاب ابن السني إن شاء الله تعالى جُملاً، فأحببتُ تقديمَ إسناد الكتاب، وهذا مستحسنٌ عند أئمة الحديث وغيرهم، وإنما خصصتُ ذكر إسناد هذا الكتاب لكونه أجمع الكتب في هذا الفنّ، وإلا فجميعُ ما أذكرهُ فيه لي به رواياتٌ صحيحةٌ بسماعات متصلة بِحَمْدِ الله تَعالى إلا الشاذّ النادر، فمن ذلك ما أنقلُه من الكتب الخمسة التي هي أصول الإسلام، وهي: (الصحيحان) للبخاري ومسلم، و (سنن أبي داود) و (الترمذي) و (النسائي) . ومن ذلك ما هو من كتب (المسانيد) و (السنن) (كموطأ الإمام مالك) ، و (مسند الإِمام أحمد بن حنبل) ، و (أبي عوانة) ، و (سنن ابن ماجه) ، و (الدارقطني) ، و (البيهقي) وغيرها من الكتب، ومن الأجزاء مما ستراه إن شاء الله تعالى. وكلُّ هذه المذكورات أرويها - بحمد الله - بالأسانيد المتصلة الصحيحة إلى مؤلفيها، والله أعلم. فصل: اعلم أنَّ ما أذكرهُ في هذا الكتاب من الأحاديث أُضيفه إلى الكتب المشهورة وغيرها مما قدّمتُه، ثم ما كَانَ في صحيحي البخاري ومسلم أو في أحدهما أقتصرُ على إضافته إليهما لحصول الغرض وهو صحته، فإن جميعَ ما فيهما صحيح، وأما ما كَانَ في غيرهما فأُضيفُه إلى كتب السنن وشبهها مبيِّناً صحته وحسنه أو ضعفه إنْ كانَ فِيهِ ضعفٌ في غالب المواضع، وقد أغفلُ عن صحته وحسنه وضعفه. واعلم أن (سنن أبي داود) من أكثر ما أنقلُ منه، وقد روينا عنه أنه قال: (ذكرتُ في كتابي الصحيح وما يُشبهه ويُقاربه، وما كان فيه ضعف شديد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضُها أصحّ من بعض) ، هذا كلام أبي داود، وفيه فائدة حسنة يحتاجُ إليها صاحب هذا الكتاب وغيرُه، وهي أن ما رواه أبو داود في (سننه) ولم يذكر ضعفَه فهو عنده صحيح أو حسن، وكلاهُما يُحتجّ به في الأحكام، فكيف بالفضائل. فإذا تقرّر هذا فمتى رأيتَ هنا حديثاً من رواية أبي داود وليس فيه تضعيف، فاعلم أنه لم يضعِّفْه، والله أعلم.

أبواب

وقد رأيتُ أن أُقدِّم في أوّل الكتاب باباً في فضيلة الذكر مطلقاً أذكر فيه أطرافاً يسيرة توطئةً لما بعدها، ثم أذكرُ مقصود الكتاب في أبوابه، وأختمُ الكتابَ إن شاء الله تعالى بباب الاستغفار تفاؤلاً بأن يختم الله لنا به، والله الموفِّق، وبه الثقة، وعليه التوكل والاعتماد، وإليه التفويضُ والاستناد. (بابٌ مختصر في أحرفٍ مما جاء في فضل الذكر غير مقيّدٍ بوقت) قال الله تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ) (1) [العنكبوت: 45] وقال تعالى: (فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] وقال تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصَّافات: 143] وقال تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 20] . وروينا في صحيحي إمامي المحدثين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي مولاهم، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشيري النيسابوري رضي الله عنهما بأسانيدهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، واسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولاً، وهو أكثر الصحابة حديثاً، قال: 12 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ) وهذا الحديث آخر شئ في صحيح البخاري. 13 - وروينا في (صحيح مسلم) عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلامِ إلى اللَّهِ تَعالى؟ إِنَّ أحَبَّ الكَلام إلى اللَّه: سُبحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ) وفي رواية: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أوْ لعبادِهِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ) . 14 - وروينا في (صحيح مسلم) أيضاً عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحَبُّ الكَلامِ إلى اللَّهِ تَعالى أرْبَعٌ: سُبْحانَ اللَّهِ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لا يَضُرّكَ بِأَيَّهِنَّ بَدأتَ) . 15 - وروينا في (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ لِلِّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وَسُبْحانَ اللَّه والحَمْدُ لِلِّهِ تَمْلآنِ، أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) .

_ (1) ذكر العبد الله أكبر من كل ما سواه، وأفضل منه. (*)

16 - وروينا فيه أيضاً عن جُويريةَ أمّ المؤمنين رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكرة حين صلَّى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة فيه، فقالَ: " مَا زِلْتِ اليَوْمَ عَلى الحالَةِ الَّتي فارَقْتُكِ عليها؟ قالت: نعم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلماتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وزِنَتْ بِما قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتُهُنَّ: سُبحانَ اللَّهِ وبِحمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، ورضى نَفْسِهِ، َوزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِماتِهِ " وفي رواية: " سبحانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحانَ الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ ". وروينا في " كتاب الترمذي " ولفظه: " ألا أُعَلِّمُكِ كَلماتٍ تَقُولينَها: سُبْحانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سبحان الله زنة عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِماتِهِ ". 17 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأَنْ أقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لله، ولا إله إلا الله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ". 18 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي أيَوبَ الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كانَ كَمَنْ أعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ". 19 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قالَ: لا إِلهَ إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ في يَوْمٍ مائَةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مائة حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عَنْهُ مائة سَيِّئَةٍ، وكانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطانِ يَوْمَهُ ذلكَ حتَّى يُمْسيَ، ولَمْ يَأتِ أحَدٌ بأفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ منه " وقال: " ومَنْ قالَ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ في اليَوْمِ مائة مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَاياهُ وإنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ". 20 - وروينا في " كتاب الترمذي وابن ماجه " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أفْضَلُ الذّكْرِ لا إلهَ إلاّ اللَّهُ " قال الترمذي: حديث حسن. 21 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن

النبيّ صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ الَّذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذي لا يَذْكُرُهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ ". 22 - وروينا في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: " جاءَ أَعْرَابيٌّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: علِّمني كلاماً أقوله، قالَ: قُلْ: لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ لِلَّه كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ العالَمِينَ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: قُل اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وَاهْدِني وَارْزُقْنِي ". 23 - وروينا في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنَّا عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ في كل يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تَسْبِيحَةٍ فَتُكْتَبُ لَهُ ألفُ حَسَنَةٍ، أَوْ تُحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ ". قال الإِمام الحافظ أبو عبد الله الحميدي: كذا هو في كتاب مسلم في جميع الروايات: " أو تحط " قال البرقاني: ورواه شعبة وأبو عوانة ويحيى القطان عن موسى الذي رواه مسلم من جهته، فقالوا: " وتُحَط " بغير ألف. 24 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُصْبحُ على كُلّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، ويجزئ مِن ذلكَ ركْعَتانِ تركعهما منَ الضُّحَى " قلتُ: السُّلاَمَى بضم السين وتخفيف اللام: هو العضو، وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء. 25 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ألا أدُّلُّكَ على كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَةِ؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قُل: لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ". 26 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوىً أو حصىً تُسَبِّح به، فقال: " ألا أُخْبرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أو أَفْضَلُ؟ فَقالَ: سُبْحانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ في السَّماءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ ما خَلَقَ في الأرْضِ، وسُبْحانَ اللَّهِ عَدَدَ ما بَيْنَ ذلكِ، وسُبحَانَ الله عَدَدَ ما هُوَ خالِقٌ، واللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذلكَ، والحَمْدُ لِلَّهِ مثْلَ ذلكَ، ولا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ مثْلَ ذلكَ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّة إلاَّ بالله مِثْلَ ذَلكَ " قال الترمذي: حديث حسن (1) .

_ (1) رواه أبو داود رقم (1500) في الصّلاة، بابُ التسبيح بالحصى، والترمذي رقم (3563) في الدعوات، = (*)

27 - وروينا فيهما بإسناد حسن عن يسيرة، بضم الياء المثناة تحت وفتح السين المهملة، الصحابية المهاجرة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهنّ أن يُراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهنّ مسؤولات مستنطقات ". 28 - وروينا فيهما وفي " سنن النسائي " بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح " وفي رواية " بيمينه ". 29 - وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَالَ: رَضِيتُ بالله رَبّاً، وبالإِسلام دِيناً، وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ ". 30 - وروينا في " كتاب الترمذي " عن عبد الله بن بُسْر، بضمّ الباء الموحدة وإسكان السين المهملة الصحابي رضي الله عنه، " أن رجلاً قالَ: يا رسول الله إن شرائع الإِسلام قد كثرتْ عليّ فأخبرني بشئ أتشبث به، فقال: لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى " قال الترمذي: حديث حسن، قلت: أتشبث بتاء مثناة فوق ثم شين معجمة ثم باء موحدة مفتوحات ثم ثاء مثلثة، ومعناه: أتعلَّقُ به وأستمسك. 31 - وروينا فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ العبادة أفضل درجة عند الله تعالى يَوْمَ القِيامَةِ؟ قال: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قُلْتُ: يَا رَسُول الله ومِن الغازي في سبيل الله عزّ وجلّ؟ قال: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ في الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ حتَّى يَنْكَسِرَ سيفه ويختضب دماً لكان الذَّاكرون اللَّه أفضل منهُ " (1) . 32 - وروينا فيه وفي كتاب ابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال

_ = باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه في دُبُرِ كُلّ صلاة، ورواه أيضا ابن حبّان في صحيحه رقم (2330) موارد، كلهم من حديث عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها سعد، وخزيمة غير منسوب عن عائشة بنت سعد لا يعرف، كما قال الحافظ في " التقريب "، ومع ذلك فقد حينه الترمذي صححه الحاكم ووافقه الذهبي، ولعل تحسين الترمذي له برواية أخرى عنده رقم (3549) في الدعوات من حديث هاشم بن سعد الكوفي عن كنانة مولى صفية عن صفية قالت: (دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها، قال: " لقد سبحت بهذه، ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به، فقلت: بل علمني، قال: قولي: سبحان الله عدد خلقه " ... الحديث) . وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث صفية إلا من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد، وليس إسناده بمعروف، قال: وفي الباب عن ابن عباس. أقول: وثبت من حديث ابن عباس عن جويرية، ولكن ليس فيه ذكر الحصى. (1) رواه الترمذي رقم (3373) في الدعوات، باب رقم (5) ، ورواه أيضاً أحمد في المسند 3 / 75 من حديث دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث دراج عن أبي الهيثم ضعيف، ولذلك قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث دراج. (*)

باب ما يقول إذا استيقظ من منامه

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلا أُنْبِئُكُمْ بِخَيْرِ أعمالِكُمْ وَأزْكاها عنْدَ مَلِيكِكُمْ وأرْفَعِها (1) في دَرَجَاتِكُمُ، وخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ والورق، وخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ويضربوا أعناقكم! قالوا: بلى، قال: ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى " قال الحاكم أبو عبد الله في كتابه المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإِسناد. 33 - وروينا في " كتاب الترمذي " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَقِيتُ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي، فقالَ: يَا محمد أقرئ أُمَّتَكَ السَّلامَ وأخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وأنها قِيعانٌ، وأنَّ غِرَاسَها: سُبْحَانَ اللَّه، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ واللَّهُ أَكْبَرُ " قال الترمذي: حديث حسن. 34 - وروينا فيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قال سبحان الله وبِحمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ " قال الترمذي: حديث حسن. 35 - وروينا فيه عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: " قلتُ: يا رسولُ الله، أيُّ الكلام، أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: " ما اصْطَفى اللَّهُ تَعالى لمَلائِكَتِهِ: سُبْحانَ ربِّي وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ رَبي وبِحَمْدِهِ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهذا حين أشرع في مقصود الكتاب وأذكره على ترتيب الواقع غالباً، وأبدأ بأوّل استيقاظ الإِنسان من نومه، ثم ما بعده على الترتيب إلى نومه في الليل، ثم ما بعد استيقاظاته في الليل التي ينام بعدها، وبالله التوفق. (باب ما يقولُ إذا استيقظَ مِن مَنامه) 36 - وروينا في صحيحي إمَامَي المحدِّثين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشيري رضي الله عنهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يَعْقِدُ الشَّيْطانُ على قافِيةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلّ عُقْدَةٍ مَكانَها: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فارْقُدْ، فإنِ اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ الله تعالى انْحَلَّت عُقْدَةٌ، فإن تَوْضأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها فأصْبَحَ نَشِيطاً طيب النَّفْسِ، وإلاَّ أَصْبحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ " هذا لفظ رواية البخاري، ورواية مسلم بمعناه، وقافية الرأس: آخره. 37 - وروينا في " صحيح البخاري " عن حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنهما، وعن أبي ذر رضي الله عنه قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: باسْمِكَ اللَّهُمَ أَحْيا وأمُوتُ، وإذَا اسْتَيْقَظَ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أحْيانا بَعْدَما أماتَنا وإلَيْهِ النشور ".

_ (1) أي: أكثرها رفعا لدرجاتكم. (*)

باب ما يقول إذا لبس ثوبه

38 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا اسْتَيْقَظَ أََحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي رَدََّ عَلَيّ رُوحِي، وَعافانِي في جَسَدِي، وأذِن لي بذكره ". قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر: أخرجه الترمذي والنسائي، فما أدري لِمَ أغفل المصنف - يعني النووي - عزوه إليهما واقتصر على عزوه إلى ابن السني، وأما قوله: إنه صحيح الإِسناد، ففيه نظر، فانه من أفراد محمد بن علاج، وهو صدوق لكن في حفظه شئ، وخصوصا في روايته عن المقبري، فان الذي ينفرد به من فبيل الحسن، وإنما يصحح له من يدرج الحسن في الصحيح، وليس ذلك من رأي الشيخ - يعني النووي رحمه الله -. 39 - وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما منْ عَبْدٍ يَقُولُ عِنْدَ رَدّ اللَّهِ تَعالى رُوحَهُ: لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، إلاَّ غَفَرَ اللَّهُ تَعالى لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ". 40 - وروينا فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رَجُلٍ يَنْتَبِهُ منْ نَوْمِهِ فَيَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي خَلَقَ النَّوْمَ واليَقَظَةَ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بَعَثَنِي سالِماً سَوِيّاً، أشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي المَوْتى وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِير، إلاَّ قال اللَّهُ تَعالى: صَدَقَ عَبْدِي ". 41 - وروينا في " سنن أبي داود " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هَبَّ منَ اللَّيْلِ كَبَّرَ عَشْراً، وحَمِدَ عَشْراً، وقَالَ: سُبْحان الله وبِحَمْدِهِ عَشْراً، وقَالَ: سبحان القُدُوس عَشْراً، وَاسْتَغْفَرَ عَشْراً، وَهَلَّل عَشْراً، ثُمََّ قالَ: اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدنيا وضِيقِ يَوْمِ القِيامَة عَشْراً ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلاة " وقولها هبَّ: أي استيقظ. 42 - وروينا في " سنن أبي داود " أيضاً عن عائشة أيضاً " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قالَ: لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وأسألُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنت الوهاب ". (بابُ ما يَقُول إذا لبسَ ثوبَه) يُستحبُّ أن يقول: بسْمِ الله، وكذلك تُستحبّ التسمية في جميع الأعمال. 43 - وروينا في كتاب ابن السني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، واسمه

باب ما يقول إذا لبس ثوبا جديدا أو نعلا أو شبهه

سعد بن مالك بن سنان: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لبس ثوبا [سماه باسمه] قميصاً أو رداء أو عمامة يقول: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ منْ خَيْرِهِ وَخَيْر مَا هُوَلَهُ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهِ وَشَرّ ما هُوَ لَه ". 44 - وروينا فيه عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي كساني هذا ورزقنه مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّة، غَفَرَ الله لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه ". (بابُ ما يقولُ إذا لبسَ ثوباً جديداً أو نعلاً أو شبهه) يُستحبُّ أن يقول عند لباسه ما قدّمناه في الباب قبلَه. 45 - وروينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوباً سمَّاه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداء، ثم يقول: " اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ كَسَوْتِنِيهِ، أسألُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ ما صُنِعَ لَهُ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرّ ما صُنِعَ لَهُ " حديث صحيح، رواه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في " سننهم " قال الترمذي: هذا حديث حسن. 46 - وروينا في كتاب الترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَساني ما أُوَاري بِهِ عَوْرَتي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ في حياتي، ثُمََّ عَمَدَ إلى الثَّوْب الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ، كانَ في حِفْظِ اللَّهِ وفي كَنَفِ اللَّه عَزَّ وجل، وفي سبيل الله حَيّاً وَمَيِّتاً ". (بابُ ما يقولُ لصاحبه إذا رأى عليه ثوباً جديداً) 47 - روينا في " صحيح البخاري " عن أم خالد بنت خالد رضي الله عنها قالت: أُتي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصةٌ سوداءُ، قال: " مَنْ ترون نكسو هذه الخميصة "؟ فسكت القومُ، فقال: " ائتوني بأُمّ خالِدٍ " فأُتي بي النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فألبسنيها بيده، وقال: " أبْلِي، وأخْلِقِي "، مرّتين. 48 - وروينا في كتابي ابن ماجه، وابن السني، عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر رضي الله عنه ثوباً فقال: " أجَدِيدٌ هَذَا أمْ غَسِيلٌ "؟ فقال: بل غسيل، فقال: " الْبَسْ جَدِيداً، وَعِشْ حَمِيداً، ومت شهيدا ".

باب كيفية لباس الثوب والنعل وخلعهما

(بابُ كيفيّة لباسِ الثوبِ والنعلِ وخَلْعِهما) يُستحبّ أن يبتدأ في لبس الثوب والنعل والسراويل وشبهها باليمين من كميه ورجلي السراويل ويخلع الأيسر، ثم الأيمن، وكذلك الاكتحال، والسواك، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب، ونتف الإِبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، ودخول المسجد، والخروج من الخلاء، والوضوء، والغسل، والأكل، والشرب والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وأخذ الحاجة من إنسان، ودفعها إليه، وما أشبه هذا، فكله يفعله باليمين، وضدّه باليسار. 49 - وروينا في صحيحي البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه التيمّن في شأنه كله: في طهوره وترجُّلِه وتنعّلِه. 50 - وروينا في " سنن أبي داود " وغيره بالإِسناد الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كانت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى ". 51 - وروينا في " سنن أبي داود "، و " سنن البيهقي " عن حفصة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يجعلُ يمينَه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعلُ يَسَارَه لما سوى ذلك ". 52 - وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا لَبِسْتُمْ، وَإذَا تَوَضَّأْتُمْ فابْدَؤوا بأيامنكم " حديث حسن، رواه أبو داود والترمذي، وأبو عبد الله محمد بن يزيد هو ابن ماجه، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، وفي الباب أحاديث كثيرة، والله أعلم. (بابُ ما يقولُ إذا خلعَ ثوبَه لغُسْلٍ أو نومٍ أو نحوهِمَا) 53 - روينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سِتْرُ ما بَيْنَ أَعْيُنِ الجِنّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ إذَا أرَاد أنْ يَطْرَحَ ثِيابَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الذي لا إله إلا هو ". (باب ما يقول حال خروجِهِ من بيتِه) 54 - روينا عن أُمِّ سلمة رضي الله عنها، واسمها هند: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قالَ: " بسم اللَّهِ تَوَكَّلْتُ على اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أنْ أضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أوْ أزِلَّ،

باب ما يقول إذا دخل بيته

أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أوْ أجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ ". حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي: حديث صحيح. هكذا في رواية أبي داود: " أنْ أضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أزِلَّ أَوْ أُزَلَّ " وكذا الباقي بلفظ التوحيد. وفي رواية الترمذي: " أعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ نَزِلّ، وكذَلِكَ نَضِلَّ ونَظْلِمَ ونَجْهَلَ ". بلفظ الجمع. وفي رواية أبي داود: " ما خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ ". وفي رواية غيره: " كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قالَ كما ذكرنا " والله أعلم. 55 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قالَ " يعني إذَا خَرَجَ مِنْ بيته: " باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ على اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقالُ له: هديت وكفيت ووقيت، وتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطانُ " قال الترمذي: حديث حسن. زاد أبو داود في روايته: " فيقول " يعني الشيطان لشيطان آخر: " كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وكُفِيَ وَوُقِيَ؟ ". 56 - وروينا في كتابي " ابن ماجه، وابن السني " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من منزله قالَ: " بِسْمِ الله، التُّكْلانُ على الله، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ " (1) . (بابُ ما يقولُ إذا دخلَ بيتَه) يُستحبّ أن يقول: باسم الله، وأن يكثرَ من ذكر الله تعالى، وأن يسلّمَ سواء كان في البيت آدميّ أم لا، لقول الله تعالى: (فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُمُ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور: 61] . 57 - وروينا في " كتاب الترمذي " عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بُنَيَّ إذَا دَخَلْتَ على أهْلِكَ، فسلم يكن بَرَكَةً (2) عَلَيْكَ وعلى أهْلِ بَيْتِكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

_ (1) رواه ابن ماجه في سننه رقم (3885) في الدعاء، بابُ ما يَدعُو به الرجل إذَا خَرَجَ مِنْ بيته، وابن السني في: " عمل اليوم والليلة " رقم (173) بابُ ما يقول الرجل إذَا خَرَجَ مِنْ بيته، وإسناده ضعيف. (2) أي يكن سلامك بركة عليك، وفي بعض النسخ ; تكن التحية بركة عليك. وفي بعض النسخ: يكون بركة على الاستئناف. (*)

58 - وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، واسمه الحارث، وقيل: عبيد، وقيل: كعب، وقيل: عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسألُكَ خَيْرَ المَوْلِجِ وَخَيْرَ المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم اللَّهِ خَرَجْنا، وَعَلى اللَّهِ رَبِّنا تَوََكَّلْنا، ثُمَّ ليُسَلِّمْ على أهْلِهِ "، لم يُضَعِّفه أبو داود (1) . 59 - وروينا عن أبي أمامة الباهلي، واسمه صدَيُّ بن عَجْلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ على اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ خرج غَازِيَاً في سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ ضَامِنٌ على الله عَزَّ وجَلَّ حَتَّى يَتَوفَّاهُ فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلى المَسْجِد فَهُو ضَامِنٌ على الله تعالى حتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخلَهُ الجَنَّةَ أو يرده بما نال من أجر وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسلامٍ فَهُوَ ضَامنٌ على اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعَالى " حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواه آخرون. ومعنى " ضامن على الله تعالى ": أي صاحب ضمان، والضمان: الرعاية للشئ، كما يقال: تَامِرٌ، ولاَبنٌ: أي صاحب تمر ولبن. فمعناه: أنه في رعاية الله تعالى، وما أجزل هذه العطية، اللهمَّ ارزقناها. 60 - وروينا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعامِهِ قالَ الشِّيْطانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا عَشاءَ، وَإذا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعالى عنْدَ دُخُولِه، قالَ الشَّيْطانُ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ طَعامِهِ قالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ والعَشَاء " رواه مسلم في صحيحه. قال المصنف رحمه الله: ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يفعله، إلا النظر في السماء، فهو في " صحيح البخاري " دون مسلم. قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قوله: إلا النظر إلى السماء فهو في " صحيح البخاري " دون مسلم، قال الحافظ ابن حجر: بل ثبت ذلك في مسلم أيضا، وسبب خفاء ذلك على الشيخ - يعني النووي - أن مسلما جمع طرق الحديث كعادة، فساقها في " كتاب الصلاة "، وأفراد طريقا منها في " كتاب الطهارة " وهي التي وقع عنده فيها التصريح بالنظر إلى السماء ... 61 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من النهار إلى بيته يقول: " الحمد لله الذي كفاني

_ (1) وهو حديث حسن. (*)

باب ما يقول إذا استيقظ من الليل وخرج من بيته

وآوَانِي، والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أطْعَمَنِي وَسَقاني، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي مَنَّ عَليَّ، أسألُكَ أن تُجِيرَني مِنَ النَّار " إسناده ضعيف (1) . 62 - وروينا في موطأ مالك أنه بلغه، أنه يستحبّ إذا دخل بيتاً غير مسكون أن يقول: " السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عباد الصالحين ". (بابُ ما يقول إذا استيقظ من الليل وخرج من بيته) يستحبّ له إذا استيقظ من الليل وخرج من بيته أن ينظر إلى السماء ويقرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) إلى آخر السورة. 63 - ثبت في الصحيحين: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله، إلا النظر إلى السماء، فهو في " صحيح البخاري " دون " مسلم ". 64 - وثبت في الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرضِ وَمَن فيهن، وَلَكَ الحَمْدُ أنْت نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَنْ فِيهنَّ، ولكَ الحَمدُ أنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حاكَمْتُ، فاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ وأنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إِلاَّ أنتَ " زادَ بعض الرواة: " ولا حول ولا قوة إلا بالله ". (باب ما يقولُ إذا أراد دخول الخلاء) 65 - ثبت في " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقولُ عندَ دُخول الخلاء: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبْثِ وَالخَبَائث " يقال: الخبث بضم الباء وبسكونها، ولا يصحّ قول من أنكر الإِسكان. 66 - وروينا في غير الصحيحين: " باسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبْثِ وَالخبائِثِ ". 67 - وروينا عن عليّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سِتْرُ ما بَيْنَ أَعْيُنِ الجِنّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ الكَنِيفَ أنْ يَقُولَ: بسم اللَّهِ " رواه الترمذي وقال: إسناده ليس

_ (1) ولكن لبعض فقراته شواهد. قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدت له شاهدا أخرجه ابن أبي شيبة والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف، الحديث حسن. (2) وإسناده منقطع. (*)

باب النهي عن الذكر والكلام على الخلاء

بالقويّ (1) ، وقد قدّمنا في الفصول أن الفضائل يُعمل فيها بالضعيف (2) . قال أصحابنا: ويستحبّ هذا الذكر سواء كان في البنيان أو في الصحراء، قال أصحابنا رحمهم الله: يُستحبّ أن يقول أوّلاً: " بسم الله " ثم يقول: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ من الخُبْثِ والخَبائِثِ ". 68 - وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخَلاء قال: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجس النَّجِسِ الخَبِيثِ المُخْبِثِ: الشَّيْطانِ الرجِيمِ " رواه ابن السني، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء (1) . (بابُ النّهي عن الذِّكْرِ والكَلامِ على الخَلاَء) يكره الذكر والكلام حال قضاء الحاجة، سواء كان في الصحراء أو في البنيان، وسواء في ذلك جميع الأذكار والكلام، إلا كلام الضرورة حتى قال بعضُ أصحابنا: إذا عطس لا يحمد الله تعالى، ولا يشمِّت عاطساً، ولا يردّ السلام، ولا يجيب المؤذّن، ويكون المُسَلِّم مُقَصِّراً لا يستحقّ جواباً، والكلام بهذا كله مكروه كراهة تنزيه، ولا يحرم، فإن عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّه تعالى بقلبه ولم يحرّك لسانه فلا بأس، وكذلك يفعل حال الجماع. 69 - وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " مرّ رجل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبولُ فسلَّمَ عليه فلم يَرُدَّ عليهِ " رواه مسلم في " صحيحه ". 70 - وعن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال: " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلّمت عليه، فلم يَرُدَّ حتى تَوَضَّأَ، ثم اعتذر إليّ وقال: إني كَرِهْت أن أذْكُرَ اللَّهَ تَعالى إلاَّ على طُهْرٍ " أو قال: " على طَهارَةٍ " حديث صحيح، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.

_ (1) ولكن للحديث شواهد بمعناه. (2) بشرط أن لا يشتد ضعفه، ولا يعارضه خبر أصح منه، وألا يعتقد ثبوته، وأن لا يكون فيه هيئه اختراع ليس لها أصل شرعى. (3) وإسناد ضعيف كما قال الحافظ في تخريج الأذكار، وقد رواه ابن ماجة في سننه بلفظه رقم (299) في الطهارة، باب ما يقول الرَّجُلَ إذَا دُخلَ الخلاء، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف أيضا، قال الحافظ في تخريج الأذكار: وعجب للشيخ - يعني النووي - كيف أغفله وعدل إلى حديث ابن عمر، مع أنهما في المرتبة سواء، وحديث أبي أمامة أشهر لكونه في إحدى السنن. (*)

باب النهي عن السلام على الجالس لقضاء الحاجة

(بابُ النّهي عن السَّلام على الجالس لقضاء الحَاجَة) قال أصحابنا: يُكره السلام عليه، فإن سلَّم لم يستحقَّ جواباً، لحديث ابن عمر والمهاجر المذكورين في الباب قبلَه. (بابُ ما يقولُ إذَا خَرَجَ مِنْ الخَلاَء) يقول: " غُفْرَانَكَ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أذْهَبَ عَنِّي الأذَى وَعافانِي ". 71 - ثبت في الحديث الصحيح في " سنن أبي داود " و " الترمذي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " غُفْرَانَك " وروى النسائي وابن ماجه باقيه. 72 - وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مِنْ الخلاء قال: " الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ، وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ، وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاهُ " رواه ابن السني والطبراني. (بابُ ما يقولُ إذا أراد صَبَّ ماء الوضوءِ أو استقاءه) يُستحبّ أن يقول " بسم اللَّه " كما قدَّمناه. (بابُ ما يَقولُ على وضُوئه) يُستحبّ أن يقول في أوّله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ " وإن قالَ " بِسْمِ اللَّهِ " كفى. قال أصحابنا: فإن ترك التسمية في أوّل الوضوء أتى بها في أثنائه، فإن تركها حتى فرغ فقد فات محلها فلا يأتي بها ووضوءه صحيح، سواء تركها عمداً أو سهواً، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، وجاء في التسمية أحاديث ضعيفة، ثبت عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: لا أعلم في التسمية في الوضوء حديثاً ثابتاً. 73 - فمن الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الله عَلَيْهِ " رواه أبو داود وغيره. وروينا من رواية سعيد بن زيد وأبي سعيد وعائشة وأنس بن مالك وسهل بن سعد رضي الله عنهم، رويناها كلها في " سنن البيهقي "، وغيره، وضعّفها كلها البيهقي وغيره (1) . فصل: قال المصنف رحمه الله: قال بعض أصحابنا، وهو الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي الزاهد: يستحب للمتوضئ أن يقولَ في ابتداء وضوئه بعد التسمية: أشهدُ أن لا

_ قال الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب ": ولا شك أن الأحاديث التي وردت في التسمية وإن كان لا يسلم شئ منها عن مقال فإنها تتعاضد بكثرة طرقها وتكتسب قوة، والله أعلم. اه. وكذلك قال العز بن جماعة: أن له طرقاً تقويه. وذهب الجمهور العلماء إلى أنها سنة. قال الحافظ المنذري: وقد ذهب = (*)

إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه. وهذا الذي قاله لا بأس به، إلا أَنَّهُ لا أصل له من جهة السنة، ولا نعلم أحداً من أصحابنا وغيرهم قال به، والله أعلم. قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الزركشي: قال ته شيخنا سليم الرازي، وقتلهما الصيمري، وقال الحافظ ابن حجر في أماليه: أخرج جعفر المستغفري - قال الحافظ: في كتاب الدعوات - من طريق سالم بن أبي الجعد عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ إدا تو ضا: بسم الله، ثم يقول لكل عضو: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدا عبدُهُ ورسوله، ثم قال إذَا فرغمن وضوئه: اللهم اجعلني من التوابين والمطهرين إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيها شاء " هذا حدث غريب، وفيه تعقب على المنصف في قوله أن التشهد بعد التسمية لم يرد. فصل: ويقول: بعد الفراغ من الوضوء: " أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَوَّابِينَ، واجْعَلْني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إِلَيْكَ ". 74 - روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَوَضَّأ فَقالَ: أشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيِّها شاءَ " رواه مسلم في " صحيحه "، ورواه الترمذي وزاد فيه " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِن التَّوَّابِينَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ ". وروى: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِك " إلى آخره: النسائي في " اليوم والليلة " وغيرُه بإسناد ضعيف (1) . 75 - وروينا في " سنن الدارقطني " عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ تَوَضَّأ ثُم قال: أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَبْلَ أنْ يَتَكَلَّم، غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَ الوُضُوءَيْن " إسناده ضعيف. 76 - وروينا في مسند أحمد بن حنبل وسنن ابن ماجه وكتاب ابن السني من رواية أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ ثَلاَثَ مرات:

_ = الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأهل الظاهر إلى وجوب التسمية في الوضوء، حتى إنه إذا تعمد تركها أعاد الوضوء، وهو رواية عن الإمام أحمد. (1) ظاهر كلام المصنف يوهم أن زياده " سبحانك اللهم " في حديث عقبه عن عمر، كما في الذي قبله، وليس كذلك، بل هو حديث مستقل، عن أبي سعيد الخدري، وسنده مغاير لسند عقبة في جميع رواته. اه. أقول: وقد اختُلِفَ في رفع المتن ووقفه، فرجح غيره الرفع، وهو موقوف صحيح لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع. (*)

باب ما يقول على اغتساله

أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُهُ وَرَسولُهُ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أبْوَابِ الجَنَّةِ مِنْ أيّها شاءَ دَخَلَ " إسناده ضعيف (1) . 77 - وروينا تكريرَ شهادة: أن لا إله إلاَّ الله، ثلاث مرات في كتاب ابن السني من رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه بإسناد ضعيف، قال الشيخ نصر المقدسي: ويقول مع هذه الأذكار: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، ويضمّ إليه: وسلم. قال أصحابنا: ويقول هذه الأذكار مستقبل القبلة، ويكون عقيب الفراغ. فصل] : وأما الدعاء على أعضاء الوضوء، فلم يجئ فيه شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الفقهاء: يُستحبّ فيه دعوات جاءتْ عن السلف، وزادوا ونقصوا فيها، فالمتحصّل مما قالوه أنه يقول بعد التسمية: الحمد للَّهِ الذي جعل الماء طهوراً، ويقول عند المضمضة: اللهم اسقِني من حوْضِ نبيِّك مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كأساً لا أظمأ بعده أبداً، ويقول عند الاستنشاق: اللهمّ لا تحرِمني رائحة نعيمِك وجناتِك، ويقول عند غسل الوجه: اللهمّ بيِّض وجهي يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوه، ويقول عند غسل اليدين: اللهمّ أعطِني كتابي بيميني، اللهمّ لا تعطِني كتابي بشمالي، ويقول عند مسح الرأس: اللهمّ حرّم شعري وبشرِي على النار، وأظلّني تحت عرشِك يوم لا ظلّ إلا ظلُّك، ويقول عند مسح الأُذنين: اللهمّ اجعلني من الَّذينَ يستمعونَ القَوْلَ فيتَّبعون أحسنه، ويقول عند غسل الرجلين: اللهمّ ثبِّت قدميَّ على الصراط، والله أعلم. 78 - وقد روى النسائي وصاحبه ابن السني في كتابيهما " عمل اليوم والليلة " بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فتوضأ، فسمعته يدعو ويقول: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَسِّعِ لي فِي داري، وَبارِكْ لي في رِزْقِي " فقلتُ: يا نبيّ الله سمعتك تدعو بكذا وكذا، قال: " وَهَلْ تركن من شئ؟ " ترجم ابن السني لهذا الحديث باب ما يقول بين ظهراني وضوئه وأما النسائي فأدخله في باب: ما يقول بعد فراغه من وضوئه، وكلاهما محتمل. (بابُ ما يقولُ على اغْتسالِه) يستحبّ للمغتسل أن يقول جميع ما ذكرناه في المتوضئ من التسمية وغيرها، ولا فرق في ذلك بين الجُنب والحائض وغيرهما، وقال بعض أصحابنا: إن كان جُنُباً أو حائضاً لم يأتِ بالتسمية، والمشهور أنها مستحبّة لهما كغيرهما، لكنهما لا يجوز لهما أن يقصدا بها القرآن.

_ وهو بمعنى حديث عمر رضي الله عنه الذي قبله من رواية مسلم دون قوله " ثلاث مرات ". (*)

باب ما يقول على تيممه

(بابُ ما يقولُ على تَيَمُّمِه) يُستحبّ أن يقول في ابتدائه: " بسم الله " فإن كان جُنباً أو حائضاً، فعلى ما ذكرنا في اغتساله، وأما التشهّد بعده وباقي الذكر المتقدم في الوضوء والدعاء على الوجه والكفّين، فلم أرَ فيه شيئاً لأصحابنا ولا غيرهم، والظاهر أن حكمه على ما ذكرنا في الوضوء، فإن التيمّم طهارة كالوضوء. (بابُ ما يقولُ إذا توجَّهَ إلى المسجدِ) 79 - قد قدّمنا ما يقوله إذا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلى أيّ موضع خرج، وإذا خرج إلى المسجد فيستحبّ أن يضمّ إلى ذلك ما رويناه في " صحيح مسلم " في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مبيته في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، ذكر الحديث في تهجّد النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فأذّن المؤذّن: يعني الصبح، فخرج إلى الصلاة وهو يقول: اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُوراً، وفي لِسانِي نُوراً، وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً، وَاجْعَلْ في بَصَري نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراً، وَمِنْ أمامي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقي نُوراً وَمِنْ تَحْتِي نُوراً، اللَّهُمَّ أعْطِني نُوراً ". 80 - وروينا في كتاب ابن السني عن بلال رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قالَ: " بِسْمِ اللَّهِ، آمَنْتُ باللَّهِ، تَوَكَّلْتُ على اللَّهِ، لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاََّ باللَّهِ، اللَّهُمَّ بِحَقّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقّ مَخْرَجِي هَذَا فإني لَمْ أخْرُجْهُ أشَراً وَلاَ بَطراً وَلاَ رِياءً وَلاَ سُمْعَةً، خَرَجْتُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِكَ، وَاتِّقاءَ سَخَطِكَ، أسألُكَ أنْ تُعِيذَني من النار وأن تدخلني الجَنَّة "، حديث ضعيف، أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. وروينا في كتاب ابن السني معناه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعطية أيضاً ضعيف (1) .

_ (1) وهو كما قال، وقد أبعد المصنف رحمة الله، فالحديث قد رواه ابن ماجه رقمن (778) في المساجد والجماعات، وأحمد في المسند 3 / 21 من حديث فضيل بن مرزوق عن عطيةَ بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري، وإسناده ضعيف، وقد الحسنه الحافظ في تخريج الأذكار، ونسبة لأحمد وابن ماجه وابن خزيمة في كتاب " التوحيد " وأبي نعيم الأصبهاني، قال: وفي كتاب الأصلاة لأبي نعيم: عن فصيل عن عطية قال: حدثني ... فدكره، لكن لم يرفعه، فقد أمن بذلك تدليس عطية العوفي. وقال الحافظ: وقد عجبت للشيخ - يعني النووي - كيف اقتصر على سوق رواية بلال دون أبي سعيد وعز ورواية أبي سعيد لا بن السني دون ابن ماجه (*)

باب ما يقوله عند دخول المسجد والخروج منه

(بابُ ما يقولُه عندَ دخول المسجد والخروج منه) يُستحبُّ أن يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم الحَمْد لِلَّهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على مُحَمََّدٍ وَعَلى آلِ محمد، اللهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يقول: بسم الله، ويقدّم رجله اليمنى في الدخول، ويقدّم اليسرى في الخروج، ويقول جميع ما ذكرناه إلا أنه يقول: " أبواب فضلك "، بدل " رحمتك ". 81 - روينا عن أبي حُميد أو أبي أُسيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيُسَلِّم على النَّبيّ صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُم ليَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِني أسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ " رواه مسلم في " صحيحه " وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة، وليس في رواية مسلم: " فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم " وهو في رواية الباقين. زاد ابن السني في روايته " وإذا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أعِذْنِي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ " وروى هذه الزيادة ابن ماجه وابن خزيمة وأبو حاتم بن حبان بكسر الحاء في " صحيحيهما ". 82 - وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول: " أعُوذُ بالله العَظِيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشِّيْطانِ الرَّجِيم، قالَ: فإذَا قَال ذلكَ قالَ الشَّيْطانُ: حُفِظَ مِنِّي سائِرَ اليَوْمِ " حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد. 83 - وروينا في كتاب ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قالَ: " بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَإذَا خَرَجَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ ". 84 - وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه من رواية ابن عمر أيضاً. 85 - وروينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن جدته قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد حمد الله تعالى وسمَّى وقال: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وافْتَحْ لِي أبْوابَ رَحْمَتِكَ، وَإذَا خَرَجَ قالَ مِثْلَ ذلكَ، وقالَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوَابَ فَضْلِكَ ". 86 - وروينا فيه عن أبي أُمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنَّ أحدَكُمْ إذَا أرَاد أن يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ تَدَاعَتْ جُنُودِ إِبلِيسَ، وَأجْلَبَتْ واجْتَمَعَتْ كما تَجْتَمعٌ النَّحْلُ على

باب ما يقول في المسجد

يَعْسُوبِها، فإذَا قامَ أحَدُكُمْ على بابِ المَسْجِدِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ إِبْليسَ وجُنُودِهِ، فإنَّهُ إذَا قَالَها لَمْ يَضُرَّهُ " (1) . اليعسوب: ذكر النحل، وقيل: أميرها. (باب ما يقولُ في المسجد) يُستحبُّ الإِكثارُ فيه من ذكر الله تعالى والتسبيح والتهليهل والتحميد والتكبير وغيرها من الأذكار، ويُستحبّ الإِكثارُ من قراءة القرآن، ومن المستحبّ فيه قراءة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم الفقه وسائر العلوم الشرعية، قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أن يرفع ويذكر فيها اسمه، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والآصَالِ رِجالٌ ... ) الآية [النور: 35] وقال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنها مِنْ تَقوى القُلُوب) [الحج: 32] وقال تعالى: (وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 20] . 87 - وروينا عن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّما بُنِيَت المَساجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ " رواه مسلم في " صحيحه ". 88 - وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ الذي بال في المسجد: " إنَّ هَذِه المَساجدَ لا تَصْلُحُ لشئ مِنْ هَذَا البَولِ وَلا القَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تعالى [والصلاة] وَقَرَاءَةِ القُرآنِ " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم في " صحيحه ". فصل: وينبغي للجالس في المسجد أن ينوي الاعتكاف، فإنه يصحّ عندنا ولو لم يمكث إلا لحظة، بل قال بعض أصحابنا: يصحّ اعتكاف من دخل المسجد مارّاً ولم يمكث، فينبغي للمارّ أيضاً أن ينوي الاعتكاف لتحصل فضيلتَه عند هذا القائل، والأفضل أن يقف لحظة ثم يمرّ، وينبغي للجالس فيه أن يأمر بما يراه من المعروف وينهى عمّا يراه من المنكر، وهذا وإن كان الإِنسان مأموراً به في غير المسجد، إلا أنه يتأكد القولُ به في المسجد صيانةً له وإعظاماً وإجلالاً واحتراماً، قال بعض أصحابنا: من دخل المسجد فلم يتمكن من صلاة تحية المسجد، إما لحدث، أو لشغل أو نحوه، يُستحبّ أن يقول أربع مرات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، واللَّه أكبر، فقد قال به بعض السلف، وهذا لا بأس به.

_ (1) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (152) وإسناده ضعيف. (*)

باب إنكاره ودعائه على من ينشد ضالة في المسجد أو يبيع فيه

(باب إنكاره ودعائه على من يَنشُدُ ضالّةً في المسجد أو يبيعُ فيه) 89 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عَلَيْكَ فإِنَّ المَساجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا ". 90 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن بُريدة رضي الله عنه: أن رجلاً نشدَ في المسجد فقال: مَن دَعا إليَّ الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وَجَدْتَ إنَّمَا بُنِيَت المَساجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ". 91 - وروينا في " كتاب الترمذي " في آخر كتاب البيوع " منه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا رأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أوْ يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجارَتَكَ، وَإذَا رَأيْتُمُ مَنْ يَنْشُدُ فيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ "، قال الترمذي: حديث حسن. (باب دعائه على من ينشد في المسجد شعراً ليس فيه مدحٌ للإِسلام ولا تزهيدٌ، ولا حثٌّ على مكارمِ الأخلاق ونحو ذلك) 92 - قال المصنف رحمة الله: روينا في كتاب ابن السني عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ رأيْتُمُوهُ يُنْشِدُ شِعْراً في المَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ: فَضَّ الله فَاكَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ " (1) . قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر: وثوبان المذكور، ليس هو المشهور مولى ررسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل هو آخر لا يُعرف إلا في هذا الأسناد. (بابُ فضيلةِ الأذان) 93 - روَينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما فِي النِّدَاءِ وَالصَّفّ الأوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا " رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما ". 94 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أدْبَرَ الشَّيْطانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حتَّى لا يَسْمَعَ التَّأذِينَ " رواه البخاري ومسلم.

_ وإسناده ضعيف. (*)

95 - وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المُؤَذّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعناقاً يَوْمَ القِيامَةِ " رواه مسلم. 96 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذّنِ جنّ ولا إنس ولا شئ إِلاَّ شَهدَ لَهُ يَوْمَ القِيامة " رواه البخاري، والأحاديث في فضله كثيرة. واختلف أصحابنا في الأذان والإمامة، أيّهما أفضل على أربعة أوجه: الأصحّ أن الأذان أفضل، والثاني: الإمامة والثالث: هما سواء، والرابع: إن علم من نفسه القيام بحقوق الإِمامة واستجمع خصالها فهي أفضل، وإلا فالأذان أفضل. اعلم أن ألفاظه مشهورة، والترجيعُ عندنا سنّة، وهو أنه إذا قال بعالي صوته: اللَّهُ أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، قال سِرّاً بحيثُ يُسمع نفسَه ومَن بقربه: أشهدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهد أن لا الله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهدُ أنَّ محمدا رسول الله. ثم يعودُ إلى الجهر وإعلاء الصوت، فيقول: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله. والتثويبُ أيضاً مسنون عندنا، وهو أن يقول في أذان الصبح خاصة بعد فراغه من حيّ على الفلاح: الصلاةُ خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم. وقد جاءت الأحاديث بالترجيع والتثويب، وهي مشهورة. (1) . واعلم أنه لو تَرَكَ الترجيعَ والتثويبَ صحّ أذانه وكان تاركاً للأفضل، ولا يصحّ أذان مَن لا يُميِّزُ، ولا المرأة، ولا الكافر، ويصحّ أذان الصبيّ المميز، وإذا أذّن الكافر وأتى بالشهادتين كان ذلك إسلاماً على المذهب الصحيح المختار، وقال بعض أصحابنا: لا يكون إسلاماً، ولا خلاف أنه لا يصحّ أذانه، لأن أوّله كان قبل الحكم بإسلامه، وفي الباب فروع كثيرة مقرّرة في كتب الفقه ليس هذا موضع إيرادها.

_ (1) منها ما رواه أبو داود وغيره أن أبي محذورة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: " تقول: اللَّهُ أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله أشهدُ أنَّ محمدا رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كانت صلاة الصبح قلت: الصلاةُ، خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ". رواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح لطرقه. (*)

باب صفة الإقامة

(بابُ صِفَةِ الإِقامة) المذهب الصحيح المختار الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة أن الإِقامة إحدى عشرة كلمة: الله أكبر الله كبر، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فصل: واعلم أن الأذانَ والإِقامةَ سنّتان عندنا على المذهب الصحيح المختار، سواءٌ في ذلك أذان الجمعة وغيرها. وقال بعض أصحابنا: هما فرض كفاية وقال بعضهم: هما فرض كفاية في الجمعة دون غيرها فإن قلنا: فرض كفاية، فلو تركه أهلُ البلد أو مَحَلَّةٍ قُوتلوا على تركه وإن قلنا: سنّة لم يُقاتلوا على المذهب الصحيح المختار، كما لا يُقاتَلون على سنّة الظهر وشبهها، وقال بعض أصحابنا: يُقاتَلون لأنه شعار ظاهر. فصل: ويُستحبُّ ترتيل الأذان ورفع الصوت به، ويستحبّ إدراج الإقامة (1) ، ويكون صوتها أخفض من الأذان، ويستحبّ أن يكون المؤذنُ حسن الصوت، ثقةً، مأموناً، خبيراً بالوقت، متبرعاً، ويستحبّ أن يؤذّن ويقيم قائماً على طهارة وموضع عال، مستقبل القبلة، فلو أذّن أو أقام مستدبر القبلة، أو قاعداً، أو مضطجعاً، أو مُحدثاً، أو جُنباً صحّ أذانه وكان مكروها، والكراهة في الجُنب أشدّ من المحدث، وكراهة الإِقامة أشد. فصل: لا يُشرع الأذان إلا للصلوات الخمس: الصبح والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وسواء فيها الحاضرة والفائتة، وسواء الحاضر والمسافر، وسواء من صلَّى وحده أو في جماعة، وإذا أذّن واحدٌ كفى عن الباقين، وإذا قضى فوائت في وقت واحد أذّن للأولى وحدها، وأقام لكلّ صلاة. وإذا جمع بين الصلاتين، أذّن للأولى وحدها، وأقام لكل واحدة، وأما غير الصلوات الخمس فلا يؤذن لشئ منها بلا خلاف، ثم منها ما يستحبّ أن يقال عند إرادة صلاتها في جماعة: الصلاة جامعة مثل العيد والكسوف والاستسقاء. ومنها ما يستحب ذلك فيه، كسنن الصلوات، والنوافل المطلقة، ومنها ما اختلف فيه كصلاة التراويح، والجنازة، والأصحّ أنه يأتي به في التراويح دون الجنازة.

_ (1) إي الإسراع بها، إد أصل الإِدراج الطيُّ، ثم استعير لإِدخال بعض الكلمات في بعض، لما صحَّ من الأمر به، وفارقت الأذان بأنه للغائبين، والترتيب فيه أبلغ، وهي للحاضرين، فالإِدراج فيها أشبه. (*)

باب ما يقول من سمع المؤذن والمقيم

فصل: ولا تصحّ الإِقامة إلا في الوقت وعند إرادة الدخول في الصلاة، ولا يصحّ الأذان إلا بعد دخول وقت الصلاة، إلا الصبح، فإنه يجوز الأذان لها قبل دخول الوقت. واختُلف في الوقت الذي يجوز فيه، والأصحّ أنه يجوز بعد نصف الليل، وقيل: عند السَّحَر، وقيل: في جميع الليل، وليس بشئ، وقيل: بعد ثلثي الليل، والمختار الأوّل. فصل: وتقيم المرأة والخنثى المشكل، ولا يؤذّنان لأنهما منهيّان عن رفع الصوت. (بابُ ما يقولُ مَنْ سمعَ المؤذّنَ والمقيمَ) يُستحبّ أن يقول من سمع المؤذّن والمقيم: مثل قوله، إلا في قوله: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فإنه يقول في كل لفظة: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ. ويقول في قوله: الصلاة خير من النوم: صدقتَ وبررتَ، وقيل: يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاةُ خيرٌ من النوم. ويقول في كلمتي الإِقامة: أقامها الله وأدامها (1) ، ويقول عقيب قوله: أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله: وأنا أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يقول: رضيتُ باللَّهِ رَبّاً، وبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإِسلام ديناً، فإذا فرغَ من المتابعة في جميع الأذان صلَّى وسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال اللَّهُمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثْه مقاماً محموداً الذي وعدته. ثم يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا. 97 - روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا سَمِعْتُمُ النِّداءَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ المُؤَذّنُ " رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما ". 98 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صلّوا عَليَّ، فإنَّهُ مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِها عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا الله لِي الوَسِيلَةَ، فإنها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ الله وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فَمَنْ سألَ لِيَ الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفاعَةُ " رواه مسلم في " صحيحه ".

_ (1) رواه أبو داود رقم (528) في الصّلاة: بابُ ما يقول إذا سمع الإقامة، من حديث أبي أمامة أم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقامَها اللَّهُ وأدامها " وإسناد ضعيف. قال الحافظ في " التلخيص " 1 / 211 ولا أصل لما ذكره في الصلاة خيرمن النوم. (*)

99 - وعن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا قالَ المُؤَذّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، فَقالَ أحَدُكُمْ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثم قال: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، قالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، قالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ عَلى الفَلاح، قالَ: لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبرُ، ثمَّ قالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ، قالَ: لا إلهَ إِلاَّ الله مِنْ قَلْبه دَخَلَ الجنَّة " رواه مسلم في " صحيحه ". 100 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذّنَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريك لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ باللَّهِ ربا، وبمحمد رَسُولاً، وبالإِسْلامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ " وفي رواية: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذّنَ: وأنا أشْهَدُ " رواه مسلم في " صحيحه ". 101 - وروينا في " سنن أبي داود " عن عائشة رضي الله عنها بإسناد صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذّن يتشهد، قال: " وأنا وأنا ". 102 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبِّ هَذهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقاماً محموداً الذي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفاعَتِي يَوْمَ القِيامَةِ " رواه البخاري في " صحيحه ". 103 - وروينا في كتاب ابن السني عن معاوية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن يقول: حيّ على الفلاح، قال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مُفْلِحِين " (1) . 104 - وروينا في " سنن أبي داود " عن رجل عن شَهْر بن حَوْشَب عن أبي أمامة الباهلي، أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أقامَها اللَّهُ وأدَامَها " (2) ، وقال في سائر ألفاظ الإِقامة، كنحو حديث عمر في الأذان. 105 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا سمع المؤذّن يُقيم الصلاة يقول: اللهمّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، صلِّ على محمَّد وآته سؤلَه يومَ القيامة.

_ (1) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (90) وإسناده ضعيف. (2) وإسناده ضعيف ضعّفه الحافظ ابن حجر وغيره. (*)

باب الدعاء بعد الأذان

فصل: إذا سمع المؤذنَ أو المقيم وهو يصلي لم يجبه في الصلاة، فإذا سلَّم منها أجابه كما يجيبه مَن لا يُصلي، فلو أجابه في الصلاة كُرِه ولم تبطلْ صلاتُه، وهكذا إذا سمعه وهو على الخلاء لا يُجيبه في الحال، فإذا خرج أجابه، فأما إذا كان يقرأ القرآن أو يسبّح أو يقرأ حديثاً أو عِلْمَاً آخر أو غير ذلك، فإنه يقطع جميع هذا، ويجيب المؤذِّنَ، ثم يعود إلى ما كان فيه، لأن الإِجابة تفوت، وما هو فيه لا يفوت غالباً، وحيث لم يتابعه حتى فرغ المؤذّن يستحبّ أن يتدارك المتابعة ما لم يطل الفصل. (بابُ الدُّعاء بعد الأذان) 106 - روينا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُرَدُّ الدُّعاءُ بَينَ الأذَانِ والإِقامَةِ " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن السني وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وزاد الترمذي في روايته في " كتاب الدعوات " من " جامعه "، قالوا: فماذا نقول يارسول الله؟ قال: " سَلُوا اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ". 107 - وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رجلاً قال: " يا رسول الله إن المؤذّنين يفضُلُوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قُلْ كما يَقُولونَ فإذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَه " رواه أبو داود ولم يضعفه (1) . 108 - وروينا في " سنن أبي داود " أيضاً في " كتاب الجهاد " بإسناد صحيح، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثِنْتانِ لا تُرَدَّانِ، أوْ قالَ: ما تُرَدَّانِ: الدُعاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البأسِ حِينَ يُلْجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً " قلت: في بعض النسخ المعتمدة: " يلحم " بالحاء، وفي بعضها بالجيم، وكلاهما ظاهر (2) . (باب ما يقولُ بعدَ ركعتي سنّة الصُّبح) 109 - وروينا في كتاب ابن السني عن أبي المُلَيْح، واسمه عامر بن أُسامة عن أبيه رضي الله عنه أنه صلّى ركعتيّ الفجر، وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صلَّى قريباً منه ركعتين خفيفتين، ثم سمعه يقول وهو جالس: " اللَّهُمَّ رَبّ جِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمِيكائِيلَ ومُحَمَّدٍ النَّبي صلى الله عليه وسلم، أعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ " (3) .

_ (1) وهو حديث حسن، حسنه الحافظ وغيره. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار، لكن اقتصر على الأول الجمهور، حتى ضبطه السيوطي في حاشية بالحاء المهملة. (3) إسناده ضعيف. قال الحافظ في تخريج الأذكار: ولأصل هذا الذكر شاهد حسن أخرجه أبو داود والترمذي (*)

باب ما يقول إذا انتهى إلى الصف

110 - وروينا فيه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغَدَاةِ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتوب إليه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، غَفَرَ اللَّهُ تَعالى ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زبد البحر ". (بابُ ما يقولُ إذا انتهى إلى الصَّفّ) 111 - روَينا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى الصلاة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهمّ آتني أفضل ما تُؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: " مَنِ المُتَكَلِّمُ آنِفاً؟ " قَالَ: أنا يا رَسُولَ الله قال: " إذَنْ يُعْقَر جَوَادُكَ وَتَسْتَشْهِد في سَبِيلِ الله تَعَالى " (1) رواه النسائي وابن السني، ورواه البخاري في " تاريخه " في ترجمة محمد بن مسلم بن عائذ. (باب ما يقولُ عند إرادته القيامَ إلى الصَّلاة) 112 - قال المصنف رحمة الله " باب ما يقولُ عند إرادته القيامَ إلى الصَّلاة ": روينا في كتاب ابن السني عن أُمّ رافع أنها قالت: يا رسول الله دُلَّني على عملٍ يأجرني الله عزّ وجلّ عليه، قال: " يا أم رافع إذَا قُمْتِ إلى الصَّلاةِ فَسَبِّحِي اللَّهَ تَعَالى عشرا، وهليله عَشْراً، واحْمَدِيهِ عَشْراً، وكَبِّرِيهِ عَشْراً، وَاسْتَغْفِرِيهِ عَشْراً، فإنَّكِ إذَا سَبَّحْتِ قالَ: هَذَا لي، وَإذَا هَلَّلْتِ قالَ: هَذَا لِي، وَإذَا حَمِدْتِ قالَ: هَذَا لي، وَإذَا كَبَّرْتِ قالَ: هَذَا لي، وَإذَا اسْتَغْفَرْتِ قالَ: قَدْ فَعَلْتُ ". قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر في رسالة له: الحمد الله وكفى، وسلام على عباد الذين اصطفى، أما بعد: فقد سئلت عما أحدثه بعض المشايخ في مسجده من الاجتماع على ذكر الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر عشرا عشرا عند إرادة إقامة الصلاة بحيث يشرع المؤذن في الإقامة عند إنتهائه، فهل لهذا الذي أحدثه الشيخ أصل من السنة في هذا المحل، أو لا؟ وهل عد ذلك من البدع الحسنه التي يثاب فاعلها، أو لا؟

_ = من رواية بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جده، وليس فيه تقييد بوقت، وفي آخره: وإن كان فر من بدل الزحف " وإن كان ذنوبه أكثر من زبد البحر ". (1) فيه عظيم فضل الجهاد، وإنه أفضل ما أوتي صالحو العباد لكن تقدم أن مثل هذا محمول على اختلاف الأحوال، وإلا فالصلاة أفضل الأعمال، وكذلك الكلام في التفضيل بين الذكر والجهاد. (*)

فأجبت وبالله التوفيق: بلغني أنه تمسك بما وقع في كتاب " الأذكار " لشيخ الأسلام النووي نفع اللَّهُ تَعالى به، فانه قال ما نصه: باب ما يقول عنه إرادته القيامَ إلى الصَّلاة: روينا في كتاب ابن السني عن أُمّ رافعٍ ... إلخ فكأنه فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قُمْتِ إلى الصَّلاةِ: إذا أردت القيامَ إلى الصَّلاة، وقد عينه بعض أهل العلم في دعاء الافتتاح، وعينه آخر في صلاة مخصوصة، وهي التي تسمي صلاة التسبيح، فقد جاء التصريح بقول نحو ذلك في الأذكار كلها إلا التشهد، وعينه آخر في التشهد: إذا انتهى التشهد أتى بالذكر المأثور، وبما شاء، ثم سلم فاقتضى خلافهم النظر في الأقوى من ذلك، وذلك يحصل إن شاء الله تعالى بمجمع طرق هذا الحديث، وبيان اختلاف ألفاظه، فإنها ترشد الناظر إلى أقوى الاحتمالات التي تنشأ عن الفكر - في الأصل: وهو تحريف - قبل النظر فيها، وذلك يستدعي ذكر الثلاثه فصول نشتمل على مقدمة ونتيجة وخاتمة، فالمقدمة في الكلام على حال الحديث فيها يرجع إلى الصحة وغيرها، والنتجه فيما يستفاد منه للعمل، وهو المقصود بالسؤال، والخاتمة في التنبيه على الراجع من ذلك. الفصل الأول: هذا الحديث أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن إسحاق الدينوري المعروف بابن السني في كتابه " عمل اليوم والليلة " له، فقال: باب ما يقول إذا قام إلى الصلاة، فلم يتصرف في لفظ الخبر كما تصرف الشيخ محيي الدين - يعني النووي - ثم ساق من طريق علي بن عياش عن عطاف ابن خالد عن زيد بن أسلم عن أُمّ رافعٍ أنها قالت ... فذكره، وقال في آخره: قد غفرت لك، بدل قوله: قد فعلت. قال الحافظ: في هذا السند علتان. أحدهما: أن بين زيد بن أسلم وأم واسطة كما سأبينه، فهو منقطع، والثانية أن عطاف بن خالد مختلف في تو ثيقه وتجريحه - في الأصل: وتخريجه، وهو تصحيف - وأما سائر رواته فهم من رجال الصحيح ... قال الحافظ: قد خولف في سند هذا الحديث وفي سياق متنه ... وذكر الخلاف في السند والمتن، بما يطول شرحه. ثم قال في الفصل الثالث: وتحرر من الذي ذكرته من طريق الترجيح أن لا مدخل لذلك في القول قبل الدخول في الصلاة أصلا، وتحرر من الذي ذكرته من طريق الجمع أنه يشرع قبل الصلاة، لكنه مخصوص بصلاة، قيام الليل، وهو منزل على الحالتين اللتين ذكرتهما من حال المستحضر للذكر المذكور عند إرادة الدخول في صلاة الليل، ومن حال من نسي ذلك، فيستدركه في الافتتاح، هذا الذي يقتضيه النظر فيما دل عليه اختلاف ألفاظ هذا الحديث من حمل مظلقها على مقيدها، ورد مجملها إلى مبنيها.

باب الدعاء عند الإقامة

وأما تنزيله منزلة المذكور المشهور في قصة أهل الدثور، واجتماع المصلين عليه قبل الشروع في الصلاة كما يجتمعون عليه بعد الفراغ من الصلاة، فلا يحفظ عن صنع أحد من السلف، لا عن الصحابة الأطهار، ولا عن التابعين لهم باحسان وهم الأثمة الأبرار، ولا من جاء بعدهم من فقهاء الأمصار، ولا المشايخ المقتدى بهم في الأعصار، فالأولى لمن أراد المواظبة على هذه الأذكار أن يقولها في نفسه، فأفضل الذكر ما يلحق بالسرائر ا. هـ. (بابُ الدُّعاء عندَ الإِقامة) 113 - روى الإِمام الشافعي بإسناده في " الأُمّ " حديثاً مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اطْلُبُوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصَّلاةِ وَنُزُولِ الغَيْثِ " (1) . وقال الشافعي: وقد حفظت عن غير واحدٍ طَلبَ الإِجابة عند نزول الغيث وإقامة الصّلاة (2) . (بابُ ما يقولُه إذا دخلَ في الصَّلاة) اعلم أن هذا الباب واسعٌ جداً، وجاءت فيه أحاديث صحيحة كثيرة من أنواع عديدة، وفيه فروع كثيرة في كتب الفقه ننبّه هنا منها على أصولها ومقاصدِها دون دقائقها ونوادرها، وأحذفُ أدلّة معظمها إيثاراً للاختصار، إذ ليس هذا الكتاب موضوعاً لبيان الأدلة، إنما هو لبيان ما يُعمل به، والله الموفِّق.

_ (1) رواه الشافعي في " الأمّ " في آخر الستسقاء 1 / 223 و 224 عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم..الخ، وهو مرسل أو معضل، لأن جلّ رواية مكحول عن التابعين، قال الحافظ في تخريج الأذكار وله شاهد عن عطاء بن أبي رباح قال: تفتح السماء عند ثلاث خلال فتحروا فيهن الدعاء، فذكر مثل مرسل مكحول أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وهو مقطوع جيد، له حكم المرسل، لأن مثله لا يقال بالرأي. (2) قال الحافظ: ورد في ذلك عده أحاديث، منها حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفين في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلاة، وعند رؤية الكعبة، حديث غريب، أخرجه البيهقي في " المعرفة " وأشار إليه في السنن وإلى ضعفه بعفير بن معدان أحد رواته شامي ضعيف، وله شاهد من حديث ابن عمر قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفتح أبواب السماء الخمس ... " فذكر نحو، وسنده ضعيف أيضا. أقول: أما الدُّعاءُ بَينَ الأذَانِ والإقامة، فقد ورد فيه عدة أحاديث وهي صالحة للاحتجاج بها. (*)

باب تكبيرة الإحرام

(بابُ تكبيرةِ الإِحْرام) اعلم أن الصلاةَ لا تصحّ إلا بتكبيرة الإِحرام فريضة كانت أو نافلة، والتكبيرةُ عند الشافعي والأكثرين جزء من الصلاة وركن من أركانها، وعند أبي حنيفة: هي شرطٌ ليست من نفس الصلاة. واعلم أن لفظ التكبير أن يقول: الله أكبر، أو يقول: الله الأكبر، فهذان جائزان عند الشافعي وأبي حنيفة وآخرين، ومنع مالك الثاني، والاحتياط أن يأتي الإِنسان بالأوّل ليخرج من الخلاف، ولا يجوز التكبير بغير هذين اللفظين، فلو قال: الله العظيم، أو الله المتعالي، أو الله أعظم، أو أعزّ أو أجلّ وما أشبه هذا، لم تصحّ صلاته عند الشافعي والأكثرين، وقال أبو حنيفة: تصحّ. ولو قال: أكبرُ الله، لم تصحّ على الصحيح عندنا، وقال بعض أصحابنا: تصح، كما لو قال في آخر الصلاة: عليكم السلام، فإنه يصحّ على الصحيح. واعلم أنه لا يصحّ التكبير ولا غيره من الأذكار حتى يتلفظ بلسانه بحيثُ يُسمعُ نفسَه إذا لم يكن له عارض، وقد قدّمنا بيان هذا في الفصول التي في أوّل الكتاب، فإن كان بلسانه خرسٌ أو عيبُ حرَّكَه بقدر ما يقدرُ عليه وتصحُّ صلاته. واعلم أنه لا يصحُّ التكبير بالعجمية لمن قدر عليه بالعربية، وأما من لا يقدر، فيصحّ، ويجب عليه تعلّم العربية فإن قصَّرَ في التعلم لم تصحّ صلاته، وتجب إعادة ما صلاَّه في المدة التي قصَّرَ فيها عن التعلم. واعلم أن المذهب الصحيح المختار أن تكبيرة الإِحرام لا تمدّ ولا تمطّط، بل يقولها مدرجة مسرعة، وقيل: تمدّ، والصواب الأوّل وأما باقي التكبيرات، فالمذهب الصحيح المختار استحباب مدّها إلى أن يصل إلى الركن الذي بعدها، وقيل: لا تمدّ، فلو مدّ ما لا يمدّ، أو ترك مدّ ما يمدّ، لم تبطل صلاتُه لكن فاتته الفضيلة. واعلم أن محلّ المدّ بعد اللام من " الله " ولا يمدّ في غيره. فصل: والسنّة أنَّ يجهر الإِمام بتكبيرة الإِحرام وغيرها ليسمعَه المأمومُ، ويسرّ المأموم بها بحيثُ يُسْمِعُ نفسَه، فإن جهر المأموم أو أسرّ الإِمام، لم تفسد صلاته. وليحرص على تصحيح التكبير، فلا يمدّ في غير موضعه، فإن مدّ الهمزة من " الله "، أو أشبع فتحة الباء من " أكبر " بحيث صارت على لفظ " أكبار " لم تصحّ صلاته.

باب ما يقوله بعد تكبيرة الإحرام

فصل: اعلم أن الصلاة التي هي ركعتان يشرع فيها إحدى عشرة تكبيرة، والتي هي ثلاث ركعات: سبع عشرة تكبيرة، والتي هي أربع ركعات: اثنتان وعشرون تكبيرة، فإن في كل ركعة خمس تكبيرات: تكبيرة للركوع، وأربعاً للسجدتين والرفع منهما، وتكبيرة الإِحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأوّل. ثم اعلم أن جميع هذه التكبيرات سنّة لو تركها عمداً أو سهواً، لا تبطلُ صلاتُه، ولا تحرم عليه، ولا يسجد للسهو، إلا تكبيرة الإِحرام، فإنها لا تنعقد الصلاة إلا بها بلا خلاف، والله أعلم. (بابُ ما يقولُه بعدَ تكبيرة الإِحرام) اعلم أنه قد جاءت فيه (1) أحاديث كثيرة يقتضي مجموعها أن يقول: 114 - " اللَّهُ أكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ لِلَّه كَثِيراً، وسبحان الله بُكْرَةً وَأصِيلاً ". 115 - " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وما أنا من المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ (2) ، اللَّهُمَّ أنْتَ المَلكُ، لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ أَنْتَ رَبِّي وأنا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي واعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جميعا لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، وَاهْدِني لأحْسَنِ الأخْلاقِ، لا يَهْدِي لأحْسَنها إلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أنا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبارَكْتَ وَتعالَيْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إِلَيْكَ ". ويقول: 116 - " اللَّهُمَّ باعِد بَيْني وبَيْنَ خَطايايَ كما بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطايايَ كما يُنَقّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطايايَ بالثَّلْجِ وَالمَاءِ وَالبَرَدِ ". فكل هذا المذكور ثابت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء في الباب أحاديث أُخَر منها: 117 - حديث عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك

_ (1) أي المقول بعد التكبير. (2) وفي بعض الروايات: وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ، وهي صحيحة أيضا، فكان صلى الله عليه وسلم يقول تلك تارة، وهذه أخرى، لأنه أولى مسلمى هذه الأمة. (*)

اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعالى جَدُّكَ، وَلاَ إلهَ غَيْرُكَ " رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه بأسانيد ضعيفة، وضعّفه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من رواية أبي سعيد الخدري وضعفوه. قال البيهقي: وروي الاستفتاح " بسبحانك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ " عن ابن مسعود مرفوعاً، وعن أنس مرفوعاً، وكلها ضعيفة (1) . قال: وأصحُّ ما روي فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم رواه بإسناده عنه، أنه كبر ثم قال: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " (2) . والله أعلم. 118 - وروينا في " سنن البيهقي " عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قالَ: لا إلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَعَمِلْتُ سُوءاً فاغْفِرْ لي إنَّهُ لا يَغْفرُ الذنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَجَّهْتُ وَجْهيَ.." إلى آخِرِه، وهو حديث ضعيف، قال: الحارث الأعور: متفق على ضعفه (3) ، وكان الشعبيّ يقول: الحارث كذّاب (4) ، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ " فاعلم أن مذهبَ أهل الحق من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين أن جميع الكائنات خيرها وشرَّها، نفعَها وضَرّها كلها من الله سبحانه وتعالى، وبإرادته وتقديره، وإذا ثبت هذا فلا بدّ من تأويل هذا الحديث، فذكر العلماء فيه أجوبة: أحدها وهو أشهرها قاله النضر بن شُمَيْلِ والأئمة بعده: معناه: والشرّ لا يتقرّب به إليك، والثاني: لا يصعد إليك، إنما يصعد الكَلِم الطيب، والثالث: لا يضاف إليك أدباً، فلا يقال:

_ (1) ولكن بمجموعها يقوى الحديث، وقد حسّنه الحافظ اببن حجر في تخريج الأذكار فقال بعد تخريج الحديث بإسناده من طرق: حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي. أقول: وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأخذ به عبد الله بن عباس بن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، واختاره للافتفاح: أبو حنيفة وغيره، وذهب إليه بعض الأجلة، كسفيان وأحمد وغيرهما. (2) رواه مسلم في صحيحه رقم (399) في الصّلاة، بابُ حجة مَن قال: لا يجهر بالبسملة، ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي وغيرهما. (3) بل هو متعقب فيما قاله، فإنه ضعيف، ولكن لم يتفقوا على ضعفه، فقد قال عثمان بن سعيد الدارمي: عن ابن معين: ثقة. وقال العباس الدوري: ليس به بأس. (4) كان الشعبي يكذبه في رأيه، لا في حديثه. (*)

يا خالق الشَّرِّ وإن كان خالقه، كما لا يقال: يا خالق الخنازير وإن كان خالقها، والرابع: ليس شرّاً بالنسبة إلى حكمتك، فإنك لا تخلق شيئاً عبثاً، والله أعلم. فصل: هذا ما ورد من الأذكار في دعاء التوجه، فيستحبّ الجمع بينها كلها لمن صلى منفرداً، وللإِمام إذا أذن له المأمومون. فأما إذا لم يأذنوا له فلا يطوِّل عليهم، بل يقتصر على بعض ذلك، وحَسُنَ اقتصارُه على: وجّهت وجهي إلى قوله: من المسلمين، وكذلك المنفرد الذي يُؤثر التخفيف. واعلم أن هذه الأذكار مستحبّة في الفريضة والنافلة، فلو تركه في الركعة الأولى عامداً أو ساهياً لم يفعله بعدَها لفوات محله، ولو فعله كان مكروهاً ولا تبطل صلاته، ولو تركه عقيب التكبيرة حتى شرع في القراءة أو التعوّذ، فقد فات محله فلا يأتي به، فلو أتى به لم تبطل صلاتُه، ولو كان مسبوقاً أدرك الإِمام في إحدى الركعات أتى به إلا أن يخاف من اشتغاله به فوات الفاتحة، فيشتغل بالفاتحة، فإنها آكد، لأنها واجبة، وهذا سنّة. ولو أدرك المسبوقُ الإِمامَ في غير القيام، إما في الركوع، وإما في السجود، وإما في التشهد، أحرم معه، وأتى بالذكر الذي يأتي به الإِمام، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح في الحال ولا فيما بعد. واختلف أصحابنا في استحباب دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، والأصحُّ أنه لا يستحبّ، لأنها مبنية على التخفيف، واعلم أن دعاء الاستفتاح سنّة ليس بواجب، ولو تركه لم يسجدْ للسهو، والسنّة فيه الإِسرار، فلو جهر به كان مكروهاً، ولا تبطل صلاته. (بابُ التعوّذ بعد دعاء الاستفتاح) اعلم أن التعوّذ بعد دعاء الاستفتاح سنّة بالاتفاق، وهو مقدمة للقراءة، قال الله تعالى: (فإذا قَرأت القرآنَ فَاسْتَعِذْ بالله من الشَّيْطانِ الرَّجِيم) [النحل: 98] معناه عند جماهير العلماء: إذا أردت القراءة فاستعذ. واعلم أن اللفظ المختار في التعوّذ: أعُوذُ بالله مِنَ الشيطان الرجيم، وجاء: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ولا بأس به، ولكن المشهور المختار هو الأوّل. 119 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي

باب القراءة بعد التعوذ

وغيرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل القراءة في الصلاة: " أعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وهَمْزِهِ ". وفي رواية: " أعُوذُ بالله السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطانِ الرََّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ " وجاء في تفسيره في الحديث، أن همزه: المؤْتةُ وهي الجنون، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعرُ، والله أعلم. فصل: اعلم أن التعوّذ مستحبّ ليس بواجب، فلو تركه لم يأثم، ولا تبطلُ صلاته سواء تركه عمداً أو سهواً، ولا يسجد للسهو، وهو مستحبّ في جميع الصلوات، الفرائض والنوافل كلها، ويستحبّ في صلاة الجنازة على الأصحّ، ويستحب للقارئ خارج الصلاة بإجماع أيضاً. فصل: واعلم أن التعوّذ مستحبّ في الركعة الأولى بالاتفاق، فإن لم يأت به في الأولى أتى به في الثانية، فإن لم يفعل ففيما بعدها، فلو تعوّذ في الأولى هل يستحبّ في الثانية؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: أنه يستحبّ، لكنه في الأولى آكد، وإذا تعوّذ في الصلاة التي يُسِرُّ فيها بالقراءة، أسرّ بالتعوّذ، فإن تعوّذ في التي يُجْهَر فيها بالقراءة، فهل يجهر؟ فيه خلاف، من أصحابنا من قال: يُسرّ، وقال الجمهور: للشافعي في المسألة قولان. أحدهما: يستوي الجهر والإِسرار، وهو نصُّه في " الأم ". والثاني يُسنّ الجهر، وهو نصُّه في " الإِملاء ". ومنهم مَن قال: فيه قولان. أحدهما: يجهر، صححه الشيخ أبو حامد الاسفراييني إمام أصحابنا العراقيين، وصاحبه المحاملي وغيرهما، وهو الذي كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُسِرّ، وهو الأصحّ عند جمهور أصحابنا، وهو المختار، والله أعلم. (بابُ القراءةِ بعدَ التَّعوُّذ) اعلم أن القراءة واجبة في الصلاة بالإِجماع مع النصوص المتظاهرة، ومذهبنا ومذهب الجمهور، أن قراءة الفاتحة واجبة لا يجزئ غيرها لمن قدر عليها. 120 - للحديث الصحيحح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجزئ صَلاةٌ لا يُقْرأُ فِيها

بِفاتِحَةِ الكِتابِ " رواه ابن خزيمة وأبو حاتم ابن حِبّان، بكسر الحاء، في " صحيحيهما " بالإِسناد الصحيح وحكما بصحته. 121 - قال المصنف رحمة الله: وفي " الصحيحين " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صَلاَة إِلاَّ بِفَاتِحَة الكِتابِ ". قال السيوطي في " تحفطة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ - يعني ابن حجر - لم أره بهذا اللفظ في " الصحيحين " ولا في أحدهما، والذي فيهما حديث عبادة بن الصامت بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ بِفَاتِحَة الكِتابِ ". ويجب قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آية كاملة من أوّل الفاتحة، وتجب قراءة جميع الفاحة بتشديداتها (1) وهي أربع عشرة تشديدة: ثلاث في البسملة، والباقي بعدها، فإن أخلّ بتشديدة واحدة بطلت قراءته. ويجب أن يقرأها: مرتبة متوالية، فإن ترك ترتيبها أو موالاتها، لم تصحُّ قراءته، ويعذر في السكوت بقدر التنفس. ولو سجد المأموم مع الإِمام للتلاوة، أو سمع تأمين الإِمام فأمَّن لتأمينه، أو سأل الرحمة، أو استعاذ من النار لقراءة الإِمام ما يقتضي ذلك، والمأموم في أثناء الفاتحة، لم تنقطع قراءته على أصحّ الوجهين، لأنه معذور. فصل: فإن لحن في الفاتحة لحناً يخلّ المعنى، بطلت صلاته، وإن لم يخلّ المعنى صحّت قراءته، فالذي يخلّه مثل أن يقول: أنعمت، بضم التاء أو كسرها، أو يقول: إياك نعبد، بكسر الكاف، والذي لا يخلّ مثل أن يقول: ربّ العالمين، بضم الباء أو فتحها، أو يقول: نستعين، بفتح النون الثانية أو كسرها، ولو قال: ولا الضّالّين بالظاء بطلت صلاته على أرجح الوجهين، إلا أن يعجزَ عن الضاد بعد التعلم فيُعذر. فصل: فإن لم يُحسن الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها، فإن لم يُحسن شيئاً من القرآن أتى من الأذكار كالتسبيح والتهليل ونحوهما بقدر آيات الفاتحة، فإن لم يحسن شيئاً من الأذكار، وضاق الوقتُ عن التعلّم، وقف بقدر القراءة ثم يركع، وتُجزئه صلاتُه إن لم، يكن فرّط في التعلم، فإن كان فرّط في التعلم، وجبت الإِعادة، وعلى كلّ تقدير متى تمكَّن من التعلم وجب عليه تعلّم الفاتحة أما إذا كان يُحسنُ الفاتحة بالعجمية ولا يُحسنها بالعربية، فلا يجوز له قراءتها بالعجمية، بل هو عاجز، فيأتي بالبدل على ما ذكرناه.

_ (1) في نسخة: وتجب قراءة الفاتحة بجميع تشديداتها. (*)

فصل: ثم بعد الفاتحة يقرأ سورة أو بعض سورة ; وذلك سنّة، لو تركه صحَّتْ صلاتُه ولا يسجد للسهو، وسواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة، ولا يستحبّ قراءة السورة في صلاة الجنازة على أصحّ الوجهين، لأنها مبنية على التخفيف، ثم هو بالخيار إن شاء قرأ سورة، وإن شاء قرأ بعض سورة، والسورة القصيرة أفضلُ من قدرها من الطويلة. ويستحبّ أن يقرأ السورة على ترتيب المصحف، فيقرأ في الثانية سورة بعد السورة الأولى، وتكون تليها، فلو خالف هذا جاز (1) ، والسنّة أن تكون السورة بعد الفاتحة، فلو قرأها قبل الفاتحة، لم تحسب له قراءة السورة. وَاعْلَمْ أنَّ ما ذكرناه من استحباب السورة هو للإِمام والمنفرد، وللمأموم فيما يسرّ به الإِمام أما ما يجهر به الإِمام، فلا يزيد المأموم فيه على الفاتحة إن سمع قراءة الإِمام، فإن لم يسمعها أو سمع همهمة (2) لا يفهمها، استحبّت له السورة على الأصحّ بحيث لا يشوِّشُ على غيره. فصل: السنّة أن تكونَ السورة في الصبح والظهر من طوال المفصل (3) ، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل، فإن كان إماماً خفَّف عن ذلك إلا أن يعلم أن المأمومين يُؤثرون التطويل. والسنّة: أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة سورة (آلم تنزيل) السجدة، وفي الثانية: (هل أتى على الإِنسان) ويقرأهما بكمالهما، وأما ما يفعله بعض الناس من الاقتصار على بعضهما، فخلاف السنّة، والسنّة أن يقرأ في صلاة العيد، والاستسقاء في الركعة الأولى بعد الفاتحة: (ق) ، وفي الثانية: (اقتربت الساعة) ، وإن شاء قرأ في الأولى: (سبّح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية: (هل أتاك حديث الغاشية) ، فكلاهما سنّة، والسنة أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة (سورة الجمعة) وفي الثانية (المنافقون) ، وإن شاء في الأولى: (سبّح) ، وفي الثانية: (هل أتاك) فكلاهما سنّة، وليحذر الاقتصار على بعض السورة في هذه المواضع، فإن أراد التخفيف أدرج قراءته من غير هذرمة. والسنّة أن يقرأ في ركعتي سنّة الفجر، في الأولى بعد الفاتحة: (قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا ... ) ، وفي الثانية: الآية، وفي الثانية:

_ (1) أي ولو كان خلاف الأولى. (2) وفي بعض النسخ: همهمة، وهما بمعنى واحد، أي: الكلام الخفي الذي لا يفهم. (3) الصحيح أن المفصل يبدأ من سورة ق إلى آخر المصحف. (*)

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... ) الآية، وإن شاء في الأولى: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية: (قل هو الله أحد) وفكلاهما صحّ. 122 - في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ويقرأ في ركعتي سنّة المغرب ; وركعتي الطواف والاستخارة في الأولى: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية: (قل هو الله أحد) وأما الوتر، فإذا أوتر بثلاث ركعات، قرأ في الأولى بعد الفاتحة: (سبّح اسم ربك) وفي الثانية: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة: (قل هو الله أحد) مع المعوّذتين، وكل هذا الذي ذكرناه جاءت به أحاديث في الصحيح وغيره مشهورة استغنينا عن ذكرها لشرتها، والله أعلم. فصل: لو تركَ (سورة الجمعة) في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، قرأ في الثانية (سورة الجمعة) مع (سورة المنافقين) ، وكذا صلاةُ العيد والاستسقاء والوتر وسنّة الفجر وغيرها مما ذكرناه مما هو في معناه إذا ترك في الأولى ما هو مسنون أتى في الثانية بالأوّل والثاني، لئلا تخلو صلاته من هاتين السورتين، ولو قرأ في صلاة الجمعة في الأولى: سورة المنافقين، قرأ في الثانية: سورة الجمعة، ولا يُعيد المنافقين، وقد استقصيتُ دلائلَ هذا في " شرح المهذّب " (1) . فصل: 123 - ثبتَ في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوِّل في الركعة الأولى من الصبح وغيرها ما لا يطوّل في الثانية، فذهب أكثر أصحابنا إلى تأويل هذا، وقالوا: لا يطوّل الأولى على الثانية، وذهب المحققون منهم إلى استحباب تطويل الأولى لهذا الحديث الصحيح، واتفقوا على أن الثالثة والرابعة تكونان أقصرُ من الأولى والثانية، والأصحُّ أنه لا تستحبّ السورة فيهما، فإن قلنا باستحبابها، فالأصحّ أن الثالثة كالرابعة، وقيل بتطويلها عليها. فصل: أجمع العلماء على الجهر بالقراءة الصبح والأوليين من المغرب والعشاء، وعلى الإِسرار في الظهر والعصر والثالثة من المغرب، والثالثة والرابعة من العشاء، وعلى الجهر في صلاة الجمعة والعيدين، والتراويح والوتر عقبها، وهذا مستحبّ للإِمام والمنفرد فيما ينفرد به منها، وأما المأموم فلا يجهر في شئ من هذا بالإِجماع، ويسنّ الجهر في صلاة كسوف القمر والإِسرار في صلاة كسوف الشمس، ويجهر في صلاة الاستسقاء، ويُسرّ في الجنازة إذا صلاّها في النهار، وكذا إذا صلاّها

_ (1) وهو الذي يسمى " المجموع ". (*)

بالليل على الصحيح المختار، ولا يجهر في نوافل النهار غير ما ذكرناه من العيد والاستسقاء. واختلف أصحابنا في نوافل الليل، فقيل: لا يجهر، وقيل: يجهر، والثالث وهو الأصح وبه قطع القاضي حسين والبغوي: يقرأ بين الجهر والإِسرار، ولو فاتته صلاة بالليل فقضاها في النهار، أو بالنهار فقضاها بالليل، فهل يعتبر في الجهر والإِسرار وقت الفوات، أم وقت القضاء؟ فيه وجهان، أظهرهما: يعتبر وقت القضاء، وقيل: يُسِرُّ مطلقاً. واعلم أن الجهر في مواضعه، والإِسرار في مواضعه سنّة ليس بواجب، فلو جهر موضع الإِسرار، أو أسرّ موضع الجهر، فصلاته صحيحة، ولكنه ارتكب المكروه كراهة تنزيه، ولا يسجد للسهو، وقد قدّمنا أن الإِسرار في القراءة والأذكار المشروعة في الصلاة لابدّ فيه من أن يسمع نفسه، فإن لم يسمعها من غير عارض لم تصحّ قراءته ولا ذكره. فصل: 124 - قال أصحابنا: يستحبّ للإِمام في الصلاة الجهرية أن يسكت أربع سكتات إحداهنّ: عقيب تكبيرة الإِحرام ليأتي بدعاء الاستفتاح، والثانية: بعد فراغه من الفاتحة سكتة لطيفة جداً بين آخر الفاتحة وبين آمين، ليعلم أن آمين ليست من الفاتحة، والثالثة بعد آمين سكتة طويلة بحيث يقرأ المأموم الفاتحة (1) ، والرابعة بعد الفراغ من السورة يفصل بها بين القراءة وتكبيرة الهوي إلى الركوع. فصل: فإذا فَرغَ من الفاتحة اسْتُحِبَّ له أن يقول: آمين. 125 - والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة، مشهورة في كثرة فضله وعظيم أجره، وهذا التأمين مستحبّ لكل قارئ، سواء كان في الصلاة أم خارجاً منها، وفيها أربع لغات، أفصحهن وأشهرهنّ: آمين بالمدّ والتخفيف، والثانية: بالقصر والتخفيف، والثالثة: بالإِمالة، والرابعة: بالمدّ والتشديد. فالأوليان مشهورتان، والثالثة والرابعة حكاهما الواحدي في أوّل " البسيط "، والمختار الأولى، وقد بسطت القول في بيان هذه اللغات وشرحها وبيان معناها ودلائلها وما يتعلق بها في كتاب " تهذيب الأسماء واللغات ".

_ (1) لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسكت سكتة طويلة بين آمين وقراءة السورة بحيث يقرأ المأمومون خلفه سورة الفاتحة. (*)

باب أذكار الركوع

ويستحبّ التأمين في الصلاة للإِمام والمأموم والمنفرد، ويجهر به الإمام والمنفرد في الصلاة الجهرية، والصحيح: أن المأموم يجهر به أيضا، سواء كان الجمع قليلاً أو كثيراً. ويستحبّ أَنْ يكون تأمين المأموم مع تأمين الإِمام لا قبله ولا بعده، وليس في الصلاة موضع يستحب أن يقترن فيه قول المأموم بقول الإِمام إلا في قوله: آمين، وأما باقي الأقوال فيتأخر قول المأموم. فصل: يسنّ لكل مَن قرأ في الصلاة أو غيرها إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مرّ بآية عذاب أن يستعيذ به من النار، أو من العذاب، أو من الشرّ، أو من المكروه، أو يقول: اللهمّ إني أسألك العافية أو نحو ذلك، وإذا مرّ بآية تنزيه لله سبحانه وتعالى، نزَّهَ فقال: سبحانه وتعالى، أو: تبارك اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، أو جلَّت عظمة ربنا، أو نحو ذلك. 126 - روينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: " صَلَّيْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى [فقلت: يركع بها] ، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها يقرأ، مترسّلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبَّحَ، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ، رواه مسلم في " صحيحه ". قال أصحابنا: يستحبّ هذا التسبيح والسؤال والاستعاذة للقارئ في الصلاة وغيرها، وللإِمام والمأموم والمنفرد لأنه دعاء، فاستووا فيه كالتأمين. 127 - ويُستحبّ لكل مَن قرأ: (ألَيْسَ اللَّهُ بأحْكَمِ الحاكمين) أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: (أَلَيْسَ ذلكَ بِقادِرٍ على أنْ يحيي الموتى) قال: بلى أشهد، وإذا قرأ: (فَبِأيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يؤْمِنُونَ) قال: آمنت بالله، وإذا قرأ: (سَبِّحِ اسْمَ ربك الأعلى) قال: سبحان ربي الأعلى، ويقول هذا كله في الصلاة وغيرها، وقد بينت، أدلته في كتاب " التبيان في آداب حملة القرآن ". (بابُ أذكارِ الركوع) قد تظاهرت الأخبارُ الصحيحةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكَبِّر للركوع وهو سنّة، ولو تركه كان مكروهاً كراهة تنزيه، ولا تبطلُ صلاتُه ولا يسجدُ للسهو، وكذلك جميع

التكبيرات التي في الصلاة هذا حكمها، إلا تكبيرة الإِحرام، فإنها ركن لا تنعقد الصلاة إلا بها، وقد قدّمنا عَدَّ تكبيرات الصلاة في أوّل أبواب الدخول في الصلاة. وعن الإِمام أحمد رواية: أن جميع هذه التكبيرات واجبة. وهل يستحبّ مدُّ هذا التكبير؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله، أصحُّهما وهو الجديد: يستحبّ مدّه إلى أن يصل إلى حدّ الراكعين، فيشتغل بتسبيح الركوع لئلا يخلو جزء من صلاته عن ذكر، بخلاف تكبيرة الإِحرام، فإن الصحيح استحباب ترك المدّ فيها لأنه يحتاج إلى بسط النيّة عليها، فإذا مدّها شقّ عليه، وإذا اختصرها سهل عليه، وهكذا حكم باقي التكبيرات، وقد تقدم إيضاحُ هذا في " باب تكبيرة الإِحرام "، والله أعلم. فصل: فإذا وصل إلى حدّ الراكعين اشتغل بأذكار الركوع فيقول: " سُبْحَانَ رَبيَ العَظِيمِ، سُبْحانَ رَبيَ العَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبيَ العَظِيمِ ". 128 - فقد ثبت في " صحيح مسلم " من حديث حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه الطويل الذي كان قريباً من قراءة (البقرة) و (النساء) و (آل عمران) : " سُبْحانَ رَبيَ العَظِيمِ " ومعناه: كرّر سبحان ربي العظيم فيه، كما جاء مبيِّناً في " سنن أبي داود " وغيره. 129 - وجاء في كتب السنن: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا قالَ أحَدُكُمْ: سُبْحانَ رَبيَ العَظِيمِ ثَلاثاً فَقَدْ تم ركوعه ". 130 - وثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: " سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللهم اغفر لي ". 131 - وثبت في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع يقول: " اللهمَّ لكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، ولَكَ أسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، ومُخِّي وَعَظْمِي وَعَصبِي ". وجاء في كتاب السنن: " خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي، ومُخِّي وَعَظْمِي ومَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ ". 132 - وثبت في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ " قال أهل اللغة: سبوح قدوس: بضم أولهما وبالفتح أيضاً: لغتان، أجودهما وأشهرهما وأكثرهما: الضمُّ.

133 - وروينا عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: " قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام، فقرأ (سورة البقرة) لا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه " سُبْحانَ ذِي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة "، ثم قال في سجوده مثل ذلك، هذا حديث صحيح، رواه أبو داود، والنسائي في " سننهما "، والترمذي في كتاب " الشمائل " بأسانيد صحيحة. 134 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ". واعلم أن هذا الحديث الأخير هو مقصودُ الفصل، وهو تعظيم الربّ سبحانه وتعالى في الركوع بأيّ لفظ كان، ولكن الأفضل أن يجمعَ بين هذه الأذكار كلها إن تمكن من ذلك بحيث لا يشقّ على غيره، ويقدم التسبيح منها، فإن أراد الاقتصارَ فيستحبُّ التسبيح، وأدنى الكمال منه ثلاث تسبيحات، ولو اقتصر على مرّة كان فاعلاً لأصل التسبيح. ويُستحبّ إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض الأوقات بعضها، وفي وقت آخر بعضاً آخر، وهكذا يفعل في الأوقات حتى يكون فاعلاً لجميعها، وكذا ينبغي أن يفعل في أذكار جميع الأبواب. واعلم أن الذكرَ في الركوع سنّةٌ عندنا، وعند جماهير العلماء، فلو تركه عمداً أو سهوا لا تبطلُ صلاته، ولا يأثمُ، ولا يسجد للسهو. وذهب الإِمام أحمد بن حنبل وجماعة إلى أنه واجب، فينبغي للمصلي المحافظة عليه للأحاديث الصريحة الصحيحة في الأمر به كحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " أما الركوع فعظموا فيه الربّ "، وغيره مما سبق، وليخرج عن خلاف العلماء رحمهم اللَّهِ، والله أعلم. فصل: يُكره قراءة القرآن في الركوع والسجود، فإن قرأ غير الفاتحة لم تبطل صلاتُه، وكذا لو قرأ الفاتحة لا تبطل صلاته على الأصحّ، وقال بعض أصحابنا: تبطل. 135 - روينا في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه قال: " نهاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ". 136 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا وَإني نُهِيتُ أنْ أقْرأ القُرآنَ رَاكِعاً أوْ ساجِداً ".

باب ما يقوله في رفع رأسه من الركوع وفي اعتداله

(بابُ ما يقولُه في رفعِ رأسِه من الركوع وفي اعتدالِه) السنّة أن يقول حال رفع رأسه: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ولو قال: من حمد الله سمع له، جاز، نصَّ عليه الشافعي في " الأمّ " فإذا استوى قائماً قالَ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأرْضِ، وَمِلْءَ ما بَيْنَهُما، وَمِلْءَ ما شِئْتَ مِنْ شئ بَعْدُ، أهْلَ الثَّناءِ والمجد، أحق ما قَالَ العَبْدُ، وكلنا لَكَ عَبْدٌ، لا مانِعَ لِمَا أعطيت، ولا معطي لما مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدّ مِنْكَ الجَدُّ. 137 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سَمِعَ اللََّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: " رَبَّنا لَكَ الحَمْدُ ". وفي روايات: " ولَكَ الحَمْدُ " بالواو، وكلاهما حسن. وروينا مثله في " الصحيحين " عن جماعة من الصحابة. 138 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عليٍّ وابن أبي أوفى رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه قال: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنا لكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَواتِ وَمِلْءَ الأرْضِ وَمِلْءَ ما شئت من شئ بَعْدُ ". 139 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمِلْءَ ما شِئْتَ من شئ بَعْدُ، أهْلَ الثَّناءِ والمجد، أحق ما قالَ العَبْدُ، وكُلُّنا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لِمَا أعطيت، ولا معطي لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ". 140 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً: من رواية ابن عباس رضي الله عنهما: " ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وما بينهما وملء ما شئت من شئ بَعْدُ ". 141 - وروينا في " صحيح البخاري " عن رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال: كنا يوماً نصلي وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، فقال رجل وراءه: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ، فلما انصرف قال: " مَن المُتَكَلِّمُ؟ " قال: أنا، قال: " رأيتُ بِضْعَةً وثلاثين ملكا يَبْتَدِرُونَها أيُّهُمْ يَكْتُبُها أول ". فصل: اعلم أنه يُستحبّ أن يجمع بين هذه الأذكار كلها على ما قدّمناه في أذكار

باب أذكار السجود

الركوع، فإن اقتصر على بعضها، فليقتصرْ على " سمع الله لمن حمده " ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شئ بعد "، فإن بالغَ في الاقتصار اقتصر على " سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد "، فلا أقلّ من ذلك. واعلم أن هذه الأذكار كلها مستحبة للإِمام والمأموم والمنفرد، إلا أن الإِمام لا يأتي بجميعها، إلا أن يعلم من حال المأمومين أنهم يُؤثرون التطويل. واعلم أن هذا الذكر سنّة ليس بواجب، فلو تركه كُرِهَ له كراهةَ تنزيه، ولا يسجدُ للسهو، ويُكره قراءةُ القرآن في هذا الاعتدال كما يُكره في الركوع والسجود، والله أعلم. (بابُ أَذْكَارِ السُّجودِ) فإذا فَرغَ من أذكار الاعتدال كبر وهو ساجداً ومدّ التكبير إلى أن يضع جبهته على الأرض. وقد قدَّمنا حكمّ هذه التكبيرة، وأنها سنّة لو تركها لم تبطلْ صلاتُه ولا يسجد للسهو، فإذا سجد أتى بأذكار السجود، وهي كثيرة. 142 - فمنها ما رويناه في " صحيح مسلم " من رواية حذيفة المتقدمة في الركوع في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين قرأ (البقرة) و (النساء) و (آل عمران) في الركعة الواحدة، لا يمرّ بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استعاذ، قال: ثم سجد فقال: " سُبحان ربي الأعلى " فكان سجوده قريباً من قيامه. 143 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ". 144 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها ما قدّمناه في الركوع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: " سُبُّوحٌ قُدُّوس، رَبُّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ ". 145 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن عليّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد قال: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، ولَكَ أسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي للَّذي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقين ". 146 - وروينا في الحديث الصحيح في كتب السنن، عن عوف بن مالك ما قدّمناه في فصل الركوع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعَ ركوعَه الطويل يقول فيه: " سُبْحانَ ذِي الجَبُروتِ والمَلَكُوتِ وَالكِبْرِياء والعظمة، ثم قال في سجوده مثل ذلك ".

147 - وروينا في كتب السنن، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " وَإذا سَجَدَ - أي أحدكم. فَلْيَقُلْ: سُبْحانَ رَبيَ الأعْلى ثلاثاً " وذلك أدْناهُ ". 148 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة فتحسست، فإذا هو راكع أو ساجد يقول: " سُبْحَانَكَ وبِحَمْدِكَ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ ". وفي رواية في مسلم: " فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد (1) ، وهما منصوبتان وهو يقول: " اللَّهُمَّ أعُوذُ بِرضَاكَ مِنْ سَخطِكَ، وبِمُعافاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكُ، وأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ، أنْتَ كمَا أثْنَيْتَ على نَفْسِكَ ". 149 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فأمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وأمَّا السجود، فاجتهدوا فيه بالدعاء فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُم ". يُقال: قمن بفتح الميم وكسرها، ويجوز في اللغة: قمين، ومعناه: حقيق وجدير. 150 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقْرَبُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكْثِرُوا الدُّعاء ". 151 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وأوّلَهُ وآخِرَهُ، وَعَلانِيَتَهُ وَسِرَّه " دِقه وجِلّه: بكسر أولهما، ومعناه: قليله وكثيره. واعلم أنه يُستحبّ أن يجمع في سجوده جميع ما ذكرناه، فإن لم يتمكن منه في وقت أتى به أوقات، كما قدّمناه في الأبواب السابقة، وإذا اقتصر يقتصر على التسبيح مع قليل من الدعاء، ويُقدِّمُ التسبيحَ، وحكمه ما ذكرناهُ في أذكار الركوع من كراهة قراءة القرآن فيه، وباقي الفروع. فصل: اختلف العلماء في السجود في الصلاة والقيام أيُّهما أفضل؟ فمذهب الشافعي ومن وافقه: القيام أفضل. 152 - لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث في " صحيح مسلم ": " أفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القنوت " ومعناه: القيام، ولأن ذكر القيام هو القرآن، وذكر السجود هو التسبيح، والقرآن

_ (1) بفتح الجيم أي: وهو في السجود، فهو مصدر ميمي، أو في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته، وفي بعض النسخ: في المسجد بكسر الجيم. (*)

باب ما يقول في رفع رأسه من السجود وفي الجلوس بين السجدتين

أفضل، فكان ما طوّلَ به أفضل. وذهب بعض العلماء إلى أن السجود أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم: " أقْرَبُ ما يَكُونَ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وهو ساجد ". قال الإِمام أبو عيسى الترمذي في كتابه: اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: طولُ القيام في الصلاة أفضل من كثرة الركوع والسجود. وقال بعضهم: كثرةُ الركوع والسجود أفضلُ من طول القيام. وقال أحمد بن حنبل رحمة الله: روي فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقضِ فيه أحمد بشئ. وقال إسحاق: أما بالنهار، فكثرةُ الركوع والسجود، وأما بالليل، فطولُ القيام، إلا أن يكون رجل له جزء بالليل يأتي عليه، فكثرة الركوع والسجود في هذا أحبُّ إليّ لأنه يأتي على حزبه، وقد ربح كثرة الركوع والسجود. قال الترمذي: وإنما قال إسحاق هذا لأنه وصفَ صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل، ووصفَ طول القيام، وأما بالنهار، فلم يُوصف من صلاته صلى الله عليه وسلم من طول القيام ما وُصف بالليل. فصل: إذا سجد للتلاوة، استُحبّ أن يقول في سجوده ما ذكرناهُ في سجود الصلاة، ويستحبّ أن يقول معه: 153 - " اللَّهُمَّ اجْعَلْها لي عِنْدَكَ ذُخْراً، وأعْظِمْ لي بِهَا أجْراً، وَضَعْ عَنِّي بِها وِزْراً، وَتَقَبَّلْها مِنِّي كما تَقَبَّلْتَها مِنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ". ويُستَحبّ أن يقول أيضاً: " سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً " نصَّ الشافعي على هذا الأخير. 154 - روينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن: " سَجَدَ وَجْهِي للَّذي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ " قال الترمذي: حديث صحيح، زاد الحاكم: " فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ " قال: وهذه الزيادة صحيحة على شرط " الصحيحين ". وأما قوله: " اللَّهمّ اجعلها لي ذخراً ... الخ " فرواه الترمذي مرفوعاً من رواية ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح. (باب ما يقولُ في رفعِ رأسه من السجود وفي الجلوس بين السجدتين) السنّة: أن يُكَبِّرَ من حين يبتدئ بالرفع ويمدّ التكبير إلى أن يستويَ جالساً، وقد قدَّمنا بيانَ عدد التكبيرات، والخلاف في مدّها، والمدّ المبطل لها، فإذا فَرغَ من التكبير واستوى جالساً، فالسنّة أن يدعو بما رويناه في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي،

باب أذكار الركعة الثانية

والبيهقي وغيرها، عن حذيفة رضي الله عنه في حديثه المتقدم في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الليل، وقيامه الطويل ب (البقرة) و (النساء) و (آل عمران) وركوعه نحو قيامه، وسجوده نحو ذلك، قال: 155 - وكان يقول بين السجدتين: " رَبّ اغْفِرْ لي، رَبّ اغْفِرْ لي "، وجلس بقدر سجوده. 156 - وبما رويناه في " سنن البيهقي "، عن ابن عباس في حديث مبيته عند خالته ميمونة رضي الله عنها وصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الليل، فذكره قال: وكان إذا رفع رأسه من السجدة قال: " رَبّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي واجْبُرْنِي وَارْفَعْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِني " فصل: فإذا سجد السجدة الثانية قال فيها ما ذكرناهُ في الأولى سواء، فإذا رفعَ رأسه منها، رفع مكبّراً، وجلس للاستراحة جلسة لطيفة بحيث تسكنُ حركتُه سكوناً بيِّناً، ثم يقوم الى الركعة الثانية، ويمدّ التكبيرة التي رفع بها من السجود إلى أن ينتصب قائماً، ويكون المدّ بعد اللام من " الله " هذا أصحّ الأوجه لأصحابنا، ولهم وجه أن يرفع بغير تكبير، ويجلس للاستراحة، فإذا نهض كبَّر، ووجه ثالث: أن يرفع من السجود مكبّراً، فإذا جلس قطع التكبير، ثم يقومُ بغير تكبير. ولا خلاف أنه لا يأتي بتكبيرين في هذا الموضع، وإنما قال أصحابنا: الوجه الأوّل أصحّ لئلا يخلو جزء من الصلاة عن ذكر. 157 - واعلم أن جلسة الاستراحة سنة ثابتة صحيحة في " صحيح البخاري " وغيره من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهبنا استحبابُها لهذه الأحاديث الصحيحة، ثم هي مستحبّة عقيب السجدة الثانية من كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحبّ في سجود التلاوة في الصلاة، والله أعلم. (بابُ أذكارِ الرَّكْعةِ الثانية) اعلم أن الأذكار التي ذكرناها في الركعة الأولى يفعلها كلَّهَا في الثانية على ما ذكرناه في الأولى من النفل وغير ذلك من الفروع المذكورة، إلا في أشياء. أحدُها: أن الركعة الأولى فيها تكبيرة الإِحرام وهي ركن، وليس كذلك الثانية فإنه لا يكبِّر في أوَّلها، وإنما التكبيرة التي قبلها للرفع من السجود مع أنها سنّة. الثاني: لا يُشرع دعاء الاستفتاح في الثانية بخلاف الأولى.

باب القنوت في الصبح

الثالث: قدّمنا أنه يتعوّذ في الأولى بلا خلاف، وفي الثانية خلاف. الأصحُّ: أنه يتعوذ. الرابع: المختار: أن القراءة في الثانية تكون أقلّ من الأولى، وفيه الخلاف الذي قدَّمناه، والله أعلم. (بابُ القُنوتِ في الصُّبح) اعلم أن القنوتَ في صلاة الصبح سنّة. 158 - للحديث الصحيح فيه عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا "، رواه الحاكم أبو عبد الله في كتاب " الأربعين " (1) ، وقال: حديث صحيح (2) . واعلم أن القنوت مشروع عندنا في الصبح، وهو سنّة مؤكدة، لو تركه لم تبطل صلاتُه، لكن يسجد للسهو سواء تركه عمداً أو سهواً. وأما غير الصبح من الصلوات الخمس، فهل يقنت فيها؟ فيه ثلاثة أقوال للشافعي رحمه الله تعالى، الأصحُّ المشهورُ منها: أنه إن نزل بالمسلمين نازلة قنتوا في ذلك لجميع الصلوات، وإلا فلا. والثاني: يقنتون مطلقاً. والثالث: لا يقنتون مطلقاً، والله أعلم. ويستحبُّ القنوت عندنا في النصف الأخير من شهر رمضان في الركعة الأخيرة من الوتر، ولنا وجه: أن يقنت فيها في جميع شهر رمضان، ووجه ثالث: في جميع السنة، وهو مذهبُ أبي حنيفة، والمعروف من مذهبنا هو الأوّل، والله أعلم. فصل: اعلم أن محل القنوت عندنا في الصبح بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية. وقال مالك رحمه الله: يقنت قبل الركوع. قال أصحابنا: فلو قنت شافعي قبل الركوع لم يُحسبْ له على الأصحّ، ولنا وجه أن يحسب، وعلى الأصحّ، يعيده بعد الركوع ويسجد للسهو، وقيل: لا يسجد. وأما لفظه، فالاختيار أن يقول فيه:

_ (1) وأخرجه الحاكم أيضاً في كتاب القنوت. (2) صححه الحاكم على طريقتة في تصحيح ما هو حسن عند غيره، فالصواب أن الحديث حسن. وحمله بعض العلماء على أنه لم يزل يقنت في النوازل حتى فارق الدنيا. (*)

159 - ما روينا في الحديث الصحيح في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرها، بالإِسناد الصحيح عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما قال: علّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولُهُنَّ في الوتر: " اللَّهُمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلّني فِيمَن تَوَلَّيْتَ، وبَارِكْ لِي فِيما أَعْطَيْتَ، وَقِني شَرَّ ما قَضَيْتَ، فإنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنا وَتَعالَيْتَ ". قال الترمذي: هذا حديث حسن، قال: ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئاً أحسن من هذا. وفي رواية ذكرها البيهقي: أن محمد بن الحنفية (1) ، وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن هذا الدعاء [هو الدعاء] الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته (2) . 160 - ويستحبُّ أن يقولَ عقيب هذا الدعاء: " اللَّهُمَّ صَلّ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلِّم "، فقد جاء في رواية النسائي في هذا الحديث بإسناد حسن (3) : " وَصَلَى اللَّهُ على النَّبِيّ ". 161 - قال أصحابنا: وإن قنت بما جاءَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حسناً، وهو أنه قنت في الصبح بعد الركوع فقال: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَلاَ نَكْفُرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْلَعُ مَنْ يَفْجُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُد، ولَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُد، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بالكُفَّارِ مُلْحِقٌ. اللَّهُمَّ عَذّبِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، ويُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقاتِلُونَ أوْلِيَاءَكَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ للْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات والمسلمين والمُسْلِماتِ، وأصْلِح ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَالحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ على مِلَّةِ رسولِك صلى الله عليه وسلم، وَأَوْزِعْهُمْ أنْ يُوفُوا بِعَهْدِكَ الَّذي عاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرْهُمْ على عَدُّوَكَ وَعَدُوِّهِمْ إِلهَ الحَقّ وَاجْعَلْنا منهم ".

_ (1) الحنيفة، أمة لعليّ رضي الله عنه حصلت له من سبي بني حنيفه. (2) قال الحافظ في تخريج الأذكار: وقد عجبت للشيخ - يعني النووي - كيف اقتصر على هذا الموقوف مع أن البيهفي أخرجه مرفوعا من وجه آخر.. (3) قال الحافظ في تخريج الأذكار: هذا الحديث أصله حسن، روي من طرق متعددة عن الحسن، لكن هذه الزيادة في هذا السند غريبة لا تثبت، وإن سنده لا يخلو إما عن روا مجهول أو انقطاع في السند، وقال بعد إيراد ذلك: فتبين أن هذا السند ليس من شرط الحسن لا نقطاعه أو جهالة رواية، ولم ينجبر بمجئيه من وجه آخر. اه. وقد بالغ المصنف رحمة الله فقال في شرح المهذب: إنه سند صحيح أو حسن، وكذا في الخلاصة. (*)

واعلم أن المنقول عن عمر رضي الله عنه " عذِّب كفرة أهل الكتاب "، لأن قتالهم ذلك الزمان كان مع كفرة أهل الكتاب، وأما اليوم، فالاختيار أن يقول: " عذّب الكفرة " فإنه أعمّ. وقوله: نخلع: أي نترك، وقوله: يفجر أي: يلحد في صفاتك، وقوله نحفِد بكسر الفاء، أي: نُسارع، وقوله: الجِدّ بكسر الجيم: أي الحق، وقوله: مُلْحِق بكسر الحاء على المشهور، ويقال بفتحها، ذكره ابن قتيبة وغيره وقوله: ذات بينهم، أي: أمورهم ومواصلاتهم، وقوله: والحكمة، هي: كل ما منع من القبيح، وقوله: وأوزعهم: أي ألهمهم، وقوله: واجعلنا منهم، أي: ممّن هذه صفته. قال أصحابنا: يستحبّ الجمع بين قنوت عمر ي ضي الله عنه وما سبق، فإن جمع بينهما، فالأصحّ تأخير قنوت عمر، وإن اقتصر فليقتصر على الأوّل، وإنما يُستحبّ الجمع بينهما إذا كان منفرداً أو إمامَ محصورين يرضون بالتطويل. واعلم أن القنوت لا يتعين فيه دعاء على المذهب المختار، فأيّ دعاء دعا به حصل القنوت ولو قَنَتَ بآيةٍ، أو آياتٍ من القرآن العزيز وهي مشتملة على الدعاء حصل القنوت، ولكن الأفضل ما جاءت به السنّة. وقد ذهب جماعة من أصحابنا إلى أنه يتعين ولا يجزئ غيره. واعلم أنه يُستحبّ إذا كان المصلِّي إماماً أن يقول: " اللَّهمّ اهدِنا " بلفظ الجمع، وكذلك الباقي، ولو قال " اهدني " حصل القنوت وكان مكروهاً، لأنه يكره للإِمام تخصيص نفسه بالدعاء. 162 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤم عَبْدٌ قَوْماً فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فإنْ فَعَلَ فَقَدْ خانَهُمْ " قال الترمذي: حديث حسن. فصل: اختلف أصحابُنا في رَفعِ اليدين في دعاء القنوت ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه. أصحّها: أنه يستحبّ رفعهما، ولا يمسح الوجه. والثاني: يرفع ويمسحه. والثالث: لا يرفع ولا يسمح. واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا: ذلك مكروه. وأما الجهر بالقنوت والإِسرار به، فقال أصحابنا: إن كان المصلي منفرداً أسرّ به، وإن كان إماماً جهر على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الأكثرون والثاني: أنه يسرّ كسائر الدعوات في الصلاة، وأما المأموم، فإن لم يجهر الإِمام قنت سرّاً كسائر

باب التشهد في الصلاة

الدعوات، فإنه يوافق فيها الإمام سرّاً. وإن جهر الإِمام بالقنوت، فإن كان المأموم يسمعه أمَّن على دعائه، وشاركه في الثناء في آخره، وإن كان لا يسمعه، قنت سرّاً، وقيل: يؤمِّن، وقيل له أن يشاركه مع سماعه، والمختار الأوّل. وأما غير الصبح إذا قنت فيها حيث يقول به، فإن كانت جهريّة وهي المغرب والعشاء، فهي كالصبح على ما تقدّم، وإن كانت ظهراً أو عصراً، فقيل: يُسرّ فيها بالقنوت، وقيل: إنها كالصبح. 163 - والحديث الصحيح في قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قَتلوا القرَّاء ببئر معونة يقتضي ظاهرُه الجهرَ بالقنوت في جميع الصلوات، ففي صحيح البخاري في باب تفسير قول الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شئ) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بالقنوت في قنوت النازلة. (بابُ التشهّدِ في الصَّلاة) اعلم أن الصلاة إن كانت ركعتين فحسب، كالصبح والنوافل، فليس فيها إلا تشهّدٌ واحد، وإن كانت ثلاث ركعات أو أربعاً، ففيها تشهّدان: أوّل، وثان. ويتصوّر في حقّ المسبوق ثلاثة تشهّدات، ويتصور في حقه في صلاة المغرب أربعة تشهّدات، مثل أن يُدركَ الإِمام بعد الركوع في الثانية، فيتابعه في التشهّد الأوّل والثاني، ولم يحصل له من الصلاة إلا ركعة، فإذا سلَّم الإِمام قام المسبوق ليأتي بالركعتين الباقيتين عليه، فيصلي ركعة، ويتشهّد عقبها لأنها ثانيته، ثم يصلِّي الثالثة ويتشهد عقيبها. أما إذا صلَّى نافلة فنوى أكثر من أربع ركعات ولو نوى مائة ركعة، فالاختيار أن يقتصر فيها على تشهّدين، فيصلِّي ما نواه إلا ركعتين ويتشهد، ثم يأتي بالركعتين، ويتشهد التشهد الثاني ويسلِّم. قال بعض من أصحابنا: لا يجوز أن يزيد على تشهدين، ولا يجوز أن يكون بين التشهد الأوّل والثاني أكثر من ركعتين، ويجوز أن يكون بينهما ركعة واحدة، فإن زاد على تشهدين، أو كان بينهما أكثر من ركعتين، بطلت صلاته. وقال آخرون: يجوز أن يتشهد في كل ركعة، والأصحّ جوازه في كل ركعتين، لا في كل ركعة، والله أعلم. واعلم أن التشهد الأخير واجب عند الشافعي وأحمد وأكثر العلماء، وسنّة عند أبي حنيفة ومالك. وأما التشهد الأوّل فسنّة عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة والأكثرين، وواجب عند أحمد، فلو تركه عند الشافعي صحَّت صلاته، ولكن يسجد للسهو سواء تركه عمداً أو سهواً، والله أعلم.

فصل: وأما لفظ التشهد، فثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث تشهدات (1) . 164 - أحدها: رواية ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد چلله الصالحين، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما ". الثاني: رواية ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التَّحِيَّاتُ المُبارَكاتُ، الصَّلَواتُ الطَّيِّباتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، وأن مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ "، رواه مسلم في " صحيحه ". الثالث: رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التَّحِيَّاتُ الطَّيِّباتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأنَّ محَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، رواه مسلم في " صحيحه ". 165 - وروينا في سنن البيهقي بإسناد جيد (2) عن القاسم قال: علمتني عائشةُ رضي الله عنها قالت: هذا تشهُّدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّباتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه "، وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهُّدَه صلى الله عليه وسلم بلفظ تشهُّدُّنا. 166 - وروينا في موطأ مالك، وسنن البيهقي، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، عن عبد الرحمن بن عمر القاريِّ - وهو بتشديد الياء - أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه

_ (1) مراد المصنف رحمة الله الثابتة في الصحيحين أو أحدهما، وإلا فهناك روايات أخرى في غيرهما ثابتة أيضا. (2) قال الحافظ في تخريج الأذكار: في سنده محمد بن صالح بن دينار، وهو مختلف فيه، فوثّقه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، وكذلك لينه الدارقطني، وأما ابنه صالح، فلم أجد له ذكراً بجرح ولا تعديل ولا ترجمة في كتب الرحال وابن أبي حاتم وابن حبان وابن عدي، وهو في درجة المستور، فلم أعراف مستند الشيخ - يعني النووي - في وصف هذا الإِسناد بالجودة، وقد قال البهيقي بعد تخريجه: الصحيح عن عائشة موقوفاً فأشار إلى شذوذ الزيادة، والعلم عند الله. (*)

وهو على المنبر وهو يعلِّم الناس التشهد يقول: قولوا: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِياتُ لِلَّهِ، الطَّيِّباتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ ". 167 - وروينا في الموطأ، وسنن البيهقي، وغيرهما أيضاً بإسناد صحيح، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول إذا تشهَّدتْ: " التَّحِيَّاتُ الطَّيِّباتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِياتُ لِلَّهِ، أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ". وفي رواية عنها في هذه الكتب: " التَّحِيَّاتُ الصَّلَوَاتُ الطَيِّباتُ الزَّاكِياتُ لِلَّهِ، أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريك له، وأن محمدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، السَّلامُ عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ". 168 - وروينا في الموطأ، وسنن البيهقي أيضاً بالإِسناد الصحيح، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يتشهد فيقول: " بسم اللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيات لِلَّهِ، السَّلامُ على النَّبِيّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، شَهِدْتُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ، شَهِدْتُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ " والله أعلم. فهذه أنواع من التشهد. قال البيهقي: والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث (2) : حديث ابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى، هذا كلام البيهقي. وقال غيره: الثلاثة صحيحة (3) وأصحّها حديث ابن مسعود (4) . واعلم أنه يجوز التشهّد بأيّ تشهّد شاء من هذه المذكورات، هكذا نصّ عليه إمامنا الشافعي (5) وغيره من العلماء رضي الله عنهم. وأفضلُها عند الشافعي: حديث ابن عباس

_ (1) وهذا وإن كان موقوفا فهو حكم المرفوع، لأن ذلك مما لا يقال بالرأي. (2) أي: مما في الصحيحين أو أحدهما، وإلا فقد ثبت غيرها كما تقدم. (3) قال الحافظ: كونها صحيحة لا نزاع فيه لأنها في الصحيحين، اتفقا على حديث ابن مسعود، وانفرد مسلم بحديثي ابن عباس وأبي موسى. (4) لأن البخاري ومسلم اتفقا عليه، وما اتفقا عليه أصح مما أنفرد به أحدهما. (5) قال الحافظ: لم يخص الشافعي ذلك بالثلاث المذكورات بل ذكر معها عن ابن عمر وجابر وعن عمر وعائشة الله عنهم. (*)

للزيادة التي فيه من لفظ المباركات. قال الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله: ولكون الأمر فيها على السعة والتخيير اختلفت ألفاظ الرواة، والله أعلم. فصل] : الاختيار أن يأتي بتشهد من الثلاثة، الأُول بكماله، فلو حذفَ بعضَه فهل يجزيه؟ فيه تفصيل. فاعلم أن لفظ المباركات، والصلوات، والطيبات والزاكيات، سنّة ليس بشرط في التشهّد، فلو حذفها كلَّها واقتصر على قوله: التحيات للَّه السلام عليك أيُّها النبيّ ... إلى آخره، أجزأه. وهذا لا خلاف فيه عندنا. وأما في الألفاظ من قوله: السلام عليك أيُّها النبيُّ ... إلى آخره، فواجب لا يجوز حذف شئ منه إلا لفظ " ورحمة الله وبركاته "، ففيهما ثلاثة أوجه لأصحابنا، أصحها: لا يجوز حذف واحدة منهما، وهذا هو الذي يقتضيه الدليل لاتفاق الأحاديث عليهما. والثاني: يجوز حذفهما. والثالث يجوز حذف " وبركاته " (1) دون " رحمة الله ". وقال أبو العباس بن سُريْج من أصحابنا: يجوز أن يقتصر على قوله: التحيات للَّه، سلام عليك أيّها النبيّ، سلام على عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأنَّ محمداً رسول الله. وأما لفظ السلام، فأكثر الروايات، السلام عليك أيُّها النبيّ، وكذا " السلام علينا " بالألف واللام فيهما. وفي بعض الروايات: " سلام " بحذفهما فيهما. قال بعض أصحابنا: كلاهما جائز، ولكن الأفضل: " السلام " بالألف واللام لكونه الأكثر، ولما فيه من الزيادة والاحتياط. 169 - أما التسمية قبل التحيات، فقد روينا حديثاً مرفوعاً في " سنن النسائي " والبيهقي وغيرهما بإثباتها، وتقدم إثباتها في تشهّد ابن عمر، لكن قال البخاري والنسائي وغيرهما من أئمة الحديث: إن زيادة التسمية غير صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال جمهور أصحابنا: لا تستحب التسمية، وقال بعض أصحابنا: تستحب، والمختار أنه لا يأتي بها، لأن جمهور الصحابة الذين رووا التشهّد لم يرووها.

_ (1) أي: لإغناء السلام عنه ولأنها حذفت في بعض الروايات كما ذكر. (*)

باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد

فصل] : اعلم أن الترتيب في التشهد مستحبٌّ ليس بواجب، فلو قدم بعضه على بعض جاز على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الجمهور، ونصَّ عليه الشافعي رحمه الله في " الأم ". وقيل: لا يجوز كألفاظ الفاتحة، ويدلّ للجواز تقديم " السلام " على لفظ الشهادة في بعض الروايات، وتأخيره في بعضها كما قدّمناه. وأما الفاتحة، فألفاظها وترتيبها معجز، فلا يجوز تغييره، ولا يجوز التشهّد بالعجمية لمن قدر على العربية، ومن لم يقدر، يتشهد بلسانه ويتعلم كما ذكرنا في تكبيرة الإِحرام. فصل] : السنّة في التشهد الإِسرار لإِجماع المسلمين على ذلك، ويدلُّ عليه من الحديث: 170 - ما رويناه في سنن أبي داود والترمذي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " من السنّة أن يخفي التشهد ". قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح. وإذا قال الصحابي: من السنّة كذا (4) كان بمعنى قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المذهب الصحيحُ المختارُ الذي عليه جمهورُ العلماء من الفقهاء والمحدّثين، وأصحاب الأصول والمتكلمين رحمهم الله، فلو جهر به كره، ولم تبطل صلاته، ولا يسجد للسهو. (بابُ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهّد) اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة عند الشافعي رحمه الله بعد التشهد الأخير، فلو تركها لم تصحّ صلاته، ولا تجب الصلاة على آل النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه على المذهب الصحيح المشهور، لكن تستحبُّ. وقال بعض أصحابنا: تجب. والأفضل أن يقول: 171 - " اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبِيّ الأُمِّي، وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِه، كما صَلَّيْتَ على إِبْرَاهِيمَ وَعلى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبِيّ الأُمِّيّ، وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وَذُرّيَّتِهِ، كما بارَكْتَ على إِبْرَاهِيمَ، وَعَلى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ".

_ (1) فيكون موقوفا لفظا مرفوعا حكما، بخلاف قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرفوع لفظا وحكما، وبه يعلم أن التشبيه في كون كل منهما مرفوعا وإن تفاوتت رتبتهما فيه. (*)

باب الدعاء بعد التشهد الأخير

وروينا هذه الكيفية في صحيح البخاري ومسلم، عن كعب بن عُجْرَة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا بعضها (1) ، فهو صحيح من رواية غير كعب، وسيأتي تفصيله في كتاب الصلاة على محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله تعالى، والله أعلم. والواجب منه: اللَّهمّ صلِّ على النبي، وإن شاء قال: صلى الله على محمد، وإن شاء قال: صلى الله على رسوله، أو صلى الله على النبي. ولنا وجه أنه لا يجوز إلا قوله: اللَّهم صلِّ على محمد. ولنا وجه أنه يجوز أن يقول: وصلى الله على أحمد. ووجه أنه يقول: صلَّى الله عليه، والله أعلم. وأما التشهدُ الأول، فلا تجب فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وهل تستحبّ؟ فيه قولان: أصحُّهما: تستحبُّ، ولا تستحبُّ الصلاة على الآل على الصحيح، وقيل: تستحبُّ، ولا يُستحبّ الدعاء في التشهّد الأول عندنا، بل قال أصحابنا: يُكره لأنه مبني على التخفيف، بخلاف التشهد الأخير، والله أعلم. (بابُ الدُّعَاء بعدَ التشهّدِ الأخير) اعلم أنَّ الدعاء بعد التشهّد الأخير مشروعٌ بلا خلاف. 172 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمهم التشهّد ثم قال في آخر: " ثم يتخير [بعد] منَ الدُّعَاءِ " وفي رواية البخاري: " [ثُمَّ ليَتَخَيَّرْ مِنَ الدعاء] أعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُو ". وفي روايات لمسلم: " ثُمَّ ليَتَخَيَّرْ مِنَ المَسْأَلَةِ ما شاءَ ". واعلم أن هذا الدعاء مستحبٌّ ليس بواجب، ويستحبُّ تطويلُه، إلا أن يكون إماماً، وله أن يدعوَ بما شاء من أمور الآخرة والدنيا، وله أن يدعوَ بالدعوات المأثورة، وله أن يدعو بدعوات يخترعها، والمأثورة أفضل. ثم المأثورة منها ما وردَ في هذا الموطن، ومنها ما وردَ في غيره، وأفضلُها هنا ما ورد هنا. 173 - وثبت في هذا الموضع أدعية كثيرة، منها ما رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا فرغ أحدكم من

_ (1) قال الحافظ: والبعض المستثنى أربعة أشياء: أولاها: عبدك ورسولك، ثانها: النبي الأمي، ثالثها: أزواجه وذريته، رابعها: في العالمين. (*)

التَّشَهُّدِ الأخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، ومن عذاب القبر، ومن فِتْنَةِ المَحيَا وَالمَماتِ، ومن شر المَسِيحِ الدَّجَّالِ ". 174 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسيحِ الدَّجَّال، وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ من المأثمِ والمَغْرَمِ ". 175 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهّد والتسليم: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ المُقَدِّمُ وأنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ ". 176 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم "، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علّمني دُعاءً أدعُو به في صَلاتي، قال: " قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، فاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْني إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ " هكذا ضبطناه: " ظُلْماً كَثِيراً " بالثاء المثلثة في معظم الروايات، وفي بعض روايات مسلم: " كَبِيراً " بالباء الموحدة (2) ، وكلاهما حسن، فينبغي أن يُجمع بينهما فيُقال: " ظُلْماً كَثِيراً كَبِيراً ". وقد احتجّ البخاري في " صحيحه "، والبيهقيّ، وغيرهما من الأئمة بهذا الحديث على الدعاء في آخر الصلاة، وهو استدلال صحيح، فإن قوله: في صلاتي، يعمّ جميعها، ومن مظانّ الدعاء في الصلاة هذا الموطن. 177 - وروينا بإسناد صحيح في سنن أبي داود، عن أبي صالح ذكوان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل: " كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟ " قال: أتشهد

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: أي فرغ من التشهد، والمراد الأخير لما في الحديث قبله. (2) قال الحافظ: بين مسلم أن رواية " كبيرا " بالموحده عنده من رواية محمد رمح عن الليث، قال الحافظ: ولم يقع عند غيره ممن ذكرنا إلا بالمثلة، نعم أخرجه أحمد من وجه عن ابن لهعة وصرح أنه عنده بالموحده. (*)

باب السلام للتحلل من الصلاة

وأقول: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أما إني لا أحسنُ دَنْدَنَتَكَ وَلا دَنْدَنَةَ معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حَوْلَهَا ندندن ". الدندنة: كلام لا يُفهم معناه، ومعنى: " حولها ندندن " أي: حول الجنة والنار، أو حول مسألتهما، إحداهما سؤال طلب، والثانية سؤال استعاذة، والله أعلم. ومما يستحبُّ الدعاء به في كل موطن: اللَّهمّ إني أسألُك العفوَ والعافية، اللَّهمّ إني أسألُك الهُدَى والتُّقَى والعفافَ وَالغِنَى، والله أعلم. (بابُ السَّلام لِلتحلُّل من الصَّلاة) اعلم أن السلام للتحلّل من الصلاة ركنٌ من أركان وفرضٌ من فروضها لا تصحُّ إلا به، هذا مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهيرِ السلف والخلف، والأحاديثُ الصحيحةُ المشهورة مُصرّحة بذلك. 178 - واعلم أن الأكمل في السلام أن يقول عن يمينه: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " وَعَنْ يَسارِهِ: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ولا يُستحبّ أن يقول معه - أن مع السلام عن التحلّل من الصلاة - وبركاته، لأنه خلاف المشهور عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد جاء في رواية لأبي داود، وقد قال به جماعة من أصحابنا منهم إمام الحرمين، وزاهر السرخسي، والرويّاني في " الجلية " ولكنه شاذ، والمشهور ما قدمناه (1) . قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر: قد وردت عدة طرق ثبت فها " وبركاته " بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ - يعني النووي - أنها رواية فردة، قال الأذرعي في " المتوسط ": المختار استحبابها في التسليمتين، فقد فال في " شرح المهذب ": إن حديث أبي داود إسناد صحيح ثبت ذلك أيضا من حديث ابن مسعود، رواه ابن ماجه في سننه، وابن حبّان في صحيحه، قال: والعجب من الشيخ - يعني النووي - مع شدة ورع عه كيف يصوب تركه، مع ثبوت السنة، وحكمة بصحة إسناد الحديث الأول، وزيادة الثقة مقبولة عند الفقهاء، وقد استحسنها أيضا الدارمي، في " الاستذكار " وغره من المقدمين من أصحابنا، ويؤيده إثباتها في التشهد وفاقا ... إلخ. وسواء كان المصلّي إماماً أو مأموماً أو منفرداً في جماعة، قليلة أو كثيرة في فريضة أو نافلة، ففي كل ذلك يُسلِّم تسليمتين كما ذكرنا، ويلتفتُ بهما إلى الجانبين،

_ (1) وقد استحب هذه الزيادة طائفة من العلماء، منهم من ذكرهم المصنف رحمة الله، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزيدها أحيانا في التسليمة الأولى. (*)

باب ما يقوله الرجل إذا كلمه إنسان وهو في الصلاة

والواجب تسليمة واحدة، وأما الثانية، فسنّة لو تركها لم يضرّه، ثم الواجب من لفظ السلام أن يقول: السلام عليكم، ولو قال: سلام عليكم، لم يجزئه على الأصح: ولو قال: عليكم السَّلام، أجزأه على الأصح، فلو قال: السلام عليكَ، أو سلامي عليكَ، أو سلام عليكم، أو سلام الله عليكم، أو سلامُ عليكم بغير تنوين، أو قال: السلام عليهم، لم يجزئه شئ من هذا بلا خلاف، وتبطل صلاته إن قاله عامداً عالماً في كل ذلك، إلا في قوله: السلام عليهم، فإنه لا تبطل صلاته به لأنه دعاء (1) ، وإن كان ساهياً لم تبطل، ولا يحصلُ التحلّل من الصلاة بل يحتاج إلى استئناف سلام صحيح، ولو اقتصر الإِمام على تسليمة واحدة، أتى المأموم بالتسليمتين. قال القاضي أبو الطيب الطبري من أصحابنا وغيره: إذا سلَّم الإِمام فالمأموم بالخيار، إن شاء سلَّم في الحال، وإن شاء استدام الجلوس للدعاء وأطال ما شاء، والله أعلم. (بابُ ما يقولُه الرجلُ إذا كلَّمه إنسانٌ وهو في الصَّلاة) 179 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ نَابَهُ شئ فِي صَلاتِهِ، فَلْيَقُلْ: سُبْحانَ اللَّهِ ". وفي رواية في الصحيح: " إِذَا نَابَكُمْ أمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجالُ، ولْتُصَفِّقِ النِّساءُ ". وفي رواية: " التَّسْبِيحُ للرّجالِ وَالتَّصْفِيقُ للنِّساءِ ". (بابُ الأذكارِ بعدَ الصَّلاة) أجمع العلماءُ على استحباب الذكر بعد الصلاة، وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع منه متعدّدة، فنذكرُ طرفا من أهمها. 180 - روينا في كتاب الترمذي، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الدعاء أسمع؟ قال: " جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِر، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ المَكْتوبات ". قال الترمذي: حديث حسن. 181 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنتُ أعرفُ انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير ". وفي رواية مسلم: " كنّا " وفي رواية في " صحيحيهما ". 182 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رفعَ الصوت بالذكر حين ينصرفُ

_ (1) أي لا خطاب فيه لآدمي، ولا يرد أن ما قبله أيضا دعاه لوجود الخطاب فيه. (*)

النَّاسُ من المكتوبة كانَ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) "، وقال ابن عباس: " كنتُ أعلمُ إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتُه ". 183 - وروينا في " صحيح مسلم "، عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: " اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبارَكْتَ يا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرامِ ". قيل للأوزاعي (2) وهو أحد رواة الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: اسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ. 184 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فَرَغ من الصلاة وسلّم قال: " لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلاَ معطي لما مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذا الجد مِنْكَ الجَدُّ ". 185 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، أنه كان يقول دُبُرَ كُلّ صَلاةٍ حين يسلم: " لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، لا إِلهَ إِلاَّ الله وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ ولَهُ الفَضْلُ، وَلَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ، لا إلهَ إِلاَّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ ". قال ابن الزبير: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلّل بهنّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ. 186 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن فقراء المهاجرين أتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ذهبَ أهل الدُّثُور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، يُصَلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجّون بها

_ (1) حمل الإمام الشافعي وغيره جهره صلى الله عليه وسلم بالأذكار والدعاء عقب الصلاة على أنه كان اأجل تعليم المأمومين، فمن ثم قال: ويجهر لتعليمهم، فأذا تعلمو أسر، واستدل البيهقي وغيره على الإسرار بخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بترك ما كانوا عليه من رفع الصوت بالتبكير والتهليل، وقال: " إنكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا " ويسن كذلك الإسرار في سائر الأذكار، وقد ورد الجهر في بعضها كالقنوت للإمام، والتلبية، والتكبير في العيدين والذكر الوارد في السوق، وعند صعود الهضبات والنزول من الشرفات. (2) هو أبو عمر وعبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي أمام الديار الشامية في الفقه والزهد، ولد في بعلبك ونشاء في البقاع، وسكن بيروت وتوفي بها رحمه الله سنة 157 هـ. (*)

ويعتمرون ويجاهدون ويتصدّقون، فقال: " ألا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُِمْ، وَلاَ يَكُونُ أحَدٌ أفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَع مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ؟ قالوا: بلى يارسول الله قال: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثينَ ". قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة: لما سئل عن كيفية ذكره؟ يقول: سبحان اللَّه، والحمدُ للَّه، واللَّه أكبر، حتى يكون منهنّ كلُّهن ثلاث وثلاثون. الدثور: جمع دَثْر بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة: وهو المال الكثير. 187 - وروينا في " صحيح مسلم "، عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مُعَقِّباتٌ لاَ يَخِيبُ قائِلُهُنَّ أوْ فاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ، ثَلاثاً وَثَلاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَثَلاثاً وَثَلاثِينَ تَحْمِيدَةً، وأرْبعاً وَثَلاثِينَ تَكْبِيرةً ". 188 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثاً وَثَلاثينَ، وكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَقالَ تَمامَ المائة: لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطاياهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ". 189 - وروينا في " صحيح البخاري " في أوائل " كتاب الجهاد " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ دُبُرَ الصلاة بهؤلاء الكلماتِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأعُوذُ بِكَ أنْ أُرَدَّ إلى أَرْذَلِ العمُرِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتْنَةِ الدُّنْيا وأعُوذُ بِكَ منْ عَذَابِ القَبْرِ ". 190 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي والنسائي " عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خصلتان أوْ خَلَّتانِ (1) لا يُحافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ إلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ، يُسَبِّحُ اللَّهُ تَعالى دُبُرَ كُلّ صَلاةٍ عَشْراً وَيَحْمَدُ عَشْراً، ويُكَبِّر عَشْراً، فَذَلِكَ خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وَيُكَبِّرُ أرْبَعاً وَثَلاثِينَ إذَا أخَذَ مَضْجَعَةُ، وَيحْمَدُ ثَلاثاً وَثَلاثينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلاثاً وَثَلاثينَ فذلك مائة باللِّسانِ، وألفٌ بالميزَانِ، قال: فلقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قالوا: يارسول الله كيف هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتِي أحَدَكُمْ - يعني الشيطان - في مَنامِهِ، فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أنْ يَقُولَهُ، ويأتِيهِ في صَلاتِهِ، فَيُذَكِّرَهُ حاجَةً قَبْلَ أنْ

_ (1) هذا الشك في رواية أبي داود، ورواية الترمذي والنسائي: خلتان، ورواية ابن ماجه: خصلتان. (*)

يَقُولَهَا "، إسناده صحيح، إلا أن فيه عطاء بن السائب، وفيه اختلاف بسبب اختلاطه (1) . وقد أشار أيوبُ السختياني إلى صحة حديثه هذا (2) . 191 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوّذتين دُبُرَ كُلّ صَلاةٍ ". وفي رواية أبي داود: " بالمعوّذات "، فينبغي أن يقرأ: " قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ بربّ الناس ". 192 - وروينا بإسناد صحيح في سنن أبي داود، والنسائي، عن معاذ رضي الله عنه، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: " يا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنّي لأُحِبُّكَ " ثم قال: " أُوصِيكَ يا مُعاذُ لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ ". 193 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَضى صلاتَه مسحَ جبهتَه بيده اليمنى، ثم قال: " أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ أذْهِبْ عَنِّي الهَمَّ والحزنَ " (3) . 194 - وروينا فيه عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: ما دنوتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دُبُر مكتوبة ولا تطوُّع إلا سمعتُه يقولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذُنُوبي وَخَطايايَ كُلَّها، اللَّهُمَّ انْعِشْنِي واجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي لِصَالِح الأعْمالِ وَالأخْلاقِ، إنَّهُ لاَ يَهْدِي لِصَالِحها وَلاَ يَصْرِفُ سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ ". 195 - وروينا فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فَرَغ من صلاته، لا أدري قبل أن يسلِّم أو بعد أن يسلِّم يقول: " سُبْحانَ ربِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ على المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالمين " (4) .

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ - يعني في تخريج الأذكار -: وقول الشيخ - يعني النووي - إلا أن فيه عطاء بن السائب ... الخ لا أثر له، فإن شعبة والنووي وحماد بن زيد سمعوا من عطاء قبل الاختلاط، وقد اتفقوا على أن الثقة إذا تميز ما حدث قبل اختلاطه مما بعده قبل، وهذا من ذلك، ويؤيده قوله: وأشار أيوب ... الخ. (2) قال الحافظ: في كون هذا حكما بصحة الحديث من أيوب نظر، لأن الظاهر أنه قصد علو الإسناد لهم، قال الحافظ: ووالد عطاء الذي تفرد بهذا الحديث لم يخرج له الشيخان، لكنه ثقة، ولحدثه شاهد قوي بسند قوي، فلذلك صححت الحديث. (3) وإسناده ضعيف. (4) وإسناده ضعيف. (*)

باب الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة الصبح

196 - وروينا فيه عن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمُرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَواتِمَهُ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامي يَوْمَ ألْقاكَ " (1) . 197 - وروينا فيه عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبر الصلاة: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ وَالفَقْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ " (2) . 198 - وروينا فيه بإسناد ضعيف، عن فضالة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ تَعالى وَالثَّناء عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء " (3) . (بابُ الحثِّ على ذكرِ اللَّه تعالى بعدَ صَلاةِ الصُّبح) اعلم أن أشرفَ أوقات الذكر في النهار، الذكرُ بعد صلاة الصبح. 199 - روينا عن أنس رضي الله عنه في كتاب الترمذي وغيره، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى الفَجْرِ في جَماعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى حتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كانَتْ كأجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تامَّةٍ تامةٍ تامةٍ " قال الترمذي: حديث حسن. 200 - وروينا في كتاب الترمذي وغيره، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قالَ فِي دُبُرِ صَلاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ ثانٍ رِجْلَيهِ قَبْلَ أنْ يَتَكَلَّمَ: لا إِلهَ

_ (1) وإسناده ضعيف. (2) حديث حسن. (3) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار كما في شرح الأذكار: هذا بالنسبة لسند ابن السني، وإلا فقد أخرج الخبر أبو داود وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: هو على شرط مسلم، وفي موضع: هو على شرطهما، أي الشيخين، ولا أعرف له علة. وقال الحافظ بع تخرجه من طريقين: هذا حديث صحيح أخرجه أحمد وإسحاق في " مسنديهما " وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وللحديث قصة رواها من ذكر، هي قول فصالة: أن النبي صلى الله على وسلم رأى رجلاً ... الخ، وأخرجه ابن السني مقتصرا على الحديث دون القصة، قال الحافظ: وهيس في سنده من يوصف بالضعف إلا ابن لهيعة، وكأن المصنف ضعفه بسببه، وابن لهيعة لم ينفرد به، بل رواه غيره كما ترى، وعجيب من اقتصاره - يعني النووي - على تضعيف هذا السند دون غيره من الأحاديث التي أوردها قبل من كتاب ابن السني، مع أن أكثرها ضعيف، وهذا صحيح المتن، رواته ثقات مخرج لهم في الصحيح، إلا واحداً فاتفقو على ضعفه، وقد ذكر المصنف في " المجموع " الحديث وقال: رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، فكأنه - يعني النووي - لم يستحضر ذلك هنا. (*)

إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ عَشْرَ مرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ، ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ، وكانَ يَوْمَهُ ذلكَ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطانِ ولَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أنْ يُدْرِكَهُ في ذلكَ اليَوْمِ إِلاَّ الشِّرْكَ باللَّهِ تَعالى " قال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي بعض النسخ: صحيح (1) . 201 - وروينا في " سنن أبي داود " عن مسلم بن الحارث (2) التميمي الصحابي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسرّ إليه فقال: " إذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلاةِ المَغْرِبِ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فإنَّكَ إذَا قُلْتَ ذلكَ ثُمَّ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْها، وإذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْ كذَلِكَ، فإنَّكَ إنْ مُتَّ مِنْ يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْها " (3) . 202 - وروينا في مسند الإِمام أحمد، وسنن ابن ماجه، وكتاب ابن السني، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ عِلْماً نافِعاً، وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَرِزْقاً طَيِّباً " (4) . 203 - وروينا فيه (5) عن صُهيب (6) رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرّك شفتيه بعد صلاة الفجر بشئ، فقلتُ: يا رسولَ الله! ما هذا الذي تقول؟ قال: " اللَّهُمَّ بِكَ أُحاوِلُ، وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَبِكَ أُقاتِلُ " (7) والأحاديثُ بمعنى ما ذكرته كثيرة، وسيأتي في الباب الآتي من بيان الأذكار التي تقال في أوّل النهار ما تقرّ به العيون إن شاء الله تعالى.

_ (1) الحديث حسن دون التقييد بقوله: " وَهُوَ ثانٍ رِجْلَيهِ " وقد حسّنه الحافظ في تخريج الأذكار، ورواه ابن حبّان رقم (2341) موارد، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه مقيدا بدبر الصلاة، وليس فيه ثني الرجلين. (2) في رواية أبي داود رقم (5079) عن الحارث بن مسلم عن أبيه مسلم بن الحارث، كما أثبته المصنف هنا، وفي رواية أخرى لأبي داود رقم (508) مسلم بن حارث عن أبيه الحارث بن مسلم، وكذلك هو عنه ابن حبان رقم (2346) موارده، وصواب ابن عبد البرّ الأولى. وقال الحافظ: ورجح أبو زرعه وأبو حاتم رواية الحارث بن مسلم عن أبيه مسلم بن الحارث، وصنيع ابن حبان يقتضي خلاف ذلك، فكأنه ترجح عنده أن الصحابي في هذا الحديث هو الحارث بن مسلم. (3) وهو حديث حسن. (4) حديث حسن. (5) أي في كتاب " ابن السني " كما قال الحافظ ابن حجر. (6) قال ابن علاّن في شرح الأذكار، لم ينسبه هنا ولا في كتاب " ابن السني " والمسمى بصهيب من الصحابة اثنان: صهيب بن سنان المشهور بالرومي أحد المعذبين في الله، وصهيب بن النعمان. (7) وهو حديث حسن. (*)

باب ما يقال عند الصباح وعند المساء

204 - وروينا عن أبي محمد البغوي في " شرح السنّة " قال: قال علقمة بن قيس: بلغنا أن الأرض تعجّ إلى الله تعالى من نومة العالِم بعد صلاة الصبح (1) ، والله أعلم. (بابُ ما يُقال عند الصَّباحِ وعندَ المساءِ) اعلم أن هذا البابَ واسعٌ جداً، ليس في الكتاب بابٌ أوسعَ منه، وأنا أذكرُ إن شاء الله تعالى فيه جملاً من مختصراته، فمن وُفِّق للعمل بكلّها فهي نعمة وفضل من الله تعالى عليه وطوبى له، ومن عجز عن جميعها فليقتصرْ من مختصراتها على ما شاء ولو كان ذكراً واحداً. والأصلُ في هذا الباب من القرآن العزيز قولُ الله سبحانه وتعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه: 13] وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعَشِيّ وَالإِبْكارِ) [غافر: 55] وقال تعالى: (واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ من القول بالغدو والآصال) [النساء: 148] قال أهل اللغة: الآصال جمع أصيل: وهو ما بين العصر والمغرب. وقال تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52] قال أهل اللغة: العشيّ: ما بين زوال الشمس وغروبها. وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارة ولا بيع عن ذكر الله ... ) الآية [النور: 36] . وقال تعالى: (إنَّا سَخَّرْنا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ) [ص: 18] . 205 - وروينا في " صحيح البخاري " عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبُوءُ بِذَنبي فاغْفِرْ لي فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، إذا قال ذلك حين يُمسي فمات من ليلته دخل الجنة، أو كانَ من أهل الجنة، وإذا قال ذلك حين يُصبح فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ... مثله " معنى أبوء: أقرُّ وأعترف. 206 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحانَ اللَّهِ وبحمده. مائة مَرَّةٍ لَمْ يأْتِ أحَدٌ يَوْمَ القِيامَةِ بأفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ إِلاَّ أحَدٌ قالَ مثْلَ ما قالَ أوْ زَادَ عليه ".

_ (1) وإسناده منقطع. (*)

وفي رواية أبي داود: " سُبْحانَ اللَّهِ العَظيمِ وبِحَمْدِهِ ". 207 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي، والنسائي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، عن عبد الله بن خُبيب - بضم الخاء المعجمة - رضي الله عنه، قال: " خرجنا في ليلة مطره وظلمة شديدة نطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فأدركناه فقال: قُلْ، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قُلْ، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قُلْ، فقلت: يارسول الله ما أقولُ؟ قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلّ شئ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 208 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرها بالأسانيد الصحيحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح: " اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنا وَبِكَ أمْسَيْنا، وَبِكَ نَحْيا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ " وإذا أمسى قال: " اللَّهُمَّ بِكَ أمْسَيْنا، وَبِكَ نَحْيا، وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ النُّشُورُ " قال الترمذي: حديث حسن. 209 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: " سَمَّعَ سامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنا، رَبَّنا صَاحِبْنا (1) ، وأفْضِلْ عَلَيْنا، عائِذاً (2) باللَّهِ منَ النَّارِ ". قال القاضي عياض وصاحب " المطالع " وغيرهما: سمَّعَ بفتح الميم المشدّدة، ومعناه: بلّغ سامع قولي هذا لغيره، تنبيهاً على الذكر في السحَر والدعاء في ذلك الوقت، وضبطه الخطابي وغيره، سَمِعَ: بكسر الميم المخففة، قال الإِمام أبو سليمان الخطابي: سَمِعَ سامِعٌ، معناه: شهدَ شاهدٌ. وحقيقته: ليسمعِ السامعُ وليشهد الشاهدُ حمدنا لله تعالى على نعمته وحسن بلائه. 210 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: " أمْسَيْنا وأمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريك له " قال الراوي: أراه قال فيهنٌ: " لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَديرٌ، رَبّ أسألُكَ خَيْرَ ما فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَها وأعُوذ بِكَ مِنْ شَرّ ما في هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرّ مَا بَعْدَهَا، رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَل وَسُوءِ الكِبَرِ، أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ في النَّارِ وَعَذَابٍ في القَبْرِ، وَإذَا أصْبَحَ قالَ ذلكَ أيْضاً: أصْبَحْنا وأصْبَحَ الملك لله ... ".

_ (1) أي: كن مصاحبا لنا، واحفظنا وأحطنا واكلأنا. (2) منصوب على الحال، أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي باللَّهِ منَ النَّارِ. (*)

211 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيتُ من عقرب لدغتني البارحة؟ قال: " أما لَوْ قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلمات الله التامات من شر ما خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ ". ذكره مسلم متصلاً بحديث لخولة بنت حكيم رضي الله عنها وهكذا (1) . ورويناه في كتاب ابن السني، وقال فيه: " أعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرّ ما خَلَقَ ثَلاثاً لم يضره شئ " (2) . 212 - وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يارسول الله مُرْني بكلمات أقولهنّ إذا أصبحتُ وإذا أمسيت، قال: " قُلِ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأرض، عالم الغيب وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شئ ومليكه، أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، أعوذ بك من شر نفسي وَشَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، قالَ: قُلْها إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ وَإذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروينا نحوه في " سنن أبي داود " من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنهم قالوا: يارسول الله علِّمنا كلمة نقولها إذا أصبحنا وإذا أمسينا واضطجعنا، فذكره، وزاد فيه بعد قوله: " وَشِرْكِهِ "، وأنْ نَقْتَرِفَ سُوءاً عَلى أنْفُسِنا أوْ نَجُرَّهُ إلى مُسْلِمٍ ". قوله صلى الله عليه وسلم: " وشركه "، روي على وجهين: أظهرهما وأشهرهما: بكسر الشين مع إسكان الراء من الإِشراك: أي: ما يدعو إليه ويوسوس به من الإِشراك بالله تعالى. والثاني: شَرَكه بفتح الشين والراء: أي: حبائله ومصايده، واحدها: شَرَكة بفتح الشين والراء، وآخره هاء. 213 - وروينا في " سنن أبي داود " و " الترمذي " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ في صَباحِ كُلّ يَوْمٍ وَمَساءِ كل ليلة: بِسْمِ اللَّهِ الَّذي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شئ فِي الأرْضِ وَلا في السَّماءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم، ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّه شئ " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، هذا لفظ الترمذي. وفي رواية أبي داود: " لَم تُصِبْهُ فجأة بلاء ".

_ (1) ولفظه أنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرّ ما خلق، فإنه لا يضره شئ حتي ير تحل منه. وسيذكره المصنف رحمه الله في أذكار المسافر. (2) وهو حديث صحيح. (*)

214 - وروينا في كتاب الترمذي، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بالله رَبَّاً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نَبِيَّاً، كانَ حَقّاً على الله تعالى أنْ يُرْضِيَهُ ". في إسناده سعيد بن المرزبان أبو سعد البقال بالباء، الكوفيّ مولى حذيفة بن اليمان، وهو ضعيف باتفاق الحفّاظ (1) ، وقد قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، فلعله صحّ عنده من طريق آخر. وقد رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة عن رجلٌ خدمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه، فثبت أصل الحديث، وللَّه الحمد (2) . وقد رواه الحافظ أبو عبد الله في " المستدرك على الصحيحين "، وقال: حديث صحيح الإسناد. ووقع في رواية أبي داود وغيره: " وبمحمدٍ رسولاً ". وفي رواية الترمذي: " نبيّاً "، فيستحبُّ أن يجمع الإِسان بينهما فيقول " نبيّاً ورسولاً " ولو اقتصر على أحدهما كان عاملاً بالحديث. 215 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد جيد لم يضعفه (3) عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن قالَ حينَ يُصْبحُ أوْ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أنَّكَ أنتَ الله الذي لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ مِنَ النَّارِ، فَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أعْتَقَ اللَّهُ نصْفَهُ مِنَ النَّار، وَمَنْ قَالَها ثَلاثاً أَعْتَقَ الله ثَلاثَةَ أرْبَاعِهِ، فإنْ قالَهَا أَرْبَعاً أعْتَقَه اللَّهُ تَعالى مِنَ النَّارِ ". 216 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد جيد لم يضعفه، عن عبد الله بن غنَّام بالغين المعجمة والنون المشددة، البياضي الصحابي رضي الله عنه، أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: " مَنْ قالَ حِينَ يُصْبحُ: اللَّهُمَّ ما أصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ ; وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذلكَ حِينَ يُمْسِي فَقَد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ " (4) . 217 - وروينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، عن

_ (1) لم يتفقوا على ضعفه، وإنما ضعفه الجمهور. (2) حديث الحسن. (3) قال الحافظ في تخريج الأذكار: في وصف هذا الإِسناد بأنه جيد نظر، ولعلّ أبا داود إنما سكت عنه لمجيئه من وجه آخر عن أنس، ومن أجله قلت: إنه حسن. (4) حديث حسن. (*)

ابن عمر رضي الله عنهما (1) قال: " لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يُصبح: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ العافِيَةَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إني أسألُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ في دِيني وَدُنْيَايَ وأهْلِي ومَالِي، اللَّهُمََّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وآمِنْ رَوْعاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْن يَدَيَّ ومِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتالَ مِنْ تَحْتِي " (2) قال وكيع (3) : يعني الخسف. قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإِسناد (4) . 218 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، وغيرهما بالإِسناد الصحيح (5) عن عليّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: " اللهم إني أعُوذُ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ وَبِكَلِماتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَر ما أنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِهِ، اللَّهُمّ أنْتَ تَكْشِفُ المَغْرَمَ والمَأثمَ، اللَّهُمَّ لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ وَلا يخلف وعدك، ولا يَنْفَعُ ذَا الجَدّ مِنْكَ الجَدُّ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ". 219 - وروينا في سنن أبي داود، وابن ماجه، بأسانيد (6) جيدة عن أبي عياش - بالشين المعجمة - رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قالَ إِذَا أصْبَحَ: لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، كانَ لَهُ عِدْلُ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ صلى الله عليه وسلم، وكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ، وكانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطانِ حتى يُمْسِيَ، وَإنْ قَالَهَا إِذَا أمْسَى كانَ له مِثْلُ ذلكَ حتى يصبح " (7) .

_ (1) قال الحافظ: وقول الشيخ - يعني النووي - بالأسانيد الصحيحة، يوهم عن له طرقاً عن ابن عمر، وليس كذلك. (2) أن أغتال: أي أوخذ غيلة من تحتي. (3) هو وكيع بن الجراح. قال الحافظ: لما أخرج الحديثَ إلى قوله " أُغْتالَ مِنْ تَحْتِي " قال جبير: وهو الخسف، قال عبادة: فلا أدري أهو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول جبير؟ يعني هل فسره من قِبَل نفسه أو رواه. قال الحافظ: وكأن وكيعا لم يحفظ هذا التفسير فقال من نفسه. اهـ. (4) ووافقه الذهبي، وهو حديث صحيح. (5) بل هو حديث حسن، فإن في تخريج الأذكار: وفي قول الشيخ - يعني النووي - بأسانيد، نظر، فنه ليس له عند أبي داود وابن ماجه إلا سند حماد إلى منتهاه. (7) وهو حديث صحيح. (*)

220 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد لم يضعفه (1) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا أصْبَحَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وأصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أسألُكَ خَيْرَ هَذَا اليَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَر ما فِيهِ وَشَرِّ ما بَعْدَهُ، ثُمَّ إذا أمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلكَ ". 221 - وروينا في " سنن أبي داود " عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه قال لأبيه: يا أبتِ إني أسمعك تدعو كلّ غداة: اللَّهُمَّ عافِني فِي بَدَني، اللَّهُمَّ عافِنِي في سَمْعِي، اللَّهُمَّ عافِني في بَصَري، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ وَالفَقْرِ، اللَّهُمَّ إني أعُوذَ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبرِ، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، تعيدها حين تصبح ثلاثاً، وثلاثاً حين تُمسي، فقال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهنّ، فأنا أُحبّ أن أستن بسنّته (2) . 222 - وروينا في " سنن أبي داود " عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَن قالَ حِينَ يُصْبحُ (فَسُبْحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحونَ وَلَهُ الحَمْدُ في السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ. يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرجُونَ) [الروم: 17، 18] أدرك ما فاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذلكَ، وَمَنْ قالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ ما فَاتَهُ في لَيْلَتِهِ " لم يُضَعِّفه أبو داود، وقد ضعفه البخاري في " تاريخه الكبير " وفي كتابه " كتاب الضعفاء " (3) . 223 - وروينا في " سنن أبي داود " عن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم رضي عنهنّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلّمها فيقول: " قُولي حينَ تُصْبحينَ: سُبْحانَ اللَّه وبِحَمْدِهِ، لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، ما شاءَ اللَّه كَانَ، وما لم يشأ لم يكن، أعلم أنَّ الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ عِلْماً، فإنَّهُ مَنْ قالَهُنَّ حِينَ يُصْبحُ حُفِظَ حتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حتى يصبح ".

_ (1) يعني في سننه، ضعفه خارجها كما قال الحافظ، والحديث حسن بشواهده. (2) وهو حديث حسن. (3) ولكن للحديث شواهد بمعناه. (4) رواه أبو داود (5075) في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، من حديث عبد الحميد مولى بني هاشم عن أمه وكانت تخدم بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم الرازي: عبد الحميد مجهول، وقال الحافظ المنذري: أُم عبد الحميد لا أعرفها، وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها، وكأنها صحابية، وفي التخريج له: أُم عبد الحميد لم أعرف اسمها ولا حالها، ولكن يغلب على الظن أنها صحابية، قإن بنات النبي صلى الله عليه وسلم متن في حياته، إلا فاظمة، فعاشت بعده ستة أشهر أو أفل، وقد وصفت بأنها تخدم التي روت عنها لكنها = (*)

224 - وروينا في سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: دخلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقال له: أبو أمامة، فقال " يا أبا أُمامَةَ! ما لي أرَاكَ جالِساً في المَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ؟ " قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: " أفَلا أُعَلِّمُكَ كَلاماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وقضى عَنْكَ دَيْنَكَ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: " قُلْ إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمّ والحُزن وأعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخلِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرّجالِ ". قال: ففعلتُ ذلك، فأذهبَ الله تعالى همّي وغمّي وقضى عني ديني (1) . 225 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد صحيح، عن عبد الله بن أبزى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: " أصْبَحْنَا على فِطْرَةِ الإِسْلامِ، وكَلِمَةِ الإِخْلاصِ، وَدِيْنِ نبِيِّا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم حَنِيفاً مُسْلِماً ومَا أنا مِنَ المُشْرِكِينَ ". قلتُ كذا وقع في كتابه: " ودين نبيّنا محمد " وهو غير ممتنع، ولعلَّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهراً ليسمعَه غيره فيتعلمه، والله أعلم. 226 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: " أصْبَحْنا وأصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلُّ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَالكِبْرِياءُ وَالعَظَمَةُ لِلَّهِ، وَالخَلْقُ وَالأمْرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَما سَكَنَ فِيهما لِلَّهِ تَعالى، اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ هَذَا النَّهارِ صَلاحاً، وَأَوْسَطَهُ نَجاحاً، وآخِرَهُ فَلاحاً، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " (2) . 227 - وروينا في كتابي الترمذي وابن السني بإسناد فيه ضعف، عن مَعقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: أعُوذُ باللَّهِ السَّمِيع العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلاثَ آياتٍ مِنْ سُورَةِ الحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّهُ تَعالى بِهِ سَبْعِينَ

_ = لم تسمها، فإن كانت غير فاطمة قوي الاحتمال، وإلا احتمل أنها جاءت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله. أقول: وللحديث شواهد بمعناه سيأتي بعضها في هذا الباب. (1) وهو حديث حسن. (2) وإسناده ضعيف. (*)

أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإنْ ماتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ماتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كانَ بِتلْكَ المَنْزِلَةِ " (1) . 228 - وروينا في كتاب ابن السني، عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه رضي الله عنه قال: وجّهَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فأمَرَنَا أن نقرأ إذا أمسينا وأصبحنا: (أَفَحَسِبْتُمْ أنَما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون: 115] فقرأنا، فغنمنا وسلمنا. 229 - وروينا فيه (2) عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذه الدعوة إذا أصبح وإذا أمسى: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ منْ فَجْأةِ الخَيْرِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ فَجأةِ الشَّرّ " (3) . 230 - وروينا فيه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: " ما يَمْنَعُكِ أنْ تَسْمَعِي ما أُوصِيكِ بِهِ؟ تَقُولِينَ إذَا أصْبَحْتِ وَإذَا أمْسَيْتِ: يا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِكَ أسْتَغِيثُ فأصْلِحْ لي شأنِي كُلَّهُ وَلاَ تَكِلْني إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ " (4) . 231 - وروينا فيه بإسناد ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تُصيبُه الآفاتُ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " قُلْ إذَا أصْبَحْتَ: بِسْمِ اللَّهِ على نَفْسِي وأهْلي ومَالي، فإنَّهُ لا يَذْهَبُ لك شئ "، فقالهنّ الرجلُ فذهبتْ عنه الآفاتُ. 232 - وروينا في سنن ابن ماجه، وكتاب ابن السني، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح قال: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ عِلْماً نافعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً " (5) . 233 - وروينا في كتاب ابن السني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قالَ إذَا أصْبَحَ: اللَّهُمَّ إني أصْبَحُتُ منْكَ في نِعْمَةٍ وَعافِيَةٍ وَسَتْرٍ، فأتِمَّ نِعْمَتَكَ عَليَّ وَعَافِيَتَكَ وَسَتْرَكَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ إِذَا أصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى، كان حَقّاً على اللَّهِ تَعالى أنْ يُتِمَّ عليه ".

_ (1) وفي سنده خالد بن طهمان، وهو صدوق اختلط قبل موته بعشر سنين، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن غريب. (2) أي في ابن السني. (3) وفي سنده يوسف بن عطية، وهو متروك. (4) وهو حديث حسن. (5) وهو حديث حسن. (*)

234 - وروينا في كتابي الترمذي وابن السني، عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما مِنْ صَباحٍ يُصْبِحُ العِبادُ إِلاَّ مُنادٍ يُنادِي: سُبْحانَ المَلكِ القُدُّوس " وفي رواية ابن السني: " إلاَّ صَرَخَ صَارِخٌ: أيُّها الخلائقُ سَبِّحوا المَلكَ القُدُّوسَ " (1) . 235 - وروينا في كتاب ابن السني، عن بُريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَالَ إذَا أصْبَحَ وَإِذَا أمْسَى: رَبِّيَ اللَّهُ، تَوَكَّلْتُ على اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيمُ، ما شاءَ اللَّهُ كانَ، وما لم يشأ لم يكن، أعلم أنَّ الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ عِلْماً، ثُمَّ مَاتَ دَخَلَ الجَنَّة ". 236 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكُونَ كأبِي ضَمْضَمٍ؟ قالُوا: وَمَنْ أبُو ضَمْضَمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: " كَانَ إِذَا أصْبَحَ قالَ: اللَّهُمَّ إِني قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي وَعِرْضِي لَكَ، فَلا يَشْتُمُ مَنْ شَتَمَهُ وَلاَ يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَهُ، وَلا يَضْرِبُ مَنْ ضَرَبَهُ ". 237 - وروينا فيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قالَ فِي كُلّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي: حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، كَفَاهُ اللَّهُ تَعالى ما أهمَّهُ مِنْ أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ " (2) . 238 - وروينا في كتابي الترمذي وابن السني بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرأ (حَم المُؤْمِن) إلى: (إليه المصير) وآيةَ الكُرْسِيّ حِينَ يُصْبحُ حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُمْسِي، وَمَنْ قَرأهُما حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِما حَتَّى يُصْبحَ " (3) . فهذه جملةٌ من الأحاديث التي قصدنا ذكرَها، وفيها كفايةٌ لمن وفّقه الله تعالى، نسألُ اللَّه العظيم التوفيقَ للعمل بها وسائر وجوه الخير. 239 - وروينا في كتاب ابن السني، عن طلق بن حبيب قال: جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء فقال: يا أبا الدرداء قد احترق بيتُك، فقال: ما احترق، لم يكن الله عز وجل

_ (1) وإسناده حسن. (2) ورواه أبو داود موقوعا على أبي الدرداء، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فسبيله سبيل المرفوع. (3) وفي سنده عبد الرحمن بن أبي مليكة، وهو ضعسف. (*)

باب ما يقال في صبيحة الجمعة

ليفعلَ ذلك بكلمات سمعتهنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أوّل نهاره لم تصبْه مصيبةٌ حتى يُمسي، ومَنْ قالها آخرَ النهار لم تصبْه مصيبةٌ حتى يُصبحَ: " اللَّهُمََّ أنتَ رَبي لا إِلهَ إِلاََّ أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، ما شاء الله كان، وما لم يَشأْ لَمْ يَكُنْ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ عِلْماً، اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرّ كُلّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتها، إنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ". ورواه من طريق آخر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل: عن أبي الدرداء، وفيه: أنه تكرر مجئ الرجل إليه يقول: أدرِك دارَك فقد احترقتْ، وهو يقول: ما احترقتْ لأني سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن قال حين يُصبح هذه الكلمات، لم يُصبه في نفسه ولا أهله ولا ماله شئ يكرهه "، وقد قلتها اليوم، ثم قال: انهضوا بنا، فقام وقاموا معه، فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها ولم يصبها شئ ". (بابُ ما يُقالُ في صَبيحةِ الجمعة) اعلم أن كلَّ ما يُقال في غير يوم الجمعة يقال فيه، ويزداد استحبابُ كثرة الذكر فيه على غيره، ويُزادُ كثرةُ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 240 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال صبيحة يوم الجمعة قَبْلَ صَلاةِ الغَدَاةِ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتوب إليه ثلاث مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ " (1) . ويُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء في جميع يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس رَجاءَ مصادفة ساعة الإِجابة، فقد اختُلف فيها على أقوال كثيرة، فقيل: هي بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وقيل: بعد طلوع الشمس وقيل: بعد الزوال، وقيل: بعد العصر، وقيل غير ذلك. والصحيحُ بل الصوابُ الذي لا يجوز غيرُه: ما ثبت في " صحيح مسلم "، عن أبي موسى الأشعريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها ما بينَ جلوس الإِمام على المنبر إلى أن يسلم من الصلاة (2) .

_ (1) وإسناده ضعيف. (2) وقال الإمام أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعاء بعد صلاة العصر. (*)

باب ما يقول إذا طلعت الشمس

(بابُ ما يَقولُ إذا طلعتِ الشَّمس) 241 - روينا في كتاب ابن السني بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلعت الشمس قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي جَلَّلَنا اليَوْمَ عافِيَتَهُ، وَجاءَ بالشَمْسِ مِنْ مَطْلَعِها، اللَّهُمَّ أصْبَحْتُ أشْهَدُ لَكَ بِما شَهِدْتَ بِهِ لِنَفْسِكَ، وَشَهِدَتْ بِهِ مَلائِكَتُكَ وحَمَلَةُ عَرْشِكَ وَجَمِيعُ خَلْقِكَ إنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ القائِمُ بالقِسْطِ، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، اكْتُبْ شَهادَتي بَعْدَ شَهادَةِ مَلائِكَتِكَ وأُولِي العِلْمِ، اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ وَإِلَيْكَ السَّلامُ، أسألُكَ يا ذَا الجَلالِ والإِكْرَامِ أنْ تَسْتَجِيبَ لَنا دَعْوَتَنَا، وأنْ تُعْطِيَنَا رَغْبَتَنا، وأنْ تُغْنِينَا عَمَّنْ أغْنَيْتَهُ عَنَّا مِنْ خَلْقِكَ، اللَّهُمَّ أصْلحْ لي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لي دنياي التيي فِيها مَعِيشَتِي، وأصْلِحْ لي آخِرَتِي الَّتِي إلَيْها مُنْقَلَبِي ". 242 - وروينا فيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه أنه جعلَ من يَرْقبُ له طلوع الشمس، فلما أخبره بطلوعها قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لَنَا هَذَا اليَوْمَ وأقالَنا فِيهِ من عَثَرَاتِنَا. (باب ما يقول إذا استقلت الشَّمس) (1) 243 - روينا في كتاب ابن السني، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فيبقى شئ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالى إِلاَّ سَبَّحَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَمِدَهُ إِلاَّ ما كانَ مِنَ الشَّيْطانِ وأعْتَاءِ بَنِي آدَمَ، فسألت عن أعتى بَنِي آدَمَ فَقالَ: شرار الخلق " (2) . (بابُ ما يقولُ بعدَ زَوَال الشَّمسِ إلى العصر) قد تقدم إذا لَبِسَ ثوبَه، وإذا خرجَ مِنْ بَيْتِهِ، وإذا دخلَ الخلاءَ، وإذا خرج منه، وإذا توضَّأَ، وإذا قصدَ المسجدَ، وإذا وصلَ بابَه، وإذا صارَ فيه، وإذا سمع المؤذِّن والمقيمَ، وما بين الأذان والإِقامة، وما يقولُه إذا أرادَ القيام للصلاة، وما يقولُه في الصلاة من أوّلها إلى آخرها، وما يقولُه بعدها، وهذا كلُّه يشتركُ فيه جميعُ الصلوات. ويستحبّ الإِكثار من الأذكار وغيرها من العبادات عقب الزوال.

_ (1) أي: ارتفعت. (2) وإسناده ضعيف. (*)

باب ما يقوله بعد العصر إلى غروب الشمس

244 - لما روينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: إنَّها ساعةٌ تُفْتَحُ فِيها أبْوَابُ السَّماءِ فأُحِبُّ أنْ يَصْعَدَ لي فِيها عَمَلٌ صَالِحٌ " قال الترمذي: حديث حسن. ويُستحبّ كثرةُ الأذكار بعد وظيفة الظهر لعموم قول الله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار) قال أهل اللغة: العشيُّ من زوال الشمس إلى غروبها. قال الإِمام أبو منصور الأزهري: العشيّ عند العرب: ما بين أن تزولَ الشمس إلى أن تغرب. (بابُ ما يقولُه بعدَ العصرِ إلى غُروبِ الشَّمس) قد تقدم ما يقولُه بعدَ الظهر والعصر كذلك، ويُستحبُّ الإِكثارُ من الأذكار في العصر استحباباً متأكداً، فإنها الصلاة الوسطى على قول جماعات من السلف والخلف، وكذلك تُستحبُّ زيادةُ الاعتناء بالأذكار في الصبح، فهاتان الصلاتان أصحُّ ما قيل في الصلاة الوسطى، ويُستحبُّ الإِكثارُ من الأذكار بعد العصر، وآخر النهار أكثر، قال الله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه: 130] وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار) . وقال الله تعالى: (واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القول بالغدو والآصال) . [غافر: 55] وقال تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والآصَالِ رجال لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) . [النور: 36] وقد تقدم أن الآصال ما بين العصر والمغرب. 245 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلى أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أعْتِقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إسماعيل ".

_ (1) لكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها، منها ما رواه أبو داود رقم (3667) في العلم، من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأَنْ أقعد مع يَذْكُرُون اللَّهَ تَعالى من صلاة الغدادة حتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ أحَبَّ إِليَّ مِنْ أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولإن أقعد مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعالى مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلى أنْ تَغْرُبَ أحَبَّ إِليَّ مِنْ أعتق أربعة "، وهو حديث حسن، وبنحو رواه أحمد في المسند عن أبي أمامة رضي الله عنه 5 / 255. (*)

باب ما يقوله إذا سمع أذان المغرب

(بابُ ما يقولُه إذا سمعَ أذانَ المغرب) 246 - روينا في سنن أبي داود، والترمذي، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: علَّمني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: " اللَّهُمَّ هَذَا إقْبالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهارِكَ وأصْوَاتُ دُعاتِكَ فاغْفِرْ لي " (1) . (بابُ ما يقولُه بعدَ صَلاةِ المغرب) قد تقدم قريباً أنه يقول عقيب كل الصلوات الأذكارَ المتقدمة، ويُستحبّ أن يزيدَ فيقول بعد أن يصلّي سنّة المغرب. 247 - ما رويناه في كتاب ابن السني، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة المغرب يدخل فيصلي ركعتين، ثم يقول فيما يدعو: " يا مقلب ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دِينِكَ ". 248 - وروينا في كتاب الترمذي، عن عمارة بن شبيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قالَ: لا إِلهَ إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ على أثَرِ المَغْرِبِ، بَعَثَ اللَّهُ تَعالى لَهُ مَسْلَحَةً يَتَكَفَّلُونَهِ (2) مِنَ الشَّيْطانِ حَتَّى يُصْبحَ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِها عَشْرَ حَسَناتٍ مُوجِبات، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئاتٍ مُوبِقاتٍ، وكانَتْ لَهُ بِعِدْلِ عَشْرِ رِقابٍ مُؤْمناتٍ ". قال الترمذي: لا نعرفُ لعمارة بن شبيب سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وقد رواه النسائي في كتاب " عمل اليوم والليلة " من طريقين. أحدهما: هكذا، والثاني عن عمارة عن رجل من الأنصار. قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هذا الثاني هو الصواب. قلتُ: قوله: " مَسلحة " بفتح الميم وإسكان السين المهملة وفتح اللام وبالحاء المهملة: وهم الحرس. (بابُ ما يقرؤُه في صَلاةِ الوترِ وما يقولُه بعدَها) السنّة لمن أوترَ بثلاث ركعات، أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) ، وفي الثانية (قُلْ يا أيها الكافرون) وفي الثالثة: (قل هو الله أحد) والمعوذتين،

_ (1) وفي سنده أبو كثير مولى أُمّ سلمة وهو مجهول. (2) في نسخ الترمذي المطبوعة: يحفظونه. (*)

باب ما يقول إذا أراد النوم واضطجع على فراشه

فإن نسي (سَبِّح) في الأولى، أتى بها مع (قل يا أيُّها الكافرون) في الثانية، وكذا إن نسيَ في الثانية (قل يا أيّها الكافرون) أتى بها في الثالثة مع (قل هو اللَّه أحد) والمعوّذتين. 249 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، وغيرهما بالإِسناد الصحيح، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم في الوتر قال: " سُبْحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ ". وفي رواية النسائي وابن السني: " سُبْحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ. 250 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، عن عليّ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: " اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وأعُوذُ بِمُعافاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكُ، وأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِي ثَناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ ما يقولُ إذا أرادَ النومَ واضطجعَ على فراشِه) قال الله تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآياتٍ لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جُنُوبِهِمْ ... ) [آل عمران: 190] . 251 - وروينا في " صحيح البخاري " رحمه الله، من رواية حذيفة، وأبي ذرّ رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: " باسْمِكَ اللَّهُمَّ أحْيا وأمُوت ". ورويناهُ في " صحيح مسلم " من رواية البراء بن عازب رضي الله عنهما. 252 - وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عليٍّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنهما: " إذَا أوَيْتُما إلى فِرَاشِكُما، أوْ إذَا أخَذْتُما مَضَاجِعَكُما، فَكَبِّرَا ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحا ثَلاثاً وثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثاً وَثَلاثِينَ ". وفي رواية: " التَّسْبِيحُ أرْبَعاً وَثِلاثِينَ ". وَفي رواية: " التَّكْبيرُ أرْبعاً وَثَلاثِينَ ". قالَ عليّ: فما تركته منذ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفّين. 253 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا أوَى أحَدُكُمْ إلى فِرَاشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخلَةِ إِزَارِهِ، فإنَّهُ لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: باسْمِكَ رَبي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أرفعه، إن أمسكت نَفْسِي فارْحَمْها، وَإِنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ بِهِ عِبادَكَ الصَّالِحينَ ". وفي رواية: " يَنْفُضُهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ". 254 - وروينا في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوّذات، ومسح بهما جسده. 255 - وفي الصحيحين عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه

ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: قُلْ هُوَ الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعُوذُ بِرَبّ الناس، ثُم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاثَ مرّاتٍ " قال أهل اللغة: النفث: نفخ لطيف بلا ريق. 256 - وروينا في " الصحيحين " عن أبي مسعود الأنصاري البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الآيَتانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مَنْ قَرأ بِهِما في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ ". اختلف العلماء في معنى كفتاه، فقيل: من الآفات في ليلته: وقيل: كفتاه من قيام ليلته. قلت: ويجوز أن يُراد الأمران. 257 - وروينا في " الصحيحين "، عن البَراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ على شِقِكَ الأيْمَنِ وَقُلِ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألجأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةَ وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لا ملجأ وَلا منجا مِنْكَ إِلاَّ إِليْكَ، آمَنْتُ بِكِتابِكَ الَّذي أنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذي أَرْسَلْتَ. فإنْ مِتَّ مِتَّ على الفِطْرَةِ، واجْعَلْهُنَّ آخِرَ ما تَقُولُ "، هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وباقي رواياته وروايات مسلم مقاربة لَهَا. 258 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " وكَّلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام ... "، وذكر الحديث، وقال في آخره: " إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ آيةَ الكرسي، فإنه لن يزالَ معكَ من الله تعالى حافظ، ولا يقربَك شيطانٌ حتى تُصْبِحَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيطانٌ "، أخرجهُ البُخاري في " صحيحه " (1) فقال: وقال عثمان بن الهيثم: حدّثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وهذا متصل، فإن عثمان بن الهيثم أحدِ شيوخ البخاري الذين روى عنهم في " صحيحه "، وأما قول أبي عبد الله الحميدي في " الجمع بين الصحيحين ". إن البخاري أخرجه تعليقاً، فغير مقبول (2) ; فإن المذهب الصحيح المختار عند العلماء والذي عليه المحقّقون أن قول البخاري وغيره: " وقال فلان "، محمولٌ على سماعه منه واتصاله إذا لم يكن

_ (1) أخرجه البخاري تاما في الوكالة، ومختصرا في كتاب فضائل القرآن وفي كتاب الصيام وقال في المواضع الثلاثة: وقال عثمان بن الهيثم، وأخرجه النسادي والإسماعيلي من طرق عن عثمان، وأخرجه النسائي من وجه آخر عن عثمان وسنده قوي. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: الذي ذكره الشيخ - يعني النووي - عن الحميدي ونازعه فيه، لم ينفرد به الحميدي، بل تبع فيه الإسماعيلي والدارقطني والحاكم وأبا نعيم وغيرهم، وهو الذي عليه عمل المتأخرين، والحافظ، كالضياء المقدسي، وابن القطان، وابن دقيق العيد، والمزي، وقال الخطيب في " الكفاية ": لفظ " قال " لا يحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يقوله إلا في موضع السماع. (*)

مدلِّساً وكان قد لقيَه، وهذا من ذلك. وإنما المعلَّقُ ما أسقط البخاري منه شيخه أو أكثر، بأن يقول في مثل هذا الحديث: وقال عوف، أو قال محمد بن سيرين، وأبو هريرة، والله أعلم (1) . 259 - وروينا في " سنن أبي داود " عن حفصة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادَ أن يرقدَ وضعَ يدَه اليمنى تحتَ خدّه ثم يقول: " اللَّهُمَّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبادَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ". ورواه الترمذي من رواية حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً من رواية البراء بن عازب ولم يذكر فيها: ثلاثَ مرّاتٍ. 260 - وروينا في " صحيح مسلم "، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولُ إذا أوى إلى فراشه: " اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأرْضِ وَرَبََّ العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنا ورب كل شئ، فالِقَ الحَبّ وَالنَّوَى، مُنَزِّل التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرٍّ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شئ، وأنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بعدك شئ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فوقك شئ، وأنْتَ الباطِنُ فَلَيْسَ دونك شئ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وأغْنِنا مِنَ الفَقْرِ ". وفي رواية أبي داود: " اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأغْنِني مِنَ الفَقرِ ". 261 - وروينا بالإِسناد الصحيح، في سنن أبي داود، والنسائي، عن عليٍّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ وَكَلِماتِكَ التَّامَّة مِنْ شر ما أنت آخذ بناصيته، اللَّهُمّ أنْتَ تَكْشِفُ المَغْرَمَ والمَأثمَ، اللَّهُمَّ لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، وَلا يُخْلَفُ وَعْدُكَ، ولا ينفع ذا الجد مِنْكَ الجَدُّ، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ". 262 - وروينا في " صحيح مسلم " وسنن أبي داود، والترمذي، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أطْعَمَنا وَسَقَانا وكَفانا وآوَانا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كافِيَ لَهُ، وَلا مُؤْوِيَ ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 263 - وروينا بالإِسناد الحسن في سنن أبي داود، عن أبي الأزهريّ - ويقال: أبو زهير - الأنماري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قالَ: " بِسْمِ الله وَضَعْتُ جَنْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، وأخسئ شَيْطانِي، وَفُكَّ رِهانِي، وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيّ الأعْلَى ". النديّ: بفتح النون وكسر الدال وتشديد الياء. وروينا عن الإِمام أبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي رحمه الله

_ (1) قال ابن علان في شرح الأذكار: قال السخاوي: وبالجملة فالمختار الذي لا محيد عنه أن حكم ما يورده البخاري عن شيخه كدلك أي مطلقا مثل غيره من التعاتيق، وانظر تتمة كلمة في شرح الأذكار 3 / 147، 148. (*)

في تفسير هذا الحديث قال: النديّ: القوم المجتمعون في مجلس، ومثله النادي، وجمعه: أندية. قال: يريد بالنديّ الأعلى: الملأ الأعلى من المَلائِكَةُ. 264 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، عن نوفل الأشجعي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقْرأ (قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ) ثُمَّ نَمْ على خاتِمَتِها فإنَّها بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ " (1) . 265 - وفي مسند أبي يعلى الموصلي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدُلُّكُمْ على كَلِمَةٍ تُنَجِّيكُمْ مِنَ الإِشْرَاكِ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تقرأون (قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ) عِنْدَ مَنَامِكُمْ " (2) . 266 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي، عن عرباض بن ساريةَ رضي الله عنه، " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ". قال الترمذي: حديث حسن. 267 - وروينا عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينامُ حتى يقرأ (بني إسرائيل) و (الزمر) ، قال الترمذي: حديث حسن. 268 - وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أخذ مضجعه: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي كفاني وآوَانِي وأطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَليَّ فأفْضَلَ، وَالَّذي أعطانِي فأجْزَل، الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ ; اللَّهُمَّ رَبَّ كل شئ وَمَلِيكَهُ، وَإِلهَ كُلِّ شئ، أعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ ". 269 - وروينا في كتاب الترمذي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَالَ حِينَ يَأوِي إلى فِرَاشِهِ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتوب إليه ثَلاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ تَعالى لَهُ ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ النُّجُومِ، وَإِنْ كانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عالجٍ، وَإِنْ كانَتْ عَدَدَ أيَّامِ الدُّنْيَا " (3) . 270 - وروينا في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح، عن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنتُ جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ من أصحابه فقال: يا رسول اللَّهِ لُدِغْتُ الليلةَ فلم أنم حتى أصبحتُ، قال: مَاذَا؟ قال: عقربٌ، قال: " أما إنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلمات الله التامات من شر ما خَلَقَ لَمْ يَضُرَّكَ شئ إن شاء الله تعالى ".

_ (1) وهو حديث حسن، حسّنه الحافظ في تخريج الأذكار. (2) وهو حديث حسن يشهد له الذي قبله. (3) رواه الترمذي رقم (3394) من حديث عبيد الله بن الوليد الوصَّافي عن عطيّة العوفي، وهما ضعيفان، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن الوليد الوصَّافي عن عطيّة عن أبي سعيد، وقال الحافظ في تخريج الأذكار: هذا حديث غريب والوصافي وشيخه - يعني عطية العوفي - ضعيفان، لكن رواه غيره عن عطيّة عن أبي سعيد بنحده. (*)

271 - ورويناه أيضاً في سنن أبي داود وغيره، من رواية أبي هريرة، وقد تقدم روايتنا له عن " صحيح مسلم " في باب: ما يقال عند الصباح والمساء. 272 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، " أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقرأ سورة الحشر وقال: إنْ مِتَّ مِتَّ شَهِيداً، أو قال: مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ " (1) . 273 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما، " أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعة أن يقو اللَّهُمَّ أنْتَ خَلَقْتَ نَفْسِي وأنْتَ تَتَوَفَّاها، لَكَ مَمَاتُها وَمَحْياها، إنْ أحْيَيْتَها فاحْفَظْها، وَإنْ أمَتَّها فاغْفِرْ لَهَا، اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ العافِيَةَ " قال ابن عمر: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 274 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قدَّمناه في باب: ما يقول عند الصباح والمساء، في قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: " اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّمَوَاتِ والأرض، عالم الغيب وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شئ ومليكه، أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ أعوذ بك من شر نفسي وَشَرّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، قُلْها إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ وَإذَا اضْطَجَعْتَ ". 275 - وروينا في كتاب الترمذي، وابن السني، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما مِنْ مُسْلِمٍ يأوي إلى فِرَاشِهِ فَيَقْرأُ سُورَةً مِنْ كِتابِ اللَّهِ تَعالى حِينَ يأخُذُ مَضْجَعَهُ إِلاَّ وَكَّلَ اللَّهُ عز وجل بِهِ مَلَكاً لا يَدَعُ شَيْئاً يَقْرَبُهُ يُؤْذِيهِ يَهُبَّ مَتَى هَبَّ " إسناده ضعيف (2) ، ومعنى هبّ: انتبه وقام. 276 - وروينا في كتاب ابن السني، عن جابر رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الرَّجُلَ إذَا أوَى إلى فِرَاشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطانٌ، فَقَالَ المَلَكُ: اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِخَيْرٍ، فَقالَ الشَّيْطانُ: اخْتِمْ بِشَرّ، فإنْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعالى ثُمَّ نامَ، باتَ المَلَكُ يَكْلَؤهُ " (3) .

_ (1) وفي سنده يزيد بن أبّان القاشي، وهو ضعيف. (2) قال الحافظ في تخريج الأذكار: قول الشيخ - يعني النووي - إسناده ضعيف. قلت (القائل ابن حجر) : أقوي من حديث أنس الماضي قبل قليل، فإن تابعيه لم يسم، وتابعي حديث أنس شديد الضعف، فكان التنبيه عليه أولى، وأخرجه الحافظ من طريق أحمد والطبراني في الدعاء نحوه، ثم قال: حديث حسن، ثم ذكر لأصل الحديث طريقا وقال بعد إيرادها: هذه طرق يقوي بعضها يمتنع معها اطلاق القول بضعف الحديث، قال، وإنما صححه ابن حبّان والحاكم لأن طريقهما عدم التفرقة بين الصحيح والحسن. (3) رواه أيضا النسائي واللفظ له، والحاكم في المستدرك وابن حبّان وأبو يعلى وفيه عنعنة أبي الزبير المكي. قال الحافظ في تخريج الأذكار: عجبب للشيخ - يعني النووي - في اقتصاره على عزوه لابن السني وهو في هذه الكتب المشهورة. (*)

277 - وروينا فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا اضطجع للنوم: " اللَّهُمَّ باسْمِكَ رَبي وَضَعْتُ جَنْبِي فاغْفِرْ لي ذَنْبِي ". 278 - وروينا فيه عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: " مَنْ أوَى إلى فِرَاشِهِ طاهِراً، وَذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعاسُ لَمْ يَتَقَلَّبْ ساعَةً مِنَ اللَّيْلِ يَسألُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيها خَيْراً مِنْ خَيْر الدُّنْيا والآخرَةِ، إِلاَّ أعْطاهُ إيَّاهُ ". 279 - وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: " اللَّهُمَّ أمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُما الوَارِثَ مِنِّي، وَانْصُرْنِي على عَدُوِّي وَأرِنِي ثَأْرِي، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَمِنَ الجُوعِ فإنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ ". قال العلماء: معنى اجعلهما الوارث مني: أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، وقيل: المراد: بقاؤهما وقوتهما عند الكِبَر وضعف الأعضاء وباقي الحواس: أي اجعلهما وارثيْ قوّة باقي الأعضاء والباقِيَيْن بعدها، وقيل: المراد بالسمع: وعي ما يسمع والعمل به، وبالبصر: الاعتبار بما يرى. وروي: " وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنِّي " فَرَدَّ الهاء إلى الإِمتاع فوحَّدَه. 280 - وروينا فيه (1) عن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ صحبته ينامُ حتى فارقَ الدنيا حتى يتعوّذ من الجبن والكسل والسآمة والبخل وسوءِ الكِبَر وسوء المنظر في الأهل والمال وعذاب القبر ومن الشيطان وشركه " (2) . 281 - وروينا فيه (3) عن عائشة أيضاً أنها كانتْ إذا أرادتْ النومَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسألُكَ رُؤْيا صَالِحَةً صَادِقَة غَيْرَ كاذِبَةً، نافِعَةً غَيْرَ ضَارَّةٍ. وكانتْ إذا قالت هذا قد عرفوا أنها غير متكلمة بشئ حتى تصبحَ أو تستيقظَ من الليل. 282 - وروى الإِمام الحافظ أبو بكر بن أبي داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: ما كنتُ أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الأواخر من سورة البقرة. إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

_ (1) أي في ابن السني في " عمل اليوم والليلة ". (2) وإسناده ضعيف، ولكن لفقراته شواهد. قال الحافظ: وقد جاء هذا الحديث متفرقا، فتقدم أوله من حديث أس، أما الاستعاذة من سُوءِ المَنْظَرِ فِي الأهل والمال فسأتي في أدب المسافر، وأما الإستعاذة مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، ففي أذكار التشهد من طرق، وأما الاستعاذة من سوء من الشيطان وشر كه، ففي حديث لعبد الله بن عمرو عند أحمد وغيره. (3) أي في ابن السني من طريقين، وهو موقوعا صحيح الإسناد. (4) قال الحافظ في تخريج الأذكار: أخرجه أبو بكر عبد الله بن أبي داود في كتاب " شريعة القارئ " من = (*)

باب كراهية النوم من غير ذكر الله تعالى

وروي أيضاً عن عليّ رضي الله عنه: ما أرى أحداً يعقلُ دخلَ في الإِسلام ينامُ حتى يقرأ آيةَ الكرسي. وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يُعلّمونهم إذا أووا إلى فراشهم أن يقرأوا المعوّذتين. وفي رواية: كانوا يستحبّون أن يقرأوا هؤلاء السور في كلّ ليلة ثلاثَ مرات: قل هو الله أحد والمعوّذتين. إسناده صحيح على شرط مسلم (2) . واعلم أن الأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفِّق للعمل به، وإنما حذفنا ما زاد عليه خوفاً من الملل على طالبه والله أعلم، ثم الأولى أن يأتيَ الإِنسانُ بجميع المذكور في هذا الباب، فإن لم يتمكن اقتصرَ على ما يقدرُ عليه من أهمه. (باب كراهية النوْم مِن غيرِ ذِكْرِ اللَّه تَعالى) 282 - روينا في سنن أبي داود بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَعَدَ مَقْعَداً لَمْ يَذْكُر اللَّهَ تَعَالى فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعاً لا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى فِيهِ كانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى تِرَةٌ " قلت: الترة بكسر التاء المثناة فوق وتخفيف الراء، ومعناه: نقص، وقيل تبعة. (بابُ ما يقول إذا استيقظَ في الليل وأرادَ النَّومَ بعدَه) اعلم أن المستيقظ بالليل على ضربين. أحدهُما: من لا ينام بعدَه، وقد قدَّمنا في أوّل الكتاب أذكارَه. والثاني: من يُريد النوم بعدَه، فهذا يُستحبّ له أن يذكرَ الله تعالى إلى أن يغلبه النوم، وجاء فيه أذكار كثيرة، فمن ذلك ما تقدم في الضرب الأوّل. 283 - ومن ذلك ما رويناه في " صحيح البخاري " عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ تَعارَّ من اللَّيلِ فَقالَ: لا إِلهَ إِلاََّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، والحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحانَ اللَّهِ، وَلا إِلهَ إلا الله،

_ = طريقين، الأولى صحيحة كما قال الشيخ ... الخ. (1) وسنده حسن. (2) قال الحافظ في تخريج الأذكار: الأثر عن النخعي أخرجه ابن أبي داود بسندين كلاهما صحيح، أخرج الشيخان لجميع رواتهما، فعجب من اقتصار الشيخ - يعني النووي - على شرط مسلم. (*)

وَاللَّهُ أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ ولا قُوََّةَ إلا باللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفرْ لي أوْ دَعا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأ قُبِلَتْ صَلاتُهُ " هكذا ضبطناه في أصل سماعنا المحقق، وفي النسخ المعتمدة من البخاري، وسقط قول " ولا إِله إلاّ الله " قبل، " والله أكبر " في كثير من النسخ، ولم يذكره الحميدي أيضاً في " الجمع بين الصحيحين "، وثبت هذا اللفظ في رواية الترمذي وغيره، وسقط في رواية أبي داود، وقوله: " اغفر لي أو دعا "، هو شك من الوليد بن مسلم أحد الرواة، وهو شيخ شيوخ البخاري، وأبي داود والترمذي وغيرهم في هذا الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم " تعارّ " هو بتشديد الراء، ومعناه: استيقظ. 274 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد لم يضعفه، عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قالَ: " لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وأسألُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنك أنْتَ الوَهَّابُ " (1) . 285 - وروينا في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا تعارّ من الليل قالَ: " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما العَزِيزُ الغَفَّارُ ". 286 - وروينا فيه بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى العَبْدِ المُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبََّحَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ وَدَعاهُ تَقَبَّلَ مِنْهُ ". 287 - وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه وابن السني بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا قامَ أحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ مِنَ اللَّيْلِ ثم عادَ إِلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ ثَلاث مَرَّاتٍ، فإنَّهُ لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عَلَيْهِ، فإذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ: باسْمِكَ اللَّهُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أرْفَعُهُ، إِنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها، وَإِنْ رَدَدْتَها فاحْفَظْها بِما تَحْفَظُ بِهِ عِبادَكَ الصَّالِحين " قال الترمذي: حديث حسن. قال أهل اللغة: صَنِفة الإِزار: بكسر النون: جانبه الذي لا هدب فيه، وقيل جانبه أيّ جانب كان. 288 - وروينا في " موطأ الإِمام مالك " رحمه الله في " باب الدعاء " آخر " كتاب

_ (1) في سنده عبد الله بن الوليد بن قيس الجيبي، وهو ليِّن الحديث كما قال الحافظ في " التقريب " ولكن له شواهد بمعناه يقوى بها. (*)

باب ما يقول إذا قلق في فراشه فلم ينم

الصلاة " عن مالك، أنه بلغه عن أبي الدرداء رضي الله عنه " أنه كان يقوم من جوف الليل فيقول: نامَتِ العُيُونُ وَغارَتِ النُّجُومُ وأنْتَ حَيٌّ قَيُوم " (1) . قلت: معنى غارت: غربت. (بابُ ما يَقولُ إذا قلقَ في فراشِه فلم ينمْ) 289 - روينا في كتاب ابن السني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرَقاً أصابني، فقال: قُلِ: اللَّهُمَّ غارَتِ النُّجُومُ وَهَدأتِ العُيُونُ وأنْتَ حَيُّ قَيُّومٌ لا تَأخُذُكَ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، يا حيُّ يا قيوم أهدئ لَيْلي، وأنِمْ عَيْنِي، فقلتُها، فأذهب اللَّه عزّ وجلّ عني ما كنتُ أجد ". 290 - وروينا فيه عن محمد بن يحيى بن حَبَّان - بفتح الحاء والباء الموحدة - " أن خالد بن الوليد رضي الله عنه أصابَه أرقٌ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوّذ عند منامه بكلماتِ اللَّه التَّامَّات من غضبه ومن شرّ عباده ومن همزات الشياطين وأنْ يَحضرون " هذا حديث مرسل، محمد بن يحيى: تابعي. قال أهل اللغة: الأرق هو السهر. 291 - وروينا في كتاب الترمذي بإسناد ضعيف وضعَّفه الترمذي عن بُريدة رضي الله عنه قال: شكا خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَما أظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرضينَ وَمَا أقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّياطِينِ وَمَا أضَلَّتْ، كُنْ لي جارا من شر خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعاً أنْ يَفْرطَ عليّ أحَدٌ مِنْهُمْ أو أنْ يَبْغي عليَّ، عَزَّ جارُكَ، وَجَلَّ ثَناؤُكَ، وَلا إِلهَ غَيْرُكَ، وَلا إِلهَ إلا أنت ". (بابُ ما يقولُ إذا كانَ يفزعُ في منامه) 292 - روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن السني وغيرها، عن عمرو بن شعيب

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: لم أقف على وصله، ولا أسنده ابن عبد البّر مع تتعه لذلك، ووقع لي مسنداً من وجه آخر، ثم أخرجه من حديث أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقومُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فيقول: نامَتِ العُيُونُ وَغارَتِ النُّجُومُ وأنْتَ الحي القوم لا يوارى منك ليل داج، ولا سماء ذات أبراج، ولا أرض ذات مهاد، بعلم حائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال الحافظ: حديث حسن، ولولا المبهم الذي في سنده لكان السند حسنا، وأظن إن هذا المبهم: محمد بن حميد الرازي، وفيه كلام، وكأنه أبهم لضعفه، قال: وللمتن شاهد في الباب الذي بعده. (*)

باب ما يقول إذا رأى في منامه ما يحب أو يكره

عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: " أعوذ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ من غضبه وشر عباده، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وأنْ يَحْضُرُونِ ". قال: وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فعلقه عليه (1) . قال الترمذي: حديث حسن (1) . 293 - وفي رواية ابن السني: " جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا أنه يفزعُ في منامه، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غضبه ومن شره عِبادِهِ، وَمِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وأنْ يَحْضرُونِ "، فقالها فذهب عنه. (بابُ ما يقولُ إذا رَأى في منامِه ما يُحِبُّ أو يَكرهُ) 294 - روينا في " صحيح البخاري " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا رَأى أحَدُكُمْ رُؤْيا يُحِبُّها، فإنَّمَا هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَلْيَحْمَدِ اللَّه تَعالى عَلَيْها وَلْيُحَدّثْ بِها ". وفي رواية: - فَلا يُحَدِّثْ بِها إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ - وَإذَا رأى غَيْرَ ذلكَ مِمَّا يَكْرَهُ فإنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّها وَلا يَذْكُرْها لأحَدٍ فإنها لا تَضُّرُّهُ ". 295 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي قَتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ - وفي رواية: الرُّؤْيا الحَسَنَةُ - مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطانِ، فَمَنْ رأى شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسارِهِ ثَلاثاً، وَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطان، فإنهَا لا تَضُرُّهُ " وفي رواية " فَلْيَبْصُقْ " بدل: فلينفثْ، والظاهر أن المراد النفث، وهو نفخ لطيف لا ريق معه. 296 - وروينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذ رأى أحَدُكُمُ الرُّؤيا يَكْرَهُها فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسارِهِ ثَلاثاً وَلْيَسْتَعِذْ باللَّه مِنَ الشَّيْطانِ ثَلاثاً، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ ". 297 - وروى الترمذي من رواية أبي هريرة مرفوعاً: " إذَا رأى أحَدُكُمْ رُؤْيا يَكْرهَها فَلا يُحَدِّثْ بها أحَداً وَلْيَقُمْ فليصل " (3) .

_ (1) اختلفَ العلماءُ من الصحابة والتابعين فمن بعدهم في تعليق التمائم التي هي من القرآن وأسماء الله، فأجازه جماعة، ومنعه آخرون، والأفضل استعمال الترقية بالمعوذات وغيرها، كما ورد ذلك عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة. (2) في نسخ الترمذي المطبوعة: حسن غريب. (3) وهو جزء من حديث طويل رواه البخاري ومسلم. (*)

باب ما يقول إذا قصت عليه رؤيا

298 - وروينا في كتاب ابن السني، وقال فيه: " إذَا رَأى أحَدُكُمْ رُؤْيا يَكْرَهُها فليتفل ثَلاث مَرَّاتٍ ثُمَّ ليَقُلِ: اللَّهمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَمَل الشَّيْطانِ وَسَيِّئاتِ الأحْلامِ فإنَّهَا لاَ تكون شيئا ". (بابُ ما يقولُ إذا قُصَّتْ عليه رُؤيا) 299 - روينا في كتاب ابن السني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قال له: رأيت رؤيا، قال: " خَيْراً رَأيْتَ، وخَيْراً يَكُونُ ". وفي رواية: " خَيْراً تَلْقاهُ، وَشَرَّاً تَوَقَّاهُ، خَيْراً لَنا، وَشَرّاً على أعْدَائِنا، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ " (1) . (بابُ الحَثّ على الدًّعاء والاستغفارِ في النصفِ الثاني من كلِّ ليلة) 300 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يَنْزِلُ رَبُّنا كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الآخِر فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُني فأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِر لَهُ ". وفي رواية لمسلم: " يَنزِلُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى إلى السَّماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأوَّلُ فَيَقُولُ: أنا المَلِكُ أنا المَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذي يَسألُنِي فأُعْطِيَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ لَهُ، فَلا يَزَالُ كَذَلِكَ حتى يضئ الفَجْرُ ". وفي رواية: " إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أوْ ثُلُثَاهُ ". 301 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقْرَبُ ما يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخر، فإن اسْتَطَعْتَ أنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (بابُ الدُّعاءِ في جَميع ساعاتِ الليل كلِّه رجاءَ أن يُصادِفَ ساعةَ الإِجابة) 302 - روينا في " صحيح مسلم ": عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:

_ (1) وإسناده ضعيف. (*)

باب أسماء الله الحسنى

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنَّ في اللَّيْلِ لَساعَةً لا يُوافِقُها رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسألُ اللَّهَ تَعالى خيرا مِنْ أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ إلاَّ أعْطاهُ اللَّهُ إيَّاهُ، وَذلكَ كل ليلة ". (بابُ أسماء الله الحسنى) 302 م - قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى فادْعُوهُ بِها) [الأعراف: 180] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ لِلَّهِ تَعالى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسما، مائة إِلاَّ وَاحِداً، مَنْ أحْصَاها دَخَلَ الجَنَّةَ، إنَّهُ وتر يحب الوتر (1) هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، السَّلامُ، المُؤْمِنُ، المُهَيْمِنُ، العَزِيزُ، الجَبَّارُ، المُتَكَبِّرُ، الخالِقُ، البارئ، المُصَوّرُ، الغَفَّارُ، القَهَّارُ، الوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الفَتَّاحُ، العَلِيمُ، الباسِطُ، الخَافِضُ، الرَّافِعُ، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الحَكَمُ، العَدْلُ، اللَّطِيفُ، الخَبيرُ، الحَليمُ، العَظِيمُ، الغَفُورُ، الشَّكُورُ، العَلِيُّ، الكَبِيرُ، الحفيظ، المُغِيثُ (2) ، الحَسِيبُ، الجَلِيلُ، الكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، المُجِيبُ، الوَاسِعُ، الحَكِيمُ، الوَدُودُ، المَجِيدُ، الباعِثُ، الشَّهِيدُ، الحَقُّ، الوَكِيلُ، القَوِيُّ، المَتِينُ، الوَليُّ، الحَمِيدُ، المحصي، المبدئ، المُعِيدُ، المُحْيِي، المُمِيتُ، الحَيُّ، القَيُّومُ، الوَاجِدُ، المَاجِدُ، الوَاحِدُ، الصَّمَدُ، القادِرُ، المُقْتَدِرُ، المُقَدِّمُ، المُؤَخِّرُ، الأوَّلُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، البَاطِنُ، الوَالي، المُتَعالِ، البَرُّ، التَّوَّابُ، المُنْتَقِمُ، العَفُوُّ، الرًّؤُوف، مالِكُ المُلْكِ، ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، المُقْسِطُ، الجامِعُ، الغَنِيُّ، المُغْنِي، المَانِعُ، الضَّار، النَّافعُ، النُّورُ، الهَادِي، البَدِيعُ، الباقِي، الوَارِثُ، الرَشِيدُ، الصَّبُورُ " هذا حديث [رواه] البخاري ومسلم إلى قوله: " يحبّ الوتر " وما بعده حديث حسن (3) ، رواه الترمذي وغيره.

_ (1) إنه وتر يحب الوتر، بفتح الواو وكسرها: لافرد، ومعناه: الذي لا شريك له ولا نظير، وفي معني يحب الوتر تفضيل الوتر في الأعمال وكثير من الطاعات، جعل الصلاة خمسا، والطهارات ثلاثا ثلاثا، وغير ذلك، وجعل كثيرا من عظيم مخلوقاته وترا، منها السماوات والأرضين والبحار وأيام الأسبوع وغير ذلك، وقيل: معناه منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد مخلصا له، كذا في " شرح مسلم " للمصنف مع يسير اختصار. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر للجنس إذا لا معهود جرى ذكره يحمل عليه، فيكون معناه: إنه يحبُ كل وتر شرعه وأمر به كالمغرب والصلوات الخمس، ومعنى محبته لهذا النوع أنه أمر به ونبه عليه. (2) الذي في نسخ الترمذي: المقيت، بالقاف والمثاة. (3) حسنه المصنف رحمه الله تعالى، وذكره ابن حبّان في صحيحه، وقد قال الترمذي رقم (3502) في الدعوات، بابُ أسماء الله الحسنى: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا (*)

كتاب تلاوة القرآن

قوله: " المغيث " روي بدله " المقيت " بالقاف والمثناة، وروي " القريب " بدل " الرقيب "، وروي " المبين " بالموحدة بدل " المتين " بالمثناة فوق، والمشهور " المتين "، ومعنى أحصاها: حفظها، هكذا فسره البخاري والأكثرون، ويؤيده أن في رواية في الصحيح " مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " وقيل: معناه: من عرف معانيها وآمن بها، وقيل: معناه من أطاقها بحسن الرعاية لها وتخلَّق بما يمكنه من العمل بمعانيها، والله أعلم. كتاب تلاوة القرآن اعلم أن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار، والمطلوب القراءة بالتدبر. وللقراءة آدابٌ ومقاصد، وقد جمعت قبل هذا فيها كتابا مختصرا مشتملاً على نفائس من آداب القرّاء والقراءة وصفاتها وما يتعلق بها، لا ينبغي لحامل القرآن أن يخفى عليه مثله، وأنا أُشِيرُ في هذا الكتاب إلى مقاصدَ من ذلك مختصرة، وقد دللتُ من أراد ذلك وإيضاحه على مظنته، وبالله التوفيق. [فصل] : ينبغي أن يحافظ على تلاوته ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، وقد كانت للسلف رضي الله عنهم عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه، فكان جماعةٌ منهم يختمون في كل شهرين ختمة، وآخرون في كل شهر ختمة، وآخرون في كل عشر ليال ختمة، وآخرون في كل ثمان ليالٍ ختمة، وآخرون في كل سبع ليالٍ ختمة، وهذا فعل الأكثرين من السلف، وآخرون في كل ستّ ليال، وآخرون في خمس، وآخرون في أربع، وكثيرون في كل ثلاث، وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة، وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين، وآخرون في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وختم بعضهم في اليوم والليلة ثماني ختمات: أربعاً في الليل، وأربعاً في النهار. وممّن ختم أربعاً في الليل وأربعاً في النهار، السيد الجليل ابن الكاتب الصوفي رضي الله عنه (1) ، وهذا أكثر ما بلغنا في اليوم والليلة.

_ = نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كبير شئ من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث، وقد روى آدم بن أبي أياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح، وانظر جامع الأصول 4 / 174. (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: وابن الكاتب ذكره الشيخ القشيري في رالته، واسمه حسين بن أحمد = (*)

وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنهم أنه كان يختم القرآن ما بين الظهر والعصر، ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء، ويختمه فيما بين المغرب والعشاء في رمضان ختمتين وشيئا، وكان يؤخر العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل، وروى ابن أبي داود بإسناده الصحيح أنّ مجاهداً رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء. وأما الذين ختموا القرآن في ركعة، فلا يُحصون لكثرتهم، فمنهم عثمان بن عفان، وتميم الدّاري، وسعيد بن جبير. والمختار: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قدر يحصل له كمال فهم ما يقرأ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم، أو فصل الحكومات بين المسلمين، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامَّة للمسلمين، فليقتصر على قدر لا يحصل له بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوت كماله، ومن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثْر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة. وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة. 303 - ويدلّ عليه ما رويناه بالأسانيد الصحيحة (1) في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وغيرها، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرأ القُرآنَ فِي أقَلّ مِنْ ثَلاثٍ " وأما وقت الابتداء والختم، فهو إلى خيرة القارئ، فإن كان ممّن يختم في الأسبوع مرّة، فقد كان عثمان رضي الله عنه يبتدئ ليلة الجمعة ويختم ليلة الخميس.

_ = يكنى أبا علي، وأرخ وفاته بعد الأربعين وثلاثمائة. قال الحافظ: أخرج هذا الأثر أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية عن أبي عثمان المغربي واسمه سعيد، كان ابن الكاتب ... فذكره. (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ بعد تخريجه: حديث حسن غريب، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، ويتعجب من قول الشيخ - يعني النووي - بالأسانيد صحيحة، فإنه ليس له عندهم إلا الضعفاء عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن عبد الله بن عمرو، وهي رواية شاذة، ولم أره من حديث قتادة إلا بالعنعنة، وكأن الشيخ - يعني النووي - أراد أن له أسانيد إلى قتادة، أي فإن أحمد رواه عن عفان بن مسلم ويزيد بن هارون كلاهما عن عفان بن مسلم ويزيد بن هارون كلاهما عن همام بن يحيى، وأبو داود عن محمد بن المنهال وهما يرويان عن يزيدَ بن زريع، وأخرجه الترمذي والنسائي عن سعيد بن أبي عروبة، وكلاهما عن قتادة، والله أعلم. (*)

[فصل] في الأوقات المختارة للقراءة

وقال الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء ": الأفضل أن يختم ختمة بالليل، وأخرى بالنهار، ويجعل ختمة النهار يوم الاثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما، ويجعل ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل أوّل النهار وآخره. 304 - وروى ابن أبي داود، عن عمرو بن مرّة التابعي الجليل رضي الله عنه، قال: كانوا يحبّون أن يختم القرآن من أوّل الليل أو من أوّل النهار. وعن طلحة بن مصرف التابعي الجليل الإِمام قال: من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار صلّتْ عليه الملائكةُ حتى يمسي، وأية ساعة كانت من الليل صلَّت عليه الملائكةُ حتى يُصبح. وعن مجاهد نحوه. 305 - وروينا في مسند الإِمام المجمع على حفظه وجلالته وإتقانه وبراعته أبي محمد الدارمي رحمه الله، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (1) قال: إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلّت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه آخر الليل صلّت عليه الملائكة حتى يُمسي. قال الدارمي: هذا حسن عن سعد (2) . [فصل] في الأوقات المختارة للقراءة: اعلم أن أفضل القراءة ما كَانَ في الصلاة، ومذهب الشافعي وآخرين رحمهم الله: أن تطويلَ القيام في الصلاة بالقراءة أفضلُ من تطويل السجود وغيره وأما القراءةُ في غير الصلاة، فأفضلُها قراءة الليل، والنصف الأخير منه أفضل مِنْ الأوّل، والقراءةُ بين المغرب والعشاء محبوبة. وأما قراءةُ النهار، فأفضلها ما كان بعد صلاة الصبح، ولا كراهةَ في القراءة في وقت من الأوقات، ولا في أوقات النهي عن الصلاة. وأما ما حكاه ابن أبي داود رحمه الله، عن معاذ بن رفاعة رحمه الله، عن مشيخته (3) أنهم كرهوا القراءة بعدَ العصر وقالوا: إنها دراسة يهود، فغير مقبول، ولا

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: وكذا وقفه - يعني المصنف - على سعد في " التيان " وخرجه الحفظ من طريق الدارمي كذلك، لكن تقدم عن التذكار للقرطبي التصريح برفعه، إلا أنه لم يبين من خرجه، ثم رأيت صاحب " مسند الفردوس " أورده كذلك مرفوعا، وقال: رواه أبو نُعيم في " الحليلة ". (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: نازعة الحافظ في تحسينه، بأنه في سنده ليث بن أي سليم، وهو ضعيف، الحفظ، ومحمد بن حميد مختلف فيه، قال: وكأنه حسّنه لشواهده السابقة وغيرها، أو لم يرد الحسن بالإصطلاح. (3) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح التحتية والخاء المعجمة، وهو أحد جموع لفظ شيخ، ويقال في جمعه أيضا: شيوخ وأشياخ وشيخان وشيخ، وشيخة بكسر الشين وفتح الياء وبإسكانها، ومشايخ ومشيوخاء بالمد. وقد نظمها ابن مالك، غير أنه أسقط منها مشايخ، فقال: شيخ شيوخ ومشيوخاء مشيخة شيخان أشيخ أيضا شيخة شيخة = (*)

[فصل] في اداب الختم وما يتعلق به

أصل له، ويختار من الأيام: الجمعة، والاثنين، والخميس، ويوم عَرَفَة، ومن الأعشار: العشر الأوّل من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان، ومن الشهور: رمضان. [فصل] في آداب الختم وما يتعلق به: قد تقدم أن الختم للقارئ وحدَه يُستحب أن يكون في صلاة. وأما من يختم في غير صلاة كالجماعة الذين يختمون مجتمعين، فيُستحبّ أن يكون ختمُهم في أوّل الليل أو في أوّل النهار كما تقدم. ويُستحبّ صيام يوم الختم، إلا أن يُصادف يوماً نهى الشرعُ عن صيامه. وقد صحّ عن طلحة بن مصرّف، والمسيّب بن رافع، وحبيب بن أبي ثابت، التابعيّينَ الكوفيّينَ رحمهم الله أجمعين، أنهم كانوا يُصبحون صياماً اليوم الذي كانو يختمون فيه. ويُستحبّ حضورُ مجلس الختم لمن يقرأ، ولمن لا يُحسن القراءة. 306 - فقد روينا في الصحيحين: " أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرَ الحُيَّضَ بالخروج يومَ العيد ليشهدن الخيرَ ودعوةَ المُسْلِمِينَ ". 307 - وروينا في مسند الدارمي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يجعل رجلاً يُراقب رجلاً يقرأ القرآن، فإذا أراد أن يختمَ أعلم ابنَ عباس رضي الله عنهما فيشهد ذلك (1) . 308 - وروى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين، عن قَتادَة التابعيّ الجليل الإِمام صاحب أنس رضي الله عنه، قال: كان أنسُ بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. 309 - وروَى بأسانيد صحيحة، عن الحكم بن عُتَيْبَةَ - بالتاء المثناة فوق ثم المثناة تحت ثم الباء الموحدة - التابعي الجليل الإِمام قال: أرسل إليّ مجاهد وعَبْدَةُ بن أبي لُبابة فقالا: إنا أرسلنا إليك لأنّا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء مستجاب عند ختم القرآن. 310 - وروى بإسناده الصحيح عن مُجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: إن الرحمة تنزيل عند القرآن. تنزل الرحمة.

_ = وزاد في القاموس: شيوخ بكسر الشين وشيوخاء. وزاد اللحياني في النوادر: مشيخة بفتح الياء وضمّها، وبه تكمل جموعه اثني عشر جمعا، وأما أشياخ فهو جمع الجمع. وقال صاحب الجامع: لا اصل لمشايخ في كلام العرب، وقال الزمخشري: ليس مشايخ جمع شيخ، ويصح أنه يكون جمع الجمع اه. (1) وإسناده ضعيف. (*)

[فصل] فيمن نام عن حزبه ووظيفته المعتادة

[فصل] : ويُستحبّ الدعاء عقب الختمة استحباباً متأكداً شديداً لما قدَّمناه. وروينا في مسند الدارمي، وعن حُميد الأعرج رحمه الله قال: مَن قرأ القرآن ثم دعا أمَّنَ على دعائه أربعةُ آلاف مَلَك (1) . وينبغي أن يُلحّ في الدعاء، وأن يدعوَ بالأمور المهمة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين، وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات، وعِصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البرّ والتقوى، وقيامهم بالحقّ واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين، وقد أشرت إلى أحرف من ذلك في كتاب " آداب القرآن "، وذكرتُ فيه دعوات وجيزة من أراد نقلَهَا منه، وإذا فرغ من الختمة، فالمستحبّ أن يشرع في أخرى متصلاً بالختم، فقد استحبّه السَّلفُ. 311 - واحتجّوا فيه بحديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خَيْرُ الأعْمالِ الحَلُّ وَالرِّحْلَةُ "، قيل: وما هما؟ قال: " افْتِتاحُ القرآن وختمه " (3) . [فصل] فيمن نام عن حزبه ووظيفته المعتادة. روينا في " صحيح مسلم ": عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ أوْ عن شئ منه، فقرأه ما بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من اللَّيل ". [فصل] في الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان: 313 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تَعَاهَدُوا هَذَا القُرآنَ (3) ، فَوَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإِبِلِ في عُقُلها " (4) .

_ (1) قال الحافظ بعد تخريجه من طريق الدارمي: أثر مقطوع، وسنده ضعيف، ويُغني عنه أثر مجاهد، وعبدة السابق في الفصل الذي قبله. (2) لم يعزه المصنف إلى مخرجه الترمذي رقم (2949) في أبواب القراءات، والبيهقي في " شعب اٌِيمان " من حديث ابن عباس بمعناه ومداره على صالح المري، وهو ضعيف، قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال الحافظ: حديث أنس المذكور أخرجه ابن أبي داود بسند فيه من كذب، وعجيب للشيخ - يعني النووي - كيف اقتصر على هذا، ونسب للسلف الاحتجاج به، ولم يذكر حديث ابن عباس، وهو المعروف في الباب، وقد أخرجه بعض الستة، وصححه بعض الحفاظ. (3) أي: واظبوا على تلاوته وداموا على تكرلر دراسته كيلا يُنسى. (4) عقلها: بضم العين المهملة والقاف، ويجوز إسكان القاف كنظانره، وهو جمع عِقال ككتاب وكتب، والعِقال: الحبل الذي يُعقل به البعير حتى لا يبد ولا يشرد، شبّه القرآن في حفظه بدوام تكرار ببعير أحكم = (*)

[فصل] في مسائل وآداب ينبغي للقارئ الاعتناء بها

314 - وروينا في " صحيحيهما " عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: " إِنَّمَا مَثَلُ صاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ الإِبلِ المُعقَّلَةِ، إِنْ عاهَدَ عَلَيْها أمْسَكَها، وَإِنْ أطْلَقَها ذَهَبَتْ ". 315 - وروينا في كتاب أبي داود، والترمذي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حتَّى القَذَاةُ يُخْرِجُها الرَّجُلُ مِن المَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَْنباً أعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ القُرآنِ أوْ آيَةٍ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَها " تكلم الترمذي فيه (1) . 316 - وروينا في سنن أبي داود، ومسند الدارمي، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرأ القُرآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالى يَوْمَ القِيامَةِ أجْذَمَ " (2) . [فصل] في مسائل وآداب ينبغي للقارئ الاعتناء بها: وهي كثيرة جداً، نذكرُ منها أطرافاً محذوفة الأدلة لشهرتها، وخوف الإِطالة المملّة بسببها. فأوّل ما يُؤمر به: الإِخلاص في قراءته، وأن يُريدَ بها اللَّهَ سبحانه وتعالى، وأن لا يقصدَ بها توصلاً إلى شئ سوى ذلك، وأن يتأدَّبَ مع القرآن ويستحضرَ في ذهنه أنه يناجي اللَّهَ سبحانه تعالى، ويتلو كتابه، فيقرأ على حالِ مَن يرى الله، فإنه إن لم يره فإن اللَّه تعالى يراه. [فصل] : وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظّفَ فَمَهُ بالسِّواك وغيره، والاختيار في السواك أن يكونَ بعود الأراك، ويجوز بغيره من العيدان، وبالسعد والأشنان، والخرقة الخشنة، وغير ذلك مما ينظف. وفي حصوله بالأصبع الخشنة ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي: أشهرُها عندهم: لا يحصل، والثاني: يحصل، والثالث: يحصل إن لم يجد غيرها، ولا يحصل إن وجد. ويستاك عرضاً مبتدئاً بالجانب الأيمن من فمه، وينوي به الإتيان بالسنة. قال بعض أصحابنا: يقول عند السواك: " اللهمَّ بارك لي فيه يا أرحم الراحمين " ويَستاك في ظاهر الأسنان وباطنها، ويمرّ السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه، وسقف حلقه إمراراً لطيفاً، ويستاك بعود متوسط، لا شديد اليبوسة،

_ = عِقاله، ثم أثبت له التفلت الذي هو من صفات المشبّه به أشده وأبلغه تحريضاً على مداومة تعهده وعدم التفريط في شئ من حقوقه، ولِمَ لا؟ وهو الكلام القديم المتكفّل لقارئه بكل مقام كريم، وما هو كذلك حقيق بدوام التعهّد وخيق بالستمرار التفقد. (1) قال الترمذي فيه: هذا حديث غريب اهـ. ولكن للحديث شواهد بالمعني يرتقي بها إلى درجة الحسن. (2) وإسناده ضعيف. (*)

ولا شديد اللين، فإن اشتدّ يبسه ليَّنه بالماء. أما إذا كان فمه نجساً بدم أو غيره، فإنه يكره له قراءة القرآن قبل غسله، وهل يحرم؟ فيه وجهان. أصحُّهما: لا يحرمُ، وسبقت المسألة أوّل الكتاب، وفي هذا الفصل بقايا تقدّم ذكرها في الفصول التي قدمتها في أول الكتاب. [فصل] : ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع، والتدبر، والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر. وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية واحدة ليلة كاملة أو معظم ليلة يتدبرها عند القراءة. وصعق جماعة منهم، ومات جماعات منهم. ويستحبّ البكاء والتباكي لمن لا يقدر على البكاء، فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين (1) وشعار عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قال الله تعالى: (وَيخِرُّونَ لِلأذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء: 109] وقد ذكرتُ آثاراً كثيرة وردت في ذلك في " التبيان في آداب حملة القرآن ". قال السيد الجليل صاحب الكرامات والمعارف، والمواهب واللطائف، إبراهيم الخوَّاص رضي الله عنه: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين. [فصل] : قراءة القرآن في المصحف أفضل من القراءة من حفظه (2) ، هكذا قاله أصحابنا، وهو مشهور عن السلف رضي الله عنهم، وهذا ليس على إطلاقه، بل إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكّر وجمع القلب والبصر أكثر مما يحصل من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا، فمن المصحف أفضل، وهذا مراد السلف. [فصل] : جاءت آثار بفضيلة رفع الصوت بالقراءة، وآثار بفضيلة الإِسرار. قال العلماء: والجمع بينهما أن الإِسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حقّ مَن يخاف ذلك،

_ (1) وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْرأ علي، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزول، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال: حسبك، أو قال: أمسك، فإذا عليناه تذرفان. (2) لأنها تجمع القراءة والنظر. (*)

فإن لم يَخَفِ الرياءَ، فالجهر أفضل، بشرط أن لا يؤذي غيره من مصلٍّ، أو نائم أو غيرهما. ودليل فضيلة الجَهْر، أن العمل فيه أكبر، لأنه يتعدى نفعه إلى غيره، ولأنه يُوقظ قلب القارئ، ويجمع همَّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ولأنه يطردُ النومَ ويزيد في النشاط، ويُوقظ غيره من نائم وغافل، ويُنشِّطه، فمتى حضره شئ من هذه النيّات فالجهرُ أفضل. [فصل] : ويستحبّ تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها (1) ما لم يخرج عن حدّ القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفى حرفاً، هو حرام (2) . وأما القراءة بالألحان، فهي على ما ذكرناه إن أفرط، فحرام، وإلا فلا، والأحاديث بما ذكرناه في تحسين الصوت كثيرة مشهورة في الصحيح وغيره ; وقد ذكرتُ في آداب القُرَّاءِ قطعة منها. [فصل] : ويستحب للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة أن يبتدئ من أوّل الكلام المرتبط بعضه بعض، وكذلك إذا وقفَ يقفَ على المرتبط وعند انتهاء الكلام، ولا يتقيّدُ في الابتداء ولا في الوقف بالأجزاء والأحزاب والأعشار، فإن كثيراً منها في وسط الكلام المرتبط، ولا يغترُّ الإِنسانُ بكثرة الفاعلين لهذا الذي نهينا عنه ممّن لا يُراعِي هذه الآداب، وامتثِلْ ما قاله السيد الجليل أبو علي الفُضَيْل بن عِياض رحمه الله عنه: لا تستوحشْ طرقَ الهدى لقلّة أهلها، ولا تغترّ بكثرة السالكين الهاكين، ولهذا المعنى قال العلماء: قراءة سورة بكمالها أفضل من قراءة قدرها من سورة طويلة، لأنه قد يخفى الارتباط على كثير من الناس أو أكثرهم في بعض الأحوال والمواطن. [فصل] : ومن البدع المنكرة ما يفعلُه كثيرون من جهلة المصلّين بالناس التراويح من

_ (1) في الإِحياء: يستحبّ تزيين القراءة بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط يغيّر اليظم. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال المصنف " في التبيان ": قال أقضى القضاة الماورديّ في كتابه " الحاوي ": القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صفته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه، أو قصر ممدود، أو مَدِّ مقصور، أو تمطيط يخفى به اللفظ فيلتبس به المعنى، فهو حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع، وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقرأ به على ترتيله كان مُباحاً، لأنه زاد بألحانه في تحسينه. اهـ. قال الشافعي في مختصر المزني: ويحسن صوته بأي وجه كان، وأحب ما يقرأ حدرا وتحزينا. قال أهل اللغة: يقال: حدرت القراءة: إذا درجتها ولم تمططها، ويقال: فلان يقرأ بالتحزين: إذا أرق صوته اهـ. (*)

قراءة سورة (الأنعام) بكمالها في الركعة الأخيرة منها في الليلة السابعة، معتقدين أنها مستحبة، زاعمين أنها نزلت جملة واحدة، فيجمعون في فعلهم هذا أنواعاً من المنكرات، منها: اعتقاد أنها مستحبة، ومنها: إيهام العوّام ذلك، ومنها: تطويل الركعة الثانية على الأولى، ومنها: التطويل على المأمومين، ومنها: هذرمة القراءة، ومنها: المبالغة في تخفيف الركعات قبلها. [فصل] : 317 - يجوز أن يقولَ: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة العنكبوت، وكذلك الباقي، ولا كراهةَ في ذلك، وقال بعض السلف: يُكره ذلك، وإنما يُقال: السورة التي تُذكر فيها البقرة، والتي يُذكر فيها النساء، وكذلك الباقي، والصواب الأوّل، وهو قولُ جماهير علماء المسلمين من سلف الأمة وخلفها، والأحاديثُ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، وكذلك عن الصحابة فمن بعدهم، وكذلك لا يُكره أن يُقال: هذه قراءة أبي عمرو، وقراءةُ ابن كثير وغيرهما، هذا هو المذهب الصحيحُ المختارُ الذي عليه عمل السلف والخلف من غير إنكار، وجاء عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يكرهون [أن يقال:] سنّة فلان، وقراءة فلان، والصوابُ: ما قدّمناه. [فصل] : يُكره أن يقول: نسيتُ آية كذا، أو سورة كذا، بل يقول: أُنسيتها أو أسقطتها. 318 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَقُولُ أحَدُكُمْ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، بَلْ هُوَ نُسِّيَ ". وفي رواية في الصحيحين أيضاً: " بِئْسمَا لأحَدِهِمْ أنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وكيت بَلْ هُوَ نُسِّيَ ". 319 - وروينا في " صحيحيهما " عن عائشة رضي الله عنها، " أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ، فقال: " رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أسْقَطْتُهَا ". وفي رواية في الصحيح: " كُنْتُ أنسيتها " (1) .

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: وأما ما رواه ابن أبي داود عن أبي عبد الرحمن ابن السلمي التابعي الجليل، أنه لا يقال: أسقطت آية كذا بل أغفلت. فخلاف ما ثبت في الحديث الصحيح، فالاعتماد على الحديث، وهو جواز " اسقطت ". (*)

[فصل] : اعلم أن آداب القارئ والقراءة لا يمكن استقصاؤها في أقلّ من مجلدات، ولكنا أردنا الإِشارة إلى بعض مقاصدها المهمات بما ذكرناه من هذه الفصول المختصرات، وقد تقدم في الفصول السابقة في أول الكتاب شئ من آداب الذاكر والقارئ، وتقدم أيضاً في أذكار الصلاة جمل من الآداب المتعلقة بالقراءة، وقد قدّمنا الحوالة على كتاب " التبيان في آداب حملة القرآن " لمن أراد مزيداً، وبالله التوفيق، وهو حسبي ونِعمَ الوكيل. [فصل] : اعلم أن قراءة القرآن آكد الأذكار كما قدّمنا، فينبغي المداومة عليها، فلا يُخلي عنها يوماً وليلة، ويحصل له أصلُ القراءة بقراءة الآيات القليلة. 320 - وقد روينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرأ في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ آيَةً لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ، وَمَنْ قرأ مائة آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القانِتِينَ، وَمَنْ قَرأ مائتي آيَةٍ لَمْ يُحاجهِ القُرآنُ يَوْمَ القِيامَةِ، وَمَنْ قرأ خمسمائة كُتِبَ لَهُ قِنْطارٌ مِنَ الأجْرِ " وفي رواية (1) : " مَنْ قَرأ أَرْبَعِينَ آيَةً " بدل " خمسين " وفي رواية " عِشْرِينَ " وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرأ عَشْرَ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ " (2) وجاء في الباب أحاديث كثيرة بنحو هذا. وروينا أحاديث كثيرة في قراءة سور في اليوم والليلة، منها: يس، وتبارك الملك، والواقعة، والدّخان. 321 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرأ (يس) فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ غُفِرَ لَهُ " (3) . 322 - وفي رواية له: " مَنْ قَرأ سُورَةَ (الدُّخانِ) فِي لَيْلَةٍ أصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ " (4) .

_ (1) أي لابن السني كما في شرح الأذكار. (2) والحديث حسن في الجملة لشواهده. (3) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " من حديث أبي هريرة، وعزاه المنذري في " الترغيب والترهيب " لمالك وابن السني وابن حبّان في صحيحه من حديث جندب، وعزاه صاحب المشكاه للبيهقي في شعب الإِيمان من حديث معقل بن يسار، ورواه الطبراني في الدعاء، والدارمي في سننه من حديث أبي هريرة، وللحديث طرق ينهض بها. (4) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " والنرمذي في سننه عن أبي هيرة رضي الله عنه مقيدا بليلة الجمعة، ورواه الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: مَنْ قَرأ حَم الدُّخانِ فِي لَيْلَةٍ أصبح يستغفر له سعبون ألف ملك، ورواه الطبراني عن أبي أمامة بلفظ: " مَنْ قَرأ حَم الدُّخانِ فِي لَيْلَةٍ جمعة أو يوم جمعة بنى الله لَهُ بَيْتاً في الجنة " وأسانيده ضعيفة. (*)

كتاب حمد الله تعالى

323 - وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ قَرأ سُورَةَ (الوَاقِعَةِ) فِي كُلّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فاقَة " (1) . 324 - وعن جابر رضي الله عنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام كل ليلة حتى يقرأ (آلم تنزيل) الكتاب، و ((تبارك) الملك " (2) . 325 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرَأ فِي لَيْلَة (إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ) كانَتْ لَهُ كَعِدْلِ نِصْفِ القُرآن، وَمَنْ قَرأ (يا أيُّها الكافِرُونَ) كَانَتْ لَهُ كَعِدْل رُبْعِ القُرآنِ، وَمَنْ قَرأ قُلْ (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كانَتْ لَهُ كَعِدْلِ ثُلُثِ القُرآن " (3) . 326 - وفي رواية: " مَنْ قَرأ آيَةَ الكُرْسِيّ، وأوَّل (حم) عُصِمَ ذلكَ اليَوْمَ مِنْ كُلّ سُوءٍ " (4) . والأحاديث بنحو ما ذكرنا كثيرة، وقد أشرنا إلى المقاصد، والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة. كتاب حَمْدِ اللَّهِ تعالى قال الله تعالى: (قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ على عبادِهِ الَّذينَ اصْطَفى) [النمل: 59] وقال الله تعالى: (وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) [النمل: 93] وقال تعالى: (وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإِسراء: 111] وقال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7] وقال تعالى: (فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرونِ) [البقرة: 152] والآيات المصرّحة بالأمر بالحمد والشكر وبفضلهما كثيرة معروفة. 327 - وروينا في " سنن أبي داود "، " وابن ماجه "، و " مسند أبي عوانة الإسفراييني " المخرَّج على " صحيح مسلم " رحمهم الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كُلُّ أمْر ذِي بالٍ لا يُبْدأُ فِيه بالحَمْد لِلَّهِ فَهُوَ أقطع ".

_ (1) رواه ابن السني والبيهقي في شعب الإيما وأبو يعلى وغيرهم وأسانيده ضعفة. (2) رواه ابن السني، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وإسناده ضعيف. (3) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " عن أُبيّ هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف، ورواه بنحو الترمذي والحاكم والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي سنده يمان بن المغيرة وهو ضعيف. (4) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " عن أُبيّ هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف. (*)

وفي رواية: " بَحَمْدِ اللَّهِ ". وفي رواية: " بالحَمْدِ فَهُوَ أقْطَعُ ". وفي رواية: " كُل كلام لا يُبْدأُ فِيهِ بالحَمْد لِلَّهِ فَهُوَ أجْذَمُ ". وفي رواية: " كُلُّ أمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبْدأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) فَهوَ أقْطَعُ ". روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب " الأربعين " للحافظ عبد القادر الرهاوي، وهو حديث حسن، وقد رُوي موصولاً كما ذكرنا، ورُوي مرسلاً، ورواية الموصول جيدة الإِسناد، وإذا روي الحديث موصولاً ومرسلاً، فالحكم للاتصال عند جمهور العلماء، لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير، ومعى " ذي بال ": أي: له حال يهتمّ به، ومعنى أقطع: أي ناقص قليل البركة، وأجذم: بمعناه، وهو بالذال المعجمة وبالجيم. قال العلماء: فيُستحبّ البداءة بالحمد للَّه لكل مصنف، ودارس، ومدرِّس، وخطيب، وخاطب، وبين يدي سائر الأمور المهمة. قال الشافعي رحمه الله: أحبّ أن يقدّم المرء بين يدي خطبته وكل أمر طلبه: حمد الله تعالى، والثناء عليه سبحانه وتعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. [فصل] : اعلم أن الحمدَ مستحبٌّ في ابتداء كل أمر ذي بال كما سبق، كما يستحب بعد الفراغ من الطعام والشراب، والعطاس، وعند خطبة المرأة - وهو طلب زواجها - وكذا عند عَقْدِ النِّكَاح، وبعد الخروج من الخلاء، وسيأتي بيان هذه المواضع في أبوابها بدلائلها، وتفريع مسائلها إن شاء الله تعالى، وقد سبق بيان ما يُقال بعد الخروج من الخلاء في بابه، ويُستحبّ في ابتداء الكتب المصنفة كما سبق، وكذا في ابتداء دروس المدرّسين، وقراءة الطالبين، سواء قرأ حديثاً أو فقهاً أو غيرهما، وأحسنُ العبارات في ذلك: الحمد لله رب العالمين. [فصل] : حمدُ الله تعالى ركن في خطبة الجمعة وغيرها، لا يصحّ شئ منها إلا به، وأقل الواجب: الحمد لله، والأفضل أن يزيد من الثناء، وتفصيلُه معروف في كتب الفقه. ويشترط كونها بالعربية. [فصل] : يُستحبّ أن يختم دعاءه بالحمد لله ربّ العالمين، وكذلك يبتدئه بالحمد لله، قال الله تعالى: (وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلَّه رَبّ العالَمِينَ) [يونس: 10] وأما

_ (1) كلمة العظيم الموجودة بين المعكوفين، يا قطة من النسخة هذا، وهي موجودة عند الترمذي وغيره. (*)

ابتداء الدعاء بحمد الله وتمجيده، فسيأتي دليلُه من الحديث الصحيح قريباً في " كتاب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن شاء الله تعالى. [فصل] : يُستحبّ حمدُ الله تعالى عند حصول نعمة، أو اندفاع مكروه، سواء حصل ذلك لنفسه، أو لصاحبه، أو للمسلمين. 328 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتيَ ليلة أُسري به بقدحين من خمر ولبن (1) فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريلُ صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك ". 329 -[فصل] : وروينا في كتاب الترمذي وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العَبْدِ قالَ اللَّهُ تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم؟ فيقول: فماذا قالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى: ابْنُوا لعبدي بَيْتاً في الجَنَّةِ، وسموه بَيْتَ الحَمْدِ " قال الترمذي: حديث حسن. والأحاديث في فضل الحمد كثيرة مشهورة، وقد سبق في أوّل الكتاب جملة من الأحاديث الصحيحة في فضل: سبحان الله والحمد لله ونحو ذلك. [فصل] : قال المتأخرون من أصحابنا الخراسانيين: لو حلف إنسان ليحمدنّ الله تعالى بمجامع الحمد - ومنهم مَن قال: بأجلّ التحاميد - فطريقه في برَ يمينه أن يقول: الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ومعنى يوافي نعمه: أي يُلاقيها فتحصل معه، ويكافئ، بهمزة في آخره: أي يُساوي مزيدَ نعمه، ومعناه: يقوم بشكر ما زاده من النِعم والإِحسان. قالوا: ولو حلف ليثنينّ على الله تعالى أحسنَ الثناء، فطريق البرّ أن

_ (1) في صحيح مسلم أن ذلك بإيلياء. قال المصنف في " شرح مسلم ": وهو بالمد والقصر، ويقال بحذف الياء الأولى، ثم في هذه الرواية محذوف تقديره: أتي بقدحين، فقيل له: اختر أيهما شئت كما جاء مصرحا به. وقد ذكره مسلم في كتابه " الإيمان " أول الكتاب، فألهمه الله تعالى اختيار اللبن لما أراد سُبْحَانَهُ وَتَعالى مِن توفيق أمته واللطف بها، فلله الحمد والمنة. قول جبريل إن اللبن كان كذا، أو اختار الخمر كان كذا. وأما الفطرة فالمراد بها هنا: الإسلام والإستقامة كذا في كتاب الأشربة، وفي باب الإسراء منه معناه، والله أعلم: اخترت علامة الإسلام الاستقامة، وجعل اللبن علامة لكونه سهيلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين. وأما الخمر فإنه أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر في الحال والمال، والله أعلم. (*)

كتاب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: لا أحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك. وزاد بعضُهم في آخره: فلك الحمد حتى ترضى. وصوّر أبو سعد المتولي المسألة فيمن حلف: ليثنينّ على الله تعالى بأجلّ الثناء وأعظمه، وزاد في أوّل الذكر: سبحانك. وعن أبي نصر التمار عن محمد بن النضر رحمه الله تعالى قال: قال آدمُ صلى الله عليه وسلم: يا رَبّ شَغَلْتَنِي بِكَسْبِ يَدِي، فَعَلِّمْنِي شَيْئاً فِيهِ مَجَامِعُ الحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فأوحى اللَّهُ تبارك وتعالى إليه: يا آدَمُ إذَا أصْبَحْتَ فَقُلْ ثَلاثاً، وَإذَا أمْسَيْتَ فَقُلْ ثَلاثاً: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ حَمْداً يوافي نعمه ويكافئ مَزيدَهُ، فَذَلِكَ مَجَامِعُ الحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ والله أعلم. كتاب الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبيّ يا أيُّها الَّذين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56] والأحاديث في فضلها والأمر بها أكثر من أن تُحصر، ولكن نشيرُ إلى أحرفٍ من ذلك تنبيهاً على ما سواها وتبرّكاً للكتاب بذكرها. 330 - روينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ". 331 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أوْلى النَّاسِ بي يَوْمَ القِيامَةَ أَكْثَرُهُمْ عَليَّ صَلاةً " (1) قال الترمذي: حديث حسن. قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن ربيعة،

_ (1) والحديث رواه أيضا ابن حبّان في صحيحه رقم (3389) موارد. قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال السيوطي: قال ابن حبان: " أولى الناس بي " أي: أقربهم مني في القيامة، قال: فيه بيان أن أولادهم به صلى الله عليه وسلم أهل الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم، وقال الخطيب البغدادي: قال لنا أبو نعيم: هذه منقة شريفة يختص بها رواه الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا، وكذا قال غيره: في ذلك بشارة عظيمة لهم، لأنهم يصلون عليه صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا نهارا وليلا وعند القراءة والصلاة، فهم أكثر الناس صلاة، فأخرج الحافظ عن سفيان الثوري: لو لم يكتب لصاحب الحديث عائدة إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصلي عليه مادام في الكتاب. (*)

باب أمر من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه والتسليم، صلى الله عليه وسلم

وعمّار، وأبي طلحة، وأنس، وأُبيّ بن كعب، رضي الله عنهم (1) . 332 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة (2) عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أفْضَلِ أيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فأكْثِرُا عَليَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فإنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَليَّ، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرَمْتَ؟ قال: يقول بليت، إنَّ الله حَرَّمَ على الأرض أجْسادَ الأنْبِياءِ " (3) . قلت: أرَمْتَ بفتح الراء وإسكان الميم وفتح التاء المخففة. قال الخطابي: أصله: أرممت، فحذفوا إحدى الميمين، وهي لغة لبعض العرب، كما قالوا: ظلت أفعل كذا: أي ظللت، في نظائر لذلك. وقال غيره: إنما هو أرَمَّتْ بفتح الراء والميم المشددة وإسكان التاء: أي م: أرمَّت العظام، وقيل: فيه أقوال أُخَر، والله أعلم (4) . 333 - وروينا في " سنن أبي داود " في آخر كتاب الحجّ في باب زيارة القبور بالإِسناد الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً وَصَلُّوا عليَّ، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ " (5) . 334 - وروينا فيه أيضاً بإسناد صحيح (6) ، عن أبي هريرة أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَا مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ". (بابُ أمرِ مَنْ ذُكِرَ عندَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة عليه والتسليم، صلى الله عليه وسلم) 335 - روينا في كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ " قال الترمذي: حديث حسن.

_ (1) قول الترمذي: وفي باب ... الخ، قاله عقب حديث أبي هريرة " مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عشرا " بعد حديث ابن مسعود. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": نظر فيه الحافظ بأنه يوهم أن للحديث في السنن الثلاثة طرقا إلى أوس، وليس كذلك كما عرفت، إذ مداره عندهم وعند غيرهم على الجعفي تفرد به عن شيخة، وكذا من نعرفه، وكأن الشيخ - يعني النووي - قصد بالأسانيد شيوخهم خاصة. (3) وهو حديث صحيح. (4) وحكى فيه ابن دحية فتح الهمزة وكسرا الراء. (5) قال الحافظ في " تخريج الأذكار ": حديث حسن. (6) قال الحافظ في " تخريج الأذكار ": وسنده حسن. (*)

باب صفة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

363 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد جيد، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَليَّ، فإنَّهُ مَنْ صَلَّى عَليَّ مَرَّةً، صَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَشْراً) (1) . 337 - وروينا فيه بإسناد ضعيف عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ فَقَدْ شَقِيَ " (2) . 338 - وروينا في كتاب الترمذي، عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ "، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ورويناه في كتاب النسائي من رواية الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أبو عيسى الترمذي عند هذا الحديث: يروى عن بعض أهل العلم قال: إذا صلى الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مرّة في المجلس أجزأ عنه ما كَانَ في ذلك المجلس. (بابُ صفةِ الصَّلاة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم) قد قدّمنا في كتاب أذكار الصلاة صفة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتعلَّقُ بها، وبيان أكملها وأقلها. وأمَّا ما قاله بعضُ أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك وهي: " وَارْحَمْ مُحَمَّداً وآلَ مُحَمَّدٍ " فهذا بدعة لا أصل لها. وقد بالغ الإِمام أبو بكر العربي المالكي في كتابه " شرح الترمذي " في إنكار ذلك وتخطئة ابن أبي زيد في ذلك وتجهيل فاعله، قال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّمنا كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فالزيادة على ذلك استقصار لقوله، واستدراك عليه صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.

_ (1) رواه ابن السني صحفة (123) ، باب ما يقول إذا ذُكِرَ عندَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق السبيعي عن أنس رضي الله عنه، قال ابن علان في شرح الأذكار: قال الحافظ: أخرجه النسائي آخر فضائل القرآن، وكأن المصنف - يعني النووي - خفي عليه ذلك لكونه ذكره في غير مظنته، فنقله من جهة ابن السني، ووصف السند بالجودة، كأنه بالنظر إلى رجاله بأنهم موثقون، لكن في السند انقطاع - يعني بين أبي إسحاق السبيعي وأنس بن مالك رضي الله عنه - اه. أقول: للحديث شواهد بمعناه يقوى بها. (2) رواه السني في " عمل اليوم والليلة " وفي إسناده الفضل بن المنتشر، وهو ضعيف. قال الحافظ: وللحديث طريق أخرى أخرجها الطبراني مختصرة من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي جبريل: مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فلم يصل عليك فقد شقي. اه. وقد جاء الحديث من طرق بلفظ: مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ خطئ طريق الجنة. وهو حديث حسن بطرقه. (*)

باب استفتاح الدعاء بالحمد لله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

[فصل] : إذا صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمعْ بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصرْ على أحدهما. فلا يقل: " صلّى الله عليه " فقط، ولا " عليه السلام " فقط. [فصل] : يستحب لقارئ الحديث وغيره ممّن في معناهُ إذا ذكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرفَعَ صوته بالصلاة عليه والتسليم، ولا يبالغ في الرفع مبالغة فاحشة. وممّن نصّ على رفع الصوت: الإِمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وآخرون، وقد نقلتُه من علوم الحديث. وقد نصَّ العلماء من أصحابنا وغيرهم أنه يُستحبّ أن يرفع صوته بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي: في التلبية، والله أعلم. (بابُ استفتاحِ الدُّعاء بالحمدِ لله تعالى والصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) 339 - روينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، عن فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه قال: سمع رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّدِ الله تعالى، ولم يصلّ على النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " عَجِلَ هَذَا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: " إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فليبدأ بتمحيد رَبِّهِ سُبْحانَهُ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو (1) بَعْدُ بِمَا شاءَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 340 - وروينا في كتاب الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شئ حتى تُصلِّيَ على نبيّك صلى الله عليه وسلم (2) . قلت: أجمع العلماءُ على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة معروفة.

_ (؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ في الترمذي: ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع. (2) هو موقوف على عمر رضي الله عنه، وفي سنده أبو قرة الأسدي، وهو مجهول، ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث عمر بن بن مساور، قال: حدثني شيخ من أهلي قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: مَا مِنْ دعوة لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبلها إلا كانت معلقة بين السماء والأرض، وإسناده ضعيف، ورواه البيهقي مرفوعا بلفظ: الدعاء محجوب عن الله يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وآل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حديث غريب في سنده ضعيفان. (*)

باب الصلاة على الأنبياء وآلهم تبعا لهم صلى الله عليه وسلم

(بابُ الصَّلاة على الأنبياءِ وآلهم تبعاً لهم صلى الله عليه وسلم) أجمعوا على الصلاة على نبيّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم، وكذلك أجمع من يُعتدّ به على جوازها واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالاً. وأما غيرُ الأنبياء، فالجمهور على أنه لا يُصلّى عليهم ابتداء، فلا يقال: أبو بكر صلى الله عليه وسلم. واختُلف في هذا المنع، فقال بعض أصحابنا: هو حرام، وقال أكثرهم: مكروه كراهة تنزيه، وذهب كثير منهم إلى أنه خلاف الأوْلَى وليس مكروهاً، والصحيحُ الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نُهينا عن شعارهم. والمكروه هو ما ورد فيه نهيٌ مقصود (1) . قال أصحابنا: والمعتمدُ في ذلك أن الصَّلاةَ صارتْ مخصوصةً في لسان السلف بالأنبياء صلواتُ الله وسلامُه عليهم، كما أن قولنا: عزَّ وجلَّ، مخصوصٌ بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يُقال: محمد عزَّ وجلَّ - وإن كان عزيزاً جليلاً - لا يُقال: أبو بكر أو عليّ صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحاً. واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعاً لهم في الصلاة، فيُقال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، وأصحابه، وأزواجه وذرِّيته، وأتباعه، للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أُمرنا به في التشهد، ولم يزل السلفُ عليه خارج الصلاة أيضاً. وأما السلام، فقال الشيخ أبو محمد الجوينيُّ من أصحابنا: هو في معنى الصلاة، فلا يُستعمل في الغائب، فلا يفرد به غير الأنبياء، فلا يُقال: عليّ عليه السلام، وسواء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر، فيُخاطب به فيقال: سلام عليكَ، أو: سلام عليكم، أو: السَّلام عليكَ، أو: عليكم، وهذا مجمع عليه، وسيأتي إيضاحه في أبوابه إن شاء الله تعالى. [فصل] : يُستحبّ الترضّي والترحّم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعبَّاد وسائر الأخيار، فيقال: رضي الله عنه، أو رحمه الله، ونحو ذلك، وأما ما قاله بعضُ العلماء: إن قوله: رضي الله عنه مخصوص بالصحابة، ويُقال في غيرهم: رحمه الله فقط، فليس كما قال، ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه،

_ (1) قال الحافظ في الفتح: وقال ابن القيم: المختار أن يصلِّي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارل، ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه، فلو اتفق وقوع ذلك مفردافي بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن ئبه بأس. ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم، وهم من أدى زكاته إلا نادرا، كما في قصة زوجة حابر وآل بن عبادة. (*)

كتاب الأذكار والدعوات للأمور العارضات

ودلائله أكثر من أن تُحصر. فإن كان المذكور صحابياً ابن صحابي قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما، وكذا ابن عباس، وابن الزبير، وابن جعفر، وأُسامة بن زيد ونحوهم لتشمله وأباه جميعاً. [فصل] : فإن قيل: إذا ذكر لقمان ومريم، هل يُصلّي عليهما كالأنبياء، أم يترضّى كالصحابة والأولياء، أم يقول عليهما السلام؟ فالجواب: أن الجماهير من العلماء على أنهما ليسا نبيين، وقد شذّ من قال: نبيّان، ولا التفات إليه، ولا تعريج عليه، وقد أوضحتُ ذلك في كتاب " تهذيب الأسماء واللغات " فإذا عُرف ذلك، فقد قال بعضُ العلماء كلاماً يُفهم منه أنه يقول: قال لقمان أو مريم صلَّى الله على الأنبياء وعليه أو وعليهما وسلم، قال: لأنهما يرتفعان عن حال من يُقال: رضي الله عنه، لما في القرآن مما يرفعهما، والذي أراه أن هذا لا بأس به، وأن الأرجح أن يقال: رضي الله عنه، أو عنها، لأن هذا مرتبة غير الأنبياء، ولم يثبتْ كونهما نبيّين. وقد نقل إمام الحرمين إجماع العلماءُ على أن مريم ليست نبيّة - ذكره في " الإِرشاد " - ولو قال: عليه السلام، أو: عليها، فالظاهر أنه لا بأس به، والله أعلم. كتاب الأذكار والدّعوات للأمور العارضات اعلم أنَّ ما ذكرته في الأبواب السابقة يتكرّرُ في كل يوم وليلة على حسب ما تقدَّم وتبين. وأما ما أذكرهُ الآن، فهي أذكارٌ ودعوات تكون في أوقات لأسباب عارضات، فلهذا لا ألتزم فيها ترتيب. (بابُ دُعاءِ الاسْتِخَارة) 341 - روينا في " صحيح البخاري " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كالسورة من القرآن، يقول: " إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أعْلَمُ، وأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لي فِي دِيني وَمَعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقْدُرْهُ (1) لِي وَيَسِّرْهُ لي، ثُم بارِكْ

_ (1) هو بوصل الهمزة وضم الدال: أي اقض لي به وهيئه. (*)

لي فِيهِ، وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي - أو قال: عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فاصْرِفْهُ عني [واصرفني عنه] وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ (1) حَيْثُ كانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قال: ويُسمِّي حاجَتَهُ " قال العلماء: تستحبّ الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد وغيرها من النوافل، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية: (قل هو الله أحد) (2) ، ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. ويستحبّ افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الاستخارة مستحبّة في جميع الأمور كما صرَّح به نصُّ هذا الحديث الصحيح، وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرحُ له صدره. والله أعلم. 342 - وروينا في كتاب الترمذي بإسناد ضعيف، ضعَّفه الترمذي وغيره، عن أبي بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الأمر قال: " اللَّهُمَّ خِرْ لي وَاخْتَرْ لي ". 343 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنَسُ، إذَا هَمَمْتَ بِأمْرٍ فاسْتَخِرْ رَبَّكَ فيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إلى الَّذي سَبَقَ إلى قَلْبِكَ، فإنَّ الخَيْرَ فِيهِ ". إسناده غريب، فيه مَنْ لا أعرفهم (3) .

_ (1) أي ما فيه الثوب والرضي منك على فاعله. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ الزين العراقي: لم أجد في شئ من طرق الحديث تعيين ما يقرأ في ركعتي الاستخارة، لكن ما ذكره النووي مناسب لأنهما سورتا صلاة المراد منها إخلاص الرغبة وصدق وإطهار العجز. (3) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: لكن قال شيخنا - يعني الحافظ الزين العراقي - في شرح الترمذي متعقبا على قول النووي: هم معروفون، لكن فيهم راو معروف بالضعف الشديد، وهو إبراهيم بن البراء، فقد ذكره العقيلي في الضعفاء وابن حبان وغيرهما، وقالوا: أنه كان يحدّث بالأباطيل عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يحل إلا على سبيل القدح فيه، قال شيخنا: فعلى هذا فالحديث ساقط، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا دعا دعا ثلاثاً. قلت (ابن حجر) : أخرجه البخاري من حديث أنس، قال شيخنا: وما ذكره قبل أن يمضي لما ينشرحُ له صدره كأنه اعتمد فيه على هذا الحديث وليس بعمدة، وقد أفتى ابن عبد السلام بخلافة، فلا تتقيد ببعد الاسبخارة، بل مهما فعله فالخير فيه، ويؤيده ما وقع في آخر حديث ابن مسعود في بعض طرقه: ثم يعزم. قلت (ابن حجر) : قد بينتها فيما تقدم، وأن راويها ضعيف، لكنه أصلح حالا من رواي هذا الحديث. اهـ. (*)

باب دعاء الكرب والدعاء عند الأمور المهمة

أبواب الأذكار التي تُقال في أوقات الشِّدَّة وعلى العَاهات (بابُ دعاءِ الكَرْبِ والدعاءُ عندَ الأمورِ المهمّة) 344 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: " لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رَبّ العَرْشِ العظيم، لا إله إلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ ". وفي رواية لمسلم: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمر قال ذلك " قوله " حزبه أمر " أي نزل به أمر مهم، أو أصابه غمّ. 345 - وروينا في كتاب الترمذي، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا كربه أمر قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ " قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد. 346 - وروينا فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمّه الأمر رفع رأسَه إلى السماء فقال: سُبْحانَ الله العَظِيمِ، وإذا اجتهد في الدعاء قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ ". 347 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثرُ دعاءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً، وفي الآخرة حسنة، وقنا عَذَابَ النَّارِ " زاد مسلم في روايته قال: وكان أنس إذا أرادَ أن يدعوَ بدعوة دعا بها، فإذا أرادَ أن يدعوَ بدعاء دعا بها فيه. 348 - وروينا في سنن النسائي، وكتاب ابن السني، عن عبد الله بن جعفر، عن عليّ رضي الله عنهم قال: لَقَّنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات، وأمرني إن نزل بي كرب أو شدّة أن أقولها: " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الكَرِيمُ العَظِيمُ، سُبْحانَهُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَرْش العَظِيمِ، الحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ ". (1) وكان عبد الله بن جعفر يلقنها وينفث بها على الموعوك، ويعلِّمها المغتربة من بناته. قلت: الموعوك: المحموم، وقيل: هو الذي أصابه مغث الحمى. والمغتربة من النساء: التي تُزوَّج إلى غير أقاربها.

_ (1) قال الحافظ: كان الأنسب أن يذكر - يعني المصنف - حديث علي عقب حديث ابن عباس الذي في أول الباب لأنه يلائمة. (*)

باب ما يقوله إذا راعه شئ أو فزع

349 - وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " دَعَوَاتُ المَكْرُوب: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو فَلا تَكِلْنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لي شَأنِي كُلَّهُ، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ ". 350 - وروينا في سنن أبي داود، وابن ماجه، عن أسماء بنت عُمَيْس رضي الله عنها، قالت: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ألا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ تَقُولِيْنَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ - أو في الكرب - اللَّهُ اللَّهُ رَبي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ". 351 - وروينا في كتاب ابن السني، عن قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرأ آيَةَ الكُرْسِيّ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ الكَرْبِ، أغاثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " (1) . 352 - وروينا فيه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِني لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إِلاَّ فُرِّجَ عَنْهُ: كَلِمَةَ أخي يُونُسَ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، (فنَادَى فِي الظُّلُماتِ: أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] "، ورواه الترمذي عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إذْ دَعا رَبَّهُ وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ: لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِها رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شئ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجابَ له ". (باب ما يقوله إذا راعه شئ أو فَزِعَ) 353 - وروينا في كتاب ابن السني، عن ثوبانَ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا راعَه شئ قال: " هُوَ اللَّهُ، اللَّهُ رَبِّي لا شَرِيكَ لَهُ ". 354 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: أعوذ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ من غضبه وشر عباده، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وأنْ يَحْضُرُونِ "، وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فعلقه عليه (1) . قال الترمذي حديث حسن.

_ (1) وإسناده ضعيف. (2) تقدم التعليق عليه في الصفحة (82) . (*)

باب ما يقول إذا أصابه هم أو حزن

(بابُ ما يَقُولُ إذا أصابَه همٌّ أو حَزَن) 355 - روينا في كتاب ابن السني، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أصَابَهُ هَمٌّ أوْ حَزَنٌ فَلْيَدْعُ بِهَذِهِ الكَلِماتِ، يقول: اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، فِي قَبْضَتِكَ، ناصِيَتِي بِيَدِكَ، ماضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أسألُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أوْ أنْزَلْتَهُ فِي كِتابِكَ، أوْ عَلَّمْتَه أحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أوِ اسْتَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أنْ تَجْعَلَ القُرآنَ نُورَ صَدْرِي، وَرَبِيعَ قَلْبِي، وَجلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمّي، فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن المغبونَ لمن غُبن في هؤلاء الكلمات، فقال: " أجَلْ فَقُولُوهُنَّ وَعَلِّمُوهُنَّ، فإنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ الْتِماسَ ما فِيهِنَّ أذْهَبَ اللَّهُ تَعالى حُزْنَهُ، وأطالَ فَرَحَهُ " (1) . (بابُ ما يَقولُه إذا وقعَ في هَلَكَة) 356 - روينا في كتاب ابن السني عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عَلِيُّ ألا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ إِذَا وَقَعْتَ فِي وَرْطَةٍ قُلْتَها؟ " قلتُ: بلى، جعلني الله فداك، قال: " إذَا وَقَعْتَ فِي وَرْطَةٍ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظِيمِ. فإنَّ اللَّهَ تَعالى يَصْرِفُ بها ما شاءَ مِنْ أنْوَاعِ البَلاءِ " (2) . قلت: الوَرْطَة بفتح الواو وإسكان الراء: وهي الهلاك. (بابُ ما يَقولُ إذا خافَ قوماً) 357 - روينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود، والنسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: " اللَّهُمَّ إنا نجعلك في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شرورهم ".

_ (1) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة "، بابُ ما يَقُولُ إذا أصابَه همٌّ أو حزن رقم (334) وقال الحافظ بعد تخريجه: حديث غريب، وقد ذكر ابن السني عقب حديث أبي موسى المذكور هنا عن عبد الله بن مسعود نحوه، وحديث ابن مسعود أثبت سنداً وأشهر رجالاً، وهو حديث حسن، وقد صححه بعض الأئمة. قال الحافظ في تخريج الأذكار: فعجبت من عدول الشيخ - يعني النووي - عن القوي إلى الضعيف. أقول: وحديث ابن مسعود رواه أحمد في المسند رقم (3712) وابن حبّان في صحيحه رقم (2373) موارد والحاكم وصصحه في مجمع الزوائد 10 / 136 ونسبه لأحمد وأبي على والتراز. (2) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (331) بابُ ما يقول إذا وقعَ في ورطة، وإسناده ضعيف. وقال الحافظ بعد تخريجه من طريق الطبراني في كتاب الدعاء: هذا حديث غريب. (*)

باب ما يقول إذا خاف سلطانا

(بابُ ما يَقولُ إذا خافَ سُلْطاناً) 358 - روينا في كتاب ابن السني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا خِفْتَ سُلْطاناً أوْ غَيْرَهُ فَقُلْ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَريمُ، سُبْحان اللَّهِ رَبّ السَّمَوَاتِ السَّبْع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنْتَ، عَزَّ جارُكَ، وَجَلَّ ثَناؤُكَ ". ويستحبُّ أن يقول ما قدَّمناه في الباب السابق من حديث أبي موسى. (بابُ ما يَقولُ إذا نظرَ إلى عدوّه) 359 - روينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلقي العدو، فسمعته يقول: " يا مالك يوم الدين إيَّاك أعْبُدُ وإيَّاكَ أسْتَعِينُ " فلقد رأيتُ الرجالَ تصرع، تضربها الملائكة من بين أيديها ومن خلفها (1) . ويُستحبُّ ما قدَّمناه في الباب السابق من حديث أبي موسى. (باب ما يقول إذا عرضَ له شيطانٌ أو خَافَهُ) قال الله تعالى: (وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليمُ) [الأعراف: 200] وقال تعالى: (وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِين لا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإِسراء: 45] فينبغي أن يتعوّذ ثم يقرأ من القرآن ما تيسَّر. 360 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، فسمعناه يقول: أعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، ثم قال: ألْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلاثاً، وبسطَ يدَه كأنَّه يتناول شيئاً، فلما فرغَ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعْكَ تقولُه قبلَ ذلك، ورأيناكَ بسطتَ يدَكَ، قال: إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جاءَ بِشِهابٍ مِنْ نارٍ لِيَجْعَلَهُ في وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ باللَّهِ مِنْكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: ألْعَنُكَ بِلَعْنَةِ الله التامة فاسْتأخَرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أرَدْتُ أنْ آخُذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلا دَعْوَةُ أخي سُلَيْمانَ (2) لأصْبَحَ مُوثَقاً تَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أهْلِ المَدِينَةِ ".

_ (1) قال الحافظ في تخريج الأذكار: حديث غريب، أخرجه ابن السني، لكن سقط من روايته ; عن أبي طلحة - يعني عن أنس عن أبي طلحة - ولا بدّ منه. (2) (2) فيه جواز الحلف من غير استحلاف لتفخيم ما يخبر به الإِنسان وتعظيمه والمبالغة في صحته وصفته، وقد كثرتِ الأحاديثُ بمثل ذلك، ودعوة سليمان هي قول: (ربّ هبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي) ففيه الإِشارة إلى أن هذا مختصّ به، فامتنع نبيّنا صلى الله عليه وسلم من ربطه، لأنه لما تذكر دعوة سليمان ظنّ أنه لا يقدر على ذلك، أو تركه تواضعاً وتأدبا. (*)

باب ما يقول إذا غلبه أمر

361 - قلت: وينبغي أن يؤذّن أذان الصلاة، فقد روينا في " صحيح مسلم " عن سُهيل بن أبي صالح أنه قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا، فناداه مُنادٍ من حائط (1) باسمه، وأشرف الذي معي على الحائط فلم يرَ شيئاً، فذكرتُ ذلك لأبي، فقال: لو شعرتُ أنك تَلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتاً فنادِ بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنَّ الشَّيْطانَ إذا نودي بالصلاة أدبر ". (بابُ ما يَقُولُ إذا غلبَه أمرٌ) 362 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ باللَّهِ ولا تَعْجِزَنَّ، وإن أصابك شئ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أني فعلت كانَ كَذَا وَكَذَا، ولكن قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ فإنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ ". 363 - وروينا في سنن أبي داود، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، " أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضيّ عليه لمّا أدبر: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ " (3) . قلت: الكَيْس بفتح الكاف وإسكان الياء، ويطلق على معان: منها الرفق، فمعناه والله أعلم: عليك بالعمل في رفق بحيث تُطيق الدوام عليه. في " اليوم والليلة ". ومعنى " وفي كلٍّ خيرٌ " أن في كلٍّ من القوي والضعيف خير، لاشتراكهما في الإِيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. (بابُ ما يقولُ إذا استصعبَ عليه أمرٌ) 364 - روينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلاَّ ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وأنْتَ تَجْعَلُ الحَزْنَ إذَا شئت سهلا " (4) .

_ (1) الحائط: البستان من النخل إذا كان خائط أو جدار، وجمعه حوادط. (2) أي المؤمن الكامل الإيمان، أي البدن والنفس، الماضي للعزيمة، الذي يصلح للقيام بوظائف العبادت من الصوم والحج والجهاد والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والصبرِ على ما صيبه في ذلك، وغير ذلك مما يقوم به الدين وتنتهض به كلمة المسلمين. (3) وهو حديث حسن. (4) ورواه أيضا ابن حبّان في صحيحه رقم (2427) موارد، وهو حديث صحيح. (*)

باب ما يقول إذا تعسرت عليه معيشته

قلتُ: الحَزْن بفتح الحاء المهملة وإسكان الزاي: وهو غليظ الأرض وخشنها. (بابُ ما يقولُ إذا تَعَسَّرَتْ عليه معيشتُه) 235 - روينا في كتاب ابن السني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يمْنَعُ أحَدَكُمْ إذَا عَسُرَ عَلَيْهِ أمْرُ مَعِيشَتِهِ أنْ يَقُولَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ على نَفْسِي ومَالي ودِينِي، اللَّهُمَّ رضّنِي بِقَضائِك، وباركْ لي فِيما قُدّرَ لي حتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ ما أخَّرْتَ ولا تأخيرَ ما عَجَّلْتَ " (1) . (بابُ ما يقولُه لدفعِ الآفَاتِ) 366 - روينا في كتاب ابن السني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ على عَبْدٍ نِعْمَةً في أهْلٍ ومَالٍ وَوَلَدٍ فَقالَ: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، فَيَرَى فِيها آفَةً دونَ الموت " (2) . (بابُ ما يقولُه إذا أصابتهُ نكبةٌ (2) قليلةٌ أو كثيرة) قال الله تعالى: (وَبَشِّر الصَّابِرينَ الَّذينَ إذَا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المُهْتَدُونَ) [البقرة: 155، 156] . 367 - وروينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ في كل شئ حتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ، فإنَّها مِنَ المَصَائِبِ " قلت: الشسع بكسر الشين المعجمة ثم وإسكان السين المهملة، وهو أحد سُيور النعل التي تشدّ إلى زمامها. (بابُ ما يقولُه إذا كان عليه دينٌ عَجَزَ عنه) 368 - روينا في كتاب الترمذي، عن عليّ رضي الله عنه، أن مُكاتباً جاءه فقال: إني عجزتُ عن كتابتي فأعنِّي، قال: ألا أُعلّمك كلماتٍ عَلمنيهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لو كانَ عَليكَ مثلُ جبل صِيْرٍ دَيْناً أدَّاهُ عنك؟ قال: قُلِ: " اللَّهُمَّ اكْفِني بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأغْنِني

_ (1) وفي سنده عيسى بن ميمون الوسطي، وهو ضعيف. (2) وإسناده ضعيف. (3) نكبة - بإسكان الكاف -: ما يُصيب الإِنسان من الحوادث. (*)

باب ما يقوله من بلي بالوحشة

بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ " قال الترمذي: حديث حسن. وقد قدّمنا في باب ما يُقال عند الصباح والمساء حديث أبي داود، عن أبي سعيد الخدري، في قصة الرجل الصحابي الذي يُقال له: أبو أمامة، وقوله: " هموم لزمتني وديون ". (باب ما يقوله من بُلي بالوَحْشة) 369 - روينا في كتاب ابن السني، عن الوليد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال: يارسول الله، إني أجدُ وحشةً، قال: " إذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، ومن هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وأنْ يَحْضُرُونِ، فإنَّها لا تَضُرُّكَ أوْ لا تَقْرَبُكَ ". 370 - وروينا فيه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو إليه الوحشة، فقال: أكْثِرْ مِنْ أنْ تَقُولَ: سُبْحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ ربِّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ، جللت السموات والأرض بالعِزَّةِ والجبَرُوتِ، فقالها الرجلُ فذهبتْ عنه الوحشة (1) (بابُ ما يقولُه مَنْ بُلي بالوَسْوَسَة) قال الله تعالى: (وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [فصلت: 36] فأحسنُ ما يُقال ما أدَّبَنا اللَّهُ تَعالى به وأمرَنا بقوله. 371 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتِي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بالله وَلْيَنْتَهِ ". وفي رواية في الصحيح قال: " لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءلُونَ حتَّى يُقالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ وَرُسُلِهِ ". 372 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ وَجَدَ مِنْ هَذَا الوَسْوَاسِ شيئا فَلْيَقُلْ: آمَنَّا باللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلاثاً. فإنَّ ذلكَ يَذْهَبُ عَنْهُ ".

_ (1) وإسناده ضعيف. (*)

373 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عثمان بن أبي العاص (1) رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُهَا عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذلكَ شَيْطانٌ يُقالُ لَهُ: خِنْزَبٌ، فإذَا أحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بالله منه واتفل عَنْ يَسارِكَ ثَلاثاً " ففعلتُ ذلك فأذهبه الله عنه. قلتُ: خِنْزب بخاء معجمة ثم نون ساكنة، ثم زاي مفتوحة ثم باء موحدة، واختلف العلماء في ضبط الخاء منه، فمنهم من فتحها، ومنهم من كسرها، وهذان مشهوران، ومنهم من ضمَّها حكاه ابن الأثير في " نهاية الغريب "، والمعروف: الفتح والكسر. 374 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد جيد، عن أبي زُمَيْل، قال: قلتُ لابن عباس: ما شئ أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، فقال لي: أشئ من شكّ؟ وضحك وقال: ما نجا منه أحدٌ حتى أنزل الله تعالى: (فإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أنْزَلْنا إلَيْكَ..) الآية، [يونس: 94] فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: (هُوَ الأوَّلُ، والآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالباطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شئ عليم) (2) . وروينا بإسنادنا الصحيح، في رسالة الأستاذ أبي القاسم القُشيري رحمه الله ; عن أحمد بن عطاء الروذباري السيد الجليل رضي الله عنه، قال: كان لي استقصاء في أمر الطهارة، وضاق صدري ليلة لكثرة ما صببتُ من الماء ولم يسكنْ قلبي، فقلت: يا ربّ عفوك عفوك، فسمعتُ هاتفاً يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك. وقال بعض العلماء: يستحبّ قول: " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ " لمن ابتلي بالوسوسة في الوضوء، أفي الصلاة أو شبههما، فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس، أي تأخر وبعد، و " لا إِله إِلاَّ اللَّه " رأسُ الذكر ولذلك اختار السادة الأجلّة من صفوة هذه الأمة أهل تربية السالكين، وتأديب المريدين، قول: " لا إِله إِلاَّ الله "، لأهل الخلوة، وأمروهم بالمداومة

_ (1) هو الثقفي الطائفي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف سنة تسع، واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم وعلى الطائف، وكان أحدث القوم سنّاً، وأقرّه عليها أبو بكر وعمر، واستعمله عمر أيضاً على عمان والبحرين، روى عنه ابن المسيب في آخرين، نزل البصرة ومات بها سنة إحدى وخمسين. (2) وفي سنده النضر بن محمد، وهو ثقة له أفراد، وعكرمة بن عمار الجعلي وهو صدوق يغلط، وقال ابن علان في شرح الأذكار: قال الحافظ: هذا المتن شاذ، وقد ثبت عن ابن عباس من رواية سعيد بن جُبير ومن رواية مجاهد وغيرها عنه: ما شكَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا سأل، أخرجه عبدُ بن حُميد، والطبراني، وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة، وجاء من وجه آخر مرفوعا من لفظة صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل، أخرجوه من رواية سعيد ومعمر وغيرهما من قتادة قال: ذكر لنا، وفي لفظ: فذكره، وسنده صحيح. (*)

باب ما يقرأ على المعتوه والملدوغ

عليها، وقالوا: أنفع علاج في دفع الوسوسة الإِقبال على ذكر الله تعالى والإِكثار منه. وقال السيد الجليل أحمد بن أبي الحواري - بفتح الراء وكسرها - شكوتُ إلى أبي سُليمان الداراني الوسواس، فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك، فأيّ وقت أحْسَسْتَ به فافرح، فإنك إذا فرحتَ به انقطع عنك، لأنه ليس شئ أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن اغتممت به زادك قلت: وهذا مما يُؤيد ما قاله بعض الأئمة: إن الوسواس إنما يُبتلى به من كمل إيمانه، فإن اللصّ لا يقصد بيتا خربا. (بابُ ما يُقرأُ على المَعْتُوهِ والمَلْدُوغ) 375 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: انطلق نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفْرة سافروها، حتى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافُوهم، فأبوا أن يُضيِّفوهم، فلُدغ سيِّدُ ذلك الحيّ، فسعَوْا له بكل شئ، لا ينفعه شئ (1) فقال بعضُهم: لو أتيتم هؤلاء الرَّهَطَ الذين نزلوا لعلَّهم أن يكونَ عندهم بعض شئ، فأتوهُم فقالوا: يا أيُّها الرَّهط ; إنَّ سيدنا لُدغ، وسعينا له بكل شئ، لا ينفعه شئ، فهل عندَ أحدٍ منكم من شئ؟ قال بعضُهم: إني والله لأَرْقي، ولكنْ والله لقد استضفناكم فلم تضيِّفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلا (2) ، فصالحُوهم على قطيع من الغنم، فانطلقَ يتفلُ عليه ويقرأُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ العَالَمِينَ) (3) ، فكأنما نَشِطَ من عِقَال، فانطلقَ يمشي وما به قَلَبَة، فأوفوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، وقال بعضُهم: اقسموا، فقال الذي رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنذكرَ له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فقال: " وَما يُدْرِيكَ أنها رُقْيَةٌ "؟ ثم قال: " قَدْ أصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لي مَعَكُم سَهماً "، وضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم. هذا لفظ رواية البخاري، وهي أتمّ الروايات. وفي رواية " فجعل يقرأ أُمّ الكتاب ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ الرجل ". وفي رواية: " فأمر له بثلاثين شاة ".

_ (1) فيه استئناف. (2) جُعلاً بضم الجيم: اسم مصدر، والمصدر الجَعل بالفتح، يقال: جعلت كذا جُعلاً وجَعلاً: وهو الأجرة على الشئ فعلا وقولا. (3) المراد جميع سورة الفاتحة، كما جاء مصرفا في رواية في " الصحيحين " قال: فجعل الرجل يقرا بام القرآن. (*)

قلت: قوله " وما به قَلَبَة "، وهي بفتح القاف واللام والباء الموحدة. أي: وجع. 376 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن أبيه، قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي وجع، فقال: وَما وَجَعُ أخِيكَ؟ قال: به لمم، قال: فابْعَث بِهِ إليَّ، فجاء فجلس بين يديه، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: فاتحة الكتاب، وأربع آياتٍ من أوّل سورة البقرة، وآيتين من وسطها: (وإلهُكُمْ إِلهُ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ... ) حتى فرغَ من الآية [البقرة: 163، 164] وآية الكرسي، وثلاث آيات مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقرة، وآية من أوّل سورة آل عمران، و (شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ... ) إلى آخر الآية [آل عمران: 18] ، وآية من سورة [الأعراف: 54] (إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السموات والأرض ... ) ، وآية من سورة [المؤمنين: 116] (فَتَعَالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكريم) ، وآية من سورة [الجنّ: 3] (وأنَّه تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا ولدا) وعشر آيات من سورة الصّافّات من أوّلها، وثلاثاً مِنْ آخِرِ سُورَةِ الحشر، و (قل هو الله أحد) والمعوّذتين " (1) . قلت: قال أهل اللغة: اللمم: طرف من الجنون يلمّ بالإِنسان ويعتريه. 377 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد صحيح، عن خارجة بن الصلت، عن عمّه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، ثم رجعتُ فمررتُ على قوم عندهم رجل مجنون مُوثق بالحديد، فقال أهله: إنا حُدِّثنا أن صاحبَك هذا قد جاء بخير، فهل عندك شئ تُداويه؟ فرقيته بفاتحة الكتاب، فبرأ، فأعطوني مائة شاة، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فقال: " هَلْ إِلاَّ هَذَا " وفي رواية: " هَلْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا؟ " قلتُ: لا، قال: " خُذْها فَلَعَمرِي لَمَنْ أكَلَ بِرُقْيَةِ باطِلٍ، " قد أكَلْتَ بِرُقْيَةٍ حَقٍّ " (2) . 378 - وروينا في كتاب ابن السني بلفظ آخر، وهي رواية أخرى لأبي داود، قال فيها عن خارجة عن عمّه قال: أقبلنا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتينا على حيّ من العرب فقالوا: عندكم دواءٌ، فإن عندنا معتوهاً في القيود، فجاؤوا بالمعتوه في القيود، فقرأتُ عليه فاتحةَ الكتاب ثلاثةَ أيامٍ غدْوةً وعشيّةً، أجمع بزاقي ثم أتفلُ، فكأنما نَشِطَ من عِقال، فأعطوني جُعْلاً، فقلتُ: لا، فقالوا: سلِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال: " كل فَلَعَمْرِي مَنْ أكَلَ

_ (1) وإسناده ضعيف، قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: في تخرجه: حديث حسن. (2) قال الحافظ: حديث حسن. (*)

باب ما يقال على الخراج والبثرة ونحوهما

قال في الحرز، عِلاقة، بكسر العين المهملة، قلت: وآخره قاف بعدها هاء. وفي السلاح صُحَار بضم الصاد وبالحاء المهملتين. وفي أسد الغابة: هو عمّ خارجة بن الصلت وذكر قولاً أن اسمه العلاء وأنه السلطي من بني سُليط. قال واسمه كعب بن الحارث بن يربوع التيمي السليطي، ذكره ابن شاهين. بِرُقْيَةِ باطِلٍ، لَقَدْ أكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ ". قلت: هذا العمّ اسمه علاقة بن صحار، وقيل اسمه عبد الله. 379 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قرأ في أُذن مبتلى فأفاق، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَا قَرأتَ في أذنيه؟ " قال: قرأت (أَفَحَسِبْتُمْ أنّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون: 115] حتى فرغَ من آخر السورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ أنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرأ بِها على جَبَلٍ لَزَالَ " (1) . غريب، وأخرجه ابن السني، عن أبي يعلى الموصلي، وأخرجه الطبراني في الدعاء، (بابُ ما يُعَوَّذُ به الصِّبْيَانُ وغيرُهم) 380 - روينا في " صحيح البخاري " رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعوِّذ الحسن والحسين: " أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وَهامَّةِ، وَمِنْ كُلّ عَيْنٍ لامَّةٍ، ويقول: إنَّ أباكُما كان يُعَوِّذُ بِها إسْماعِيلَ وَإسْحاقَ صلى الله عليهم أجمعين وسلم. قلتُ: قال العلماء: الهامَّة بتشديد الميم: وهي كلّ ذات سمّ يقتل كالحيّة وغيرها، والجمع: الهوامّ، قالوا: وقد يقع الهوامّ على ما يدبّ من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات. ومنه حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه (2) " أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رأسِكَ؟ " أي: القمل، وأما العين اللامّة بتشديد الميم: وهي التي تُصيب ما نظرت إليه بسوء. (بابُ ما يُقالُ على الخُرَّاجِ والبَثَرَةِ ونحوهما) في الباب حديث عائشة الآتي قريباً في باب ما يقوله المريض ويُقرأ عليه. 381 - روينا في كتاب ابن السني، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: " دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجَ في أصبعي بثرة، فقال: عِنْدَكِ ذَرِيرَةٌ؟ فوضعها عليها وقال: قُولي: اللَّهُم مُصَغِّرَ الكَبِيرِ وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ صَغِّرْ ما بِي، فطفئت " (3) .

_ (1) وإسناده ضعيف، وقال ابن علان في شرح الأذكار: قال الحافظ: في تخريجه: هذا حديث غريب. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: هو طرف من حديث مخرج في الصحيحين روايته في سبب نزول قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من وأسه) فهذا في تخريج للحافظ. (3) رواه ابن السني رقم (629) من طريق ابن جريج عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن مريم بنت أبي كثير عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورواه أحمد في " السمند 5 / 370 " من طريق ابن جريج عن عنرو بن يحيى بن غمارة عن مريم بنت إياس بن البكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال ابن علان في = (*)

كتاب أذكار المرض والموت وما يتعلق بهما

قلتُ: البثرة بفتح الباء الموحدة وإسكان الثاء المثلثة، وبفتحها أيضاً لغتان: وهو خُرَّاجٌ صِغار ويقال: بثر جهه وبثر بكسر الثاء وفتحها وضمّها ثلاث لغات. وأما الذَّريرة: فهي فتات قَصَبٍ من قصبِ الطيب يُجاء به من الهند. كتاب أذكار المرض والموت وما يتعلق بهما (بابُ اسْتحبابِ الإِكْثارِ من ذِكْرِ الموْت) 382 - روينا بالأسانيد الصحيحة (1) في كتاب الترمذي، وكتاب النسائي، وكتاب ابن ماجه وغيرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكْثِرُوا ذِكْرَ هاذِمِ اللَّذَّاتِ " (2) يعني الموت، قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ اسْتحبابِ سؤالِ أهلِ المريضِ وأقَاربهِ عنه وجوابُ المَسْؤُول) 383 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما، " أن عليّ بن

_ = " شرح الأذكار ": قال الحافظ تعد تخريجه من طريق الإِمام أحمد بن حنبل وغيره بسنده إلى مريم بنت إياس بن البكير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: حديث صحيح، أخرجه النسائي في " اليوم والليلة " وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وهو كما قال: فإن رواته من أحمد إلى منتهاه من رواة الصحيحين، إلا مريم بنت إياس بن البكير صاحب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلِفَ في صحبتها، وأبوها وأعمامها من كبار الصحابة، ولإخيها محمد رواية، وأشار الحاكم إلى أن الزوجة المبهمة زينب بنت جحش، قال الحافظ: أخرجه ابن السني وخالف في سياق المتن ظاهره، واتفاق الأئمة على خلاف روايته، دالّ على أنه وقع له في سنده وهم، فإنه قال: بنت أبي كثير، قال الحافظ ; وعجيب من عدول الشيخ - يعني النووي - عن التخريج من كتاب النسائي مع تشدده وعلوه، إلى كتاب ابن السني مع تساهله ونزوله؟ ! (1) قال ابن علان في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: الحديث حسن، ومدار طرق الحديث كلها عند كل من ذكره الصمنف - يعني النووي - على محمد بن عمرو بن علقمة، وليس هو من شرط الصحيحين إذا إنفرد، ففي قول الشيخ - يعني النووي - بالإسانيد الصحيحة أن أبي هريرة نظر من وجهين، وأما تصحيح ابن حبان والحاكم فهو على طريقهما في تسمية ما يصلح للحجة صحيحا، وأما على طريق من يفصل بين الصحيح والحسن كالشيخ - يعني المصنف - فلا، فقد ذكر هو في مختصريه لا بن الصلاح حديث محمد بن عمرو هذا مثلا للحديث الحسن، وأنه لما توبع جاز وصفة بالصحة، وهنا لم يتابع، ومن ثم قول الترمذي هنا: حديث حسن فقط، وقد قال في المثال الذي ذكره حيث توبع: حسن صحيح، ولولا قول الشيخ - يعني النووي - هنا: عن أبي هريرة، لا حتمل أن يكون أشار إلى شواهده، فقد قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعند، قلت - القائل: االحافظ بن حجر -: وفيه أيضا - أي في الباب - عن عمر وأنس وابن عمر. (2) قاطع اللذات. (*)

باب ما يقوله المريض ويقال عنده ويقرأ عليه وسؤاله عن حاله

أبي طالب رضيَ الله عنه، خرجَ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعهِ الذي تُوفي فيه، فقال الناسُ: يا أبا حسنٍ! كيف أصبحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبحَ بِحَمْدِ الله بارئا ". (بابُ ما يَقولُه المريضُ ويُقالُ عندَه ويُقرأ عليه وسؤالُه عن حالِه) 384 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفّيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيها: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ) و (قُلْ أعُوذُ بِرَبّ الفَلَقِ) و (قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النَّاس) ثم يمسحُ بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعلُ ذلك ثلاثَ مرّاتٍ، قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به ". وفي رواية في الصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي تُوفي فيه بالمعوّذات، قالت عائشة: فلما ثَقُلَ، كنتُ أنفثُ عليه بهنّ وأمسحُ بيد نفسه لبركتها ". وفي رواية: " كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفثُ ". قيل للزهري أحد رواة هذا الحديث: كيف ينفث؟ فقال: ينفثُ على يديه ثم يمسحُ بهما وجهَه. قلت: وفي الباب الأحاديث التي تقدمت في باب ما يُقرأ على المعتوه، وهو قراءة الفاتحة وغيرها. 385 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " وسنن أبي داود وغيرها، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشئ منه، أو كانت قرحة أو جرح، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان بن عيينة الراوي سبّابته بالأرض، ثم رفعها وقال: " بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أرْضِنا بِرِيقَةِ بَعْضِنا يُشْفَى بِهِ سَقِيمُنا بإذْنِ رَبِّنا ". وفي رواية: " تُرْبَةُ أرْضِنا، وَرِيقَةُ بَعْضِنا ". قلت: قال العلماء: معنى بريقة بعضنا: أي ببُصاقه، والمراد: بُصاق بني آدم. قال ابن فارس: الريق ريق الإِنسان وغيره، وقد يؤنث فيقال: ريقة. وقال الجوهري في " صِحاحه ": الريقة أخصّ من الريق. 386 - وروينا في " صحيحيهما " عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعَوِّذُ بعضَ أهله، يمسَحُ بيده اليمنى ويقول: " اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أذْهِبِ البأسَ (7) ، اشْفِ أنْتَ الشَّافِي، لا شِفاءَ إِلاَّ شِفاؤُكَ شِفاءً لا يغادر سقما ".

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": بالموحدة والهمزة، وإبدال الهمزة هنا أنسب مراعاة للسجع في قوله: رب الناس. (*)

وفي رواية: كان يرقي يقول: " امْسَحِ الباسَ رَبَّ النَّاسِ، بِيَدِكَ الشِّفاءُ، لا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ أَنْتَ ". 387 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه، أنه قال لثابت رحمه الله: ألا أرقيك برُقْيَة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: " اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ البأسِ، اشْفِ أنْتَ الشَّافِي، لا شافِيَ إِلاَّ أَنْتَ، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً ". قلت: معنى لا يغادر: لا يترك، والبأس: الشدّة والمرض. 388 - وروينا في " صحيح مسلم " رحمه الله، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ضَعْ يَدَكَ على الَّذِي تألم مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ ثَلاثاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ (1) مِنْ شَرّ ما أجِدُ وأُحاذِرُ " (1) . وروينا في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً ". 389 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، بالإِسناد الصحيح (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ عادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أجَلُهُ، فَقالَ عِنْدَهُ: سَبْعَ مَرَّاتٍ: أسألُ اللَّهَ العَظِيمَ رَبّ العَرْشِ العَظِيمِ أنْ يَشْفِيكَ، إلاَّ عافاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالى مِن ذلِك المَرَضِ، قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم أبو عبد الله في كتابه " المستدرك " على الصحيحين: هذا حديث صحيح على شرط البخاري. قلت: يَشفيك بفتح أوله. 390 - وروينا في " سنن أبي داود " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إذَا جاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضاً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكأ لَكَ عَدُوّاً، أوْ يَمْشي لَكَ إلى صَلاةٍ "، لم يُضَعِّفه أبو داود (4) .

_ (1) لفظه عند مسلم: أعوذ بالله وقدرته..الخ. والحديث رواه أيضا مالك والترمذي وغيرهما، ولفظه عندهما: أعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وقدرته ... الخ. (2) زاد أبو داود والترمذي والنسائي: قال: فقلت ذلك، فأذهبَ الله ما كان بي فلم أزل آمر به أهلي غيرهم. (3) قال ابن علاّن في " شرح الأدكار ": قال الحافظ بعد تخريجه الحديث: هذا حديث حسن، وأخرجه أحمد، وقال الترمذي: حسن غريب. (4) وهو حديث حسن، حسّنه الحافظ وغيره. (*)

قلت: يَنكأ بفتح أوله وهمز آخره، ومعناه: يؤلمه ويوجعه. 391 - وروينا في كتاب الترمذي، عن عليّ رضي الله عنه، قال: كنتُ شاكياً، فمرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللَّهمّ إن كان أجلي قد حضرَ فأرحني، وإنْ كان متأخرا فارفعه عني، وإن كان بلاءً فصبِّرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ قُلْتَ "؟ فأعاد عليه ما قاله، فضربه برجله وقال: " اللَّهُمَّ عافِهِ - أو اشْفِهِ - " شك شعبة، قال: فما اشتكيتُ وجعي بعدُ. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 392 - روينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ، فَقالَ: لا إِلهَ إِلاَّ أنا وأنا أكْبَرُ، وَإذَا قالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، قالَ: يَقُولُ: لا إِلهَ إِلاَّ أنا وَحْدِي لا شَرِيكَ لي، وَإذَا قالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، قالَ: لا إلهَ إِلاَّ أنا لي المُلْكُ ولِي الحمد، وَإذَا قالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، قالَ: لا إِلهَ إِلاَّ أنا وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِي " وكان يقول " مَنْ قالَهَا في مَرَضِهِ ثُمَّ مَات لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ " قال الترمذي: حديث حسن. 393 - وروينا في " صحيح مسلم " وكتب الترمذي، والنسائي، وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، " أن جبريل أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ قال: نَعَمْ، قال: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كل شئ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أو عَيْنٍ حاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أرْقِيكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 394 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيّ يعوده، قال: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مَن يعُودُه قال: " لا بأسَ طَهُورٌ إنْ شاءَ اللَّهُ ". 395 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على أعرابيّ يعودُه وهو محموم، فقال: " كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ " (1) . 396 - وروينا في كتاب الترمذي، وابن السني، عن أبي أُمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " تمَامُ عِيادَةِ المَرِيضِ أنْ يَضَعَ أحَدُكُمْ يَدَهُ على جَبْهَتِهِ أوْ على يَدِهِ فَيَسألَهُ كَيْفَ هُوَ؟ " هذا لفظ الترمذي. وفي رواية ابن السني: " مِنْ تمام

_ (1) وهو حديث حسن. (*)

باب استحباب وصية أهل المريض ومن يخدمه بالإحسان إليه واحتماله والصبر على ما يشق من أمره وكذلك الوصية بمن قرب سبب موته بحد أو قصاص أو غيرهم

العِيادَة أنْ تَضَعَ يَدَكَ على المَرِيضِ (1) فَتَقُولَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ، أوْ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ " قال الترمذي: ليس إسناده بذاك (2) . 397 - وروينا في كتاب ابن السني، عن سلمان رضي الله عنه قال: " عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقال: " يا سَلْمانُ شَفَى اللَّهُ سَقَمَكَ، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، وَعافاكَ فِي دِيْنِكَ وَجِسْمِكَ إلى مُدَّةِ أجَلِكَ (3) ". 398 - وروينا فيه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: مرضت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذني فعّوذني يوماً، فقال: " بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أعيدك بالله الأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ، مِنْ شَرّ ما تَجِدُ ". فلما استقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً قال: " يا عُثْمَانُ تَعَوَّذْ بِها فَمَا تَعَوَّذْتُمْ بمثلها " (4) . (بابُ استحباب وصيّة أهلِ المريضِ وَمَنْ يَخدمه بالإِحسانِ إِليه واحتمالِه والصبرِ على ما يَشُقُّ من أمْرِه وكذلك الوصيّة بمن قَرُبَ سببُ موته بحدٍّ أو قَصَاصٍ أو غيرهما) 399 - روينا في " صحيح مسلم " عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، أن امرأةً من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حُبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله أصبتُ حَدّاً فأقمْه عليَّ، فدعا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وليَّها فقال: " أحْسِنْ إِلَيْها فإذَا وَضَعَتْ فاتني بِهَا، ففعلَ، فأمرَ بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فشُدَّتْ عليها ثيابُها، ثم أمرَ بها فرُجمتْ ثم صلَّى عليها ".

_ (1) قال الحافظ: ولأصل وضعُ اليد على المريض شاهد من حديث عائشة في الثحيحين، ومن حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري. (2) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (542) من حديث جندل بن واثق التغلبي عن شعيب ابن أبي راشد عن أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي عن سلمان، وإسناده ضعيف. قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ بعد تخرجه: هذا حديث غريب، أخرجه الحاكم في النستدرك وصححه، وقال الذهبي في مختصره: سنده جيد، وليس كما قال، وقد تم الوهم فيه عليه، وعلى الحاكم قبله، فقد سقط من سنده بين شعيب وأبي هاشم راو، وذلك الراوي هو: أبو خالد، كما جاء في رواية ابن السني، وأبو خالد وهو عمرو بن خالد الواسطي ضعيف جداً. (*)

باب ما يقوله من به صداع أو حمى أو غيرهما من الأوجاع

(بابُ ما يقولُه مَنْ به صُداعٌ أو حُمَّى أو غيرهما من الأَوْجَاع) 400 - روينا في كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّمهم من الأوجاع كلِّها، ومن الحمّى أن يقول: " بِسْمِ اللَّهِ الكَبِيرِ، نَعُوذُ باللَّهِ العَظِيمِ منْ شَرّ عِرْقٍ نَعَّارٍ (1) وَمنْ شَرّ حَرّ النَّارِ " (2) . وينبغي أن يَقرأ على نفسه الفاتحة، وقل هو الله أحد، والمعوّذتين وينفث في يديه كما سبق بيانه وأن يدعو بدعاء الكَرْب الذي قدَّمناه. (باب جواز قَوْل المريض: أنا شديدُ الوجَع، أو مَوْعوكٌ، أو أرى أساءة ونحو ذلك، وبيانُ أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن شئ من ذلك على سبيل التَّسَخُّطِ وإظهارِ الجَزَعِ) 401 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَكُ، فمسسْتُه فقلت: إنك لتُوعك وعكاً شديداً (3) ، قال: " أجَلْ كما يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ ". 402 - روينا في " صحيحيهما " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودُني من وَجَعٍ اشتدّ بي، فقلتُ: بلغ بي ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنتي ... وذكرَ الحديث. 403 - وروينا في " صحيح البخاري " عن القاسم بن محمد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه، فقال فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ أنا وَارأساهُ ... " وذكر الحديث. هذا الحديث بهذا اللفظ مرسل (4) .

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": نغار، هو بفتح النون وتشديد العين وبالراء المهملتين: صفة عرق. قال في " السلاح " قال الصغاني في العباب: نعر العرق ينعر بالفتح فهما: أي فار بالدم، فهو عرق نعار ونعور. وقال الفراء: ينعر بالكسر أكثر. اهـ. وقال ابن الجرزي: جرح ونعار: إذا صوت ومد عنده خروجه، وفي المسطسفى لابن معين القريظي: يروى يعار بالتحية، والعيار: السيل، والذي يصيح مأخوذ من يعار الغنم وهو أصوتها. وفي ضياء الحلوم: نعرت الشجة: إذا انتحت بالدم، وقيل بالعين المعجمة، واليعار بالتحيتة: صوت المغر. اهـ. (2) ورواه أضا أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وإسناده ضعيف. قال الحافظ ابن حجر: ويتعجب من الشيخ - يعني النووي - في اقصاره في نسبته لابن السني. (3) الوعك: حرارة الحمى وألمها، وقد وعكه المرض وعكا ووعكة فهو موعوك: أي اشتد به. (4) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار 2: قال الحافظ: وقول الشيخ - يعني النووي - إن الحديث تهذا اللفظ = (*)

باب كراهية تمني الموت لضر نزل بالإنسان وجوازه إذا خاف فتنة في دينه

(بابُ كراهية تمنِّي الموت لضُرٍّ نزلَ بالإِنسان وجوازُه إذا خاف فتنةً في دينهِ) 404 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرّ أصَابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني ما كانَتِ الحَياةُ خَيْراً لي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتِ الوَفاةُ خَيْراً لِي ". قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: هذا إذا تمنى لضرّ ونحوه، فإن تمنى الموت خوفاً على دينه، لفسادِ الزمان ونحو ذلك، لم يكره. (بابُ استحبابِ دُعاءِ الإِنسانِ بأنْ يكونَ موتُه في البلدِ الشريف) 405 - روينا في " صحيح البخاري " عَنْ أمِّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، قالت: قال عمر رضي الله عنه: اللَّهمّ ارزقني شهادة في سبيلك، واجعلْ موتي في بلدِ رسولِك صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: أنَّى يكونُ هذا؟ قال: يأتيني الله به إذا شاء (1) .

_ = مرسل، يريد أن القاسم بن محمد ساق قصةً ما أدركها، ولا قال: إن عائشة أخبرته بها، لكن اعتمد البخاري على شهرة القاسم لصحبتة عمّته وكثرة روايته عنها، وهي التي تولت تربيه بعد موت أبيه حتى ماتت وقال: وهذا الحديث مشهور عن عائشة من طريق آخر أخرجه أحمد والنسائي في " الكبرى " عنها قالت: دخلَ علي ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه - تعني بالوجع - فقلت: وارأساه، فقال: وددت لو كان ذاك وأنا حي فهيأتك ودفنتك، فقلت: عن لي كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك، أنا وارأساه، لدعي لي أباك وأخاك، وأخرجه مسلم مقتصرا منه على قوله: اددعي لي أباك وأخاك ... إلى آخر الحديث، ولم يذكر ما قبله. (1) رواه البخاري تعليقا فقال: وقال ابن زريع - وهو يزيد - عن روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أمه حفصة بنت عمر ضري الله عنهما قالت سمعت عمر يقول ... الخ. قال الحافظ في " الفتح ": وصله الإسماعيلي عن إبراهيم بن هاشم عن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع به، ولفظه عن حفصة قالت: سمعت عمر يقول: اللهم قتلا في سبيلك، ووفاة ببلد نبيك، قالت: فقلت: وأنى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء. اهـ. ورواه البخاري مسندا عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم عن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك " ... وقال الحافظ قي " الفتح ": وأما أثر عمر، فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها عن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه: أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو الناس حولي، ثم قال: بلى يأتي بها إن شاء. (*)

باب استحباب تطييب نفس المريض

(بابُ استحباب تَطْييبِ نفس المريضِ) 406 - روينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا دَخَلْتُمْ على مَرِيضٍ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ، فإنَّ ذلكَ لا يَرُدُّ شَيْئاً وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ ". ويغني عنه حديث ابن عباس السابق في باب ما يُقال للمريض: " لا بأسَ طَهُورٌ إنْ شاء الله ". (بابُ الثَّناءِ على المريضِ بمحَاسِن أعمالِه ونحوها إذا رأى منه خوفاً ليذهبَ خوفُه ويُحَسِّن ظنَّه بربهِ سبحانَه وتعَالى) 407 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه حين طُعِنَ وكان يُجزِّعه: يا أميرَ المؤمنين! ولا كلّ ذلك، قد صحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنتَ صحبتَه، ثم فارقَكَ وهو عنك راضٍ، ثم صحبتَ المسلمين فأحسنتَ صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنَّهم وهم عنك راضون ... وذكر تمام الحديث. وقال عمر رضي الله عنه: ذلك مِنْ مَنِّ اللَّهَ تَعالى. 408 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن شُماسة - بضم الشين وفتحها - قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت، فبكي طويلاً، وحوّل وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بَشَّرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشِّرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فأقبلَ بوجهه فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ: شهادةَ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله وأن محمداً رسولُ الله ... ثم ذكرَ تمامَ الحديث. 409 - وروينا في " صحيح البخاري " عن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، أن عائشة رضي الله عنها اشتكت، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: يا أُمّ المؤمنين! تقدَمين على فَرْطِ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه. 410 - ورواه البخاري أيضاً من رواية ابن أبي مُليكة، أن ابن عباس استأذن على عائشة قبل موتها وهي مغلوبة، قالت: أخشى أن يثني عليّ، فقيل: ابن عَمَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من وجوه المسلمين، قالت: ائذنوا له، قال: كيف تجدينك، قالت: بخير إن اتقيتُ، قال: فأنت بخير إن شاء الله: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكح بِكراً غيرك ونزلَ عذرُك من السماء.

باب ما جاء في تشهية المريض

(بابُ ما جَاءَ في تَشْهيةِ المريضِ) 411 - روينا في كتابي ابن ماجه وابن السني بإسناد ضعيف، عن أنس رضي الله عنه، قال: " دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على رجلٍ يعودُه، فقال: هَلْ تَشْتَهِي شيئاً؟ تشتهي كَعْكاً؟ قال: نعم، فطلبه له (1) . 412 - وروينا في كتابي الترمذي، وابن ماجه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ على الطَّعامِ، فإنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ ". قال الترمذي: حديث حسن (2) . (بابُ طلبِ العوََّادِ الدُّعاء من المريضِ) 413 - روينا في سنن ابن ماجه، وكتاب ابن السني بإسناد صحيح أو حسن، عن ميمون بن مهران، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا دَخَلْتَ على مَرِيضٍ فَمُرْهُ فَلْيَدْعُ لَكَ، فإنَّ دُعَاءَهُ كَدُعاءِ المَلائِكَةِ ". لكن ميمون بن مهران لم يدرك عمر (2) . (بابُ وَعْظِ المريضِ بعدَ عافيتِه وتذكيره الوفاءَ بما عاهدَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ من التوبة وغيرِها) قال الله تعالى: (وَأوْفُوا بالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34] وقال

_ (1) رواه ابن ماجه رقم (3441) في الطب، باب المريض يشتهي الشئ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (534) في باب اشتهاء المريض، واسناده ضعيف، وذكر ابن ماجه قبل حديث أنس هذا حديثا لا بن عباس بهذا المعني، وسنده أصلح من هذا، في سنده صفوان بن هبيرة، وهو ليِّن الحديث. قال الحافظ في " تخريج الأذكار ": وعجيب للشيخ - يعني النووي - كيف أغفله وترجمته تقتضي ذكره عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد رجلا فقال له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي خبز بر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه "، ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " إذا اشتهي مريض أحدكم شيئا فليطمعه ". قال الحافظ: وللحديث شاهد عن عمر أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المرض والكفارات لكنه موقوف، ولفظه: إذا اشتهي مريضكم الشئ فلا تحموه، فلعل الله إنما شهاه ذلك ليجعل شفاءه فيه. (2) وهو حديث حسن لشواهده. (3) وإسناده منقطع، قال الحافظ: فلا يكون صحيحا، ولو اعتضد لكان حسنا، لكن لم نجد له شاهدا يصلح للإعتبار. (*)

باب ما يقوله من أيس من حياته

تعالى: (والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهدوا ... ) الآ ية. [البقرة: 177] ، والآيات في الباب كثيرة معروفة. 414 - وروينا في كتاب ابن السني، عن خوّات بن جُبير رضي الله عنه، قال: مرضتُ، فعادَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صَحَّ الجِسْمُ يا خَوَّاتُ، قلت: وجسمُك يا رسول الله، قال: فَفِ الله بما وعدته، قلت: ما وعدتُ الله عَزّ وجلَّ شيئاً، قال: بَلى إنَّهُ مَا منْ عَبْدٍ يَمْرَضُ إِلاَّ أحْدَثَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً فَفِ الله بما وعدته ". (بابُ ما يقولُه من أَيِسَ من حَياتِه) 415 - روينا في كتاب الترمذي، وسنن ابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في الموت، وعنده قدحٌ فيه ماء، وهو يُدْخِلُ يدَه في القدح، ثم يمسحُ وجهَه بالماء، ثم يقولُ: " اللَّهُمَّ أعِنِّي على غَمَرَاتِ المَوْتِ، وَسَكَرَاتِ المَوْتِ " (1) . 416 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مستندٌ إليّ يقولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارْحَمْنِي، وألحِقْني بالرَّفِيقِ الأعْلَى ". ويستحبّ أن يكثرَ من القرآن والأذكار، ويُكره له الجزع، وسوء الخلق، والشتم، والمخاصمة، والمنازعة في غير الأمور الدينية. ويُستحبّ أن يكونَ شاكراً لله تعالى بقلبه ولسانه، ويستحضر في ذهنه أن هذا الوقت آخرُ أوقاتِه من الدنيا، فيجتهدُ على ختمها بخير، ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها: من ردّ المظالم والودائع والعواري، واستحلال أهله: من زوجته، ووالديه،

_ (1) ووقع ذكر سكرات الموت في حديث آخر لعائشةَ رضي الله عنها أخرجه البخاري عن عائشة قالت: مِنْ نِعْمَةِ اللَّه علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي نوبتي وبين سحري ونحري ... الخ. وفيه: ويقول: إن للموت سكرات. قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الطبراني: في تشديد الموت على الأنبياء فائدتان إحداهما: تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما جاء: إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، والثانية: أن يعرف الخلقُ مقدار ألم الموت، فقد يطلع الإِنسان على بعض الموتى، ولا يريى عليه حركة ولا قلقاً ويرى سهولة خروج روحه فيظن الأمر سهلاً، ولا يعرفُ ما الميتُ فيه، فلما ذكرَ الأنبياء الصادقون شرة الموت مع كرامتهم على الله سبحانه وتعالى قطعَ الخلقُ بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقاً لإِخبار الصادق عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفّار على ما ثبت في الحديث. (*)

وأولاده، وغلمانه، وجيرانه، وأصدقائه، وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة، أو تعلّق في شئ. وينبغي أن يوصيَ بأمورِ أولادِه إن لم يكن لهم جدٌّ يَصلحُ للولاية، ويُوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال، من قضاء بعض الديون ونحو ذلك. وأن يكون حسنَ الظنّ بالله سبحانه وتعالى أنه يرحمَه، ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى، وأنْ الله تعالى غنّي عن عذابه وعن طاعته، وأنه عبدُه، ولا يطلبُ العفوَ والإحسان والصفح والامتنان إلا منه. ويستحبّ أن يكون مُتعاهداً نفسه بقراءة آياتٍ من القرآن العزيز في الرجاء، ويقرؤُها بصوت رقيق، أو يقرؤُها له غيره وهو يستمع. وكذلك يستقرئ أحاديث الرجاء، وحكاياتِ الصالحين وآثارَهم عند الموت، وأن يكونَ خيرُه مُتزايداً، ويحافظ على الصلوات، واجتناب النجاسات، وغير ذلك من وظائف الدين، ويصبر على مشقة ذلك، وليحذرْ من التساهل في ذلك، فإن من أقبح القبائح أن يكونَ آخِرُ عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه. وينبغي له أن لا يقبل قول من يخذله عن شئ مما ذكرناه، فإن هذا مما يُبتلى به، وفاعل ذلك هو الصديق الجاهل العدوّ الخفيّ فلا يقبل تخذيله، وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال. ويستحبّ أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه، واحتمال ما يصدر منه، ويوصيهم أيضاً بالصبر على مصيبتهم به، ويجتهد في وصيتهم بترك البكاء عليه، ويقول لهم: 417 - صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أهله عليه " (1) فإيَّاكم - يا أحبائي - وَالسَّعيَ في أسباب عذابي. ويُوصيهم بالرفق بمن يخلفه من طفل وغلام وجارية وغيرهم ويوصيهم بالإِحسان إلى أصدقائه ويعلّمهم: 418 - أنه صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّ مِنْ أبَرّ البِرّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلَ ود أبيه ". 419 - وصحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها ". ويستحبّ استحباباً مؤكداً أن يوصيهم باجتناب ما جرت العادة به من البدع في الجنائز، ويؤكد العهد بذلك. ويُوصيهم بتعاهده بالدعاء وأن لا ينسوه بطول الأمد.

_ (1) وهو محمول على النياحة ورفع الصوت بالعويل، أو الوصية به، وأما البكاء من غير ناحة ولا رفع صوت فلا بأس به، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (*)

باب ما يقوله بعض تغميض الميت

ويُستحبّ له أن يقولَ لهم في وقت بعد وقت: متى رأيتم مني تقصيراً في شئ فنبّهوني عليه برفق، وأدّوا إليّ النصيحة في ذلك، فإني معرّض للغفلة والكسل والإِهمال فإذا قصَّرْتُ فنشِّطوني، وعاونوني على أُهبة سفري هذا البعيد. ودلائل ما ذكرته في هذا الباب معروفة مشهورة، حذفتها اختصاراً، فإنها تحتمل كراريس. وإذا حضره النزعُ، فليكثرْ من قول: لا إِلهَ إِلاَّ الله، ليكون آخرَ كلامِه. 420 - فقد روينا في الحديث المشهور في " سنن أبي داود " وغيره، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَان آخِرَ كَلامِه لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ ". قال الحاكم أبو عبد الله في كتابه " المستدرك " على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإِسناد (1) . 421 - وروينا في " صحيح مسلم " وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَقِّنُوا مَوْتاكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ الله " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورويناه في " صحيح مسلم " أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: فإن لم يقل هو: " لا إِله إِلاَّ الله " لقَّنه مَنْ حضرَه، ويلقنه برفق مخافةَ أن يضجرَ فيردّها، وإذا قالها مرّة لا يُعيدها عليه، إلا أن يتكلم بكلام آخر. قال أصحابنا: ويستحبّ أن يكون الملقن غير متّهم، لئلا يُحْرِجَ الميتَ ويتَّهمه. واعلم أن جماعة من أصحابنا قالوا: نُلَقِّنُ ونقول: لا إِله إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله ". واقتصر الجمهور على قول: " لا إِله إِلاَّ الله "، وقد بسطتُ ذلك بدلائله وبيان قائليه في " كتاب الجنائز " من " شرح المهذب ". (باب ما يقوله بعض تَغميضِ الميّت) 422 - روينا في " صحيح مسلم " عن أُمّ سلمة - واسمها هند رضي الله عنها - قالت: دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة، وقد شَقَّ بصرُه، فأغمضَه ثم قال: " إن الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبعَهُ البَصَرُ "، فَضجّ ناسٌ من أهلِه، فقال: " لا تَدْعُوا على أنْفُسكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فإنَّ المَلائِكَةَ يُؤمِّنُونَ على ما تَقُولُونَ "، ثم قال: " اللَّهُمَّ

_ (1) هذا من الحاكم على قاعدته في تصحيح الحسن، وإلا فالحديث حسن. (*)

باب ما يقال عند الميت

اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَة، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيَّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنا وَلَهُ يا رَبَّ العالَمِينَ، وافسح فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ". قلت: قولها: " شق " هو بفتح الشين، و " بصره " برفع الراء فاعل شقّ، هكذا الرواية فيه باتفاق الحفاظ وأهل الضبط. قال صاحب الأفعال: يُقال شقّ بصرُ الميت، وشق الميتُ بصرَه: إذا شخص. 423 - وروينا في سنن البيهقي بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله التابعي الجليل قال: إذا أغمضتَ الميّتَ فقل: بسمِ الله، وعلى ملّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حملته فقل: بسم الله، ثم سبِّحْ ما دمتَ تحملُه (1) . (بابُ ما يُقالُ عندَ الميّت) 424 - روينا في " صحيح مسلم " عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا حَضَرْتُمُ المَرِيضَ أَوِ المَيِّتَ فَقُولُوا خَيْراً، فإنَّ المَلائكَةَ يُؤَمِّنُونَ على ما تَقُولُونَ ". قالت: فلما مات أبو سلمة أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسولَ الله إن أبا سلمةَ قد ماتَ، قال: قُولي: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَلَهُ، وَأعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً، فقلت ذلك، فأعقبني الله مَن هو خيرٌ لي منه: محمداً صلى الله عليه وسلم. قلتُ: هكذا وقع في " صحيح مسلم "، وفي الترمذي: " إذَا حَضَرْتُمُ المَرِيضَ أوِ المَيِّتَ " على الشكّ. وروينا في سنن أبي داود وغيره: " الميّتَ " من غير شك. 425 - وروينا في سنن أبي داود، وابن ماجه، عن معقل بن يسار الصحابي رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " اقْرَؤُوا يس على مَوْتاكُمْ ". قلت: إسناده ضعيف، فيه مجهولان، لكن لم يُضَعِّفه أبو داود (2) .

_ (1) قال الحافظ بعد تخريجه: هذا حديث موقوف على بكر بن عبد الله، أخرجه عبد الرزاق والبيهقي. قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال المصنف في " المجموع ": لم أر لأصحابنا كلاما فيما يقال حال إغماضه، ويستحسن ما رواه البيهقي. (2) قال ابن علاّن في " شرح الذكار ": قال الحاقظ: وأما الحاكم فتساهل في تصحيحه لكونه من فضائل الإعمال، وعلى هذا يحمل سكوت أبي داود والعلم عند الله. قال الحافظ: ووجدت لحديث معقل شاهدا عن صفوان بن عمرو عن المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحارث حين اشتد سوقه، فقال: هل فيكم أحد يقرأ يس؟ قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني، فلما بلغ أرعين آية منها قبض، فكان المشيخة قولون: إذا قرئت عند الموت خفف عنه بها، هذا موقوف حسن الإسناد، وغضيف صحابي عند = (*)

باب ما يقول من مات له ميت

426 - وروى ابن أبي داود عن مُجالد عن الشعبيّ قال: كانت الأنصارُ إذا حضروا الميت قرؤوا عند سورة البقرة. مُجالد ضعيف. (بابُ ما يقول مَنْ مَاتَ له ميّت) 427 - روينا في " صحيح مسلم " عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَا مِنْ عَبْدٍ تُصيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إنّا لِلَّهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أجُرْنِي فِي مُصِيبَتي، وأخْلِفْ لي خَيْراً مِنْها، إلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ تَعالى في مُصِيبَتِهِ وأخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْها "، قالت: فلما توفي أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله تعالى لي خيراً منه: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. 428 - وروينا في سنن أبي داود، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أصَابَ أحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ: إِنَّا لِلَّهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أحْتَسِبُ مُصِيبَتِي فأْجُرْنِي فِيها، وأبْدِلْنِي بِها خَيْراً مِنها ". 429 - وروينا في كتاب الترمذي وغيره، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تعالى: ابنوا لعبدي بَيْتاً في الجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ " قال الترمذي: حديث حسن. 430 - وفي معنى هذا، ما رويناه في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الجنة ". (بابُ ما يقولُه مَنْ بَلَغَهُ مَوْتُ صَاحِبِهِ) 431 - روينا في كتاب ابن السني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المَوْتُ فَزَعٌ، فإذَا بَلَغَ أحَدَكُمْ وَفاةُ أخِيهِ فَلْيَقُلْ: إِنََّا لِلَّهِ وإنا إليه راجعون،

_ = الجمهور، والمشيخة الذين نقل عنهم لم يسموا، لكنهم ما بين صحابي وتابعين كبير، ومثله لا يقال بالرأى، فله حكم الرفع. قال: وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء جابر بن زيد، وهو من ثقات التابعين، أنه يقرأ عند الميت سورة الرعد، وسنده صحيح. (*)

باب ما يقوله إذا بلغه موت عدو الإسلام

وَإِنَّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبونَ، اللَّهُمَّ اكْتُبْهُ عِنْدَكَ فِي الْمُحْسِنِينَ، وَاجْعَلْ كِتابَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي أَهْلِهِ فِي الغابِرِينَ، وَلا تَحْرِمْنا أجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ " (1) . (بابُ ما يقولُه إذا بلَغه موتُ عدوِّ الإِسلام) 432 - روينا في كتاب ابن السني، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسولَ الله، قد قتلَ الله عزّ وجلّ أبا جهلٍ، فقال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نصر عبده وأعز دينه " (2) . (بابُ تحريمِ النياحَةِ على الميِّتِ والدُّعَاءِ بدعوَى الجاهليّة) أجمعت الأمّةُ على تحريمِ النياحَةِ على الميِّتِ والدُّعَاءِ بدعوَى الجاهليّة (3) ، والدعاء بالويل والثبور عند المصيبة. 433 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعا بِدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ " وفي رواية لمسلم: " أوْ دَعا أوْ شَقَّ " بأو. 434 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برئ من الصَّالقةِ والحَالقةِ والشَّاقةِ. قلت: الصَّالقةُ: التي ترفع صوتها بالنياحة، والحالقةُ: التي تحلق شعرها عند

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ بعد تخريجه: حديث غريب أخرجه ابن السني، وفي سنده قيس بن الربيع وهو صدوق لكنه تغير في الآخر ولم يتميز، فما انفرد به يكون ضعيفاً. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار: أخرج الحافظ الحديث عن ابن مسعود قال: قلتُ: يا رسول الله إن الله قد قتلَ أبا جهل، قال: الحمد لله الذي أعز دينه ونصر عبده، قال: قال مرة: وصدق وعده، قال الحافظ: هذا حديث غريب، أخرجه النسائي في كتاب " السيرة " ولم يخرجه ابن السني عن النسائي، وإنما أخرجه " في عمل اليوم والليلة " من طريق علي بن المديني عن أميّة بن خالد، ورجاله رجال الصحييح لكن أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه: وأخرجه أحمد أيضا، وسياقة أتم، ولفظة: الحمد لله الذي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ..الحديث، وفي آخره، فقال: هذا فرعون هذه الأمة. (3) قال المصنف في " شرح مسلم ": دعوى الجاهلية: النياحة وندب الميت والدعاء بالويل ونحوه، ويحتمل أن يكون العطف للمغارة، وتفسير دعوى الجاهلية بمثل: واكهفاه واجبلاه، من الندب، ويكون الدعاء بالويل والثبور خارجا عنها، وظاهر كلام ابن الجوزي في كشف المشكل ذلك، والله أعلم، والمراد بالجاهلية: ما قبل الإسلام، وسموا بذلك لكثيرة جهالاتهم. (*)

المصيبة، والشَّاقةُ: التي تشقُّ ثيابَها عند المصيبة، وكل هذا حرام باتفاق العلماء، وكذلك يحرم نشر الشعر ولطم الخدود وخمش الوجه والدعاء بالويل. 435 - وروينا في " صحيحيهما " عن أُمّ عطيةَ رضي الله عنها، قالت: أخذَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح. 436 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثْنَتانِ فِي النَّاسِ، هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ في النَّسَبِ، وَالنِّياحَةُ على المَيِّتِ ". 437 - وروينا في سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة. واعلم أن النياحة: رفع الصوت بالندب، والندب: تعديد النادبة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه. قال أصحابنا: ويحرم رفع الصوت بإفراط في البكاء. وأما البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة، فليس بحرام. 438 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فبكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القومُ بكاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكَوْا، فقال: " ألا تَسْمَعُونَ إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ ولا بِحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ "، وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم ". 439 - وروينا في " صحيحيهما " عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفِعَ إليه ابنُ ابنته (1) وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: " هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَها اللَّهُ تَعالى في قُلوبِ عِبَادِهِ، وإنمَا يَرْحَمُ اللَّهُ تَعالى مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ ". قلت: الرحماء: رُوي بالنصب والرفع، فالنصبُ على أنه مفعول " يرحم " والرفع على أنه خبر " إنّ "، وتكون " ما " بمعنى الذي. 440 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسولَ الله؟ فقال: " يا بْنَ عوف إنها

_ (1) وهي زينب رضي الله عنها. (*)

باب التعزية

رَحْمَةٌ، ثم أتبعها بأخرى فقال: " إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ " والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فليست على ظاهرها وإطلاقها، بل هي مؤوّلة. واختلف العلماء في تأويلها على أقوال: أظهرها - والله أعلم - أنها محمولة على أن يكون له سبب في البكاء، إما بأن يكون أوصاهم به، أو غير ذلك، وقد جمعت كل ذلك أو معظمه في " كتاب الجنائز " من " شرح المهذب "، والله أعلم. قال أصحابنا: ويجوز البكاء قبل الموت وبعده، ولكن قبله أولى. 441 - للحديث الصحيح: " فإذَا وَجَبَتْ فَلا تَبْكِيَنَّ باكية ". وقد نصّ الشافعي رحمه الله والأصحاب على أنه يُكره البكاء بعد الموت كراهة تنزيه ولا يحرم، وتأوّلوا حديث " فَلاَ تَبْكينَّ بَاكِيَةٌ " على الكراهة. (بابُ التَّعْزِيَة) 442 - روينا في كتاب الترمذي، و " السنن الكبرى " للبيهقي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ عَزَّى مُصَاباً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ " وإسناده ضعيف. 443 - وروينا في كتاب الترمذي أيضاً، عن أبي برزة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْداً في الجَنَّةِ ". قال الترمذي: ليس إسناده بالقويّ. 444 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حديثاً طويلاً فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: " ما أخْرَجَكِ يَا فاطِمَةُ مِنْ بَيْتكِ؟ " قالَت: أتيتُ أهلَ هذا الميت فترحمتُ إليهم ميّتهم أو عزَّيْتُهم به (1) . 445 - وروينا في سنن ابن ماجه، والبيهقي، بإسناد حسن، عن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أخاهُ بِمُصِيْبَتِهِ إِلاَّ كَساهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْمَ القِيامَةِ ". واعلم أن التعزية هي التصبير، وذكر ما يسلّي صاحب الميت، ويخفّف حزنه، ويهوّن مصيبته، وهي مستحبة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،

_ (1) وهو حديث حسن. (*)

وهي داخلة أيضاً في قول الله تعالى: (وَتَعاونُوا على البِرّ والتَّقْوَى) ، [المائدة: 2] وهذا أحسن ما يُستدلّ به في التعزية. 446 - وثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْن أخيه ". واعلم أن التعزية مستحبّة قبل الدفن وبعده. قال أصحابنا: يدخل وقت التعزية من حين يموت، ويبقى إلى ثلاثة أيام بعد الدفن. والثلاثة على التقريب لا على التحديد، كذا قاله الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا. قال أصحابنا: ونكره التعزية بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المُصاب، والغالب سكون قلبه بعد الثلاثة، فلا يجدّد له الحزن، هكذا قاله الجماهير من أصحابنا. وقال أبو العباس ابن القاص من أصحابنا: لا بأس بالتعزية بعد الثلاثة، بل يبقى أبداً وإن طال الزمان، وحكى هذا أيضاً إمام الحرمين عن بعض أصحابنا، والمختار أنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا أو جماعة منهم، وهما إذا كان المعزِّي أو صاحب المصيبة غائباً حال الدفن، واتفق رجوعه بعد الثلاثة، قال أصحابنا: التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر، هذا إذا لم يرَ منهم جزعاً شديداً، فإن رآه قدّم التعزية ليسكِّنهم، والله تعالى أعلم. [فصل] : ويستحبّ أن يعمَّ بالتعزية جميعَ أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال والنساء، إلا أن تكون امرأةً شابّةً، فلا يعزّيها إلا محارمُها وقال أصحابنا: وتعزيةُ الصلحاء والضعفاء على احتمال المصيبة والصبيان آكد. [فصل] : قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يُكره الجلوس للتعزية (1) قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمعَ أهلُ الميت في بيت ليقصدَهم مَن أراد التعزية، بل ينبغي أن يَتَصرَّفوا في حوائجهم ولا فرقَ بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرَّحَ به المحاملي، ونقله عن نصّ الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهةُ تنزيه إذا لم يكن معها مُحدَثٌ آخر،

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قالوا: لأنه محدث، وهو بدعة، ولأنه جدد الحزن ويكلف المعزى، وما ثبت عن عائشة من أنه صلى الله عليه وسلم، لما جاءه خبر قتل زيدُ بنُ حارثةَ وجعفر وابن رواة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن "، فلا نسلم أن جلوسه كان لأجل أن الناس فيعزوه، فلم يثبت ما يعدل عليه. (*)

فإن ضُمَّ إليها أمرٌ آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة، كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات، فإنه مُحَدَث. 447 - وثبت في الحديث الصحيح: " إنَّ كلَّ مُحدَثٍ بِدْعة وكلّ بدعةٍ ضَلالة ". [فصل] : وأما لفظةُ التعزية، فلا حجرَ فيه، فبأيّ لفظ عزَّاه حصلت. واستحبَّ أصحابُنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم: أعْظَمَ اللَّهُ أجْرَكَ، وأحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَغَفَرَ لمَيِّتِكَ، وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرَك، وأحسن عزاءَك. وفي تعزية الكافر بالمسلم: أَحسن الله عزاءك، وغفر لميّتك. وفي الكافر بالكافر: أخلف الله عليك (1) . 448 - وأحسن ما يُعزَّى به، ما روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " أرسلتْ إحدى بنات النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أنّ صبياً لها أو ابناً في الموت، فقال للرسول: ارْجعْ إلَيْها فأخْبرْها أنَّ لِلَّهِ تَعالى ما أخَذَ، وَلَهُ ما أعْطَى، وكل شئ عِنْدَهُ بأجَلٍ مُسَمَّى، فمُرْها فَلْتَصْبرْ وَلْتَحْتَسبْ (2) ... " وذكر تمام الحديث. قلت: فهذا الحديث من أعظم قواعد الإِسلام، المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب والصبر على النوازل كلِّها، والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض، ومعنى: " إنَّ لِلَّهِ تَعالى ما أخذ "، أن العالم كله ملك لله تعالى، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية، ومعنى: " وله ما أعطى " أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، " وكل شئ عنده بأجلٍ مسمّى " فلا تجزعوا، فإن من قبضه قد انقضى أجَله المسمى فمُحال تأخره أو تقدمه عنه، فإذا علمتم هذا كله، فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم، والله أعلم. وروينا في كتاب النسائي بإسناد حسن، عن معاوية بن قرّة بن إياس، عن أبيه رضي الله عنه. 449 - " أن النبي صلى الله عليه وسلم فقدَ بعضَ أصحابه، فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله! بُنَيُّهُ الذي رأيته هلك، فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيّه، فأخبره أنه هلك فعزّاه عليه ثم قال:

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: أخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، وابن الزبير أنهما كانا يقولون في التعزية: أعقبك منه عقبى صالحة، كما أعقب عباده الصالحين، وسنده حسن. (2) أي: لتدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله تعالى. (*)

" يا فُلانُ! أيُّمَا كانَ أحَبَّ إلَيْكَ؟ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ أوْ لا تَأتِي غَداً باباً مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ إِلاَّ وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ؟ " قال: يا نبيّ الله، بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي أحبّ إليّ، قال: " فَذَلِكَ لَكَ " (1) . وروى البيهقي بإسناده في " مناقب الشافعي " رحمهما الله، أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجَزعَ عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً، فبعثَ إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي عزِّ نفسك بما تَعَزَّى به غيرُك، واستقبحْ من فعلك ما تستقبحُه من فعل غيرك، واعلم أن أمضَّ المصائب فقدُ سرورٍ، وحرمانُ أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتِساب وزر؟ فتناول حظَّكَ يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبَه وقد نأى عنك، ألهمك اللَّهُ عند المصائب صبراً، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجراً، وكتب إليه: إنّي مُعَزِّيكَ لا أني على ثِقَةٍ مِنَ الخُلُودِ وَلَكِنْ سُنَّةُ الدّينِ فَمَا المُعَزَّى بِباقٍ بَعْدَ مَيِّتِهِ وَلا المُعَزِّي وَلَوْ عاشا إلى حِينِ وكتبَ رجلٌ إلى بعض إخوانه يعزُّيه بابنه: أما بعد: فإنَّ الولدَ على والده ما عاش حُزْنٌ وفتنة، فإذا قدّمه فصلاة ورحمة، فلا تجزعْ على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيّع ما عوّضك الله عزّوجلّ من صلاته ورحمته. وقال موسى بن المهدي لإِبراهيم بن سالم وعزَّاه بابنه: أسَرَّك وهو بليّة وفتنة، وأحزنَك وهو صلوات ورحمة؟ !. وعزَّى رجل رجلاً فقال: عليك بتقوى الله والصبر، فبه يأخذ المحتسب، وإليه وإليه ": يرجع (2) الجازع. وعزّى رجل رجلاً فقال: إن من كان لك في الآخرة أجراً، خير ممّن كان لك في الدنيا سروراً. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه دفن ابناً له وضحك عند قبره، فقيل له:

_ (1) وهو حديث صحيح. رواته متفق على التخريج لهم في الصحيحين، قال الحافظ: وَعَجَبٌ من اختصار الشيخ على تحسين سنده. (2) أي إلى الصبر يرجع الجازعُ لطول المدّة، فيسلو كما تسلو البهائم، ويذهب سروره، وتنعدم على تلك المصيبة لجزعه أجوره. (*)

أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أنْ أُرْغِمَ أنف الشيطان (1) . وعن ابن جُرَيْجٍ رحمه الله قال: من لم يتعزّ عند مصيبته بالأجر والاحتساب، سَلاَ كما تَسْلُو البهائم. وعن حُميد الأعرج قال: رأيت سعيدَ بن جُبير رحمه الله يقول في ابنه ونظر إليه: إني لأعلم خير خلّة فيك، قيل: ما هي؟ قال: يموت فأحتسبه. وعن الحسن البصري رحمه الله، أن رجلاً جَزِع على ولده، وشكا ذلك إليه، فقال الحسن: كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فاتركه غائباً، فإنه لم يغبْ عنك، غيبة الأجْرُ لك فيها أعظم من هذه، فقال: يا أبا سعيد! هوَّنت عنّي وجْدي على ابني. وعن بشر بن عبد الله قال: قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بنيّ فقد كنت سارّاً مولودا، وبارا ناشئا، وما أحبّ أني دعوتك فأجبتني. وعن مسلمة قال: لما ماتَ عبدُ الملك بن عمر كشفَ أبوه عن وجهه وقال: رحمك الله يا بني، فقد سررت بك يوم بُشِّرْتُ بك، ولقد عمرتَ مسروراً بك، وما أتت عليّ ساعة أنا فيها أسرّ من ساعتي هذه، أما والله إن كنتَ لتدعو أباك إلى الجنة. قال أبو الحسن المدائني: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال: يا بني كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحقّ، قال: يا بنيّ لأن تكون في ميزاني أحَبَّ إِليَّ مِنْ أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبتِ لأن يكون ما تُحبُّ أحَبَّ إِليَّ مِنْ أن يكون ما أحب. وعن جُويرية بن أسماء عن عمّه أن إخوة ثلاثة شهدوا يوم تُسْتَرَ فاسْتشهدوا، فخرجتْ أُمُّهم يوما إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجلٌ حضرَ تُسْتَرَ، فعرفتْه، فسألته عن أمور بَنِيها، فقال: اسْتُشهدوا، فقالت: مُقبلين، أو مُدبرين، قال: مُقبلين، قالت: الحمد لله، نالوا الفوزَ، وحاطوا الذِّمار، بنفسي هم وأبي وأمي. قلت: الذِّمار بكسر الذال المعجمة، وهم أهل الرجال وغيرهم مما يحقّ عليه أن يحميه، وقولها: حاطوا: أي: حفظوا وراعوا.

_ (1) يقال: أرغم الله أنفه: أي ألصقه بالتراب، فهو كناية عن التحقير والاستقذار. (*)

ومات ابن الإِمام الشافعي رضي الله عنه فأنشدَ: وما الدّهرُ إِلاّ هكذا فاصْطبرْ لهُ * * رزِيَّةُ مالٍ أو فِراقُ حَبِيب قال أبو الحسن المدائني: مات الحسنُ والدُ عبيد الله بن الحسن، وعبيدُ الله يومئذ قاضي البصرة وأميرُها، فكثر من يعزّيه، فذكروا ما يتبيّنُ به جزعُ الرجل من صبره، فأجمعوا على أنه إذا ترك شيئاً كان يصنعه فقد جزع. قلت: والآثار في هذا الباب كثيرة، وإنما ذكرت هذه الأحرف لئلا يخلو هذا الكتاب من الإِشارة إلى طرف من ذلك، والله أعلم. [فصل] : في الإِشارة إلى بعض ما جرى من الطواعين في الإِسلام: والمقصود بذكره هنا التصبّر والتأسي بغيره، وأن مصيبة الإِنسان قليلة بالنسبة إلى ما جرى على غيره. قال أبو الحسن المدائني: " كانت الطواعين المشهورة العظام في الإِسلام خمسة: طاعون شيرويه (1) بالمدائن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ستّ من الهجرة، ثم طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، ثم طاعون في زمن ابن الزبير في شوّال سنة تسع وستين مات في ثلاثة أيام في كلّ يوم سبعون ألفاً، مات فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ابناً، وقيل: ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً، ثم طاعون الفتيات في شوّال سنة سبع وثمانين، ثم طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة في رجب، واشتدّ في رمضان، وكان يُحصى في سكة المِربد في كل يوم ألف جنازة، ثم خفّ في شوّال. وكان بالكوفة طاعون سنة خمسين، وفيه توفي المغيرة بن شعبة. هذا آخر كلام المدائني. وذكر ابن قُتيبة في كتابه " المعارف " عن الأصمعي في عدد الطواعين نحو هذا، وفيه زيادة ونقص. قال: وسمي طاعون الفتيات، لأنه بدأ في العذارى بالبصرة، وواسط، والشام، والكوفة، ويقال له: طاعون الأشراف، لِما مات فيه من الأشراف. قال: ولم يقع بالمدينة ولا مكة طاعون قطّ. وهذا الباب واسع، وفيما ذكرته تنبيهٌ على ما تركته، وقد ذكرتُ هذا الفصل أبسط من هذا في أوّل " شرح صحيح مسلم " رحمه الله، وبالله التوفيق.

_ (1) بكسر الشين المعجمة وإسكان الياء وضم الراء فواو ساكنة ثم ياء متوحة ثم هاء، ويجوز فيه فتح الراء والواو وإسكان الهاء، وعلى الأول أكثر المحدثين فرارا من لفظ " ويه ". (*)

باب جواز إعلام أصحاب الميت وقرابته بموته وكراهة النعي

(بابُ جَواز إعلامِ أصحاب الميّتِ وقرابتِه بموتِه وكراهةِ النَّعي) 450 - روينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه، عن حذيفة رضي الله عنه قال: إذا مِتُّ فلا تُؤذنوا (1) بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي (2) . قال الترمذي: حديث حسن. 451 - وروينا في كتاب الترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ، فإنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ ". وفي رواية عن عبد الله ولم يرفعه. قال الترمذي: هذا أصحّ من المرفوع، وضعَّف الترمذي الروايتين. 452 - وروينا في " الصحيحين " أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي إلى أصحابه. 453 - وروينا في " الصحيحين " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في ميت دفنوه بالليل ولم يعلم به: " أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ ". قال العلماء المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم: يُستحبّ إعلامُ أهل الميت وقرابته وأصدقائه لهذين الحديثين قالوا: النعيُ المنهي عنه إنما هو نعي الجاهلية، وكان من عادتهم إذا مات منهم شريفٌ بعثوا راكباً إلى القبائل يقول: نعايا فلان، أو يا نعايا العرب: أي: هلكت العرب بمهلك فلان، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء. وذكر صاحب " الحاوي " وجهين لأصحابنا في استحباب الإِيذان بالميت وإشاعة موته بالنداء والإِعلام، فاستحبّ ذلك بعضهُم للميت الغريب والقريب، لما فيه من كثرة المصلّين عليه والدّاعين له. وقال بعضُهم: يُستحبّ ذلك للغريب، ولا يُستحبّ لغيره. قلت: والمختار استحبابه مطلقاً إذا كان مجرّد إعلام. (بابُ ما يُقالُ في حَالِ غَسْلِ الميّتِ وتَكفِينه) يُستحبّ الإِكثار من ذكر الله تعالى والدعاء للميت في حال غسله وتكفينه. قال أصحابنا: وإذا رأى الغاسلُ من الميّت ما يُعجبه: من استنارة وجهه، وطيب ريحه، ونحو ذلك، استُحبَّ له أن يحدّثَ الناسَ بذلك، وإذا رأى ما يَكره: من سوادِ وجه، ونتن رائحته، وتغيّر عضو، وانقلاب صورة، ونحو ذلك، حرّم عليه أن يحدّث أحداً به. 454 - واحتجوا بما رويناه في سنن أبي داود، والترمذي، عن ابن عمر رضي الله

_ (1) من الإِيذان: وهو الإعلام. (2) وأما محض الأعلام بذلك فلا بأس به، والذي عليه الجمهور أن مطلق الإِعلام بالموت جائز. (*)

عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتاكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهِمْ " (1) ضعفه الترمذي. 455 - وروينا في " السنن الكبير " للبيهقي، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أرْبَعِينَ مَرَّةً ". ورواه الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " على " الصحيحين "، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم (2) ، ثم إن جماهير أصحابنا أطلقوا المسألة كما ذكرته. وقال أبو الخير اليمني صاحب " البيان " منهم: لو كان الميت مبتدعاً مظهراً للبدعة، ورأى الغاسلُ منه ما يكره، فالذي يقتضيه القياس أن يتحدّث به في الناس ليكونَ ذلك زجراً للناس عن البدعة. وهو حديث حسن بشواهده (باب الأذكار الصَّلاة على الميّت) اعلم أن الصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك غسله وتكفينه ودفنه، وهذا كلُّه مجمع عليه. وفيما يسقط به فرض الصلاة أربعة أوجه: أصحّها عند أكثر أصحابنا: يسقط بصلاة رجل واحد، والثاني: يُشترط اثنان، والثالث: ثلاثة، والرابع: أربعة: سواء صلُّوا جماعة أو فُرادى. وأما كيفية هذه الصلاة، فهي أن يكبرَ أربعَ تكبيرات ولا بُدَّ منها، فإن أخلَّ بواحدة، لم تصحّ صلاته، وإن زاد خامسة، ففي بطلان صلاته وجهان لأصحابنا، الأصحّ: لا تبطل (3) ، ولو كان مأموماً فكبَّر إمامُه خامسة، فإن قلنا: إن الخامسة تبطل الصلاة، فارقه المأموم، كما لو قام إلى ركعة خامسة، وإن قلنا بالأصحّ: أنها لا تبطل، لم يفارقه، ولم يتابعه على الصحيح المشهور، وفيه وجه ضعيف لبعض أصحابنا، أنه يتابعه، فإذا قلنا بالمذهب الصحيح: أنه لا يتابعه، فهل ينتظره ليسلّم معه، أم يسلّم في الحال؟ فيه وجهان، الأصحّ: ينتظره، وقد أوضحتُ هذا كلَّه بشرحه ودلائله في " شرح المهذّب ". ويستحبّ أن يرفعَ اليد مع كل تكبيرة (4) . وأما صفة التكبير وما يستحبّ فيه، وما يبطله، وغير ذلك من فروعه، فعلى ما قدمته في " باب صفة الصلاة " وأذكارها. وأما الأذكارُ التي تُقال في صلاة الجنازة بين التكبيرات، فيقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة، وبعد الثانية يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الثالثة: يدعو للميت، والواجب منه ما

_ (1) وهو حديث حسن بشواهد. (2) بل هو حديث حسن كما قال في " الأذكار ". (3) وقد ثبت ذلك في " صحيح مسلم ". (4) وقد قاسه الشافية على الصلوات الخمس. (*)

يقع عليه اسم الدعاء، وأما الرابعة، فلا يجب بعدها ذكر أصلاً، ولكن يُستحبّ ما سأذكره إن شاء الله تعالى. واختلف أصحابنا في استحباب التعوّذ، ودعاء الافتتاح عُقيب التكبيرة الأولى قبل الفاتحة، وفي قراءة السورة بعد الفاتحة على ثلاثة أوجه. أحدُها: يستحبّ الجميع، والثاني: لا يُستحبّ، والثالث وهو الأصحّ: أنه يُستحبّ التعوّذ دون الافتتاح والسورة. واتفقوا على أنه يُستحبّ التأمين عقيب الفاتحة. 456 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما، نه صلى على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنّة. وقوله: سنّة، في معنى قول الصحابي: من السّة كذا وكذا. جاء في " سنن أبي داود " قال: إنها من السنّة، فيكون مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرّر وعُرف في كتب الحديث والأصول. قال أصحابنا: والسنّة في قراءتها الإِسرار دون الجهر، سواء صُلِّيت ليلاً أو نهاراً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي قاله جماهير أصحابنا. وقال جماعة منهم: إن كانت الصلاة في النهار أسرّ، وإن كانت في الليل جهر. وأما التكبيرة الثانية، فأقلّ الواجب عقيبها أن يقول: اللَّهُمَّ صَلّ على مُحَمَّدٍ. ويُستحبّ أن يقول: وعلى آلِ مُحَمَّدٍ، ولا يجب ذلك عند جماهير أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: يجب، وهو شاذّ ضعيف، ويُستحبّ أن يدعوَ فيها للمؤمنين والمؤمنات إن اتسع الوقت له، نصّ عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، ونقل المزني (1) عن الشافعي، أنه يُستحبّ أيضاً أن يحمد الله عزّ وجل، وقال باستحبابه جماعة من الأصحاب، وأنكره جمهورهم، فإذا قلنا باستحبابه، بدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، فلو خالف هذا الترتيب، جاز، وكان تاركاً للأفضل. وجاءت أحاديث بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم 457 - رويناها في " سنن البيهقي "، ولكني قصدتُ اقتصار هذا الباب، إذ موضعُ بسطه كتب الفقه، وقد أو ضحته في " شرح المهذب. "

_ (1) قال الحافظ العسقلاني في مؤلفه في فضل الشافعي: المزني أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن عمرو بن إسحاق. ولد سنة خمس وسبعين ومائة، ولزم الشافعي لمَّا قدم مصر، وصنّف المبسوط والمختصر من علم الشافعي، واشتهر في الآفاق، وكان آية في الحِجاج والمناظرة، عابداً عاملاً متواضعاً غوّاصاً على المعاني. مات في شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، اهـ. (*)

وأما التكبيرة الثالثة، فيجب فيها الدعاء للميت، وأقلُّه ما ينطلق عليه الاسم، كقولك: رحمه الله، أو غفر الله له، أو اللهمَّ اغفرْ له، أو ارحمه، أو الطفْ به، ونحو ذلك. وأما المستحبّ فجاءت فيه أحاديث وآثار. 458 - فأما الأحاديث، فأصحّها ما رويناه في " صحيح مسلم " عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وأكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بالمَاءِ والثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ منَ الخَطايا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأهْلاً خَيْراً مِنْ أهْلِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ أو مِنْ عَذَابِ النَّارِ " حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وفي رواية لمسلم: " وَقِهِ فتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ ". 459 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والبيهقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى على جنازة، فقال: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرنا، وَذَكَرِنا وأُنْثانا، وشَاهِدِنا وغائِبِنا، اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَه مِنَّا فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ على الإِيمان، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ". قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم (1) ". ورويناه في " سنن البيهقي " وغيره، من رواية أبي قتادة: وروينا [هـ] في كتاب الترمذي، من رواية أبي إبراهيم الأشهلي (2) عن أبيه، وأبوه صحابي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - أصحُّ الروايات في حديث: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا "، رواية أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه. قال البخاري: وأصحُّ شئ في الباب، حديث عوف بن مالك. ووقع من رواية أبي داود: " فأحْيِهِ على الإِيمَانِ، وَتَفَّهُ على الإِسْلامِ ". والمشهور في معظم كتب الحديث، " فأحْيِهِ على الإِسْلامِ، وَتَوَفَّهُ على الإِيمَانِ " كما قدّمناه.

_ (1) وهو حديث صحيح، صححه الحاكم ووافقه الذهبي ولكن على شرط مسلم دون شرط البخاري كما قال الحافظ في تخريج الأذكار. (2) أبو إبراهيم الأشهلي مجهول، ولكن الحديث حسن بشواهده. (*)

460 - وروينا في سنن أبي داود، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إذا صَلَّيْتُمْ على المَيِّتِ فأخْلِصُوا لَهُ الدُّعاءَ " (1) . 461 - وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة: " اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّهَا، وأنْتَ خَلَقْتَها، وأنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلام، وأنْتَ قَبَضْتَ رُوحَها، وأنْتَ أعْلَمُ بِسِرّها وَعَلانِيَتِهَا، جِئْنا شُفَعاءَ فاغْفِرْ لَهُ " (2) . 462 - وروينا في سنن أبي داود، وابن ماجه، عن واثلةَ بن الأسقع رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: " اللَّهُمَّ إنَّ فُلانَ بن فُلانَة فِي ذِمَّتِكَ وحبل جوارك، فَقِهِ فِتْنَةَ القَبْر وَعَذَاب النَّارِ، وأنْتَ أهْلُ الوَفاءِ وَالحَمْدِ فاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ " (3) . واختار الإِمام الشافعي رحمه الله دعاءً التقطه من مجموع هذه الأحاديث وغيرها (4) فقال: يقول: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ، خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيا وسعتها، ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ ومَا هُوَ لاقيهِ، كانَ يَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وأنْتَ أعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إنَّهُ نَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ به، وأصْبَحَ فَقيراً إلى رَحْمَتِكَ، وأنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ رَاغِبِينَ إليك، شُفَعَاءَ لَهُ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ في إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَتَجاوَزْ عنه، وآته بِرَحْمَتِكَ رِضَاكَ، وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَهُ، وَافْسحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَجافِ الأرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ مِنْ عَذَابِكَ حتَّى تَبْعَثَهُ إلى جَنَّتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، هذا نصّ الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله. قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه فقال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُما فَرَطاً، واجْعَلْهُ لَهُما سَلَفاً، واجْعَلْهُ لَهُما ذُخْراً (5) ، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُما، وأفرغ الصبر على

_ (1) ورواه أيضا ابن حبّان وغيره، وهو حديث حسن. (2) وأخرجه الطبراني في دعاء، وهو حديث حسن كما قال الحافط في تخرج الأذكار. (3) وهو حديث حسن. (4) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: أكثره من غيره، وبعضه موقوف على صحابي أو تابعي، وبعضه ما رأيته منقولا. (5) رو البخاري تعليقا 3 / 163 في الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة فقال: وقال الحسن: يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا، قال الحافظ في الفتح: وصله = (*)

قُلوبِهِما، وَلا تَفْتِنْهُما بَعْدَهُ، وَلا تَحْرِمْهُما أجْرَهُ ". هذا لفظ ما ذكره أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا في كتابه " الكافي "، وقاله الباقون بمعناه، وبنحوه قالوا: ويقول معه: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا ... " إلى آخره. قال الزبيري: فإن كانتْ امرأةً قال: " اللَّهُمَّ هَذِهِ أَمَتُكَ "، ثم يُنَسِّقُ الكلام، والله أعلم. وأما التكبيرة الرابعة، فلا يجبُ بعدها ذكْرٌ بالاتفاق، ولكن يُستحبّ أن يقول ما نصّ عليه الشافعي رحمه الله في كتاب البويطي، قال: يقول في الرابعة: اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنا أجْرَهُ وَلا تَفْتِنّا بَعْدَهُ. قال أبو عليّ بن أبي هريرة من أصحابنا: كان المتقدمون يقولون في الرابعة: (رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) . قال: وليس ذلك بمحكيّ عن الشافعي، فإن فعله كان حسناً. قلت: يكفي في حسنه ما قد قدّمناه في حديث أنس في باب دعاء الكرب، والله أعلم. 463 - قلتُ: ويُحتجّ للدعاء في الرابعة بما روينا في " السنن الكبرى " للبيهقي، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أنه كبّر على جنازة ابنه له أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا (1) ". وفي رواية: كبَّرَ أربعاً فمكثَ ساعةً حتى ظننا أنه سيكبّر خمساً ثم سلَّم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصنعُ، أو هكذا صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح (2) . [فصل] : وإذا فرغَ من التكبيرات وأذكارها، سلَّمَ تسليمتين كسائر الصلوات، لما ذكرناه من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وحكم السلام على ما ذكرناه في التسليم في

_ = عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يُكَبِّر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفا، وفرطا، وأجرا. (1) ولذلك يستحب طويل الدعاء بعد التكبيرة الرابعة لثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم. انظر البيهقي 4 / 35. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ بعد تخريجه: حديث غريب أخرجه ابن المنذر والطحاوي والحاكم والبيهقي، قال الحاكم: إنه حديث صحيح، قال الحافظ: وليس كما قال، فإن ومداره على إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف عند جميع الأئمة لم نجد فيه توثيقا لأحد إلا قول الأزدي: صدوق، والأزدي ضعيف، واعتذر الحاكم بعد تخريجه بقوله: لم ينقم عليه بحجه، وهذا لا يكفي في التصحيح. (*)

باب ما يقوله الماشي مع الجنازة

سائر الصلوات، هذا هو المذهب الصحيح المختار، ولنا فيه هنا خلاف ضعيف تركته لعدم الحاجة إليه في هذا الكتاب. ولو جاء مسبوقٌ فأدرك الإِمامَ في بعض الصلاة، أحرمَ معه في الحال، وقرأ الفاتحة ثم ما بعدها على ترتيب نفسه، ولا يُوافق الإِمام فيما يقرؤه، فإن كبَّرَ، ثم كبَّرَ الإِمامُ التكبيرة الأخرى قبل أن يتمكن المأموم من الذكر، سقطَ عنه كما تسقط القراءةُ عن المسبوق في سائر الصلوات، وإذا سلَّمَ الإِمامُ وقد بقي على المسبوق في الجنازة بعضُ التكبيرات، لزمه أن يأتي بها مع أذكارها على الترتيب، هذا هو المذهبُ الصحيح المشهور عندنا. ولنا قولٌ ضعيفٌ إنه يأتي بالتكبيرات الباقيات متواليات بغير ذكر، والله أعلم. (بابُ ما يقولُه الماشي مع الجَنَازة) يُستحبّ له أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى، والفكر فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيرُه، وحاصلُ ما كان فيه، وأن هذا آخرُ الدنيا ومصيرُ أهلها، وليحذرْ كلَّ الحذرِ من الحديث بما لا فائدةَ فيه، فإن هذا وقتُ فِكر وذكر تقبحُ فيه الغفلةُ واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلامَ بما لا فائدة فيه منهيٌّ عنه في جميع الأحوال، فكيف هذا الحال. واعلم أن الصوابَ المختارَ ما كان عليه السلفُ رضي الله عنهم: السكوتُ في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتا بقراءة، ولا ذكر، ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكنُ لخاطره، وأجمعُ لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوبُ في هذا الحال، فهذا هو الحقّ، ولا تغترّنّ بكثرة من يُخالفه، فقد قال أبو عليّ الفُضيل بن عِياض رضي الله عنه ما معناه: الزمْ طرقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قلّةُ السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين. 464 - وقد روينا في " سنن البيهقي " ما يقتضي ما قلته " (1) . وأما ما يفعله الجهلةُ من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحت قبحه، وغلظ تحريمه، وفسق من تمكّن من إنكاره، فلم ينكره في كتاب " آداب القرّاء " والله المستعان، وبه النوفيق.

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال في " الخلاصة " - يعني المصنف - عن قيس بن عبادة: كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَكرهون رفع صوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر، قال الحافظ بعد تخريجه: هذا حديث موقوف صحيح أخرجه أبو داود والحاكم. (*)

باب ما يقوله من مرت به جنازة أو رآها

(بابُ ما يقولُه مَنْ مرَّتْ به جنازة أو رآها) يُستحبّ أن يقول: سُبْحانَ الحَيِّ الَّذي لاَ يَمُوتُ. وقال القاضي الإمام أبو المحاسن الروياني من أصحابنا في كتابه " البحر ": يُستحبّ أن يدعوَ ويقول: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَيّ الَّذي لاَ يَمُوتُ، فيستحبّ أن يدعوَ لها ويثني عليها بالخير إن كانت أهلاً للثناء، ولا يُجازف في ثنائه. (بابُ ما يقولُه مَن يُدْخِلْ الميّتَ قبرَه) 465 - روينا في سنن أبي داود، والترمذي، والبيهقي، وغيرها، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قالَ: " بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلى سُنَّة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ". قال الترمذي: حديث حسن. قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: يُستحبّ أن يدعو للميت مع هذا. ومن حسن الدعاء، ما نصّ عليه الشافعي رحمه الله في مختصر المزني قال: يقول الذين يدخلونه القبر: اللَّهُمَّ أسْلَمَهُ إلَيْكَ الأشحاء مِنْ أهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَقَرابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ، وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيا وَالحَياةِ إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَلَ بِكَ وأنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، إنْ عاقَبْتَهُ فَبِذَنْبٍ، وإنْ عَفَوتَ عَنْهُ فأنْتَ أهْلُ العَفْوِ، أنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ إلى رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَتَهُ، وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وأعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الأمْنَ منْ عَذَابِكَ، واكْفِهِ كل هَوْلٍ دُونَ الجَنَّةِ، اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الغابِرِينَ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَعْدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ". (بابُ ما يقولُه بعدَ الدَّفْن) 466 - السنّة لمن كان على القبر أن يحثي في القبر ثلاث حثيات بيديه جميعاً من قِبل رأسه. قال جماعة من أصحابنا: يُستحبّ أن يقول في الحثية الأولى: (مِنْها خَلَقْناكُم) وفي الثانية: (وفِيها نُعِيدُكُمْ) وفي الثالثة: (وَمِنْها نُخرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى) [طه: 56] ويُستحبّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعة قدر ما يُنحر جزور ويُقسم لحمُها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأخبار الصالحين. 467 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: " كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقعدَ وقعدنا حولَه ومعه مِخصَرَة " (1) ،

_ (1) وهو ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا أو عكازة أو مِقرعة أو قضيت، وقد يتكئ عليه. (*)

فنكسَ، وجعلَ ينكتُ (1) بمخصرته، ثم قال: ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، فقالوا: يارسول الله أفلا نتكلُ على كتابنا؟ فقال: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ... " وذكر تمام الحديث. 468 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنسَ بكم، وأنظرَ ماذا أراجعُ به رسلَ ربي. 469 - وروينا في " سنن أبي داود " والبيهقي بإسناد حسن، عن عثمان رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغَ من دفن الميت، وقفَ عليه فقال: " اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وسألوا الله لَهُ التَّثْبِيتَ فإنَّهُ الآنَ يُسْألُ ". قال الشافعي والأصحاب: يُستحبّ أن يقرؤوا عنده شيئاً من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كلَّه كان حسناً. 470 - وروينا في " سنن البيهقي " بإسناد حسن، أن ابن عمر استحبَّ أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها. [فصل] : وأما تلقينُ الميّت بعد الدفن، فقد قال جماعة كثيرون من أصحابنا باستحبابه، وممّن نصَّ على استحبابه: القاضي حسين في تعليقه، وصاحبه أبو سعد المتولي في كتابه " التتمة "، والشيخ الإِمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، والإِمام أبو القاسم الرافعي وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن الأصحاب. وأما لفظه فقال الشيخ نصر: إذا فرغ من دفنه يقف عند رأسه ويقول: يا فلان بن فلان، اذكر العهد الذي خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن الله ببعث مَن في القبور، قل رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إماماً، وبالمسلمين إخواناً، ربّي الله، لا إِلهَ إِلا هو، وهو رَبّ العَرْشِ العَظِيمِ، هذا لفظ الشيخ نصر المقدسي في كتابه " التهذيب "، ولفظ الباقين بنحوه، وفي لفظ بعضهم نقص عنه، ثم منهم مَن يقول: يا عبد الله ابن أمة الله، ومنهم مَن يقول: يا عبد الله بن حوّاء، ومنهم من يقول: يا فلان - باسمه - ابن أمة الله، أو يا فلان بن حوّاء، وكله بمعنى.

_ (1) وفي نسخة: ينكت في الأرض، في الصحاح: ينكت في الأرض بقضيب: أي يضرب ليؤثر فيها. وفي النهاية: ينكت الأرض بقضيب: هو أن يؤثر فيها بطرفه، فعل المفكر المهموم. (*)

باب وصية الميت أن يصلي عليه إنسان بعينه، أو أن يدفن على صفة مخصوصة وفي موضع مخصوص، وكذلك الكفن وغيره من أموره التي تفعل والتي لا تفعل

وسئل الشيخ الإِمام أبو عمر بن الصلاح رحمه الله عن هذا التلقين، فقال في فتاويه: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به، وذكره جماعة من أصحابنا الخراسانيين قال: 471 - وقد روينا فيه حديثاً من حديث أبي أمامة ليس بالقائم إسناده " (1) ، قال الحافظ بعد تخريجه: هذا حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً. قال: وأما تلقين الطفل الرضيع، فما له مُستند يُعتمد، ولا نراه، والله أعلم. قلتُ: الصواب: أنه لا يلقن الصغير مطلقاً، سواء كان رضيعاً أو أكبر منه ما لم يبلغ ويصير مكلفاً، والله أعلم. (بابُ وصيّةِ الميّتِ أنّ يُصلِّيَ عليه إنسانٌ بعينه، أو أن يُدفن على صفةٍ مخصوصةٍ وفي مَوْضعٍ مَخصوص، وكذلك الكفنُ وغيرُه من أمورِه التي تُفعل والتي لا تُفعل) 472 - روينا في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه يعني: وهو مريض، فقال: في كم كفّنتم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: في ثلاثة أثواب، قال: في أيّ يوم تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه، به رَدْع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفِّنوني فيها، قلت: إن هذا خَلَق، قال: إن الحيّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوفّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء. ودُفن قَبْلَ أنْ يُصبحَ. قلت: قولها رَدْع، بفتح الراء وإسكان الدال وبالعين المهملات: وهو الأثر. وقوله للمهلة، روي بضم الميم وفتحها وكسرها ثلاث لغات، والهاء ساكنة: وهو الصديد الذي يتحلّل من بدن الميت. 473 - وروينا في " صحيح البخاري " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما جُرِحَ: إذا أنا قُبِضتُ فاحملوني، وقولوا: يستأذنُ عمر، فإن أذنتْ لي - يعني عائشةَ - فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المُسْلِمِينَ. 474 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: قال سعد: الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبنَ نصباً كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. وروينا في " صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال وهو في سياقة الموت: إذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنّوا عليَّ التراب شنا،

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ بعد تخريج حديث أبي أمامة: هذا حديث غريب وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً. (*)

باب ما ينفع الميت من قول غيره

ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. قلت: قوله: شنوا، روي بالسين المهملة وبالمعجمة، ومعناه: صبّوه قليلاً قليلاً. وروينا في هذا المعنى حديث حذيفة المتقدم في " باب إعلام أصحاب الميت بموته "، وغير ذلك من الأحاديث، وفيما ذكرناه كفاية وبالله التوفيق. قلت: وينبغي أن لا يقلد الميتُ ويتابع في كلّ ما وصَّى به، بل يُعرض ذلك على أهل العلم، فما أباحوه فعل، وما لا فلا. وأنا أذكر من ذلك أمثلة، فإذا أوصى بأن يدفن في موضع من مقابر بلدته، وذلك الموضع معدن الأخيار، فينبغي أن يُحافظ على وصيته، وإذا أوصى بأن يُصلِّي عليه أجنبي، فهل يُقَدَّم في الصلاة على أقارب الميت؟ فيه خلاف للعلماء، والصحيح في مذهبنا: أن القريب أولى، لكن إن كان الموصَى له ممّن يُنسب إلى الصلاح أو البراعة في العلم مع الصيانة والذكر الحسن، استحبّ للقريب الذي ليس هو في مثل حاله إيثار رعاية لحقّ الميت، وإذا أوصى بأن يُدفن في تابوت، لم تنفذ وصيته إلا أن تكون الأرض رخوة أو نديّة يحتاج فيها إليه، فتُنفذ وصيّته فيه، ويكون من رأس المال كالكفن. وإذا أوصى بأن يُنقل إلى بلد آخر، لا تنفّذ وصيّته، فإن النقلّ حرامٌ على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون، وصرّح به المحققون، وقيل: مكروه. قال الشافعي رحمه الله: إلا أن يكون بقرب مكة، أو المدينة، أو بيت المقدس، فيُنقل إليها لبركتها. وإذا أوصى بأن يُدفَن تحته مِضربة، أو مخدة تحتَ رأسه، أو نحو ذلك، لم تُنفذ وصيّته. وكذا إذا أوصى بأن يُكفَّن في حرير، فإن تكفينَ الرجال في الحرير حرام، وتكفينُ النساء فيه مكروهٌ، وليس بحرام، والخنثى في هذا كالرجل. ولو أوصى بأن يُكَفَّن فيما زاد على عدد الكفن المشروع، أو في ثوب لا يَستر البدن لا تنفذ وصيّته. ولو أوصى بأن يُقرأ عند قبره، أو يُتصدّق عنه، وغير ذلك من أنواع القرب، نفذت وصية إلا أن يقترن بها ما يمنع الشرع منها بسببه. ولو أوصى بأن تُؤَخَّرَ جنازته زائداً على المشروع، لم تنفذ. ولو أوصى بأن يُبنى عليه في مقبرة مسبَّلة للمسلمين، لم تنفّذ وصيته، بل ذلك حرام. (بابُ ما ينفعُ الميّتَ من قَوْل غيره) أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم، ويَصلُهم ثوابه. واحتجوا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الَّذين سَبَقُونا

باب النهي عن سب الأموات

بالإِيمَانِ) [الحشر: 10] وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها، وفي الأحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: 475 - " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ "، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لحينا وميتنا " وغير ذلك. واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة، أنه لا يَصل. وذهب أحمدُ بن حنبل وجماعةٌ من العلماء، وجماعة من أصحاب الشافعي، إلى أنه يصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهمّ أوصلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان، والله أعلم. ويُستحبّ الثناء على الميت وذكر محاسنه. 476 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، قال: مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " وَجَبَتْ "، ثم مرّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرّاً، فقال: " وَجَبَتْ "، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: " هَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرَاً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرّاً فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّه في الأرْضِ ". 477 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي الأسود، قال: قدمتُ المدينةَ، فجلستُ إلى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فمرّتْ بهم جنازة، فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بأخرى، فأُثني على صاحبها خيرٌ، فقال عمر: وجبتْ، ثم مُرّ بالثالثة، فأُثني على صاحبها شرٌّ، فقالَ عمرُ: وجبتْ، قال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أميرَ المؤمنين؟ قال: قلتُ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ "، فقلنا: وثلاثة؟ قال: " وَثَلاَثَةٌ "، فقلنا: واثنان: قال: " وَاثْنانِ "، ثم لم نسأله عن الواحد، والأحاديث بنحو ما ذكرنا كثيرة، والله أعلم. (بابُ النّهي عن سبِّ الأمْوَات) 478 - روينا في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ فإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا ". 479 - وروينا في " سنن أبي داود " والترمذي بإسناد ضعيف ضعَّفه الترمذي (1) عن

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: لم أر في شئ من نسخ الترمذي تصريح الترمذي بتضعفه، وإنما استغربه، ونقل عن البخاري أن بعض رواته منكر الحديث، وقد سكت عَلَيْهِ أبو داود، وصححه ابن حبّان وغيره، فهو من شرط الحسن. (*)

ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذْكُرُوا مَحاسنَ مَوْتاكُمْ، وكُفُّوا عَنْ مَساوِيهمْ " (1) . قلت: قال العلماء: يَحرم سبُّ الميت المسلمَ الذي ليس معلناً بفسقه. وأما الكافرُ، والمُعلِنُ بفسقه من المسلمين، ففيه خلاف للسلف، وجاءت فيه نصوص متقابلة، وحاصلُه: أنه ثبت في النهي عن سبّ الأموات ما ذكرناهُ في هذا الباب. وجاء في الترخيص في سبّ الأشرار أشياء كثيرة، منها: ما قصَّه اللَّهُ علينا في كتابه العزيز، وأمرنا بتلاوته، وإشاعة قراءته، ومنها: أحاديثُ كثيرة في الصحيح. 480 - كالحديث الذي ذكر فيه صلى الله عليه وسلم عمروَ بن لحي (2) . 481 - قال المصنف رحمه الله: وقصة أبي رِغال الذي كان يسرق الحاج بمحجنه. (3) . قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار ": قال الحافظ ابن حجر: كذا وقع في عدة نخ من الأذكار، ولم أر في شئ من روايات ووصف أبي رغال بذلك، ولعلها كانت: والذي، فسقطت واو العطف، فأما قصة أبي رغال - وهو بكسر الراء وتخفيف العين المعجمة وآخره لام - فأخرجه أحمد عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من كان تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا مان في الحرم، فلما، خرج منه أصابه ما أصاب قومه، قالوا: من هو رسول الله؟ قال: أبو رغال ". وأما قصة الذي يسرق الحاج بمحجنه، فأخرجها كسلم من حديث جابر في صلاة الكسوف ولفظه: " حتي رأيت فيها صاحب المحجن كان يسرق الحاج بمحجنة، فإذا فطن له قال: إنما تعلق بمحجني وإذا غفل عنه ذهب به ". 482 - وقصة ابن جُدْعان (4) وغيرهم، ومنها الحديث الصحيح الذي قدّمناه لما

_ (1) وهو حديث حسن بشواهده. (2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمروَ بن لحيّ بن قمعة بن خندف بن أبا كعب وهو يجر قصبه في النار " هذه رواية مسلم، ورواه البخاري مختصرا. (3) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: أخرج الحافظ من طريق جابر رضي الله عنه قال: لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، وكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من كان تحت السماء إلا رجلا واحدا كان بالحرم فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه، قالوا: من هو رسول الله؟ قال: أبو رغال، وقال ابن علان: قال الحافظ بعد تخرجه: هذا حديث حسن غريب أخرجه الحاكم وابن حبّان. (4) ابن جُدْعان، هو بضم الجيم، وإسكان الدال وبالعين المهملتين، واسمه عبد الله، وكان كثير الإِطعام، = (*)

باب ما يقوله زائر القبور

مرّت جنازة فأثنوا عليها شرّاً، فلم ينكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قال: وجبتْ. واختلف العلماءُ في الجمع بين هذه النصوص على أقوال: أصحُّها وأظهرُها: أن أمواتَ الكفار يجوز ذكر مساويهم، وأما أمواتُ المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما، فيجوز ذكرُهم بذلك إذا كان فيه مصلحة، لحاجة إليه للتحذير من حالهم، والتنفير من قبول ما قالوه، والاقتداء بهم فيما فعلوه، وإن لم تكن حاجة لم يجزْ، وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ هذه النصوص، وقد أجمعَ العلماءُ على جرح المجروح من الرواة، والله أعلم. (بابُ ما يقولُه زائرُ القبور) 483 - روينا في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّمَا كان ليلتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجُ من آخر الليل إلى البقيع فيقول: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَأتاكُمْ ما تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلُونَ، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ ". وروينا في " صحيح مسلم " عن عائشة أيضاً، أنها قالت: كيف أقولُ يا رسولَ الله؟ - تعني في زيارة القبور - قال: قُولي: " السَّلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنَ المُؤْمنينَ وَالمُسْلمينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَمِنَّا وَالمُسْتأخِرِين، وَإنَّا إنْ شاءَ اللَّه بِكُمْ لاحِقُونَ ". 484 - ورَوينا بالأسانيد الصحيحة (1) في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هُريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: " السَّلامُ عَلَيكُم دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكم لاحقون " (2) .

_ (1) = وكان اتخذ للضيفان جفنة يرقى إليها بسلم، وكان من بني تيم بن مرّة من أقرباء عائشة رضي الله عنها، إذ هو ابن عمّ أبي قحافة والد الصديق، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية. وفي الصحيح عن عائشة قالت: قلت: يارسول الله إن ابن جُدْعَان كان في الجاهلية يَصل الرحم، ويُطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا إنه لم يقلْ يوماً: ربِّ اغفرْ لي خطيئتي يومَ الدين، رواه مسلم، قال الحافظ: وسُمِّي في طريق أخرى عند أحمد أيضاً عن عائشة قالت: (يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان ... فذكره) وزاد: (يقري الضيف، ويفكّ العاني، ويحسن الجوار) وزاد فيه أبو يعلى من هذا الوجه (ويكفّ الأذى فأثيب عليه) اهـ. (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: في هذا ما يوهم أن للحديث طرقا إلى أبي هريرة، وليس كذلك، إنما هو إفراد العلاء عن أبيه - هو عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة، وكلهم مدارهم على العلاء بن عبد الرحمن، نعم له طريق أخرى عند ابن السني مَنْ رواية الأعرج عن أبي هريرة. (2) وهو حديث صحيح، قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: وأخرجه مسلم أيضاً من جملة حديث طويل، قال وعجب للشيخ - يعني النووي - كيف أغفل نسبة لمسلم قال: وأظن السبب أنه لم يخرجه في الجائز لأبي داود، بل أخرجه في الطهارة، لكن النسائي أخرجه أيضا في الطهارة. (*)

باب نهي الزائر من رآه يبكي جزعا عند قبر، وأمره إياه بالصبر ونهيه أيضا عن غير ذلك مما نهى الشرع عنه

485 - وروينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبلَ عليهم بوجهه فقال: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أنْتُمْ سَلَفُنا وَنَحْنُ بالأثَرِ ". قال الترمذي: حديث حسن. 486 - وروينا في " صحيح مسلم " عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الدّيارِ مِنَ المؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ، أسألُ اللَّهُ لَنَا ولَكُمُ العافيَةَ ". ورويناه في كتاب النسائي، وابن ماجه هكذا، وزاد بعد قوله: للاحقون: " أنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ ". 487 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى البقيعَ فقال: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ دار قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أنْتُمْ لَنا فَرَطٌ، وإنَّا بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهُمْ، وَلا تُضِلَّنا بَعْدَهُمْ " (1) . ويُستحب للزائر الإِكثار من قراءة القرآن والذكر، والدعاء لأهل تلك المقبرة وسائر الموتى والمسلمين أجمعين. ويُستحبّ الإِكثار من الزيارة، وأن يكثرَ الوقوفَ عند قبور أهل الخير والفضل. (بابُ نهي الزائر مَنْ رآه يبكي جزعاً عند قبر، وأمرِه إِيَّاه بالصبرِ ونهيِهِ أيضاً عن غير ذلك مما نهى الشرعُ عنه) 488 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، قال: مرّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: " اتَّقي اللَّهَ وَاصْبِرِي ". 489 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، بإسناد حسن، عن بَشير بن معبد المعروف بابن الخَصَاصِيَة رضي الله عنه، قال: بينما أنا أُماشي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، نظرَ فإذا رجلٌ يمشي بين القبور عليه نعلان، فقال: " يا صاحب السبيتيتين ألْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ ... " وذكر تمام الحديث (2) .

_ (1) وهو حديث حسن، قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافط بعد تخريجه: هذا حديث حسن، أخرجه أحمد، وابن ماجه، أي في طريق من الحديث السابق قبله، فكان عزوه إليه أولى - يعني ابن ماجه - وبالله التوفيق، لكن ابن ماجه في آخره: نسأل الله لنا ولكم العافية قال الحافظ: وبه يتبين وجه اقتصار الشيخ - يعني النووي - على العزر لابن السني. (2) قال ابن علان في شرح الأذكار: زاد أبو داود: فنظر الرجل، فلما النبي صل الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما، قال (*)

كتاب الأذكار في صلوات مخصوصة

قلت: السِّبتية: النعل الذي لا شعرَ عليها، وهي بكسر السين المهملة وإسكان الباء الموحدة، وقد أجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودلائله في الكتاب والسنّة مشهورة والله أعلم. (بابُ البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم وإظهار الافتقار إلى الله تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك) 490 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عمرَ رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحِجْرَ ديارَ ثمود -: " لا تَدْخُلُوا على هَؤُلاءِ المُعَذَّبينَ إِلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ. فإنْ لَمْ تَكُونُوا باكينَ، فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لا يُصيبُكُم ما أصَابَهُمْ " (1) . كتاب الأذكار في صلوات مخصوصة (بابُ الأذكارِ المستحبّةِ يومَ الجمعة وليلتها والدُّعاء) يُستحبّ أن يُكْثرَ في يومها وليلتها من قراءة القرآن والأذكار والدعوات، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرأ (سورة الكهف) في يومها. قال الشافعي رحمه الله في كتاب " الأُم ": وأستحبُّ قراءتَها في ليلة الجمعة. 491 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرَ يومَ الجمعة فقال: " فيهِ ساعَةٌ لا يُوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسألُ اللَّهَ تَعالى شَيْئاً إِلاَّ أعْطاهُ إيَّاهُ " وأشار بيده يقللها. قلت: اختلفَ العلماءُ من السلف والخلف في هذه الساعة، على أقوال كثيرة

_ المصنف في " المجموع ": المشهور من مذهبنا أنه لا يُكره المشي بين المقابر بالنعلين ونحوهما، فممن صرح بذلك الخطابي والعبدري وآخرون: ونقله العبدري عن أكثر العلماء، وقال أحمد: يُكره. قال: واحتجّ أصحابنا بحديث أنس مرفوعاً: إنَّ العَبْد إذَا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه يسمع قَرْعَ نعالهم، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وأجابوا عن حديث ابن الخصاصية بوجهين: أحدهما وبه أجاب الخطابي: أنه يشبه أنه كرهما لمعنى فيهما، لأن النعال السبتية نعال أهل الرفاهية والتنعم، فنهي عنها لما فيها من الخيلاء، والثاني: لعلّ كان فيها نجاسة، وبهذا يُجمع بين الحديثين. (1) ورواه مسلم رقم (2980) في الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إِلاَّ أنْ تَكُونُوا باكين، واللفظ لمسلم، ورواه أيضاً أحمد وغيره، وقد أغفل الإمام النووي رواية مسلم. (*)

منتشرة غاية الانتشار، وقد جمعتُ الأقوالَ المذكورةَ فيها كلها في " شرح المهذّب " وبيّنتُ قائلها، وأن كثيراً من الصحابة على أنها بعد العصر. والمراد بقائم يُصَلِّي: من ينتظرُ الصلاة، فإنه في صلاة. 492 - وأصحّ ما جاء فيها: ما رويناه في " صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هيَ ما بَيْنَ أنْ يَجْلِس الإِمامُ إلى أن تُقْضَى الصَّلاةَ " يعني يجلس على المنبر. 493 - أما قراءةُ سورة الكهف، والصَّلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءتْ فيهما أحاديث مشهورة تركتُ نقلَها لطول الكتاب لكونها مشهورة، وقد سبق جملة منها في بابها. 494 - وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغَدَاةِ (1) : أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتوب إليه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ " (2) . 495 - وروينا فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد يومَ الجمعة أخذ بعضادتي الباب ثم قال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْني أوْجَهَ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْكَ، وأقْرَبَ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ، وأفْضَلَ مَنْ سألَكَ وَرَغِبَ إِلَيْكَ " (3) . قلت: يُستحبّ لنا نحن أن نقول: اجْعَلْني مِنْ أوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ وَمِنْ أقْرَبِ وَمِنْ أَفْضَلِ " فنزيد لفظة " مِن ". وأما القراءة المستحبة في صلاة الجمعة، وفي صلاة الصبح يوم الجمعة، فتقدّم بيانها في باب أذكار الصلاة. 496 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَرَأ بَعْدَ صَلاةِ الجُمُعَةِ: قُلْ هُوَ الله أحد، وقل أعوذ بِرَبّ الفَلَقِ،

_ (1) وفي بعض النسخ: بعد صلاة الغداة. (2) وإسناده ضعيف. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: كما قال الحافظ: أخرجه أبو نُعيم في كتاب الذكر، وفي سنده راويان مجهولون، قال الحافظ: وقد جاء من حديث أم سلمة لكن بغير قيد، ثم روي عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا خرج إلى الصلاة قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْني أقرب مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ، وأوجه من توجه إليك، وأنجح مَنْ سألَكَ وَرَغِبَ إليك يا الله، قال: وسنده ضعيف أيضا. (*)

باب الأذكار المشروعة في العيدين

وَقُلْ أعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، أعاذَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِها مِنَ السُّوءِ إلى الجُمُعَةِ الأخرى " (1) . [فصل] : يُسْتَحَبُّ الإِكثار من ذكر الله تعالى بعد صلاة الجمعة، قال الله تعالى: (فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّه كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10] . (بابُ الأذْكَارِ المشروعةِ في العِيدين) اعلم أنه يُستحبّ إحياء ليلتي العيدين في ذكر الله تعالى، والصلاة، وغيرهما من الطاعات، للحديث الوارد في ذلك: 497 - " مَنْ أَحْيا ليلتي العيدين، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلُوبُ " ورُوي، " مَنْ قَامَ لَيْلَتي العِيدَيْنِ لِلَّهِ مُحْتَسِباً لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلُوبُ " هكذا جاء في رواية الشافعي وابن ماجه، وهو حديث ضعيف رويناه من رواية أبي أمامة مرفوعاً وموقوفاً، وكلاهما ضعيف، لكن أحاديثَ الفضائل يُتسامح فيها (2) كما قدّمناه في أوّل الكتاب. واختلف العلماءُ في القدر الذي يَحصل به الإِحياءُ، فالأظهرُ أنه لا يحصل إلا بمعظم الليل، وقيل: يَحصل بساعة. [فصل] : ويستحبّ التكبير ليلتي العيدين، ويُستحبّ في عيد الفطر من غروب الشمس إلى أن يُحرم الإِمام بصلاة العيد، ويُستحبّ ذلك خلفَ الصلواتِ وغيرها من الأحوال. ويُكثر منه عند ازدحام الناس، ويُكَبِّر ماشياً وجالساً ومضطجعاً، وفي طريقه، وفي المسجد، وعلى فراشه. وأما عيدُ الأضحى، فيُكَبِّر فيه من بعد صلاة الصبح مِنْ يَوْمِ عَرَفة إلى أن يصليَ العصر من آخر أيام التشريق، وَيُكَبِّر خلفَ هذه العَصْرِ ثم يقطع، هذا هو الأصحّ الذي عليه العمل، وفيه خلاف مشهور في مذهبنا ولغيرنا، ولكن الصحيح ما ذكرناه.

_ (1) قال ابن علان في شرح الأذكار: وقال الحافظ: سنده ضعيف، وينبغي أن يُقيد بما بعد الذكر المأثور في الصحيح، قال الحافظ: وله شاهد من مرسل مكحول، أخرجه سعيد بن منصور في السنن عن فرج بن فضالة عنه، وزاد في أوله: فاتحة الكتاب، وقال في آخره: كفر الله عنه ما بين الجمعتين وكان معصوما، قال: وفرج ضعيف أيضا. (2) بشرط أن لا ضعفها، وأن تدرج تحت أصل معمول به، وأن لا يعقد عند العمل بها ثبوتها، بل يعقد الاحتياط. (*)

498 - وقد جاء فيه أحاديث رويناها في سنن البيهقي، وقد أوضحتُ ذلك كلَّه من حيث الحديث ونقل المذهب في " شرح المهذّب " وذكرتُ جميعَ الفروع المتعلقة به، وأنا أُشيرُ هنا إلى مقاصده مختصرة. قال أصحابنا: لفظ التكبير أن يقول: " اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ "، هكذا ثلاثاً متواليات، ويكرّر هذا على حسب إرادته. قال الشافعي والأصحاب: فإن زادَ فقال: " اللَّهُ أكْبَرُ كَبيراً، والحَمْدُ لِلَّهِ كَثيراً، وَسُبْحانَ اللَّهِ بُكْرَةً وأصِيلاً، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا نعبد إلا إياه مخلصين له الدينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، لا إِلهَ إِلاَّ الله واللَّهُ أكْبَرُ، كانَ حَسَناً ". وقال جماعة من أصحابنا: لا بأسَ أن يقول ما اعتاده الناسُ، وهو: " اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ ". [فصل] : اعلم أن التكبير مشروعٌ بعد كلّ صلاة تُصلَّى في أيام التكبير، سواء كانت فريضة أو نافلة، أو صلاة جنازة، وسواءٌ كانت الفريضة مؤدّاة أو مقضية، أو منذروة، وفي بعض هذا خلاف ليس هذا موضع بسطه، ولكن الصحيح ما ذكرته، وعليه الفتوى، وبه العمل، ولو كبَّرَ الإِمامُ على خلاف اعتقاد المأموم، بأن كان يَرى الإِمامُ التكبيرَ يوم عرفة، أو أيام التشريق، والمأموم لا يَراه، أو عكسَه، فهل يتابعه، أم يعمل باعتقاد نفسه؟ فيه وجهان لأصحابنا، الأصحُّ: يَعمل باعتقاد نفسه، لأن القدوة انقطعتْ بالسلام من الصلاة، بخلاف ما إذا كبَّر في صلاة العيد زيادة على ما يراه المأموم، فإنه يُتابعه من أجل القُدوة. [فصل] : والسُّنّة أن يُكبر في صلاة العيد قبل القراءة تكبيراتٍ زوائد، فيُكَبِّر في الركعة الأولى سبعَ تكبيرات سوى الافتتاح، وفي الثانية خمسَ تكبيرات سوى تكبيرة الرفع من السجود، ويكونُ التكبيرُ في الأولى بعد دعاء الاستفتاح، وقبل التعوّذ، وفي الثانية قبل التعوّذ. ويستحبّ أن يقولَ بين كل تكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، هكذا قاله جمهور أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: يقول: " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ على كل شئ قَديرٌ ". وقال أبو نصر بن الصباغ وغيره من أصحابنا: إن قال ما اعتاده الناسُ، فحَسَن، وهو " اللَّهُ أكْبَرُ كَبيراً، والحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً، وَسُبْحانَ اللَّهِ بُكْرَةً وأصِيلاً ". وكل هذا على التوسعة، ولا حَجْرَ في شئ منه، ولو ترك جميع هذا الذكر، وترك التكبيرات السبع

باب الأذكار في العشر الأول من ذي الحجة

والخمس، صحَّتْ صلاته ولا يسجد للسهو، ولكن فاتته الفضيلة، ولو نسي التكبيرات حتى افتتح القراءة، لم يرجع إلى التكبيرات على القول الصحيح، وللشافعي قولٌ ضعيفٌ: أنه يرجع إليها. وأما الخطبتان في صلاة العيد، فيُستحبّ أن يُكَبِّرَ في افتتاح الأولى تسعاً، وفي الثانية سبعاً. وأما القراءة في صلاة العيد، فقد تقدَّم بيان ما يُستحبّ أن يقرأ فيها في باب " صفة أذكار الصلاة "، وهو أنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (ق) وفي الثانية (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وإن شاء في الأولى (سبح اسم ربك الأعلى) ، وفي الثانية: (هَل أتاكَ حَدِيثُ الغاشِيَةِ) . (بابُ الأَذْكارِ في العَشْر الأوّلِ من ذي الحِجّة) قال الله تعالى: (وَيَذْكُروا اسْمَ اللَّهِ فِي أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ... ) الآية. [الحج: 28] قال ابن عباس والشافعي والجمهور: هي أيامُ العشر. واعلم أنه يُستحبُّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ويُستحب من ذلك في يوم عَرَفة أكثر من باقي العشر. 499 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْها في هَذِهِ، قالوا: وَلا الجهادُ فِي سَبيل الله؟ قال: وَلا الجِهادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِهِ وَمالِه فَلَمْ يرجع بشئ " هذا لفظ البخاري، وهو صحيح. وفي رواية الترمذي: " ما مِنْ أيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهنَّ أحَبُّ إلى الله تعالى مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ ". وفي رواية أبي داود مثل هذه، إلا أنه قال: " مِنْ هَذِهِ الأيَّام " يعني العشر. ورويناه في مسند الإِمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بإسناد الصحيحين قال فيه: " ما العَمَلُ فِي أيَّامٍ أفْضَلَ مِنَ العَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، قيل: ولا الجهاد؟ ... " وذكر تمامه، وفي رواية: " عَشْرِ الأضْحَى ". 500 - وروينا في كتاب الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خَيْرُ الدُّعاءِ دعاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ " ضعَّفَ الترمذي إسنادَه (1) . 501 - ورويناه في موطأ الإِمام مالك بإسناد مرسل، وبنقصان في لفظه، ولفظه:

_ (1) وهو حديث حسن يسهد الذي بعده. (*)

باب الأذكار المشروعة في الكسوف

" أفْضَلُ الدُّعاءِ [دعاءُ] يَوْمِ عَرَفَةَ، وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ". 502 - وبلغنا عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، أنه رأى سائلاً يسألُ الناسَ يوم عَرَفَةَ، فقال: يا عاجزُ! في هذا اليوم يُسألُ غيرُ الله عزّوجلّ؟ (1) . 502 - وقال البخاري في " صحيحه ": كان عمر رضي الله عنه يُكَبِّرُ في قُبَّتِهِ بمنى، فيسمعه أهلُ المسجد فيُكبِّرون ويُكَبِّر أهلُ الأسواق حتى ترتجّ مِنىً تكبيراً (2) . قال البخاري: وكان ابنُ عمر وأبو هريرة (3) رضي الله عنهما يَخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكَبِّران ويُكَبِّر الناسُ بتكبيرهما. (بابُ الأَذْكارِ المشروعةِ في الكُسُوف) اعلم أنه يُسنُّ في كسوف الشمس والقمر والإِكثارُ من ذكر الله تعالى، ومن الدعاء، وتُسَنّ الصلاة له بإجماع المسلمين. 503 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلا لِحياتِهِ، فإذَا رأيْتُمْ ذلكَ فادْعُوا اللَّهَ تَعالى وكَبِّرُوا وَتَصَدَّقُوا ". وفي بعض الروايات في صحيحيهما: " فإذَا رأيْتُم ذلكَ فاذْكُرُوا اللَّهَ تَعالى ". وكذلك رويناه من رواية ابن عباس. وروياه في " صحيحيهما " من رواية أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فإذّا رأيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذلك، فافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ وَدُعائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ ". وروياه في " صحيحيهما " من رواية المغيرة بن شعبة: " فإذَا رأيْتُموها فادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا ". وكذلك رواه البخاري من رواية أبي بكرة أيضاً، والله أعلم.

_ (1) قال الحافظ في تخريج الأذكار: أخرجه أبو نُعيم مختصرا في " الحلية " في ترجمة سالم. (2) رواه البخاري تعليقا 2 / 384 في العيدين، باب التكبير أيام منى. قال احافظ في " الفتح ": وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن ووصله أبو عبيد من وجه آخر بلفظ التعليق ومن طريقه البيهقي. (3) رواه البخاري تعليقا 2 / 381 في العيدين، باب فضل العمل أيام التشريق، قال ابن علاّن في شرح اأذكار: قال الحافظ: لم أقف على أثر أبي هريرة موصولا، وقد ذكره البيهقي في " الكبير " والبغوي في " شرح السنّة " فلم يزيدا على عزوه إلى البخاري معلقا. قال: وأما أثر ابن عمر، فرواه بمعناه ابن المنذر في كتاب الاختلاف، وافاكهي في كتاب مكة. (*)

504 - وفي " صحيح مسلم " من رواية عبد الرحمن بن سمرة، قال: " أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وقد كُسفت الشمسُ وهو قائمٌ في الصلاة رافعٌ يديه، فجعلَ يُسَبِّحُ ويحمد ويهلل، ويكبر ويدعو، حتى حُسِرَ عنها، فلما حُسِرَ عنها قرأ سورتين وصلَّى ركعتين ". قلت: حُسِر بضم الحاء وكسر السين المهملتين أي: كشف وجْلِّي. [فصل] : ويُستحبّ إطالة القراءة في صلاة الكسوف، فيقرأ في القومة الأولى نحو سورة البقرة، وفي الثانية نحو مائتي آية، وفي الثالثة نحو مائة وخمسين آية، وفي الرابعة نحو مائة آية، ويُسبِّحُ في الركوع الأوّل بقدر مائة آية، وفي الثاني سبعين، وفي الثالث كذلك، وفي الرابع خمسين، ويُطوِّل السجود كنحو الركوع، والسجدة الأولى نحو الركوع الأول، والثانية نحو الركوع الثاني، هذا هو الصحيح. وفيه خلاف معروف للعلماء، ولا تشكّنَّ فيما ذكرته من استحباب تطويل السجود، لكن المشهور في أكثر كتب أصحابنا أنه لا يُطوَّل، فإن ذلك غلط أو ضعيف، بل الصواب تطويله. 505 - وقد ثبت ذلك في " الصحيحين " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة، وقد أوضحته بدلائله وشواهده في " شرح المهذب ". وأشرت هنا إلى ما ذكرت لئلا تغترّ بخلافه، وقد نصّ الشافعي رحمه الله في مواضع على استحباب تطويله، والله أعلم. قال أصحابنا: ولا يُطَوِّلُ الجلوسَ بين السجدتين، بل يأتي به على العادة في غيرها، وهذا الذي قالوه فيه نظر، فقد ثبت في حديث صحيح إطالته، وقد ذكرت ذلك واضحاً في " شرح المهذب " فالاختيار استحباب إطالته، ولا يُطَوِّلُ الاعتدالَ عن الركوع الثاني، ولا التشهّد وجلوسه، والله أعلم. ولو ترك هذا التطويل كلَّه، واقتصر على الفاتحة صحَّت صلاتُه. ويُستحبّ أن يقول في كل رفع من الركوع ; سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، فقد روينا ذلك في الصحيح. ويُسنّ الجهر بالقراءة في كسوف القمر، ويُستحبّ الإِسرار في كسوف الشمس، ثم بعد الصلاة يخطب خطبتين يُخوِّفهم فيهما بالله تعالى، ويَحثّهم على طاعة الله تعالى، وعلى الصدقة والإِعتاق، فقد صحّ ذلك في الأحاديث المشهورة، ويَحثّهم أيضاً على شكر نِعَم الله تعالى، ويحذّرهم الغفلة والاغترار، والله أعلم. 506 - روينا في " صحيح البخاري " وغيره، عن أسماء رضي الله عنها قالت: " لقد أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالعَتَاقة في كسوف الشمس ". والله أعلم.

باب الأذكار في الاستسقاء

(بابُ الأذْكَار في الاسْتسقَاءِ) يستحبّ الإِكثار فيه من الدعاء والذكر، والاستغفار بخضوع وتذلل، والدعوات المذكورة فيه مشهورة: منها: " اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثاً مُغِيثاً هَنِيئاً مَرِيئاً غدقا (1) مجللا (2) سحا (3) عامّاً طَبَقاً دَائِماً، اللَّهُمَّ على الظِّرَابِ (4) وَمَنابِتِ الشَّجَرِ:، وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفّاراً، فأرْسلِ السَّماءَ عَلَيْنا مِدْرَاراً اللَّهُمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ أنْبِتْ لَنا الزَّرْعَ، وَأدِرَّ لَنا الضَّرْعَ، وَاسْقِنا مِنْ بَرَكاتِ السَّماءِ، وأنْبِتْ لَنا مِنْ بَرَكاتِ الأرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الجَهْدَ وَالجُوعَ والعُرْيَ، واكْشِفْ عَنَّا مِنَ البَلاءِ ما لا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ ". ويُستحبّ إذا كان فيهم رجلٌ مشهورٌ بالصلاح أن يستسقوا به فيقولوا: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي وَنَتَشَفَّعُ إِلَيْكَ بِعَبْدِكَ فُلانٍ ". 507 - روينا في " صحيح البخاري " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللَّهمّ إنّا كنّا نتوسلُ إليك بنبيّنا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنّا نتوسلُ إليك بعمّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم فاسقنا، فيُسقون. وجاء الاستسقاء بأهل الصلاح عن معاوية (5) وغيره. والمستحبّ أن يقرأُ في صلاة الاستسقاء ما يقرأ في صلاة العيد، وقد بيّناه، ويُكَبِّر في افتتاح الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسَ تكبيرات كصلاة العيد، وكل الفروع والمسائل التي ذكرتها في تكبيرات العيد السبع والخمس يجئ مثلها هنا، ثم يخطب خطبتين يُكثر فيهما من الاستغفار والدعاء. 508 - روينا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن جابر بن

_ (1) قال الأزهري: الغدق: الكثير الماء والخير، وقال ابن الجزري: المطر الكبار القطر. (2) بكسر اللام: أي يجلل البلاد والعباد نفعه ويتغشاهم بخيره. قال ابن الجزري: ويروى بفتح اللام على المفعول. (3) بفتح السين وتشديد الحاء المهملتين: أي شديد الوقع على الأرض، يقال: سَحَّ الماء يَسحُّ: إذا سال من فوق إلى أسفل، وساحَ الوادي يَسيحُ: إذا جرى على وَجْهِ الأرْضِ، والعام: الشامل. (4) الظراب: الجبال الصغار، واحدها: ظرب بوزن كتف. (5) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": في تخريج أحاديث الرافعي للحافظ حديث معاوية أنه استسقى بيزيد بن الأسود، أخرجه أبو زرعه الدمشقي في " تارخه " بسند صحيح، ورواه أبو القاسم اللاكائي في " السنة " في كرامات الأولياء منه. (*)

عبد الله رضي الله عنهما قال: أَتَتِ النبي صلى الله عليه وسلم بَوَاكٍ فقال: " اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثاً مُغِيثاً مَرِيّاً سَرِيعاً نافعاً غَيْرَ ضَارّ، عاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ، فأطْبَقَتْ علَيْهِمُ السَّماءُ. 509 - وروينا فيه بإسناد صحيح (1) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: " اللَّهُمَّ اسْقِ عِبادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وأحْيِ بَلَدَكَ المَيِّتَ ". 510 - وروينا فيه بإسناد صحيح (2) قال أبو داود في آخره: هذا إسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: " شكا الناسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوطَ المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناسَ يوماً يخرجون فيه، فخرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بَدَا حاجبُ الشمس، فقعدَ على المنبر صلى الله عليه وسلم، فكبَّرَ وحَمِد الله عز وجل، ثم قال: " إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيارِكُمْ، وَاسْتِئْخارَ المَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمانِه عَنْكُمْ، وَقَدْ أمَرَكُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثم قال: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدَّينِ، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أنْتَ اللَّهُ، لاَ إِلهَ أَنْت الغَنِيُّ وَنَحْنُ الفُقَراءُ، أنْزِلْ عَلَيْنا الغَيْثَ، وَاجْعَلْ ما أنْزَلْتَ لَنا قُوَّةً وَبَلاغاً إلى حِينٍ "، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياضُ إبطيه، ثم حوّل إلى الناس ظهرَه، وقَلبَ أو حَوّل رداءَه وهو رافع يديه، ثم أقبلَ على الناس ونزلَ فصلى ركعتين، فأنشأ اللَّه عزّ وجلّ سحابة، فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأتِ مسجدَه حتى سالت السيولُ، فلما رأى الكن (3) ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدات نواجذه، فقال: " أشْهَدُ أنَّ اللَّهَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ، وأنّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". قلت: إبّان الشئ: وقته، وهو بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة. وقحوط المطر، بضم القاف والحاء: احتباسه. والجدب، بإسكان الدال المهملة: ضد الخصب. وقوله: ثم أمطرت، هكذا هو بالألف، وهما لغتان: مطرت، وأمطرت، ولا التفات إلى مَن قال: لا يُقال: أمطر بالألف إلا في العذاب. وقوله: بدتْ نواجذه: أي ظهرت أنيابه، وهي بالذال المعجمة.

_ (1) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إسناده حسن، وصححه بعضهم. (2) بل إسناده حسن. (3) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: الكِنّ بكسر الكاف وتشديد النون، وهو ما يُردُّ به الحرُّ والبرد من المساكين. (*)

باب ما يقوله إذا هاجت الريح

واعلم أن في هذا الحديث التصريح بأن الخطبة قبل الصلاة، وكذلك هو مصرّح به في " صحيحي البخاري ومسلم "، وهذا محمولٌ على الجواز. والمشهور في كتب الفقه لأصحابنا وغيرهم: أنه يُستحبّ تقديمُ الصلاة على الخطبة لأحاديث أُخر. 511 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّمَ الصلاةَ على الخطبة، والله أعلم. ويُستحبّ الجمع في الدعاء بين الجهر والإِسرار، ورفع الأيدي فيه رفعاً بليغاً. قال الشافعي رحمه الله: وليكن من دعائهم: " اللَّهُمَّ أمَرْتَنا بِدُعائِكَ، وَوَعَدْتَنا إِجابَتَكَ، وَقَدْ دَعَوْناكَ كما أمَرْتَنا، فأجِبْنا كما وَعَدْتَنا، اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنا بِمَغْفِرَةِ ما قارَفْنا، وإِجابَتِكَ في سُقْيانا وَسَعَةِ رِزْقِنا ". ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويُصلِّي على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويقرأ آيةً أو آيتين، ويقول الإِمام: أستغفرُ الله لي ولكم. وينبغي أن يدعوَ بدعاء الكرب، وبالدعاء الآخر: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وغير ذلك من الدعوات التي ذكرناها في الأحاديث الصحيحة. قال الشافعي رحمه الله في " الأُم ": يخطب الإِمامُ في الاستسقاء خطبتين، كما يخطب في صلاة العيد يُكَبِّر الله تعالى فيهما ويحمَده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُكثر فيهما الاستغفار حتى يكون أكثر كلامه، ويقول كثيراً: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) [نوح: 10] ثم رُوي عن عمرَ رضي الله عنه، أنه استسقى وكان أكثر دعائه الاستغفار. قال الشافعي: ويكون أكثر دعائه الاستغفار، يبدأ به دعاءَه ويفصلُ به بين كلامه، ويختم به، ويكون هو أكثر كلامه حتى ينقطع الكلام، ويحثّ الناس على التوبة والطاعة والتقرّب إلى الله تعالى. (بابُ ما يقولُه إذا هَاجَتِ الرِّيح) 512 - روينا في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح (1) قال: " اللَّهُمَّ إِني أسألُكَ خَيْرَها وَخَيْرَ ما فِيها، وَخَيْرَ ما أُرْسِلَتْ بِهِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها وَشَرّ ما فِيهَا وَشَرّ ما أُرسِلَتْ بِهِ ". 513 - وروينا في " سنن أبي داود، وابن ماجه، بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللِّهِ تَعالى، تأتي بالرحمة،

_ (1) أي: اشتد هبوبها. (*)

وَتأتِي بالعَذَابِ، فإذا رأيْتُمُوها فَلا تَسُبُّوها، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَها، وَاسْتَعِيذُوا باللَّهِ مِنْ شَرّها ". قلتُ: قوله صلى الله عليه وسلم: " مِنْ رَوْحِ الله "، هو بفتح الراء، قال العلماء: أي: من رحمة الله بعباده. 514 - وروينا في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء، تركَ العملَ وإن كان في الصلاة، ثم يقول: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها "، فإن مُطِرَ قال: " اللهم صيبا هَنِيئاً " (1) . قلت: ناشئاً، بهمز آخره، أي: سحاباً لم يتكامل اجتماعه (2) . والصيِّب بكسر الياء المثناة تحت المشددة: وهو المطرُ الكثيرُ، وقيل: المطر الذي يجري ماؤه، وهو منصوب بفعل محذوف: أي: أسألك صيّباً، أو اجعله صيّباً. 515 - وروينا في كتاب الترمذي وغيره، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَسُبُّوا الرّيحَ، فإنْ رأيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ، وخَيْرِ ما فِيها، وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الرّيحِ وَشَرّ ما فِيها وَشَرّ ما أُمِرَتْ بِهِ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وعثمان بن أبي العاص، وأنس، وابن عباس، وجابر. 416 - وروينا بالإِسناد الصحيح في كتاب ابن السني، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّتِ الريحُ يقول: " اللَّهُمَّ لَقْحاً لا عَقِيماً " (3) . قلت: لَقْحَاً: أي: حاملاً للماء كاللقحة من الإِبل. والعقيم: التي لا ماء فيها كالعقيم من الحيوان: لا ولد فيها. 517 - وروينا فيه عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم، عن

_ (1) وهو حديث صحيح، صححه الحافظ وغيره. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال في المرقاة: سمي السحاب ناشئا لأنه ينشأ من الأفق، يقال: نشأ، أي: خرج، أو ينشأ في الهواء: أي يظهر، أو لأنه ينشأ من الأبخرة المتاعدة من البحار والأراضي البحرة، ونحو ذلك. (3) قال الحافظ في تخريج الأذكار: هذا حديث صحيح. (*)

باب ما يقول إذا انقض الكوكب

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وقعتْ كبيرةٌ، أو هاجتْ ريحٌ عظيمةٌ، فعليكم بالتكبير، فإنه يجلو العَجَاجَ الأسْوَدَ " (1) . 518 - وروى الإِمام الشافعيُّ رحمه الله في كتابه " الأُمّ " بإسناده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما هبَّت الريح إلاّ جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْها رَحْمَةً وَلا تَجْعَلْها عَذَاباً، اللَّهُمَّ اجْعَلْها رِياحاً وَلا تَجْعَلْها رِيحاً " (2) . قال ابن عباس: في كتاب الله تعالى: (إنَّا أرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صرصرا) [فصلت : 16] و (أرْسَلْنا عَلَيْهِم الرّيحَ العَقِيمَ) [الذاريات: 41] وقال تعالى: (وَأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ) [الحجر: 22] وقال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشِّرَاتٍ) [الروم: 46] . 519 - وذكر الشافعي رحمه الله حديثاً منقطعاً، عن رجل، أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الفقرَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَعَلَّكَ تَسُبُّ الرّيحَ " (3) . قال الشافعي رحمه الله: لا ينبغي لأحدٍ أن يسبَّ الرياحَ، فإنها خلقٌ لله تعالى مطيع، وجندٌ من أجناده، يجعلُها رحمةً ونقمةً إذا شاء. (بابُ ما يقولُ إذا انقضّ الكَوْكَب) 520 - روينا في كتاب ابن السني، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أُمِرْنا أن لا نُتبع أبصارَنا الكوكبَ إذا انقضّ، وأن نقولَ عند ذلك: ما شَاءَ اللَّهُ لا قوَّة إِلاَّ باللَّهِ (4) .

_ (1) قال الحافظ في تخريج الأذكار: هذا توهم، إنما هما قرنا في الرواية وليس كذلك إنما وقع عنده اختلاف على بعض رواته في الصحابي، فأخرجه ابن السني عن أبي يعلى عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم، عن عنبسة عن محمد بن زاذان عن جابر ... الحديث قال الحافظ بعد تخريجه: حديث غريب، وسنده ضعيف جداً. فيه محمد بن زاذان ضعيف، وشيخه عنبسة بن عبد الرحمن متروك، وأخرجه ابن السني أيضا من طريق عمرو بن عثمان عن الوليد بهذا السند، لكن قال: عن أنس بدل جابر، وكذا أخرجه ابن عدي في ترجمة عنبسة بهذا السند فقال أيضا: عن أنس وجابر. (2) وهو حديث حسن. (3) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: سند هذا الحديث لأنه سقط، فيه اثنان فصاعداً، وقول الشيخ: عن رجل يُوهم أن محمداً رواه عنه، وليس كذلك، بل أرسل القصة ولم أجد لهذا المتن شاهداً ولا متابعا. (4) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال في المرقاة نقلا عن المصنف: إسناده ليسى بثابت، وقال الحافظ بعد أن أورده بإسناده إلى الطبراني: حديث غريب أخرجه ابن السني، قال الطبراني: لم يروه عن حماد يعني ابن أبي سليمان إلا عبد الأعلى تفرد به موسى. أقول: وعبد الأعل بن أبي المساور ضعيف جداً. (*)

باب ترك الإشارة والنظر إلى الكوكب والبرق

(بابُ تركِ الإِشارةِ والنَّظرِ إلى الكَوْكَبِ والبَرْق) فيه الحديث المتقدم في الباب قبلَه. 521 - وروى الشافعي رحمه الله في " الأم " بإسناده عمّن لا يتّهم (1) عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما، قال: إذا رأى أحدكم البرق أو الودق، فلا يُشِرْ إليه، وليصفْ ولينعتْ. قال الشافعي: ولم تزل العرب تكرهه. (بابُ ما يقولُ إذا سمعَ الرَّعْدَ) 522 - روينا في كتاب الترمذي بإسناد ضعيف عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوتَ الرعد والصَّواعق قال: " اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبِكَ، ولا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعافِنا قَبْلَ ذلكَ ". 523 - وروينا بالإِسناد الصحيح في " الموطأ " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعدَ تركَ الحديثَ وقال: " سُبْحانَ الَّذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ". 524 - وروى الإِمام الشافعي رحمه الله في " الأُمّ " بإسناده الصحيح عن طاوس الإِمام التابعي الجليل رحمه الله أنه كان يقولُ إذا سمع الرعد: سبحانَ مَنْ سَبَّحَتْ له. قال الشافعي: كأنه يذهب إلى قول الله تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) (3) . 525 - وذكروا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنّا مع عمر رضي الله عنه في سفر، فأصابنا رعدٌ وبرقٌ وبَرَدٌ، فقال لنا كعب: مَن قال حين يسمع الرعد: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثلاثاً، عُوفي مِنْ ذلكَ الرعد، فقلنا فعوفينا. (بابُ ما يقولُ إذا نزلَ المطرُ) 526 - روينا في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: " اللَّهُمَّ صَيِّباً نافِعاً ".

_ (1) ؟ ؟ ؟ ؟ بمن لا يتهم: شيخه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أبا إسحاق المدني، وهو متروك كما قال الحافظ في التقريب. (2) ولكن للحديث طرق قواه بها بعضهم. (3) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم يذكر مَن خرّجه، وهو عندنا بالإسناد إلى الطبراني بإسناده إليه ... فذكره، ثم قال الحافظ: هذا موقوف حسن الإسناد، وهو وإن كان عن كعب، فقد أقره ابن عباس وعمر، فدل على أن له أصلا. (*)

باب ما يقوله بعد نزول المطر

528 - وروينا في " سنن ابن ماجه " وقال فيه: " اللَّهُمَّ صَيِّباً نافِعاً " مرّتين أو ثلاثاً. 528 - وروى الشافعي رحمه الله في " الأُمّ " بإسناده حديثاً مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اطلبو استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصّلاة (1) . (بابُ ما يقولُه بعدَ نزولِ المطر) 529 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانتْ من الليل، فلما انصرفَ أقبلَ على الناس فقال: " هَلْ تَدْرُونَ ماذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ " قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلم، قال: قالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ، فأمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كافرٌ بالكَوْكَبِ، وأمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْننا بِنَوءِ كَذَا وكَذّا، فَذَلِكَ كافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ ". قلت: الحديبية معروفة، وهي بئر قريبة من مكة دون مرحلة، ويجوز فيها تخفيف الياء الثانية وتشديدها، والتخفيف هو الصحيح المختار، وهو قول الشافعي وأهل اللغة، والتشديد قول ابن وهب وأكثر المحدّثين. والسماء هنا: المطر. وإثر بكسر الهمزة وإسكان الثاء، ويقال بفتحهما لغتان. قال العلماء: إن قال مسلم: مُطرنا بنوْء كذا، مريداً أن النَّوْءَ هو الموجد والفاعل المحدِثُ للمطر، صارَ كافراً مرتدّاً بلا شكّ، وإن قاله مُريداً أنه علامة لنزول المطر، فينزل المطر عند هذه العلامة، ونزوله بفعل الله تعالى وخلقه سبحانه، لم يكفر. واختلفوا في كراهته، والمختار أنه مكروه، ولأنه من ألفاظ الكفّار، وهذا ظاهر الحديث، ونصَّ عليه الشافعي رحمه الله في " الأمّ " وغيره، والله أعلم. ويُستحبّ أن يشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، أعني نزول المطر. (باب ما يقوله إذا كثر المطرُ وخِيفَ منه الضَّرَر) 530 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رجلٌ المسجدَ يوم جمعة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فقال: يارسولَ الله هلكت

_ (1) تقدم الكلام عليه في باب ما يقول عند الإقامة صفحة (33) .

باب أذكار صلاة التراويح

الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا (1) ، فرفعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديْهِ ثم قال: " اللَّهُمَّ أغِثْنا، اللَّهُمَّ أغِثْنا "، قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سَحاب ولا قَزْعَةٍ (2) ، وما بينا وبين سلع - يعني الجبل المعروف بقرب المدينة - من بيت ولا دار، فطلعتْ من ورائه سحابةٌ مثل الترس، فلما توسطت السماءَ انتشرتْ ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سَبْتَاً (3) ، ثم دخلَ رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، قال: يا رسول الله هلكتِ الأموالُ وانقطعتِ السُّبلُ، فادع الله يُمسكها (4) عنّا، فرفعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنا ولاَ علينا، والظراب وبطون الأودية ومَنَابِتِ الشَجَرِ، فانقلعتْ وخرجنا نمشي في الشمس " هذا حديث لفظه فيهما، إلا أن في رواية البخاري: " اللَّهُمَّ اسْقِنا " بدل " أغِثْنا " وما أكثر فوائده (6) ، وبالله التوفيق. (بابُ أذكارِ صَلاة التَّراويْح) اعلم أن صلاة التراويح سُنّة باتفاق العلماء، وهي عشرون ركعة، يُسَلِّم من كل ركعتين، وصفةُ نفس الصلاة كصفة باقي الصلوات على ما تقدم بيانه، ويجئ فيها جميعُ الأذكار المتقدمة كدعاء الافتتاح، وإستكمال الأذكار الباقية، واستيفاء التشهد، والدعاء بعده، وغير ذلك مما تقدم، وهذا وإن كان ظاهراً معروفاً، فإنما نبَّهتُ عليه لتساهل أكثر الناس فيه، وحذفهم أكثر الأذكار، والصواب ما سبق. وأما القراءة فالمختار الذي قاله الأكثرون وأطبقَ الناسُ على العمل به أن تقرأ الختمةُ بكمالها في التراويح جميع الشهر، فيقرأ في كل ليلة نحو جزء من ثلاثين جزءاً، ويُستحبّ أن يرتل القراءة ويبيِّنها، وليحذرْ من التطويل عليهم بقراءة أكثر من جزء، *

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": هو بالرفع على الإستئناف، لإنه لم يقصد تسببه عن طلب قبله، أي: ادع الله فهو يغيثنا، وهذه رواية الأكثر في البخاري، ورواه أبو ذر: أن يغيثنا، والكشميهيني يغثنا بالجرم. (2) القزعة: القطعة من السحاب، وجمعه: قزع، كقصبة وقصب. (3) أي: أسبوعا. (4) يجوز فيه الرفع والجزم. (5) ويجمع أيضا على إكام، واحده أكمة: التل، وهي دون الجبل وأعلى من الرابية. (6) منها الأدب في الدعاء حيث لم يدع الرفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمرار هـ، ومنها الدعاء بدفع الضرر لا ينافي التوكل، ومنها جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، ومنها استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إن كثر وتضرروا به. (*)

باب أذكار صلاة الحاجة

وليحذرْ كلَّ الحذرِ مما اعتاده جهلةُ أئمة كثير من المساجد من قراءة سورة الأنعام بكمالها في الركعة الأخيرة في الليلة السابعة من شهر رمضان، زاعمين أنها نزلتْ جملةً، وهذه بدعة قبيحة وجهالة ظاهرة مشتملة على مفاسد كثيرة، وقد أوضحتها في كتاب التبيان في آداب حملة القرآن " وبالله التوفيق. (بابُ أذكارِ صَلاةِ الحَاجة) 531 - روينا في كتاب الترمذي وابن ماجه، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلى اللَّهِ تَعالى أوْ إلى أحدٍ مِن بَني آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأ وَلْيُحْسِنِ الوُضُوءِ، ثُمَّ ليُصَلّ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ لِيُثْنِ على الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيُصَلّ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ليَقُلْ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحانَ اللَّه رَبّ العَرْشِ العَظِيمِ، الحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ، أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلّ بِرّ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلّ إثْمٍ، لا تَدَعْ لِي ذَنْباً إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلا هَمَّاً إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلا حاجَةً هِيَ لَكَ رِضاً إِلاَّ قَضَيْتَها يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ". قال الترمذي: في إسناده مقال (1) . قلتُ: ويُستحبّ أن يدعوَ بدعاء الكرب، وهو: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ، لما قدّمناه عن " الصحيحين " فيهما. 532 - وروينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه، عن عثمان بن حُنَيْف رضي الله عنه، أن رجلاً ضريرَ البصر أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادعُ اللَّهَ تعالى أن يعافيني، قال: " إنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قال فادعُه، فأمره أن يتوضأَ فيُحسنَ وضوءَه ويدعوَ بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ وأتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا مُحَمَّدُ إني تَوَجَّهْتُ بكَ إلى رَبّي في حاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيّ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (باب أذكار المتعلقة بالزكاة) 533 - روينا في كتاب الترمذي عنه قال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح، لا يصح منه كبير شئ (2) . قال: وقد رأى ابن المبارك وغير واحد من

_ (1) ولكن له شاهد من حديث أنس عند الطبراني بإسناد ضعيف، ولحديث أنس طرق أخرى في مسند الفردوس وإسنااده ضعيف أيضا، كما قال الحافظ في تخريج الأذكار. (2) لكن له شواهد بمعناه ربما يقوى بها، قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: ووجدت له شاهدا = (*)

أهل العلم صلاة التسبيح، وذكروا الفضل فيه. قال الترمذي: حدّثنا أحمد بن عبدة، قال: حدّثنا أبو وهب، قال: سألت عبد الله بن المبارك عن الصلاة التي يسبّح فيها، قال: يكبّر ثم يقول: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، تَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعالى جَدُّكَ وَلا إِلهَ غَيْرُكَ، ثم يقول خمس عشرة مرّة: سُبحانَ الله والحَمْدُ لِلَّهِ ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم يتعوّذ ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب، وسورة، ثم يقول عشر مرات: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إله إلا الله وَاللَّهُ أكْبَرُ، ثم يركع فيقولها عشراً، ثم يرفع رأسه فيقولها عشراً، ثم يسجد فيقولها عشراً، ثم يرفع رأسه فيقولها عشراً، ثم يسجد الثانية فيقولها عشراً، يصلي أربع ركعات على هذا، فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة، يبدأ بخمس عشرة تسبيحة، ثم يقرأ، ثم يسبّح عشراً، فإن صلى ليلاً، فأحبّ إليّ أن يسلّم في ركعتين، وإن صلّى نهاراً، فإن شاء سلّم، وإن شاء لم يسلّم (1) . وفي رواية عن عبد الله بن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، ثم يُسبِّح التسبيحات، وقيل لابن المبارك: إن سها في هذه الصلاة، هل يُسبِّح في سجدتي السهو عشراً عشراً؟ قال: لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. 534 - وروينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه، عن أبي رافع رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عَمُّ ألا أصِلُكَ ألا أحْبُوكَ ألا أنْفَعُكَ؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " يا عَمّ صَلّ أرْبَعَ رَكعَاتٍ تَقْرأُ فِي كُلّ رَكْعَةٍ بِفاتِحَةِ القُرآنِ وَسُورَةٍ، فإذَا انْقَضَتِ القِرَاءةُ، فَقُلِ: اللَّهُ أكْبَرُ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً قَبْلَ أنْ تَرْكَعَ، ثُمَّ ارْكَعْ فَقُلْها عَشْراً ثُمَّ ارْفَعْ رأسَكَ، فَقُلْها عَشْراً، ثُمَّ اسْجُدْ، فَقلْها عَشْراً، ثُمَّ ارْفَعْ رأسَكَ، فَقُلْها عَشْراً قَبْلَ أنْ تَقُومَ، فَتِلْكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلّ رِكْعَةٍ، وهي ثلاثمائة

_ = من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طلبت حاجة فأردت أن تنجح فَقُلْ: لا إِلهَ إلا الله ... فذكر نحو حديث عبد الله بن أبي أوفى بطوله وأتم منه، لكن لم يذكر الركعتين، قال احافظ بعن تخريجه من طريق الطبراني أحدهما في كتاب الدعاء والثاني في غيره قال: وقال الطبراني في هذه رواية: لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به يحيى بن سليمان المغربي، قال الحافظ: وأبو معمر، يعني شيخ يحيى بن سليمان واسمه حماد بن عبد الصمد، وهو راوي عن أنس، ضعيف جداً. قال الحافظ: ولحديث أنس طريق أخرى في مسند الفردوس من رواية شقيق بن إبراهيم البلخي العابد المشهور عن أبي هاشم عن أنس بمعناه، ولكن ابن هاشم واسمه كثير بن عبد الله كأبي معمر في الضعف وأشد. (1) ولكن له شواهد وطرق يقوى بها. منها حديث أبي رافع الذي سيأتي رواية الترمذي وابن ماجه. (*)

في أرْبَعِ رَكَعاتٍ، فَلَوْ كانَتْ ذُنُوبُكَ مِثْلَ رَمْلِ عالِجٍ غَفَرَهَا اللَّهُ تَعالى لَكَ "، قال: يا رَسولَ الله مَن يستطيع أن يقولها في يوم؟ قال: " إنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أنْ تَقُولَهَا فِي يَوْمٍ فَقُلْها فِي جُمُعَةٍ، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أنْ تَقُولَهَا في جُمُعَةٍ فَقُلْها فِي شَهْرٍ، فلم يزل يقول له حتى قال: قُلْها في سَنَةٍ " قال الترمذي: هذا حديث غريب. قلت: قال الإِمام أبو بكر بن العربي في كتابه " الأحوذيّ في شرح الترمذي ": حديث أبي رافع هذا ضعيف ليس له أصل في الصحة ولا في الحسن، قال: وإنما ذكره الترمذي لينبّه عليه لئلا يغترّ به، قال: وقول ابِن المبارك ليس بحجة، هذا كلام أبي بكر بن العربي. وقال العُقَيْلي: ليس في صلاة التسبيح حديث يثبت، وذكر أبو الفرج بن الجوزي أحاديثَ صلاة التسبيح وطرقها، ثم ضعَّفها كلَّها وبيّن ضعفَها، ذكره في كتابه في الموضوعات (1) . وبلغنا عن الإِمام الحافظ أبي الحسن الدارقطني رحمه الله أنه قال: أصح شئ في فضائل السوَر، فضل: (قل هو الله أحد) وأصحّ شئ في فضائل الصلوات فضل صلاة التسبيح، وقد ذكرتُ هذا الكلامَ مسنداً في كتاب " طبقات الفقهاء " في ترجمة أبي الحسن عليّ بن عمر الدارقطني، ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديثُ صلاة التسبيح صحيحاً، فإنهم يقولون: هذا أصحُّ ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفاً، ومرادُهم أرجحُه وأقلُّه ضعفاً (2) . قلت: وقد نصَّ جماعةٌ من أئمة أصحابنا على استحباب صلاة التسبيح هذه، منهم أبو محمد البغوي وأبو المحاسن الروياني. قال الروياني في كتابه " البحر " في آخر " كتاب الجنائز " منه: اعلم أن صلاة التسبيح مُرَغَّب فيها، يُستحبّ أن يعتادها في كل حين، ولا يتغافل عنها، قال: هكذا قال عبد الله بن المبارك وجماعة من العلماء. قال: وقيل لعبد الله بن المبارك: إن سهَا في صلاة التسبيح، أيُسبِّح في سجدتي السهو عشراً عشراً؟ قال: لا، وإنما هي ثلاثمائة تسبيحة، وإنما ذكرتُ هذا الكلام في سجود السهو، وإن كان قد تقدم لفائدة لطيفة، وهي أن مثل هذا الإِمام إذا حكى هذا ولم ينكره أشعر بذلك بأنه يوافقه، فيكثر القائل بهذا الحكم، وهذا الروياني من فضلاء أصحابنا المطّلعين، والله أعلم.

_ (1) ولكن للحديث طرق وشواهد تدلّ على أن له أصلا، وهو حديث حسن أو صحيح. (2) بل هو حديث صحيح لطرقه وشواهده. (*)

باب الأذكار المتعلقة بالزكاة

(بابُ الأذكارِ المتعلّقةِ بالزَّكَاة) قال الله تعالى: (خُذْ منْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103] . 535 - وروينا في (صحيحي البخاري ومسلم) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: " اللَّهُمَّ صَلّ عَلَيْهِمْ " فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: " اللَّهُمَّ صَلّ على آلِ أبي أوْفَى ". قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: الاختيار أن يقول: آخذ الزكاة لدافعها: آجَرَكَ (1) اللَّهُ فِيما أعْطَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُوراً، وَبَارَكَ لَكَ فِيما أَبْقَيْتَ، وهذا الدعاء مستحبّ لقابض الزكاة، سواءٌ كان الساعي أو الفقراء، وليس الدعاء بواجب على المشهور من مذهبنا ومذهب غيرنا. وقال بعض أصحابنا: إنه واجب، لقول الشافعي: فحقّ على الوالي أن يدعوَ له، ودليلُه ظاهر الأمر في الآية. قال العلماء: ولا يستحبُّ أن يقولَ في الدعاء: اللَّهُمّ صلِّ على فلان، والمراد بقوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ " أي: ادْع لهم. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ صَلّ عَلْيهِم عَلْيهِم " فقال لكون لفظ الصلاة مختصّاً به، فله أن يُخاطب به مَنْ يَشاءُ بخلافنا نحن. قالوا: وكما لا يُقال: محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً، فكذا لا يُقال: أبو بكر، أو عليّ صلى الله عليه وسلم، بل يُقال: رضي الله عنه، أو رضوان الله عليه، وشبه ذلك، فلو قال: صلى الله عليه وسلم، فالصحيح الذي عليه جمهور أصحابنا أنه مكروه كراهة تنزيه. وقال بعضهم: هو خلاف الأولى، ولا يُقال: مكروه. وقال بعضهم: لا يجوز، وظاهره التحريم، ولا ينبغي أيضاً في غير الأنبياء أن يُقال: عليه السلام، أو نحو ذلك إلا إذا كان خطاباً أو جواباً، فإن الابتداء بالسلام سنّة، وردُّه واجب، ثم هذا كلُّه في الصلاة، والسلام على غير الأنبياء مقصوداً. أما إذا جُعل تبعاً، فإنه جائز بلا خلاف، فيُقال: اللَّهمّ صلّ على محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرّيته وأتباعه، لأن السَّلفَ لم يمتنعوا من هذا، بل قد أُمرنا به في التشهد وغيره، بخلاف الصلاة عليه منفرداً، وقد قدَّمْتُ ذكرَ هذا الفصل مبسوطاً في " كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ". [فصل] : اعلم أن نيّة الزكاة واجبة، ونيّتها تكون بالقلب كغيرها من العبادات، ويستحبّ أن يضمّ إليه التلفظ باللسان، كما في غيرها من العبادات، فإن اقتصر على لفظ

_ (1) بمد الهمزة وقصرها، والقصر أجود. (*)

كتاب أذكار الصيام

اللسان دون النيّة بالقلب، ففي صحته خلاف. الأصحّ أنه لا يصحّ، ولا يجب على دافع الزكاة إذا نوى أن يقول مع ذلك: هذه زكاة، بل يكفيه الدفع إلى مَن كان من أهلها، ولو تلفظ بذلك لم يضرّه، والله أعلم. [فصل] : يُستحبّ لمن دفع زكاةً، أو صدقةً، أو نذراً، أو كفّارةً ونحو ذلك أن يقول: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العليم، قد أخبرَ الله سبحانه وتعالى بذلك عن إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم، وعن امرأة عمران. كتاب أذكار الصّيام (بابُ ما يقوله إذا رأى الهلالَ، وما يقولُ إذا رأى القمرَ) 536 - روينا في " مسند الدارمي " وكتاب الترمذي، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: " اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنا باليُمْنِ وَالإِيمانِ وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ " قال الترمذي: حديث حسن. 537 - وروينا في " مسند الدارمي " عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: " اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنا بالأمْنِ والإِيْمَانِ والسَّلامَةِ والإِسلامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنا وَرَبُّكَ اللَّهُ ". 538 - وروينا في " سنن أبي داود " في " كتاب الأدب " عن قتادة، أنه بلغه، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلالَ قال: " هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بالله الَّذي خَلَقَكَ "، ثَلاث مراتٍ، ثم يقول: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ". وفي رواية عن قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال صرف وجهَه عنه " هكذا رواهما أبو داود مُرسَلَين. وفي بعض نسخ أبي داود، قال أبو داود: ليس في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مُسند صحيح (1) . 539 - ورويناه في كتاب ابن السني، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 540 - وأما رؤية القمر، فروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي الله عنها

_ (1) وله شواهد مرسلة وموضولة يقوى بها، منها الذي بعده، وفي الباب عن علي وعبادة بن الصامت ورافع بن خديج وعائشة وغيرهم.

باب الأذكار المستحبة في الصوم

قالت: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فإذا القمر حين طلع فقال: " تَعَوَّذِي بالله مِنْ شَرّ هَذَا الغاسقِ (1) إذَا وقب " (2) . 541 - وروينا في " حلية الأولياء " بإسناد فيه ضعفٌ، عن زياد النميري، عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: " اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في رَجَبَ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنا رَمَضَانَ ". ورويناه أيضاً في كتاب ابن السني بزيادة (3) . (بابُ الأذكارِ المستحبّة في الصَّوْم) يُستحبُّ أن يجمعَ في نيّة الصوم بين القلب واللسان، كما قلنا في غيره من العبادات، فإن اقتصر على القلب كفاه، وإن اقتصرَ على اللسان لم يجزئه بلا خلاف، والسُّنّة إذا شتمَه غيرُه، أو تَسَافَه عليه في حال صومه أن يقول: " إني صائم إني صائم " مرتين أو أكثر. 542 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فإذَا صامَ أحَدُكُمْ فَلا يَرْفُثْ ولا يجهل، وَإِنِ امْرُؤٌ قاتَلَهُ أو شاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إني صَائِمٌ، إني صَائِمٌ، مَرَّتَيْن ". قلت: قيل: إنه يقول بلسانه، ويُسمع الذي شاتمه لعلّه ينزجر، وقيل: يقوله بقلبه لينكفّ عن المسافهة، ويحافظ على صيانة صومه، والأوّل أظهر. ومعنى شاتمه. شتمه متعرضاً لمشاتمته، والله أعلم. 534 - وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُم: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمامُ العادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ " قال الترمذي: حديث حسن.

_ (1) قال المصنف في فتاويه: الغسق: الظلمة، وسمّاه لأنه ينكسف ويسود ويظلم. والوقوب: الدخول في الظلمة ونحوها مما يستره من كسوف وغيره. قال الإِمام الحافظ أبو بكر الخطيب: شبه أن يكون سبب الاستعاذة منه في حال وقوبه لأن أهل الفساد ينتشرون في الظلمة، ويتمكنون فيها أكثر مما يتمكنون منه في حال الضياء فيقدمون على العظائم وانتهاك المحارم، فأضاف فعلمهم في ذلك الحال إلى القمر لأنهم يتمكنون منه بسببه، وهو من باب تسمية الشئ باسم ما هو من سببه، أو ملازم له. اه. (2) وهو حديث حسن. (3) وهي: " وكان يقول: إن ليلة الجمعة ليلة غراء ويومها يوم أزهر "، وإسناده ضعيف أيضا. (*)

باب ما يقول عند الإفطار

قلت: هكذا الرواية " حتى " بالتاء المثناة فوق (1) . (بابُ ما يقولُ عندَ الإِفْطَار) 544 - روينا في سنن أبي داود، والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: " ذَهَبَ الظَّمأُ، وابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأجْرُ إِنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى " (2) . قلت: الظمأ مهموز الآخر مقصور: وهو العطش. قال الله تعالى: (ذلكَ بأنهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمأُ) [التوبة: 120] وإنما ذكرت هذا وإن كان ظاهراً، لأني رأيتُ مَن اشتبه عليه فتوهمه ممدوداً. 545 - وروينا في سنن أبي داود، عن معاذ بن زهرة، أنه بلغه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: " اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ " هكذا رواه مرسَلاً (3) . 546 - وروينا في كتاب ابن السني، عن معاذ بن زهرة، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أعانَنِي فَصَمْتُ، وَرَزَقَنِي فأفْطَرْتُ " (4) . 547 - وروينا في كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: " اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنا، وَعلى رِزْقِكَ أَفْطَرْنا، فَتَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ " (5) . 548 - وروينا في كتابي ابن ماجه، وابن السني، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ للصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً ما تُرَدُّ " قال ابن أبي مُليكة: سمعتُ عبد الله بن عمرو إذا أفطرَ يقول: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كل شئ أنْ تَغْفِرَ لي " (6) .

_ (1) قال الحافظ: كأنه يريد الإشارة إلى أنها وردت بلفظ حين، وهو كذلك. (2) وهو حديث حسن. (3) ولكن له شواهد قوى بها. (4) وهو مرسل ضعيف، ولكن يشهد له الذي قبله. (5) وإسناده ضعيف، ولكن يشهد لأوله الأحاديث التي قبله. (6) وهو حديث حسن. (*)

باب ما يقول إذا أفطر عند قوم

(بابُ ما يَقُولُ إذا أفطرَ عندَ قوم) 549 - روينا في سنن أبي داود وغيره بالإِسناد الصحيح (1) ، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة، فجاء بخبزٍ وزيْتٍ، وهو كذلك في نسخ الأذكار، ولكنه تصحيف، والصحيح أنه جاء بخبز وزبيب. فأكل، ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وأكَلَ طَعَامَكُمُ الأبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ ". 550 - وروينا في كتاب ابن السني عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم دعا لهم فقال: " أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ... " إلى آخره (2) . (بابُ ما يَدعُو به إذا صَادَفَ ليلةَ القَدْر) 551 - روينا بالأسانيد الصحيحة في كتب الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرها عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قلتُ: يارسول اللَّه إن علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: " قُولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال أصحابَنا رحمهم الله: يُستحبّ أن يُكثِر فيها من هذا الدعاء، ويُستحبّ قراءةُ القرآن وسائر الأذكار والدعوات المستحبة في المواطن الشريفة، وقد سبقَ بيانها مجموعةً ومفرّقةً. قال الشافعي رحمه الله: أستحبّ أن يكون اجتهادُه في يومها كاجتهاده في ليلتها، هذا نصّه، ويستحبّ أن يُكثرَ فيها من الدعوات بمهمات المسلمين، فهذا شعار الصالحين وعباد الله العارفين، وبالله التوفيق. (بابٌ الأَذْكَارِ في الاعْتِكَاف) يُستحبّ أن يُكثر فيه من تلاوة القرآن وغيرِه من الأذكار. كتاب أذكارِ الحجّ اعلم أن أذكار الحجّ ودعواته كثيرة لا تنحصر، ولكن نُشير إلى المهمّ من مقاصدها، والأذكار التي فيها على ضربين: أذكار في سفره، وأذكار في نفس الحجّ. فأما التي في سفره، فنؤخرها لنذكرَها في أذكار الأسفار إن شاء الله تعالى. وأما التي في نفس الحج فنذكرُها على ترتيب عمل الحجّ إن شاء الله تعالى، وأحذفُ الأدلة والأحاديث في

_ (1) وفي إسناده ضعيف، وهو حديث صحيح بطرقه. (2) وهو حديث حسن. (*)

أكثرها خوفاً من طول الكتاب، وحصول السآمة على مُطالِعِهِ، فإن هذا البابَ طويلٌ جداً، فلهذا أسلُك فيه الاختصار إن شاء الله تعالى. فأول ذلك: إذا أراد الإِحرام اغتسل وتوضأ ولبس إزاره ورداءه (1) ، وقد قدمنا ما يقوله المتوضئ والمغتسل، وما يقول إذا لبس الثوب، ثم يُصلِّي ركعتين، وتقدمت أذكار الصلاة، ويُستحبّ أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو اللَّهُ أحَدٌ) فإذا فَرغَ من الصلاة استحبّ أن يدعوَ بما شاء، وتقدَّم ذكرُ جُملٍ من الدعواتِ والأذكار خلفَ الصلاة، فإذا أراد الإِحرام نواه بقلبه. ويُستحبُّ أن يساعدَ بلسانه قلبه (2) ، فيقول: نويتُ الحجَّ وأحرمتُ به لله عز وجل، لبّيك اللَّهمَّ لبّيك ... إلى آخر التلبية. والواجب نيّة القلب، واللفظ سنّة، فلو اقتصرَ على القلب أجزأه، ولو اقتصر على اللسان لم يجزئه. قال الإِمام أبو الفتح سُليم بن أيوب الرازي: لو قال يعني بعد هذا: اللَّهمّ لك أحرم نفسي وشعري وبشري ولحمي ودمي، كان حسناً (3) . وقال غيره: يقول أيضاً: اللهمّ إني نويت الحجّ فأعنّي عليه وتقبله مني، ويلبّي فيقول: 552 - لبيكَ اللَّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك، لا شريك لك، هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُستحبّ أن يقولَ في أوّل تلبية يلبّيها: لبّيك اللَّهمّ بحجة، إن كان أحرم بحجة، أو لبّيك بعمرة، إن كان أحرم بها، ولا يُعيد ذكرَ الحجّ والعمرة فيما يأتي بعد ذلك من التلبية على المذهب الصحيح المختار. واعلم أن التلبيةَ سنّةٌ لو تركها صحّ حجّه وعمرتُه ولا شئ عليه، لكن فاتته الفضيلةُ العظيمة والاقتداء برسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصحيح من مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، وقد أوجبها بعضُ أصحابنا، واشترطَها لصحة الحجّ بعضُهم، والصوابُ الأوّل، لكنْ

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": أي لصحة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فعلاً، روى الشيخان " أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في إزار ورداء " أو قولاً رواه أبو عوانة في " صحيحه " ولفظه " ليُحرم أحدكم في إزاره ورداء ونعلين "، والسنة كون الإِزار والرداء أبيضين، ويُسنّ كونهما جديدين نظيفين، وإلا فنظيفين، ويُكره المتنجس الجافّ والمصبوغ كله أو بعضه، ولو قبل النسج على الأوجه، أما المعصفر والمزعفر فيتعين اجتنابهما. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": ويستدل لخصوصية الإحرام باللسان بما أخرجه الشافعي عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت عائشة: يا ابن إخي هل تستثني إذا حججت؟ قلت: ماذا أقول، قالت: اللهم الحج أردت، وإليه عمدت، فإن يسر ته لي فهو الحج. (1) قال الحافظ: ما ذكره الشيخ - يعني النووي - عن سُليم بن أيوب وغيره لم أر له سلفا. (*)

تُستحبّ المحافظة عليها للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وللخروج من الخلاف، واللَّهُ أعلم. وإذا أحرم عن غيره قال: نويتُ الحجَّ وأحرمتُ به لله تعالى عن فلان، لبّيك اللَّهمّ عن فلان ... إلى آخر ما يقوله مَن يُحرم عن نفسه. [فصل] : ويُستحبّ أن يصلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التلبية، وأن يدعوَ لنفسه ولمن أراد بأمور الآخرة والدنيا، ويسألُ الله تعالى رضوانَه والجنّة، ويستعيذُ به من النار، ويُستحبّ الإِكثار من التلبية، ويستحبّ ذلك في كلّ حال قائِماً، وقاعداً، وماشياً، وراكباً، ومضطجعاً، ونازلاً، وسائراً، ومُحْدِثاً، وجُنباً، وحائضاً، وعند تجدّد الأحوال وتغايرها زماناً ومكاناً، وغير ذلك، كإقبال الليل والنهار، وعند الأسحار، واجتماع الرِّفاق، وعند القيام والقعود، والصعود والهبوط، والركوب والنزول، وأدبار الصَّلواتِ، وفي المساجد كلِّها، والأصحُّ أنه لا يُلبّي في حال الطواف والسعي، لأن لهما أذكاراً مخصوصة. ويُستحبّ أن يرفعَ صوتَه بالتلبية بحيث لا يشقّ عليه، وليس للمرأة رفع الصوت، لأن صوتَها يُخاف الافتتان به. ويُستحبّ أن يُكرِّر التلبية كل مرّة ثلاث مرات فأكثر، ويأتي بها متوالية لا يقطعها بكلام لا غيره. وإن سلَّم عليه إنسانٌ ردّ السلام، ويُكره السلام عليه في هذه الحالة. 553 - وإذا رأى شَيْئاً فَأعْجَبَهُ قال: لبّيك إن العيشَ عيشُ الآخرة، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . واعلم أن التلبية لا تزالُ مستحبةً حتى يرميَ جمرة العقبة يومَ النحر أو يطوفَ طوافَ الإِفاضة إن قدّمه عليها، فإذا بدأ بواحد منهما قطعَ التلبية مع أول شروعه فيه، واشتغلَ بالتكبير. قال الإِمام الشافعي رحمه الله: ويُلبّي المعتمرُ حتى يَستلم الركن. [فصل] : فإذا وصل المحرمُ إلى حرم مكة زاده الله شرفاً، أستحبَّ له أن يقولَ: اللهم

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: وأورد الحافظ مستند ما ذكره المصنف من قول ما ذكر إذا أعجبه، من طريق الشافعي عن مُجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من تلبية: لبيك ... إلى آخرها، حتى إذا كان ذات يوم والناس يدفعون عنه فكأنه أعجبه ما هو فيه فقال: لبّيك إن العيشَ عيش الآخرة، قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك كان يوم عرفة، قال الحافظ: هذا مرسل. (*)

فصل في أذكار الطواف

هَذَا حَرَمُكَ وأمْنُكَ فَحَرِّمنِي على النارِ، وأمِّنّي مِن عَذَابِكَ يَومَ تَبْعَثُ عِبادَكَ، وَاجْعَلْنِي مِن أولِيائِك وَأهْلِ طَاعَتِكَ، ويدعو بما أحبّ (1) . [فصل] : فإذا دخل مكة ووقع بصرُه على الكعبة ووصلَ المسجدَ، استحبّ له أن يرفع يديه ويدعو، فقد جاء أنه يُستجاب دعاءُ المسلم عند رؤية الكعبة، ويقول: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا البَيْتَ تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِن شَرَّفَهُ وكَرمَهُ مِمَّنْ حَجَّه أو اعْتَمَرَه تَشْرِيفاً وَتَكْرِيماً وَتَعْظِيماً وَبِرّاً. ويقول: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلامِ، ثم يدعو بما شاء من خيراتِ الآخرة والدنيا، ويقول عند دخول المسجد ما قدّمناه في أوّل الكتاب في جميع المساجد. فصل في أذكار الطواف: يُستحبّ أن يقول عند استلام الحجر الأسود وعند ابتداء الطواف أيضاً: بِسمِ اللَّهِ واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ إيمَاناً بِكَ وَتَصدِيقاً بِكِتابِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّباعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم. ويُستحبّ أن يكرِّر هذا الذكر عند محاذاة الحجر الأسود في كل طوفة، ويقولُ في رمله في الأشواط الثلاثة: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حجا مبرورا وذنْباً مَغْفُوراً، وَسَعْياً مَشْكُوراً " (2) . ويقول في الأربعة الباقية من أشواظا لطواف: " اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ وَأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَم، اللَّهُمَّ رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عَذَابَ النَّارِ ". قال الشافعي رحمه الله: أحبُّ ما يُقال في الطواف: اللَّهُمَّ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا

_ (1) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال المصنف في " المجموع " عن الماوردي: إن جعفر بن محمد روى عن أبيه، عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند دخوله مكة: " اللهم البلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك، وألزم طاعتك، متبعا لأمرك، راضيا بقدرك، مستسلما لأمرك، أسألك مسألة المضطر إليك، المشفق من عذابك، خائفا لعقوبتك، أن تستقبلني بعفوك، وأن تتجاوز عني برحمتك، وأن تدخلني جنتك " قال ابن علاّن: قال الحافظ: ولم يسنده الماوردي ولا وجدته موصولا ولا الذي قبله، وجعفر هذا هو الصادق، وأبوه محمد هو باقر، وأما جده، فإن كان الضمير لمحمد، فهو حسين بن علي، ويحتمل أن يريد أباه علي بن أبي طالب لأنه جد الأعلي، وعلى الأول يكون مرسلا، وقد وجدت في " مسند الفردوس " من حديث ابن مسعود قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وضعُ يده على الكعبة فقال: اللَّهُمَّ البَيْتُ بَيْتُك، ونحن عبيدك، نواصيا بيدك ... فذكره حديثا، وسنده ضعيف. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: ذكره الشافعي وأسنده إليه البيهقي في " الكبير " وفي " المعرفة "، ولم يذكر سند الشافعي به، وسيأتي في القول في الرمل بين الصفا والمروة نحوه. (*)

فصل في الدعاء الملتزم

حَسَنَةً ... إلى آخره، قال: وأُحِبُّ أن يُقال في كله، ويُستحبّ أن يدعوَ فيما بين طوافه بما أحبّ من دين ودنيا، ولو دعا واحد وأمَّن جماعةٌ فحسن. وحُكي عن الحسن رحمه الله أن الدعاء يُستجاب هنالك في خمسة عشر موضعاً: في الطواف، وعند الملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي المسعى، وخلف المقام، وفي عرفات، وفي المزدلفة، وفي منى، وعند الجمرات الثلاث، فمحروم مَن لا يَجتهد في الدعاء فيها. ومذهب الشافعي وجماهيرُ أصحابه أنه يُستحبّ قراءةُ القرآن في الطواف لأنه موضعُ ذكر. وأفضلُ الذكر قراءةُ القرآن. واختار أبو عبد الله الحليمي من كبار أصحاب الشافعي أنه لا يُستحبّ قراءة القرآن فيه، والصحيحُ هو الأول. قال أصحابُنا: والقراءةُ أفضلُ من الدعوات غير المأثورة، وأما المأثورةُ فهي أفضل من القراءة على الصحيح. وقيل: القراءة أفضل منها. قال الشيخ أبو محمد الجويني رحمه الله: يُستحبّ أن يقرأ في أيام الموسم ختمةً في طوافه فيعظُم أجرها (1) ، والله أعلم. ويُستحبّ إذا فرغَ من الطواف ومن صلاة ركعتي الطواف أن يدعوَ بما أحبّ، ومن الدعاء المنقول فيه: اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكِ أتَيْتُكَ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ (2) وأعْمالٍ سَيِّئَةٍ وَهَذَا مَقَامُ العائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ فاغْفِرْ لي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ". فصل في الدعاء الملتزم، وهو ما بين الكعبة والحجر الأسود: وقد قدَّمْنَا أنه يُستجاب فيه الدعاء. ومن الدعوات المأثورة: " اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَمْداً يُوَافِي نعمك، ويكافئ مَزِيدَكَ، أحْمَدُكَ بِجَمِيعِ مَحَامِدِكَ ما عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ على جَمِيعِ نِعَمِكَ ما عَلِمْتُ مِنْها وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَعَلى كُلّ حالٍ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على مُحَمََّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ أعِذنِي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، وأَعِذْني مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَقَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَكْرَمِ وَفْدِكَ عَلَيْكَ، وألْزِمْنِي سَبِيلَ الاسْتِقَامَةِ حتَّى ألْقاكَ يا رب العالمين، ثم يدعو بما أحب (3) .

_ (1) لا سند له في ذلك. (2) في بعض النسخ: بذنوب كبيرة. (3) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: لم أقف له على أصل. (*)

[فصل] : في الدعاء في الحجر

[فصل] : في الدعاء في الحِجْر، بكسر الحاء وإسكان الجيم، وهو محسوب من البيت. وقد قدمنا أنه يُستجاب الدعاءُ فيه. ومن الدعاء المأثور فيه: يا رَبّ أتَيْتُكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ مُؤَمِّلاً مَعْرُوفَكَ فَأنِلْنِي مَعْرُوفاً مِنْ مَعْرُوفِكَ تُغْنِينِي بِهِ عَنْ مَعْرُوفِ مَنْ سِوَاكَ يا مَعْرُوفاً بالمَعْرُوفِ " (1) . فصل في الدعاء في البيت: وقد قدَّمْنا أنه يُستجاب الدعاءُ فيه. وروينا في كتاب النسائي عن أُسامةَ بن زيد رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخلَ البيتَ أتى ما استقبلَ من دُبر الكعبة فوضعَ وجهَه وخدّه عليه، وحمِدَ اللَّهَ تَعالى وأثنى عليه وسألَه واستغفرَه، ثم انصرفَ إلى كلِّ ركنٍ من أركانِ الكعبةِ، فاستقبلَه بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله عز وجل والمسألة، والاستغفار، ثم خرجَ " (2) . فصل في أذكار السعي: وقد تقدَّم أنه يُستجاب الدعاءُ فيه، والسُّنّة أن يُطيل القيام على الصفا، ويستقبل الكعبة، فيُكبّر ويدعو فيقول: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، ولِلَّهِ الحَمْدُ، اللَّهُ أكْبَرُ على ما هَدَانا، والحَمْدُ لله على ما أولانا، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ على كل شئ قَدِيرٌ، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، أنجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون، اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ، وَإِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ، وإنِّي أسألُكَ كما هَدَيْتِني لِلإِسْلامِ أنْ لا تَنْزِعَهُ مِنِّي حتَّى تَتَوَفَّاني وأنَا مُسْلِمٌ ". ثم يدعو بخيرات الدنيا والآخرة، ويكرّر هذا لذكر والدعاء ثلاثَ مرّات، ولا يُلبّي، وإذا وصل إلى المروة رَقَى عليها وقال الأذكار والدعواتِ التي قالها على الصفا (3) . 555 - وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول على الصفا: اللهم

_ (1) قال ابن علاّن: قال الحافظ: روينا الأثر المذكور في " المنتظم " لابن الجوزي وفي " مثير العزم " له بسند ضعيف من طريق مالك بن دينار قال: بينا أنا أطوف إذا أنا بامراة في الحجر وهي تقول ... وذكر الحديث، ثم ذكر قصة له ولأيوب السختياني معها قال: فسألت عنها، فقالوا: هذه مليكة بنت المنكدر هي أخت محمد بن المنكدر أحد أئمة التابعين. (2) وهو حديث الصحيح، صححه الحافظ في " تخريج الأذكار ". (3) وهو حديث الصحيح، أخرجه مسلم والدارمي وأبو داود والنسائي من حديث جابر الطويل في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)

ومن الأدعية المختارة في السعي وفي كل مكان

اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولِك صلى الله عليه وسلم، وجنبنا حدودك، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا نُحِبُّكَ ونُحِبُّ مَلائِكَتَكَ وأنْبِياءَكَ وَرُسُلَكَ، وَنُحِبُّ عِبادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنا إلَيْكَ وَإلى مَلائِكَتِكَ وإلَى أنْبِيائِكَ وَرُسُلِكَ، وإلى عِبادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنا لليُسْرَى، وَجَنِّبْنا العُسْرَى، واغْفِرْ لَنا في الآخِرَةِ والأولى، وَاجْعَلْنا مِنْ أئمَّةِ المُتَّقِينَ. ويقول في ذهابه ورجوعه بين الصفا والمروة: رَبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتجاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّكَ أنْتَ الأعَزُّ الأكْرَمُ، اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (1) . ومن الأدعية المختارة في السعي وفي كل مكان: 556 - " اللَّهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلْبي على دِينكَ ". 557 - " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَالفَوْزَ بالجَنَّةِ، وَالنَّجاةَ مِنَ النَّارِ ". 558 - " اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى ". 559 - " اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِك ". 560 - " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ أعْلَمُ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرّ كُلِّهِ ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أعْلَمْ، وأسألُكَ الجَنَّةَ وَما قَرّبَ إِلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ ". ولو قرأ القرآن كان أفضل. وينبغي أن يجمع بين هذه الأذكار والدعوات والقرآن، فإن أراد الاقتصار أتى بالمهمّ. فصل في الأذكار التي يقولها في خروجه من مكة إلى عرفات: يُستحبّ إذَا خرجَ مِنْ مكة متوجهاً إلى مِنىً أن يقول: اللَّهُمَّ إيَّاكَ أرْجُو، وَلَكَ أدْعُو، فَبَلِّغْنِي صَالِحَ أمَلِي، واغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَامْنُنْ عَليَّ بِما مَنَنْتَ بِهِ على أهْلِ طاعَتِكَ إنَّكَ على كل شئ قدير (2) . وإذا سار من مِنىً إلى عَرَفَةَ استُحِبَّ أن يقول: اللَّهُمَّ إلَيْكَ تَوَجَّهتُ، ووجهك

_ (1) وهو موقوف صحيح. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أره مرفوعاً، ووجدته في كتاب " المناسك " للحافظ أبي إسحاق الحربي، لكنه لم ينسبه لغيره وقال الايجي: واستحسن بعضُ العلماء أن يقول ... فذكره، وهو حسن، ولا نعلمُ له أصلاً. (*)

الكَرِيمَ أرَدْتُ، فاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُوراً، وَحَجِّي مَبْرُوراً، وارْحَمْنِي وَلاَ تُخَيِّبْني إنَّكَ على كل شئ قدير (1) . ويُلَبِّي ويقرأ القرآن، ويُكثر من سائر الأذكار والدعوات، ومن قوله: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عَذَابَ النَّارِ. فصل في الأذكار والدعوات المستحبّات بعرفات:. 561 - قد قدَّمنا في أذكار العيد حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم " خَيْرُ الدُّعاءِ يَوْمَ عَرَفَة، وَخَيْرُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قَدِيرٌ " (1) . فيُستحبّ الإِكثارُ من الذكر والدعاء، ويَجتهدُ في ذلك، فهذا اليوم أفضلُ أيام السنة للدعاء، وهو مُعظم الحج (2) ، ومقصودُه والمعوّل عليه، فينبغي أن يستفرغَ الإِنسانُ وُسعَه في الذكر والدعاء، وفي قراءة القرآن، وأن يدعوَ بأنواع الأدعية، ويأتي بأنواع الأذكار، ويدعو لنفسه، ويذكر في كلّ مكان، ويدعو منفرداً ومع جماعة، ويدعو لنفسه، ووالديه، وأقاربه ومشايخه، وأصحابه، وأصدقائه، وأحبابه، وسائر مَن أحسن إليه، وجميع المسلمين، وليحذرْ كلَّ الحذرِ من التقصير في ذلك كله، فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه، بخلاف غيره، ولا يتكلَّفُ السجعَ في الدعاء، فإنّه يُشغل القلبَ، ويُذهبُ الانكسار، والخضوعَ، والافتقار، والمسكنة والذلّة، والخشوع، ولا بأس بأن يدعو بدعواتٍ محفوظة معه، له أو غيره، مسجوعة إذا يشتغل بتكلّف ترتيبها ومراعاة إعرابها. والسُّنّة أن يخفضَ صوتَه بالدعاء، ويكثر من الاستغفار والتلفّظ بالتوبة من جميع المخالفات، مع الاعتقاد بالقلب، ويلحّ في الدعاء، ويكرّره، ولا يستبطئ الإِجابة، ويفتح دعاءه ويختمه بالحمد لله تعالى والثناء عليه سبحانه وتعالى، والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليختمه بذلك، وليحرص على أن يكون مستقبلَ الكعبة وعلى طهارة. 562 - وروينا في كتاب الترمذي عن عليّ رضي الله عنه قال: " أكثرُ دعاءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عَرَفة في الموقف: " اللَّهُمَّ لَكَ الحمدُ كالذي نقولُ، وخيراً مما نقولُ، اللَّهُمَّ لك

_ (1) قال الحافظ: والقول في هذا الذكر كالذي قبله. (2) وهو حديث حسن. (3) أي: الوقوف بمعرفة معظم الحج، إذ بإدراكه يُدرك الحج، وبفواته يفوت، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة ". (*)

صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَمَاتِي، وإلَيْكَ مآلِي، وَلَكَ رَبِّ تُرَاثي (1) ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ ما تجئ بهِ الرّيحُ " (2) . ويُستحبّ الإِكثار من التلبية فيما بين ذلك، ومن الصَّلاة والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يُكثِرَ من البكاء مع الذكر والدعاء، فهنالك تُسكبُ العَبَرات، وتُستقال العثرات، وترتجى الطلبات، وإنه لموقفٌ عظيم، ومَجمع جليل، يجتمعُ فيه خيار عباد الله المخلصين، وهو أعظم مجامع الدنيا. ومن الأدعية المختارة " اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة و، قنا عَذَابَ النَّارِ ". 563 - " اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ فاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْني إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ". " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَغْفِرَةً تُصْلِحْ بِها شأني فِي الدَّارَيْنِ، وارْحَمْنِي أسْعَدُ بِهَا في الدَّارَيْنِ، وَتُبْ عليَّ تَوْبَةً نَصُوحاً لا أنْكُثها أبَداً، وألْزِمْنِي سَبِيلَ الاسْتِقَامَةِ لا أَزيغُ عَنْها أبَداً " (3) . " اللَّهُمَّ انْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ المَعْصِيَةِ إلى عِزَّ الطَّاعَةِ، وأغْنِنِي بحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطاعَتِكَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ ". 564 - " وَنَوِّرْ قَلْبِي وَقَبْرِي، وأعِذْنِي مِنَ الشَّرَّ كُلِّهِ، واجْمَعْ لي الخَيْرَ كُلَّهُ " (4) . فصل في الأذكار المستحبّة في الإِفاضة من عَرَفَة إلى مزدلفة: قد تقدم أنه يُستحبّ الإِكثارُ من التلبية في كل موطن، وهذا من آكدها. ويُكثر من قراءة القرآن، ومن الدعاء. 565 - ويُستحبّ أن يقول: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ. ويُكرِّر ذلك.

_ (1) أي إرثي ومالي كله لك، إذ ليس لأحد معك ملك. (2) رواه الترمذي في الدعوات، رقم (3515) من حديث عليّ بن ثابت، عن قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي رضي الله عنه، وقيس بن الربيع صدوق تغيير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، ولذلك قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. (3) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أقف عليه مسنداً. (4) قال الحافظ: وقع بعضه في حديث أبي سعيد، بسند ضعيف في " مستد الفردوس ". (*)

ويقول: إِلَيْكَ اللَّهُمَّ أرْغَبُ، وإيَّاكَ أرْجُو، فَتَقَبَّلْ نُسُكِي، وَوَفِّقْنِي، وارْزُقْنِي فيهِ مِنَ الخَيْرِ أكْثَرَ ما أطْلُبُ، وَلا تُخَيِّبْني إنَّكَ أنْتَ اللَّهُ الجَوَادُ الكَرِيمُ (1) ، وهذه الليلة هي ليلة العيد، وقد تقدَّمَ في أذكار العيد بيان فضل إحيائها بالذكر والصلاة، وقد انضمّ إلى شرف الليلة شرفُ المكان، وكونُه في الحرم والإِحرام، ومَجمعُ الحجيج، وعقيب هذه العبادة العظيمة، وتلك الدعوات الكريمة في ذلك الموطن الشريف. فصل في الأذكار المستحبة في المزدلفة والمشعر الحرام: قال الله تعالى: (فإذا أفضْتُمْ (2) مِنْ عَرفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّه (3) عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ (4) واذْكُرُوهُ كما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين) [البقرة: 198] فيُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء في المزدلفة في ليلته ومن الأذكار والتلبية وقراءة القرآن، فإنها ليلة عظيمة، كما قدَّمناه في الفصل الذي قبل هذا. 566 - ومن الدعاء المذكور فِيهَا: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ أنْ تَرْزُقَنِي في هَذَا المَكانِ جَوامِعَ الخَيْرِ كُلِّهِ، وأنْ تُصْلِحَ شأنِي كُلَّهُ، وأنْ تَصْرِفَ عَنِّي الشَّرَّ كُلَّهُ، فإنَّه لاَ يَفْعَلُ ذلكَ غَيْرُكَ، وَلاَ يَجُودُ بِهِ إِلاَّ أنت (5) . وإذا صلَّى الصبحَ في هذا اليوم صلاَّها في أوّل وقتها، وبالغَ في تبكيرها، ثم يسيرُ إلى المشعر الحرام، وهو جبل صغير في آخر المزدلفة يُسمَّى " قُزَح " بضم القاف وفتح الزاي، فإن أمكنه صعودُه صَعَدَه، وإلا وقف تحتَه مستقبلَ الكعبة، فيَحمد الله تعالى، ويُكبِّره، ويُهلِّله ويُوحِّده، ويُسبِّحه، ويُكثر من التلبية والدعاء. ويُستحبّ أن يقولَ: اللَّهُمَّ كما وَقَفْتَنا فِيهِ وأرَيْتَنا إيّاه، فَوَفِّقْنا لذِكْرِكَ كما هَدَيْتَنا،

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": ذال الحافظ: وهو حسن، ولمأره مأثورا. (2) فإذا أفضتم: أي دفعتم، يقال فاض الإِناء: إذا امتلأ حتى ينصبّ من نواحيه. (3) فاذكروا الله، أي: بالدعاء والتلبية. (4) وهو مأخوذ من الشعار، أي: العلامة، لأنه من معلم الحج، وأصل الحرام: المنع، فهو ممنوع أن تفعل فيه ما لم يؤذن فيه. (5) قال بان علان في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أره مأثوراً، لكن تقدم الدعاء بصلاح الشأن قال ابن علاّن: وورد في الدعاء بجوامع الخير ما أسنده الحافظ من طريق الطبراني عن أُمّ سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو ... فذكر حديثا طويلا، وفيه: " اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة " قال الحافظ بعد تخريجه: هذا حديث حسن غريب، أخرجه الحاكم مفرقا في موضعين وقال ; صحيح الإسناد. (*)

فصل في الأذكار المستحبة في الدفع من المشعر الحرام إلى منى

وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمنَا كما وَعَدْتَنا بِقَوْلِكَ، وَقَوْلُكَ الحَقّ (فإذا أفضْتُمْ مِنْ عَرفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّه عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ واذْكُرُوهُ كما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلهِ لَمِنَ الضَّالِّين، ثمَّ أفيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ الله غفور رحيم) (1) ويُكثر من قوله: (رَبَّنَا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَضنَةً وفي الآخِرةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذاب النَّارِ) . ويُستحبّ أن يقول: " اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْد كُلُّهُ، وَلَكَ الكَمالُ كُلُّهُ، ولك الجَلالُ كُلُّهُ، ولك التقديس كُلُّهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي جَميعَ ما أسْلَفْتُهُ، وَاعْصِمْنِي فِيما بَقِيَ، وَارْزُقْني عَمَلاً صَالِحاً تَرْضَى بِهِ عنِّي يا ذَا الفَضْلِ العَظِيمِ " (2) . اللَّهُمَّ إني أسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ بخَوَاصّ عِبَادِكَ، وأتَوَسَّلُ بِكَ إِلَيْكَ، أسألُكَ أنْ تَرْزُقَنِي جَوَامِعَ الخَيْرِ كُلِّهِ، وأن تَمُنَّ عَليَّ بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلى أوْلِيائِكَ، وأنْ تُصْلحَ حالي في الآخِرَةِ وَالدُّنْيا يا أرحم الراحمين (3) . فصل في الأذكار المستحبّة في الدفع من المشعر الحرام إلى منى: إذا أسفر الفجرُ انصرفَ من المشعر الحرام متوجهاً إلى مِنىً، وشعارهُ التلبيةُ والأذكارُ والدعاءُ والإِكثارُ من ذلك كلّه، وليحرصْ على التلبية فهذا آخر زمنها، وربما لا يُقدَّر له في عمره تلبية بعدها. فصل في الأذكار المستحبة بمِنى يَوْمَ النحر: إذا انصرفَ من المشعر الحرام ووصلَ مِنىً يُستحبّ أن يقول: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بَلَّغَنِيها سالِماً مُعافَىً، اللَّهُمَّ هَذِهِ مِنَى قَدْ أتَيْتُها، وأنا عَبْدُكَ، وفي قَبْضَتِكَ أسألُكَ أنْ تَمُنَّ عَليَّ بِمَا مَنَنْتَ به على أوليائِكَ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ الحِرْمانِ وَالمُصِيبَةِ في دِينِي يا أرْحَمَ الراحمين (4) . فإذا شرعَ في رمي جمرة العَقَبة قطعَ التلبية مع أوّل حصاة واشتغلَ بالتكبير، فيُكبِّر مع كل حصاة، ولا يُسنُّ الوقوف عندها للدعاء (5) ، وإذا كان معه هَدْي فنحرَه أو ذبحه،

_ (1) قال بان علان في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أره مأثورا، وكلام الشيخ - يعني النووي - يشير إلى أنه منتزع من الأية التي ذكرها، وعزاه في " شرح المهذب " فقال: واستحبَّ أصحابُنا أن يقول ... الخ. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أره مأثوراً، وورد بعضه غير مقيد في حديث لأبي سعيد، أخرجه ابن منصور في " مسند الفردوس " مرفوعاً ... فذكره، وقال: وفي سنده خالد بن يزيد العمري، وهو متروك. (3) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أره مأثورا. (4) قال الحافظ: لم أره مأثورا. (5) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": فائدة: أخرج الحافظ عن جابر رضي الله عنه قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (*)

فصل في الأذكار المستحبة بمنى في أيام التشريق

استحبّ أن يقول عند الذبح أو النحر: بِسْمِ اللَّهِ واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وسَلّم (1) ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، تَقَبَّلْ مِنِّي، أو تَقَبَّلْ مِنْ فُلانٍ إن كان يذبحه عن غيره. وإذا حلَقَ رأسه بعد الذبح فقد استحبّ بعض علمائنا أن يمسك ناصيته بيده حالة الحلق ويُكبِّر ثلاثاً ثم يقول: الحَمْدُ لله على ما هَدَانا، والحَمْدُ لِلَّهِ على ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتي فَتَقَبَّلْ مِنِّي وَاغْفِرْ لي ذُنُوبي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وللْمُحَلِّقِينَ والمُقَصِّرِينَ، يا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ آمِين (2) . وإذا فرغ من الحلق كبَّر وقال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الذي قَضَى عَنَّا نُسُكَنا، اللَّهُمَّ زِدْنا إيمَاناً ويقينا وَعَوناً، وَاغْفِرْ لَنَا ولآبائِنا وأُمَّهاتِنا والمُسْلِمينَ أجْمَعِينَ (3) . فصل في الأذكار المستحبة بمِنىً في أيام التشريق: روينا في " صحيح مسلم " عن نُبَيْشَةَ الخير (4) الهذليِّ الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيَّامُ التَّشْرِيقِ (5) أيَّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذْكْرِ اللَّهِ تَعالى " فيُستحبّ الإِكثار من الأذكار، وأفضلُها قراءة القرآن. 568 - والسنّة أن يقف في أيام الرمي عند الجمرة الأولى إذا رماها، ويستقبل الكعبة، ويحمَد الله تعالى، ويُكبِّر، ويُهلِّلُ، ويُسبِّح، ويدعو مع حضور القلب وخشوع الجوارح.

_ = وهو واقف على القرن، وهو يقول: " يا حيُّ يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، فاكفني شأنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْني إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عين " وقال الحافظ: حديث حسن غريب. (1) قال ابن علان في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: نص عليها الشافعي فقال: والتسمية في الذبيحة: بسم الله، وما ذاد بعد ذلك من ذكر اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ، ولا أكره أن يقول فيها: صلى الله على محمد، بل أحب ذلك، وأحب أن يكثر الصلاة عليه، لأن ذكر والصلاة على محمد صلَّى الله علثه وسلم عبادة يؤجر عليها. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: قال الحافظ: لم أره مأثورا، وآخره، أي: " اغفر للمحلقين والمقصرين " متق عليه. (3) قال الحافظ: لم أقف عليه أيضا. (4) عن نبيشة الخير: هو بالنون فموحدة فتحتية فشين معجمة مصغّر، يقال فيه: نبيشة الخير بن عبد الله الهذلي، ويقال: نبيشة بن عمرو بن عوف " روى أنه دخلَ عليّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعنده أسارى فقال: يا رسول الله إما أن تفاديهم، وإما أن تمنّ عليهم، فقال: " أمرت بخير، أنت نبيشة الخير " روى عنه مسلم هذا الحديث، ولم يروِ عنه البخاري شيئاً، وخرّج عنه الأربعة. (5) سميت بذلك، لإشراق ليلها بالقمر ونهارل بالشمس، وقيل: لتشريق لحوم الأضاحي فيها. (*)

569 - ويَمكثُ كذلك قدرَ سورة بقرة، ويفعلُ في الجمرة الثانية وهي الوسطى كذلك. 570 - ولا يقفُ عند الثالثة، وهي جمرة العقبة. فصل: وإذا نفرَ من مِنىً فقد انقضى حجُّه، ولم يبقَ ذكرٌ يتعلَّق بالحجّ، لكنه مسافر، فيُستحبّ له التكبير والتهليل والتحميد والتمجيد وغير ذلك من الأذكار المستحبة للمسافرين، وسيأتي بيانُها إن شاء الله تعالى. وإذا دخل مكة وأراد الاعتمار فعل في عمرته من الأذكار ما يأتي به في الحجّ في الأمور المشتركة بين الحجّ والعمرة وهي: الإحرام، والطواف، والسعي، والذبح، والحلق، والله أعلم. فصل فيما يقوله إذا شرب ماء زمزم. 571 - روينا عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَاءُ زمْزَمَ لِما شُرِبَ لَهُ " (1) وهذا مما عَمِلَ العلماءُ والأخيارُ به، فشربُوه لمطالبَ لهم جليلةٍ فنالوها. قال العلماء: فيُستحبّ لمن شربَه للمغفرة أو للشفاء من مرضٍ ونحو ذلك أن يقول عند شربه: اللَّهُمَّ إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " ماءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ " اللَّهُمَّ وإني أشْرَبُهُ لِتَغْفِرَ لي وَلِتَفْعَلَ بي كَذَا وكَذَا، فاغْفِرْ لي أوِ افْعَلْ. أو: اللَّهُمَّ إني أشْرَبُهُ مُسْتَشْفِياً بِهِ فَاشْفِني، ونحو هذا، والله أعلم. فصل: وإذا أراد الخروج من مكة إلى وطنه طافَ للوَدَاع، ثم أتى الملتَزَم فالتزمه، ثم قال: اللَّهُمَّ، البَيْتُ بَيْتُك، وَالعَبْدُ عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبدِكَ، وابْنُ أمَتِكَ، حَمَلْتَنِي على ما سَخَّرْتَ لي مِنْ خَلْقِكَ، حتَّى سَيَّرْتَني فِي بِلادِكَ، وَبَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ حتَّى أعَنْتَنِي على قَضَاءِ مَناسِكِكَ، فإنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فازْدَدْ عني رضى، وَإِلاَّ فَمِنَ الآنَ قَبْلَ أنْ يَنأى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، هَذَا أوَانُ انْصِرَافي، إنْ أذِنْتَ لي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلا بِبَيْتِكَ، وَلا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ فأصْحِبْنِي العافِيَةَ في بَدَنِي وَالعِصْمَةَ في دِينِي، وأحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طاعَتَكَ ما أبْقَيْتَنِي واجْمَعْ لي خَيْرَي الآخِرةِ والدُّنْيا، إنَّكَ على كُلّ شئ قدير (2) ويفتتح

_ (1) وهو حديث حسن لشواهد. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": أخرجه الييهقي بسنده إلى الشافعي، قال: وهو حسن. قال الحافظ: وقد وجدته بمعناه من كلام بعض مَن روى عنه الشافعي أخرجه الطبراني في كتاب = (*)

هذا الدعاءَ ويختمه بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في غيره من الدعوات. وإن كانت امرأة حائضاً استحبّ لها أن تقف على باب المسجد وتدعو بهذا الدعاء ثم تنصرف، والله أعلم. فصل في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكارها: اعلم أنه ينبغي لكل من حجّ أن يتوجه إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإن زيارته صلى الله عليه وسلم من أهمّ القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات، فإذا توجَّه للزيارة أكثرَ من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في طريقه، فإذا وقعَ بصرُه على أشجار المدينة وحَرمِها وما يَعرفُ بها، زاد من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، وسألَ الله تعالى أن ينفعَه بزيارته صلى الله عليه وسلم وأن يُسعدَه بها في الدارين، وليقلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ عَليَّ أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَارْزُقْنِي في زِيارَةِ قَبْرِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم ما رزقْتَهُ أوْلِياءَكَ وأهْلَ طَاعَتِكَ، واغْفِرْ لي وارْحمنِي يا خَيْرَ مَسْؤُول. وإذا أراد دخول المسجد استحبّ أن يقولَ ما يقوله عند دخول باقي المساجد، وقد قدّمناه في أول الكتاب، فإذا صلّى تحية المسجد أتى القبر الكريم فاستقبله واستدبر القبلة (1) على نحو أربع أذرع من جدار القبر، وسلَّم مقتصداً لا يرفع صوته، فيقول: 572 - السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ الله، السَّلامُ عَلَيْكَ يا خِيرَةَ الله مِنْ خَلْقِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعلى آلِكَ وأصْحابِكَ وأهْلِ بَيْتِكَ وَعَلى النَّبيِّينَ وَسائِرِ الصَّالِحِينَ ; أشْهَدُ أنَّكَ بَلَّغْتَ الرِّسالَةَ، وأدَّيْتَ الأمانَةَ، وَنَصَحْتَ الأُمَّةَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أفْضَلَ مَا جَزَى رَسُولاً عَنْ أُمَّتِهِ (2) .

_ = " الدعاء " عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق قال ... فذكره. قال الحافظ: وقد وردت أثار عديدة فيما يدعى به عند الملتزم ليس فيها شئ من المرفوعات ولا الموقوفات، فلم أستوعبها، واقتصرت على أثر واحد، ثم أخرجه عن الأصمعي قال: رأيت أعرابيا عند الملتزم، فقال: اللهم إن علي حقوقا فتصدق بها علي، وإن علي تبعات فتحمل بها عني، وأنا ضيفك، وقد أوجدت لكل ضيف قرى، فاجعل قراي الليلة الجنة. (1) وقال بعض العلماء: يستقبل القبلة، ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: لم أجده مأثوراً بهذا التمام، وقد ورد عن ابن عمر بعضه أنه كان يقف على قبر رسول الله صلى الله عليه سلم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر، كذا في " إيضاح المناسك ". اقل ابن علان: وأسنده الحافظ من طريقين، بهذا اللفظ في إحدهما، وبنحوه في الأخرى، وقال في كل منهما: موقوف صحيح، وعن مالك رحمه الله يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وهذا الوارد عن ابن عمر وغيره، مال إليه الطبري فقال: وإن قال الزائر ما تَقَدَّمَ مِنْ التطويل فلا بأس به، إلا أن الاتباع أولى من الابتداع ولو حَسُنَ ... الخ. (*)

وإن كان قد أوصاه أحدٌ بالسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السَّلام عليكَ يا رسولَ الله من فلان بن فلان، ثم يتأخرَ قدر ذراع إلى جهة يمينه فيُسلِّم على أبي بكر، ثم يتأخرُ ذراعا آخر فسلام على عُمر رضي الله عنهما، ثم يرجعُ إلى موقفه الأوّل قُبالة وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوسلُ به في حقّ نفسه، ويتشفعُ به إلى ربه سبحانه وتعالى، ويدعو لنفسه ولوالديه وأصحابه وأحبابه ومَن أحسنَ إليه وسائر المسلمين، وأن يَجتهدَ في إكثار الدعاء، ويغتنم هذا الموقف الشريف ويحمد الله تعالى ويُسبِّحه ويكبِّره ويُهلِّله، ويُصلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُكثر من كل ذلك، ثم يأتي الروضةَ بين القبر والمنبر فيُكثر من الدعاء فيها. 573 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما بَيْنَ قبري وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ " (1) . وإذا أراد الخروج من المدينة والسفرَ استحبّ أن يُودِّع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحبّ ثم يأتي القبر فيُسلّم كما سلَّم أوّلاً، ويُعيد الدعاء، ويُودّع النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول: " اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ هَذَا آخِرَ العَهْدِ بِحَرَمِ رَسُولِكَ، وَيَسِّرْ لي العَوْدَ إِلى الحَرَمَيْنِ سَبِيلاً سَهْلَةً بِمَنِّكَ وَفَضْلِكَ، وَارْزقْنِي العَفْوَ والعَافِيةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وَرُدَّنا سالِمِينَ غانِمِينَ إلى أوْطانِنا آمِنِينَ ". فهذا آخرُ ما وفّقني الله بجمعه من أذكار الحجّ، وهي وإن كان فيها بعض الطول بالنسبة إلى هذا الكتاب، فهي مختصرة بالنسبة إلى ما نحفظه فيه، والله الكريم نسأل أن يوفِّقنا لطاعته، وأن يجمعَ بيننا وبين إخواننا في دار كرامته.

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: فيه شيئان، الأول: أنهما لم يخرِّجاه لا عن أبي هريرة ولا عن غيره إلا بلفظ " بيتي " بدل " قبري " الثاني: أن هذا القدر أخرجاه من حديث عبد الله بن زيد المازني، وعندهما عن أبي هريرة مثله، لكن بزيادة " ومنبري على حوضي ". قال ابن علاّن: ثم أورد الحافظ للحديث طرقاً كثيرة عند الطبراني وأبي عوانة وغيرهما، ثم قال: فهذه الروايات متففقة على ذكر البيت ومعناه. أقول: وقد ذكر الحافظ بعض الروايات التي، جاءت بلفظ القبر، ولا تخلو من ضعف. ومعني الحديث قال بعضهم: هو على ظاهره: وأن ذلك المكان ينقل إلى الجنة وليس كسائر الأرض يذهب ويفني، أو هو الآن من الجنة حقيقة، وقيل: معني الحديث: أن الصلاة في ذلك الموضع والذكر فيه يؤدي إلى رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجنة، ومن لزم العبادة عند المنبر يسقى يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ الحوض، كما جاء في الحديث: " الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السيوف " يريد أن الجهاد يؤدي إلى الجنة، وقيل: إن معناه: ما بين منبره وبيته حذاء رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجنة، وكذلك قوله في الحديث: قبري على ترعة من ترع الجنة، أي: حذاء ترعة من ترعها. والله إعلم. والترعة: الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإن كان على المكان المطمئن فهو روضة. (*)

كتاب أذكار الجهاد

وقد أوضحت في كتاب المناسك ما يتعلَّق بهذه الأذكار من التتمّات والفروع الزائدات، والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة والتوفيق والعصمة. 574 - وعن العتبي قال: " كنتُ جالساً عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيٌّ فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعتُ الله تعالى يقول: (وَلَوْ أنَّهُمْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء: 64] وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول: يا خيرَ مَنْ دُفنتْ بالقاع أعظُمُه * فطابَ من طيبهنَّ القاع والأكمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ * فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ قال: ثم انصرفَ، فحملتني عيناي فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: يا عُتْبيّ، الحقِ الأعرابيَّ فبشِّره بأن الله تعالى قد غفر له " (1) . كتاب أذكار الجهاد أما أذكار سفره ورجوعه فسيأتي في كتاب أذكار السفر إن شاء الله تعالى. وأما ما يختصّ به فنذكرُ منه ما حضرَ الآن مختصراً. (بابُ استحباب سؤال الشهادة) 575 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم "، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم دخلَ على أُمّ حرام (2) ، فنام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: وما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: " ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَليَّ غُزَاةً في سَبيلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ مُلُوكاً على الأسِرَّةِ أوْ مِثْلَ المُلُوك "، فقالت: يا رسولَ الله، ادْعُ الله أن يجعلني منهم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) قال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه " الصارم منكي في الرد على السبكي ": هذه الحكانة ذكرها بعضهم يرويها عن العتيبي بلا إسناد، وبعضهم يروبها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب، عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب " شعب الإيمان " بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري، حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته، فعقلها ثم دخل المسجد حتي أتي القبر ثم ذكر نحو ما تقدم. (2) زاد في رواية: بنت مِلْحَان، وكانت تحت عبادة بن الصامت، وهي الغُمَيْصَاء بالغين المعجمة والصاد المهملة، والغمص والرمص: نقص يكون في العين. قال في الصحاح: الرمص بالتحريك: وسخ يُجمع في الموق، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رَمَص. (*)

باب حث الإمام أمير السرية على تقوى الله تعالى وتعليمه إياه ما يحتاج إليه من أمر قتال عدوه ومصالحتهم وغير ذلك

قلت: ثبج البحر، بفتح الثاء المثلثة وبعدها باء موحدة مفتوحة أيضاً ثم جيم: أي ظهره، وأُمّ حَرَامٍ بالراء. 576 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معاذ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ سألَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقاً، ثمَّ ماتَ أوْ قُتِلَ فإنَّ لَهُ أجْرَ شَهِيدٍ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) . 577 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ طَلَبَ الشَّهادَةَ صَادِقاً أُعْطِيها وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ ". 578 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سألَ اللَّهَ تَعالى الشَّهادَة (2) بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعالى مَنازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإنْ ماتَ على فراشه ". (باب حثّ الإِمام أمير السرية على تقوى الله تعالى وتعليمه إيّاه ما يحتاج إليه من أمر قتال عدوّه ومصالحتهم وغير ذلك) 579 - روينا في " صحيح مسلم " عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّرَ أميراً على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى الله تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيراً، ثم قال: " اغزوا بسم الله، في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا (3) ولا تَغْدِرُوا (4) وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً، وَإذا لقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خِصالٍ " ... وذكر الحديث بطوله. (باب بيان أن السنّة للإِمام وأمير السرية إذا أراد غزوة أن يورّي غيرها) 580 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم) عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: " لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُريد سفرة إلاّ ورى بغيرها ".

_ (1) وأخرجه أيضا أحمد في " المسند "، وهو حديث صحيح، صححه الحافظ وغيره. (2) قال المصنف في " شرح مسلم ": الرواية الأخرى: يعني رواية أنس مفسرة لمعنى الرواية الثانية: يعني حديث سهل، ومعناهما جميعاً أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب الشهداء وإن كان على فراشه، ففيه استحباب نية الخير. (3) من الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. (4) بكسر الدال من الغدر: وهو نقض العهد. (*)

باب الدعاء لمن يقاتل أو يعمل على ما يعين على القتال في وجهه وذكر ما ينشطهم ويحرضهم على القتال

(بابُ الدعاء لمن يُقاتلُ أو يعملُ على ما يُعين على القتال في وجهه وذكر ما يُنَشِّطُهم ويحرِّضُهم على القتال) قال الله تعالى: (يا أيُّها النَّبِيُّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ) [الأنفال: 65] وقال تعالى: (وحَرّضِ المُؤْمِنِينَ) [النساء: 84] . 581 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلما رأى ما بهم من النَّصَب والجوع قال: " اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، فاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالمُهاجِرَةِ ". (بابُ الدعاء والتضرّع والتكبير عند القتال واستنجاز الله ما وعد من نصر المؤمنين) قال الله عزّ وجلّ: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وأطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلا تَكُونُوا كالَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بطرا ورثاء النَّاسِ وَيَصُدُونَ عَنْ سَبِيلِ الله) [الأنفال: 45 - 47] قال بعضُ العلماء هذه الآية الكريمة أجمع شئ جاء في آداب القتال. 582 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في قُبّته: " اللَّهُمَّ إني أنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ " فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فقال: حَسْبُكَ يا رسول الله فقد أَلْحَحْتَ على ربِّك، فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمَرُّ) [القمر: 45 - 46] ، وفي رواية " كان ذلك يوم بدر " هذا لفظ رواية البخاري. وأما لفظ مسلم فقال: استقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مَدََّ يديه فجعل يهتفُ بربه عز وجل يقول: " اللَّهُمَّ أنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةُ مِنْ أهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ " فما زال يهتف بربه مادّاً يديه حتى سقطَ رداؤُه. قلتُ: يَهتف بفتح أوله وكسر ثالثه، ومعناه: يرفع صوته بالدعاء. 583 - وروينا في " صحيحيهما " عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو - انتظر حتى مالتِ الشمسُ، ثم قامَ

في الناس قال: " أيُّها النَّاسُ لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوّ (1) واسألوا اللَّهَ العافِيَةَ، فإذَا لَقيتُموهُم فاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ "، ثم قال: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحابِ، وَهازِم الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ " وفي رواية: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكتابِ، سَرِيعَ الحِسابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ". 584 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين. قال اسيوطي في " تحفة بنكت الأذكار ": قال الحافظ: كذا في النسخة يوم حنين، بالمهملة المضمومة والنون، وهو تصحيف قديم، وإنما هو يوم خبير - في الأصل: جبير، وهو تصحيف. وروينا في " صحيحيهما " عن أنس رضي الله عنه قال: صبَّحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيبرَ، فلما رأوْه قالوا: محمد والخميس (2) ، فلجؤوا إلى الحصن، فرفعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يديه فقال: " اللَّهُ أكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنا بِساحَةِ قَوْمٍ فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ ". 585 - وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثِنْتَانِ لا تُرَدَّانِ - أوْ قَلَّما تُرَدَّانِ - الدُعاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ البأسِ حِينَ يُلْجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ". قلت: في بعض النسخ المعتمدة " يلحم " بالحاء، وفي بعضها بالجيم، وكلاهما ظاهر. 586 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: " اللَّهُمَّ أنْتَ عَضُدِي وَنَصيرِي، بِكَ أحُولُ، وَبِكَ أصُولُ، وَبِكَ أُقاتِلُ ". قال الترمذي: حديث حسن (3) . قُلْتُ: معنى عَضُدِي: عوني. قال الخطابي: معنى أحول: أحتال. قال: وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معناه: المنع والدفع، من قولك: حال بين الشيئين: إذا منع أحدهما من الآخر، فمعناه: لا أمنعُ ولا أدفعُ إلا بك.

_ (1) قال الحافظ في " الفتح ": قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلمُ ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن. (2) الخمسين هو الجيش، كما وفع في نسخة من الأذكار، وقد فسره به في البخاري، قال: سمي خميسا، لأنه خمسة أقسام: ميمنة وميسرة، ومقدمة، ومؤخرة، وقلب. (3) وأخرجه أيضا ابن حبّان في صحيحه، وهو حديث صحيح، صححه الحافظ وغيره. (*)

587 - وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: " اللَّهُمَّ إنا نجعلك في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ ". 588 - وروينا في كتاب الترمذي عن عمارة بن زَعْكَرَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: إنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي، الَّذي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلاقٍ قِرْنَهُ " يعني عند القتال. قال الترمذي: ليس إسناده بالقويّ (1) . قلت: زَعْكَرة بفتح الزاي والكاف وإسكان العين المهملة بينهما. 589 - وروينا في كتاب ابن السني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: " لا تَتَمَّنَّوْا لِقَاءَ العَدُوّ، فإنَّكُمْ لا تَدْرُونَ ما تبتلون بِهِ مِنْهُمْ، فإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنا وَرَبُّهُمْ، وَقُلُوبُنا وَقُلُوبُهُمْ بِيَدِكَ، وإنَّمَا يَغْلِبُهُمْ أنْتَ ". 590 - وروينا في الحديث الذي قدّمناه عن كتاب ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال: " كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلقي العدو، فسمعته يقول: " يا مالكَ يَوْمِ الدّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ " (2) ، فلقد رأيتُ الرِّجالَ تُصرَع تضربُها الملائكةُ من بين أيديها ومن خلفها (3) . 591 - وروى الإِمام الشافعي رحمه الله في " الأُم " بإسناد مُرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجُيُوشِ، وإقامَةِ الصَّلاةِ، وَنُزُولِ الغَيْثِ " (4) . قلت: ويستحبّ استحباباً متأكداً أن يقرأ ما تيسر له من القرآن، وأن يقول دُعاء الكَرْب الذي قدَّمنا ذكره. 592 - وأنه في " الصحيحين " " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه رَبّ العَرْشِ العظيم، لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ ". 593 - ويقول ما قدَّمناه هناك في الحديث الآخَر: " لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَريمُ، سُبْحان اللَّهِ رَبّ السَّمَوَاتِ السَّبْع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنْتَ، عَزَّ جارُكَ وجل ثناؤك ".

_ (1) لكن له شاهد حسَّنه به الحافظ، قال ابن عالن في " شرح الأذكار ": قال احافظ: ولكن وجدت له شاهدا قويا مع أرساله أخرجه البغوي من طريق جبير بن نفير فلذلك قلت: حسن. (2) في بعض النشخ: إيَّاك أعْبُدُ وإيَّاكَ أستعين. (3) ؟ قدم التعليق عليه في الصفحة 105. (4) انظر التعليق عليه في الصفحة 33. (*)

باب النهي عن رفع الصوت عند القتال لغير حاجة

ويقول: ما قدَّمناه في الحديث الآخر: " حَسْبُنا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ". ويقول: " لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ، ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، اعْتَصَمْنا بالله، اسْتَعَنَّا بالله، تَوَكَّلْنا على الله ". ويقول: " حَصَّنْتَنا كُلَّنا أجْمَعِينَ بالحَيّ القَيُّومِ الَّذي لا يَمُوتُ أَبَدَاً، وَدَفَعْتَ عَنَّا السُّوءَ بِلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ ". ويقول: " يا قَدِيمَ الإِحْسانِ، يا مَنْ إحْسانُهُ فَوْقَ كُلّ إِحْسان، يا مالِكَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، يا حَيّ يا قَيُّومَ، يا ذَا الجَلالِ والإِكْرَامِ، يا مَنْ لا يعجزه شئ ولا يتعاظمه شئ، انْصُرْنا على أعْدَائنا هَؤُلاءِ وَغَيْرِهِمْ، وأظْهِرْنا عَلَيْهِمْ فِي عافِيَةٍ وَسلامَةٍ عامَّة عاجلاً " فكلُّ هذه المذكورات جاء فيها حثٌّ أكيد، وهي مجرّبة. (بابُ النّهي عن رفعِ الصَّوْتِ عِندَ القِتال لغير حَاجة) 594 - روينا في سنن أبي داود عن قيس بن عُبادٍ التابعي رحمه الله - وهو بضم العين وتخفيف الباء - قال: كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَكرهون الصوت عند القتال (1) . (بابُ قولِ الرجلِ في حَال القتالِ: أنا فلانٌ لإِرعابِ عدّوه) 595 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يَوْمََ حُنين: " أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلب ". 596 - وروينا في " صحيحيهما " عن سلمة بن الأكوع: أن عليّاً رضيَ الله عنهما لما بارز مرحباً (2) الخيبري، قال عليّ رضي الله عنه: - أنا الَّذي سَمَّتْنِي أمي حيدره (3) .

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: هكذا أخرجه أبو داود، ثم أردفه بحديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرهُ رفع الصوت عند القتال، وهذا حديث حسن. (2) قال المصنف في " التهذيب ": مرحب اليهودي بفتح الميم الحاء، قتل كافرا يوم خيبر،. اه. وقصة مبارزته معه عن سلمة قال: خرجنا إلى خيبر وكان عمي: يعني عامرا يرتجز، فساق القصة إلى أن قال: فأرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وقال: لأعطين الراية رجلا يُحِبّ اللَّهَ ورسولَه، ويحبه الله ورسوله، فجئت به أقوده وهو أرمة، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسق في عينيه فبرأ ثم أعطاه الراية، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلام بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال عليّ رضي الله عنه: أنا الَّذي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَه * كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصاع كيل السندره فضربه ففلق رأس مرحب فقتله، وكان الفتح. (3) حيدرة: اسم للأسد. (*)

باب استحباب الرجز حال المبارزة

596 م - وروينا في " صحيحيهما " عن سلمة أيضاً أنه قال في حال قتاله الذين أغاروا على اللقاح: أنا ابن الأكوع * واليومُ يومُ الرُّضَّع (بابُ استحبابِ الرَّجَزِ حالَ المبارزة) فيه الأحاديث المتقدمةُ في الباب الذي قبل هذا. 597 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال له رجل: أفررتم يوم حُنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال البراء: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، لقد رأيته وهو على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث (1) آخذ بلجامها، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا النَّبِي لا كَذِبْ، أنا ابْنُ عَبْد المُطَّلِبْ " وفي رواية " فنزلَ ودعا واستنصرَ ". 598 - وروينا في " صحيحيهما " عن البراء أيضاً قال: رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ينقلُ معنا التراب يومَ الأحزاب وقد وارى الترابُ بياضَ بطنه وهو يقول: " اللَّهُمَّ لَوْلا أنْتَ ما اهْتَدَيْنا، وَلا تَصَدََّقْنا ولا صلينا، فأنزلن سَكِينَةً عَلَيْنا، وَثَبِّتِ الأقْدَام إنْ لاقَيْنا، إنَّ الأُلى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنا، إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنا " 599 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب على مُتُونهم أي: ظهورهم: ويقولون: نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّداً، على الإِسْلام - وفي رواية: على الجِهادِ - ما بَقِينا أبَداً، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يجيبهم: " اللَّهُمَّ إنَّهُ لا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةِ، فَبارِكْ في الأنْصَارِ والمهاجرة ". (باب استحباب إظهار الصَّبرِ والقوّة لمن جُرِحَ واستبشاره بما حصل له من الجرح في سبيل الله وبما يصير إليه من الشهادة، وإظهار السرور بذلك وأنَّه لا ضير علينا في ذلك بل هذا مطلوبُنا وهو نهايةُ أملِنا وغايةُ سؤلِنا) قال الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالَّذِين لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خلفهم إلاَّ

_ (1) هُوَ ابن عمه صلى الله عليه وسلم: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. (*)

باب ما يقول إذا ظهر المسلمون وغلبوا عدوهم

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وأنَّ اللَّهَ لا يضيغ أجْرَ المُؤْمِنِينَ. الَّذينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصَابَهُمْ القَرْحُ لِلَّذِينَ أحْسَنُوا مِنْهُم وَاتَّقَوْا أجْرٌ عظِيمٌ. الَّذِين قالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُم فاخشَوْهُم فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكِيلُ. فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 169 - 172] . 600 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، في حديث القرّاء أهل بئر مَعُونة الذين غدرتِ الكفّارُ بهم فقتلوهم: أن رجلاً من الكفار طعنَ خالَ أنس وهو حَرَام بن مِلحان، فأنفذه، فقال حَرام: الله أكبر فُزْتُ وربّ الكعبة. وسقط في رواية مسلم " الله أكبر ". قلتُ: حَرَام بفتح الحاء والراء. (بابُ ما يقولُ إذا ظَهَر المسلمون وغلبُوا عدوَّهم) ينبغي أن يُكثرَ عند ذلك من شكر الله تعالى، والثناء عليه، والاعتراف بأن ذلك من فضله لا بحولنا وقوتنا، وأن النصرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وليحذروا من الإِعجاب بالكثرة، فإِنه يُخاف منها التعجيز كما قال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25] . (باب ما يقول إذا رأى هزيمةً في المسلمين والعياذُ بالله الكريم) يُستحبّ إذا رأى ذلك أن يفزعَ إلى ذكر الله تعالى واستغفاره ودعائه، واستنجار ما وعدَ المؤمنين من نصرهم وإظهار دينه، وأن يدعوَ بدعاء الكرْب المتقدم: 601 - لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحليم، لا إله إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العظيم، لا إله إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ. ويُستحبّ أن يدعوَ بغيره من الدعوات المذكورة المتقدمة والتي ستأتي في مواطن الخوف والهلكة. 602 - وقد قدّمنا في باب الرجز الذي قبل هذا " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى هزيمة المسلمين، نزل واستنصر ودعا ". وكان عاقبة ذلك النصر (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] . 603 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أُحُد وانكشف المسلمون قال عمِّي أنس بن النضر: اللَّهُمّ إني أعتذرُ إليكَ مما صَنَعَ هؤلاء -

كتاب أذكار المسافر

يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدََّم فقاتلَ حتى استُشهد، فوجدنَا به بضعاً وثمانينَ ضربةً بالسيف أو طعنةً برمح أو رمية بسهم. (بابُ ثناءِ الإِمام على من ظَهَرَتْ منه براعةٌ في القتال) 604 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سلمةَ بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة إغارة الكفار على سرح المدية وأخذهم اللقاح وذهاب سلمة وأبي قتادة في أثرهم ... فذكرَ الحديثَ، إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانَ خَيْرَ فُرْسانِنا اليَوْمَ أبُو قَتادَةَ، وَخَيْرَ رَجَّالَتِنا سلمة ". (بابُ ما يقولُه إذا رجع مِن الغَزْو) فيه أحاديثُ ستأتي إن شاء الله تعالى في " كتابِ أذْكَارِ المُسَافر "، وبالله التوفيق. كتاب أذكار المسافر اعلم أن الأذكار التي تُستحبُّ للحاضر في الليل والنهار واختلاف الأحوال وغير ذلك مما تقدم تُستحبّ للمسافر أيضاً، ويَزيدُ المسافرُ بأذكار، فهي المقصودةُ بهذا الباب، وهي كثيرةٌ منتشرة جداً، وأنا أختصرُ مقاصدها إن شاء الله تعالى، وأُبوِّبُ لها أبواباً تناسبها، مستعيناً بالله، متوكلاً عليه. (بابُ الاستخارة والاستشارة) اعلم أنه يُستحبّ لمن خطرَ بباله السفرُ أن يُشاورَ فيه مَن يعلمُ من حاله النصيحة والشفقة والخبرة، ويثقُ بدينه ومعرفته، قال الله تعالى: (وشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) [آل عمران: 159] ودلائلُه كثيرة. 605 - وإذا شاورَ وظهرَ أنه مصلحةٌ استخارَ الله سبحانه وتعالى في ذلك، فصلَّى ركعتين من غير الفريضة ودعا بدعاء الاستخارة الذي قدَّمناه في بابه. ودليلُ الاستخارة الحديث المتقدِّم عن " صحيح البخاري " وقد قدَّمنا هناك آداب هذا الدعاء وصفة هذه الصلاة، والله أعلم.

باب أذكاره بعد استقرار عزمه على السفر

(بابُ أذكارِه بعدَ استقرارِ عزمِه على السَّفر) فإذا استقرَّ عزمُه على السفر فليجتهدْ في تحصيل أمور: منها أن يوصي بما يحتاج إلى الوصية به، وليُشهدْ على وصيته، ويستحلّ كلَّ من بينه وبينه معاملة في شئ، أو مصاحبة، ويسترضي والديه وشيوخه ومن يُندب إلى برّه واستعطافه، ويتوبُ إلى الله ويستغفره من جميع الذنوب والمخالفات، وليطلبْ من الله تعالى المعونةَ على سفره، وليجتهدْ على تعلّم ما يحتاج إليه في سفره. فإن كان غازياً تَعَلَّمَ ما يَحتاج إليه الغازي من أمور القتال والدعوات وأمور الغنائم، وتعظيم تحريم الهزيمة في القتال وغير ذلك. وإن حاجّاً أو معتمراً تعلَّمَ مناسكَ الحجّ أو استصحبَ معه كتاباً بذلك، ولو تعلَّمها واستصحبَ كتاباً كان أفضل. وكذلك الغازي وغيره، ويُستحبّ أن يستصحبَ كتاباً فيه ما يحتاج إليه، وإن كان تاجراً تعلَّم ما يحتاج إليه من أمور البيوع ما يصحّ منها وما يَبطل، وما يحلّ وما يَحرم ويُستحبّ ويكره ويباح، وما يَرجحُ على غيره. وإن كان متعبِّداً سائحاً معتزلاً للناس، تعلَّم ما يحتاج إليه في أمور دينه، فهذا أهمّ ما ينبغي له أن يطلبه. وإن كان ممّن يصيدُ تعلَّم ما يحتاج إليه أهلُ الصيد، وما يحلّ من الحيوان وما يَحرمُ، وما يحلُّ به الصيد وما يَحرم، وما يشترط ذكاتُه، وما يكفي فيه قتل الكلب أو السهم وغير ذلك. وإن كان راعياً تعلَّم ما يحتاج إليه مما قدَّمناه في حقّ غيره ممّن يعتزل الناس، وتعلَّم ما يحتاج إليه من الرفقِ بالدّوابّ وطلب النصيحة لها ولأهلها، والاعتناء بحفظها والتيقّظِ لذلك، واستأذنَ أهلَها في ذبح ما يحتاجُ إلى ذبحه في بعض الأوقات لعارض، وغير ذلك. وإن كان رسولاً من سلطان إلى سلطان أو نحوه اهتمَّ بتعلّم ما يحتاج إليه من آداب مخاطبات الكبار، وجوابات ما يَعرض في المحاورات، وما يحلُّ له من الضيافات والهدايا وما لا يَحلّ، وما يَجب عليه من مراعاة النصيحة وإظهار ما يُبطنه وعدم الغشّ والخِداع والنفاق، والحذر من التسبّب إلى مقدمات الغدر أو غيره مما يحرم وغير ذلك. وإن كان وكيلاً أو عاملاً في قراض أو نحوه تعلَّم ما يَحتاج إليه مما يَجوز أن يشتريه وما لا يجوز، وما يَجوز أن يبيعَ به وما لا يجوز، وما يجوز التصرّف فيه وما لا يجوز، وما يُشترط الإِشهاد فيه، وما يجب وما يشترط فيه ولا يجب، وما يجوز له من الأسفار وما ولا يجوز. وعلى جميع المذكورين أن يتعلَّم مَن أراد منهم ركوبَ البحر الحالَ التي يجوز فيها ركوبَ البحر، والحال التي لا يجوز، وهذا كلُّه مذكور في كتب الفقه لا يليق بهذا الكتاب استقصاؤه، وإنما غرضي هنا بيانُ الأذكار خاصة، وهذا التعلّم المذكور من جملة

باب أذكاره عند إرادته الخروج من بيته

الأذكار كما قدَّمْته في أول هذا الكتاب، وأسألُ الله التوفيقَ وخاتمة الخير لي ولأحبائي والمسلمين أجمعين. (بابُ أذكارِه عندَ إرادتِه الخروجَ من بيتِه) 606 - يُستحبّ له عند إرادتِه الخروجَ أن يصلِّي ركعتين لحديث المقطم (1) بن المقدام الصحاني (2) ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما خَلَّفَ أحَدٌ عِنْدَ أَهْلِهِ أفْضَلَ منْ ركعتين يَرْكَعُهُما عنْدَهُمْ حينَ يُرِيدُ سَفَراً " رواه الطبراني (3) . قال بعض أصحابنا: يُستحبّ أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ) . وقال بعضهم: يَقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قُلْ أعُوذُ بِرَبّ الفَلَقِ) وفي الثانية (قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ) فإذَا سلَّم قَرأ آيةَ الكُرْسِيِّ، فقد جاء أن مَنْ قَرأ آيَة الكرسي قبلَ خروجهِ من منزلِه لم يصبْه شئ يكرهُه حتى يَرجع (4) ، ويُستحبّ أن يقرأ سورة (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) فقد قال الإِمام السيد الجليل أبو

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحاقظ: هو سهوٌ نشأ عن تصحيف، إنما هو المُطْعِم بسكون الطاء وكسر العين. (2) قال الحافظ: إنما هو الصنعاني، بصاد ثم عين مهملة، وبعد الألف نون، نسبة إلى صنعاء دمشق، وقيل: بل إلى صنعاء اليمن، ثم تحوّل إلى الشام وكان في عصر صغار الصحابة، ولم يثبت له سماع من صحابي، بل أرسله عن بعضهم، وجلّ روايته عن التابعين كمجاهد والحسن، وقد جمع الطبراني أحاديثه الموصولة في ترجمته من مسند الشاميين، وقال في أكثرها: المطعم بن مقدام الصنعاني كما ضبطته. (3) قوله: رواه الطبراني: قال الحافظ: يتنادر منه مع قوله: الصحابي، أن المراد " المعجم الكبير " للطبراني، الذي هو مسند الصحابة، وليس هذا الحديث فيه، بل هو في كتاب " المناسك " للطبراني، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة مطعم بن المقدام الصنعاني من " تاريخه الكبير "، فذكره حاله ومشايخه والرواة عنه، وتاريخ وفاته ومن وثقه وأثني عليه، وأسنده جملة من أحاديث، منها هذا الحديث بعينه، وسنده معضل أو مرسل إن ثبت له سماع من صحابي، وقد نبه على ما ذكرناه ذكرناه من التصحيح وغيره الشيخ المحدث زين الدين القرشي الدمسقي فيما قرأته بخطه في هامش تخريج أحاديث " الإحياء " لشيخنا العراقي، وأقره على ذلك، وبلغني عن الحافظ زين الدين بن رجب البغدادي نزيل دمشق أنه نبه على ذلك أيضا رحمه الله تعالى. ثم قال ابن علان: قالذ الحافظ: وجاء عن أنس حديث يدخل في هذا الباب، وهو قوله: كان صلى اللخه عليه وسلم إذا سافر لم يرجل إذا نزل منزلا حتى يودع ذلك المكان بركعتين، وفي رواية الدارمي: كان صلى الله عليه وسلم لا منزلا إلا ودعه بركعتين، ثم ذكر له الحافظ شواهد بمعناه وحسنه بها. (4) قال ابن علان في " شرح الأذكار: قال الحافظ: لم أجده بهذا اللفظ: بل بمعناه وأتم منه، فمن ذلك = (*)

باب أذكاره إذا خرج

الحسن القزويني، الفقيه الشافعي، صاحب الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والمعارف المتظاهرة: إنه أمان من كل سوء. قال أبو طاهر بن جحشويه: أردتُ سفراً وكنتُ خائفاً منه، فدخلتُ إلى القزويني أسألُه الدعاءَ، فقال لي ابتداءً من قِبَل نفسه: مَن أرادَ سفراً ففزِعَ من عدوّ أو وحش فليقرأ (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) فإنها أمانٌ من كلّ سوء، فقرأتُها فلم يعرض لي عارض حتى الآن. ويستحبّ إذا فرغ من هذه القراءة أن يدعو بإِخلاص ورقّة. ومن أحسن ما يقول: اللَّهُمَّ بِكَ أسْتَعِينُ، وَعَلَيْكَ أتَوَكَّلُ، اللَّهُمَّ ذَلِّلْ لي صعُوبَةَ أمْرِي، وَسَهِّلْ عَليَّ مَشَقَّةَ سَفَرِي، وَارْزُقْنِي مِنَ الخَيْرِ أكْثَرَ مِمَّا أطْلُبُ، وَاصْرِفْ عَنِّي كُلَّ شَرٍّ، رَبّ اشْرَحْ لي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أمْرِي، اللَّهُمَّ إني أسْتَحْفِظُكَ وأسْتَوْدِعُكَ نَفْسِي وَدِينِي وأهْلِي وأقارِبي وكُلَّ ما أنْعَمْتَ عَليَّ وَعَليْهِمْ بِهِ مِنْ آخِرَةٍ وَدُنْيا، فاحْفَظْنَا أجمعَينَ مِنْ كُلّ سُوءٍ يا كَرِيمُ. ويفتتح دعاءَه ويختمه بالتحميد لله تعالى، والصَّلاة والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نهضَ من جلوسه فليقلْ: 607 - ما رويناه عن أنس رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يرد سفراً إلا قال حين ينهض من جلوسه: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ، اللَّهُمَّ اكْفني ما هَمَّني وَمَا لا أَهْتَمُّ لَهُ، اللَّهُمَّ زَوِّدْنِي التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلْخَيْرِ أيْنَمَا تَوَجَّهْتُ " (1) . (بابُ أذْكَارِه إذا خَرَجَ) قد تقدَّمَ في أول الكتاب ما يقولُه الخارجُ من بيته، وهو مُستحبٌّ للمسافر، ويُستحبُّ له الإِكثار منه، ويُستحبّ أن يودّع أهله وأقاربَه وأصحابَه وجيرانه، ويسألهم الدعاء له ويدعو لهم.

_ = حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرأ آيَة الكرسي وفاتحة حم المؤمن إلى (إليه المصير) حنى يصبح، لم يرَ شيئا يكرهه حبى يُمسي، ومَن قرأها حين يُمسي لم يَرَ شيئا يكرهه حتى يصبح، وقال: هذا حديث غريب، وسنده ضعيف، أخرجه ابن السني والبيهقي في " الشعب " وأبو الشيخ في " ثواب الأعمال ". (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: هذا حديث غريب، أخرجه ابن السني وابن عدي في ترجمة عمر بن مساور في الضعفاء. (*)

608 - وروينا في " مسند الإِمام أحمد بن حنبل " وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنَّ الله تَعالى إذا اسْتُودِعَ شَيْئاً حَفِظَهُ ". 609 - وروينا في كتاب ابن السني وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أَرَادَ أنْ يُسافِرَ فَلْيَقُلْ لِمَنْ يُخَلِّفُ: أسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ الَّذي لا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ " (2) . 610 - وروينا عن أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أرَاد أحَدُكُم سَفَراً فَلْيُوَدّعْ إخْوَانَهُ، فإنَّ اللَّهَ تَعالى جاعِلٌ فِي دُعائِهِمْ خَيْراً " (3) . 611 - والسنَّة أن يقول له مَن يودّعه ما رويناه في " سنن أبي داود " عن قزعة قال: قال لي ابن عمرَ رضي الله عنهما: تعال أُودّعك كما ودّعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وأمانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " (4) . قال الإِمام الخطابي: الأمانة هنا: أهله ومن يخلفه، ومالُه الذي عند أمينه. قال: وذكر الدِّين هنا لأن السفر مظنّة المشقة، فربما كان سبباً لإِهمال بعض أمور الدين. قلتُ: قَزعة، بفتح القاف وقتح الزاي وإسكانها. 612 - ورويناه في كتاب الترمذي أيضاً عن نافع عن ابن عمر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودّع رجلاً أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولُ: أسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وأمانَتَكَ وآخِرَ عَمَلِكَ " (5) . 613 - ورويناه أيضاً في كتاب الترمذي عن سالم " أن ابن عمر كان يقول للرجل إذا أراد سفراً: ادْنُ منّي أُودّعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّعنا، فيقول: " أسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وأمانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 614 - وروينا في " سنن أبي داود " وغيره بالإِسناد الصحيح عن عبد الله بن يزيد الخَطْمِيّ الصحابي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودّع الجيش قال: " أسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وأمانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أعْمالِكُمْ ".

_ (1) وهو جزء من حديث رواه أحمد في المسند، قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: بعد إخراج الحديث بجملته عن ابن عمر: هذا حديث صحيح أخرجه النسائي وابن حبّان. (2) وهو حديث حسن، حسنه الحافظ وغيره. (3) قال ابن عالن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: هذا حديث غريب أخرجه الطبراني في " الأوسط ". (4) وهو حديث حسن. حسنه الحافظ وغيره. (5) وهو حديث حسن بشواهده. حسنه الحافظ. (*)

باب استحباب طلبه الوصية من أهل الخير

515 - وروينا في كتاب الترمذي، عن أنس رضي الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إني أُريد سفراً فزوّدني، فقال: " زَوّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى "، قال: زِدني، قال: " وَغَفَرَ ذَنْبَكَ "، قال: زدني، قال: " وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُما كُنْتَ " قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ اسْتحبابِ طَلبهِ الوصيّةَ من أهلِ الخَيْرِ) 516 - روينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قالَ: يا رسولَ الله إني أُريد أنْ أسافرَ فأوصني، قال: " عَلَيْكَ بتَقْوَى اللَّهِ تَعالى، وَالتَّكْبِيرِ على كُلّ شَرَفٍ "، فلما ولَّى الرجلُ قال: " اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ البَعِيدَ، وهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ "، قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ استحبابِ وصيّة المُقيم المسافر بالدعاء له في مواطن الخير ولو كان المقيم أفضل من المسافر) 617 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " وغيرهما عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذِنَ وقال: " لا تَنْسَنا يا أُخَيَّ مِن دُعائِكَ، فقال كلمة ما يسرُّني أنَّ لي بها الدنيا ". وفي رواية قال: " أشْرِكْنا يا أخِي في دُعائِكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (بابُ ما يقولُه إذا ركبَ دابّتَه) قال الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (1) لِتَسْتَووا على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ (3) وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذي سَخَّرَ لنا هذا وما كنا له مقرنين (3) ، وَإنَّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف: 14] . 618 - وروينا في كتب أبي داود، والترمذي، والنسائي، بالأسانيد الصحيحة عن عليّ بن ربيعة قال: شهدتُ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أُتي بدابّة ليركَبها، فلما وضعََ رجلَه في الرِّكاب قالَ: بِسْمِ الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحَمْدُ لله، ثم

_ (1) أي ما تركبونه في البر والبحر. (2) أي على ما تركبون من الانعام والفلك. (3) أي مطيقين. (*)

قال: (سُبْحانَ الَّذي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كنا له مقربين، وَإِنَّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ثم قال: الحَمْدُ لِلَّهِ، ثلاثَ مرّاتٍ، ثم قال: اللَّهُ أكْبَرُ، ثلاثَ مرّاتٍ، ثم قال: سُبْحانَك إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لي، إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، ثم ضَحِكَ، فقيل: يا أميرَ المؤمنين من أي شئ ضحكت؟ قال: رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلَ مثلَ ما فعلتُ ثم ضَحِكَ، فقلتُ: يا رسولَ الله من أي شئ ضحكت؟ قال: " إنَّ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قالَ: اغْفِرْ لي ذُنُوبي، يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي "، هذا لفظ رواية أبي داود. قال الترمذي: حديث حسن. وفي بعض النسخ: حسن صحيح (1) . 619 - وروينا في " صحيح مسلم " في كتاب المناسك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر ثلاثاً، ثم قال: (سُبْحانَ الَّذي سَخَّرَ لَنا هَذَا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ فِي سفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللَّهُمَّ هون عَلَيْنا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ في الأهل، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثاءِ السَّفَرِ، وكآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ في المَالِ والأهْلِ " وإذا رَجع قالهنّ، وزاد فيهنّ: " آيِبُونَ تائبُونَ عابدُونَ لرَبِّنَا حامِدُون " هذا لفظ رواية مسلم. زاد أبو بكر في روايته " وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبّروا، وإذا هبطوا سبَّحوا (2) وروينا معناه من رواية جماعة من الصحابة أيضاً مرفوعا.

_ (1) ورواه أيضا ابن حبّان في صحيحه، وهو حديث صحيح. (2) هذه الجملة من الحديث مدرجة، وليست من حديث أبي داود بسنده، وإنما رواها عبد الرزاق، عن ابن قال كان المبي صلى الله عليه وسلم ... إلى آخِرِه، وهو معضل، وقد سها عن هذا الإِمام النووي رحمه الله، فجعله من الحديث، وتعقبه الحافظ في تخيج الأذكار، كما في " شرح الأذكار " لابن علان: 5 / 140 فقال: وقع في هذا الحديث خلل من بعض رواته، وبيان ذلك أن مسلما وأبا داود وغيرهما أخرجوا هذا الحديث من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن علي الأزدي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثا ... الحديثَ، إلى قوله: لربنا حامدون، فاتفق من أخرجه على سياقه إلى هنا، ووقع عند أب ي داود بعد " حامدون ": وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجيوشه ... الخ، وظاهره أن هذه الزيادة بسند التي قبلها، فاعتمد الشيخ - يعني النووي - على ذلك، وصرح بأنها عن ابن عمر، وفيه نظر، فإن أبا داود أخرج الحديث عن الحسن بن علي عن عبد الرزاق عن ابن جريج بالسند المذكور إلى ابن عمر، فوجدنا الحديث في " مصنف عبد الرزاق " قال فيه: باب القول في السفر، أخبرنا ابن جريج ... فذكرَ الحديثَ إلى قوله: " لربنا حامدون " ثم أورد ثلاثة عشر حديثا بين مرفوع وموقوف، ثم قال بعدها: أخبرنا ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا صعدوا الثنايا كبَّروا، وإذا هَبَطوا سبَّحُوا، = (*)

باب ما يقول إذا ركب سفينة

620 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوّذ من وَعْثَاءِ السفر، وكآبة المنقلب، والحَوْرِ بعد الكَوْن، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال ". 621 - وروينا في كتاب الترمذي وكتاب ابن ماجه بالأسانيد الصحيحة عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: " اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والخليفة في الأهْلِ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وَمِنْ دَعْوَةِ المَظْلُومِ، وَمِنْ سُوءِ المَنْظَرِ فِي الأهْلِ وَالمَالِ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: ويروى: الحور بعد الكوْر أيضاً: يعني: يُروى الكون بالنون، والكور بالراء. قال الترمذي: وكلاهما له وجه، قال: يقال: هو الرجوع من الإِيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، إنما يعني: الرجوع من شئ إلى شئ من الشرّ، هذا كلام الترمذي، وكذا قال غيره من العلماء: معناه بالراء والنون جميعاً: الرجوع من الاستقامة، أو الزيادة إلى النقص. قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفّها وجمعها، ورواية النون، مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كوناً: إذا وجد واستقرّ. قلت: ورواية النون أكثر، وهي التي في أكثر أصول " صحيح مسلم "، بل هي المشهورة فيها. والوَعْثاء بفتح الواو وإسكان العين وبالثاء المثلثة وبالمدّ: هي: الشدّة. والكآبة بفتح الكاف وبالمدّ: هو تغيُّر النفس من حزن ونحوه. المنقلب: المرجع. (بابُ ما يَقولُ إذا رَكِبَ سفينةً) قال الله تعالى: (وَقالَ ارْكَبُوا فيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا ومرساها) (1) [هود: 41] وقال الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالأنْعامِ ما تركبون) الآيتين [الزخرف: 12] . 622 - وروينا في كتاب ابن السني عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمانٌ لأُمَّتِي مِنَ الغَرَقِ إذَا رَكِبُوا أنْ يَقُولُوا (بِسْمِ اللَّهِ مجراها ومرساها إن

_ فوضعت الصلاة على ذلك، هكذا أخرجه معضلا، ولم يذكر فيه لابن جريج سندا، فظهر أن من عطفه على الأول أو مزجه أدرجه، وهذا أدق ما وجد في المدرج. اهـ. (1) مَجْراها ومَرْساها، بفتح الميمين وضمّهما مع الإمالة وعدمها، مصدران: أي: جريها ورسيها، أي: منتهى سيرها، وهما منصوبتان على الظرفية الزمانية على جهة الحذف، أي: كما حذف من " جئتك مقدم الحاج ": أي وقت قدومه. قال أبو حيان: ويجوز أن يكونا مرفوعين على الإبتداء، و " بسم الله " الخبر، قال في الحرز: فيكون إخبارا عن سفينة نوح بأن إجراءها وإرساءها باسم الله. (*)

باب استحباب الدعاء في السفر

ربّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) - (وَمَا قَدَرُوا الله حق قدره ... ) الآية [الزمر: 67] (1) . فال المصنف رحمه الله: هكذا هو في النسخ: إذا ركبوا لم يقل: السفينة. قال السيوطي في " تحفة الأبرار بنكت الأذكار " قال الحافظ: مردوية في التفسير، قال فيه: إذا ركب السفينة، وعند الطبراني في إحدى الروايتين: أراد ركبوا السفينة، وفي الأخرى: إذا ركبوا الفلك، فكأن الشيخ - يعني النووي - أراد كتاب ابن السني. (بابُ استحبابَ الدعاءِ في السفر) 623 - روينا في كتب أبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجاباتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ على وَلَدِهِ " قال الترمذي: حديث حسن، وليس في رواية أبي داود " على ولده ". (باب تكبير المسافر إذا صعد الثَّنايا وشبهها وتسبيحه إذا هَبَطَ الأودية ونحوها) 624 - روينا في " صحيح البخاري " عن جابر رضي الله عنه قال: كنّا إذا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وإذا نزلنا سبَّحنا. 625 - وروينا في سنن أبي داود في الحديث الصحيح الذي قدَّمناه في باب ما يقولُ إذا ركبَ دابّته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبَّروا، وإذا هَبَطوا سبَّحُوا (2) . 626 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قَفَل من الحجّ أو العمرة، قال الراوي: ولا أعلمه إلا قال: الغزو، كلما أوفى على ثنية أو فَدْفَدٍ كبَّرَ ثلاثاً ثم قال: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وحده لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلّ شئ قدير، آيبون تائبون عابِدُونَ، ساجِدُونَ لِرَبِّنا حامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ " هذا لفظ رواية البخاري، ورواية

_ (1) وهو حديث ضعيف. (2) انظر التعليق على هذه الفقرة في الصفحة 189 فهي مدرجة في الحديث، وقد خفيت على الإمام المووي رحمه الله. (*)

باب النهي عن المبالغة في رفع الصوت بالتكبير ونحوه

مسلم مثله، إلا أنه ليس فيها " ولا أعلمه إلا قال الغزو " وفيها " إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحجّ أو العمرة ". قلت: وقوله: أوفى: أي ارتفع، وقوله: فَدْفَد، هو بفتح الفاءين بينهما دال مهملة ساكة وآخره دال أخرى: وهو الغليظ المرتفع من الأرض، وقيل: الفلاة التي لا شئ فيها، وقيل: غليظ الأرض ذات الحصى، وقيل: الجلد من الأرض في ارتفاع. 627 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكنّا إذا أشرفنا على وادٍ هلَّلنا وكبَّرْنا وارتفعتْ أصواتُنا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " يا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غائِباً، إنَّهُ مَعَكُمْ، إنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ ". قلتُ: اربَعُوا بفتح الباء الموحدة، معناه: ارفقوا بأنفسكم. 628 - وروينا في كتاب الترمذي الحديث المتقدم في باب استحباب طلبه الوصية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عَلَيْكَ بتقوى الله تعالى، والتكبير على كُلِّ شَرَفٍ ". 629 - وروينا في كتاب ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا علا شرفاً من الأرض قال: " اللَّهُمَّ لكَ الشَّرَفُ على كُلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الحَمْد على كُلّ حال " (1) . (بابُ النّهي عن المبالغةِ في رَفْعِ الصَّوْتِ بالتكبير ونحوه) 630 - فيه حديث أبي موسى في الباب المتقدم. (باب استحباب الحُدَاء للسرعة في السَّير وتنشيط النفوس وترويحها وتسهيل السَّير عليها) 631 - فيه أحاديث كثيرة مشهورة. (باب ما يقول إذا انفلتت دابّتُهُ) 632 - روينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا انْفَلَتَتْ دابَّةُ أحَدِكُمْ بأرْضِ فَلاةٍ فَلْيُنادِ: يا عِبادَ الله احْبِسُوا،

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: حديث غريب، أخرجه أحمد عن عمارة بن زاذان، وأخرجه ابن السني مَنْ وجه آخر عن عمارة، وهو ضعيف. (*)

باب ما يقوله على الدابة الصعبة

يا عِبادَ اللَّهِ احْبِسُوا، فإنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ في الأرْضِ حاصِراً سَيَحْبِسُهُ " (1) قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه افلتت له دابّة أظنُّها بغلة، وكان يَعرفُ هذا الحديث، فقاله، فحبسَها الله عليهم في الحال، وكنتُ أنا مرّةً مع جماعة، فانفلتت منها بهيمةٌ وعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغيرِ سببٍ سوى هذا الكلام. (بابُ ما يقولُهُ على الدَّابّةِ الصَّعْبَةِ) 633 - روينا في كتاب ابن السني عن السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه وديانته وورعه ونزاهته وبراعته أبي عبد الله يُونس بن عُبيد بن دينار البصري التابعي المشهور رحمه الله قال: ليس رجل يكونُ على دابةٍ صعبةٍ فيقولُ في أُذُنِها: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعونَ) [آل عمران: 83] إلا وقفت بإذن الله تعالى (1) . (بابُ ما يقولُه إذا رأَى قريةً يُريدُ دخولَها أولا يريده) 634 - روينا في " سنن النسائي " وكتاب ابن السني، عن صُهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ قريةً يُريد دخولَها إلا قال حين يَراهَا: " اللَّهُمَّ رَبَّ السمَوَاتِ السَّبْعِ وَما أظْلَلْنَ، وَالأَرْضيِن السَّبْعِ وَما أقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّياطينِ وَمَا أضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرّياحِ وَمَا ذَرَيْنَ، أسألُكَ خَيْرَ هَذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِها وَخَيْرَ ما فِيها، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها وَشَرّ أهْلها وَشَرّ ما فِيهَا " (2) .

_ (1) وفي سنده ضعف وانقطاع، قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: حديث غريب، أخرجه ابن السني والطبراني، وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود، وقد جاء بمعناه حديث آخر أخرجه الطبراني بسند منقطع أنضا عن بن عتبة بن غزوان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا ضل أحدكم، أو أراد عونا وهو بأرض ليس بها إنس فليقل: يا عباد الله أعينوني ثلاثا، فإن لله عبادا لا يراهم " قال الحافظ: ولحديث عتبة شاهد من حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ لِلَّهِ ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرْضِ فَلاةٍ، فَلْيُنادِ: يا عِبادَ الله أعيوني، وقال الحافظ: هذا حديث حسن الإسناد غريب جدا، أخرجه البرار وقال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. (2) قال ابن علاّن: قال الحافظ: هو خبر مقطوع، وراويه عنه المنهال ابن عيسى قال أبو حاتم: هو مجهول، قال الحافظ: وقد وجدته عن أعلى من يونس، أخرجه البيهقي في البسنده من طريق الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رصي الله عنهما قال: إذا استعصت دابة أحدكم، أو كانت شموصا فليقرأ في أُذُنِها (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) إلى (ترجعون) . (3) وهو حديث حسن، حسنه الحافظ وغيره. (*)

باب ما يدعو به إذا خاف ناسا أو غيرهم

635 - وروينا في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشرفَ على أرضٍ يُريد دخولَها قال: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ وَخَيْرِ ما جَمَعْتَ فِيها وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها وَشَرّ ما جَمَعْتَ فِيها، اللَّهُمَّ ارْزُقْنا حَيَاها، وَأَعِذْنا مِنْ وَباهَا، وَحَبِّبْنا إلى أهْلِهَا، وَحَبِّبْ صَالِحي أهْلِها إِلَيْنا " (1) . (بابُ ما يَدعُو به إذا خافَ ناساً أو غيرَهم) 636 - روينا في " سنن أبي داود والنسائي " بالإِسناد الصحيح ما قدَّمناه من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: " اللهم إنا نجعلك في نحورهم، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ " ويُستحبّ أن يدعوَ معه بدعاء الكرْب وغيره مما ذكرناه معه. (بابُ ما يقولُ المسافرُ إذا تَغَوَّلَت الغِيلان) 637 - روينا في كتاب ابن السني عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الغِيلان فَنادُوا بالأذَانِ " (2) . قلت: والغِيْلاَنُ جنسٌ من الجنّ والشياطين وهم سحرتُهم، ومعنى تغوّلت: تلوّنت في صور، والمراد: ادفعوا شرّها بالأذان، فإن الشيطانَ إذا سمع الأذان أدبر. وقد قدَّمنا ما يشبُه هذا في " باب ما يقولُ إذا عرضَ له شيطان "، في أوّل " كتاب الأذكار والدعوات للأمور العارضات " وذكرنا أنه ينبغي أنه يشتغلَ بقراءة القرآن للآيات المذكورة في ذلك.

_ (1) قال ابن علاّن: قال الحافظ: في سنده ضعف، لكنه يعتضد بحديث ابن عمر، فساق سنده إليه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرجتم من بلدكم إلي بلد تريدونها فقولوا: اللهم رب السموات السبع وما أضلت، فذكر مثل هذا الحديث الماضي أولا، لكن بالإفراد فيها، وزاد: ورب الجبال، أسألُكَ خَيْرَ هَذَا المنزل وخير ما فيه، وأعوذ بك من شر هذا المنزل، وشر ما فيه، اللهم ارزقنا جناه واصرف عنا وباه، وأعطنا رضاه، وحببنا إلى أهله وحبب أهله إلينا، وفي سنده ضعف، لكن توبع فرواه مبارك بن حسان عن نافع، عن ابن عمر، وفي مبارك أيضا مقال، لكن يعضد بعض هذه الطر بعضا. (2) ورواه أيضاً أحمد في المسند، وهو جزء من حديث طويل، من رواية الحسن البصري عن جابر، والجسن لم يسمع من جابر عن الأكثر، ورواه أيضا البرار من الرواية الحسن عن سعد، ولا يعلم للحسن سماع من سعد، ورواه الطبراني عن أبي هريرة، وفي سنده عدي بن الفضل وهو متروك. (*)

باب ما يقول إذا نزل منزلا

(بابُ ما يَقولُ إذا نزلَ مَنزلاً) 638 - روينا في " صحيح مسلم " و " موطأ مالك " و " كتاب الترمذي " وغيرهم عن خولةَ بنتِ حكيم رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ نَزَلَ مَنْزلاً ثُمَّ قالَ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرّ ما خلق، لم يضره شئ حَتى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذلكَ ". 639 - وروينا في " سنن أبي داود " وغيره عن عبد الله بن عمر الخطاب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافَرَ فأقبلَ الليلُ قال: " يَا أرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أعُوذُ باللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرّ ما فِيكِ، وَشَرّ ما خُلِقِ فِيكِ، وَشَرّ ما يَدبُّ عَلَيْكِ، أعُوذُ بِكَ مِنْ أسَدٍ وأسْوَدَ، وَمِنَ الحَيَّةِ وَالعَقْرَبِ، وَمِنْ ساكِنِ البَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَما وَلَدَ " (1) . قال الخطابي: قوله " ساكن البلد " هم الجنّ الذين هم سكان الأرض، والبلد من الأرض: ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل. قال: ويُحتمل أن يكون المراد بالوالد: إبليس، وما ولد: الشياطين، هذا كلام الخطابي، والأسود: الشخص، فكل شخص يُسمى أسود. (بابُ ما يقولُ إذا رَجَعَ مِن سَفرِهِ) 640 - السنّة أن يقول ما قدّمناه في حديث ابن عمر المذكور قريباً في " باب تكبير المسافر إذا صَعِدَ الثنايا ". 641 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أنس رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا وأبو طلحة، وصفيّة رديفته على ناقته، حتى إذا كنّا بظهر المدينة قال: " آيِبُونَ تائِبُونَ عابِدُون لِرَبِّنا حامِدُونَ "، فلم يزلْ يقولُ ذلك حتى قَدِمْنَا المدينة. (بابُ ما يقولُه المسافرُ بعدَ صلاةِ الصُّبْح) 642 - اعلم أن المسافر يستحبّ له أن يقول ما يقوله غيره بعد الصبح، وقد تقدم بيانه. 643 - ويستحب له معه ما رويناه في كتاب ابن السني عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح - قال الراوي: لا أعلم إلاّ قال في سفر -

_ (1) وهو حديث حسن، حسنه الحافظ وغيره. (*)

باب ما يقول إذا رأى بلدته

رفع صوته حتى يسمع أصحابه: " اللَّهُمَّ أصْلِحْ لي ديني الَّذي جَعَلْتَهُ عِصْمَةَ أمْرِي، اللَّهُمَّ أصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتِي جَعَلْتَ فِيها مَعاشِي - ثلاثَ مرّات - اللَّهُمَّ أصْلِحْ لي آخِرَتِي التي جَعَلْتَ إِلَيْها مَرْجِعي - ثلاث مرات - اللَّهُمَّ أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، اللَّهُمَّ أعوذ بك مِنْكَ - ثلاثَ مَرَّاتٍ - لا مانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا معطي لِمَا مَنَعْتَ، وَلا ينفع ذا الجد منك الجد " (1) . (باب ما يقول إذا رَأَى بلدتَه) 644 - المستحبُّ أن يقولَ ما قدَّمناه في حديث أنس في الباب الذي قبل هذا، وأن يقولَ ما قدَّمناهُ في باب ما يقولُ إذا رأى قرية، وأن يقول: 645 - " اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنا بِهَا قَرَاراً وَرِزْقاً حَسَناً " (2) . (بابُ ما يقولُ إذا قَدِمَ من سفرهِ فدخل بيتَه) 646 - روينا في كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من سفره، فدخلَ على أهله قال: " تَوْباً تَوْباً، لِرَبِّنا أوْباً، لا يُغادِرُ حَوْباً " (3) . قلت: توباً توباً: سؤال للتوبة، وهو منصوب إما على تقدير: تب علينا توبا، وإما على تقدير: نسألك توباً، وأوباً بمعناه من آب: إذا رجع، ومعنى لا يغادر: لا يترك، وحَوْباً معناه: إثماً، وهو بفتح الحاء وضمها لغتان. (بابُ ما يُقال لمن يَقْدَمُ من سفر) يستحبّ أن يُقال: الحَمْد لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَكَ، أوِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ الشَّمْلَ بِكَ، أو نحو ذلك، قال الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7] وفيه أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب بعده.

_ (1) الحدثى بطوله سنده ضعيف، وقد أخرج مسلم أوله عن أبي هريرة، وليس فيه ثلاث مرات، ولقسمه الآخر شواهد بمعناه، فالحديث حسن بشواهده دون تقييده بثلاث مرات. (2) لم يذكر المصنف مَن خرّجه، وقد ذكره الحافظ من رواية الطبراني في كتاب الدعاء عن أبي هريرة وله شاهد من حديث أنس، وهو حديث حسن. (2) وهو حديث حسن. (*)

باب ما يقال لمن يقدم من غزو

(بابُ ما يُقال لمن يَقْدَمُ من غزو) 647 - روينا في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو، فلما دخل استقبلتُه فأخذتُ بيده، فقلت: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي نَصَرَكَ وأعَزَّكَ وأكْرَمَكَ (1) . (بابُ ما يُقال لمن يَقْدَمُ من حَجّ وما يقولُه) 648 - روينا في كتاب ابن السني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاءَ غلامٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُريدُ الحجّ، فمشى معه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا غُلامُ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى، وَوَجَّهَكَ في الخَيْرِ، وَكَفَاكَ الهَمَّ "، فلما رجع الغلام سلَّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: " يا غُلامُ قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، وأخْلَفَ نَفَقَتَكَ " (2) . 649 - وروينا في " سنن البيهقي " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحاجّ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحاج " قال الحاكم: هو صحيحٌ على شرط مسلم. (3) كتاب أذكار الأكل والشّرب (بابُ ما يقولُ إذا قُرِّب إليه طعامُه) 650 - روينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إليه: " اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيما رَزَقْتَنا، وَقِنا عَذَابَ النَّارِ، بسم الله ". *

_ (1) قال الحافظ: وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود، قال وعجبت للشيخ - يعني النووي - في اقتصاره عليى ابن السني دون أبي داود، أما مسلم فلم يقع المقصود من هذا الحديث بالترجمة في روايته، والله أعلم. (2) وخرجه الحافظ من طريق الطبراني، وقال: حديث غريب أخرجه ابن السني، قال الطبراني في " الأوسط " لم يروه عن عبد الله بن عمر - يعني الراوي - عن نافع، عن سالم، عن أبيه ابن عمر إلا مسلمة الجهني، ضعفه أبو داود. (3) حسّنه الحافظ في تخريج الأذكار. (*)

باب استحباب قول صاحب الطعام لضيفانه عند تقديم الطعام: كلوا، أو ما في معناه

(بابُ استحباب قول صاحب الطعام لِضِيْفَانِه عندَ تقديم الطَّعام: كُلوا، أو ما في مَعناه) اعلم أنه يُستحبّ لصاحِب الطعام أن يقولَ لضيفه عند تقديم الطعام: بسم الله، أو كُلوا، أو الصَّلاة (1) ، أو نحو ذلك من العبارات المصرِّحة بالإِذن في الشروع في الأكل، ولا يجب هذا القول بل يكفي تقديمُ الطعام إليهم، ولهم الأكل بمجرّد ذلك من غير اشتراط لفظ، وقال بعض أصحابنا: لا بدّ من لفظ، والصوابُ الأوّل. 651 - وما ورد في الأحاديث الصحيحة من لفظ الإِذن في ذلك: محمول على الاستحباب. (باب التسمية عند الأكلِ والشُّربِ) 652 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ " (2) . 653 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعالى في أوَّلِهِ، فإنْ نَسِيَ أنْ يَذْكُر اسْمَ اللَّهِ تَعالى في أوَّلِهِ فليقل: بسم اللَّهِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 654 - وروينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعامِهِ، قالَ الشِّيْطانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا عَشاءَ، وَإذا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعالى عنْدَ دُخُولِه، قالَ الشَّيْطانُ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ طَعامِهِ، قالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالعَشاءَ ". 655 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً في حديث أنس المشتمل على معجزةٍ ظاهرةٍ من معجزاتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دعاهُ أبو طلحةَ وأُمُّ سُليم للطعام، قال: ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ "، فأذن لهم فدخلُوا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُوا وسَمُّوا اللَّهَ تَعالى، فأكلُوا حتى فعلَ ذلك بثمانين رجلاً ".

_ (1) أو صلاة، لعل وجه جعله من ألفاظ الاذن في التناول أنه يكفي تقدم الطعام إليهم، فلهم الأكل بذلك من غير افتقار إلى إذن لفطا اكتفاء بالقرنية كما في الشرب بالسقايات في الطرق. (2) وفي آخره: وكل مما يليك، وسيأتي بتمامه في الصفحة (199) . (*)

656 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه، قال: " كنّا إذا حضرْنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضعْ أيدينا حتى يبدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيضعُ يدَه، وإنّا حضرنا معه مرّة طعاماً، فجاءت جارية كأنها تدفعُ، فذهبتْ لتضعَ يدَها في الطعام فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاءَ أعرابيٌّ كأنما يَدْفَعُ، فأخذَ بيدِه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الشَّيْطانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ الله عَلَيْه، وأنَّهُ جاءَ بهَذِهِ الجارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فأخَذْتُ بِيَدِها، فَجاءَ الأعْرابِيّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فأخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِه إنَّ يَدَهُ في يَدِي مَعَ يَدِهِما " ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل. 657 - وروينا في " سنن أبي داود والنسائي " عن أميّة بن مَخْشِيٍّ الصحابي رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجلٌ يأكلُ، فلم يُسمّ حتى لم يبقَ من طعامه إلا لقمة، فلما رفعها إلى فيه قالَ: بِسْمِ الله أوّله وآخرُه، فضحكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما زَالَ الشَّيْطانُ يأكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ ما في بَطْنِهِ ". قلتُ: مَخْشِيّ، بفتح الميم وإسكان الخاء وكسر الشين المعجمتين وتشديد الياء، وهذا الحديث محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلمْ تركَه التسمية إلا في آخر أمره، إذ لو علم ذلك لم يسكتْ عن أمره بالتسمية. 658 - وروينا في كتاب الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلُ طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ فأكلَه بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفاكُمْ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 659 - وروينا عن جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ على طَعامِهِ فَلْيَقْرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ، إذَا فَرَغَ ". قلت: أجمع العلماءُ على استحباب التسمية على الطعام في أوّلِه، فإن تركَ في أوله عامداً أو ناسياً أو مُكرهاً أو عاجزاً لعارض آخر ثم تمكن في أثناء أكلِه، استحبّ أن يسمّي، للحديث المتقدم، ويقول: 660 - بسم الله أوله وآخره، كما جاء في الحديث. والتسميةُ في شرب الماء واللبن والعسل والمرق وسائر المشروبات كالتسمية في الطعام في جميع ما ذكرناه. قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: ويُستحبُّ أن يجهرَ بالتسمية ليكونَ فيه تنبيهٌ لغيره على التسمية وليُقتدى به في ذلك، والله أعلم.

باب لا يعيب الطعام والشراب

661 - فصل: من أهمّ ما ينبغي أن يعرف: صفة التسمة، وقدر المجزئ منها، فاعلم أن الأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قالَ: بِسْمِ الله، كفاه وحصلت السنة، وسواء في هذا الجنب والحائض وغرهما، وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فلو سمى واحد منهم أجزأ عن الباقين، نصّ عليه الشافعي رضي الله عنه، وقد ذكرته عن جماعة في كتاب " الطبقات " في ترجمة الشافعي، وهو شبيه برد السلام وتشميت العاطس، فإنه جزئ فيه قول أحد الجماعة. (بابُ لا يعيبُ الطعامَ والشرابَ) 662 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ما عابَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قطّ، إن اشتهاه أكلَه، وإن كرهَه تركَه " وفي رواية لمسلم " وإن لم يشتهه سكت ". 663 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه " عن هُلْب الصحابي رضيَ الله عنه (1) قال: " سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسأله رجلٌ: إن من الطعام طعاماً أتحرّجُ منه، فقال: لا يَتَحَلَّجَنَّ في صَدْرِكَ شئ ضَارَعْتَ بِهِ النَّصْرانِيَّةَ ". قلتُ: هُلْب بضمّ الهاء وإسكان اللام وبالباء الموحدة. وقوله: يَتَحَلَّجَنَّ، هو بالحاء المهملة قبل اللام والجيم بعدها، هكذا ضبطه الهروي والخطابي والجماهير من الأئمة، وكذا ضبطناه في أصول سماعنا " سنن أبي داود " وغيره بالحاء المهملة، وذكره أبو السعادات ابن الأثير بالمهملة أيضاً، ثم قال: ويُروى بالخاء المعجمة، وهما بمعنى واحد. قال الخطابي: معناه: لا يقع في ريبة منه. قال: وأصله من الحلج: هو الحركة والاضطراب، ومنه حَلَجَ القطن. قال: ومعنى ضارعتَ النصرانية، أي: قاربتها في الشبه، فالمضارعة: المقاربة في الشبه.

_ (1) عن هُلْب الصحابي رضي الله عنه، ضبطه المصنف كما سيأتي وغيره بضمّ الهاء وسكون اللام وبالباء الموحدة، وهو هلب الطائي، وأبو قبيصة مختلف في اسمه، فقيل: زيد بن قيافة، قاله البخاري، وقيل: زيد بن عديّ بن قيافة بن عديّ بن عبد شمس بن عديّ بن أخرم، يجتمع هو وعديّ بن أحزم الطائي في عديّ بن أخرم، وإنما قيل له: الهلب لأنه كان أقرعَ، فمسح النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسَه، فنبت شعرُه، وهو كوفي روى عنه ابنه قبيصة أحاديث، منها حديث الباب. (*)

باب جواز قوله: لا أشتهي هذا الطعام أو ما اعتدت أكله ونحو ذلك إذا دعت إليه حاجة

(بابُ جواز قوله: لا أشتهي هذا الطعام أو ما اعتدتُ أكله ونحو ذلك إذا دعت إليه حاجةٌ) 664 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن خالد بن الوليد رضي الله عنه في حديث الضَّبِّ لما قدَّموه مشوياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده إليه، فقالوا: هو الضَّبُّ يا رسولَ الله، فرفعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه، فقال خالد: أحرام الضَّبُّ يا رسول الله؟ قال: " لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأرْضِ قَوْمي فأجِدُنِي أعافُهُ ". (بابُ مَدحِ الآكلِ الطعامَ الذي يأكلُ منه) 665 - روينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سألَ أهلَه الأُدْمَ، فقالوا: ما عندنا إلاَّ خَلّ، فدعا به فجعلَ يأكلُ منه ويقول: نِعْمَ الأدْمُ الخَلُّ، نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ ". (بابُ ما يقولُه من حَضَرَ الطعامُ وهو صائمٌ إذا لم يُفطر) 666 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فإنْ كانَ صَائِماً فلْيُصَلِّ، وَإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ " قال العلماء: معنى فليصل: أي: فليدع. 667 - وروينا في كتاب ابن السني وغيره قال فيه: " فإنْ كانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وَإنْ كَانَ صَائِماً دَعا له بالبركة ". (بابُ ما يقولُه مَن دُعِي لطعامٍ إذا تَبِعَه غيرُه) 668 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: " دعا رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعَه له خامسَ خمسةٍ، فتبعهُم رجلٌ، فلما بلغَ البابَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنا فإنْ شِئْتَ أَنْ تأذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ، قال: بل آذنُ له يا رسولَ الله ". (بابُ وَعْظِهِ وتأديبِهِ من يسئ في أكلِه) 669 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: " كنتُ غلاماً في حِجْر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فكانتْ يدي تطيشُ في الصحفة (1) ، فقال

_ (1) وهي دون القصعة، والقصعة: ما تشبع عشرة - وقيل: الصحفة كالقصعة - وجمعها صحاف. (*)

لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غُلامُ، سَمّ الله تعالى، وكُلْ بِيَمينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ ". وفي رِوَاية في الصحيح قال: " أكلتُ يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلتُ آكلُ من نواحي الصحفة، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كُلْ مِمَّا يَلِيكَ ". قُلت: قولُه: تطِيشُ، بكسر الطاء وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة، ومعناه: تتحرّك وتمتدّ إلى نواحي الصحفة ولا تقتصرُ على موضع واحد. 670 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جبلةَ بن سحيم قال: أصابَنَا عامُ سَنةٍ مع ابن الزبير، فرزقنا تمرا، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمرّ بنا ونحن نأكلُ، ويقولُ: لا تقارِنُوا (1) ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الإِقران (2) ، ثم يقول: " إلاَّ أنْ يَسْتأذِنَ الرَّجُلُ أخاهُ ". قلت: قوله: لا تقارنوا، أي: لا يأكل الرجل تمرتين في لقمة واحدة. 671 - وروينا في " صحيح مسلم " عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أن رجلاً أكل عندَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: " كُلْ بِيَمِينِكَ " (3) ; قال: لا أستطيع، قال: " لا اسْتَطَعْتَ " (4) ، ما منعه إلا الكبر (5) ، فما رفعها إلى فِيْه ". قلتُ: هذا الرجل هو بُسر، بضم الموحدة وبالسين المهملة: ابن راعي العَير بالمثناة وفتح العين، وهو صحابي، وقد أوضحتُ حالَه، وشرح هذا الحديث في " شرح صحيح مسلم " والله أعلم.

_ (1) وفي رواية: لا تقرنوا. (2) كذا لأكثر الرواة، وأخرجه أبو داود الطيالسي بلفظ القران، قال ابن الأثير في " النهاية ": إنما نهى عن القران لأن فيه شرها، وذلك يزري بفاعله، أو لأن فيه غبنا لرفيقه، وقيل: إنما نهي عنه لما كانوا في من شدة العيش وقلة الطعام، وكانوا مع هذا يواسون من قليل، فوذا اجتمعوا على الآكل آثر بعضهم بعضا على نفسه، وربما كان في القوم من قد اشتد جوعه، فربما قرن بين التمرتين أو عطم اللقمه ة، فأرشدهم إلى الاذن فيه ليطلب به أنفس الباقين. (3) كل بمينك، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في الأكل. (4) فيه جواز الدعاء على مَن خالف الحكم الشرعي بلا إذن. (5) محل النهي عن الأكل بالشمال حيث لا عذر، فإن كان عذر يمنع عن الأكل باليمين من مرض وجراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الأكل بالشمال. (*)

باب استحباب الكلام على الطعام

(بابُ استحباب الكَلامِ على الطَّعام) 672 - فيه حديث جابر الذي قدَّمناه في " باب مدح الطعام ". قال الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء " من آداب الطعام أن يتحدَّثوا في حال أكله بالمعروف، ويتحدّثوا بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها. (بابُ ما يقولُهُ ويفعلُه من يأكلُ ولا يَشبعُ) 673 - روينا في " سنن أبي داود وابن ماجه " عن وحشيِّ بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسولَ الله إنّا نأكلُ ولا نشبعُ، قال: " فَلَعَلَّكُم تَفْتَرِقُونَ "؟ قالوا: نعم، قال: " فاجْتَمِعُوا على طَعامِكُمْ واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه " (1) . (بابُ ما يقولُ إذا أكلَ مع صَاحبِ عَاهَةٍ) 674 - روينا في " سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذَ بيدِ مجذومٍ فوضعَها معه في القَصعةِ، فقال: " كل بسم اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وتوكلا عليه " (2) . (بابُ استحباب قولِ صاحبِ الطَّعام لضيفهِ ومَنْ في معناهُ إذا رفع يده من الطعام " كُلْ " وتكريرُه ذلك عليه ما لم يتحقّقْ أنه اكتفى منه وكذلك يفعلُ في الشرابِ والطِّيبِ ونحو ذلك) اعلم أن هذا مُستحبّ، حتى يُستحبّ ذلك للرجل مع زوجته وغيرها، من عيالِه الذين يُتوهم منهم أنهم رفعوا أيديهم ولهم حاجةٌ إلى الطعام وإن قلَّت. 675 - ومما يُستدّل به في ذلك ما رويناهُ في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديثه الطويل المشتمل على معجزاتٍ ظاهرةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتدّ جوعُ أبي هريرة وقعدَ على الطريق يستقرئ مَن مَرَّ به القرآن، معرّضاً بأن يُضيفه، ثم بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفّةِ، فجاءَ بهم فأرْواهم أجمعينَ من قدحِ لبن ... وذكر

_ (1) وهو حديث حسن بشواهده. (2) وفي سنده المفضل بن فضالة بن أبي أمية البصري أبو مالك أخو مبارك بن فضلة، وهو ضعيف، كما في التقريب، وقد قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة. (*)

باب ما يقول إذا فرغ من الطعام

الحديثَ إلى أن قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " بقيبت أنا وَأنْتَ " قلتُ: صَدقتَ يا رسولَ الله، قال: اقْعُدْ فاشْرَبْ، فقعدتُ فشربتُ، فقال: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فما زال يَقُولُ: اشْرَبْ، حتى قلتُ: لا، والذي بعثك بالحقّ لا أجد له مَسْلَكاً، قال: فأرِني، فأعطيته القدحَ، فحمد الله تعالى وسمَّى وشربَ الفضلة. (بابُ ما يقولُ إذا فَرَغَ من الطَّعامِ) 676 - روينا في " صحيح البخاري " عن أبي أُمامةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفيٍّ وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنىً عَنْهُ رَبَّنا " وفي رواية " كان إذا فَرَغَ من طعامِه " وقال مرّة " إذا رفع مائدته قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفانا وأرْوَانا غَيْرَ مَكْفِيّ ولا مَكْفُورٍ ". قلتُ: مكفيّ، بفتح الميم وتشديد الياء، هذه الرواية الصحيحة الفصيحة، ورواه أكثر الرواة بالهمز، وهو فاسد من حيث العربية، سواء كان من الكفاية، أو من كفأت الإِناء، كما لا يقال في مقروء من القراءة: مقرئ، ولا في مرمىْ بالهمز. قال صاحب " مطالع الأنوار " في تفسير هذا الحديث: المراد بهذا المذكور كله الطعام، وإليه يعود الضمير. قال الحربيّ: فالمكفيّ: الإِناء المقلوب للاستغاء عنه، كما قال: " غير مستغنى عنه " أو لعدمه، وقوله: غير مكفور، أي: غير مجحود نِعمَ الله سبحانه وتعالى فيه، بل مشكورة، غير مستور الاعتراف بها والحمد عليها. وذهب الخطابي إلى أن المراد بهذا الدعاء كله الباري سبحانه وتعالى، وأن الضمير يعود إليه، وأن معنى قوله: غير مكفيّ: أنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، كأنه على هذا من الكفاية، وإلى هذا ذهب غيره في تفسير هذا الحديث، أي: إن الله تعالى مستغنٍ عن معين وظهير، قال: وقوله: ولا مودّع: أي: غير متروك الطلب منه والرغبة إليه، وهو بمعنى المستغنى عنه، وينتصب " ربنا " على هذا بالاختصاص أو المدح أو بالنداء، كأنه قال: يا ربنا اسمع حمدنا ودعاءنا، ومن رفعه قطعه وجعله خبراً، وكذا قيده الأصيلي كأنه قال: ذلك ربّنا، أي أنت ربنا، ويصحّ فيه الكسر على البدل من الاسم في قوله: الحمد لله. وذكر أبو السعادات ابن الأثير في " نهاية الغريب " نحو هذا الخلاف مختصراً. وقال: ومن رفع " ربّنا " فعلى الابتداء المؤخر: أي ربنا غير مكفيّ ولا مودع، وعلى هذا يرفع " غير " قال: ويجوز أن يكون الكلام راجعاً إلى الحمد، كأنه قال: حمداً كثيراً غير مكفي ولا مودّع ولا مستغنى

عن هذا الحمد. وقال في قوله: ولا مودّع: أي غير متروك الطاعة، وقيل: هو من الوداع، وإليه يرجع، والله أعلم. 677 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ تعالى لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ يأكُلُ الأكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْها، ويَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْها ". 678 - وروينا في " سنن أبي داود " وكتابي " الجامع " و " الشمائل " للترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فَرَغ من طعامه قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أطْعَمَنَا وَسَقانا وَجَعَلَنا مُسْلِمِينَ " (1) . 679 - وروينا في " سنن أبي داود والنسائي " بالإِسناد الصحيح عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكَلَ أو شَرِبَ قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً ". 680 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه " عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أكَلَ طَعاماً فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " قال الترمذي: حديث حسن. قال الترمذي: وفي الباب - يعني باب الحمد على الطعام إذا فرغَ منه - عن عقبةَ بن عامر وأبي سعيد وعائشة وأبي أيوب وأبي هريرة. 681 - وروينا في " سنن النسائي " وكتاب ابن السني بإسناد حسن (2) ، عن عبد الرحمن بن جُبير التابعي، أنه حدَّثه رجلٌ خدمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنين أنه كان يسمعُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قَرَّبَ إليه طعام يقول: " بسم اللَّهِ، فإذا فَرغَ من طعامه قال: اللَّهُمَّ أطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ، وَأغْنَيْتَ وأقْنَيْتَ، وَهَدَيْتَ وأحييت، فَلَكَ الحَمْدُ على ما أعطيت ".

_ (1) وهو حديث حسن. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ بعد تخريج الحديث: هذا حديث صحيح أخرجه النسائي في الكبرى من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو، عن ابن هبيرة - يعني عبد الله -، عن عبد الرحمن بن جبير، عن رجلٌ خدمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وابن السني من طريق عبد الله بن زيد المقرئ، عن سعيد، وساقه الشيخ على لفظه. وقوله - يعني النووي - بالإسناد حسن قال الحافظ: في اقتصاره على حسن نظر، فإن رجال سنده من يونس إلى الصحابي أخرج لهم مسلم، وقد صرح التابعي بأن الصحابي حدثه في رواية المقرئ، فلعله - أي النووي - خفي عليه حال ابن هبيرة. (*)

باب دعاء المدعو والضيف لأهل الطعام إذا فرغ من أكله

682 - وروينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في الطعام إذا فرغَ: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي مَنَّ عَلَيْنا وَهَدَانا، وَالَّذي أشْبَعَنا وَأرْوَانا، وكُلَّ الإِحْسانِ آتانا " (1) . 683 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " وكتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ طَعاماً " وفي رواية ابن السني " مَنْ أطْعَمَهُ اللَّهُ طَعاماً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيهِ وأطْعِمْنا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقاهُ اللَّهُ تعالى لَبَناً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِيهِ وَزِدْنا مِنْهُ، فإنَّهُ ليس شئ يجزئ منَ الطَّعامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَ اللَّبَنِ " قال الترمذي: حديث حسن. 684 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد ضعيف عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب في الإِناء تنفَّسَ ثلاثة أنفاسٍ يحمد الله تعالى في كل نفس، ويشكرُه في آخره " (2) . (بابُ دعاءِ المدعوّ والضيفَ لأهلِ الطَّعامِ إذا فَرَغَ من أكلهِ) 685 - روينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن بُسْر - بضمّ الباء وإسكان السين المهملة - الصحابيّ قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي، فقرّبنا إليه طعاماً ووَطْبَةً فأكل منها، ثم أُتيَ بتمر فكان يأكلُه ويُلقي النَّوَى بين أصبعيه ويجمعُ السبَّابَةَ والوُسطى. قال شعبة: هو ظني (3) وهو فيه إن شاء الله تعالى إلقاءُ النَّوى بين الأصبعين، ثم أُتي بشرابٍ

_ (1) وهو حديث حسن بشواهده. (2) والمستغرب من هذا الحديث تكرار الحمد، وأصل تثليث النفس في الشرب أخرجه مسلم من حديث أنس دون التسمية والتحميد، قال الحافظ: وللمتن شاهد عن أبي هريرة يفسر الكفية امذكورة هنا وهو مطابق لحديث ابن مسعود، ولفظ حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدلى الإناء إلى فيه سمى الله، وإذا أخره، حمد الله، يفعل ذلك ثلاثَ مرّاتٍ قال احافظ بعد تخريجه من طريق الطبراني أيضا: هذا حديث حسن، خرجه الخرائطي في " فضيلة الشكر ". (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": معني هذا الكلام أن شعبة قال: الذي أظنه إن إلقاء النوى مذكور في الحديث، وأشار إلى تردد فيه، وشك في هذه الطريق، لكن جاء في طريق أخرى عنه عند مسلم أيضا الجزم بذلك من غير شك فيه، فهو ثابت بتلك الطريق، ولا تضر رواية الشك سواء تقدمت على الرواية الأخرى أو تأخرت، لأنه تيقن في وقت، وشك في وقت، والمتن ثابت، ولا يمنعه النسيان في وقت آخر. (*)

باب دعاء الإنسان لمن سقاه ماء أو لبنا ونحوهما

فشربَه، ثم ناولَه الذي عن يمينه، فقال أبي: ادعُ اللَّهَ لنا، فقال: " اللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِيما رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ ". قلتُ: الوطبة، بفتح الواو وإسكان الطاء المهملة بعدها باء موحدة: وهي قربة لطيفة يكون فيها اللبن. 686 - وروينا في " سنن أبي داود " وغيره بالإِسناد الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، فجاء بخبزٍ وزيْتٍ (1) فأكل، ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وأكَلَ طَعَامَكُمُ الأبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ ". 687 - وروينا في " سنن ابن ماجه " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: أفطرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ، فقال: " أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ... " الحديث. قلتُ: فهما قضيتان جرتا لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ. 688 - وروينا في " سنن أبي داود عن رجل عن جابر رضي الله عنه قال: " صنعَ أبو الهيثم بن التَّيِّهَان للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً، فدعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، فلما فرغوا، قال: أثِيبُوا أخاكُمْ، قالوا: يا رسول الله وما إثابته؟ قال: إنَّ الرَّجُلَ إذَا دُخلَ بَيْتُهُ فأُكِلَ طَعامُهُ وَشُرِبَ شَرَابُهُ فَدَعَوْا لَهُ فَذَلِكَ إثابَتُهُ " (2) . (بابُ دُعاءِ الإِنسانَ لمن سَقَاهُ ماءً أو لبناً ونحوهما) 689 - روينا في " صحيح مسلم " عن المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور قال: " فرفعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رأسَه إلى السماء، فقال: اللَّهُمَّ أطْعِمْ مَنْ أطْعَمَنِي، وَاسْقِ مَنْ سَقانِي ". 690 - وروينا في كتاب ابن السني عن عمرو بن الحَمِقِ (3) رضيَ الله عنه أنه سقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَبَناً فقال: " اللَّهُمَّ أمْتِعْهُ بِشَبابِه، فمرّتْ عليه ثمانون سنةً لم يرَ شعرةً بيضاء " (4) .

_ (1) وعند أحمد والطبراني: فقرب له زبيبا، وهو الصواب، قال الحافظ: وما أظن الزيت إلا تصحيفا عن الزبيب اهـ. وقد تقدم الحديث في الصحفة (162) بلفظ: بخبز وزيت، وهو تصحيف أيضا. (2) وهو حديث حسن بشواهده. (3) هو عمر بن الحمق، بن الكاهن، ويقال: الكاهن، بن حبيب الخزاعي، صحابي سكن الكوفة، ثم مصر، قتل في خلافة معاوية. (4) وإسناده ضعيف، لكن قال الحافظ: وللحديث شاهد عن عمرو بن ثعلبة الجهني عن الطبراني، وآخر عند = (*)

باب دعاء الإنسان وتحريضه لمن يضيف ضيفا

قلت: الحَمِق، بفتح الحاء المهملة وكسر الميم. 691 - وروينا فيه عن عمرو بن أخطب - بالخاء المعجمة وفتح الطاء - رضي الله عنه قال: " اسْتَسْقَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه بماء في جمجمة وفيها شعرة فأخرجتُها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، قال الراوي: فرأيته ابن ثلاث وتسعين أسود الرأس واللحية " (1) . قلت: الجُمْجُمة، بجيمين مضمومتين بينهما ميم ساكنة، وهي قدح من خشب وجمعها جماجم، وبه سمي دير الجماجم، وهو الذي كانت به وقعة ابن الأشعث مع الحجاج بالعراق، لأنه كان يُعمل فيه أقداح من خشب، وقيل: سمي به لأنه بُنِي من جماجم القتلى لكثرة من قُتل. (بابُ دعاءِ الإِنسان وتحريضِه لمن يُضيِّفُ ضَيْفاً) 692 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفَه فلم يكنْ عندَه ما يضيفُه، فقال: ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ، فقام رجل من الأنصار فانطلق به ... " وذكر الحديث. (بابُ الثناءِ على مَنْ أكرمَ ضيفَه) 693 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهودٌ (2) ، فأرسلَ إلى بعض نسائِه فقالتْ: والذي بعثكَ بالحقّ ما عندي إلا ماءٌ، ثم أرسلَ إلى أخرى فقالت مثلَ ذلكَ (3) ، حتَّى قلنَ كلهنّ مثلَ ذلك، فقال: مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسولَ الله، فانطلقَ به إلى رحلِه فقال لامرأته: هل عند ك شئ؟ قالت: لا، إلا قوتُ صبياني، قال: فعلِّليهم بشئ، فإذا دخلَ ضيفُنا فأطفئي السراجَ وأريه أنَّا نأكلُ، فإذا

_ = ابن السني عن أنس من وجهين، والله أعلم. (1) وهو حديث حسن. (2) أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العطش والجوع. (3) وفي الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عيله وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا، الصبر على الجوع وضيق الحال، وفيه أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف ومن يطرقهم بنفسه، فيواسيه من ماله أولا بما تيسر إن أمكنه، وإلا فيطلب من أصحابه على سبيل التعاون على البر التقوى. (*)

باب استحباب ترحيب الإنسان بضيفه وحمده الله تعالى على حصوله ضيفا عنده وسروره بذلك وثنائه عليه لكونه جعله أهلا لذلك

أهوى ليأكلَ فقومي إلى السِّراجِ حتى تطفئيه، فقعدُوا وأكلَ الضيفُ، فلما أصبحَ غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ من صنيعكما بِضَيْفِكُما اللَّيْلَةَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَيُؤْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9] . قلتُ: وهذا محمولٌ على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الطعام حاجة ضرورية، لأن العادةَ أن الصبيّ وإن كان شبعان يطلبُ الطعامَ إذا رأى مَن يأكلُه، ويُحمل فعلُ الرجل والمرأة على أنهما آثرا بنصيبهما ضيفهما، والله أعلم. (بابُ استحباب ترحيب الإِنسان بضيفه وحمده الله تعالى على حصوله ضيفاً عنده وسروره بذلك وثنائه عليه لكونه جعلَه أهلاً لذلك) 694 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " من طرق كثيرة عن أبي هريرة وعن أبي شُرَيْحٍ الخزاعيّ رضيَ الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ كان يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ". 695 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: " ما أخْرَجَكُما مِنْ بُيُوتِكُما هَذِهِ السَّاعَةَ "؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: " وأنا وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَني الَّذي أخْرَجَكُما، قُومُوا، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار (1) فإذا ليس هو في بيته، فلما رأتْهُ المرأةُ قالتْ: مرحبَاً وأهلاً، فقالَ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيْنَ فُلانٌ؟ قالت: ذهبَ يستعذبُ لنا من الماء (2) ، إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحَمْدُ لله، ما أحدٌ اليوم أكرمُ أضيافاً منّي ... " وذكر تمام الحديث. (بابُ ما يقولُه بعدَ انصرافِه عن الطَّعام) 696 - روينا في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أذِيبُوا طَعامَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ، وَلا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ له قلوبكم " (3) .

_ (1) هو أبو الهيثم بن التهيان. (2) في الحديث حواز استعذاب الماء، وأن ذلك لا ينافي الزهد، وفيه أن خدمة الرجل أهل بيته وتوليته حوائجهم بنفسه تواضعا لا ينا في المروءة، بل هو من كمال الخلق وحسن التوضع. (3) وهو حديث ضعيف، قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: هذا حديث لا يثبت وإن كان معناه قوياً. (*)

كتاب السلام والاستئذان وتشميت العاطس وما يتعلق بها

كتاب السلام والاستئذان وتشميت العاطس وما يتعلق بها قال الله تعالى: (فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُمُ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور: 61] وقال تعالى: (وَإذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها) [النساء: 86] وقال تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بيوتكم حتى تستأنسوا (1) وتسلموا على أهلها) (2) [النور: 27] وقال تعالى: (وإذا بلغ الأطفال مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كما اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور: 59] وقال تعالى: (وَهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ) [الذاريات: 24] . واعلم أن أصلَ السَّلامِ ثابتٌ بالكتاب والسُّنّة والإِجماع. وأما أفراد مسائله وفروعه فأكثرُ من أن تُحصر، وأنا أختصرُ مقاصدَه في أبواب يسيرة إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق والهداية والإِصابة والرعاية. (بابُ فضلِ السَّلامِ والأمرِ بإفشائه) 697 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإِسلام خَيْرٌ؟ قال: " تُطْعِمُ الطَّعامَ، وَتَقْرأُ السَّلام على مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ". 698 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ (3) طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ: نَفَرٍ مِنَ المَلائِكَةِ جُلُوسٍ فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ فإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرّيَّتِكَ، فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ " (4) .

_ (1) أي بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ. (2) أي تستأذنوا. (3) هذه آداب شرعية أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، قبل الدخول ويسلموا بعده، وينبغي للإِنسان أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف. (4) أي: إن الله تعالى خلق آدم في أول نشأته على صورته التي كان عليها من مبدأ فطرته إلى موته. (5) وفي الحديث دليل على فضيلة آدم حيث تولى الله تعالى تأديبه، وعلى أن السلام أدب قديم مشروع منذ = (*)

699 - وروينا في " صحيحيهما " عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادةِ المريض، واتِّباعِ الجنائز، وتشميتِ العاطسِ، ونصرِ الضعيفِ، وعوْنِ المظلومِ، وإفشاءِ السَّلامِ، وإبرارِ القَسَم " هذا لفظ إحدى روايات البخاري. 700 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا (1) أوْلا أدلكم على شئ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ". 701 - وروينا في " مسند الدارمي " وكتابي الترمذي وابن ماجه وغيرها بالأسانيد الجيدة، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلامَ، وأطْعِمُوا الطَّعامَ، وَصِلُوا الأرْحامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ "، قال الترمذي: حديث صحيح (2) . 702 - وروينا في كتابي ابن ماجه وابن السني عن أبي أُمامةَ رضي الله عنه قال: " أمَرَنَا نبيُّنا ; صلى الله عليه وسلم أن نُفشيَ السَّلامَ (3) . 703 - وروينا في " موطأ " الإِمام مالك رضي الله عنه عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، أن الطُّفيلَ بن أُبيّ بن كعب أخبرَه أنه كان يأتي عبدَ الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذَا غدوْنا إلى السوق لم يمرّ عبدُ الله على سَقَّاطٍ، ولا صاحبِ بَيْعَةٍ (4) ولا مِسكين ولا أحدٍ إلاَّ سلَّم عليه، قال الطُّفيلُ: فجئتُ عبدَ الله بن عمر يوماً، فاستتبعني إلى

_ = خلق ادم، وفيه دليل على استحباب السعي لطلب العلم، وآدم أول من سعى لطلب العلم بمقضتى هذا الحديث. (1) ولا تؤمنوا حتى تحابوا، قال ابن علاّن: قال المصنف: هكذا هو في جميع الأصول والروايات: " ولا تؤمنوا " بحذف النون من آخره، وهي لغة معروفة صحيحة. اهـ. قال وقال بعضهم: حسن ذلك لمشاكلة الفعل المنصوب قبله: أي حتي تحابوا، لكن قال الطيبي: ونحن استقر أنا نسخ مسلم والحمندي وجامع الأصول وبعض نسخ المصابيح فوجدناها مثبتة بالنون على الظاهر، ونازعه في المرقاة في ذلك بأن نسخ المصابيح المقروءة على المشايخ الكبار كابن الجرزي والسيد أصيل الدين وجمال الدين المحدث وغيرها من النسخ الحاضرة كلها بحذف النون، وكذا متن مسلم المصجج المقروءة على جملة مشايخ، منهم السيد نور الدين الايجي. (2) قال الحافظ: حديث حسن. (3) إسناده جيد. (4) أي بيعة نفيسة لقرينة مقابلته بالسقاط. (*)

باب كيفية السلام

السوق، فقلتُ له: ما تصنعُ بالسوق وأنتَ لا تقفُ على البيْعِ ولا تسألُ عن السِّلعِ ولا تسوم بها ولا تجلسُ في مجالس السوق؟ قال: وأقولُ: اجلسْ بنا هاهنا نتحدّثْ، فقال لي ابن عمرَ: يا أبا بطن (1) وكان الطفيلُ ذا بطن، إنما نغدو من أجل السلام نُسَلِّم على مَن لقيناه (2) . 704 - وروينا في " صحيح البخاري " عنه قال: وقال عمّار رضي الله عنه: ثلاثٌ من جَمعهنّ فقد جمعَ الإِيمانَ: الإِنصافُ من نفسك، وبذلُ السَّلام للعالم، والإِنفاقُ من الإِقتار. وروينا هذا في غير البخاري مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . قلت: قد جمعَ في هذه الكلمات الثلاث خيراتِ الآخرة والدنيا، فإنَّ الإِنصافَ يقتضي أن يؤدّي إلى الله تعالى جميع حقوقه وما أمره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدي للناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضاً نفسه فلا يوقعها في قبيح أصلاً. وأما بذلُ السلام للعالم، فمعناه لجميع الناس، فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع بسببه من السلام عليه بسببه. وأما الإِنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق بالله تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين، إلى غير ذلك، نسأل الله تعالى الكريم التوفيق لجميعه. (بابُ كيفيّة السَّلام) اعلم أن الأفضل أن يقول المسلم: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحداً، ويقولُ المجيب: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَركاتُه، ويأتي بواو العطف في قوله: " وعليكم ". وممّن نصّ على أن الأفضل في المبتدئ أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الإِمام أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ في كتابه " الحاوي " في كتاب السِّيَر، والإِمام أبو سعد المتولي من أصحابنا في كتاب صلاة الجمعة وغيرهما.

_ (1) فيه أن ذكر بعض خلقه الإنسان إذَا لم يَتَأذّ بذكره فلم يقصد به الإهانة وإدخال العيب لا يكون محرما منهيا عنه. (2) قال الحافظ: وهو موقوف صحيح. (3) وإسناده ضعيف في المرفوع. (*)

705 - ودليله ما رويناه في مسند الدارمي وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: " جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فردّ عليه ثم جلس، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عَشْرٌ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه ثم جلس، فقال: عِشْرُونَ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه، فردّ عليه فجلس، فقال: ثلاثُونَ " فقال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لأبي داود، من رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه، زيادة على هذا، قال: " ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أرْبَعُونَ، وقال: هَكَذَا تَكُونُ الفَضَائِلُ ". 706 - وروينا في كتاب ابن السني، بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: " كان رجلٌ يمرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يَرعى دوابّ أصحابه فيقول: السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ الله، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ، فقيل: يا رسول الله تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ قال: " وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذلكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بأجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً؟ ". قال أصحابنا: فإن قال المبتدئ: السلام عليكم، حصل السَّلامُ، وإن قال: السلام عليكَ، أو سلام عليكَ، حصل أيضاً. وأما الجواب فأقلّه: وعليكَ السلام، أو وعليكم السلام، فإن حذف الواو فقال: عليكم السَّلام أجزأه ذلك وكان جواباً، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي نصّ عليه إمامنا الشافعي رحمه الله في " الأُم "، وقاله جمهور أصحابنا. وجزم أبو سعد المتولّي من أصحابنا في كتابه " التتمة " بأنه لا يجزئه ولا يكون جواباً، وهذا ضعيف أو غلط، وهو مخالفٌ للكتاب والسنّة ونصّ إمامنا الشافعي. أما الكتاب فقال الله تعالى: (قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ) [هود: 69] وهذا وإن كان شرعا لمن قَبْلنا، فقد جاء شرعنا بتقريره. 707 - وهو حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه في جواب الملائكة آدمُ صلى الله عليه وسلم فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا " أن الله تعالى قال: هي تحيتك وتحية ذرّيتك " وهذه الأمة داخلة في ذرّيته، والله أعلم. واتفق أصحابنا على أنه لو قال في الجواب: عليكم، لم يكن جواباً، فلو قال:

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: حديث غريب، أخرجه أبو داود ولم يسق من لفظه إلا ما ذكره الشيخ، بل أحال به على لفظ حديث عمران. (*)

وعليكم بالواو، فهل يكون جواباً؟ فيه وجهان لأصحابنا، ولو قال المبتدئ: سلام عليكم، أو قال: السلام عليكم، فللمُجيب أن يقول في الصورتين: سلام عليكم، وله أن يقول: السلام عليكم، قال الله تعالى: (قالُوا سَلاماً، قالَ سَلامٌ) قال الإِمام أبو الحسن الواحديّ من أصحابنا: أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار، قلت: ولكن الألف واللام أولى. 708 - فصل: روينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّمَ عليهم ثلاثاً ". قلت: وهذا الحديث محمولٌ على ما إذا كان الجمعُ كثيراً، وسيأتي بيان هذه المسألة وكلام الماوردي صاحب " الحاوي " فيها إن شاء الله تعالى. فصل: وأقل السَّلام الذي يصيرُ به مؤدّياً سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه، فإن لم يُسْمعه لم يكن آتياً بالسلام، فلا يجب الردّ عليه. وأقلّ ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم، فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ، ذكرهما المتولي وغيره. قلت: والمستحبّ أن يرفع صوته رفعاً يسمعه به المسلَّم عليه أو عليهم سماعاً محققاً، وإذا تشكك في أنه يسمعهم، زاد في رفعه، واحتاط واستظهر، أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام، فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ ولا يستيقظ النيام. 709 - روينا في " صحيح مسلم " في حديث المقداد رضي الله عنه الطويل قال: " كنّا نرفع للنبيّ صلى الله عليه وسلم نَصيبه من اللبن، فيجئ من الليل فيسلّم تسليماً لا يُوقظ نائماً ويُسمِع اليقظانَ، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلِّم " والله أعلم. فصل: قال الإِمام أبو محمد القاضي حسين، والإِمام أبو الحسن الواحدي وغيرهما من أصحابنا: ويُشترط أن يكون الجواب على الفور، فإن أخَّرَه ثم ردّ لم يعدّ جواباً، وكان آثماً بترك الردّ.

باب ما جاء في كراهة الإشارة بالسلام باليد ونحوها بلا لفظ

(بابُ ما جاء في كَراهةِ الإِشارة بالسَّلام باليد ونحوها بلا لفظ) 710 - روينا في كتاب الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنَّصَارَى، فإنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشارَةُ بالأصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشارَةُ بالكَفّ " قال الترمذي: إسناده ضعيف (1) . 711 - قلت: وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن أسماءَ بنت يزيد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً، وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم " قال الترمذي: حديث حسن، فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإِشارة، يدلّ على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته: " فسلم علينا ". (بابُ حُكْمِ السَّلاَم) اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ مستحبّة ليس بواجب، وهو سنّةٌ على الكفاية، فإن كان المسلِّم جماعة، كفى عنهم تسليمُ واحد منهم، ولو سلَّموا كلُّهم كان أفضل. قال الإِمام القاضي حسين من أئمة أصحابنا في كتاب السير من تعليقه: ليس لنا سنّة على الكفاية إلا هذا. قلت: وهذا الذي قاله القاضي من الحصر يُنكر عليه، فإن أصحابنا رحمهم الله قالوا: تشميتُ العاطسِ سنّةٌ على الكفاية كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى. وقال جماعة من أصحابنا بل كلهم: الأُضحية سنّةٌ على الكفاية في حقّ كل أهل بيت، فإذا ضحَّى واحد منهم حصل الشِّعار والسنّة لجميعهم. وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيَّنَ عليه الردّ، وإن كانوا جماعةً، كان ردّ السلام فرضُ كفايةٍ عليهم، فإن ردّ واحد منهم سقطَ الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلُّهم، أثموا كلُّهم، وإن ردّوا كلُّهم، فهو النهاية في الكمال والفضيلة، كذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن. واتفق أصحابنا على أنه لو ردّ غيرُهم، لم يسقط الرد، بل يجب عليهم أن يردّوا، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبيّ أثموا. 712 - روينا في سنن أبي داود عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

_ (1) ولكن له شواهد بمعناه يقو بها، ومن المقرر في الشريعة الإسلامي أنه لا يجوز للمسلمين رجلا ونساء التشبة بالمفار سواء في عباداتهم، أو أعيادهم، أو زيائهم الخاصة بهم، والأدلة على ذلك في الكتاب والسنّة كثيرة جدا. (*)

" يجزئ عَنِ الجَماعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أحَدُهُمْ، ويجزئ عَنِ الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُمْ " (1) . 713 - وروينا في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنَ القَوْمِ أَجْزَأ عَنْهُمْ " قلت: هذا مرسل صحيح الإسناد (2) . فصل: قال الإِمام أبو سعد المتولي وغيره: إذا نادى إنسان إنساناً من خلف ستر أو حائط فقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب كتاباً فيه: السلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال: سلّم على فلان، فبلغه الكتاب أو الرسول، وجب عليه أن يردّ السلام، وكذا ذكر الواحدي وغيره أيضاً أنه يجب على المكتوب إليه ردّ السلام إذا بلغه السلام. 714 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأُ عَلَيْكِ السَّلامَ " (3) قالت: قلتُ: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. هكذا وقع في بعض روايات " الصحيحين " " وبركاته " ولم يقع في بعضها، وزيادة الثقة مقبولة. ووقع في كتاب الترمذي " وبركاته " وقال: حديث حسن صحيح، ويُستحبّ أن يرسلَ بالسلام إلى مَن غاب عنه. فصل: إذا بعث إنسان مع إنسان سلاماً، فقال الرسول: فلان يسلّم عليك، فقد قدّمنا أنه يجب عليه أن يردّ على الفور، ويستحبّ أن يردّ على المبلِّغ أيضاً، فيقول: وعليك وعليه السلام. 715 - وروينا في سنن أبي داود عن غالب القطان عن رجل قال: حدّثني أبي عن

_ (1) وهو حديث حسن. (2) وهو شاهد لما قبله. (3) قال القرطبي في " المفهم ": يقال: أقرأته السلام، وهو يقرئك السلام، رباعيا بضم حرف المضارعة منه، فإذا قلت: يقرأ غليك السلام كان مفتوح حرف المضارعة لأنه ثلاثي، وهذه الفضيلة عظيمة لعائشة، غير أن ما ورد من تسليم الله عز وجل على خديجة أعلى وأغلى، لأن ذلك سلام من الله، وهذا سلام من الملك. وقال المصنف في " شرح مسلم ": في الحديث فضيلة ظاهرة لعائشة، وفيه استحباب بعث السلام، ويجب على الرسول تبليغه، وفيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة، وأن الذي يبلغة السلام يرد عليه، قال أصحابنا: وهذا الرد واجب على الفور، وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب وجب عليه أن يرد السلام باللفظ على الفور إذا قرأه. (*)

جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته فقلت: إن أبي يُقرئك السلام، فقال: " وعليك السَّلامُ وَعلى أبِيكَ السَّلامُ ". قلت: وهذا وإن كان رواية عن مجهول، فقد قدّمنا أن أحاديثَ الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم كلهم (1) . فصل: قال المتولي: إذا سلم على أصمّ لا يسمع، فينبغي أن يتلفظ بلفظ السلام لقدرته عليه، ويشير باليد حتى يحصل الإِفهام ويستحقّ الجواب، فلو لم يجمع بينهما لا يستحقّ الجواب. قال: وكذا لو سلّم عليه أصمّ وأراد الرد، فيتلفظ باللسان، ويشير بالجواب ليحصل به الإِفهام، ويسقط عنه فرض الجواب. قال: ولو سلّم على أخرس فأشار الأخرس باليد، سقط عنه الفرض، لأن إشارته قائمة مقام العبارة، وكذا لو سلَّم عليه أخرسُ بالإِشارة يستحقّ الجواب لما ذكرنا. فصل: قال المتولي: لو سلَّم على صبيّ، لا يجب عليه الجواب، لأن الصبيّ ليس من أهل الفرض، وهذا الذي قاله صحيح، لكن الأدب والمستحبّ له الجواب. قال القاضي حسين وصاحبه المتولّي: ولو سلَّم الصبي على بالغ، فهل يجب على البالغ الرد؟ فيه وجهان ينبنيان على صحة إسلامه، إن قلنا: يصحّ إسلامُه، كان سلامُه كسلام البالغ، فيجب جوابُه. وإن قلنا: لا يصحّ إسلامه، لم يجب ردّ السلام، لكن يُستحبّ. قلت: الصحيح من الوجهين وجوب ردّ السلام، لقول الله تعالى: (وإذا حييتم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها) [النساء 86] ، وأما قولهما: إنه مبنيّ على إسلامه، فقال الشاشي: هذا بناء فاسد، وهو كما قال، والله أعلم. ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبيّ، فردّ الصبيّ ولم يردّ منهم غيرُه، فهل يسقط عنهم؟ فيه وجهان أصحُّهما - وبه قال القاضي حسين وصاحبه المتولي - لا يسقط، لأنه ليس أهلاً للفرض، والردّ فرض فلم يسقط به، كما لا يسقط به الفرض في الصلاة على الجنازة. والثاني وهو قول أبي بكر الشاشي صاحب " المستظهري " من أصحابنا: أنه يسقط، كما يصحّ أذانه للرجال، ويسقط عنه طلب الأذان. قلت: وأما الصلاة على الجنازة، فقد اختلف أصحابُنا في سقوط فرضها بصلاة الصبيّ على وجهين مشهورين، الصحيحُ منهما عند الأصحاب: أنه يسقط، ونصَّ عليه الشافعي، والله أعلم.

_ (1) أنظر الصفحة (5) . (*)

فصل: إذا سُلِّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب، يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر، اتفق عليه صحابنا. 716 - ويدل عليه ما رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هُريرة رضي الله عنه في حديث المسئ صلاته (1) " إنه جاء فصلَّى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم عليه، فردّ عليه السلام، وقال: ارْجِعْ فَصَلّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلّ، فرجعَ فَصلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى فعلَ ذلك ثَلاثَ مَرَّاتٍ. 717 - وروينا في " سنن أبي داود " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا لَقِيَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فإنْ حالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَة أوْ جِدَارٌ أوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ " (2) . 718 - وروينا في كتاب ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال: " كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يتماشَون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكَمة فتفرّقوا يميناً وشمالاً ثم التقوا من ورائها، سلَّم بعضُهم على بعضٍ " (3) . فصل: إذا تلاقى رجلان، فسلَّم كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه دفعة واحدة أو أحدهما بعد الآخر، فقال القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي: يَصير كلُّ واحد منهما مبتدئاً بالسلام، فيجب على كلِّ واحد منهما أن يردَّ على صاحبهِ. وقال الشاشي: هذا فيه نظر. فإن هذا اللفظ يَصلح للجواب، فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جواباً، وإن كانا دفعة واحدة، لم يكن جواباً وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب. فصل: إذا لقي إنسان إنسانا، فقال المبتدئ " وعليكم السلام " قال المتولي: لا يكون ذلك سلاماً، فلا يستحقّ جواباً، لأنّ هذه الصيغة لا تصلح للابتداء. قلت: أما إذا قال: عليك، أو عليكم السلام، بغير واو، فقطع الإِمام أبو الحسن الواحدي بأنه سلام يتحتم على المخاطَب به الجواب، وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد، وهذا الذي قاله الواحدي هو الظاهر. وقد جزم أيضاً إمام الحرمين به، فيجب فيه الجواب لأنه يُسمَّى سلاماً، ويحتمل أن يُقال: في كونه سلاماً وجهان كالوجهين

_ (1) هو خلاد بن رافع بن مالك الخزرجي. (2) هو حديث صحيح. (3) هو حديث حسن. (*)

لأصحابنا فيما إذا قال في تحلّله من الصلاة " عليكم السلام " هل يحصل به التحلّل، أم لا؟ الأصحّ: أنه يحصل، ويحتمل أن يُقال: إن هذا لا يستحق فيه جواباً بكل حال. 719 - لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة (1) عن أبي جري الهجيميّ الصحابي رضي الله عنه، واسمه جابر بن سليم (2) ، وقيل سليم بن جابر، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: " لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فإنَّ عَلَيْك السَّلامُ تحِيَّةُ المَوْتَى " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: ويحتمل أن يكون هذا الحديث ورد في بيان الأحسن والأكمل، ولا يكون المراد أن هذا ليس بسلام، والله أعلم. وقد قال الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء ": يُكره أن يقول ابتداء " عليكم السلام " لهذا الحديث، والمختار أنه يُكره الابتداء بهذه الصيغة، فإن ابتدأ وجب الجواب لأنه سلام. فصل: السنّة أن المسلِّم يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة، فهذا هو المعتمد في دليل الفصل. 720 - وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السَّلامُ قَبْلَ الكَلامِ " فهو حديث ضعيف، قال الترمذي: هذا حديث منكر. 721 - فصل: الابتداء بالسلام أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " وَخَيْرُهُما الَّذي يَبْدأُ بالسلام " البخاري " فينبغي لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على أن يبتدئ بالسلام. 722 - وروينا في سنن أبي داود بإسناد جيد عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدأَهُمْ بالسَّلامِ " وفي رواية الترمذي عن أبي أُمامة: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان، أيّهما يبدأ بالسلام؟ قال: " أوْلاهُما باللَّهِ تَعالى " قال الترمذي: حديث حسن.

_ (1) قال ابن علاّن: قال الحافظ: في " فتح الباري " في أول كتاب الاستئذان: قال النووي: بالأسانيد الصحيحة. الخ يُوهم أن له طرقاً إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك، فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي جري، ومع ذلك فلمداره عند جميع مَن أخرجه على أبي تميمة الهجيمي رواية عن أبي جري وقد أخرجه أيضاً أحمد والنسائي وصححه الحاكم. (2) واسمه جابر بن سليم، قال البخاري: إنه الصحيح، وكذا رجحه ابن عبد البر أيضاً. (*)

باب الأحوال التي يستحب فيها السلام، والتي يكره فيها، والتي يباح

(بابُ الأحوالِ التي يُستَحَبُّ فيها السَّلامُ، والتي يُكرهُ فيها، والتي يُباح) اعلم أنّا مأمورون بإفشاء السلام كما قدّمناه، لكنه يتأكد في بعض الأحوال ويخفّ في بعضها. ونُهي عنه في بعضها، فأما أحوال تأكده واستحبابه فلا تنحصر، فإنها الأصل فلا نتكلف التعرّض لأفرادها. واعلم أنه يدخل في ذلك السلام على الأحياء والموتى، وقد قدّمنا في " كتاب أذكار الجنائز " كيفية السلام على الموتى. وأما الأحوال التي يُكره فيها أو يخفّ أو يُباح فهي مستثناة من ذلك فيحتاج إلى بيانها، فمن ذلك إذا كان المسلَّم عليه مشتغلاً بالبول أو الجماع أو نحوهما فيُكره أن يُسلَّم عليه، ولو سلَّم لا يستحقّ جواباً، ومن ذلك من كان نائماً أو ناعساً، ومن ذلك من كان مُصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاةَ، أو كان في حمام أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثر السلام عليه فيها، ومن ذلك إذا كان يأكلُ واللقمة في فمه، فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحقَّ جواباً. أما إذا كان على الأكل وليست اللقمةُ في فمه، فلا بأسَ بالسلام، ويجبُ الجواب. وكذلك في حال المبايعة وسائر المعاملات يُسلّم ويجب الجواب. وأما السلام في حال خطبة الجمعة، فقال أصحابنا: يُكره الابتداء به لأنهم مأمورون بالإِنصات للخطبة، فإن خالفَ وسلَّم فهل يُرَدّ عليه؟ فيه خلاف لأصحابنا، منهم مَن قال: لا يُرَدّ عليه لتقصيره، ومنهم مَن قال: إن قلنا إن الإِنصاتَ واجبٌ لا يردّ عليه، وإن قلنا: إن الإِنصاتَ سنّة رَدَّ عليه واحد من الحاضرين، ولا يردّ عليه أكثر من واحد على كل وجه. وأما السَّلامُ على المشتغل بقراءة القرآن، فقال الإِمام أبو الحسن الواحدي: الأولى ترك السلام عليه لاشتغاله بالتلاوة، فإن سلَّم عليه كفاه الردّ بالإِشارة، وإن ردّ باللفظ استأنف الاستعاذة ثم عاد إلى التلاوة، هذا كلام الواحدي، وفيه نظر، والظاهر أن يُسلّم عليه ويجب الردّ باللفظ. أما إذا كان مشتغلاً بالدعاء مستغرقاً فيه، مجمع القلب عليه، فيحتمل أن يُقال: هو كالمشتغل بالقراءة على ما ذكرناه، والأظهر عندي في هذا أنه يُكره السلام عليه، لأنه يتنكد به ويشقّ عليه أكثر من مشقة الأكل. وأما الملبِّي في الإِحرام فيُكره أن يُسلَّم عليه، لأنه يُكره له قطعُ التلبية، فإن سلَّم عليه ردَّ السلامَ باللفظ، نصّ عليه الشافعي وأصحابنا رحمهم الله. فصل: قد تقدمت الأحوالُ التي يُكره فيها السلام، وذكرنا أنه لا يستحقّ فيها

باب من يسلم عليه ومن لا يسلم عليه ومن يرد عليه ومن لا يرد عليه

جواباً، فلو أراد المسلَّم عليه أن يتبرع بردّ السلام، هل يشرع له، أو يُستحبّ؟ فيه تفصيل، فأما المشتغل بالبول ونحوه، فيُكره له ردُّ السلام، وقد قدَّمنا هذا في أول الكتاب، وأما الأكل ونحوه فيُستحبّ له الجواب في الموضع الذي لا يجب، وأما المصلِّي فيحرم عليه أن يقول: وعليكم السلام، فإن فعلَ ذلك بطلتْ صلاتُه إن كان عالماً بتحريمه، وإن كان جاهلاً، لم تبطل على أصحّ الوجهين عندنا، وإن قال: عليه السلام، بلفظ الغَيبة، لم تبطل صلاتُه لأنه دعاءٌ ليس بخطاب، والمستحبُّ أن يردّ عليه في الصلاة بالإِشارة، ولا يتلفظ بشئ، وإن ردّ بعد الفراغ من الصلاة باللفظ، فلا بأس. وأما المؤذّن فلا يُكره له ردُّ الجواب بلفظه المعتاد، لأن ذلك يسير لا يُبطلُ الأذانَ ولا يُخلّ به. (بابُ مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه) اعلم أنَّ الرجلَ المسلمَ الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسَلِّم ويُسَلَّم عليه، فيُسنّ له السلام ويجب الردّ عليه. قال أصحابنا: والمرأةُ مع المرأة كالرجل مع الرجل. وأما المرأة مع الرجل، فقال الإِمام أبو سعد المتوليّ: إن كانت زوجته أو جاريتَه أو محرما من محارمه، فهي معه كالرجل مع الرجل، فيستحبّ لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر ردّ السلام عليه، وإن كانت أجنبيةً، فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها، لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ، لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمتْ، لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها، جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها، وإذا كانت النساء جمعاً، فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً، فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ ولا عليها أو عليهم فتنة. 723 - روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها عن أسماءَ بنت يزيدَ رضي الله عنها قالت: " مرَّ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا " قال الترمذي: حديث حسن. وهذا الذي ذكرته لفظ رواية أبي داود. وأما رواية الترمذي، ففيها عن أسماء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم ".

724 - وروينا في كتاب ابن السني عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ ". 725 - وروينا في " صحيح البخاري " عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: " كانتْ فينا امرأةٌ - وفي رواية: كانتْ لنا عجوزٌ - تأخذُ من أصول السِّلق فتطرحُه في القِدْر وتكركرُ حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا نُسلِّم عليها، فتقدمه إلينا ". قلت: تكركر، معناه: تطحن. 726 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أُمّ هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: " أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يومَ الفتح وهو يغتسلُ، وفاطمة تسترُه، فسلَّمتُ ... " وذكرت الحديث. وفي إسناده جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف. ولذا قال فصل: وأما أهل الذمّة فاختلف أصحابُنا فيهم، فقطعَ الأكثرون بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وقال آخرون: ليس هو بحرام، بل هو مكروه، فإن سلَّمُوا هم على مسلم قال في الردّ: وعليكم، ولا يزيدُ على هذا. وحكى أقضى القضاة الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، لكنْ يقتصرُ المسلِّم على قوله: السلام عليك، ولا يذكرُه بلفظ الجمع. وحكى الماوردي وجهاً أنه يقول في الردّ عليهم إذا ابتدؤوا: وعليكم السلام، ولكن لا يقول: ورحمة الله، وهذان الوجهان شاذان ومردودان. 727 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبدؤوا اليَهُودَ وَلا النَّصَارَى بالسَّلامِ فإذَا لقيتُمْ أحَدَهُمْ في طَريقٍ فاضْطَرُوهُ إلى أضْيَقِهِ ". 728 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ". 729 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فإنَّمَا يَقُولُ أحَدُهُم: السَّامُ (1) عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ " وفي المسألة أحاديث كثيرة بنحو ما ذكرنا، والله أعلم.

_ (1) قال ابن علان في " شرح الأذكار ": قال الطيبي: رواه قتادة مهموزا، وقال: معناه: يسأمون دينكم، ورواه غيره: السام: وهو الموت. (*)

قال أبو سعد المتولي: ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلماً، فبان كافراً، يستحَبّ أن يستردّ سلامَه فيقول له: رُدّ عليّ سلامي، والغرض من ذلك أن يوحشه ويظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة. ورُوي أن ابن عمر رضي الله عنهما سلَّم على رجلٍ، فقيل: إنه يهودي، فتبعه وقال له: رد علي سلامي 730 - قلت: وقد روينا في " موطأ مالك " رحمه الله أن مالكاً سُئل عمّن سلَّم على اليهوديّ أو النصراني هل يستقيله ذلك؟ فقال: لا، فهذا مذهبُه، واختاره ابن العربي المالكي. قال أبو سعد: لو أراد تحية ذميّ، فعلَها بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو أنعم الله صباحك. قلت: هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه، فيقول: صُبِّحْتَ بالخير، أو السعادة، أو بالعافية، أو صبَّحَك الله بالسرور، أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك. وأما إذا لم يحتج إليه، فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودّ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره، والله أعلم. فرع: إذا مرّ واحدٌ على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفّار، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم يقصد المسلمين أو المسلم. 731 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ". 732 - فرع: إذا كتب كتاباً إلى مشرك، وكتبَ فيه سلاماً أو نحوَه، فينبغي أن يكتب ما رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم " في حديث أبي سفيان رضي الله عنه في قصة هرقل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب: من محمد عبد الله ورسولِه، إلى هرقلَ عظيمِ الرومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهدى ". فرع فيما يقولُ إذا عَادَ ذَميّاً: اعلم أن أصحابنا اختلفوا في عيادة الذميّ، فاستحبَّها جماعة، ومنها جماعة، وذكر الشاشي الاختلاف ثم قال: الصوابُ عندي أن يقول: عيادة الكافر في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة.

733 - قلت: هذا الذي ذكره الشاشيُّ حسن فقد روينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه قال: " كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فمرضَ، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقعدَ عند رأسه فقال له: أسْلِمْ، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ ". 734 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن المسيِّب بن حَزْن والد سعيد بن المسيِّب رضي الله عنه قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عَمّ قُلْ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ ... " وذكر الحديث بطوله. قلتُ: فينبغي لعائد الذميّ أن يرغّبه في الإِسلام، ويبيِّن له محاسنَه، ويحثَّه عليه، ويحرّضه على معاجلته قبل أن يصيرَ إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها. فصل: وأما المبتدعُ وَمَنْ اقترف ذنباً عظيماً ولم يَتُبْ منه (1) ، فينبغي أن لا يسلِّم عليهم، ولا يردّ عليهم السلام، كذا قاله البخاري وغيره من العلماء: 735 - واحتجّ الإمام أبو عبد الله البخاري في " صحيحه " في هذه المسألة: بما رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم " في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلَّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له (2) ، قال: " ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا قال: وكنتُ آتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقولُ: هل حرّكَ شَفتيه بردّ السلام أم لا؟ " قال البخاري: وقال عبدُ الله بن عمرو: لا تسلِّموا على شَرَبَة الخمر. قلتُ: فإن اضّطُر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم، سلّم عليهم. قال الإِمام أبو بكر بن العربي: قال العلماء: يسلِّم، وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى المعنى: الله عليكم رقيب. فصل: وأما الصبيان فالسنّة أن يسلِّم عليهم.

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ في " الفتح ": التقليد به جيد، لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القول في قصة كعب كان ممكنا، وأما بعده، فيكفي ظهور علامة من الندم والإقلاع، وأمارة صدق ذلك. (2) قال ابن علاّن في " شرح الأذكار ": قال الحافظ: في هذه العبارة ما قد يوهم أنهم اتفقوا على التخلف، وليس مرادا، واسم صاحبية، هلال بن أمية، مرارة بن الربيع. (*)

باب في آداب ومسائل من السلام

736 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه " أنه مرّ على صبيانٍ فسلم عليهم وقال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله " وفي رواية لمسلم عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم. 737 - وروينا في سنن أبي داود وغيره بإسناد الصحيحين (1) عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على غلمانٍ يَلعبون فسلَّم عليهم " ورويناهُ في كتاب ابن السني وغيره، قال فيه " فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا صِبْيانُ " (2) . (بابٌ في آدابٍ ومسائلَ من السَّلام) 738 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على المَاشِي، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكثير " وفي رواية للبخاري " يُسَلِّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، وَالمَاشِي على القاعِدِ، وَالقَلِيلُ على الكَثِيرِ " (3) . قال أصحابُنا وغيرُهم من العلماء: هذا المذكور هو السنّة، فلو خالفوا فسلَّم الماشي على الراكب أو الجالس عليهما، لم يُكره، صرّح به الإِمام أبو سعد المتولي وغيره، وعلى مقتضى هذا لا يُكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، والكبير على الصغير، ويكونُ هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه، وهذا الأدبُ هو فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق، أما إذا وَرَدَ على قعود أو قاعد، فإن الواردَ يبدأُ بالسلام على كُلّ حالٍ، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، وسمَّى أقضى القضاة هذا الثاني سنّة، وسمّى الأوّل أدباً وجعلَه دون السنّة في الفضيلة. فصل: قال المتولي: إذا لقي رجلٌ جماعةً فأراد أن يخصّ طائفة منهم بالسلام كره،

_ (1) قال ابن علاّن: قال الحافظ: هو بعينه حديث الصحيحين، إلا أن فيه زيادة " يا عبون ". (2) قال المصنف في شرح مسلم: في هذه الأحاديث استحباب السلام على الصبيان المميزن، والندب إلى التواضع، وبذل السلام للناس كلهم، وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته على العالمين. (3) وذلك للتواضع المقرون بالاحترام والإكرام المعتبر في السلام، مع أن الغالب وجود التكبير في الكثير، وأيضا وضع السلام للتواد، والمناسب فيه أن يكون الصغير مع الكبير والقليل مع الكثير بمقتضى الأدب المعتبر شرعا وعرفا، قال الماوردي: إنما استحب ابتداء السلام للراكب، لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف من الملتقيين إذا التقيا، أو من أحدهما في الغالب، أو لمعني التواضع المناسب لحال المؤمن، أو لمعني التعظيم. (*)

لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين، وربما صار سبباً للعداوة. فصل: إذا مشى في السوق أو الشوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فقد ذكرَ أقضى القضاة الماورديّ أن السلام هنا إنما يكونُ لبعض الناس دون بعض، قال: لأنه لو سلَّم على كلّ مَن لقي لتشاغل به عن كل مهمّ، ولخرج به عن العُرْف، قال: وإنما يُقصد بهذا السلام أحدُ أمرين: إما اكتساب ودّ، وإما استدفاع مكروه. فصل: قال المتولّي: إذا سلَّمتْ جماعةٌ على رجل فقال: وعليكم السلام، وقصد الردّ على جميعهم سقط عنه فرضُ الردّ في حقّ جميعهم، كما لو صلَّى على جنائزَ دفعةً واحدةً فإنه يُسقط فرضَ الصلاة على الجميع. فصل: قال الماوردي: إذا دخل إنسانٌ على جماعة قليلة يعمُّهم سلامٌ واحد، اقتصر على سلام واحد على جميعهم، وما زاد من تخصيص بعضهم فهو أدب، ويكفي أن يردّ منهم واحدٌ، فمن زاد منهم فهو أدب، قال: فإن كان جمعاً لا ينتشرُ فيهم السلام الواحد كالجامع والمجلس الحفل، فسنّة السلام أن يبتدئ به الداخل في أوّل دخوله إذا شاهدَ القومَ، ويكون مؤدياً سنّة السلام في حقّ جميع مَن سمعه، ويدخلُ في فرض كفاية الردّ جميعُ مَن سمعه، فإن أرادَ الجلوس فيهم سقط عنه سنّة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وإن أراد أن يجلس فيمن بعدَهم ممّن لم يسمع سلامه المتقدّم ففيه وجهان لأصحابنا، أحدُهما: أن سنّة السلام عليهم قد حصلت بالسلام على أوائلهم لأنهم جمع واحد، فلو أعاد السلام عليهم كان أدَباً، وعلى هذا أيُّ أهل المسجد ردّ عليه سقط به فرض الكفاية عن جميعهم. والوجه الثاني: أن سنّة السلام باقية لمن لم يبلغهم سلامه المتقدم إذا أراد الجلوس فيهم، فعلى هذا لا يسقط فرض ردّ السلام المتقدم عن الأوائل بردّ الأواخر. فصل: ويستحبّ إذا دخلَ بيتَه أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد، وليقل: السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وقد قدَّمنا في أول الكتاب بيان ما يقوله إذا دخل بيته (1) ،

_ (1) انظر الصفحة (19) . (*)

وكذا إذا دخل مسجداً أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد، يُستحبّ أن يُسلِّم، وأن يقول: السَّلامُ عَلَيْنا وَعلى عِباد اللَّهِ الصَّالِحِين، السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فصل: إذا كان جالساً مع قوم ثم قام ليفارقهم، فالسنّة أن يُسلِّم عليهم. 739 - فقد روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الجيدة (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فإذَا أَرَادَ أنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الأُولى بأحَقّ مِنَ الآخِرَةِ " قال الترمذي: حديث حسن. قلت: ظاهر هذا الحديث أنه يجب على الجماعة ردّ السلام على هذا الذي سلَّم عليهم وفارقهم، وقد قال الإِمامان القاضي حسين وصاحبه أبو سعد المتولّي: جرتْ عادةُ بعض الناس بالسلام عند مفارقة القوم، وذلك دعاءٌ يُستحبّ جوابه ولا يجب، لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف، وهذا كلامُهما، وقد أنكره الإِمام أبو بكر الشاشي الأخير من أصحابنا وقال: هذا فاسد، لأن السَّلامَ سنّةٌ عند الانصراف كما هو سنّة عند الجلوس، وفيه هذا الحديث، وهذا الذي قاله الشاشي هو الصواب..فصل: إذا مرّ على واحد أو أكثر، وغلبَ على ظنه أنه إذا سلَّم لا يردّ عليه، إما لتكبّر الممرور عليه، وإما لإِهماله المارّ أو السلام، وإما لغير ذلك، فينبغي أن يُسلِّم ولا يتركه لهذا الظنّ، فإنّ السلامَ مأمورٌ به، والذي أُمِرَ به المارّ أن يُسلّم، ولم يؤمر بأن يحصل الردّ، مع أن الممرور عليه قد يخطئ الظنّ فيه ويردّ. وأما قول مَن لا تحقيق عنده: إن سلامَ المارّ سبب لحصول الإِثم فحق الممرور عليه، فهو جهالة ظاهرة، وغباوة بيِّنة، فإن المأمورات الشرعية لا تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخيالات، ولو نظرنا إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على مَن فعله جاهلاً كونه منكراً، وغلب على ظننا أنه لا ينزجر بقولنا، فإن إنكارنا عليه، وتعريفنا له قبحه يكون سبباً لإِثمه

_ (1) قال ابن علاّن: قال الحافظ: مخرج هذا الحديث واحد، وإن تعددت الأسانيد إلى محمد بن عجلان. (2) بل كلتاهما حق وسنة مشيرة إلى حسن المعاشرة وكرم الأخلاق ولطف الفتوة ولطافة المروءة، فإنه إذا فارقهم من غير سلام عليهم ربما يتشوش أهل المجلس من فرقهم وهو ساكت، فكانت التسليمة الأولى إخبارا عن سلامتهم من شره عند الحضور، فكذا الثانية إخبار عن سلامتهم منشره عند الغيبة، وليست السلامة عند الحضور أولى منها عند الغيبه، بل الثانية أولى. (*)

باب الاستئذان

إذا لم يقلع عنه، ولا شكّ في أنُّا لا نترك الإِنكار بمثل هذا، ونظائر هذا كثيرة معروفة، والله أعلم. ويُستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجبه عليه الردّ بشروطه فلم يرد أن يحلِّله من ذلك فيقول: أبرأته من حقّي في ردّ السلام، أو جعلتُه في حِلٍّ منه، ونحو ذلك، ويلفظ بهذا، فإنه يسقط به حقّ هذا الآدمي، والله أعلم. 740 - وقد روينا في كتاب ابن السني عن عبد الرحمن بن شبل الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَيْسَ مِنَّا " (1) ويُستحبّ لمن سلَّم على إنسان فلم يَرُدَّ عليهِ أن يقول له بعبارة لطيفة: ردُّ السلام واجبٌ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقطَ عنك الفرضُ، والله أعلم. (بابُ الاستئذان) قال الله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) [النور: 27] وقال تعالى: (وإذا بلغ الأطفال مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كما اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور: 59] . 741 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ ". ورويناه في " الصحيحين " أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وروينا في " صحيحيهما " عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ ". وروينا الاستئذان ثلاثاً من جهات كثيرة. والسنّة أن يُسلِّم ثم يستأذن، فيقوم عند الباب بحيث لا ينظرُ إلى مَن في داخله، ثم يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن لم يجبْه أحدٌ، قال ذلك ثانياً وثالثاً، فإن لم يجبْه أحدٌ انصرف. 742 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد صحيح عن ربعيّ بن حِراش، بكسر الحاء المهملة وآخره شين معجمة، التابعي الجليل قال: حدّثنا رجل من بني عامر " استأذن على

_ (1) وهو جزء من حديث رواه ابن السني رقم (207) وهو بتمامه: " يسلم الراكب على الرجال ويسلم الرجال على القاعد، ويسلم الأقل على الأكثر، مَنْ أجَابَ السَّلامَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يجب السلام فليس منا ". وهو حديث صحيح. (*)

النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أألجُ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لخادمه: " اخْرُجْ إلى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ؟ فسمعه الرجلُ فقال: السلام عليكم، أأدخلُ؟ بفأذن له النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدخلَ ". 734 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " عن كَلَدَة بن الحَنْبل الصحابي رضي الله عنه قال: " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فدخلتُ عليه ولم أسلِّم، فقالَ النبيُّ: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ " قال الترمذي: حديث حسن. قلت: كَلَدة، بفتح الكاف واللام. والحَنْبل، بفتح الحاء المهملة وبعدها نون ساكنة ثم باء موحدة ثم لام. وهذا الذي ذكرناه من تقديم السلام على الاستئذان هو الصحيح. وذكر الماوردي فيه ثلاثة أوجه، أحدُها هذا، والثاني تقديم الاستئذان على السلام، والثالث: وهو اختياره، إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدَّم السلام، وإن لم تقع عليه عينه، قدَّم الاستئذان. وإذا استأذن ثلاثاً فلم يُؤذن له وظنَّ أنه لم يسمع، فهل يزيدُ عليها؟ حكى الإِمام أبو بكر بن العربيّ المالكي فيه ثلاثة مذاهب، أحدُها: يعيده، والثاني: لا يعيده، والثالث: إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعدْه، وإن كان بغيره أعاده، قال: والأصحُّ أنه لا يعيدُه بحال، وهذا الذي صحَّحه هو الذي تقتضيه السنّة (1) ، والله أعلم. فصل: وينبغي إذا استأذن على إنسان بالسلام أو بدقّ الباب، فقيل له: مَنْ أنتَ؟ أن يقول: فلانُ بن فلان، أو فلانٌ الفلاني، أو فلانٌ المعروف بكذا، أو ما أشبه ذلك، بحيث يحصل التعريف التامّ به، ويُكره أن يقتصر على قوله: أنا، أو الخادم، أو بعض الغلمان، أو بعض المحبّين، وما أشبه ذلك. 744 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " في حديث الإِسراء المشهور (2) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " ثُمَّ صَعِدَ بي جِبْرِيلُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا فَاسْتَفْتَحَ (3) ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟

_ (1) كما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلاَّ فَارْجِعْ. (2) المراد من الإسراء، ما يشمل المعراج، لإن ما ذكر في الاستئذان في فتح أبواب السماء إنما هو في قضا المعراج، وقصة الإسراء كذلك مرويه عن الشيخين والترمذي والحاكم والبيهقي والبزار وغيرهم، وكانت قصة معراج قبل الهجرة بنحو ثمانية عشر شهرا. (3) قال ابن علاّن: الأشبه كما قال الحافظ ابن حجر أن هذا الاستفتاح كان بقرع، لأن صوته معروف، يؤيد كما قال بعضُهم ما في بعض الروايات: فقرع الباب. (*)

قَالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءِ الثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ وَسائِرِهنَّ، وَيُقالُ في بابِ كُلِّ سمَاءٍ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: جبْرِيلُ ". 745 - وروينا في " صحيحيهما " في حديثَ أبي موسى لما جلسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بئر البستان (1) وجاء أبو بكر فاستأذن، فقال: مَنْ؟ قال: أبو بكر، ثم جاء عمر فاستأذن، فقال: مَن: قال عمر، ثم عثمان كذلك. 746 - وروينا في " صحيحيهما " أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فدققتُ البابَ، فقال: مَنْ ذَا؟ فَقلتُ: أنا، فقال: أنَا أنَا؟ كأنه كرهها ". فصل: ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف إذا لم يعرفه المخاطب بغيره، وإن كان فيه صورة تبجيل له، بأن يكنّي نفسه، أو يقول: أنا المفتي فلان، أو القاضي، أو الشيخ فلان، أو ما أشبه ذلك. 747 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، واسمها فاختة على المشهور، وقيل: فاطمة، وقيل هند، قالت: " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمةُ تستُره فقال: " مَنْ هَذِهِ؟ فقلتُ: أنا أم هانئ ". 748 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي ذرّ رضي الله عنه، واسمه جُندب، وقيل: بُرَيْرٌ بضمّ الباء تصغير برّ، قال: خرجتُ ليلةً من الليالي فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحدَه، فجعلتُ أمشي في ظلّ القمر، فالتفتَ فرآني فقال: " مَنْ هَذَا؟ " فقلت: أبو ذرّ ". 749 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي قتادة الحارث بن رِبعي رضي الله عنه في حديث الميضأة المشتمل على معجزات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جمل من فنون العلم، قال فيه أبو قتادة: " فرفعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: مَنْ هَذَا؟ قلت: أبو قتادة ". قلت: ونظائر هذا كثيرة، وسببه الحاجة، وعدم إرادة الافتخار. 750 - ويقرب من هذا ما رويناه في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رصي الله عنه - واسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصحّ - قال: قلتُ: يا رسولَ الله ادعُ الله أن يهديَ

_ (1) سمى نفسه لأنه معروفا، ولم يعرف من الملائكة من اسمه جبريل سواه، ولم يقل: أنا لئلا يلتبس بغيره. (2) وهي بئر أريس بوزن جليس، بئر بقباء، وكان أبو موسى حافظ الباب في ذلك الوقت كما في الصحيح، فلما جاء كلٌّ من الصلاص، استأذن لهم، فأذن لهم، والشاهد من الاستدلال أن كلاً منهم لما استأذن، فقيل له: مَن هذا؟ ذكر اسمَه بالصريح. (*)

باب في مسائل تتفرع على السلام

أُمّ أبي هريرة ... " وذكر الحديثَ ... إلى أن قال: " فرجعتُ فقلتُ: يا رسولَ الله قد استجاب الله دعوتك وهدى أُمّ أبي هريرة. (بابُ في مسائل تتفرّعُ على السَّلام) مسألة: قال أبو سعد المتولّي: التحيّة عند الخروج من الحمّام، بأن يُقال له: طابَ حمّامُك، لا أصل لها، ولكن روي أن عليّاً رضيَ الله عنه قال لرجل خرج من الحمّام: طَهَرْتَ فلا نَجِسْتَ. قلت: هذا المحلّ لم يصحُّ فيه شئ، ولو قال إنسان لصاحبه على سبيل المودة والمؤالفة واستجلاب الودّ: أدام الله لك النعيم، ونحو ذلك من الدعاء فلا بأس به. مسألة: إذا ابتدأ المارُّ الممرور عليه، فقال: صبَّحكَ الله بالخير، أو بالسعادة، أو قوّاك الله، أو لا أوحشَ الله منك، أو غير ذلك من الألفاظ التي يستعملها الناسُ في العادة، لم يستحقَّ جواباً، لكن لو دعا له قباله ذلك كان حسناً، إلا أنْ يَتْرُكَ جوابَه بالكلية زجراً له في تخلّفه وإهماله السلام وتأديباً له ولغيره في الاعتناء بالابتداء بالسلام. فصل: إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه وصيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية، لم يُكره، بل يُستحبّ، وإن كان لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك، فهو مكروه شديد الكراهة. وقال المتولّي من أصحابنا: لا يجوز فأشار إلى أنه حرام. 751 - روينا في سنن أبي داود عن زارع رضي الله عنه، وكان في وفد عبد القيس قال: " فجعلْنا نتبادرُ من رواحلنا فنقبِّلُ يدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ورجلَه ". قلتُ: زارع بزاي في أوّله وراء بعد الألف على لفظ زَارع الحنطة وغيرها. 752 - وروينا في سنن أبي داود أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قصةً قال فيها: " فدنونا: يعني من النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَبَّلنا يده. وأما تقبيل الرجُل خدَّ ولده الصغير، وأخيه، وقُبلة غير خدّه من أطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فسُنّةٌ. والأحاديث فيه كثيرة صحيحة مشهورة، وسواء الولد الذكر والأنثى، وكذلك قبلته ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال على هذا الوجه. وأما التقبيلُ بالشهوة، فحرام بالاتفاق. وسواء في ذلك الولد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام بالاتفاق على القريب والأجنبي.

753 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قَبَّلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لى عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً، فنظرَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (1) ثم قال: مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ " (2) . 754 - وروينا في " صحيحيهما " عن عائشة رضي الله عنها قالت " قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تُقَبِّلُونَ صبيانَكم؟ فقالوا: نعم، قالوا: لكنَّا والله ما نُقَبِّلُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ أمْلِكُ أنْ كانَ اللَّهُ تَعالى نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ؟ " هذا لفظ إحدى الروايات، وهو مروي بألفاظ. 755 - وروينا في " صحيح البخاري " وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: " أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنَه إبراهيم فقَبّله وشمّه ". 756 - وروينا في سنن أبي داود عن البراء بن عازب رضي الله عنهما (3) قال: دخلتُ مع أبي بكر رضي الله عنه أوّلَ ما قَدِمَ المدينةَ، فإذا عائشةُ ابنته رضي الله عنها مضطجعةٌ قد أصابتها حُمَّى، فأتاها أبو بكر فقال: كيف أنتِ يا بنيّة؟ وقبَّلَ خدَّها. 757 - وروينا في كتب الترمذي والنسائي وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة (4) عن صفوان بن عَسَّال الصحابيّ رضي الله عنه - وعَسَّال بفتح العين وتشديد السين المهملتين -

_ (1) أي نظر تعجب، أو نظر غضب. (2) قوله " من ال يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ " قال الكرماني: بالرفع والجزم في اللفظين. وقال القاضي عياض: أكثرهم ضبطوه بالرفع على الخبر. وقال أو البقاء: الجيد أن يكون " من " بمعني الذي، فيرتفع الفعلان، وإن جعلت شرطا لفعلهما جاز. وقال السهيلي: محمله على الخبر أشبه بسياق الكلام لأنه مردود على قول الرجل: إن لي عشرةً من الولد، أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم، ولو جعلت شرطا لا نقطع مما قبله بعض الانقطاع، لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف، ولأن الشرط إذا كان بعده فعل منفي فأكثر ما ورد منفيا ب " لم " ب " لا "، كقوله: ومن لم يتب. قال الطيبي: لعل وضع الرحمة في الأول للمشاكلة، فإن المعني: من لم يشفق على الأولاد لا يرحمه الله، وأتى بالعام لتدخل الشفقة أو لويا. اهـ. (3) قال ابن علاّن: هذا الحديث أخرجه الحافظ البخاري في " صحيحه " في آخر " باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم " وفي آخره: قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله، فإذا ابنته عائشة مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها، وقال: كيف أنتِ يا أبنته؟ قال ابن علاّن: وكأن وجه الاقتصار على العزو لتخريج أبي داود أنه بين أن ذلك وقع أول مقدم التبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ورواية الصحيح ساكتة عن ذلك، وإلا فلا يظهر وجه ترك العزو للصحيح والاقتصار على العزو للسنن، والله أعلم. (4) وهو حديث حسن. (*)

قال: قال يهوديّ لصاحبه: " اذهب بنا إلى هذا النبيّ، فأتيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسعِ آياتٍ بيِّناتٍ ... فذكرَ الحديثَ ... إلى قوله: فقبّلوا يدَه ورجلَه، وقالا: نشهدُ أنك نبيٌّ (1) . 758 - وروينا في سنن أبي داود بالإِسناد الصحيح المليح (2) عن إِياس بن دَغْفَل قال: رأيتُ أبا نضرة قَبّل خدّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. قلت: أبو نَضْرَةَ بالنون والضاد المعجمة: اسمه المنذر بن مالك بن قطعة، تابعي ثقة. ودَغْفَل، بدال مهملة مفتوحة ثم غين معجمة ساكنة ثم فاء مفتوحة ثم لام. 759 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقبّل ابنه سالماً ويقول: اعجبوا من شيخ يُقَبِّلُ شيخاً (3) . وعن سهل بن عبد الله التستري السيد الجليل أحد أفراد زهّاد الأمة وعبّادها رضي الله عنه أنه كان يأتي أبا داود السجستاني ويقول: أخرج لي لسانكَ الذي تُحدِّثُ به حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُقَبِّله، فيقبِّلُه. وأفعالُ السلف في هذا الباب أكثر من أن تُحصر، والله أعلم. فصل: ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرّك، ولا بتقبيل الرجُل وجه صاحبه إذا قَدِمَ من سفر ونحوه. 760 - روينا في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: " دخلَ أبو بكر رضي الله عنه فكشفَ عن وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقَبّله، ثم بكى " (4) . 761 - وروينا في كتاب الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قدِمَ زيدُ بن

_ (1) انظر الحديث بطوله عند الترمذي رقم (2734) في أبواب الاستئذان والآداب، بابُ ما جاء في قبله اليد والرجل. (2) قال ابن علاّن في شرح الأذكار: هكذا وقع وصف هذا الإِسناد بالمليح، ولعله أراد بملاحته علوه، إذ هو من رباعيات أبي داود قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا المعتمر، عن إِياس بن دغفل قال ... الخ. (3) قال ابن علاّن: سكت المصنف هنا عن بيان من خرجه، وفي " التهذيب " له: أخرجه ابن أبي خميثة في " تاريخه ". (4) وقد ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، ففي " صحيح البخاري " أنه لما توفي عثمان بن مظعون جاء صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقبله وبكى..الحديث. (*)

فصل في المصافحة

حارثةَ المدينةَ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرعَ البابَ، فقامَ إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم يجرّ ثوبَه، فاعتنقه وقبَّله " قال الترمذي: حديث حسن. وأما المعانقةُ وتقبيلُ الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه، فمكروهان، نصَّ على كراهتهما أبو محمد البغويّ وغيره من أصحابنا. 761 م - ويدلّ على الكراهة ما رويناه في كتابي الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: " قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيأخذه بيده ويصافحُه؟ قال: نَعَمْ " قال الترمذي: حديث حسن. قلت: وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة، وأنه لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، فأما الأمردُ الحسنُ، فيحرم بكلّ حال تقبيله، سواء قدم مَن سفر أم لا. والظاهر أن معانقته كتقبيله، أو قريبة من تقبيله، ولا فرق في هذا بين أن يكون المقبِّل والمقبَّل رجلين صالحين أو فاسقين، أو أحدهما صالحاً، فالجميعُ سواء. والمذهبُ الصحيح عندنا تحريم النظر إلى الأمرد الحسن، ولو كان بغير شهوة، وقد أمن الفتنة، فهو حرام كالمرأة لكونه في معناها فصل في المصافحة: اعلم أنها سنّة مجمعٌ عليها عند التلاقي. 762 - روينا في " صحيح البخاري " عن قتادة قال: قلتُ لأنس رضي الله عنه: أكانتِ المصافحةُ في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. 763 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته قال: فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يُهرول، حتى صافحني وهنّأني (1) . 764 - وروينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال: " لما جاء أهل اليمن، قال لهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة ".

_ (1) قال ابن علاّن: قال المصنف في " شرح مسلم ": فيه استحباب مصافحة القادم والقيام إكراما، والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحا، والمصافحة عند التلاقي سنة بلا خلاف. (*)

765 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلمين يلتقيان فيتثافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ". 766 - وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: " قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ ، قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نَعَمْ " قال الترمذي: حديث حسن. وفي الباب أحاديث كثيرة. 767 - وروينا في " موطأ الإِمام مالك " رحمه الله عن عطاء بن عبد الله الخراسانيّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْناءُ ". قلت: هذا حديث مرسل (1) . واعلم أن هذه المصافحة مستحبّة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناسُ من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصلَ له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنّة، وكونهم حافَظوا عليها في بعض الأحوال، وفرّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها، لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها. وقد ذكر الشيخ الإِمام أبو محمد عبد السلام رحمه الله في كتابه " القواعد " أن البدع على خمسة أقسام: واجبة، ومحرّمة، ومكروهة، ومستحبّة، ومباحة. قال: ومن أمثلة البدع المباحة: المصافحة عقب الصبح والعصر، والله أعلم. قلتُ: وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظرَ إليه حرام كما قدَّمنا في الفصل الذي قبل هذا، وقد قال أصحابنا: كلّ مَن حَرُمَ النظرُ إليه حَرُمَ مسُّه، بل المسّ أشدّ، فإنه يحلّ النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوّجها. وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شئ من ذلك، والله أعلم. فصل: ويُستحبّ مع المصافحة، البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة وغيرها. 761 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً، ولو أن تلقى أخاكَ بِوَجْهِ طَلِيقٍ " (2) .

_ (1) لكنه يعتضد بما جاء له من الشواهد الموصولة. قال الزرقاني في " شرح الموطأ ": قال ابن عبد البرّ: هذا يتصل من وجوه شتى حسان كلها. (2) قال المصنف: روي عيل ثلاثة أوجه: طلق، بإسكان اللام، وكسرها، وطليق، ومعناه: سهل منبسط. (*)

769 - وروينا في كتاب ابن السني عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ المُسْلِمَيْنِ إذَا الْتَقَيا فَتَصَافَحَا وَتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ تَنَاثَرَتْ خَطاياهُما بَينَهُما ". وفي رواية: " إذَا الْتَقَى المُسْلِمانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ تَعالى وَاسْتَغْفَرَا، غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا ". 770 - وروينا فيه (2) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحابَّيْنِ في اللَّهِ، يَسْتَقْبِلُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ فَيُصَافِحَهُ، فَيُصَلِّيانِ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حتَّى تُغْفَرَ ذُنُوبهُمَا ما تَقَدَّمَ منْها وَما تَأخَّرَ ". 771 - وروينا فيه عن أنس أيضاً، قال: ما أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِ رجلٍ ففارقه حتى قال: " اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ ". فصل: ويُكره حنْيُ الظهر في كل حال لكل أحد (3) ، ويدلّ عليه ما قدَّمنا في الفصلين المتقدمين من حديث أنس، وقوله: " أينحني له؟ قال: لا " وهو حديث حسن كما ذكرناه، ولم يأت له معارض، فلا مصيرَ إلى مخالفته، ولا يغترّ بكثرة مَن يفعله ممّن يُنسب إلى علم أو صلاح وغيرهما من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (4) وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانتهوا)

_ (1) أي لابن السني، وكذلك رواه أبو داود في " سننه "، لكن قال: واستغفراه، فكان العزو إلى أبي داود أولى. (2) أي في ابن السني، وإسناده ضعيف، وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " من رواية أبي يعلى، وصدره ب " روي " وسكت عليه في آخره، وذلك دلالة على ضعفه. قال ابن علاّن: قال الحافظ في " الخصال المكفره للذنوب المقدمة والمتأخرة ": أخرجه ابن حبّان في كتاب الضعفاء. اهـ. أقول: والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه لكن ليس فيه التقليد بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغفران ما تقدم وما تأخر. (3) ومن العلماء من حرمه، وكذلك يحرم السجود بين يدي المشايخ، ولا يشكل قوله تعالى حكاية عن إخواة يوسف (ورفع أبوية على العرش وخروا له سجدا) لأن ذلك شرع من قبلنا، وقد جاء شرعنا بمنعه قال ابن الجوزي في " زاد المسير ": كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعل الأعاجم، قال: وكان أهل ذلك الدهر يحيى بعضهم بعضا بالسجود والانحناء، فحظره النبي صلى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك قال: قال رجل: شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه. (4) والآية وإن كانت في الفئ والغنيمة إلا أن ما يومئ إليه من تلقي ما جاء به الرسول بالقبول والانتهاء عما = (*)

[الحشر: 7] وقال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) [النور: 63] . وقد قدَّمنا في " كتاب الجنائز " عن الفُضيل بن عِياض رضي الله عنه ما معناه: اتّبعْ طرقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قلّةُ السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين، وبالله التوفيق. فصل: وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحبّ لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية مصحوبة بصيانة، أوله ولادة أو رحم مع سنّ ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبِرّ والإِكرام والاحترام، لا للرياء والإِعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمرّ عمل السلف والخلف، وقد جمعت في ذلك جزءاً جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوال السلف وأفعالهم الدّالة على ما ذكرته، ذكرت فيه ما خالفها، وأوضحت الجواب عنه، فمن أشكل عليه من ذلك شئ ورغب في مطالعة ذلك الجزء رجوت أن يزول إشكاله إن شاء الله تعالى، والله أعلم. فصل: يستحبّ استحباباً متأكداً: زيارة الصالحين، والإِخوان، والجيران، والأصدقاء، والأقارب، وإكرامهم، وبرّهم، وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم. وينبغي أن تكون زيارته لهم على وجه لا يكرهونه، وفي وقت يرتضونه. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة. 772 - ومن أحسنها ما رويناه في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً زارَ أخاً له في قرية أخرى، فأرصدَ الله تعالى على مَدْرَجته مَلَكاً (1) ، فلما أتى عليه قال: أين تُريد؟ قال: أُريدُ أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لكَ عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أني أحببتُه في الله تعالى، قال: فإني رسولُ الله إليك بأن الله تعالى قد أحبَّكَ كما أحببتَه فيه ". قلت: مدرجتُه بفتح الميم والراء والجيم: طريقه. ومعنى تَرُبُّها: أي تحفظها وتراعيها وتربيها كما يُربِّي الرجلُ ولدَه. 773 - وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة أيضاً قال: قال

_ = نهى عنه عام باق على عمومه، ولذا ذكرها المصنف رحمه الله في هذا المقام الذي فيه الوقوف عند حدود رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرها. (1) أي وكله بحفظ المدرجة، وهي الطريق، وجعله رصدا، أي حافظا. (*)

باب تشميت العاطس وحكم التثاؤب

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عادَ مَرِيضاً، أوْ زَارَ أخاً لَهُ في اللَّهِ تَعالى، نادَاهُ مُنادٍ بأنْ طِبْتَ وَطابَ مَمْشاكَ، وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجنة منزلا " (1) . ، [فصل في استحباب طلب الإِنسان من صاحبه الصالح أن يزورَه، وأن يكثرَ من زيارته] . 774 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل صلى الله عليه وسلم: " ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنا؟ فنزلتْ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أيْدِينا وَما خَلْفَنا) [مريم: 64] . (بابُ تَشْمِيتِ العَاطسِ وحُكم التَّثَاؤُب) 775 - روينا في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبُّ العُطاسَ، وَيَكْرَهُ التَثاؤُبَ، فإذا عَطَسَ أحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى، كان حَقّاً على كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أنْ يقول له: يرحمك الله. وأمَّا التَّثاؤُبُ، فإنَّما هُوَ مِنَ الشَّيْطان، فإذا تَثَاءَبَ أحَدُكُمْ، فَلْيَرُدَّهُ ما اسْتَطاعَ، فَإن أحدَكم إذا تَثاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطانُ ". قلتُ: قال العلماء: معناه: أن العطاسَ سببه محمود، وهو خفّة الجسم التي تكون لقلة الأخلاط وتخفيف الغذاء، وهو أمر مندوب إليه، لأنه يُضعف الشهوة ويُسَهِّلُ الطاعة، والتثاؤب بضدّ ذلك، والله أعلم. 776 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عَطَسَ أََحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أخُوهُ أوْ صَاحبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فإذَا قالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُمْ " قال العلماء: بالكم: أي شأنكم. 777 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: " عَطَسَ رجلان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم " فشمّت أحدَهما، ولم يشمّت الآخر، فقال الذي لم يشمّته: عَطَسَ فلان فشمّته، وعطستُ فلم تشمّتني، فقال: هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعالى، وَإنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعالى ". 778 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (1) وهو حديث حسن شواهده. (*)

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلا تُشَمِّتُوهُ ". 779 - وروينا في " صحيحيهما " عن البراء رضي الله عنه قال: " أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمَرَنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وردّ السلام، ونصر المظلوم، وإبرار القسم " (1) . وروينا في " صحيحيهما " عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " حَقُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيادَةُ المَرِيض، وَاتِّباعُ الجَنائِز، وإجابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ العاطِس ". وفي رواية لمسلم " حَقُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ سِتٌّ: إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّه تَعالى فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فاتبعه ". فصل: اتفق العلماء على أنه يُستحبّ للعاطس أن يقولَ عقب عطاسه: الحمد لله، فلو قال: الحمد لله ربّ العالمين كان أحسن، ولو قال: الحمد لله على كُلّ حالٍ كان أفضل. 780 - روينا في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عطس أََحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ، وَلْيَقُلْ أخُوهُ أوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّه، وَيَقُولُ هُوَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ". 781 - وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن رجلاً عَطَسَ إلى جنبه فقال: الحمدُ لله والسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمدُ لله والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هكذا علّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، علّمنا أن نقول: الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ " (2) . قلت: ويُستحبّ لكل مَن سمعه أن يقول لَه: يرحمك الله، أو يرحمكم الله، أو

_ (1) وتتمه الحديث: " ونهانا عن خواتيم - أو عن تختم - بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن اليائر (جمع ميئرة، وهو وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج وكان من مراكب العجم) وعن السقي (وهي ثياب مضلعة بالحرير) وعن لبس الحرير، والاستبرق، والدييباح ". (2) في سنده حضرمي بن عجلان مولى الجارود، لم وثقه غير ابن حبّان، وباقي رجاله ثقات، ويشهد لبعضه الذي قبله.

رحمك الله، أو رحمكم الله. ويُستحبّ للعاطس بعد ذلك أن يقول: يهديكم الله ويُصلح بالكم، أو يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا ولكم 782 - وروينا في " موطأ مالك " عنه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إذا عَطَسَ أحدُكم فقيل له: يرحمُك الله، يقول: يرحمنا الله وإياكم، ويغفرُ الله لنا ولكم (1) . وكل هذا سنّة ليس فيه شئ واجب، قال أصحابنا: والتشميتُ وهو قوله: يرحمك الله، سنّة على الكفاية، لو قاله بعضُ الحاضرين أجزأ عنهم، ولكن الأفضل أن يقوله كلُّ واحد منهم لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي قدّمناه: 783 - " كانَ حَقّاً على كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أنْ يقول له: يرحمك الله " وهذا الذي ذكرناه من استحباب التشميت هو مذهبنا. واختلف أصحابُ مالك في وجوبه، فقال القاضي عبد الوهاب: هو سنّة، ويجزئ تشميتُ واحد من الجماعة كمذهبنا، وقال ابن مُزَيْنٍ: يَلزم كلَّ واحد منهم، واختاره ابن العربي المالكي. فصل: إذا لم يحمد العاطس لا يُشَمَّتُ، للحديث المتقدم، وأقلُّ الحمد والتشميت وجوابِه أن يرفعَ صوتَه بحيث يُسمِعُ صاحبَه. فصل: إذا قال العاطسُ لفظاً آخرَ غير " الحمد لله " لم يستحقّ التشميت. 784 - روينا في سنن أبي داود والترمذي عن سالم بن عبيد الأشجعي الصحابي رضي الله تعالى (2) عنه قال: " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عَطَسَ رجلٌ من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ وَعَلى أُمِّكَ (3) ، ثم قال: إذَا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدِ اللَّه تَعالى، فذكر بعض المحامد، وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَرُدَّ - يعني عليهم - يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا ولكم " (4) . فصل: إذا عَطَسَ في صلاته يُستحبّ أن يقول: الحمد لله، ويُسمع نفسَه، هذا

_ (1) إسناده صحيح. (2) قال الغرناطي في " سلاح المؤمن ": ليس لسالم في الكتب الستة سوى الحديثين، أحدهما هذا، والثاني: أغمي على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، رواه الترمذي في " الشمائل " وابن ماجه. (3) قال ملاّ علي القاري في " المرقاة ": يمكن أن يقال: معناه: عليك وعلى أمك السلام من جهة عدم التعليم والإعلام، وليس المراد به رد السلام، بل القصد زجره عن هذا الكلام الواقع في غير المرام. (4) انظر التعليق عليه في جامع الأصول 4 / 328. (*)

مذهبنا. ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال. أحدُها هذا، واختاره ابن العربي! والثاني: يحمد في نفسه، والثالث قاله سحنون: لا يحمَد جهراً ولا في نفسه. فصل: السنّة إذا جاءَه العطاسُ أن يضعَ يدَه أو ثوبَه أو نحو ذلك على فمه، وأن يخفضَ صوتَه. 785 - روينا في سنن أبي داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كان الله صلى الله عليه وسلم إذا عطَس وضعَ يدَه أو ثوبَه على فمه، وخفضّ أو غضّ بها صوتَه - شكّ الراوي أيّ اللفظين قال - قال الترمذي: حديث صحيح. 786 - وروينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بالتَّثاؤُبِ والعُطاسِ " (1) . 787 - وروينا فيه عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " التَّثاؤُبُ الرَّفِيعُ وَالعَطْسَةُ الشَّدِيدَةُ مِنَ الشيطان ". فصل: إذا تَكرّرَ العطاسُ من إنسان متتابعاً، فالسنّة أن يشمِّته لكل مرّة إلى أن يبلغ ثلاث مرّات. 788 - روينا في " صحيح مسلم " وسنن أبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه " أنه سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم وَعَطَسَ عندَه رجلٌ، فقال له: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، ثم عَطَسَ أخرى، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ مَزْكُومٌ " هذا لفظ رواية مسلم. وأما رواية أبي داود والترمذي فقالا: قال سلمة: " عَطَسَ رجل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهدٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، ثم عَطَسَ الثانية أو الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2) .

_ (1) وإسناده ضعيف، ولكراهة رَفْعَ الصَّوْتِ بالتَّثاؤُبِ شواهد بالمعني. (2) قال الحافظ في " الفتح ": الذي مسبة - يعنزي النووي - إلى أبي داود والترمذي من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس: " يرحمك الله "، ليس في شئ من نسخها كما سأبنية، فقد أخرجه أيضا أبو عوانة وأبو نعيم في " مسخرجيهما "، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن السني وأبو نعيم أيضاً في " عمل اليوم والليلة " وابن حبّان في صحيحه، والبيهقي في " الشعب " كلهم نم رواية عكرمة بن عمار عن إِياس بن سلمة عن أبيه، وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم، وألفاظهم متقاربة، وليس عند أحد منهم إعادة " رحمك الله " في الحديث، وكذلك ما نسبة إلى أبي داود والترمذي أن عندهما " ثم عَطَسَ الثانية أو الثالثة " فيه نظر، فإن لفظ أبي داود " أنْ رجلاً عَطَسَ " والباقي مثل سياق مسلم سواء، إلا لم يقل: " أخرى " ولفظ الترمذي مثل ما ذكره النووي إلى قوله: " ثم عطس " فإنه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، = (*)

789 - وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد الله بن رفاعة الصحابيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُشَمَّتُ العاطِسُ ثَلاثاً، فإنْ زَادَ، فإنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ، وَإنْ شِئْتَ فَلا " فهو حديث ضعيف (1) ، قال فيه الترمذي: حديث غريب، وإسناده مجهول.

_ = وهذه رواية ابن المبارك عنده، وأخرجه من رواية يحيى القطان، فأحال به على رواية ابن المبارك، فقال نحوه، إلا أنه قال له في الثانية: أنت مزكوم، وفي رواية شعبة: قال يحيى القطان: وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي: قال له في الثالثة: أنت مزكوم، وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمار، وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرض للثالثة، ورجح النووي رواية من قال: في الثالثة، على رواية من قال: في ثانية. قال الحافظ: " وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النووي، وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في " مصنفه " وابن عبد البر من طريقه قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى القطان، حدثنا عكرمة ... فذكره بلفظ: " عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمته، ثم عطس فشمته، ثم عطس فقال له في الثالثة: أنت مزكوم " هكذا رأيته فيه: ثم عطس فشمته، وقد أخرجه الإمام أحمد عن يحيى القطان، ولفظه: " ثم عطس الثانية والثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم "، قال الحافظ: وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث: لكن الأكثر على ترك ذلك التشميت بعد الأولى. وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظ آخر. قال: يشمت العاطس ثلاثا، فما زاد فهو مزكوم، وجعل الحديث كله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاد تكرير التشميت، وهو رواية شاذة لمحافظة جميع أصحاب عكرمة بن عمار في سياقة، ولعل ذلك عن عكرمة المذكور لما حدث به وكيعا، فإن في حفظه مقالا، فإن كانت محفوظة، فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة - يعني الحديث الذي بعد حديث عبيد بن رقاعة - ويستفاد منه مشروعية تشميت العاطس عليه، ما لم يزد على ثلاث إذا حمد، سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه، ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمت بعد الحمد؟ فيه نظر، وظاهر الخبر: نعم. (1) قال الحافظ في " الفتح " 10 / 499 في الأدب، باب تشميت العاطس: إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد، إذ لا يلزم من الغرابة الضعف، قال الحافظ: وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولا، فلم يرد جميع رجال الإسناد، فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا، فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن طلحة عن أمه حميدة أو عبيدة بن عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبينه، وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح، ويزيد هو أبو خالد الدالاني وهو صدوق في حفظه شئ، ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين، وأمه حميدة روى عنها أيضا زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، وأبوها عبيد بن رفاعة، ذكروه في الصحابة لكونه وله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، قاله ابن، السكن، قال: ولم يصح سماعه، وقال البغوي: روايته مرسلة، وحديثه عن أبيه عند الترمذي والنسائي وغيرهما، وأما رواية الترمذي ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه عن أبيها، كذا سماه عمر، ولم يسم أمه ولا أباها، وكأنه - يعني الترمذي - لم يمعن النظر، فمن ثم قال: إن إسناد مجهول، وقد = (*)

790 - وروينا في كتاب ابن السني بإسناد فيه رجل لم أتحقق حاله (1) وباقي إسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمِّتهُ جَلِيسُهُ، وَإِنْ زَاد على ثَلاثَة فَهُوَ مَزْكُومٌ، وَلا يُشَمَّتُ بَعْدَ ثَلاثٍ ". واختلف العلماء فيه، فقال ابن العربي المالكي: قيل: يقال له في الثانية: إنك مزكوم، وقيل: يقال له في الثالثة، وقيل: في الرابعة، والأصحّ أنه في الثالثة. قال: والمعنى فيه أنك لست ممّن يُشمَّت بعد هذا، لأن هذا الذي بك زكامٌ ومرض، لا خفّة العطاس. فإن قيل: فإذا كان مرضاً، فكان ينبغي أن يُدعى له ويُشمّت، لأنه أحقّ بالدعاء من غيره؟ فالجواب أنه يُستحبّ أن يُدعى له لكن غير دعاء العطاس المشروع، بل دعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ونحو ذلك، ولا يكون من باب التشميت. فصل: إذا عَطَسَ ولم يحمد الله تعالى، فقد قدَّمنا أنه لا يُشمّت، وكذا لو حمد الله تعالى ولم يسمعه الإِنسان لا يشمّته، فإن كانوا جماعة فسمعه بعضُهم دون بعض، فالمختار أنه يُشمّته من سمعه دون غيره. وحكى ابن العربي خلافاً في تشميت الذين لم يسمعوا الحمد إذا سمعوا تشميتَ صاحبهم، فقيل: يشمّته، لأنه عرف عطاسه وحمده بتشميت غيره، وقيل: لا، لأنه لم يسمعه. واعلم أنه إذا لم يحمد أصلاً يُستحبّ لمن عنده أن يذكِّره الحمد، هذا هو المختار. وقد روينا في " معالم السنن " للخطابي نحوه عن الإِمام الجليل إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف، والتعاون على البرّ والتقوى، وقال ابن العربي:

_ = تبين أنه ليس بمجهول، وأن الصواب يحيى بن إسحاق، لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السني وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السلام بن حرب فقالوا: يحيى بن إسحاق، وقالوا: حميدة بغير شك وهو المعتمد. وقال احافظ وقال ان العربي: هذا الحديث وإن كان فيه مجهول، لكن يستحب العمل به، لأنه دعاء بحير وصلة وتودّد للجليس، فالأولى العمل به، والله أعلم. قال: وقال ابن عبد البرّ: دلّ حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمّت ثلاثا، وقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها، فالعمل بها أولى. اهـ. وقد ذكر الحافظ لهذا الحديث شواهد كثيرة مرسلة وموقوفة، انظرها في " الفتح " 10 / 498. (1) قال الحافظ في الفتح: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحرّاني، والحديث عندهما من رواية محمد بن سليمان عن أبيه، ومحمد موثق، وأبوه بقال له: الحراني، ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة ولا مأمون.

لا يفعل هذا، وزعم أنه جَهْلٌ من فاعله، وأخطأ في زعمه، بل الصواب استحبابه لما ذكرناه، وبالله التوفيق. فصل فيما إذا عَطَسَ يهوديٌّ. 791 - روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " كان اليهودُ يتعاطسُونَ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرْجُون أن يقولَ لهم: يرحمُكُم اللَّهُ (1) فيقولُ: يَهديكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُمْ " (2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فصل: 792 - روينا في " مسند أبي يعلى الموصلي " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَدَّثَ حَدِيثاً فَعَطَسَ عِنْدَهُ فَهُوَ حَقُّ " كل إسناده ثقات مُتقنون إلا بقية بن الوليد فمختلف فيه، وأكثرُ الحفاظ والأئمة يحتجّون بروايته عن الشاميين، وقد روي هذا الحديث عن معاوية بن يحيى الشامي (3) . فصل: إذا تثاءب، فالسنّة أن يرده ما استطاع، للحديث الصحيح الذي قدّمناه. 793 - والسنّة أن يضع يده على فيه، لما رويناه في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ على فَمِهِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يَدْخُلُ ". قلتُ: وسواء كان التثاؤب في الصلاة أو خارجها، يستحبّ وضعُ اليد على الفم، وإنما يكره للمصلّي وضعُ يده على فمه في الصلاة إذا لم تكن حاجة كالتثاؤب وشبهه، والله أعلم.

_ (1) قال العاقولي: هذا من خبث اليهود، حبى في طلب الرحمة أردوا حصولها لا عن منة وانقياد. اهـ. (2) وهو تعريض لهم بالإسلام: أي اهتدوا وآمنوا يصلح الله بالكم. (3) قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة ": وله شاهد عند الطبراني ذكره السخاوي في " المقاصد الحسنة " من حديث خضر بن محمد بن شجاع عن غضيف بن سالم عن عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس مرفوعا: أصدق الحديث ما عطس عنده، وفال لم يروه عن ثابت إلا عمارة تفرد به الخضر. (*)

باب المدح

(بابُ المَدْحِ) اعلم أنَّ مدح الإِنسان والثناءَ عليه بجميل صفاته قد يكون في حضور الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضورِه، فلا منعَ منه إلا أن يُجازف المادحُ ويدخل في الكذب، فيحرُم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحاً، ويُستحبُّ هذا المدح الذي لا كذبَ فيه إذا ترتب عليه مصلحةٌ ولم يجرّ إلى مفسدة بأن يبلغَ الممدوحَ فيفتتن به، أو غير ذلك. وأما المدحُ في وجه الممدوح فقد جاءت فيه أحاديث تقتضي إباحتَه أو استحبابه، وأحاديثه تقتضي المنع منه. قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث أن يُقال: إن كان الممدوحُ عنده كمالُ إيمان، وحسنُ يقين، ورياضةُ نفس، ومعرفةٌ تامة، بحيث لا يفتتن، ولا يغترّ بذلك، ولا تلعبُ به نفسُه، فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شئ من هذه الأمور، كُرِهَ مدحُه كراهةً شديدة. 794 - فمن أحاديث المنع ما رويناه في " صحيح مسلم " عن المقداد رضي الله عنه " أن رجلاً جعلَ يمدحُ عثمانَ رضي الله عنه، فعمدَ المقدادُ فجثا على ركبتيه، فجعلَ يحثو في وجهه الحصباءَ (1) ، فقال له عثمانُ: ما شأنُك؟ فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا رأيْتُم المَدَّاحِينَ فاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرابَ ". 795 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يُثني على رجل ويُطريه في المِدْحَةِ فقال: أَهْلَكْتُمْ أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ ". قلتُ: قوله يُطريه، بضم الياء وإسكان الطاء المهملة وكسر الراء وبعدها ياء مثناة تحت. والإِطراء: المبالغة في المدح ومجاوزة الحدّ، وقيل: هو المدح. 796 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي بكرة رضي الله عنه " أن رجلاً ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يقوله

_ (1) قال المصنف في " شرح المسلم ": قال أهل اللغة: يقال: حثيت أحثي حيثا، وحثوث أحثوا لغتان، والحثو: هو الحفن باليديد اه. والحصباء: الحصى الصغار كما في " النهاية ". والمراد به هنا: ما كان قريباً من الرمل، لأنه جاء في حديث الترمذي: " فجعل حثو عليه التراب " وفي حديث الباب أن المقداد استدل لفعله ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم أن يحثو في وجوه المداحين التراب. (*)

مراراً - إنْ كانَ أحدكم مادحا أخاه لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وكَذَا إنْ كانَ يَرَى أنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلا يزكني على اللَّهِ أحَداً ". وأما أحاديث الإِباحة فكثيرةٌ لا تنحصر، ولكن نُشير إلى أطراف منها. 797 - فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لأبي بكر رضي الله عنه: " ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما؟ ". 798 - وفي الحديث الآخر: " لست منهم " أي لستَ من الذين يُسبلون أُزرَهم خيلاء. 799 - وفي الحديث الآخر " يا أبا بَكْرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَليَّ في صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنتُ مُتَّخِذاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خليلا ". 800 - وفي الحديث الآخر: " أرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُم " أي من الذين يُدْعون من جميع أبواب الجنة لدخولها. 801 - وفي الحديث الآخر " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بالجنة " 802 - وفي الحديث الآخر " اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبيٌّ وَصِدّيقٌ وشهيدان ". 803 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرأيْتُ قَصْراً، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قالُوا: لِعُمَرَ، فأرَدْتُ أنْ أدْخُلَهُ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فقال عمر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟ ". 804 - وفي الحديث الآخر: " يا عمر ما لَقِيَكَ الشَّيْطانُ سالكا مجالا إلا سلك مجالا غير فجك ". 805 - وفي الحديث الآخر: " افْتَحْ لِعُثْمانَ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ ". 806 - وفي الحديث الآخر قال لعليّ: " أنْتَ مِنِّي وأنا مِنْكَ ". 807 - وفي الحديث الآخر قال لعليّ: " أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ ". 808 - وفي الحديث الآخر قال لبلال: " سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ في الجنة ". 809 - وفي الحديث الآخر قال لأُبيّ بن كعب: " لِيَهْنَأْكَ (1) العِلْمُ أبا المنذر ".

_ (1) الذي في " صحيح مسلم ": لهينك. (*)

باب مدح الإنسان نفسه وذكر محاسنه

810 - وفي الحديث الآخر قال لعبد الله بن سَلاَم: " أنْتَ على الإِسْلامِ حتَّى تموت ". 811 - وفي الحديث الآخر قال للأنصاري: " ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أوْ عَجِبَ مِنْ فعالكما ". 812 - وفي الحديث الآخر قال للأنصار: " أنْتُمْ مِنْ أحَبّ النَّاس إلي ". 813 - وفي الحديث الآخر قال لأشجّ عبد القيس: " إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ تَعالى وَرَسُولُهُ: الحِلْمَ والأناة ". وكلّ هذه الأحاديث التي أشرت إليها في الصحيح مشهورة، فلهذا لم أضفها، ونظائر ما ذكرناه من مدحه صلى الله عليه وسلم في الوجه كثيرة. وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يُقتدى بهم رضي الله عنهم أجمعين فأكثر من أن تُحصر، والله أعلم. قال أبو حامد الغزالي في آخر " كتاب الزكاة " من " الإِحياء ": إذا تصدق إنسان بصدقة، فينبغي للآخذ منه أن يَنظر، فإن كان الدافعُ ممّن يُحِبّ الشكر عليها ونشرها فينبغي للآخذ أن يخفيَها لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم، وطلبه الشكر ظلم، وإن علم من حاله أنه لا يُحِبّ الشكر ولا يقصده فينبغي أن يشكرَه ويظهر صدقته. وقال سفيان الثوري رحمه الله: مَن عرف نفسه لم يضرّه مدح الناس. قال أبو حامد الغزالي بعد أن ذكر ما سبق في أول الباب: فدقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يُراعي قلبَه، فإن أعمالَ الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان لكثرة التعب وقلة النفع، ومثل هذا العلم هو الذي يقال: إن تعلم مسألة منه أفضل مِنْ عبادة سنة، إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر، وبالجهال به تموت عبادة العمر وبالجهل به تموت عبادة العمر وتتعطل، وبالله التوفيق. (بابُ مدح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه) قال الله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ) [النجم: 32] اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان: مذموم ; ومحبوب، فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع والتميّز على الأقران وشبه ذلك، والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف، أو ناهياً عن منكر، أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة، أو معلماً، أو مؤدباً، أو واعظاً، أو مذكِّراً، أو مُصلحاً بين اثنين، أو يَدفعُ عن نفسه شرّاً، أو نحو ذلك، فيذكر

محاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به، أو نحو ذلك، وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: 814 - " أنا النَّبِي لا كَذِبْ ". 815 - " أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم ". " أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ ". " أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ ". 816 - " إني أبِيتُ عنْدَ ربي ". وأشباهه كثيرة، وقال يوسف صلى الله عليه وسلم: " (اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55] وقال شعيب صلى الله عليه وسلم: (سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: 27] . 817 - وقال عثمان رضي الله عنه حين حُصر ما رويناه في " صحيح البخاري " أنه قال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ (1) فَلَهُ الجَنَّةُ؟ فجهّزتهم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة (2) فَلَهُ الجَنَّةُ، فحفرتها؟ فصدّقوه بما قال ". 818 - وروينا في " صحيحيهما " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: لا يُحسن يصلي، فقال سعد: والله إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله تعالى، ولقد كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكر تمام الحديث. 819 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه قال: " والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ، إنه لعهدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق ". قلتُ: بَرَأَ مهموز معناه: خلق، والنسمة: النفس.

_ (1) العسرة ضد اليسرة: وهي غزوة تبوك. سميت بذلك لأنها كانت في زمن شدّة الحرّ وجدب البلاد وإلى شقة بعيدة وعدد كثير، فجهز عثمان سبعمائة وخمسين بعيراً وخمسين فرساً. وقيل غير ذلك. وجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بألف دينار. (2) هي بضم الراء وسكون الواو، لما دخلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن بها ماء عذب غير بئر رومة. فقال: " مَن اشترى بئر رومة " أو قال " مِنْ حفرَها فله الجنة " فحفرها واشتراها بعشرين ألف درهم وسبَّلَها على المسلمين. ذكره الكرماني وغيره. (*)

باب في مسائل تتعلق بما تقدم

820 - وروينا في " صحيحيهما "، عن أبي وائل قال: خطبنا ابنُ مسعود رضي الله عنه فقال: " والله لقد أخذتُ من فِي رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) بضعاً وسبعين سورة، ولقد علمَ أصحابُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله تعالى، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه ". 821 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت (1) فقال: على الخبير سقطتَ - يعني نفسَه - ... وذكر تمام الحديث. ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا، وبالله التوفيق. (بابٌ في مسائل تتعلَّق بما تقدَّم) مسألة: يُستحبّ إجابةُ مَن ناداك: " لبيك وسعديك " أو " لبّيك " وحدها، ويُستحبّ أنْ يقول لمن ورد عليه: مرحِّباً، وأن يقول لمن أحسن إليه أو رأى منه فعلاً جميلاً: حفظك الله، وجزاك الله خيراً، وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة. مسألة: ولا بأس بقوله للرجل الجليل في علمه أو صلاحه أو نحو ذلك: جعلني الله فداكَ، أو فِداكَ أبي وأُمي وما أشبهه، ودلائل هذا من الحديث الصحيح كثيرة مشهورة حذفتها اختصاراً. مسألة: إذا احتاجتْ المرأة إلى كلام غير المحارم في بيع أو شراء، أو غير ذلك من المواضع التي يجوز لها كلامه فيها، فينبغي أن تفخِّمَ عبارتَها وتغلظها ولا تليِّنها مخافةَ من طمعه فيها. قال الإِمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا في كتابه " البسيط ": قال أصحابنا: المرأة مندوبة إذا خاطبتِ الأجانبَ إلى الغِلْظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة، وكذلك إذا خاطبتْ مَحرماً عليها بالمصاهرة، ألا ترى أن الله تعالى أوصى أُمّهات المؤمنين وهنّ محرّمات على التأبيد بهذه الوصية، فقال تعالى: (يا نساءَ النَّبيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مرض) [الأحزاب: 32]

_ (1) أي أعيت ووقفت، ويقال: أزحف البعير: إذا وقف من الاعياء (*)

كتاب أذكار النكاح وما يتعلق به

قلتُ: هذا الذي ذكره الواحدي من تغليظ صوتها، كذا قاله أصحابنا. قال الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا، طريقُها في تغليظه أن تأخذ ظهرَ كفّها بفيها وتُجيب كذلك، والله أعلم. وهذا الذي ذكره الواحديُّ من أن المحرّم بالمصاهرة كالأجنبي في هذا ضعيف وخلاف المشهور عند أصحابنا، لأنه كالمَحرم بالقرابة في جواز النظر والخلوة. وأما أُمَّهاتُ المؤمنين، فإنهنّ أُمّهاتٌ في تحريم نكاحهنّ ووجوب احترامهنّ فقط، ولهذا يحلّ نكاح بناتهنّ، والله أعلم. كتاب أذكار النّكاح وما يتعلّق به (باب ما يقوله من جاء يخطب امرأةً من أهلها لنفسه أو لغيره) يُستحبّ أن يبدأ الخاطبُ بالحمد لله والثناء عليه والصَّلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويقول: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، جئتكم راغباً في فتاتِكم فُلانة، أو في كريمتِكم فُلانة بنت فلان أو نحو ذلك. 822 - روينا في " سنن أبي داود وابن ماجه " وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " كُلُّ كَلامٍ " وفي بعض الروايات " كُلُّ أمْرٍ لا يُبْدأُ فِيه بالحَمْد لِلَّهِ فَهُوَ أجْذَمُ " وروي " أقْطَعُ " وهما بمعنى، هذا حديث حسن (1) . وأجذم بالجيم والذال المعجمة ومعناه: قليل البركة. 823 - وروينا في " سنن أبي داود والترمذي " عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " كُلُّ خطْبَةٍ لَيْسَ فِيها تَشَهُّدٌ فَهِيَ كاليَدِ الجَذْماءِ " قال الترمذي: حديث حسن. (باب عرض الرجل بنته وغيرها ممن) إليه تزويجها على أهلِ الفضلِ والخير ليتزوجُوها) 824 - روينا في " صحيح البخاري " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تُوفي زَوْجُ بنته حفصة رضي الله عنهما قال: لقيتُ عثمان فعرضتُ عليه حفصةَ فقلتُ: إن شئت

_ (1) رواه أبو داود رقم (4840) في الادب، باب الهدي في الكلام، وابن ماجه رقم (1894) في النكاح، باب حطبة النكاح، ورواه أيضاً أحمد في " المسند " 2 / 359 وابن حبّان في " صحيحه " رقم (578) وفي سنده قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل، وهو صدوق له مناكير، كما قال الحافظ في التقريب، ومع ذلك فقد حسنه المصنف، ونقل ابن علان في شرح الاذكار الحافظ تحسينه، وحسنه أيضا ابن الصلاح والعراقي وغيرهم. (*)

باب ما يقوله عند عقد النكاح

أنكحتُك حفصة بنتَ عمر، فقال: سأنظر في أمري (1) ، فلبثتُ ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوّج يومي هذا، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقلتُ: إن شئتَ أنكحْتُك حفصةَ بنتَ عمر، فصمتَ أبو بكر رضي الله عنه ... وذكر تمام الحديث. (بابُ ما يقولُه عند عَقْدِ النِّكَاح) يُستحبُّ أن يخطبَ بين يدي العقد خطبةً تشتملُ على ما ذكرناهُ في الباب الذي قبلَ هذا، وتكونُ أطولَ من تلك، وسواء خطبَ العاقدُ أو غيرُه. 825 - وأفضلُها ما روينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرها بالأسانيد الصحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطبة الحاجة: " الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، (يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ، إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1] ، (يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون) [آل عمران: 102] ، (يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً) [الأحزاب: 71] هذا لفظ إحدى روايات أبي داود وفي رواية له أخرى بعد قوله ورسوله " أرْسَلَهُ بالحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِما فإنَّهُ لا يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئاً " قال الترمذي: حديث حسن. قال أصحابنا: ويُستحبُّ أن يقول مع هذا: أُزوِّجك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأقلّ هذه الخطبة: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلاةُ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، أُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ. والله أعلم.

_ (1) فيه أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد بما عنده لئلا يمنعها من غيره لقول عثمان بعد ليال: قد بدا لي أن لا أتزوّج يومي هذا، وفيه الاعتذار اقتداء بعثمان في مقالته هذه. (فائدة) : النظر إذا استعمل بفي فهو بمعنى التفكر، وباللام فبمعنى الرأفة، وبإلى بمعنى الرؤية، وبدون الصلة بمعنى الانتظار، نحو " انظرونا نقتبس من نور كم ". (*)

باب ما يقال للزوج بعد عقد النكاح

واعلم أن هذه الخطبة سنّة، لو لم يأت بشئ منها صحَّ النكاح باتفاق العلماء. وحكي عن داود الظاهري رحمه الله أنه قال: لا يصحّ، ولكن العلماء المحققون لا يعدّون خلافَ داود خلافاً معتبراً، ولا ينخرقُ الإِجماعُ بمخالفته، والله أعلم. وأما الزوجُ، فالمذهب المختار أنه لا يخطب بشئ، بل إذا قال له الوليّ: زوّجتك فلانة. يقول متصلاً به: قبلتُ تزويجها، وإن شاء قال: قبلتُ نكاحَها، فلو قال: الحمد لله والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبلتُ، صحَّ النكاحُ، ولم يضرّ هذا الكلام بين الإِيجاب والقبول، لأنه فصل يسير له تعلق بالعقد. وقال بعض أصحابنا: يبطلُ به النكاح، وقال بعضهم: لا يبطلُ بل يُستحبّ أن يأتي به، والصوابُ ما قدّمناه أنه لا يأتي به ولو خالف فأتى به لا يَبطل النكاح، والله أعلم. (بابُ ما يُقالُ للزوج بعدَ عقدِ النِّكاح) 826 - السنّة أن يُقال له: باركَ الله لك، أو باركَ الله عليك، وجمعَ بينكما في خير. ويُستحبُّ أن يُقال لكلّ واحد من الزوجين: بارَك الله لكلّ واحدٍ منكما في صاحبه، وجمعَ بينكما في خير. 827 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوّج: " بارَكَ اللَّهُ لَكَ ". 828 - وروينا في " الصحيح " أيضاً أنه (صلى الله عليه وسلم) قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوّج: " بارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ ". 829 - وروينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا رفأ الإِنسانُ، إذا تزوّج قال: " بَارَكَ اللَّهُ لك، وبارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُما في خَيْرٍ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فصل: ويُكره أن يُقال له بالرَّفاء والبنين، وسيأتي دليلُ كراهته إن شاء الله تعالى في " كتابِ حفظ اللسان " في آخر الكتاب (1) . والرِّفاء بكسر الراء وبالمدّ: وهو الاجتماع.

_ (1) وقد روى أحمد والنسائي وابن ماجه الدارمي وابن السني وغيرهم، عن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج إمرأة من جشم، فدخل عليه القوم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تفعلوا ذلك، فإن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ذلك، قالوا: فما نقول يا أبا زيد؟ قال: قولوا: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وإنا كذلك كنا نؤمر. وهو حديث حسن. (*)

باب ما يقول الزوج إذا دخلت عليه امرأته ليلة الزفاف

(باب ما يقول الزوجُ إذا دخلت عليه امرأتُه ليلة الزِّفاف) يُستحبّ أن يُسَمِّيَ اللَّهَ تعالى ويأخذَ بناصيتهَا (1) أولَ ما يَلقاها ويقول: بارَك اللَّهَ لكلِّ واحدٍ منَّا في صاحبه. 830 - ويقول معه: ما رويناه بالأسانيد الصحيحة (2) في سنن أبي داود وابن ماجه وابن السني وغيرها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إِذَا تَزَوَّجَ أحَدُكُمُ امْرأةً، أوِ اشْتَرَى خَادماً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِني أسألُكَ خَيْرَها وَخَيْرَ ما جَبَلْتَها عَلَيْهِ (3) ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها وَشَرِّ ما جَبَلْتَها ما جبلتها عَلَيْهِ. وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيراً فَلْيأْخُذْ بِذِرْوَةِ سِنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلكَ " وفي رواية: " ثُمَّ ليأْخُذْ بِناصِيَتِها وَلْيَدْعُ بالبَرَكَةِ في المَرأة والخادم ". (باب ما يُقالُ للرجل بعدَ دُخولِ أهلهِ عليه) 831 - روينا في " صحيح البخاري " وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: " بنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بزينب رضي الله عنها، فأولم بخبز ولحم.." وذكر الحديث في " صفة الوليمة وكثرة مَن دُعي إليها " ثم قال: فخرجَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدتَ أهلك؟ بارك الله لك، فتقرَّى (4) حُجَر نسائه كلّهنّ يقولُ لهنّ كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة ". (بابُ ما يقولُه عندَ الجمَاع) 832 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما من طرق كثيرة عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إذَا أتى أهْلَهُ قالَ: بِسْمِ الله اللَّهُمَّ جنبنا

_ (1) الناصية: الشعر الكائن في مقدم الرأس. اه. والظاهر أن المراد هنا مقدم الرأس سواء كان فيه شعر أم لا، ودليل الاخذ بالناصية حديث أبي داود والنسائي وأبي يعلى الموصلي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مروفوعا بذلك. (2) إسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (3) أي: خلقتها وطبعتها عليه. (4) أي تتبع، يقال: قروت الناس، وتقريتهم، واقتريتهم، واستقريتهم، بمعنى. (*)

باب ملاعبة الرجل امرأته وممازحته لها ولطف عبارته معها

الشَّيْطانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطانَ ما رَزَقْتَنا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ " وفي رواية للبخاري " لَمْ يَضُرَّهُ شيطان أبدا ". (بابُ مُلاعبةِ الرجلِ امرأَتَه وممازحته لها ولطف عبارتِه معها) 833 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " تَزَوََّجْتَ بِكْراً أَمْ ثَيِّباً؟ قلت: تَزوّجتُ ثيباً، قال: هَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْراً تُلاعِبُها وَتُلاعِبُكَ ". 834 - وروينا في كتاب الترمذي وسنن النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم:) " أكمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمانَاً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً وألْطَفُهُمْ لاهله " (1) . (بابُ بيان أدبِ الزَّوِجِ مع أصهاره في الكلام) اعلم أنه يُستحبّ للزوج أن لا يخاطب أحداً من أقارب زوجته بلفظ فيه ذكر جماع النساء، أو تقبيلهنّ، أو معانقتهنّ، أو غير ذلك من أنواع الاستمتاع بهنَّ، أو ما يتضمن ذلك أو يُستدلّ به عليه أو يفهم منه. 835 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عليٍّ رضي الله عنه قال: " كنتُ رجلاً مَذَّاءً (2) فاستحييتُ أن أسألَ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) لمكان ابنته منّي، فأمرتُ المقدادَ فسألَه ". (بابُ ما يُقال عند الولادة وتألّم المرأة بذلك) ينبغي أن يُكثر من دُعاء الكَرْب الذي قدَّمناه. 836 - وروينا في كتاب ابن السني عن فاطمة رضي الله عنها " أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما دنا ولادها أمرَ أُمَّ سلمة وزينبَ بنتَ جحشٍ أن يأتيا فيقرآ عندها آية الكرسي، و (إنَّ ربَّكم اللَّهُ..) إلى آخر الآية (3) [الاعراف: 54] ويعوذاها بالمعوذتين ". (4) *

_ (1) وهو حديث حسن. (2) أي: كثير المدي، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عقب الشهوة من غير شهوة قوية، وحكمه حكم البول. (3) والاية بتمامها: (إن ربكم الَّذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل والنهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ) . (4) وإسناده ضعيف. (*)

باب تسمية المولود

(بابُ الأَذَان في أُذُنِ المولُود) 837 - روينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) أذّن في أُذن الحسين بن عليّ حينَ ولدتهُ فاطمةُ بالصلاة رضي الله عنهم " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال جماعة من أصحابنا: يُستحبّ أن يؤذّن في أُذنه اليمنى ويُقيم الصلاة في أُذنه اليسرى. 838 - وقد روينا في كتاب ابن السني عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فأذَّنَ في أُذُنِهِ اليُمْنَى، وأقامَ في أُذُنِهِ اليُسْرَى لَمْ تَضُرّهُ أُمُّ الصبيان " (1) . (بابُ الدعاءِ عندَ تَحنيكِ الطفل) 839 - روينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يُؤتى بالصبيان فيدعو لهم ويحنّكُهم " وفي رواية: فيدعو لهم بالبركة ". 840 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: " حملتُ بعبد الله بن الزبير بمكة، فأتيتُ المدينةَ فنزلتُ قباءَ، فولدتُ بقباءَ، ثم أتيتُ به النَّبي (صلى الله عليه وسلم) ، فوضعَه في حِجره ثم دعا بتمرةٍ فمضغَها ثم تفلَ في فِيه، فكانَ أول شئ دخل جوفَه ريقُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم حنَّكَه بالتمرة، ثم دعا له وباركَ عَلَيْهِ ". 841 - وروينا في " صحيحهما " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " وُلد لي غلامٌ، فأتيتُ به النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرةٍ، ودعا له بالبركة " هذا لفظ البخاري ومسلم، إلا قوله: " ودعا له بالبركة " فإنه للبخاري خاصة. كتاب الأسماء (بابُ تَسْمِيةِ المَوْلُود) السُّنّة أن يُسمَّى المولود في اليوم السابعِ من ولادته أو يوم الولادة. 842 - فأما استحبابه يومَ السابع، فلِمَا رَويناه في كتاب الترمذي عن عمرو بن *

_ (1) وإسناده ضعيف. (*)

باب تسمية السقط

شُعيب عن أبيه عن جده " أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أمرَ بتسمية المولود يومَ سابعهِ، ووضعِ الأذى عنه، والعقّ " قال الترمذي: حديث حسن (1) . 843 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن سَمُرة بن جُندب رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " كل غلام رهينة بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سابِعِهِ، ويُحْلَقُ، وَيُسَمَّى " قال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح. 844 - وأما يوم الولادة فلِما رويناه في الباب المتقدم من حديث أبي موسى. 845 - وروينا في صحيح مسلم " وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " وُلِدَ لي اللَّيْلَةَ غُلامٌ فَسَمَّيْتُهُ باسْمِ أبي: إبْرَاهِيم (صلى الله عليه وسلم) ". 846 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس قال: " وُلد لأبي طلحةَ غلامٌ، فأتيتُ به النبي (صلى الله عليه وسلم) فحنَّكَه، وسمَّاه عبد الله ". 847 - وروينا في " صحيحيهما " عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: " أُتي بالمنذر بن أبي أُسَيْد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين وُلد، فوضعه النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) على فخذه وأبو أُسيد جالسٌ، فلَهِيَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بشئ بين يديه، فأمر أبو أُسيد بابنه فاحْتُمِل من على فخذ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فأقلبُوه، فاستفاقَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فقال أبو أُسيد: أقلبناه يا رسول الله، قال: ما اسْمُهُ؟ قال: فلان، قال: لا، وَلَكِنِ اسْمُهُ المُنْذِرُ، فسمّاه يومئذ المنذر ". قلت: قوله لهِي، بكسر الهاء وفتحها لغتان: الفتح لطئ، والكسر لباقي العرب، وهو الفصيح المشهور، ومعناه: انصرف عنه، وقيل اشتغل بغيره، وقيل نسيه، وقوله استفاق: أي ذكره، وقوله فأقلبوه: أي رَدّوه إلى منزلهم. (بابُ تَسْمِيةِ السَّقْط) (2) يُستحبّ تسميتُه، فإن لم يُعلم أذكرٌ هو أو أنثى، سُمِّي باسم يَصلحُ للذكر والأُنثى، كأسماء، وهند، وهُنيدة، وخارجة، وطلحة، وعُميرة، وزُرْعة، ونحو ذلك. قال الإمام البغوي:

_ (1) هو عند الترمذي رقم (2834) في الادب، بابُ ما جاء في تعجيل اسم المولود، وفي سنده شريك القاضي وهو سئ الحفظ، وابن إسحاف وقد عنعنه، لكن يتقوى بحديث سمرة الذي بعده فهو به حسن. (2) هو بتثليث سينه: الوالد الذي لم يستكمل مدة حمله. (*)

باب استحباب تحسين الاسم

848 - يُستحبّ تسميةُ السقط لحديث ورد فيه (1) ، وكذا قاله غيره من أصحابه. قال أصحابنا: ولو مات المولود قبل تسميته استُحبّ تسميتُه (2) . (بابُ استحباب تَحسينِ الاسم) 849 - روينا في سنن أبي داود بالإِسناد الجيد (3) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بأسْمائكُمْ وأسماءِ آبائِكُمْ فأحْسِنُوا أسْماءَكُمْ ". (بابُ بيانِ أحبِّ الأسماءِ إلى الله عزَّ وجلّ) 850 - روينا في " صحيح مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنَّ أحَبَّ أسْمائكُمْ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ". 851 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جابر رضي الله عنه قال: وُلد لرجلٍ منّا غلامٌ فسمَّاه القاسم، فقلنا: لا نُكَنِّيك أبا القاسم ولا كرامة، فأخبرَ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: " سَمّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ". 852 - وروينا في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي وُهيب الجشمي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " تَسَمَّوا بأسْماءِ الأنْبِياءِ، وَأحَبُّ الأسْماءِ إلى الله تَعالى: عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمَن، وأصْدَقُها: حَارِثٌ وَهمَّامٌ، وأقْبَحُها: حَرْبٌ ومرة " (4) .

_ (1) وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أسقطتُ من النبي (صلى الله عليه وسلم) سَقْطاً، فسمّاه عبد الله، وكنّاني بأُمّ عبد الله، وهو حديث ضعيف، وسيأتي تضعيفه، في كلام المصنف، رحمه الله في باب: " بيان كُنيةِ مَنْ لم يولد له ". (2) كأن وجهه القياس على السقط بالاولى. (3) إلا أن فيه انقطاعاً، بين عبد الله بن أبي زكريا وأبي الدرداء، فإنه لم يدركه كما نص على ذلك المنذري والحافظ ابن حجر وغيرهما. (4) روه أبو داود رقم (4950) في الادب، باب تغيير الاسماء، والنسائي 6 / 218 و 219 في الخيل، باب ما يستجب من شيد الخيل، وفي سنده عقيل بن شبيب، وهو مجهول كما قال الحافظ في " التقريب "، ولكن يشهد لبعضه حديث ابن عمر الذي قبل، وحديث المغيرة بن شعبة عند مسلم رقم (2135) مرفوعا أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم، وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال: أسماني النبي (صلى الله عليه وسلم) يوسف، قال الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح. (*)

باب استحباب التهنئة وجواب المهنأ

(بابُ استحباب التهنئة وجواب المُهَنَّأ) 853 - يُستحبّ تهنئة المولود له، قال أصحابنا: ويُستحبّ أن يُهَنَّأ بما جاءَ عن الحسين رضي الله عنه أنه علَّم إنساناً التهنئة فقال: قل: باركَ الله لكَ في الموهوب لك، وشكرتَ الواهبَ، وبلغَ أشدَّه، ورُزقت برّه. ويُسْتَحَبُّ أن يردّ على المهنئ فيقول: باركَ الله لك، وبارَك عليك، وجزاكَ الله خيراً، ورزقك الله مثلَه، أو أجزلَ الله ثوابَك، ونحو هذا. (بابُ النهي عن التسميةِ بالأسماءِ المَكْرُوهة) 854 - روينا في " صحيح مسلم " عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تُسَمِّيَنَّ غُلامَكَ يَسَاراً، وَلا رَباحاً، وَلا نَجاحاً، وَلا أفْلَحَ، فإنَّكَ تَقُولُ أثَمَّ هُوَ؟ فَلا يَكُونُ، فَتَقُولُ: لا، إنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلا تَزِيدونَ عَليَّ ". 855 - وروينا في سنن أبي داود وغيره من رواية جابر، وفيه أيضاً النهي عن تسميته بركة. 856 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ أخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى رَجُلٌ تَسَمَّى ملك الأملاك ". وفي رواية " أخنى " بدل " أخنع ". وفي رواية لمسلم " أغْيَظُ رَجُلٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ وأخْبَثُهُ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ، لا مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ " قال العلماء: معنى أخنع وأخنى: أوضع وأذلّ وأرذل. وجاء في الصحيح عن سفيان بن عيينة قال: ملك الأملاك مثل شاهان شاه. (باب ذكر الإِنسان من يتبعُه من ولد أو غلام أو متعلمٍ أو نحوهم باسمٍ قبيحٍ ليؤدّبَه ويزجرَه عن القبيح ويروّضَ نفسَه) 857 - روينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن بُسْرٍ المازني الصحابي رضي الله عنه - وهو بضمّ الباء الموحدة وإسكان السين المهملة - قال: " بعثتني أُمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بِقِطْفٍ مِن عِنَب، فأكلتُ منه قبل أن أُبلغَه إياه، فلما جئتُ به أَخَذَ بأُذني وقال: يا غُدَرُ " (1) .

_ (1) وإسناده ضعيف. (*)

باب نداء من لا يعرف اسمه

858 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في حديثه الطويل المشتمل على كرامة ظاهرة للصديق رضي الله عنه (1) ، ومعناه: أن الصديق رضي الله عنه ضيَّفَ جماعةً وأجلسَهم في منزله وانصرفَ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتأخَّرَ رجوعُه، فقال عند رجوعه: أعشّيتمُوهم؟ قالُوا: لا، فأقبل على ابنه عبد الرحمن فقال: يا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ (2) وَسَبَّ (3) . قلتُ: قوله: غنثر، بغين معجمة مضمومة، ثم نون ساكنة ثم تاء مثلثة مفتوحة ومضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة ثم راء، ومعناه: يا لئيم، وقوله: فجدّعَ، وهو بالجيم والدال المهملة، ومعناه: دعا عليه بقطع الأنف ونحوه، والله أعلم. (بابُ نداءِ مَنْ لا يُعرف اسمُه) ينبغي أن يُنادى بعبارةٍ لا يتأذّى بها، ولا يكون فيها كذبٌ ولا مَلَقٌ (4) ولا ملق ": كقولك: يا أخي (5) يا فقيه، يا فقير، يا سيدي، يا هذا، يا صاحبَ الثوب الفلاني أو النعل الفلاني أو الفرس أو الجمل، أو السيف أو الرمح، وما أشبه هذا على حسب حال المُنَادى والمُنَادِي. 859 - وقد روينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد حسن عن بَشير بن معبد المعروف بابن الخَصَاصِيَة رضي الله عنه قال: " بينما أنا أُماشي (6) النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) نظرَ فإذا رجلٌ يمشي بين القبور عليه نعلان فقال: يا صَاحبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ (7) وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ.." وذكر تمام الحديث. قلتُ: النعالُ السِّبتِيةُ بكسر السين: التي لا شعرَ عليها. 860 - وروينا في كتاب ابن السني عن جاريةَ الأنصاري الصحابي رضي الله عنه -

_ (1) انظر الحديث بتمامه في مسلم رقم (2057) في الابربة. (2) أي دعا بالجدع وهو قطع الانف. (3) قال المصنف رحمه الله في " شرح مسلم ": هذا الحديث فيه كرامة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، (4) قال في " النهاية ": هو الزيادة في التودد والدعاء والتضرّع فوق ما ينبغي. (5) هذا مثال اللفظ الذي يطلب الاتيان به لخلوه عن الملق ونحوه. (6) مضارع ماشي: أي أشي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . (7) أي: فنداه بهذا اللفظ لما لم يعرف اسمه، فيقاس به غيره من الثوب والفرس. (*)

باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن ينادي أباه ومعلمه وشيخه باسمه

وهو بالجيم - قال: " كنتُ عندَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وكان إذا لم يحفظ اسم الرجل قال: " يا بنَ عبد الله ". (باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن يُنادي أباه ومعلّمه وشيخه باسمه) 861 - روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلاً معه غلام، فقال للغلام: مَنْ هَذَا؟ قال: أبي، قال: فَلا تَمْشِ أمامَهُ، ولا تَسْتَسِبَّ لَهُ، وَلا تَجْلِسْ قَبْلَهُ، وَلا تَدْعُهُ باسْمِهِ ". قلت: معنى لا تَسْتَسِبَّ له: أي لا تفعل فعلاً يتعرّض فيه لأن يسبّك أبوك زجراً لك تأديبا على فعلك القبيح. 862 - وروينا فيه عن السيد الجليل العبد الصالح المتفق على صلاحه عبيد الله بن زَحْر؟ - بفتح الزاي وإسكان الحاء المهملة - رضي الله عنه قال: يُقال من العقوق أن تُسَمِّي أباك باسمه، وأن تمشيَ أمامَه في طريق. (باب استحباب تغيير الاسم إلى أحسن منه) 862 م - فيه حديثُ سهلِ به سعدٍ الساعدي المذكور في باب تسمية المولود في قصة المنذر بن أبي أُسَيْد. 863 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن زينبَ كان اسمُها برّةَ، فقيل: تزكَي نفسها، فسمَّاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " زينب ". 864 - وفي " صحيح مسلم " عن زينبَ بنت أبي سلمة رضي الله عنها قالت سميت برة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " سموها زينب، قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش واسمها برة، فسما ها زينبَ ". 865 - وفي " صحيح مسلم " أيضاً عن ابن عباس قال: " كانت جويريةُ اسمها برّة، فَحَوَّلَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) اسمَها جويرية، وكان يكرهُ أن يُقال خَرَج من عند برّة ". 866 - وروينا في " صحيح البخاري " عن سعيد بن المسيب بن حَزْن عن أبيه، أن أباه جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: " ما اسْمُكَ؟ قال: حَزْن، فقال: أنْتَ سَهْلٌ، قال: لا أُغيّر اسماً سمّانيه أبي، قال ابنُ المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعد ".

_ (1) وله شواهد بمعناه ذكرها الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8 / 237. (*)

قلتُ: الحزونة: غلظ الوجه وشي من القساوة. 867 - وروينا في " صحيح البخاري مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي (صلى الله عليه وسلم) غيَّرَ اسم عاصية، وقال: " أنت جميلة ". وفي رواية لمسلم أيضاً: " أن ابنةً لعمرَ كان يُقال لها عاصية، فسمَّاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جميلة ". 868 - وروينا في سنن أبي داود " بإسناد حسن، عن أُسامة بن أَخْدَريٍّ الصحابي رضي الله عنه - وأخدري بفتح الهمزة والدال المهملة وإسكان الخاء المعجمة بينهما - " أن رجلاً يُقَال له أصرم كان في النفَر الذين أتوْا رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : ما اسْمُكَ؟ قال: أَصْرَم، قال: " بَلْ أنْتَ زُرْعَةُ ". 869 - وروينا في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي شريح هانئ الحارثي الصحابي رضي الله عنه " أنه لما وَفَدَ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع قومه سمعهم يُكنّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: إنَّ اللَّهَ هُوَ الحَكَمُ " وَإِلَيْهِ الحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أبا الحَكَمِ؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمتُ بينَهم، فرضي كِلا الفريقين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : مَا أحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ منَ الوَلَدِ؟ قال: لي شُريح، ومُسلم، وعبدُ الله، قال: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قلت: شريحُ، قال: فأنْتَ أبُو شُرَيْحٍ " (1) . قال أبو داود: وغيّر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) اسمَ العاصي، وعزيز، وعَتْلَة، عَتْلة، وشيطان، والحكم، وغراب، وحباب، وشهاب، فسمّاه هاشماً، وسمّى حَرْباً سِلْماً، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضاً يُقال لها عقرة سمّاها خضرة، وشِعْبَ الضلالة سمّاه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّينة سمَّاهم بني الرِّشْدَة، وسمَّى بني مُغوية بني رِشْدَة. قال أبو داود: تركتُ أسانيدها للاختصار. قلتُ: عَتْلة بفتح العين المهملة وسكون التاء المثناة فوق، قاله ابن ماكولا، قال: وقال عبد الغني: عَتَلة: يعني بفتح التاء أيضاً، قال: وسمَّاه النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عُتْبة، وهو عتبة بن عبد السلمي.

_ (1) وهو حديث صحيح. (*)

باب جواز ترخيم الاسم إذا لم يتأذ بذلك صاحبه

(بابُ جَوازِ ترخيمِ الاسمِ إذَا لم يَتَأذّ بذلك صاحبُه) 870 - روينا في الصحيح من طرق كثيرة " أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) رخَّمَ أسماء جماعة من الصحابة، فمن ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبي هريرة رضي الله عنه: يا أبا هِرّ " وقوله (صلى الله عليه وسلم) لعائشةَ رضي الله عنها " يا عائش " ولأنجشة رضي الله عنه " ياأنجش " 871 - وفي كتاب ابن السني أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لأُسامة: يا أُسَيْمُ " وللمقدتم " يا قديم ". (بابُ النهي عن الأَلقابِ التي يَكْرَهُها صاحبُها) قال الله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بالألْقابِ) [الحجرات: 11] واتفق العلماء على تحريم تلقيب الإِنسان بما يكره، سواء كان له صفة، كالأعمش، والأجلح، والأعمى، والأعرج، والأحول، والأبرص، والأشج، والأصفر، والأحدب، والأصمّ، والأزرق، والأفطس، والأشتر، والأثرم، والأقطع، والزمن، والمقعد، والأشلّ، أو كان صفة لأبيه أو لأمه أو غير ذلك مما يَكره. واتفقوا على جواز ذكره بذلك على جهة التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، ودلائل ما ذكرته كثرة مشهورة حذفتها اختصاراً واستغناءً بشهرتها. (بابُ جَوازِ واستحباب اللقبِ الذي يُحبُّه صاحبُه) فمن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، اسمه عبد الله بن عثمان، لقبه عتيق، هذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماءُ من المحدِّثين وأهل السِيَر والتواريخ وغيرهم. وقيل اسمه عتيق، حكاه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه " الأطراف "، والصواب الأول، واتفق العلماء على أنه لقبُ خير. واختلفوا في سبب تسميته عتيقاً. 872 - فروينا عن عائشة رضي الله عنها من أوجه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أبُو بَكْرٍ عَتِيقُ اللَّهِ منَ النَّارِ " وقال: فمن يومئذ سُمِّيَ عتيقاً (1) . وقال مصعب بن الزبير وغيره من أهل النسب: سُمِّي عتيقاً لأنه لم يكن في نسبه شئ يُعاب به، وقيل غير ذلك، والله أعلم. 873 - ومن ذلك أبو تراب لقبٌ لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكُنيته أبو

_ (1) وإسنادنه ضعيف رواه الترمذي في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب. (*)

باب جواز الكنى واستحباب مخاطبة أهل الفضل بها

الحسن: ثبتَ في الصحيح " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجده نائماً في المسجد وعليه التراب، فقال: قُمْ أبا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرابٍ " فلزمه هذا اللقب الحسن الجميل. 874 - وروينا هذا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سهل بن سعد، قال سهل: وكانت أحبّ أسماء عليّ إليه، وإن كان ليفرح أن يُدعى بها. هذا لفظ رواية البخاري. ومن ذلك ذو اليدين واسمه الخِرْباق - بكسر الخاء المعجمة وبالباء الموحدة وآخره قاف - كان في يديه طول. 874 - ثبتَ في الصحيح " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يدعوه ذا اليدين " واسمه الخِرْباق، رواه البخاري بهذا اللفظ في أوائل كتاب البرّ والصلة ". (بابُ جوازِ الكِنى واستحباب مخاطبةِ أَهْلِ الفَضْل بها) هذا الباب أشهر من أن نذكر فيه شيئاً منقولاً، فإن دلائله يشترك فيها الخواصّ والعوامّ، والأدب أن يُخاطب أهل الفضل ومن قاربهم بالكنية، وكذلك إنْ كتبَ إليه رسالة، وكذا إن رَوى عنه روايةً، فيُقال: حدّثنا الشيخ أو الإِمام أبو فلان، فلان بن فلان، وما أشبهه، والأدبُ أن لا يذكرَ الرجلُ كنيتَه في كتابه ولا في غيره، إلا أن لا يُعرف إلا بكنيته، أو كانت الكنية أشهرَ من اسمه. قال النحاس: إذا كانت الكنية أشهر، يُكنى على نظيره ويُسمَّى لمن فوقه، ثم يلحق: المعروف أبا فلان أو بأبي فلان. (بابُ كُنيةِ الرجل بِأَكبرِ أولادِه) كُنِّي نبيّنا محمّدٌ (صلى الله عليه وسلم) أبا القاسم بابنه القاسم وكان أكبرَ بنيه. 875 - وفي الباب حديث أبي شريح الذي قدَّمناه في باب استحباب تغيير الاسم إلى أحسن منه. (بابُ كُنية الرجلِ الذي له أولادٌ بغيرِ أولادِه) هذا الباب واسعٌ لا يحصى مَن يتّصفُ به، ولا بأس بذلك. (بابُ كُنيةِ مَنْ لم يُولَد له وكُنية الصغيرِ) 876 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أحسنَ الناس خلقاً، وكان لي أخ يُقال له أبو عمير: قال الراوي: أحسبه قال

باب النهي عن التكني بأبي القاسم

فَطِيمٌ - وكان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) إذا جاءَه يقول: " يا أبا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُغَيْرُ " (1) نُغَرٌ كانَ يلعبُ به. 877 - وروينا بالأسانيد الصحيحية في سنن أبي داود وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " يا رسول الله كلُّ صواحبي لهنّ كُنى، قال: فاكْتَنِي بابْنِكَ عَبْدِ الله " قال الراوي: يعني عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر، وكانت عائشةُ تُكَنَّى أُمّ عبد الله. قلت: فهذا هو الصحيح المعروف. 878 - وأما ما رويناه في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أسقطتُ من النبيّ (صلى الله عليه وسلم) سَقْطاً فسمّاه عبد الله، وكنّاني بأُمّ عبد الله " فهو حديث ضعيف (2) ؟. وقد كان في الصحابة جماعات لهم كنى قبل أن يُولد لهم، كأبي هريرة، وأنس وأبي حمزة، وخلائق لا يُحصون من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولا كراهةَ في ذلك، بل هو محبوبٌ بالشرط السابق. (بابُ النّهي عنِ التَّكَنِّي بأبي القَاسِم) 879 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جماعة من الصحابة، منهم جابر، وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " سَمُّوا باسْمي وَلا تُكَنٌّوا بِكُنْيَتِي ". قلت: اختلفَ العلماءُ في التكنّي بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: فذهب الشافعي رحمه الله ومَنْ وافقه إلى أنه لا يَحِلُّ لأحد أن يَتَكَنَّى أبا القاسم، سواء كان اسمه محمداً أو غيره، وممّن روى هذا من أصحابنا عن الشافعي الأئمةُ الحفّاظُ الثقات الأثبات الفقهاء المحدّثون: أبو بكر البيهقي، وأبو محمد البغوي في كتابه " التهذيب " في أول " كتاب النكاح "، وأبو القاسم بن عساكر في " تاريخ دمشق ". والمذهب الثاني مذهب مالك رحمه الله أنه يجوز التكنّي بأبي القاسم لمن اسمه محمد ولغيره، ويجعل النهي خاصاً بحياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والمذهب الثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره. قال الإِمام أبو القاسم الرافعي من أصحابنا: يُشبه أن يكون هذا الثالث أصحّ، لأن الناس لم يزالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار، وهذا الذي قاله صاحب هذا المذهب فيه مخالفة ظاهرة للحديث.

_ (1) وفي هذا الحديث من الفوائد الكثيرة التي استنبطها العلماء، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في " فتح الباري، وغيره من العملماء. (2) وقد تقدم في الصفحة (246) . (*)

باب جواز تكنية الكافر والمبتدع والفاسق إذا كان لا يعرف إلا بها أو خيف من ذكره باسمه فتنة

وأما إطباق الناس على فعله مع أن في المتكنين به والمكنّين الأئمة الأعلام، وأهل الحلّ والعقد والذين يُقتدى بهم في مهمات الدين ففيه تقوية لمذهب مالك في جوازه مطلقاً، ويكونون قد فهموا من النهي الاختصاص بحياته (صلى الله عليه وسلم) كما هو مشهور من سبب النهي في تكنّي اليهود بأبي القاسم ومناداتهم: يا أبا القاسم، للإِيذاء، وهذا المعنى قد زال. والله أعلم. (بابُ جَوَاز تكنيةِ الكَافِر والمبتدع والفاسق إذا كان لا يُعرف إلا بها أو خِيفَ من ذِكْره باسمِه فتنة) قال الله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ) واسمه عبد العزّى، قيل: ذكر بكنيته لأنه يُعرف بها، وقيل: كراهةً لاسمه حيثُ جُعل عبداً للصنم. 880 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما " أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) ركبَ على حمار ليعودَ سعدَ بن عبادة رضي الله عنه.." فذكر الحديث ومرور النبيّ (صلى الله عليه وسلم) على عبد الله بن أَبيّ سلول المنافق، ثم قال: فسارَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حتى دخلَ على سعد بن عبادة، فقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " أيْ سَعْدُ، ألَمْ تَسْمَعْ إلى ما قالَ أبُو حُبابٍ - يُريد عبد الله بن أُبيّ - قالَ: كَذَا وكَذَا ... " وذكر الحديث. قلت: تكرَّر في الحديث تكنيةُ أبي طالبٍ، واسمُه عبدُ مناف، وفي الصحيح " هَذَا قَبْرُ أبي رِغالٍ " ونظائر هذا كثيرة، هذا كله إذاً وجد الشرط الذي ذكرناه في الترجمة، فإن لم يُوجد، لم يزد على الاسم. 881 - كما رويناه في " صحيحيهما " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتب: " من محمد عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ " فسمَّاه باسمه، ولم يكنِّه ولا لقبه بلقب ملك الروم وهو قيصر، ونظائرُ هذا كثيرة، وقد أمرنا بالإِغلاظ عليهم، فلا ينبغي أن نُكنيَهم ولا نرققَ لهم عبارة، ولا نلين لهم قولاً، ولا نظهر لهم ودّاً ولا مؤالفة. (باب جواز تكنية الرجل) بأبي فُلانة وأبي فُلان والمرأة بأُمّ فلان وأُمّ فُلانة اعلم أن هذا كلَّه لا حَجْرَ فيه، وقد تكنَّى جماعاتٌ من أفاضل سلف الأمة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم بأبي فلانة، فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه له ثلاث كنى: أبو عمرو، وأبو عبد الله، وأبو ليلى، ومنهم أبو الدرداء وزوجته أُمّ الدرداء الكبرى

كتاب الأذكار المتفرقة

صحابية اسمها خيرة (1) وزوجته الأخرى أُمّ الدرداء الصغرى اسمها هُجَيْمة، وكانت جليلة القدر، فقيهة فاضلة، موصوفة بالعقل الوافر، والفضل الباهر، وهي تابعية. ومنهم أبو ليلى والد عبد الرحمن بن أبي ليلى، وزوجته أُمّ ليلى، وأبو ليلى وزوجته صحابيان. ومنهم أبو أُمامة وجماعات من الصحابة. ومنهم أبو رَيْحانة، وأبو رَمْثة، وأبو رِيْمة، وأبو عَمْرة بشير بن عمرو، وأبو فاطمة الليثي، قيل اسمه عبد الله بن أنيس، وأبو مريم الأزدي، وأبو رُقَيَّة تميم الداري، وأبو كريمة المقدام بن معد يكرب، وهؤلاء كلُّهم صحابة. ومن التابعين أبو عائشة مسروقُ الأجدع، وخلائق لا يُحصون. قال السمعاني في " الأنساب " سُمِّي مسروقاً، لأنه سرقه إنسانٌ وهو صغير ثم وُجد. 882 - وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تكنية النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أبا هريرة بأبي هريرة. كتاب الأذكار المتفرّقة اعلم أن هذا الكتاب أنثرُ فيه إن شاء الله تعالى أبواباً متفرّقة من الأذكار والدعواتِ يعظم الانتفاعُ بها إن شاء الله تعالى، وليس لها ضابطٌ نلتزمُ ترتيبها بسببه، والله الموفّق. (بابُ استحباب حمد الله تعالى والثناء عليه عندَ البِشارةِ بما يَسُرُّه) اعلم أنه يُستحبّ لمن تجدّدتْ له نعمةٌ ظاهرة، أو اندفعتْ عنه نقمةٌ ظاهرة أن يسجد شكراً لله تعالى، وأن يحمدَ الله تعالى، أو يثني عليه بما هو أهله، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة. 883 - روينا في " صحيح البخاري " عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الشورى الطويل، أن عمر رضيَ الله عنه أرسلَ ابنه عبد الله إلى عائشة رضي الله عنها يستأ ذنها أن يُدفن مع صاحبيه، فلما أقبلَ عبدُ الله قال

_ (1) أي بفتح المعجمة وسكون التحتية بالراء بعدها هاء تأنيث، هي بنت أبي حدرد الاسلمي، قاله ابن جنبل وابن معين، وقال: أُمّ الدرداء الصغرى اسمها هجيمة الوصابية، قاله أبو عمر، قال أبو نعيم: اسمها خيرة، وقيل: هجيمة، وكانت أما الدرداء الكبرى من فضليات النساء وعقلائهن ومن ذوات العبادة، توفيت قبل أبي الدرداء بسنتين، وكانت وفاتها بالشام في خلافة عثمان. قال في " أسد الغابة "، قال أبو نعيم: اسمها خيرة، وقيل: هجيمة، وهم لا شك فيه، لانهما واحدة، وقد اختُلِفَ في اسمها، وليس كذلك، بل هما ثنتان: أُمّ الدرداء الكبرى واسمها خيرة ولها صحبة، وأم الدرداء الصغرى وهي هجيمة الوصابية تابعين. اه. (*)

باب ما يقول إذا سمع صياح الديك ونهيق الحمار ونباح الكلب

عمر: ما لديك؟ قال: الذي تُحبُّ يا أميرَ المؤمنين، أذنت، قال: الحمدلله، ما كان شئ أهمَّ إليّ من ذلك. (بابُ ما يقولُ إذا سمع صِياحَ الدِّيكِ ونهيقَ الحِمار ونُباحَ الكَلْبِ) 884 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إذَا سَمِعْتُمْ نُهَاقَ الحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بالله مِنَ الشَّيْطانِ، فإنَّهَا رأتْ شَيْطاناً، وَإذا سَمِعْتُمْ صِياحَ الدّيَكَةِ فاسْأَلُوا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فإنَّها رأتْ مَلَكاً ". 885 - وروينا في سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا سَمِعْتُمْ نُباحَ الكِلابِ وَنَهِيقَ الحَمِيرِ باللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا باللَّهِ، فإنَّهُنَّ يَرَيْنَ ما لا ترون ". (بابُ ما يَقولُ إذا رأى الحريق) 886 - روينا في كتاب ابن السني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِذَا رأيْتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّرُوا، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفئُهُ ". ويُستحبّ أن يدعوَ مع ذلك بدعاء الكرْب وغيره مما قدَّمناه في " كتاب الأذكار للأمور العارضات وعند العاهات والآفات ". (بابُ ما يقولُه عندَ القِيام مِنَ المجلسِ) 887 - روينا في كتاب الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم: " مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لغَطُهُ فَقالَ قَبْلَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذلكَ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ ما كَانَ في مَجْلِسِهِ ذلكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 888 - وروينا في سنن أبي داود وغيره عن أبي برزةَ رضي الله عنه واسمه نضلة قال: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول بأخَرَةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: " سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ، وأتُوبُ إِلَيْكَ "، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنتَ تقولُه فيما مضى، قال: " ذلكَ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ في المجلس "

_ (1) وذكره الحافظ السيوطي في " الجامع الصغير "، وزاد نسبته لابن عدي وابن عساكر من حديث عبد الله بن عمرو، ومن رواية ابن عدي عن ابن عباس، وهو حديث حسن بشواهده. (*)

باب دعاء الجالس في جمع لنفسه ومن معه

ورواه الحاكم في " المستدرك " من رواية عائشة رضي الله عنها وقال: صحيح الإِسناد. قلت: قوله بأَخَرة، وهو بهمزة مقصورة مفتوحة وبفتح الخاء، ومعناه: في آخر الأمر. 889 - وروينا في " حلية الأولياء " عن علي رضي الله عنه قال: مَن أحبّ أن يكتالَ بالمكيال الأوفى فليقلْ في آخر مجلسه أو حين يقول: سُبْحانَ ربِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ على المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ (1) . (بابُ دُعاءِ الجَالسِ في جمعٍ لنفسِه ومَنْ مَعَه) 890 - روينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " قلَّما كانَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يقومُ من مجلس حتى يدعوَ بهؤلاء الدعوات لأصحابه: " اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خشيتك (2) ما تحول به بَيْنَنا وبَيْنَ مَعاصِيكَ، وَمِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقين ما تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنا مَصَائبَ الدُّنْيا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنا بأسْماعنا وأبْصَارِنا وَقُوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجْعَلْهُ الوَارِثَ منَّا، وَاجْعَلْ ثأْرنا على مَنْ ظَلَمَنا، وانْصُرْنا على مَنْ عادَانا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا في دِينِنا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيا أكْبَرَ هَمِّنا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنا، وَلا تُسَلِّط عَلَيْنا مَنْ لا يَرْحمُنا " قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ كَراهةِ القِيَام مِن المجلسِ قبلَ أنْ يذكرَ الله تعالى) 891 - روينا بالإِسناد الصحيح في سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعالى فِيهِ إِلاَّ قامُوا عَنْ مثْلِ جِيفَةِ حِمارٍ وكانَ لَهُمْ حَسْرَةً ". 892 - وروينا فيه عن أبي هريرة أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ قَعَدَ مَقْعَداً لَمْ يَذْكُر اللَّهَ تَعَالى فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعاً لا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى فِيهِ كانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ ". قلت: تِرَة بكسر التاء وتخفيف الراء، ومعناه: نقص، وقيل تبعة، ويجوز أن يكون حسرة كما في الرواية الأخرى.

_ (1) وأخرجه ابن أبي حاتم عن الشعبي مرسلا، وبمعناه ورواه الطبراني عن زيد بن أرقم، وحميد بن زنجوية في " ترغيبه " من طريق الاصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف. (2) أي اجعل لنا قسما ونصيبا من خشيتك، أي خوفك المقرون بعظمتك. (*)

باب الذكر في الطريق

893 - وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة أيضاً عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " ما جَلَس قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعالى فِيهِ، ولَمْ يُصَلُّوا على نَبِيِّهمْ فِيهِ، إِلاَّ كانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شاءَ عَذبهُمْ، وَإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُم " قال الترمذي: حديث حسن. (بابُ الذِّكْرِ في الطَّرِيْق) 894 - روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " ما مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِساً لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلاَّ كانَتْ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، ومَا سَلَكَ رَجُلٌ طَرِيقاً لمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيه إِلاَّ كانَتْ عَلَيْهِ تِرةٌ " (1) . 895 - وروينا في كتاب ابن السني و " دلائل النبوّة " للبيهقي عن أبي أُمامةَ الباهلي رضي الله عنه قال: " أتى رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) جبريلُ (صلى الله عليه وسلم) وهو بتبوك فقال: يا مُحَمَّدُ اشْهَدْ جَنازَةَ مُعاوِيَةَ بْنِ مُعاوِيَةَ المُزَنِيّ، فخرجَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ، ونزلَ جبريلُ (عليه السلام) في سبعين ألفاً من الملائكة، فوضعَ جناحَه الأيمن على الجبال فتواضعتْ، ووضع جناحَه الأيسر على الأرضين فتواضعت، حتى نظرَ إلى مكة والمدينة، فصلَّى عليه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) وجبريلُ والملائكةُ (عليهم السلام) ، فلما فرغ قال: يا جبْرِيل بِمَ بَلَغَ مُعاوِيَةُ هَذِهِ المَنْزِلَةَ؟ قال: بِقِرَاءَتِه: قُلْ هُوَ الله أحَدٌ، قائماً وَرَاكباً وماشيا " (2) . (بابُ ما يقولُ إذا غَضِبَ) قال الله تعالى: (وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ الناس ... ) الآية [آل عمران: 134] وقال تعالى: (وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [الاعراف: 199] . 896 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ليسَ الشديدُ بالصّرعَةِ، إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسَهُ عند الغضب ". 897 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ما تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فيكُمْ؟ " قلنا: الذي لا تصرعُه الرجالُ، قال: " لَيْسَ بذلكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذي يَمْلكُ نَفْسَهُ عند الغضب "

_ (1) وإسناده ضعيف، ولكن يشهد له من جهة المعنى الاحاديث التي قبله. (2) وإسناده ضعيف. (*)

قلت: الصُّرَعة بضم الصاد وفتح الراء - وأصله الذي يَصرعُ الناسَ كثيراً كالهُمزة واللُّمزة الذي يَهمزهم (1) كثيراً. 898 - وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، عن معاذ بن أنس الجهني الصحابي رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ قادِرٌ على أنْ يُنَفِّذَهُ دَعاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى على رُؤوس الخَلائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ حتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ ما شاءَ " قال الترمذي: حديث حسن. 899 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سليمان بن صُرَد الصحابي رضي الله عنه قال: كنتُ جالساً مع النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ورجلان يَسْتَبَّان، وأحدُهما قد احمرّ وجهُه، وانتفختْ أوداجُه، فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِني لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ ما يَجدُ، لَوْ قالَ: أعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ، ذَهَبَ مِنْهُ ما يَجِدُ، فقالوا له: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: تَعَوَّذْ بالله منَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم، فقال: وهل بي من جنون؟ ". 900 - ورويناه في كتابي أبي داود والترمذي بمعناه، من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) (2) ، قال الترمذي: هذا مرسل: يعني أن عبد الرحمن لم يُدْرك معاذاً (3) . 901 - وروينا في كتاب ابن السني، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخلَ عليّ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) وأنا غَضْبى، فأخذَ بطرفِ المِفصل من أنفي، فعركه، ثم قال: يا عُوَيْشُ قُولي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وأجِرْني مِنَ الشَّيْطانِ " (4) . 902 - وروينا في سنن أبي داود، عن عطيةَ بن عروةَ السعديّ الصحابي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ، وَإِنَّ الشَّيْطانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وإنَّمَا تُطْفأُ النَّارُ بالمَاءِ، فإذَا غَضِبَ أحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأ " (5) .

_ (1) أي: يغتابهم. (2) ولفظة: " عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حتى عرف الغضب في وجه أحدهما، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : إِني لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَهَا لَذَهَبَ غضبه: أعُوذُ بالله مِنَ الشيطان الرجيم ". (3) لكن يشهد له الذي قبله. (4) لفظه عن ابن السني رقم (449) عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: كانت عائشة رضي الله عنها إذا غضبت عرك النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنفها ثم يقول: " يا عويش قولي: اللَّهمّ ربّ محمد اغفر لي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلاّت الفتن "، وإسناده حسن. (5) ورواه أحمد في " المسند ". ؟ في سنده عروة بن محمد بن عطية السعدي عامل عمر بن عبد العزيز على اليمن، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، وانظر " جامع العلوم والحكم " للحافظ ابن رجب (*) =

باب استحباب إعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وما يقوله له إذا أعلمه

(بابُ استحباب إعلامِ الرَّجُلِ من يُحبُّه أنَّه يحبُّه، وما يقولُه له إذا أعلمَه) 903 - روينا في سنن أبي داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إِذَا أحَبَّ الرَّجُلُ أخاهُ فَلْيُخْبِرُهُ أنَّهُ يُحِبُّهُ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 904 - وروينا في سنن أبي داود، عن أنس رضي الله عنه " أن رجلاً كان عندَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فمرّ رجلٌ فقال: يا رسول الله إني لأحبُّ هذا، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : أعْلَمْتَهُ؟ قال: لا، قال: أعْلِمْهُ، فلحقه فقال: إني أُحبك في الله، قال: أحبَّك الذي أحببتني لَهُ " (1) . 905 - وروينا في سنن أبي داود والنسائي، عن معاذ بن جبل رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) أخذ بيده وقال: " يا مُعاذُ، وَاللَّهِ إني لأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يا مُعاذُ لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ أنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ " (2) . 906 - وروينا في كتاب الترمذي عن يزيدَ بن نعامة الضبيّ قال: قالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أبيه وَممّنْ هُوَ، فإنَّه أوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ ". قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال: ولا نعلم ليزيدَ بن نعامة سماعاً من النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ويُروى عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) نحو هذا، ولا يصحّ إسناده. قلتُ: وقد اخْتُلف في صحبة يزيدَ بن نعامة، فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لا صحبةَ له، قال: وحكى البخاري أن له صحبة، قال: وغلط. (بابُ ما يقولُ إذا رَأى مُبتلى بمرضٍ أو غيرِه) 907 - روينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ رأى مُبْتَلىً فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي عافاني مِمَّا ابتلاك بِهِ وَفَضَّلَنِي على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، لَمْ يُصِبْهُ ذلكَ البَلاءُ " قال الترمذي: حديث حسن.

_ = الحنبلي، في الحديث السادس عشر، فإنه قد جمع الأحاديث التي وردت في الغضب في قوله (صلى الله عليه وسلم) : " تغضب ". (1) وإسناده حسن. (2) وهو حديث صحيح. (*)

باب استحباب حمد الله تعالى للمسؤول عن حاله أو حال محبوبه مع جوابه إذا كان في جوابه إخبار بطيب حاله

908 - وروينا في كتاب الترمذي عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ رأى صَاحِبَ بَلاءٍ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي عافانِي مما ابتلاك بِهِ وَفَضَّلَنِي على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفضِيلاً إِلاَّ عُوفِيَ مِنْ ذلكَ البَلاءِ كائِناً ما كانَ ما عاش " ضعَّفَ الترمذي إسنادَه (1) . قلتُ: قال العلماءُ من أصحابنا وغيرهم: ينبغي أن يقوَ هذا الذكرَ سِرّاً بحيثُ يُسمعُ نفسَه ولا يُسمعُه المبتلى لئلا يتألَّمَ قلبُه بذلك، إلا أن تكون بليّتُه معصيةً فلا بأس أن يُسمعَه ذلك إن لم يخفْ من ذلك مفسدة، والله أعلم. (بابُ استحباب حمدِ الله تعالى للمسؤول عن حاله أو حال محبُوبه مع جوابه إذا كان في جوابه إخبارٌ بطيبِ حالِه) 909 - روينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن عليّاً رضيَ الله عنه خرجَ من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في وجعهِ الذي تُوفي فيه، فقال الناسُ: يا أبا حسنٍ كيف أصبحَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: أصبحَ بِحَمْدِ الله تعالى بارئا ". (بابُ ما يقولُ إذا دخلَ السُّوقَ) 910 - روينا في كتاب الترمذي وغيره عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقالَ: لا إِلهَ إِلاََّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ على كل شئ قَدِيرٌ: كَتبَ اللَّهُ لَهُ ألْفَ ألْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ ألْفَ ألْفِ سَيِّئْةٍ، وَرَفَعَ لَهُ ألْفَ ألْفِ دَرَجَة " رواه الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك على الصحيحين " من طرق كثيرة (2) . وزاد فيه في بعض طرقه " وَبَنى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ " وفيه من الزيادة: قال الراوي: فقدمتُ خراسان، فأتيتُ قُتَيبةَ بن مسلم فقلتُ: أتيتكَ بهدية فحدّثته بالحديث، فكان قتيبةُ بن مُسلم يركبُ في موكبه حتى يأتيَ السوقَ فيقولُها ثم ينصرف. ورواه الحاكم أيضاً من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، قال الحاكم: وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة وبُريدة الأسلمي، وأنس، قال: وأقربُها من شرائط هذا الكتاب حديث بُريدة بغير هذا اللفظ. 911 - فرواه بإسناده عن بُريدة قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل السوق قال:

_ (1) ولكن يشهد له الذي قبله به حسن. (2) ورواه أيضاً ابن السني وغيره، وهو حديث حسن بمجوع طرقه. (*)

باب استحباب قول الإنسان لمن تزوج تزوجا مستحبا، أو اشترى أو فعل فعلا يستحسنه الشرع: أصبت أو أحسنت ونحوه

بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ خَيْرَ هَذِهِ السّوقِ وَخَيْرَ ما فِيها، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّها وَشَرّ ما فِيهَا، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ أنْ أُصِيبَ فِيها يَمِيناً فاجِرَةً أوْ صَفْقَةً خاسِرَةً " (1) . (بابُ استحباب قولِ الإِنسانِ لمن تزوَّجَ تزوّجاً مُستحباً، أو اشترى أو فعل فِعْلاً يَستحسنُه الشرعُ: أصبتَ أو أحسنتَ ونحوه) 212 - روينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " تَزَوَّجْتَ يا جابِرُ؟ قلت: نَعم، قال: بِكْراً أَمْ ثَيِّباً؟ قلتُ: ثيّباً يا رسول الله، قال: فهَلاّ جارِيَةً تُلاعِبُها وَتُلاعِبُكَ؟ " أو قال: " تُضَاحِكُهَا وتُضَاحِكُكَ "، قلت: إن عبد الله - يعني أباه - تُوفي وتركَ تسعَ بناتٍ أو سبعاً، وإني كرهتُ أن أجيئهنّ بمثلهنّ، فأحببتُ أن أجئ بامرأةٍ تقومُ عليهنّ وتُصْلِحُهنّ، قال: " أصَبْتَ ... " وذكر الحديث. (بابُ ما يقولُ إذا نظرَ في المِرْآة) 913 - روينا في كتاب ابن السني، عن عليّ رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا نظر في المرآة قال: " الحَمْد لِلَّهِ، اللَّهُمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي " (2) . ورويناه فيه (3) من رواية ابن عباس بزيادة (4) . ورويناه فيه (5) من رواية أنس قال: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) إذا نظرَ وجهَه في المرآةِ قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي سَوَّى خَلْقي فَعَدَّلَهُ، وَكَرَّمَ صُورَةَ وَجْهِي فَحَسَّنَها، وَجَعَلَني مِنَ المسلمين " (6) .

_ (1) رواه ابن السني والحاكم وغيرهما، وإسناده ضغيف. (2) ورواه أبو الشيخ الاصبهاني في أخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) من حديث عائشة رضي الله عنها، وإسناده ضعيف، وقد رواه أحمد في المسند رقم (3823) من حديث عبد الله بن مسعود ومن حديث عائشة، دون التقييد بالنظر إلى المرآة، وهو حديث صحيح. (3) أي: في ابن السني. (4) ولفظه بتمامه: " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا نظر في المرآة قال: الحَمْد لِلَّهِ الذي حسن خلقي وخلي وزان مني ماشان من غيري ". (5) أي؟ : في ابن السني. (6) وهو؟ حديث ضعيف. (*)

باب ما يقول عند الحجامة

(بابُ ما يَقولُ عندَ الحِجَامَة) 914 - روينا في كتاب ابن السني عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ قَرأ آيَة الكُرْسِيِّ عِنْدَ الحِجامَةِ كانَتْ منفعة حجامته " (1) . (بابُ ما يَقولُ إذا طَنَّتْ أُذُنه) 915 - روينا في كتاب ابن السني عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا طَنَّتْ أُذُنُ أحَدِكُمْ فَلْيَذْكُرْنِي، وَليُصَلّ عَليَّ، ولْيَقُلْ: ذَكَرَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مَنْ ذَكَرَنِي " (2) . (بابُ ما يقولُه إذا خَدِرَتْ رِجْلُه) 916 - روينا في كتاب ابن السني عن الهيثم بن حنش قال: " كنَّا عندَ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدِرَتْ رجلُه، فقال له رجل: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: يا محمّدُ (صلى الله عليه وسلم) ، فكأنما نُشِطَ من عِقَال " (3) . 917 - وروينا فيه (4) عن مُجاهد قال: " خَدِرَتْ رِجلُ رجلٍ عند ابن عباس، فقال ابنُ عباس رضي الله عنهما: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: محمّدٌ (صلى الله عليه وسلم) فذهبَ خَدَرُه (5) . 918 - وروينا فيه (6) عن إبراهيم بن المنذر الحزامي أحدِ شيوخ البخاري الذين روى عنهم في " صحيحه " قال: أهلُ المدينة يَعجبون من حُسن بيت أبي العتاهية: وتَخْدَرُ في بعضِ الأحايينِ رِجْلُهُ * فإنْ لم يَقلْ يا عُتْب لم يذهبِ الخَدَرْ (بابُ جَواز دُعاء الإِنسان على مَنْ ظَلَمَ المسلمين أو ظلَمه وحدَه) اعلم أن هذا الباب واسعٌ جداً، وقد تظاهرَ على جوازه نصوصُ الكتاب والسنّة وأفعالُ سلف الأمة وخلفها، وقد أخبرَ الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة معلومة من القرآن عن الأنبياء صلواتُ الله وسلامُه عليهم بدعائهم على الكفّار.

_ (1) وقد ضعفه ابن كثير في " التفسير " وغيره. (2) وإسناده ضعيف، قال السخاوي في " القول البديع " رواه الطبراني وابن عدي وابن السني والخرائطي في " مكارم الاخلاق " وأبو موسى المديني، وابن بشكول، وسنده ضعيف. (3) وإسناده ضعيف. (5) وإسناده ضعيف. (4) أي: في ابن السني. (6) أي: في ابن السني من غير سند.

919 - رواه ينا في " صحيح البخاري ومسلم " عن عليّ رضي الله عنه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يوم الأحزاب: " مَلأَ اللَّه قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ ناراً كما شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى ". 920 - وروينا في " الصحيحين " من طرق: أنه (صلى الله عليه وسلم) دعا على الذين قَتلوا القرَّاءَ (1) رضي الله عنهم، وأدامَ الدعاءَ عليهم شهراً يقولُ: " اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ". 921 - وروينا في " صحيحيهما " عن ابن مسعود رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة أبي جهلٍ وأصحابه من قريش حين وَضَعُوا سَلاَ الجزور (2) على ظهر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فدعا عليهم وكان إذا دعا، دعا ثلاثاً ثم قال: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ "، ثلاثَ مرّاتٍ، ثم قال: " اللَّهُمَّ عليكَ بأبي جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبيعَةَ ... وذكر تمام السبعة ... وتمام الحديث ". 922 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ " (3) . 923 - وروينا في " صحيح مسلم " عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه " أن رجلاً أكل بشماله عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: " كُلْ بِيَمِينِكَ، قال: لا أستطيع، قال: لا اسْتَطَعْتَ، ما منَعه إلا الكبرُ، قال: فما رفعَها إلى فِيْه ". قلتُ: هذا الرجل هو بُسر - بضم الباء وبالسين المهملة - ابن راعي العير الأشجعي، صحابي ففيه جواز الدعاء على مَن خالف الحكم الشرعي. 926 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جابر بن سمرة قال: شكا أهلُ الكوفة سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه، فعزلَه واستعملَ عليهم.." وذكرَ الحديثَ ... إلى أن قال: " أرسل معه عمر رجالاً أو رجلاً إلى الكوفة يسألُ عنه، فلم يدعْ مسجداً إلا سألَ عنه ويُثنون معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عَبْسٍ، فقامَ رجلٌ منهم يُقال له أُسامة بن قتادة، يُكَنَّى أبا سعدة فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعداً لا يسيرُ بالسريّة، ولا يَقسِمُ بالسويّة، ولا يَعدِلُ في القضية. قال سعد: أما والله لادعون

_ (1) هم أصحاب بئر معونة. (2) وعاء جنينها، وهو الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه. (3) وهم: شيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الحديث حجة في جواز الدعاء لمعين وعلى معين في الصلاة، ومنعه بعضهم. (4) وهي السبع المجدبة، وأضيفت إلى يوسف (عليه السلام) ، لانه هو الذي قام بأمور الناس فيها. (*)

باب التبري من أهل البدع والمعاصي

بثلاث: اللهمّ إن كان عبدُك هذا كاذباً قام رياءً وسمعةً فأطلْ عمرَه (1) ، وأطلْ فقرَه، وعرّضْه للفتن، فكانَ بعد ذلك يقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد ". قال عبدُ الملك بن عُمير الراوي عن جابر بن سمرة: فأنا رأيتُه بعدُ قد سقطَ حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرّضُ للجواري في الطرق فيغمزُهنّ. 925 - وروينا في " صحيحيهما " عن عروة بن الزبير أن سعيدَ بن زيد رضي الله عنهما خاصمْتُه أروى بنتُ أوْس - وقيل: أُويس - إلى مروان بن الحكم، وادّعتْ أنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد رضي الله عنه: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: ما سمعتَ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " مَنْ أخَذَ شبْراً مِنَ الأرْضِ ظُلْماً طُوِّقَهُ إلى سبع أرضين " فقال له مروان: لا أسألُك بيِّنةً بعد هذا، فقال سعيد: اللهمّ إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلْها في أرضها، قال: فما ماتتْ حتى ذهبَ بصرُها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعتْ في حفرة فماتت. (بابُ التبرّي مِنْ أَهلِ البدعِ والمَعاصي) 926 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي بُردة بن أبي موسى قال: " وجع أبو موسى رضي الله عنه وجعاً، فغُشي عليه ورأسُه في حِجر امرأة من أهله (2) ، فصاحت امرأةٌ من أهله فلم يستطعْ أن يردَّ شيئاً، فلما أفاق قال: أنا برئ ممن برئ منه رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) برئ من الصَّالقةِ والحَالقةِ والشَّاقةِ. قلت: الصَّالقةُ: الصائحة بصوت شديد، والحالقةُ: التي تحلق رأسَها عند المصيبة، والشَّاقةُ: التي تشقُّ ثيابَها عند المصيبة. 927 - وروينا في " صحيح مسلم " عن يحيى بن يَعمر قال: قلتُ لابن عمر رضي الله عنهما: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويزعمون أن لا قَدَر (3) ، وأنّ الأمرَ أُنُفٌ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم بُرآءُ مني. *

_ (1) بأن يرد إلى أَرْذَلِ العمُرِ. (2) هي زوجة أُمّ عبد الله صفية بن أبي دومة. (3) مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أنه سبحانه وتعالى قدر الاشياء في الازل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه على صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. (*)

باب ما يقوله إذا شرع في إزالة منكر

قلت: أُنُف بضمّ الهمزة والنون: أي مُستأنف لم يتقدّم به علم ولا قدر، وكذب أهل الضلالة، بل سبق علم الله تعالى بجميع المخلوقات. (بابُ ما يقولُه إذا شرعَ في إزالةِ مُنكر) 928 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " دخل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُباً (1) ، فجعلَ يطعنُها (2) بعود كان في يده (3) ويقول: (جاءَ الحَقُّ (4) وَزَهَقَ الباطلُ إنّ الباطِلَ كان زهوقا) [الاسراء: 81] جاءَ الحَقُّ وَما يبدئ الباطِلُ وما يُعِيدُ) [سبأ: 49] . (بابُ ما يَقولُ مَنْ كانَ في لسانِه فُحْشٌ) 929 - روينا في كتابي ابن ماجه وابن السني عن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: " شكوتُ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذَرْبَ لساني، فقال: أيْنَ أنْتَ مِنَ الاسْتِغْفارِ؟ إني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ مائَةَ مَرَّةِ " (5) . قلتُ: الذَرْب بفتح الذال المعجمة والراء، قال أبو زيد وغيره من أهل اللغة: هو فحش اللسان. (بابُ ما يَقولُه إذا عَثَرَتْ دَابّتُه) 930 - روينا في سنن أبي داود عن أبي المُلَيْح التابعي المشهور عن رجل قال: " كنتُ رديفَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فعثرت دابّته فقلتُ: تَعِسَ الشيطان، فقال: لا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطانُ، فإنَّكَ إذَا قُلْتَ ذلكَ تَعاظَمَ حتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ وَيَقُولُ: بِقُوَّتِي، وَلَكِنْ قُلْ: بسم اللَّهِ، فإنَّكَ إذَا قُلْتَ ذلك تَصَاغَرَ حتى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبابِ ". قلتُ: هكذا رواه أبو داود عن أبي المُلَيْح عن رجل هو رَديف النبيّ (صلى الله عليه وسلم) .

_ (1) بضم النون والصاد، ويجوز إسكان الصاد، ويجوز فتح النون، وكلها واحد الانصاب. (2) بضم العين على المشهور، ويجوز فتحها في لغة، وهذا الفعل إذ لا لا للاصنام ولعابديها، وإظهار كونها لا تضر ولا تدفع عن أنفسها كما قال تعالى: (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) . (3) في مسلم: " فجعل يطعنه بسية قوسه " وهو بكسر المهملة وتخفيف التحتية: المنعطف من طرفي القوس، فلعله كان تارة بهذا، وتارة بهذا. (4) قال المصنف في " شرح مسلم ": في هذا استحباب قراءة هاتين الايتين عند إزالة المنكر. (5) وفي إسناده أبو المغيرة عبيد بن المغيرة، وهو مجهول كما قال الحافظ في " التقريب ". (*)

باب بيان أنه يستحب لكبير البلد إذا مات الوالي أن يخطب الناس ويعظهم ويأمرهم بالصبر والثبات على ما كانوا عليه

ورويناه في كتاب ابن السني عن أبي المُلَيْح عن أبيه، وأبوه صحابي اسمه أُسامة على الصحيح المشهور، وقيل فيه أقوال أُخَر، وكِلا الروايتين صحيحة متصلة، فإن الرجل المجهول في رواية أبي داود صحابي، والصحابة رضي الله عنهم كلُّهم عدولٌ لا تضرُّ الجَهَالةُ بأعيانهم. وأما قوله تَعَس، فقيل معناه: هلك، وقيل سقط، وقيل عثر، وقيل لزمه الشرّ، وهو بكسر العين وفتحها، والفتح أشهر، ولم يذكر الجوهري في " صحاحه " غيره. (بابُ بيانِ أنه يُستحبُّ لكبير البلد إذا مات الوالي أن يخطب الناس ويعظُهم ويأمُرهم بالصبرِ والثباتِ على ما كانوا عليه) 931 - روينا في الحديث الصحيح المشهور في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم وفاة النبيّ (صلى الله عليه وسلم وقوله رضي الله عنه: " مَنْ كان يعبدُ محمّداً، فإنَّ محمّداً قد ماتَ، ومَنْ كانَ يعبدُ الله، فإنَّ اللَّه حيٌّ لا يموت " (1) . 932 - وروينا في " الصحيحين " عن جرير بن عبد الله أنه يوم ماتَ المغيرةُ بن شعبة وكان أميراً على البصرة والكوفة قام جريرٌ فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله (2) وحدَه لا شريكَ له، والوقارَ والسكينةَ حتى يأتيَكم أميرٌ فإنما يأتيكم الآن. (بابُ دُعاءِ الإِنسانِ لمن صَنَعَ معروفاً إليه أو إلى النَّاسِ كلِّهم أو بعضِهم، والثناءِ عليه وتحريضه على ذلك) 933 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " أتى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) الخلاءَ، فوضعتُ له وَضوءاً، فلما خرج قال: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فأُخبر. قال: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ " زاد البخاري " فَقِّهْهُ في الدِّينِ " (3) . 934 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي قتادة رضي الله عنه في حديثه الطويل العظيم المشتمل على معجزاتٍ متعدّداتٍ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " فبينا رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يسيرُ حتى ابهارّ الليل وأنا إلى جنبه، فنَعَس رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فمالَ عن راحلته، فأتيتُه فدعَّمتُه من غير أن أُوقظَه حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى تهوَّر الليلُ مال عن راحلته،

_ (1) رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضي عنهما. (2) أي: الزموا تقوى الله تعالى. (3) رواه أحمد والطبراني بلفظ: " اللهم فَقِّهْهُ في الدِّينِ وعلمه التأويل " وهو حديث صحيح. (*)

فدعَّمتُه من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى إذا كان من آخر السَّحَر مالَ ميلة هي أشدّ من الميلتين الأُولَيَيْن حتى كاد ينجفلُ، فأتيتُه فدعَّمته، فرفعَ رأسَه فقال: مَنْ هَذَا؟ قلتُ: أبو قتادة، قال: مَتَى كان هَذَا مَسِيركَ مِنِّي؟ قلتُ: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حَفِظَكَ الله بِما حَفِظْتَ بِهِ نَبِيّهُ ... " وذكر الحديث. قلت: ابهارَّ، بوصل الهمزة وإسكان الباء الموحدة وتشديد الراء، ومعناه: انتصف، وقوله تهوّرَ: أي ذهب معظمه، وانجفل، بالجيم: سقط، ودعَّمته: أسندته. 935 - وروينا في كتاب الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ صُنِعَ إِلَيْه مَعْرُوفٌ فَقالَ لِفاعِلِهِ: جزاك الله خيرا، فَقَدْ أبْلَغَ في الثناء " قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) . 936 - وروينا في سنن النسائي وابن ماجه وكتاب ابن السني عن عبد الله بن أبي ربيعة الصحابي رضي الله عنه قال: " استقرضَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) منِّيَ أربعين ألفاً، فجاءَه مال فدفعَه إليَّ وقال: بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ " (2) . 937 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كان في الجاهلية بيتٌ لخثعمَ يُقال له الكعبة اليمانية، ويُقال له ذو الخَلَصة (3) ؟ ، فقال لي رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : هَلْ أنْتَ مُرِيحِي (4) مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟ فنفرتُ إليه في مائة وخمسين فارساً من أحمسَ فكسَّرْنَا وقتلنَا مَن وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه، فدعا لنا ولأحمس ". وفي رواية: " فبرَّك رسُول الله (صلى الله عليه وسلم) على خيلِ أحمسَ ورجالها خمسَ مرّات ". 938 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن "

_ (1) عبارة الترمذي في النسخ المطبوعة: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد إلا من هذا الوجه، وقد روي عن أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بمثله، وسألت محمداً - يعني البخاري - فلم يعرفه، ورواه النسائي في " عمل اليوم والليلة " وابن حبّان في صحيحه، وهو حديث حسن بشواهده تعليقا على كلمة " مريحي ": وهو حديث حسن. وهو خطأ، والصواب) قوله: مريحي، هو بضم الميم وكسر الراء وسكون الياء وكسر الحاء بعدها ياء، اسم فاعل من أراح، هكذا رواه البخاري في مناقب جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وفي المغازي: ألا تريحني، وفي الجهاد: هل تريحني، بلفظ المضارع فيهما، وسبب هذا المقال منه (صلى الله عليه وسلم) كراهته أن يعبد غير الله تعالى. (2) وهو حديث حسن. (3) هو بيت كان فيه صمن لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم يدعي: الخلصة، فهدم. (4) وهو حديث حسن. (*)

باب استحباب مكافأة المهدي بالدعاء للمهدى له إذا دعا له عند الهدية

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى زمزمَ وهم يَسقون ويَعملون فيها، فقال: اعْمَلُوا فإنَّكُمْ على عَمَلٍ صَالِحٍ ". (بابُ استحبابِ مُكافأةِ المُهْدي بالدعاءِ للمُهْدَى له إذا دَعا له عندَ الهدية) 639 - روينا في كتاب ابن السني عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أَهديتُ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاةٌ، قال: اقْسِمِيها، فكانت عائشةُ إذا رجعتِ الخادمُ تقولُ: ما قالُوا؟ تقولُ الخادمُ: قالوا: باركَ الله فيكم، فتقول عائشة: وفيهم بارك الله، نردُّ عليهم مثلَ ما قالوا، ويَبقى أجرُنا لنا " (1) . (بابُ اسْتحبابِ اعتذارِ مَن أُهديتْ إليه هديّةٌ فردَّها لمعنى شرعي بأن يكون قاضياً أو والياً أو كان فيها شُبهة أو كان له عذرٌ غير ذلك) 940 - روينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الصَّعْبَ بن جَثَّامةَ رضي الله عنه أهدى إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حمارَ وحْشٍ وهو مُحْرِمٌ، فردََّه عليه وقال: " لَوْلا أنّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنا مِنْكَ ". قلت: جَثّامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة. (بابُ ما يقولُ لمن أزالَ عنه أذىً) 941 - روينا في كتاب ابن السني عن سعيد بن المسيب عن أبي أيَوبَ الأنصاري رضي الله عنه، أنه تناول من لحيةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أذىً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَسَحَ اللَّهُ عَنْكَ يا أبا أَيوبَ ما تَكْرَهُ ". 942 - وفي رواية عن سعد: أنَّ أبا أيوب أخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يَكُنْ بِكَ السُّوءُ يا أبا أَيُّوبَ، لا يَكُنْ بِكَ السُّوءُ " (2) . 943 - وروينا فيه عن عبد الله بن بكر الباهلي قال: أخذَ عمرُ رضي الله عنه من لحية رجلٍ أو رأسه شيئاً، فقال الرجلُ: صرفَ الله عنك السوء، فقال عمر رضي الله عنه: صُرفَ عنّا السوءُ منذ أسلمنا، ولكن إذا أُخذ عنك شئ فقل: أخذتْ يداك خيرا (3) .

_ (1) وهو حديث حسن. (2) وإسناده ضعيف. (3) وإسناده منقطع. (*)

باب ما يقول إذا رأى الباكورة من الثمر

(بابُ ما يقولُ إذا رَأى البَاكُورة مِن الثمر) 944 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانَ النَّاسُ إذا رأوْا أوّل الثمر جاؤوا به إلى رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإذا أخذَه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في ثَمَرِنا، وبَارِكْ لَنا في مَدِينَتِنا، وبَارِكْ لَنا في صَاعِنا، وبَارِكْ لَنا في مُدّنا، ثم يدعُو أصغرَ وليدٍ له فيُعطيه ذلك الثمرَ ". وفي رواية لمسلم أيضاً " بَرَكَةً مع بركة، ثُم يعطيه أصغر من يَحضُره من الولدان ". وفي رواية الترمذي " أصغرَ وليدٍ يراهُ ". وفي رواية لابن السني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذا أُتي بباكورةٍ وضعَها على عينيه ثم على شفتيه وقال: " اللَّهُمَّ كمَا أريْتَنا أوّلَهُ فأرِنا آخِرَهُ، ثم يُعطيه مَنْ يكونُ عندَه من الصبيان " (1) . (بابُ استحبابِ الاقتصَادِ في الموعظة والعلم) اعلم أنه يُستحبّ لمن وعظَ جماعةً، أو ألقى عليهم عِلْماً، أن يقتصدَ في ذلك، ولا يُطوِّل تطويلاً يُمِلُّهم، لئلا يَضجروا وتذهبَ حلاوتُه وجلالتُه من قلوبهم، ولئلا يَكْرَهُوا العلمَ وسماعَ الخير فيقعُوا في المحذور. 945 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن شقيق بن سلمة قال: " كان ابنُ مسعود رضي الله عنه يُذكِّرنا في كل خميس، فقال له رجل (1) : يا أبا عبد الرحمن لوددتُ أنك ذكّرتَنا كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أنّي أكره أنْ أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة كما كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يتخوّلنا (3) بها مخافةَ السآمة علينا ". 946 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عمّار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فأطِيلوا الصَّلاةَ واقْصِرُوا الخُطْبَةَ " (4) .

_ (1) وفي رواية ابن السني ضعف. (2) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار ": قال الحافظ في " فتح الباري ": هذا المبهم يُشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق البخاري لهذا الحديث في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. (3) أي: يتعاهدنا. (4) قال المصنف رحمه الله: الهمزة في " واقصروا الخطبة " همزة وصل، ونقل عن ابن الصلاح أنه أجاز كون الهمزة وصل وهمزة قطع، وليس هذا الحديث مخالفا للاحاديث المشهورة في الامر بتخفيف الصلاة، ولا لما ورد من كون خطبته قصدا، لان المراد بالحديث الذي نحن فيه، أن الصلاة (*) =

باب فضل الدلالة على الخير والحث عليها

قلتُ: مئنّة، بميم مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة: أي علامة دالّة على فقهه. وروينا عن ابن شهابٍ الزهريّ رحمه الله قال: إذا طالَ المَجلسُ كانَ للشيطان فيه نصيب. (بابُ فَضْل الدِّلاَلةِ على الخير والحَثِّ عليها) قال الله تعالى: (وَتَعاوَنُوا على البِرّ والتَّقْوَى) [المائدة: 2] . 947 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ دَعا إلى هُدىً كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعا إلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ آثامِهِمْ شَيْئاً ". 948 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري البدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ دَلَّ على خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فاعِلِهِ ". 949 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لعليّ رضي الله عنه: " فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ " (1) . 950 - وروينا في " الصحيح " (2) قوله (صلى الله عليه وسلم) : " وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْن أخيه " والأحاديث في هذا الباب كثيرة في الصحيح مشهورة. (بابُ حثِّ مَنْ سُئلَ علماً لا يعلمُه ويعلمُ أنَّ غيرَه يعرفُه على أن يَدُلَّ عليه) فيه الأحاديث الصحيحة المتقدمةُ في الباب قبلَه. 951 - وفيه حديث " الدين النصيحة " وهذا من النصيحة. 952 - روينا في " صحيح مسلم " عن شُريحِ بن هانئ قال: " أتيتُ عائشةَ رضي الله

_ = تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلا يشق على المؤمنين، وهي حينئذ قصد: أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. (1) يعني الابل، وذلك لان خيرها حمرها، وهي أحسن أموال العرب، ويضربون بها المثل في نفاسة الشئ، وليس عندهم شئ أعظم منها. (2) هو جزء من حديث طويل رواه مسلم في " صحيحة " عن أبي هريرة رضي الله عنه. (*)

باب ما يقول من دعي إلى حكم الله تعالى

عنها أسألُها عن المسح على الخفّين، فقالتْ: عليكَ بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فاسألْه (1) ، فإنه كان يُسافر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسألناه ... " وذكرَ الحديث. 953 - وروينا في " صحيح مسلم " الحديث الطويل في قصة سعد بن هشام بن عامر لما أرادَ أن يسأل عن وترِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأتى ابنَ عباس يسألُه عن ذلك، فقال ابن عباس: ألا أدلُّكَ على أعلمِ أهلِ الأرض بوتر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ (2) قال: مَن؟ قال: عائشة فأْتِها فاسألها ... " وذكرَ الحديث. 954 - وروينا في " صحيح البخاري " عن عمران بن حِطَّانَ قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها عن الحرير، فقالتْ: ائتِ ابنَ عباسٍ فاسألْه، فقال: سلِ ابنَ عمر، فسألتُ ابنَ عمر، فقال: أخبرني أبو حفص - يعني عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إِنَّمَا يَلْبَسُ الحَرِيرَ في الدُّنْيا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ ". قلتُ: لا خلاق: أي لا نصيبَ. والأحاديث الصحيحة بنحو هذا كثيرة مشهورة. (بابُ ما يَقولُ مَن دُعي إلى حُكْمِ اللَّهِ تعالى) ينبغي لمن قال له غيرُه: بيني وبينَك كتاب الله أو سُنَّة رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ، أو أقوال علماء المسلمين، أو نحو ذلك، أو قال: اذهبْ معي إلى حاكم المسلمين، أو المفتي لفصلِ الخصومةِ التي بيننا، وما أشبَه ذلك، أن يقولَ: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعةً، أو نعم وكرامة، أو شبه ذلك، قال الله تعالى: (إِنَّمَا كانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إذَا دُعُوا إلى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) * [النور: 51] . فصل: ينبغي لمن خاصمَه غيرُه أو نازعَه في أمر فقال له: اتّقِ اللَّهَ تَعالى، أوْ خَفِ اللَّهَ تَعالى أوْ راقبِ اللَّهَ، أو اعلم أنَّ الله تعالى مطّلعٌ عليك، أو اعلم أنَّ ما تقوله يُكتب عليك وتُحاسبُ عليه، أو قال له: قال الله تعالى: (يَوْمَ تَجدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران: 30] أو (اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى الله) [البقرة: 281] أو نحو ذلك من الآيات، وما أشبه ذلك من الألفاظ، أن يتأدَّبَ ويقول: سمعاً وطاعةً، أو

_ (1) قال المصنف رحمه الله في " شرح مسلم ": في الحديث من الأدب ما قاله العلماء، وأنه يستحب للمحدث والمفتي إذا طُلب منه ما يعلمه عند من هو أجل من أن يرشده إليه، وإن لم يعرفه قال: سَلْ عنه فلا نا. (2) قال المصنف رحمه الله: فيه أنه يُستحبُّ للعالم إذا سئل عن شئ ويعرف أن غيره أعلم منه أن يرشد إليه السائل، فإن الدين النصيحة، ويتضمن مع ذلك الانصاف والاعتراف بالفضل لاهله، والتواضع. (*)

باب الإعراض عن الجاهلين

أسأل الله التوفيقَ لذلك أو أسألُ الله الكريمَ لطفه، ثم يتلطَّفُ في مخاطبة مَن قال له ذلك، وليحذرْ كلَّ الحذرِ من تساهلهِ عند ذلك في عبارته، فإن كثيراً من الناس يتكلمون عند ذلك بما لا يَليق، وربما تكلَّم بعضُهم بما يكون كفراً، وكذلك ينبغي إذا قال له صاحبه: هذا الذي فعلتَه خلاف حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو نحو ذلك، أن لا يقول: لا ألتزمُ الحديثَ، أو لا أعملُ بالحديث، أو نحو ذلك من العبارات المستبشعة، وإن كان الحديثُ متروكَ الظاهر لتخصيص أو تأويلٍ أو نحو ذلك، بل يقول عند ذلك: هذا الحديثُ مخصوصٌ أو متأوّلٌ أو متروكُ الظاهر بالإِجماع، وشبه ذلك. (بابُ الإِعراض عن الجاهلين) قال الله سبحانه وتعالى: (خُذِ العَفْوَ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199] وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا وَلَكُمْ أعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِين) [القصص: 55] وقال تعالى: (فأعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم: 29] وقال تعالى: (فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ) [الحجر: 85] . 955 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لما كان يومُ حُنين آثرَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ناساً من أشرافِ العربِ في القسمة، فقال رجلٌ: والله إن هذه قسمةٌ ما عُدلَ فيها، وما أُريدَ فيها وجهُ الله، فقلت: والله لأخبرنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأتيتُه فأخبرتُه بما قال، فتغيَّرَ وجهُه حتى كان كالصرف، ثم قال: فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ثم قال: يَرْحَمُ الله مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ". قلت: الصرف بكسر الصاد المهملة وإسكان الراء، وهو صبغ أحمر. 956 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ عُيينة بنُ حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكانَ من النفر الذين يُدنيهم عمرُ رضي الله عنه، وكان القرّاءُ أصحابُ مجلسِ عمرَ رضي الله عنه ومشاورته، كُهُولاً كانوا أو شبّاناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، لك وجهٌ عندَ هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ، فأذنَ له عمر، فلما دخلَ قال: هي (1) يا ابن الخطاب، فو الله

_ (1) وهي كلمة تهديد، وفي نخة: هيه وإيه، بمعنى: زدني. (*)

باب وعظ الإنسان من هو أجل منه

ما تُعطينا الجزل، ولا تحكمُ فينا بالعدل، فغضبَ عمرُ رضي الله عنه حتى همّ أن يُوقع به، فقال له الحرّ: يا أميرَ المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيّه (صلى الله عليه وسلم) : (خُذِ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزَها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله تعالى. (بابُ وَعظِ الإِنسانِ مَنْ هُو أجلّ منه) 957 - فيه حديثُ ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه في الباب قبلَه. اعلم أن هذا البابَ مما تتأكدُ العنايةُ به، فيجبُ على الإِنسان النصيحةُ، والوعظُ، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر لكل صغير وكبير إذا لم يغلبْ على ظنه ترتُّبُ مفسدةٍ على وعظه، قال الله تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ) [النحل: 125] . وأما الأحاديثُ بنحو ما ذكرنا فأكثرُ من أن تُحصر. وأما ما يفعله كثيرٌ من الناس من إهمال ذلك في حقّ كبار المراتب، وتوهمهم أنَّ ذلك حياء، فخطأٌ صريحٌ، وجهلٌ قبيحٌ، فإن ذلك ليس بحياء، وإنما هو خَوَرٌ ومهانةٌ وضعفٌ وعجزٌ، فإن الحياءَ خيرٌ كلُّه، والحياءُ لا يأتي إلا بخير، وهذا يأتي بشرٌ، فليس بحياء، وإنما الحياءُ عند العلماء الربانيين، والأئمة المحققين، خُلُق يبعثُ على ترك القبيح، ويمنعُ من التقصير في حقّ ذي الحقّ، وهذا معنى ما رويناه عن الجُنيد رضي الله عنه في " رسالة " القشيري، قال: الحياءُ رؤيةُ الآلاء، ورؤيةُ التقصير، فيتولد بينهما حالة تُسمَّى حياء. وقد أوضحتُ هذا مبسوطاً في أوّل " شرح صحيح مسلم "، ولله الحمد، والله أعلم. (بابُ الأمر بالوفاءِ بالعهدِ والوَعْدِ) قال الله تعالى: (وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عاهَدْتُم) [النحل: 11] وقال تعالى: (يا أيُّها الَّذينَ أمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ) (1) [المائدة: 1] وقال تعالى: (وَأوْفُوا بالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34] . والآيات في ذلك كثيرة، ومن أشدّها قوله

_ (1) العقود جمع عقد: وهو ما التزمه الانسان من مطلوب شرعي، وهو عام يندرج تحته ما ربقطه الإنسان على نفسه أو مع صاحب له مما يجوز شرعا. (*)

باب استحباب دعاء الإنسان لمن عرض عليه ماله أو غيره

تعالى: (يا أيُّها الَّذينَ أمَنوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3] . 958 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حدث كذب، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خانَ ". زاد في رواية " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ ". والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. وقد أجمعَ العلماءُ على أن مَن وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهيّ عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجبٌ، أو مستحبّ؟ فيه خلاف بينهم، ذهب الشافعيُّ وأبو حنيفة والجمهورُ إلى أنه مستحبّ، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وذهبَ جماعةٌ إلى أنه واجب، قال الإِمامُ أبو بكر بن العربي المالكي: أجلُّ مَن ذهبَ إلى هذا المذهب عمرُ بن عبد العزيز، قال: وذهبتِ المالكية مذهباً ثالثاً أنه إن ارتبط الوعدُ بسبب كقوله: تزوّج ولك كذا، أو احلف أنك لا تشتمني ولك كذا، أو نحو ذلك، وجب الوفاء، وإن كان وعداً مُطلقاً، لم يجب. واستدلّ مَن لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية: تلزم قبل القبض. (بابُ استحبابِ دُعاء الإِنسان لمن عَرَضَ عليه مالَه أو غيرَه) 959 - روينا في " صحيح البخاري " وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدموا المدينة نزل عبدُ الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال: أُقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتيّ، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك. (بابُ ما يقولُه المسلمُ للذميّ إذا فعلَ به مَعْرُوفاً) اعلم أنه لا يجوز أن يُدعى له بالمغفرة وما أشبهها مما لا يُقال للكفار، لكن يجوزُ أن يُدعى بالهداية وصحةِ البدن والعافية وشبهِ ذلك. 960 - روينا في كتاب ابن السني عن أنس رضي الله عنه قال: استسقى النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) فسقاه يهوديٌّ، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " جَمَّلَكَ اللَّهُ " فما رأى الشيب حتى ماتَ (1) .

_ وه حديث ضعيف. (*)

باب ما يقوله إذا رأى من نفسه أو ولده أو ماله أو غير ذلك شيئا فأعجبه وخاف أن يصيبه بعينه وأن يتضرر بذلك

(بابُ ما يقولُه إذا رَأى مِن نفسِه أو ولده أو مالِه أو غير ذلكَ شيئاً فأعجبَهُ وخاف أن يصيبه بعينه وأنْ يتضرّرَ بذلك) 961 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " العَيْنُ حَقٌّ " (1) . 962 - وروينا في " صحيحيهما " عن أُمّ سلمة رضي الله عنها: " أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) رأى في بيتها جاريةً في وجهها سفعة فقال: " اسْتَرْقُوا لَهَا فإنَّ بِهَا النَّظْرَةَ ". قلتُ: السَّفعة بفتح السين المهملة وإسكان الفاء: هي تغيّر وصفرة. وأما النظرة فهي العين، يُقال صبيّ منظور: أي أصابته العين. 963 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " العَيْنُ حَقٌ وَلَوْ كانَ شئ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العين (2) ، وإذا اسْتُغْسلْتم فاغْسِلُوا " (3) . قلتُ: قال العلماء: الاستغسال أن يُقال للعائن، وهو الصائب بعينه الناظر بها بالاستحسان: اغسلْ داخلَ إِزارك مما يلي الجلد بماء، ثم يُصبّ على العين، وهو المنظور إليه. 964 - وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يُؤمر العائن أن يَتوضأ ثم يغتسل منه المعين. رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. 965 - وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدريّ رضي

_ (1) قال المصنف في " شرح مسلم ": ذهب أهل لسنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى، أجزى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة الشخص لشخص آخر، وقال المصنف في " شرح مسلم ": قال القاضي عياض: في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء أنه ينبغي إذا عرف أحد بالاصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه، وينبغي للامام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه، ويكف أذاه عن الناس، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي (صلى الله عليه وسلم) دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها حيث لا يتأذّى بها أحد. (2) قال المصنف في " شرح مسلم ": في الحديث إثبات القدر، وهو حق بالنصوص، وإجماع أهل السنة، ومعناه: أن الاشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلا عللى حسب ما قدر ها الله تعالى وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى، وفيه صحة أمر العين، وأنها قوية الضرر، والله أعلم. (3) انظر ما قاله المصنف رحمه الله في " شرح مسلم " حول هذا الموضوع في الطب. (*)

الله عنه قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتعوّذُ من الجانّ وعين الإِنسان حتى نزلت المعوّذتان، فلما نزلتا أخذَ بهما وتركَ ما سواهما " قال الترمذي: حديث حسن. 966 - وروينا في " صحيح البخاري " حديث ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يُعوِّذ الحسن والحسين: " أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وَهامَّةِ وَمِنْ كُلّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ، ويقول: إنَّ أباكُما كانَ يعوّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ ". 967 - وروينا في كتاب ابن السني عن سعيد بن حكيم (1) رضي الله عنه قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا خافَ أن يُصيبَ شيئاً بعينه قال: " اللََّهُمَّ بارِكْ فِيهِ وَلا تَضُرّهُ ". 968 - وروينا فيه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ رأى شَيْئاً فَأعْجَبَهُ فَقالَ: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ " (2) . 869 - وروينا فيه عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا رأى أحَدُكُمْ ما يُعْجِبُهُ في نَفْسِهِ أوْ مَالِهِ فَلْيُبَرّكْ عَلَيْهِ، فإنَّ العَيْنَ حَقُّ ". 970 - وروينا فيه عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِذَا رأى أحدُكم من نفسِه ومالِه وأعْجَبَهُ ما يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بالبَرَكَةِ " (4) . 971 - وذكر الإِمامُ أبو محمد القاضي حسين من أصحابنا رحمهم الله في كتابه " التعليق " في المذهب قال: نظرَ بعضُ الأنبياء (5) صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين إلى

_ (1) في ابن السني عن حزام بن حكيم بن حزام، وهو تابعي مجهول، فهو مرسل، وفي رواية المصنف: عن سعيد بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، وهو ممّن عاصر صغار التابعين، ولم يثبت له لقي بأحد من الصحابة، فيكون على هذا معضلا. (2) رواه أيضا البزار والديلمي، من رواية أبي بكر الهذلي، وهو ضعيف جدا، كما قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5 / 109 قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: قال بعض السلف: من أعجبه شئ من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة - يعني قوله تعالى في سورة الكهف: 36 - (ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ) . (3) ورواه أيضاً أحمد والحاكم وغيرهما، وهو حديث صحيح يشهد له الذي بعده. (4) ورواه أيضاً أحمد والحاكم والصحيح ووافقه الذهبي. (5) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار ": أخرجه في أماليه في " باب ما يقول بعد الصلاة " عن صُهيب رضي الله عنه، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحرك شفتيه بشئ أيام حنين إذا صلى الغداة، فقلنا: يا رسولَ الله! لا تزال تحرك شفتيك بعد صلاة الغداة ولم تكن تفعله، فقال: إن نبيا كان قبلي أعجبته كثرة أمته فقال: لا يروم هؤلاء - أحسبه قال شيئا - فأوحى الله إليه أن خير أمتك بين إحدي ثلاث: إما أن أسلط عيهم الجوع، أو العدو، أو الموت، فعرض؟ عليهم ذلك، فقالوا: أما الجوع فلا طاقة لنا به، ولا العدو، ولكن الموت، فماتَ منهم في ثلاثة أيام تسعون ألفا، فأنا اليوم أقول: اللَّهُمَّ بِكَ أُحاوِلُ، وبك أقاتل، (*) =

باب ما يقول إذا رأى ما يحب وما يكره

قومه يوماً فاستكثَرهم وأعجبُوه، فماتَ منهم في ساعة سبعون ألفاً، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه: أنَّكَ عِنْتَهُمْ، وَلَوْ أنَّكَ إذْ عِنْتَهُمْ حَصَّنْتَهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا، قال: وبأي شئ أُحَصّنُهُمْ؟ فأوحى الله تعالى إليه: تقولُ: حَصَّنْتُكُمْ بالحَيّ القَيُّومِ الَّذي لا يَمُوتُ أَبَدَاً، وَدَفَعْتَ عَنْكُمُ السُّوءَ بِلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ ". قال المعلّق عن القاضي حسين: وكان عادة القاضي رحمه الله إذا نظرَ إلى أصحابه فأعجبَه سَمْتُهم وحسنُ حالهم، حصَّنهم بهذا المذكور، والله أعلم. (بابُ ما يَقول إذا رأى ما يُحِبّ وما يَكره) 972 - روينا في كتاب ابن ماجه وابن السني بإسناد جيد (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا رأى ما يُحِبّ قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ "، وإذا ما يكره قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ على كُلّ حالٍ ". قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حيدث صحيح الإِسناد. (بابُ ما يقولُ إذا نظَرَ إلى السَّماء) يُستحبّ أن يقول: (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النَّار) [آل عمران: 191] إلى آخر الآيات، لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما المخرّج في " صحيحيهما " أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك، وقد سبق بيانه والله أعلم. (بابُ ما يَقول إذا تطيَّرَ بشئ) 973 - روينا في " صحيح مسلم " عن معاوية بن الحكم السلميّ الصحابي رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله منَّا رجال يتطيرون، قال: " ذلك شئ يَجِدُونَه في صُدُورِهِمْ، فَلا يَصُدَّنّهُمْ ". 974 - وروينا في كتاب ابن السني وغيره عن عقبة بن عامر الجهني (2) رضي الله

_ = وبك أصاول " قال الحافظ: حديث صحيح أخرجه أحمد، وأخرج النسائي طرفا منه، وأخرج الترمذي نحو القصة بسنده على شرط مسلم. اه. قال ابن علاّن: ولعل القاضي حسين أشار إلى هذه القصة، ويحتمل أنه أراد غيرها لقوله: فمات في ساعة واحدة سبعون ألفا، والله أعلم. (1) وهو حديث حسن. (2) كذا في الأصول المخطوطة والمطبوعة: عقبة بن عامر الجهني، وهو خطأ، صوابه: عروة - كما في سنن (*) =

باب ما يقول عند دخول الحمام

عنه قال سُئل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن الطِّيَرة فقال: " أصْدَقُها الفأَلُ، وَلا يَرُدُّ مُسْلِماً، وَإِذَا رأيتُمْ مِنَ الطِّيَرَةِ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ فَقولُوا: اللَّهُم لا يأتِي بالحَسَناتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا يَذْهَبُ بالسَّيِّئاتِ إِلاَّ أنْتَ، وَلا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله ". (بابُ ما يَقولُ عندَ دُخول الحمَّام) قيل: يستحبّ أن يُسمِّيَ الله تعالى، وأنْ يسألَه الجنّةَ، ويستعيذَه من النار. 975 - روينا في كتاب ابن السني بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " نِعْمَ البَيْتُ الحَمَّامُ يَدْخُلُهُ المُسْلِمُ، إذَا دَخَلَهُ سألَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الجَنَّةَ وَاسْتَعاذَهُ مِنَ النَّارِ " (1) . (بابُ ما يَقولُ إذا اشترى غُلاماً أو جَاريةً أو دابّةً، وما يقولُه إذا قَضى دَيْناً) يُستحبّ في الأوّل أن يأخذَ بناصيته ويقول: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما جُبِلَ عَلَيْهِ. وقد سبق في كتاب أذكار النكاح الحديث الوارد في نحو ذلك في سنن أبي داود وغيره. 976 - ويقول في قضاء الدَّين " بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومالك وجزاك خيرا ". (بابُ ما يقولُ مَن لا يَثبتُ على الخَيْلِ ويُدعى لهُ به) 977 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " شكوتُ إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أني لا أثبتُ على الخيل، فضربَ بيده في صدري وقال: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هادِياً مَهْدِيّاً ".

_ = أبي داود غيره - بن عامر القرشي، ويقال: الجهني المكي، وهو مختلف في صحبته، وحبيب ابن أبي ثابت الراوي عنه مدلس وقد عنعنه، فالسند ضعيف. (1) وقد صح في الحمام حديث مخالف لهذا، وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : " اتَّقُوا بيتا يقال له: الحمام، قالوا: إنه ينقي وينفع، قال: فمن دخله فليستتر " صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وفيه رد على مَن قال: لا يصح في الحمام حديث. (*)

باب نهي العالم وغيره أن يحدث الناس بما لا يفهمونه، أو يخاف عليهم من تحريف معناه وحمله على خلاف المراد منه

(بابُ نهيِ العالم وغيرِه أن يُحدِّثَ الناسَ بما لا يَفهمونه، أو يُخافُ عليهم من تحريف معناه وحملِهِ على خلاف المراد منه) قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4] . 978 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لمعاذ رضي الله عنه حين طوَّل الصلاة بالجماعة: " أفتَّانٌ أنْتَ (1) يا مُعاذُ "؟. 979 - وروينا في " صحيح البخاري " عن عليّ رضي الله عنه قال: " حدّثوا الناسَ بما يَعرفون (2) ، أتحِبُّون أن يُكذَّب اللَّهُ ورسولُه " (4) . (بابُ استنصات العالم والواعظِ حاضري مجلسِه ليتوَفَّروا على استماعِه) 980 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: " اسْتَنْصِتِ الناسَ "، ثم قال: " لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ ". (بابُ ما يقولُه الرجلُ المُقتدى به) إذا فعل شيئاً في ظاهره مخالفةٌ للصوابِ مع أنه صَوَابٌ اعلم أنه يُستحبُّ للعالم والمعلّم والقاضي والمفتي والشيخ المربّي وغيرهم ممّن يقتدى به ويؤخذ عنه: أن يجتنب الأفعالَ والأقوالَ والتصرّفات التي ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقّاً فيها، لأنه إذا فعلَ ذلك ترتَّبَ عليه مفاسد، من جملتها: توهم كثير ممّن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً وأمراً معمولاً به أبداً، ومنها وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه، وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها أن الناس يُسيئون الظنّ به فينفرون عنه، ويُنَفِّرون غيرهم عن أخذ العلم

_ (1) صيغة مبالغة من الفتنة. وفي البخاري أنه ذلك ثلاثا، أو قال: فاتن كذلك، ومعنى الفتنة هنا أن التطويل سبب لخروجهم من الصلاة ولكراهة الجماعة، وقيل: العذاب لانه عذبهم بالتطويل. (2) حدثوا الناس: أي كلموهم بما يعرفون: أي يدر كون بعقولهم، زاد أبو نُعيم في " مستخرجه " " ودعوا ما ينكرون، واتركوا ما يشتبه عليهم فهمه ". (3) لان السمامع لما لم يفهمه يعتقد استحالته جهلا فلا يعرف وجوده، فيلزم التكذيب. (4) وجاء في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ". (*)

باب ما يقوله التابع للمتبوع إذا فعل ذلك أو نحوه

عنه، وتَسقط رواياته وشهادته، ويبطلُ العمل بفتواه، ويذهبُ ركون النفوس إلى ما يقولُه من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها؟ فإن احتاج إلى شئ من ذلك وكان محقّاً في نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهرَه أو ظهرَ أو رأى المصلحةَ في إظهاره ليعلم جوازه وحكمُ الشرع فيه، فينبغي أن يقولَ: هذا الذي فعلتُه ليس بحرام، أو إنما فعلتُه لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه الذي فعلتُه، وهو كذا وكذا، ودليلُه كذا وكذا. 981 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه قال: " رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم " قامَ على المِنبر، فكبَّرَ وكبر الناس وراءه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عادَ إلى المنبر حتى فرغَ من صلاتِه، ثم أقبلَ على الناس فقال: أيُّها النَّاسُ إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتي ". والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ. 982 - كحديث " إنها صفية " (1) . 983 - وفي البخاري " أن عليّاً شربَ قائماً وقال: رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فعلَ كما رأيتموني فعلتُ " والأحاديثُ والآثارُ في هذا المعنى في الصحيح مشهورة. (بابُ ما يقولُه التابعُ للمتبوعِ إذا فعلَ ذلك أو نحوه) اعلم أنه يُستحبّ للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممّن يُقتدى به شيئاً في ظاهره مخالفة للمعروف أن يسأله عنه بنيّة الاسترشاد، فإن كان قد فعلَه ناسياً تداركَه، وإن كان فعلَه عامِداً وهو صحيحٌ في نفس الأمر، بَيّنه له: 984 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " دفعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) من عَرَفَةَ حتى إذا كان بالشِّعب نزلَ فَبالَ ثم توضأ، فقلتُ: الصلاةَ يا رسول الله، فقال: الصَّلاةُ أمامك "

_ (1) وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم عن صفية قالت: " كان النبي (صلى الله عليه وسلم) معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لانقلب، فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الانصار، فلما رأيا النبي (صلى الله عليه وسلم) أسرعا فقال (صلى الله عليه وسلم) : على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سُبْحانَ اللَّهِ يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا - أو قال: شيئا - ". (*)

باب الحث على المشاورة

قلتُ: إنما قال أُسامة ذلك، لأنه ظنّ أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) نسي صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها قربَ خروجه (1) . 985 - وروينا في " صحيحيهما " قولَ سعد بن أبي وقاص: " يا رسولَ الله، ما لك عن فلان (2) والله إني لأراه مؤمناً ". 986 - وفي " صحيح مسلم " عن بريدة " أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) صلَّى الصلواتِ يومَ الفتح بوُضوء واحد، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صنعتَ اليومَ شيئاً لم تكنْ تصنعه، فقال: عَمْداً صَنَعْتُهُ يا عُمَرُ " ونظائر هذا كثيرة في الصحيح مشهورة. (بابُ الحَثّ على المُشَاورة) قال الله تعالى: (وشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) [آل عمران: 159] والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ مشهورة، وتُغني هذه الآية الكريمة عن كلّ شئ، فإنه إذا أمرَ الله سبحانه وتعالى في كتابه نصّاً جليا نبيّه (صلى الله عليه وسلم) بالمشاورة مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟. واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن يَثقُ بدينه وخبرته وحذقه ونصيحته ووَرَعه وشفقته. ويُستحبّ أن يُشاور جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر، ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شَيْئاً مِنْ ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة، كالسلطان، والقاضي، ونحوهما، والأحاديث الصحيحة في مشاورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحابَه ورجوعِه إلى أقوالهم كثيرة مشهورة، ثم فائدة المشاورة القَول من المستشار إذا كان بالصفة المذكورة، ولم تظهر المفسدة فيما أشار به، وعلى المستشار بذل الوسع في النصيحة وإعمال الفكر في ذلك. 987 - فقد روينا في " صحيح مسلم " عن تميم الداريّ رضي الله عنه عن

_ (1) أي خروج وقت المغرب عند نزوله بذلك الشعب، فذكر بها لذلك، فبين له النبي (صلى الله عليه وسلم) أن التأخير لجمع التأخير. (2) أي: ما سبب عدولك عنه؟. (3) في ذلك دليل على المشاورة وتحرير الرأي وتنقيحه والفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعا، وأمر الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وسلم) بمشاورتهم تطييبا لخواطرهم وتنبيها على رضاه (صلى الله عليه وسلم) حيث جعلهم أهلا للمشاورة إيذانا بأنهم أهل المحبة الصادقة والمناصحة، إذ لا يستشير الانسان إلا من كان فيه المودة والعقل والتجربة. (*)

باب الحث على طيب الكلام

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " الدّينُ النَّصِيحَةُ "، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لِلَّهِ وكِتابِهِ وَرَسُولِهِ وأئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ ". 988 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " المستشار مؤتمن " (1) . (بابُ الحَثِّ على طِيْبِ الكَلاَم) قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88] . 989 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ". 990 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْها أوْ تَرْفَعُ لَهُ عَليْها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، قال: وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلّ خُطْوَةٍ تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ". قلتُ: السُّلاَمَى بضم السين وتخفيف اللام: أحدُ مفاصل أعضاء الإِنسان، وجمعه: سلاميات بضم السين وفتح الميم وتخفيف الياء، وتقدم ضبطها في أوائل الكتاب. 991 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً ولو أن تلقى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ". (بابُ استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب) 992 - روينا في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كلاماً فصلاً يفهمه كلُّ مَن يسمعُه. 993 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أنس رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثا ".

_ (1) وهو حديث حسن، وفي الباب عن أم سلمة، وابن مسعود، وسمرة، وعلي، وعبد الله بن الزبير، والهيثم بن التيهان، والنعمان بن بشير، وجابر، وغيرهم رضي الله عنهم. (*)

باب المزاح

(بابُ المزاح) 994 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقولُ لأخيه الصغير (1) : " يا أبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُّغَيْرُ " (2) . 995 - وروينا في كتابي أبي داود والترمذي عن أنس أيضاً أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال له: " يا ذَا الأُذُنَيْنِ " (3) قال الترمذي: حديث صحيح. 996 - وروينا في كتابيهما أيضاً " أن رجلاً أتى النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسولَ الله احملني، فقال: إني حامِلُكَ على وَلَدِ النَّاقَةِ، فقال: يا رسولَ الله وما أصنعُ بولد الناقة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : وَهَلْ تَلدُ الإِبلَ إِلاَّ النُّوقُ؟ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 997 - وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ الله، إنك تداعبنا (4) ، قال: " إني لا أقُولُ إِلاَّ حَقَّاً " قال الترمذي: حديث حسن. 998 - وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا تُمَارِ أخاكَ، وَلا تُمازِحْهُ، وَلا تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ " (5) . قال العلماء: المزاحُ المنهيُّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوم عليه، فإنه يُورث الضحك وقسوةَ القلب، ويُشغل عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين، ويؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإِيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقطُ المهابةَ والوقارَ. فأما ما سَلِمَ من

_ (1) أي: لاخيه من أمه. (2) كان يقول له ذلك على سبيل الممازحة وجبر خاطر ذلك الصغير لما أصابه من الحزن على الطير الذي فر منه بعد حبسه. (3) أي: يا صاحب الاذنين، ووصفه به مدحا لذكائه وفطنته وحسن استماعه، لان مِنْ خَلْقِ اللَّهِ له أذنين سميعتين كان أدعى لحفظه ووعيه جميع ما يسمعه. (4) أي: تمازحنا. قال الزمخشري: الدعابة كالنكاية، والمزاحة مصدر داعب: إذ مزح، والمداعبة مفاعلة منه. اه. وقال في " المصباح " دعب يدعب كمزح يمزح وزنا ومعنى، فهو داعب، والدعابة بالضم: اسم لما يستملح منه ذلك. اه. قال بعضهم: وتصدير الجملة ب " إن " يدل على إنكار سابق كأنهم قالوا: سبق أن منعتنا عن المزاح ونحن أتباعك مأمورون بأتباعك في الافعال والاخلاق، فقال: " لا أقُولُ إِلاَّ حقا " جوابا للسؤال على وجه يتضمن العلة الباعثة على نهيهم عن المداعبة، والمعني: إني لا أقُولُ إلا حقا، فمن قدر على المداعبة كذلك فجائزة، والنهي عما ليس كذلك، وأطلق النهي نظرا إلى حال الاغلب من الناس، كما هو من القواعد الشرعية في بناء الامر على الحال الاغلب. (5) وإسناده ضعيف. (*)

باب الشفاعة

هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يفعله، فإنه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منعَ قطعاً، بل هو سنّةٌ مستحبةٌ إذا كان بهذه الصفة، فاعتمدْ ما نقلناه عن العلماء وحقَّقناه في هذه الأحاديث وبيان أحكامها، فإنه مما يَعظمُ الاحتياجُ إليه، وبالله التوفيق. (بابُ الشَّفاعَة) اعلم أنه تُستحبّ الشفاعة إلى ولاة الأمر وغيرهم من أصحاب الحقوق والمستوفين لها ما لم تكن شفاعةً في حدٍّ أو شفاعةً في أمر لا يجوز تركهُ، كالشفاعة إلى ناظرٍ على طفل، أو مجنون أو وقف أو نحو ذلك في ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه كلُّها شفاعة محرّمة تحرم على الشافع ويحرم على المشفوع إليه قبولها، ويحرم على غيرهما السعي فيها إذا علمها، ودلائلُ جميع ما ذكرته ظاهرة في الكتاب والسنّة وأقوال علماء الأمة، قال الله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها، وكانَ اللَّهُ على كل شئ مُقِيتاً) * [النساء: 85] . المقيت: المقتدر والمقدّر، هذا قول أهل اللغة، وهو محكيٌّ عن ابن عباس وآخرين من المفسرين. وقال آخرون منهم المقيت: الحفيظ، وقيل المقيت: الذي عليه قوت كل دابة ورزقها، وقال الكلبي: المقيت المجازي بالحسنة والسيئة، وقيل: المقيت: الشهيد، وهو راجع إلى معنى الحفيظ. وأما الكِفْل فهو الحظ والنصيب، وأما الشفاعة المذكورة في الآية، فالجمهور على أنها هذه الشفاعة المعروفة، وهي شفاعة الناس بعضهم في بعض، وقيل: الشفاعة الحسنة: أن يشفع إيمانه بأنه يقاتل الكفار، والله أعلم. 999 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّه على لسانِ نَبِيِّهِ ما أحَبَّ ". وفي رواية " ما شاءَ " وفي رواية أبي داود " اشْفَعُوا إِليَّ لِتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ على لِسانِ نَبِيِّهِ ما شاءَ " وهذه الرواية توضّح معنى رواية الصحيحين. 1000 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها قال: قال لها النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " لَوْ رَاجعتِيهِ؟ قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أشْفَعُ، قالتْ: لا حاجةَ لي فيه ".

باب استحباب التبشير والتهنئة

1001 - وروينا في " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال: لما قَدِمَ عيينةُ بن حصن بن حذيفة بن بدر نزلَ على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمرُ رضي الله عنه، فقال عيينة: يا بن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه، فاستأذنَ له عمرَ، فلما دخل قال: هي يا بن الخطاب، فوالله ما تُعطينا الجزلَ، ولا تحكمُ بيننا بالعدل، فغضبَ عمر حتى همّ أن يُوقع به، فقال الحرّ: يا أميرَ المؤمنين إن الله عزّ وجلّ قال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (خُذِ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهِلين) [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فو الله ما جاوزها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله تعالى. (بابُ استحباب التَّبْشيرِ والتَّهنئةِ) قال الله تعالى: (فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهُو قائِمٌ يُصلّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) [آل عمران: 39] وقال تعالى: (ولمَّا جاءتْ رُسُلُنا إبرَاهِيمَ بالبُشْرَى) [العنكبوت: 31] وقال تعالى: (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى) [هود: 69] وقال تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيمٍ) [الصَّافات: 101] وقال تعالى: (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات: 28] وقال تعالى: (قالُوا لا تَوْجَلْ إنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر: 53] وقال تعالى: (وَامْرأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بإسْحَقَ وَمنْ وَرَاءِ إسْحَقَ يَعْقُوبََ) [هود: 71] وقال تعالى: (إِذ قَالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ... ) الآية [آل عمران: 45] ، وقال تعالى: (ذلكَ الَّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عبادَهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحات) [الشورى: 23] وقال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ) [الزمر: 17 - 18] وقال تعالى: (وَأبْشِرُوا بالجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصّلت: 30] وقال تعالى: (يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ) [الحديد: 12] وقال تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وجنات لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 21] ..وأما الأحاديث الواردة في البشارة، فكثيرة جداً في الصحيح مشهورة. 1002 - فمنها حديث تبشير خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب لا نصبَ فيه ولا صخب. 1003 - ومنها حديث كعب بن مالك رضي الله عنه المخرّج في " الصحيحين " في قصة

باب جواز التعجب بلفظ التسبيح والتهليل ونحوهما

توبته قال: سمعت صوت صارخ يقولُ بأعلى صوته: يا كعبَ بن مالك أبشر، فذهبَ الناسُ يبشروننا، وانطلقتُ أتأمّم رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) (1) يتلقاني الناسُ فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: ليهنئك توبةُ الله تعالى عليك، حتى دخلتُ المسجدَ (2) ، فإذا رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) حولَه الناس، فقام طلحةُ بن عبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنّأني، وكان كعبٌ لا ينساها لطلحة، قال كعبُ: فلما سلَّمتُ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال وهو يُبْرقُ وجهُه من السرور: " أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمُّكَ ". (بابُ جَواز التعجّب بلفظ التَّسبيحِ والتَّهليلِ ونحوهما) 1004 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لقيه وهو جُنُب، فانسلَّ فذهبَ فاغتسلَ، فتفقَّده النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فلما جاء قال: " أيْنَ كُنْتَ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ " قال: يا رسول الله لقيتني وأنا جُنُب فكرهتُ أن أُجالسَك حتى أغتسل، فقال: " سُبْحانَ اللَّه إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ ". 1005 - وروينا في " صحيحيهما " عن عائشة رضي الله عنها، أن امرأة سألتِ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) عن غسلها من الحيض، فأمرَها كيف تغتسلُ قال: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّري بِهَا، قالت: كيف أتطهرُ بها؟ قال: تَطَهرِي بِهَا، قالت: كَيْفَ؟ قال: سبْحانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي، فاجتذبتُها إليّ فقلتُ: تتبعي أثرَ الدم ". قلتُ: هذا لفظ إحدى روايات البخاري، وباقيها روايات مسلم بمعناه، والفِرصة بكسر الفاء وبالصاد المهملة: القطعة. والمسك بكسر الميم: وهو الطيب المعروف، وقيل الميم مفتوحة، والمراد الجلد، وقيل أقوال كثيرة، والمراد أنها تأخذ قليلاً من مسك فتجعله في قطنة أو صوفة أو خرقة أو نحوها فتجعله في الفرج لتُطيِّبَ المحلّ وتزيلَ الرائحةَ الكريهة، وقيل: إن المطلوب منه إسراع علوق الولد، وهو ضعيف، والله أعلم. 1006 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أنس رضي الله عنه " أن أُختَ الرُّبَيِّع أُمّ حارثة جرحت إنساناً، فاختصموا إلى النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: القِصَاصَ القِصَاصَ (3) ، فقالت أم

_ (1) أي: أقصده، يقال: تأممه، وتيممه، وأمه، ويمه، أي قصده. (2) يعني مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة. (3) بنصهما، أي: أدّوا القصاصَ وسلموه لمستحقه. (*)

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الربيع: يا رسول الله أتقتصّ من فلانة، والله لا يُقتصُّ منها! (1) فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) : سُبْحانَ اللَّهِ يا أُمَّ الرَبيعِ القِصَاصُ كتابُ الله " (2) . قلتُ: أصل الحديث في " الصحيحين "، ولكن هذا المذكور لفظ مسلم وهو غرضنا هنا، والرُبَيِّع بضم الراء وفتح الباء الموحدة وكسر الياء المشددة. 1007 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عمران بن الحُصين رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في قصة المرأة التي أُسرت، فانفلتتْ وركبتْ ناقةَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، ونذرتْ إن نجّاها الله تعالى لتنحرنّها، فجاءت فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: " سُبْحانَ الله بِئْسَ ما جَزَتْها ". 1008 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في حديث الاستئذان أنه قال لعمر رضي الله عنه ... الحديث، وفي آخره " يا ابْنَ الخَطابِ لا تَكُونَنَّ عَذَاباً على أصْحابِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: سبحانَ الله، إنما سمعتُ شيئاً فأحببتُ أن أثَّبَّتَ ". 1009 - وروينا في " الصحيحين " في حديث عبد الله بن سلام الطويل لما قيل: إنك من أهل الجنة، قال: سبحان الله ما ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لم يعلم ... وذكر الحديث. (بابُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ) هذا الباب أهمُّ الأبواب، أو من أهمِّها لكثرة النصوص الواردة فيه، لعظم موقعه، وشدّة الاهتمام به، وكثرة تساهل أكثر الناس فيه، ولا يمكن استقصاء ما فيه هنا، لكن لا نخلّ بشئ من أصوله، وقد صنَّفَ العلماءُ فيه متفرّقات، وقد جمعتُ قطعةً منه في أوائل " شرح صحيح مسلم " ونبّهت فيه على مهمات لا يُستغنى عن معرفتها، قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ، ويأْمرونَ بالمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عن المنكر

_ (1) ليس معناه رد حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص، واستحباب الشفاعة الشفاعة إليهم في العفو، وإنما حلفت ثقة بهم أن لا يحنثوها، أو ثقة بفضل الله ولطفه بها أن لا يحنثها، بل يلهمهم العفو. (2) أي: حكم كتاب الله وجوب القصاص، وفي الحديث استحباب العفو عن القصاص، واستحباب الشفاعة في العفو، وأن فيه الخبرة في القصاص والدية إلى مستحقه، لا المستحق عليه، وفيه إثبات القصاص بين الرجل والمرأة. (*)

وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104] وقال تعالى: (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ) [الأعراف: 199] وقال تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ والمُؤْمناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ، يأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ) [التوبة: 71] وقال تعالى: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة: 79] والآيات بمعنى ما ذكرته مشهورة. 1011 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ ". 1011 - وروينا في كتاب الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ تَعالى أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجَابَ لَكُمْ " قال الترمذي: حديث حسن. 1012 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنكم تقرؤون هذه الآية: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105] وإني سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إِنَّ النَّاسَ إذَا رأوا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا على يَدَيْهِ أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ مِنْهُ ". 1013 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أفْضَلُ الجهادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عنْدَ سُلْطَانٍ جائرٍ ". قال الترمذي: حديث حسن. قلت: والأحاديثُ في الباب أشهر من أن تُذكر، وهذه الآية الكريمة مما يَغترّ بها كثير من الجاهلين ويحملونها على غير وجهها، بل الصواب في معناها: أنكم إذا فعلتم ما أُمرتم به فلا يَضرّكم ضَلالةُ مَن ضلّ. ومن جملة ما أمروا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية قريبة المعنى من قوله تعالى: (ما على الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ) [العنكبوت: 18] . واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط وصفات معروفة ليس هذا موضع بسطها، وأحسنُ مظانّها " إحياء علوم الدين "، وقد أوضحتُ مهماتها في شرح مسلم "، وبالله التوفيق.

كتاب حفظ اللسان

(كتاب حفظ اللسان) قال الله تعالى: (وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] وقال الله تعالى: (إنَّ رَبَّكَ لَبالمِرْصَادِ) [الفجر: 14] . وقد ذكرت ما يَسَّرَهُ الله سبحانه وتعالى من الأذكار المستحبة ونحوها فيما سبقَ، وأردتُ أن أضمَّ إليها ما يُكره أو يَحرم من الألفاظ ليكونَ الكتابُ جامعاً لأحكام الألفاظ، ومُبيِّناً أقسامَها، فأذكرُ من ذلك مقاصدَ يحتاج إلى معرفتها كلُّ متدين، وأكثرُ ما أذكره معروف، فلهذا أترك الأدلة في أكثره، وبالله التوفيق. فصل: اعلم أنه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسنّة الإِمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شئ. 1014 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " من كان يؤمن باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ " (1) . قلت: فهذا الحديث المتفق على صحته نصّ صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شكّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم. وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر. 1015 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي موسى الأشعري قال: قلتُ يا رسولُ الله، أيُّ المسلمين أفضلُ؟ قال: " مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِهِ ". 1016 - وروينا في " صحيح البخاري " عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ يَضْمَنْ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ وَما بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ ". 1017 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة، أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إِنَّ العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيها يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَد مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ " وفي رواية البخاري: " أبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ " مِن غيرِ ذِكْرِ " المغرب "، ومعنى يتبين: يتفكر في أنها خير أم لا. 1018 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم)

_ (1) قال المصنف: قال أهل اللغة: صمت يصمت بضم الميم صموتا؟ وصمتا: سكت. (*)

قال: " إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعالى ما يُلْقِي لَهَا بالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ تَعالى بها دَرَجاتٍ، وَإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخْطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقِي لَها بالاً يَهْوِي بِها في جَهَنَّمَ ". قلت: كذا في أصول البخاري " يَرْفَعُ اللَّهُ بِها دَرَجاتٍ " وهو صحيح: أي درجاته، أو يكون تقديره: يرفعه، ويُلقي، بالقاف. 1019 - وروينا في موطأ الإِمام مالك وكتابي الترمذي وابن ماجه عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تعالى ما كان يظن أن تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى ما كانَ يظن أن تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1020 - وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، حدّثني بأمر أعتصم به، قال: " قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ "، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما يخاف عليّ، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: " هَذَا " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1021 - وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي " (1) . 1022 - وروينا فيه عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ وَقاهُ الله تَعالى شَرَّ ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَشَرَّ ما بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةِ " قال الترمذي: حديث حسن. 1023 - وروينا فيه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسولَ الله ما النجاة؟ قال: " أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ على خَطِيئَتِكَ " قال الترمذي: حديث حسن. 1024 - وروينا فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَم فإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسَانَ (2) فَتَقُولُ: اتقِ اللَّهَ فِينا فإنما نَحْنُ بك، فإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وَإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا " (3) .

_ (1) وإسناده حسن. (2) أي تذل وتخضع. (3) رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا، وأورده الحافظ السيوطي في " الجامع الصغير "، وزاد نسبته لابن خزيمة، والبيهقي في " شعب الايمان "، وهو حديث حسن. (*)

1025 - وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أُمِّ حبيبة رضي الله عنها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) " كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ، إِلاَّ أمْراً بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ أوْ ذِكْراً لله تَعالى " (1) . 1026 - وروينا في كتاب الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني منَ النَّارِ، قال: " لَقَدْ سألْتَ عَنْ عظيم وإنه ليسير على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثم قال: ألا أدُّلُّكَ على أبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ (2) ، وَالصَّدَقَةُ تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تلا (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) حتى بلغ (يعملون) " [الم السجدة: 16] ثم قال: " ألا أُخْبِرُكَ بِرأْس الأمْرِ، وعموده، وذروة سنامه؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد " (3) ، ثم قال: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله " (4) ؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال: " كُفَّ عَلَيْكَ (5) هَذَا "، قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ (6) ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ (7) ألْسِنَتِهِمْ؟ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: الذِّروة بكسر الذال المعجمة وضمّها: وهي أعلاه. 1027 - وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ " حديث حسن. 1028 - وروينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم)

_ (1) وإسناده ضعيف. (2) أي وقاية من سورة الشهوة في الدنيا والنار في العقبى. (3) إذ به الذب عن الدين ودفع غوائل المشركين، فيكون من أعلى شعبه. (4) أي بمقصوده وجماعه، أي بما يقوم به. (5) أي عنك، أو ضمن " كف " معنى " احبس والمراد: حبس اللسان عن الشر. (6) وليس المراد الدعاء عليه، بل هذا مما جرت به عادة العرب للتحريض على الشئ، والتهييج إليه، أو لاستعظامه. (7) جمع حصيدة بمعنى محصودة، أي: ما تلفظ به ألسنتهم، شبه ما تكسبه الالسنة من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب، وشبه اللسان في تكميله ذلك بحد المنجل الذي يحصد به الزرع. (*)

قال: " مَنْ صَمَتَ نَجا " إسناده ضعيف، وإنما ذكرته لأُبيِّنه لكونه مشهوراً (1) ، والأحاديث الصحيحة بنحو ما ذكرته كثيرة، وفيما أشرت به كفاية لمن وفّق، وسيأتي إن شاء الله في " باب الغيبة " جُمَل من ذلك، وبالله التوفيق. وأما الآثار عن السلف وغيرهم في هذا الباب فكثيرة، ولا حاجة إليها مع ما سبق، لكن ننبّه على عيونٍ منها، بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي: قال: حفظ اللسان. 1029 - وروينا عن أبي عليّ الفُضيل بن عِياض رضي الله عنه قال: مَنْ عَدّ كلامَه من عمله قلّ كلامُه فيما لا يعنيه، وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه الله لصاحبه الرَّبِيع (2) : يا ربيعُ لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها. 1030 - وروينا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما من شئ أحق بطول السجن من اللسان. وقال غيرُه: مَثَلُ اللسان مَثَلُ السَّبُع إن لم تُوثقه عَدَا عليك. وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القُشيري رحمه الله في " رسالته " المشهورة قال: الصمتُ سلامةٌ، وهو الأصل، والسكوتُ في وقته صفةُ الرجال، كما أن النطق في موضعه أشرفُ الخصال، قال: سمعت أبا عليّ الدقاق رضي الله عنه يقول: مَنْ سكتَ عن الحقّ فهو شيطانٌ أخرس. قال: فأما إيثار أصحاب المجاهدة السموتَ، فلِمَا علموا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظّ النفس وإظهار صفاتِ المدح، والميل إلى أن يتميزَ بين أشكاله بحسن النطق وغير هذا من الآفات، وذلك نعتُ أرباب الرياضة، وهو أحدُ أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق. ومما أنشدوه في هذا الباب: احفظْ لسانَك أيُّها الإِنسانُ * لا يلدغنَّك إنه ثُعبانُ كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه * قد كانَ هابَ لقاءَه الشجعان

_ (1) ولكن له شواهد بالمعنى، منها ما رواه الطبراني في " حسن الصمت " عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . " عليك بطول لصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك " وسنده جيد كما قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة "، وقد صنف ابن أبي الدنيا في الصمت جزاء حافلا، ولخصه السيوطي مع زيادة وسماه " حسن الصمت ". (2) هو الربيع بن سليمان المرادي. (*)

باب تحريم الغيبة والنميمة

وقال الرِّيَاشِيُّ رحمه الله: لعمرُك إنَّ في ذنبي لَشُغْلاً * لِنَفْسِي عن ذنوب بني أُمَيَّة على ربِّي حِسَابُهمُ إليه * تَنَاهَى عِلمُ ذلكَ لا إِليَّهْ وليسَ بضائري ما قَدْ أتوْهُ * إذا ما اللَّه أصلحَ ما لديه (بابُ تحريم الغِيبَةِ والنَّمِيمَة) اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشاراً في الناس، حتى ما يسلمُ منهما إلا القليل من الناس، فلعموم الحاجة إلى التحذير منهما بدأتُ بهما. فأما الغيبة: فهي ذكرُك الإِنسانَ بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه أو، دنياه أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، وحركته وبشاشته وخلاعته، وعبوسه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ، أو أشرتَ إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك أو نحو ذلك. أما البدن، فكقولك: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل أسود، أصفر. وأما الدِّيْنُ، فكقولك: فاسق، سارق خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارّاً بوالده، لا يضعُ الزكاة مواضعَها، لا يجتنبُ الغيبة. وأما الدنيا: فقليلُ الأدب، يتهاونُ بالناس، لا يرى لأحد عليه حقاً، كثيرُ الكلام، كثيرُ الأكل أو النوم، ينامُ في غير وقته، يجلسُ في غير موضعه. وأما المتعلِّق بوالده، فكقوله: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكاف، بزاز، نخاس، نجار، حداد، حائك. وأما الخلق، فكقوله: سيئ الخلق، متكبّر، مُرَاء، عجول، جبَّار، عاجز، ضعيفُ القلب، مُتهوِّر، عبوس، خليع، ونحوه. وأما الثوب: فواسع الكمّ، طويل الذيل، وسخ الثوب ونحو ذلك، ويُقاس الباقي بما ذكرناه. وضابطُه: ذكرُه بما يكره. وقد نقل الإِمام أبو حامد الغزالي إجماع المسلمين على أن الغيبة: ذكرُك غيرَك بما يكرَهُ، وسيأتي الحديث الصحيح المصرِّح بذلك. وأما النميمة: فهي نقلُ كلام الناس بعضِهم إلى بعضٍ على جهةِ الإِفساد. هذا بيانهما. وأما حكمهما، فهما محرّمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرَ على تحريمهما

الدلائلُ الصريحةُ من الكتاب والسنّة وإجماع الأمة، قال الله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [الحجرات: 12] وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (1) [الهمزة: 1] وقال تعالى: (هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11] . 1031 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ ". 1032 - وروينا في " صحيحيهما " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرّ بقبرين، فقال: " إنَّهُما يُعَذَّبانِ ومَا يُعَذَّبانِ في كَبير " قال: وفي رواية البخاري: " بلى إنَّه كَبيرٌ، أمَّا أحَدُهُما، فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، وأما الآخَرُ، فَكانَ لا يَسْتَتِرُ (2) مِنْ بَوْلِهِ ". قلتُ: قال العلماء: معنى " وما يُعذّبان في كبير " أي: في كبير في زعمهما، أو كبير تركه عليهما. 1033 - وروينا في " صحيح مسلم " وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أتَدْرُونَ ما الغِيْبَةُ؟ " قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال: " ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ "، قيل: أفرأيتَ إنْ كانَ في أخي ما أقولُ، قال: " إنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ " (3) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1034 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال في خطبته يوم النحر بِمنىً في حجة الوداع: " إنَّ دِماءَكُمْ وَأمْوَالكُمْ وأعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بلدكم هَذَا ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ". 1035 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قلتُ للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) : حسبُك من صفيّة كذا وكذا " قال بعضُ الرواة: تعني قصيرة، فقال: " لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ "، قالت: وحكيتُ له إنساناً (4) فقال: " ما أُحِبُّ أني حَكَيْتُ إنساناً (5) وأنَّ لي كَذَا وكَذَا " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

_ (1) قال مجاهد: الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. (2) روي ثلاث روايات: يستتر، ويستنزه، وكلها صحيحة، ومعناه: لا يتجنبه ويتحرز منه. (3) من البهت، هو الكذب والافتراء، أي: كذبت وافتريت عليه. (4) أي ذكرته بما يكره من أفعاله أو أحواله. (5) أي: بما يكرهه. (*)

باب بيان مهمات تتعلق بحد الغيبة

قلتُ: مزجته: أي خالطته مخالطة يتغيرُ بها طعمُه أو ريحُه لشدّة نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ (وَمَا يَنْطقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3] نسألُ اللَّه الكريم لطفه والعافية مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ. 1036 - وروينا في سنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أظْفارٌ مِنْ نُحاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤُلاءِ يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَؤُلاءِ الَّذينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أعْرَاضِهِمْ " (1) . 1037 - وروينا فيه عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ مِن أرْبَى الرّبا الاسْتِطالَةَ في عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقّ " (2) . 1038 - وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَخونُهُ وَلا يَكْذِبُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ، ومَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى ها هنا، بحسب امرئ مِنَ الشر أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلمَ " قال الترمذي: حديث حسن. قلتُ: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده، وبالله التوفيق. (بابُ بيانِ مُهِمَّاتٍ تتعلّقُ بحدِّ الغِيبَة) قد ذكرنا في الباب السابق أن الغيبة: ذكرك الإِسان بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو فِي كِتابِكَ، أوْ رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك، أو يدك أو رأسك. وضابطُه: كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرّمة، ومن ذلك المحاكاة، بأن يمشي متعارجاً أو مُطَأْطِئاً أو على غير ذلك من الهيئات، مريداً حكاية هيئة من يَتَنَقَّصُهُ بذلك، فكلُّ ذلك حرام بلا خلاف، ومن ذلك إذا ذَكرَ مُصنفُ كتاب شخصاً بعينه في كتابه قائلاً: قال فلان كذا مريداً تنقيصه والشناعةَ عليه فهو حرام، فإن أرادَ بيانَ غلطه لئلا يُقلَّدَ، أو بيانَ ضعفه في العلم لئلا يُغترّ به ويُقبل قوله، فهذا ليس غيبة، بل نصيحة واجبة يُثاب عليها إذا أراد

_ (1) إشارة إلى عظم إثم الغيبة، وأنه لا يقاومها ما أعطيه من غيرها وإن كن كثيرا، والمعنى: ما أحب الجمع بين المحاكاة وحصول كذا وكذا من الدنيا وما فيها بسبب المحاكاة، فإنها أمر مذموم. (2) ورواه أيضاً أحمد في " المسند " وغيره، وهو حديث حسن. (3) وهو حديث حسن. (*)

ذلك، وكذا إذا قال المصنف أو غيره: قال قوم أو جماعة كذا، أو وهذا غلط أو خطأ أو جَهالة وغفلة ونحو ذلك فليس غيبة، إنما الغيبة ذكر الإِنسان بعينه أو جماعة معينين. ومن الغيبة المحرّمة قولك: فعل كذا بعضُ الناس، أو بعض الفقهاء، أو بعضُ من يَدّعي العلم، أو بعضُ المفتين، أو بعض مَن يُنسب إلى الصلاح أو يَدّعي الزهدَ، أو بعض مَن مرّ بنا اليوم، أو بعضَ مَن رأيناه، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه لحصول التفهيم. ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فيُقال لأحدهم: كيف حال فلان؟ فيقول: الله يُصلحنا، الله يغفر لنا، الله يُصلحه، نسأل الله العافية، نحمدُ الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشرّ، الله يُعافينا من قلّة الحياء، الله يتوبُ علينا، وما أشبه ذلك مما يفهم تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال: فلان يُبتلى بما ابتلينا به كلُّنا، أو ماله حيلة في هذا، كلُّنا نفعلُه، وهذه أمثلة وإلا فضابط الغيبة: تفهيمك المخاطب نقص إنسان كما سبق، وكلُّ هذا معلوم من مقتضى الحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن " صحيح مسلم " وغيره في حدّ الغيبة، والله أعلم. فصل: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها فيجب على من سمع إنسانا يبتدئ بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإِنكارُ بقلبه ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإِنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، إن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: أسكتْ وهو يشتهي بقلبه استمرارُه، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإِثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإِنكار، أو أنكر فلم يُقبل منه ولم يُمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإِصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكرَ الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: (وَإِذَا رأيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يخوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68] . وروينا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه دُعي إلى وليمة، فحضرَ، فذكروا

باب بيان ما يدفع به الغيبة عن نفسه

رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل، فقال إبراهيم: أنا فعلتُ هذا بنفسي حيثُ حضرتُ موضعاً يُغتاب فيه الناس، فخرج ولم يأكلْ ثلاثة أيام. ومما أنشدوه في هذا المعنى: وَسَمْعَكَ صُنْ عن سماعِ القبيحِ * كصَوْنِ اللسانِ عن النُّطْقِ بِهْ فإنَّكَ عندَ سماعِ القبيحِ * شريكٌ لقائِلِه فانتبِهْ (بابُ بَيانِ ما يَدْفَعُ به الغيبةَ عن نفسِه) اعلم أن هذا الباب له أدلةٌ كثيرةٌ في الكتاب والسنّة، ولكني أقتصرُ منه على الإِشارة إلى أحرف، فمن كان موفَّقاً انزجرَ بها، ومن لم يكن كذلك فلا ينزجر بمجلدات. وعمدة الباب أن يعرضَ على نفسه ما ذكرناه من النصوص في تحريم الغيبة، ثم يفكر في قول الله تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] وقوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15] . 1039 - وما ذكرناه من الحديث الصحيح " إنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله تعالى ما يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم " وغير ذلك مما قدّمناه في " باب حفظ اللسان " " وباب الغيبة "، ويضمّ إلى ذلك قولهم: الله معي، الله شاهدي، الله ناظر إليّ. وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً قال له: إنك تغتابني، فقال: ما بلغَ قدرُك عندي أن أحكِّمَكَ في حسناتي. وروينا عن ابن المبارك رحمه الله قال: لو كنتُ مُغتاباً أحداً لاغتبتُ والديّ لأنهما أحقُّ بحسناتي. (بابُ بَيانِ ما يُبَاحُ مِن الغِيبَة) اعلم أنَّ الغيبةَ وإن كانت محرّمة فإنها تُباح في أحوال للمصلحة. والمُجوِّزُ لهَا غرض صحيح شرعي لا يمكن الوصولُ إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب. الأوّل: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممّن له ولاية أو له قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكرُ أن فلاناً ظلمني، وفعل بي كذا، وأخذ لي كذا، ونحو ذلك. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعملُ كذا فازجرْه عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.

الثالث: الاستفتاء، بأن يقولَ للمفتي: ظلمني، أبي أو أخي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك، أم لا؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقّي ودفع الظلم عني؟ ونحو ذلك. وكذلك قوله: زوجتي تفعلُ معي كذا، أو زوجي يفعلُ كذا، ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط أن يقول: ما تقولُ في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج أو زوجة تفعلُ كذا، ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز، لحديث هند الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وقولُها: " يا رسول الله، إن أبا سفيانَ رجلٌ شحيح.." الحديث، ولم ينهها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) . الرابع: تحذير المسلمين من الشرّ ونصيحتهم، وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة للحديث والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة. ومننها ما استشارك إنسان في مصاهرته، أو مشاركته، أو إيداعه، أو الإِيداع عنده، أو معاملته بغير ذلك، وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة، فإن حصل الغرض بمجرّد قولك لا تصلحُ لك معاملتُه، أو مصاهرُته، أو لا تفعلْ هذا، أو نحو ذلك، لم تجز الزيادةُ بذكر المساوئ وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعينه فاذكره بصريحه. ومنها إذا رأيتَ مَن يشتري عبداً يعروف بالسرقة أو الزنا أو الشرب أو غيرها، فعليك أن تبيّن ذلك للمشتري إن لم يكن عالماً به، ولا يختصّ بذلك، بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيباً وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه. ومنها إذا رأيت متفقهاً يتردَّدُ إلى مبتدعٍ أو فاسقٍ يأخذ عنه العلم خِفْتَ أن يتضرَّرَ المتفقّه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، ويُشترط أن يقصدَ النصيحةَ، وهذا مما يُغلَطُ فيه، وقد يَحملُ المُتكلمَ بذلك الحسدُ، أو يُلَبِّسُ الشيطانُ عليه ذلك، ويُخيَّلُ إليه أنه نصيحةٌ وشفقةٌ، فليتفطَّنْ لذلك. ومنها أن لا يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيلَه ويُولِّي من يَصلحُ أو يعلم ذلك منه لتعامله بمقتضة حاله ولا يغترّ به، وأن يسعى في أن يحثَّه على الاستقامة أو يستبدل به. الخامس: أن يكون مُجاهراً بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو مصادرة

الناس، وأخذ المُكس، وجباية الأموال ظلماً، وتولّي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس: التعريف، فإذا كان الإِنسان معروفاً بلقب: كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، والأفطس، وغيرهم، جاز تعريفه بذلك بنيّة التعريف، ويحرمُ إطلاقُه على جهة التنقص ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى. فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء مما تُباح بها الغيبة على ما ذكرناه. وممّن نصّ عليها هكذا الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء " وآخرون من العلماء، ودلائلُها ظاهرة من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وأكثرُ هذه الأسباب مجمع على جواز الغيبة بها. 1040 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذنَ على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: " ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أخُو العَشيرَةِ " احتجّ به البخاري على جواز غيبة أهل الفساد وأهل الرِّيَبِ. 1041 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسمَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) قسمةً، فقال رجلٌ من الأنصار: والله ما أرادَ محمدٌ بهذا وجهَ الله تعالى، فأتيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرتُه، فتغيَّرَ وجهُه وقال: " رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وفي بعض رواياته: " قال ابن مسعود: فقلتُ لا أرفعُ إليه بعد هذا حديثاً ". قلتُ: احتجّ به البخاري في إخبار الرجل أخاه بما يُقال فيه. 1042 - روينا في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَا أظُنُّ فُلاناً وَفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنا شَيْئاً " قال الليث بن سعد أحد الرواة: كانا رجلين من المنافقين. 1043 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن زيد بن أرقمَ رضي الله عنه قال: " خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر، فأصابَ الناسَ فيه شدةٌ، فقال عبدُ الله بن أُبيّ: لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى يَنْفَضُّوا من حوله، وقال: لئن رجعنَا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فأتيتُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فأخبرتُه بذلك، فأرسلَ إلى عبد الله بن أُبيّ ... وذكر الحديث. وأنزل الله تعالى تصديقه: (إذَا جَاءَكَ المُنافِقونَ) [المنافقون: 1] .

باب أمر من سمع غيبة شيخه أو صاحبه أو غيرهما بردها وإبطالها

1044 م - وفي الصحيح حديث هند (1) امرأة أبي سفيان وقولها للنبي (2) (صلى الله عليه وسلم) : " إن أبا سفيان رجل شحيح ... " إلى آخره. 1044 - وحديث فاطمة بنت قيس وقول النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لها: " أما معاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ (3) ، وأمَّا أبُو جَهْمٍ فَلا يَضَع العَصَا عَنْ عاتِقِهِ " (5) . (بابُ أمرِ منْ سَمعَ غيبةَ شيخِهِ أو صاحبهِ أو غيرهما بردها وإبطالها) اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان، فارقَ ذلكَ المجلس، فإن سمعَ غِيبَةَ شيخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كانَ من أهل الفضل والصَّلاح، كان الاعتناءُ بما ذكرناه أكثر. 1045 - روينا في كتاب الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيامَةِ " قال الترمذي: حديث حسن (6) . 1046 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " في حديث عِتبان - بكسر العين على المشهور، وحُكِي بضمِّها - رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور قال: " قام النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يُصلِّي، فقالوا: أين مالك بن الدُّخْشُم؟ فقال رجل: ذلك منافق لا يُحِبّ اللَّهَ ورسولَه، فقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقُلْ ذلكَ، ألا تَرَاهُ قَدْ قالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذلكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ ". 1047 - وروينا في " صحيح مسلم " عن الحسن البصري رحمه الله: أن عائذ بن

_ (1) هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية زوج أبي سفيان بن حرب، وهي أم معاوية بن أبي سفيان، أسملت في الفتح بعد إسلام زوجها بليلة، وحسن إسلامها، وشهدت اليرموك مع زوجها أبي سفيان، توفيت أول خلافة عمر في اليوم الذي مات فيه والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم. (2) وقولها، هو بالجر عطفا على هند، واللام في " للنبي " (صلى الله عليه وسلم) للتبليغ. (3) في مسلم: فصعلوك لا مال له، والمراد به: معاوية بن أبي سفيان، والصعلوك: الفقير. (4) هو عامر بن حذيفة بن غانم القرشي. (5) يعني أنه كثير الضرب للنساء، وفي رواية لمسلم: أنه ضراب للنساء. (6) بوفي الباب عن أسماء بنت يزيد، وهو حديث حسن كما قال الترمذي. (*)

باب الغيبة بالقلب

عمرو وكان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخلَ على عُبيد الله بن زياد فقال: أي بنيّ إني سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إنَّ شَرَّ الرِّعَاء الحُطَمَةُ، فإيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمُ، فقال له: اجلسْ، فإنما أنتَ من نُخالة أصحابِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: وهل كانتْ لهم نخالةٌ: إنما كانت النُّخَالةُ بعدَهم وفي غيرِهم ". 1048 - وروينا في " صحيحيهما " عن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو جالسٌ في القوم بتبوك " ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ؟ " فقال رجلٌ من بني سَلمة: يا رسول الله حبسَه بُرداهُ والنظرُ في عِطْفَيْه، فقال له مُعاذُ بن جبل رضي الله عنه: بئسَ ما قلتَ، والله يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكتَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) . قلت: سَلِمة بكسر اللام، وعِطْفاه: جانباه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه. 1049 - ورويناه في سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ما من امرئ يخذل امرءا مُسْلِماً في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضَهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وما من امرئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلا نَصَرَهُ اللَّهُ في مَوْطِنٍ يُحِب نُصْرَتَهُ " (1) . 1050 - وروينا فيه عن معاذ بن أنس عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنافِقٍ - أُراه قال - بَعَثَ اللَّهُ تَعالى مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ نارِ جهنم، ومن رمى مسلما بشئ يُريدُ شَيْنَهُ حَبَسَهُ اللَّهُ على جِسْرِ جَهَنَّمَ حتَّى يَخْرُجَ مما قال ". (بابُ الغِيْبَةِ بالقَلْبِ) اعلم أن سوء الظنّ حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدّث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدّث نفسك بذلك وتسئ الظنّ به، قال الله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) [الحجرات: 12] . 1051 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذِبُ الحَدِيثِ " والأحاديثُ بمعنى ما ذكرته

_ (1) ورواه أيضاً أحمد في " المسند " المقدسي في " المختار " وهو حديث حسن. (*)

كثيرة، والمراد بذلك (1) عقد القلب (2) وحكمُهُ على غيرك بالسوء، فأما الخواطر، وحديث النفس، إذا لم يستقرَّ ويستمرّ عليه صاحبُه فمعفوٌ عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه. 1052 - وهذا هو المراد بما ثبتَ في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ تَتَكَلَّم بِهِ أوْ تَعْمَلْ " (3) . قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقرّ. قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطِرُ غِيبة أو كفراً أو غيرَه، فمن خطرَ له الكفرُ مجرّد خَطَرٍ من غير تعمّدٍ لتحصيله، ثم صَرفه في الحال، فليس بكافر، ولا شئ عليه. وقد قدّمنا في " باب الوسوسة " في الحديث الصحيح أنهم قالوا: " يا رسولَ الله يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: ذلكََ صريحُ الإيمان " (4) وغير ذلك مما ذكرناه هناك وما هو في معناه. وسببُ العفو ما ذكرناه من تعذّرٍ اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراما ومهما عرض لك هذا الخاطرُ بالغيبة وغيرها من المعاصي، وجبَ عليك دفعُه بالإِعراض عنه وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره. قال الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء ": إذا وقعَ في قلبك ظنّ السوء، فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تُكذِّبه فإنه أفسقُ الفسّاق، وقد قال الله تعالى: (إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 7] فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد، واحتمل خلافه، لم تجز إساءة الظنّ، ومن علامة إساءة الظنّ أن يتغيَّر قلبُك معه عمّا كان عليه،

_ (1) أي ظن السوء المنهي عنه. (2) عقد القلب: أي تحقيق الظن وتصديقه، بأن تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، لا ما يهجس في النفس ولا يستقر، وهذا القول نقله المصنف في " شرح مسلم " عن الخطابي وصوبه، ثم قال: نقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم، أي إن لم يعقد عليه القلب لما سيأتي من المؤاخذة على ذلك. (3) هو في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: " إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لم تعمل به أو تكلم ". (4) هو في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فسألوه: إنّا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحد نا أن يتكلَّم به، قال: وقدْ وجدتُموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريحُ الإيمان ". (*)

باب كفارة الغيبة والتوبة منها

فتنفرُ منه وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيّئته، فإنَّ الشيطانَ قد يقرِّبُ إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس، ويُلقي إليه: أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبّهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطقٌ بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرَكَ عدلٌ بذلك، فلا تُصدِّقه ولا تكذبه لئلا تسئ الظنّ بأحدهما، ومهما خطرَ لك سوءٌ في مسلمٍ، فزِدْ في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يُغيظُ الشيطانَ ويدفعُه عنك فلا يُلقي إليك مثلَه خِيفةً من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفتَ هفوةَ مسلم بحجّةٍ لا شكّ فيها، فالصحه في السرّ، ولا يخدعنَّك الشيطانُ فيدعوك إلى اغتيابِه، وإذا وعظتَهُ فلا تعِظْه وأنت مسرورٌ باطّلاعِك على نقصِه فينظرُ إليك بعين التعظيم وتنظرُ إليه بالاستصغار، ولكن اقصدْ تخليصَه من الإِثم وأنت حزينٌ كما تحزنُ على نفسك إذا دخلَك نقصٌ، وينبغي أن يكون تركُه لذلك النقص بغير وعظك أحبّ إليك من تركه بوعظك، هذا كلام الغزالي. قلت: قد ذكرنا أنه يجبُ عليه إذا عرضَ له خاطرٌ بسوء الظن أن يقطعَه، وهذا إذا لم تدعُ إلى الفكر في ذلك مصلحةٌ شرعية، فإذا دعتْ جازَ الفكرُ في نقيصته والتنقيب عنها كما في جرح الشهود والرواة وغير ذلك مما ذكرناه في " باب ما يباح من الغيبة ". (بابُ كَفَّارةِ الغيْبةِ والتَّوْبَةِ منها) اعلم أن كلَّ من ارتكب معصيةً لزمه المبادرةُ إلى التوبة منها، والتوبةُ من حقوق الله تعالى يُشترط فيها ثلاثة أشياء: أن يُقلع عن المعصية في الحال، وأن يندمَ على فعلها، وأن يَعزِمَ ألاّ يعود إليها. والتوبةُ من حقوق الآدميين يُشترط فيها هذه الثلاثة، ورابع: وهو ردّ الظلامة إلى صاحبها أو طلب عفوه عنها والإِبراء منها، فيجبُ على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حقّ آدمي، ولا بدّ من استحلاله مَن اغتابَه، وهل يكفيه أن يقول: قد اغتبتُك فاجعلني في حلّ، أم لا بُدَّ أن يبيّنَ ما اغتابه به؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي رحمهم الله: أحدهما يُشترط بيانُه، فإن أبرأه من غير بيانه، لم يصحّ، كما لو أبرأه عن مال مجهول. والثاني لا يُشترط، لأن هذا مما يُتسامحُ فيه، فلا يُشترط علمه، بخلاف المال، والأوّل أظهرُ، لأن الإِنسانََ قد يسمحُ بالعفو عن غيبة دونَ غِيبة، فإن كان صاحبُ الغيبةِ ميّتاً أو غائباً فقد تعذّرَ تحصيلُ البراءة منها، لكن قال العلماء: ينبغي أن يُكثرَ من الاستغفار له والدعاء ويُكثر من الحسنات.

واعلم أنه يُستحبّ لصاحب الغِيبة أن يبرئه منها ولا يجبُ عليه ذلك لأنه تبرّعٌ وإسقاطُ حقّ، فكان إلى خِيرته، ولكن يُستحبّ له استحباباً متأكداً الإِبراء ليخلِّصَ أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوزَ هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134] وطريقهُ في تطبيب نفسه بالعفو أن يذكِّرَ نفسَه أنَّ هَذَا الأمْرَ قد وقعَ، ولا سبيلَ إلى رفعه، فلا ينبغي أن أُفوِّتَ ثوابَه وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال الله تعالى: (وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِن ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) [الشورى: 43] وقال تعالى: (خُذِ العَفْوَ ... ) الاية [الأعراف: 199] . والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة. 1053 - وفي الحديث الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْن أخيه " (1) وقد قال الشافعي رحمه الله: من اسْتُرضي فلم يرضَ فهو شيطان. وقد أنشد المتقدّمونَ: قيلَ لي قد أساءَ إليك فلانٌ * ومُقام الفَتَى على الذُّلِّ عَارُ قلتُ: قدْ جاءَنَا وأحْدَثَ عُذْراً * دِيةُ الذنبِ عِندنَا الاعْتذَارُ فهذا الذي ذكرناهُ من الحثَ على الإِبراء عن الغيبة هو الصواب. وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا أُحَلِّلُ مَن ظلمني. وعن ابن سيرين: لم أُحرّمها عليه فأُحلِّلُهَا له، لأن الله تعالى حرّم الغيبةَ عليه، وما كنتُ لأُحَلِّلَ ما حرّمه الله تعالى أبداً، فهو ضعيفٌ أو غلطٌ، فإن المبرئ لا يحلِّلُ محرّماً، وإنما يُسقط حقاً ثبتَ له، وقد تظاهرت نصوصُ الكتاب والسنّة على استحباب العفو وإسقاط الحقوق المختصّة بالمسقِط، أو يُحمل كلامُ ابن سيرين على أني لا أُبيح غيبتي أبداً، وهذا صحيح فإن الإِنسانَ لو قال: أبحتُ عرضي لمن اغتابني لم يَصرْ مباحاً، بل يَحرمُ على كل أحد غيبة غيره. 1054 - وأما الحديث: " أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكُونَ كأبِي ضَمْضَمٍ كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قالَ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي على النَّاسِ " (2) فمعناه: لا أطلبُ مَظلمتي ممّن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا يَنفعُ في إسقاط مَظلمة كانت موجودة قبل الإِبراء. فأما يحدثُ بعدَه، فلا بدّ من إبراء جديد بعدَها، وبالله التوفيق.

_ (1) وهو جزء من حديث طويل رواه مسلم في " صحيحة " عن أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه أبو داود رقم (4886) و (4887) في الادب، بابُ ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه، وهو مرسل ضعيف. وأورده السيوطي في " الجامع الكبير " ونسبه لابن السني في " عمل اليوم الليلة "، والديملي عن أنس رضي الله عنه. (*)

باب في النميمة

(بابٌ في النميمة) قد ذكرنا تحريمها ودلائلَها وما جاء في الوعيد عليها، وذكرنَا بيانَ حقيقتها، ولكنه مختصرٌ، ونزيدُ الآن في شرحه. قال الإِمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: النميمةُ إنما تُطلق في الغالب على مَن يَنمُّ قولَ الغير إلى المقول فيه، كقوله: فلان يقولُ فيك كذا، وليست النميمةُ مخصوصةً بذلك، بل حدّها كشف ما يكره كشفُه، سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالث، وسواء كان الكشفُ بالقول أو الكتابة أو الرمز أو الإِيماء أو نحوها، وسواء كان المنقولُ من الأقوال أو الأعمال، وسواء كان عيباً أو غيره، فَحَقِيْقَةُ النميمة: إفشاءُ السرّ، وهتكُ الستر عمّا يُكره كشفُه، وينبغي للإِنسان أن يسكتَ عن كلِّ ما رآهُ من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدةٌ لمسلم أو دفعُ معصية، وإذا رآهُ يُخفي مالَ نفسه فذكره، فهو نميمة. قال: وكلُّ مَنْ حُمِلت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان كذا، لزمه ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه، لأن النَّمامَ فاسقٌ، وهو مردود الخبر. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبّح فعله. الثالث: أن يبغضَه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله تعالى، والبغضُ في الله تعالى واجب. الرابع: أن لا يظنّ بالمنقول عنه السوء، لقول الله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظنّ) [الحجرات: 12] . الخامس: أن لا يحملَك ما حُكي لك على التجسس والبحث عن تحقيق ذلك، قال الله تعالى: (ولا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12] . السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمّامَ، عنه فلا يحكي نميمته. وقد جاء أن رجلاً ذَكَرَ لعمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه رجلاً بشئ، فقال عمر: إن شئتَ نظرنَا في أمرك، فإن كنتَ كاذباً فأنتَ من أهل هذه الآية: (إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6] وإن كنتَ صادقاً، فأنتَ من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنَمِيمٍ) [القلم: 11] وإن شئتَ عفونا عنك، قال: العفو يا أميرَ المؤمنين لا أعودُ إليه أبداً. ورفع إنسانٌ رُقعةً إلى الصاحب بن عبّاد يحثُّه فيها على أخذ مال يتيم وكان مالاً كثيراً، فكتبَ على ظهرها: النميمةُ قبيحةٌ وإن كانت صحيحةً، والميّتُ رحمه الله، واليتيمُ جبرَه الله، والمالُ ثَمَّرَهُ الله، والساعي لعنه الله.

باب النهي عن نقل الحديث إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه ضرورة لخوف مفسدة ونحوها

(بابُ النهي عن نَقْلِ الحَديثِ إلى وُلاةِ الأُمور إذا لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ لخوفِ مَفْسدةٍ ونحوِهَا) 1055 - روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يُبَلِّغْني أحَدٌ منْ أصْحابِي عَنْ أحَدٍ شَيْئاً، فإني أُحِبُّ أنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأنا سَلِيمُ الصدر " (1) . (بابُ النَّهي عن الطعن في الأَنْسَابِ الثَّابتةِ في ظاهِر الشَّرْعِ) قال الله تعالى: (وَلاَ تقف ما لَيْسَ لَكَ به علم إن السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عنه مَسْؤُولاً) [الإِسراء: 36] . 1056 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " اثْنَتانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ في النَّسَبِ، وَالنِّياحَةُ على المَيِّتِ ". (بابُ النّهي عن الافْتِخَار) قال الله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 33] . 1057 - وروينا في " صحيح مسلم " وسنن أبي داود وغيرهما عن عياض بن حِمار الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحَى إليَّ أنْ تَوَاضَعُوا حتَّى لا يَبْغيَ أحَدٌ على أحَدٍ، وَلا يَفْخَرَ أحَدٌ على أحَدٍ ". (بابُ النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم) 1058 - روينا في كتاب الترمذي عن واثلةَ بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تُظْهِرِ الشَّماتَةَ لأخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ " قال الترمذي: حديث حسن (2) .

_ (1) ورواه أيضاً أحمد في " المسند " وإسناده ضعيف. (2) قال الترمذي: حسن غريب، وهو حسن لغيره، أخرجه من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع وقال: حديث حسن غريب، وقد أخرج له شاهدا يؤدي معناه من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " من عيَّرَ أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " وقال أيضا: حديث حسن غريب، قال الحافظ في " أجوبة عن أحاديث وقعت في مصابيح السنة ووصفت بالوضع ": هكذا (*) =

باب تحريم احتقار المسلمين والسخرية منهم

(بابُ تَحريمِ احْتِقار المسلمينَ والسُّخْرِيةِ منهم) قال الله تعالى: (الَّذِينَ يلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصَّدَقَاتِ وَالَّذينَ لا يَجدُونَ إلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) [التوبة: 79] . وقال تعالى: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا يَسخَرُ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ وَلا تَابَزُوا بالألْقابِ) الآية [الحجرات: 11] . وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1] . وأما الأحاديث الصحيحةُ في هذا الباب فأكثرُ من أن تُحصر، وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريم ذلك، والله أعلم. 1059 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَحاسَدُوا، وَلا تَناجَشُوا، وَلا تَباغَضُوا، ولا تدابروا، ولا يَبْغِ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْواناً، المُسلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا - ويشيرِ إلى صدره ثلاثَ مرات - بحسب امرئ مِنَ الشَّرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ ". قلتُ: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده لمن تدبره. 1060 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ [كان] في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فقال رجلٌ: إن الرجلَ يُحبّ أن يكون ثوبُه حسناً ونعلُه حسنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ". قلتُ: بَطر الحقّ، بفتح الباء والطاء المهملة وهو دفعه وإبطاله، وغمطٌ بفتح الغين المعجمة وإسكان الميم وآخره طاء مهملة، ويروى غمص، بالصاد المهملة ومعناهما واحد وهو الاحتقار.

_ = وصف - يعني الترمذي - كلاٍّ منهما بالحسن الغرابة، فأما الغرابة، فلتفرّد بعض رواة كلٍّ منهما عن شيخه، فهي غرابة نسبية، وأما الحسن فلاعتضاد كل منهم بالاخر. (*)

باب غلظ تحريم شهادة الزور

(بابُ غِلَظِ تحريمِ شَهادةِ الزُّور) قال الله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 30] وقال تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإِسراء: 36] . 1061 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي بكرة نُفيع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبائرِ؟ - ثلاثاً - قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإِشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوالِدَيْنِ " وكان متكئاً فجلسَ فقال: " ألا وَقَوْلُ الزُّور، وَشَهادَةُ الزُّورِ " فما زال يُكرّرها حتى قلنا: ليته سكت ". قلت: والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرته كفاية، والإِجماع منعقد عليه. (بابُ النهي عن المَنِّ بالعَطِيَّةِ ونحوِها) قال الله تعالى: (يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بالمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264] قال المفسرون: أي لا تُبطلوا ثوابَها. 1062 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: فقرأها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثُ مَرَّاتٍ، قال أبو ذرّ: خابُوا وخَسِروا مَن هم يا رسولَ الله؟ قال: المُسْبِلُ (1) ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بالحلف الكاذب ". (بابُ النَّهي عن اللَّعْن) 1063 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه وكان من أصحاب الشجرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ". 1064 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لَعَّاناً ". 1065 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيامَةِ ". 1066 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه

_ (1) المسبل، اسم فالع من الاسبال: أي إرخاء نحو الازار والقميص والعذبة على وجه الخيلاء كما جاء مفسرا في الحديث الآخر: " لا ينظر الله إلى من يجر ثوبه خيلاء " والخيلاء: الكبر. (*)

قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَلاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلا بِغَضَبِهِ وَلا بالنَّارِ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1067 - وروينا في كتاب الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ " قال الترمذي: حديث حسن (2) . 1068 - وروينا في سنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنَّ العَبْد إذَا لَعَنَ شَيْئاً صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إلى السَّماءِ فَتُغْلَقُ أبْوَابُ السَّماءِ دُونَهَا، ثمَّ تَهْبِطُ إلى الأرْضِ فَتُغْلَقُ أبْوَابُها دُونَها، ثُمَّ تأخُذُ يَمِيناً وَشِمالاً، فإذَا لَمْ تَجِدْ مَساغاً رَجَعَتْ إلى الَّذي لُعِنَ، فإن كان أهْلاً لِذَلِكَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ إلى قائِلِها " (3) . 1069 - وروينا في كتابي أبي داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ لَعَنَ شَيْئاً لَيْسَ بأهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَة عَلَيْهِ " (4) . 1070 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فَضَجِرَتْ فلعنتها، فسمعَها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: " خُذُوا ما عَلَيْها وَدَعُوها فإنَّها مَلْعُونَةٌ ". قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يَعرض لها أحد. قلت: اختلفَ العلماءُ في إسلام حصين والد عمران وصحبته، والصحيح إسلامه وصحبته، فلهذا قلت رضي الله عنهما. 1071 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن أبي برزة رضي الله عنه قال: " بينما جاريةٌ على ناقةٍ عليها بعضُ متاع القوم، إذ بصرتْ بالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) وتضايقَ بهم الجبلُ، فقالت: حَلْ اللَّهمّ العنها، فقالَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) : " لا تُصَاحِبُنا ناقَةٌ عَلَيْها لَعْنَةٌ " وفي رواية: " لا تُصَاحِبُنا رَاحِلَةٌ عَلَيْها لَعْنَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى ".

_ (1) هو من حديث الحسن البصري عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة، ولكن الحديث حسن بشواهده، منها الحديثان اللذان قبله، والحديث الذي بعده، قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس، وابن عمر، وعمران بن حصين. (2) ورواه أيضا ابن حبّان في " صحيحه "، والحاكم، وسنده حسن. (3) رواه أبو داود رقم (4905) في الادب، باب اللعن، وفي سنده نمران بن عتبة الذماري، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رحاله ثقات، ويشهد له الذي بعده. (4) وهو حديث صحيح. (*)

فصل: في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين والمعروفين

قلت: حَلْ بفتح الحاء المهملة وإسكان اللام، وهي كلمة تزجر بها الإِبل. فصل: في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين والمعروفين 1072 - ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لَعَنَ اللَّهُ الواصلة والمستوصلة ... " الحديث. 1072 - وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرّبا ... " الحديث. 1072 - وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ المُصَوِّرِينَ ... " 1072 - وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنارَ الأرض ... " 1072 - وأنه قال " لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ ". 1072 - وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله ". 1072 - وأنه قال " مَنْ أحْدَثَ فِينا حَدَثاً، أوْ آوَى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمعين ". 1072 - وأنه قال: " اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتِ الله ورسوله "، وهذه ثلاث قبائل من العرب. 1073 - وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ حُرّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فجمَلُوها فَباعُوها " وأنه قال: " لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مساجد "، وأنه قال: " لَعَنَ المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال " وجميع هذه الألفاظ في " صحيحي البخاري ومسلم " بعضها فيهما، وبعضها في أحدهما، وإنما أشرتُ إليها ولم أذكر طرقها للاختصار. 1074 - وروينا في " صحيح مسلم " عن جابر، أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) رأى حِماراً قد وُسِمَ في وجهه فقال: " لَعَنَ اللَّهُ الَّذي وَسَمَهُ ". 1075 - وفي " الصحيحين " أن ابن عمر رضي الله عنهما مرَّ بفتيان من قُريش قد نَصبوا طيراً وهم يرمونه فقال ابن عمر: لعن الله من فعلَ هذا، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لَعَنَ اللَّهُ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الروح غرضا ". فصل: اعلم أن لعن المسلم المصون حرامٌ بإجماع المسلمين، ويجوزُ لعنُ أصحاب الأوصاف المذمومة كقولك: لعن الله الظالمين، لعن الله الكافرين، لعن الله اليهود والنصارى، ولعن الله الفاسقين، لعن الله المصوّرين، ونحو ذلك مما تقدَّم في الفصل السابق.

وأما لعن الإِنسان بعينه ممّن اتَّصَفَ بشئ من المعاصي (1) كيهودي، أو نصراني، أو ظالم، أو زانٍ أو مصوّرٍ، أو سارقٍ، أو آكلِ ربا، فظواهر الأحاديث أنه ليس بحرام. وأشارَ الغزالي إلى تحريمه إلا في حقّ مَن عَلِمْنَا أنه مات على الكفر، كأبي لهب، وأبي جهل، وفرعونَ وهامانَ، وأشباههم، قال: لأن اللعن هو الإِبعاد عن رحمة الله تعالى، وما ندري ما يُتم به لهذا الفاسق أو الكافر، قال: وأما الذين لعنَهم رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بأعيانهم، فيجوزُ أنه (صلى الله عليه وسلم) عَلِمَ موتَهم على الكفر، قال: ويقربُ من اللعن الدعاء على الإِنسان بالشرّ حتى الدعاء على الظالم، كقول الإِنسان: لا أصحَّ الله جسمَه، ولا سلَّمه الله، وما جرى مجراه، وكلُّ ذلك مذمومٌ. وكذلك لعنُ جميع الحيوانات والجمادات، فكلُّه مذموم. فصل: حكى أبو جعفرُ النحاس عن بعض العلماء أنه قال: إذا لعن الإِنسانُ ما لا يستحقّ اللعن، فليبادرْ بقوله: إلاّ أن يكون لا يستحقّ (2) . فصل: ويجوزُ للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وكلّ مؤدِّب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر: ويلك، أو يا ضعيفَ الحال، أو يا قليلَ النظر لنفسه، أو يا ظالمَ نفسه، وما أشبه ذلك بحيث لا يتجاوز إلى الكذب، ولا يكون فيه لفظُ قذفٍ، صريحاً كان أو كنايةً، أو تعريضاً، ولو كان صادقاً في ذلك، وإنما يجوزُ ما قدَّمناه، ويكون الغرضُ منه التأديب والزجر، وليكونَ الكلامُ أوقعَ في النفس. 1076 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه " أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلاً يسوقُ بدنةً، فقال: " ارْكَبْها " (3) ، فقال: إنها بدنة، قال: ارْكَبْها، قال: إنها بدنة،

_ (1) قال الحافظ ابن حجر: واحتج شيخنا الامام البلقيني على ما قاله المهلب من جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وتوقف فيه بعض من لقيناه، فإن اللاعن هنا الملائكة، فيتوقف الاستدلال على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوي، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو موجود. اه. قال العلقمي في " شرح الجامع الصغير " لعل قول الملائكة: اللهم العن فلانة الممتنعة من فراش زوجها، أو هذه الممتنعة إلى آخرها، فهي معينة بالاسم أو بالاشارة إليها، فيتجة ما قاله البلقيني، لان قوله (صلى الله عليه وسلم) " لعنتها " الضمير يخصها، فلا بدّ من صفة تميزها، وذلك إمام بالاسم أو بالاشارة إليها. (2) أي لئلا ترجع اللعنة على قائلها إذا كان المدعو عليه بها ليس مستحقا لهاكما جاءت الاخبار به. (3) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار ": محمول على أنه اضطر لركوبها، لخبر مسلم عن جابر قال: قال (صلى الله عليه وسلم) لما (*) =

قال في الثالثة: ارْكَبْها وَيْلَك " (1) . 1077 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يَقسم قَسْماً، أتاه ذو الخويصرة (2) ، رجلٌ من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أعْدِلْ ". 1078 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه، أن رجلاً خطبَ عندَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: مَنْ يُطع الله ورسولَه فقد رشدَ، ومَنْ يعصهِمَا فقد غوى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " بِئْسَ الخَطِيبُ أنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " (3) . 1079 - وروينا في " صحيح مسلم " أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن عبداً لحاطب (4) رضي الله عنه جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشكو حاطباً فقال: يا رسولَ الله ليدخلنّ حاطبٌ النَّارَ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " كَذَبْتَ لا يَدْخُلُها، فإنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالحُدَيْبِيَةَ ". 1080 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " قولَ أبي بكر الصديق رضي الله عنه لابنه عبد الرحمن حين لم يجده عشَّى أضيافه: يا غنثر، وقد تقدم بيان هذا الحديث في " كتاب الأسماء " (5) . 1081 - وروينا في " صحيحيهما ": أن جابراً صلَّى في ثوب واحد وثيابه موضوعة

_ = سئل عن ركوب الهدي: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتيى تجد ظهرا، فشرط جواز ركوبها - كما في " المجموع " و " شرح مسلم " وهو المعتمد - والضرورة إليها. (1) قال ابن علاّن إنما قال له: ويلك، مع أنها كلمة عذاب تأديبا له لمراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، ولم يرد بها الدعاء عليه، بل جرت على لسانه نظير قوله في الحديث الآخر " تربت يداك ". (2) هو ذو الخيصرة التميمي واسمه: حرقوص، وهو أصل الخوارج، وهو الذي حمل على علي رضي الله عنه ليقتله، فقتله علي رضي الله عنه، وهو غير ذي الخويصرد اليماني الذي بال في المسجد. (3) قال ابن علاّن: قال القرطبي: ظاهره أنه أنكر عليه جمع اسم الله تعالى واسم رسوله في ضمير واحد، ويعارضه ما تقدم في حديث ابن مسعود في خطبة النكاح: أو من يعصهما فإن لا يَضُرُّ إِلاَّ نفسه " رواه أبو داود، وفي حديث أنس: " ومَنْ يعصهِمَا فقد غوى " وهما صحيحان، ويعارضه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبيّ) فجمع بين ضمير الله وملائكته. اه. والصواب أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والايضاح واجتناب الاشارات والرموز، فلذا ثبتَ في الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه. (4) هو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. (5) انظر الصفحة (243) . (*)

باب النهي عن انتهار الفقراء والضعفاء واليتيم والسائل ونحوهم، وإلانة القول لهم والتواضع معهم

عنده، فقيل له: فعلتَ هذا؟ فقال: فعلته ليراني الجهّالُ مثلكُم، وفي رواية: ليراني أحمق مثلك. (بابُ النَّهي عن انتهارِ الفُقَراءِ والضُّعَفاءِ واليتيم والسَّائلِ ونحوهم، وإلانةُ القوْل لهم والتواضعُ معهم) قال الله تعالى: (فأمَّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وأمَّا السَّائلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى: 9 - 10] وقال تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ... إلى قوله تعالى: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 52] وقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) [الكهف: 28] وقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ للِمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88] . 1082 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عائذ بن عمرو - بالذال المعجمة - الصحابي رضي الله عنه: أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذتْ سيوفُ الله من عنق عدوّ الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدِهم، فأتى النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فأخبره، فقال: " يا أبا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أغْضَبْتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبْتَ رَبَّكَ " (1) ، فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتُكم؟ فقالوا: لا. قلت: قولهم مأخذَها، بفتح الخاء: أي لم تستوفِ حقها من عنقه لسوء فعاله. (بابٌ في ألفاظٍ يُكرهُ استعمالُها) 1083 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن سهل بن حُنيف، وعن عائشة رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي ". 1084 - وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ جاشَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي ". قال العلماء: معنى لَقِسَتْ وجاشت (2) : غثت، قالوا: وإنما كُرِه " خبثت " للفظ الخبث والخبث. قال الإِمام أبو سليمان الخطابي: لقست وخبثت معناهما واحد، وإنما كُره خبث

_ (1) وفي الحديث فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته، وفيه مراعاة قلوب الضعفاء، وأهل الدين وإكرمهم وملاطفتهم. (2) وهي من الارتفاع كأن ما في البطن يرتفع إلى الحلق فيحصل الغثي، والمعنى: ضاقت. (*)

للفظ الخبث (1) ، وبشاعة الاسم منه، وعلَّمهم الأدب في استعمال الحسن منه، وهجران القبيح، و " جاشت " بالجيم والشين المعجمة، و " لقست " بفتح اللام وكسر القاف. فصل: 1085 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " يَقُولُونَ الكَرْمَ (2) إنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المؤْمِنِ " وفي رواية لمسلم " لا تُسَمُّوا العِنَب الكَرْمَ، فإنَّ الكَرْمَ المُسْلِمُ " وفي رواية " فإنَّ الكَرْمَ قَلْب المُؤْمِنِ " (3) . 1086 - وروينا في " صحيح مسلم " عن وائلَ بن حِجر رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا تَقُولُوا الكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا العِنَبَ والحَبَلَةَ ". قلت: الحَبَلة بفتح الحاء والباء، ويُقال أيضاً بإسكان الباء، قاله الجوهري وغيرُه، والمراد من هذا الحديث النهي عن تسمية العنب كرماً، وكانت الجاهليةُ تسمّيه كرماً، وبعضُ الناس اليوم تُسمّيه كذلك، ونهى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن هذه التسمية، قال الإِمام الخطابي وغيره من العلماء: أشفق النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) أن يدعوهم حسنُ اسمها إلى شربِ الخمر المتخذة من ثمرها، فسلبَها هذا الاسم، والله أعلم. فصل: 1087 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إِذَا قالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أهْلَكُهُمْ ".

_ (1) ولا يردّ عليه ما في الحديث الآخر من قوله: " فيصبح خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ " لان المنهي عنه إخبار المرء بذلك عن نفسه، والنبيّ (صلى الله عليه وسلم) إنَّما أخبر عن صفة غيره وعن شخض منهم مذموم الحال، ولا يمنع إطلاق هذا اللفظ في مثل ذلك. (2) في البخاري، " ويقولون الكرم " يزيادة واو العطف في أوله، والمعطوف عليه محذوف: أي يقولون: العنب ويقولون: الكرم، فالكرم خبر خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو، أو مبتدأ خبره محذوف: أي شجر العنب والكرم. (3) قال المصنف رحمه الله: قال العلماء: سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم، كانت العرب - أي في الجاهلية - تطلقها على شعير؟ العنب؟ ، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب، سموها كرما كلونها متخذة منه، ولانها - أي فيما يدعونه - تحمل على الكرم والسخاء، وهيجت نفوسهم إليه، فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، وإنما يستحق ذلك الرجل المسلم، أو قلب المؤمن كرما لما فيه من الايمان والهدي والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم، وكذا الرجل المسلم. وقال القاضي عياض في " المشارق ": نهي (صلى الله عليه وسلم) أن يقال للعنب: الكرم، وكان اسم الكرم أليق بالمؤمن وأعلق به لكثرة خيره ونفعه واجتماع الخصال المحمودة من السخاء وغيره فيه، فقال: إنما الكرم الرجل المؤْمِنِ، وفي رواية: قلب المؤمن. (*)

قلت: روي أهلكُهم برفع الكاف وفتحها، والمشهور الرفع، ويُؤيِّده أنه جاء في رواية رويناها في " حلية الأولياء " في ترجمة سفيان الثوري: " فَهُوَ مِنْ أهْلَكِهمْ ". قال الإِمام الحافظ أبو عبد الله الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " في الرواية الأولى، قال بعض الرواة: لا أدري هو بالنصب أم بالرفع؟ قال الحميدي: والأشهر الرفع، أي: أشدُّهم هلاكاً، قال: وذلك إذا قال على سبيل الإزراء عليهم والاحتقار لهم وتفضيل نفسه عليهم، لأنه لا يدري سرّ الله تعالى في خلقه، هكذا كان بعضُ علمائنا يقولُ، هذا كلام الحميدي. وقال الخطابي: معناه: لا يزالُ يعيبُ الناسَ ويذكرُ مساويهم ويقول: فسدَ النَّاسُ وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكُهم: أي أسوأ حالاً فيما يَلحقُه من الإِثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أدّاه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خير منهم فيهلك، هذا كلام الخطابي فيما رويناه عنه في كتابه " معالم السنن ". 1088 - وروينا في سنن أبي داود رضي الله عنه قال: حدّثنا القعنبي عن مالك عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر هذا الحديث، ثم قال: قال مالكٌ: إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس قال: يعني من أمر دينهم فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي يُنهى عنه. قلتُ: فهذا تفسير بإسناد في نهاية من الصحة، وهو أحسن ما قيل في معناه، وأوجزه، ولا سيما إذا كان عن الإِمام مالك رضي الله عنه. فصل: 1089 - روينا في سنن أبي داود بالإِسناد الصحيح عن حذيفةَ رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا تَقُولُوا ما شاءَ اللَّهُ وَشاءَ فُلانٌ، وَلَكِنْ قولُوا ما شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ ما شَاءَ فُلانٌ ". قال الخطابي وغيره: هذا إرشادٌ إلى الأدب، وذلك أن الواو للجمع والتشريك، و " ثم " للعطف مع الترتيب والتراخي، فأرشدَهم (صلى الله عليه وسلم) إلى تقديم مشيئة الله تعالى على مشيئة مَن سواه. وجاء عن إبراهيم النخعي أنه كان يكرهُ أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، قالوا: ويقول: لولا الله ثم فلان لفعلت كذا، ولا تقل: لولا الله وفلان. فصل: ويُكره أن يقول: مُطرنا بنوْءِ كذا، فإن قاله معتقداً أن الكوكب هو الفاعل هو كفر، وإن قاله معتقداً أن الله تعالى هو الفاعل وأن النوْءَ المذكور علامة لنزول

المطر، لم يكفر، ولكنه ارتكب مكروهاً لتلفظه بهذا اللفظ الذي كانت الجاهلية تستعملُه، مع أنه مشتركٌ بين إرادة الكفر وغيره، 1090 - وقد قدَّمنا الحديث الصحيح المتعلق بهذا الفصل في " باب " ما يقول عند نزول المطر ". فصل: يحرمُ أن يقولَ إن فعلتُ كذا فأنا يهوديّ أو نصراني، أو برئ من الإسلام ونحو ذلك (1) ، فإن قاله وأرادَ حقيقة تعليق خروجه عن الإِسلام بذلك، صارَ كافراً في الحال، وجرتْ عليه أحكامُ المرتدّين، وإن لم يُردْ ذلك لم يكفرْ، لكن ارتكبَ محرّماً، فيجبُ عليه التوبة، وهي أن يُقلعَ في الحال عن معصيته، ويندمَ على ما فعل، ويَعْزِمَ على أن لا يعودَ إليه أبداً، ويستغفر الله تعالى ويَقولُ: لا إِله إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله (2) . فصل: يحرم عليه تحريماً مغلّظاً أن يقولَ لمسلم: يا كافر. 1091 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا قالَ الرَّجُلُ لأخِيهِ: يا كافِرٌ، فَقَدْ باءَ بِها أحَدُهُما، فإن كانَ كما قال، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ ". 1092 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " مَنْ دَعا رَجُلاً بالكُفْرِ أوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّه (3) وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إلاَّ حارَ عَلَيْهِ " وهذا لفظ رواية مسلم، ولفظ البخاري بمعناه، ومعنى حار: رجع. فصل: لو دعا مسلم على مسلم فقال: اللَّهمّ اسلبه الإِيمانَ عصى بذلك، وهل يكفر الداعي بمجرد هذا الدعاء؟ فيه وجهان لأصحابنا حكاهما القاضي حسين من أئمة

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار ": وجميع ما ذكر ليس بيمين لعروه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولان المحلوف به حرام، فلا ينعقد به اليمين، كقوله: إن فعلتُ كذا فأنا زان أو سارق. فإن قلت: يشكل على ما ذكر ما في " صحيح البخاري " من عدة طريق أن خبابا طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يبعثك. وقد يجاب بأنه لم يقصد التعليق وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في أنكار البعث، ولا ينافيه قوله " حتى " لانها تأتي بمعنى " إلا " المنقطعة، فتكون بمعنى " لكن " التي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف، وعليه خرج حديث " حتى يكون أبواه يهودانه " أي لكن أبواه، أشار إليه بعض المحققين. (2) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار ": قال المصنف: وظاهر خبر " مَنْ حَلَفَ فَقالَ في حَلِفِهِ: باللاَّتِ والعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ " الاقتصار على " لا إله إلا الله ". (3) بالرفع والنصب، فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عدو الله، والنصب على النداء، أي: يا عدو الله. (*)

أصحابنا في الفتاوى أصحُّهما: لا يكفر، وقد يُحتجّ لهذا بقول الله تعالى إخباراً عن موسى (صلى الله عليه وسلم) : (رَبَّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا ... ) الآية [يونس: 88] وفي هذا الاستدلال نظر، وإن قلنا: إنَّ شرعَ من قبلنَا شرعٌ لنا. فصل: لو أكرهَ الكفّار مسلماً على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئنّ بالإِيمان، لم يكفر بنصّ القرآن وإجماع المسلمين، وهل الأفضل أن يتكلَّم بها ليصونَ نفسَهُ من القتل؟ فيه خمسةُ أوجه لأصحابنا. الصحيحُ: أن الأفضلَ أن يصبرَ للقتل ولا يتكلّم بالكفر، ودلائلُه من الأحاديث الصحيحة، وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورة. والثاني: الأفضلُ أن يتكلَّمَ ليصونَ نفسَه من القتل. والثالث: إن كان في بقائه مصلحةٌ للمسلمين، بأن كان يرجو النكايةَ في العدوّ، أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضلُ أن يتكلَّم بها، وإن لم يكن كذلك، فالصبرُ على القتل أفضل. والرابع: إن كان من العلماء ونحوهم ممّن يُقتدى بهم، فالأفضلُ الصبر لئلا يغترّ به العوامّ. والخامسُ: أنه يجبُ عليه التكلّم، لقول الله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195] وهذا الوجه ضعيف جداً. فصل: لو أكره المسلمُ كافراً على الإِسلام فنطقَ بالشهادتين، فإن كان الكافرُ حربياً، صحّ إسلامه، لأنه إكراه بحقّ، وإن كان ذميّاً، لم يصِرْ مسلماً، لأنّا التزمنا الكفّ عنه، فإكراهُه بغير حق، وفيه قولٌ ضعيفٌ أنه يصيرُ مسلماً، لأنه أمره بالحقّ. فصل: إذا نطقَ الكافرُ بالشهادتين بغير إكراه، فإن كان على سبيل الحكاية، بأن قال: سمعتُ زيداً يقول: لا إِله إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله، لم يُحكم بإسلامه، وإن نطقَ بهما بعد استدعاء مسلم بأن قال له مسلمٍ: قُلْ: لا إِله إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله، فقالهما، صارَ مسلماً، وإن قالهما ابتداءً لا حكايةً ولا باستدعاء، فالمذهبُ الصحيحُ المشهورُ الذي عليه جمهور أصحابنا أنه يصيرُ مسلماً، وقيل لا يصيرُ لاحتمال الحكاية. فصل: ينبغي أن لا يُقال للقائم بأمر المسلمين خليفة الله، بل يُقال الخليفة، وخليفةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمير المؤمنين.

_ (1) وهو قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بالله من بعد إيمانه، إِلاّ مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان) [النحل: 106] . (*)

روينا في " شرح السنّة " للإِمام أبي محمد البغوي رضي الله عنه قال رحمه الله: لا بأسَ أن يُسمَّى القائم بأمر المسلمين: أمير المؤمنين، والخليفة، وإن كان مخالفاً لسيرة أئمة العدل، لقيامه بأمر المؤمنين وسمع المؤمنين له. قال: ويُسمَّى خليفة لأنه خلفَ الماضي قبلَه، وقام مقامه. قال: ولا يُسمى أحدٌ خليفة الله تعالى بعد آدم وداود عليهما الصلاة والسلام. قال الله تعالى: (إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30] وقال تعالى: (يا دَاوُدَ إنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفةً في الأرْضِ) [ص: 26] وعن ابن أبي مُليكة أن رجلاً قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأنا راضٍ بذلك. وقال رجلٌ لعمرَ بن العبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال: ويلَك لقد تناولتَ تناولاً بعيداً، إن أُمّي سمّتني عمر، فلو دعوتني بهذا الاسم قبلتُ، ثم كَبِرتُ فكُنِّيتُ أبا حفص، فلو دعوتني به قبلتُ، ثم وليتموني أمورَكم فسمَّيتُوني أمَير المؤمنين، فلو دعوتني بذاك كفاك. وذكر الإِمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه الشافعي في كتابه " الأحكام السلطانية " أن الإِمامَ سُمِّيَ خليفةً، لأنه خلفَ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) في أُمته، قال: فيجوز أن يُقال الخليفة، على الإِطلاق، ويجوز خليفة رسول الله. قال: واختلفوا في جواز قولنا خليفة الله، فجوّزه بعضُهم لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الأرْضِ) [فاطر: 39] وامتنع جمهورُ العلماء من ذلك، ونسبُوا قائلَه إلى الفجور، هذا كلام الماوردي. قلتُ: وأوّلُ مَن سُمِّي أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم. وأما ما توهمه بعضُ الجهلة في " مسيلمة " فخطأٌ صريح، وجهلٌ قبيح، مخالف لإِجماع، العلماء، وكُتبهم متظاهرة على نقلُ الاتفاق على أن أوّل مَن سُمِّي أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 1093 - وقد ذكر الإِمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ في كتابه " الاستيعاب " في أسماء الصحابة رضي الله عنهم بيان تسمية عمر أمير المؤمنين أوّلاً، وبيان سبب ذلك، وأنه كان يُقال في أبي بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . فصل: يحرمُ تحريماً غليظاً أن يقولَ للسلطان وغيره من الخلق شاهان شاه، لأن معناه: ملك الملوك، ولا يُوصف بذلك غير الله سبحانه وتعالى. 1094 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ أخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ " وقد قدّمنا بيان هذا في " كتاب الأسماء " وأن سفيانَ بن عيينة قال: ملك الأملاك، مثل شاهان شاه.

فصل: في لفظ السيد: اعلم أن السيد يُطلق على الذي يفوق قومَه، ويرتفعُ قدرُه عليهم، ويُطلق على الزعيم والفاضل، ويُطلق على الحليم الذي لا يستفزّه غضبُه، ويُطلق على الكريم، وعلى المالك وعلى الزوج، وقد جاءت أحاديثُ كثيرةٌ بإطلاق سيد على أهل الفضل. 1095 - فمن ذلك ما رويناه في " صحيح البخاري " عن أبي بكرةَ رضي الله عنه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صَعِدَ بالحسن بن عليّ رضي الله عنهما المنبرَ فقال: " إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ الله تعالى أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ". 1096 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: " قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ " أو " خَيْرِكُمْ " كذا في بعض الروايات " سيّدكم أو خيرِكم " وفي بعضها " سيّدكم " بغير شك. 1097 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن سعدَ بن عبادة رضي الله عنه قال: " يا رسولَ الله أرأيتَ الرجلَ يجدُ مع امرأته رجلاً أيقتله؟ ... الحديث، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " انْظُرُوا إلى ما يَقُولُ سَيِّدُكُمْ ". 1098 - وأما ما وردَ في النهي، فما رويناه بالإِسناد الصحيح في " سنن أبي دَاود " عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَقُولُوا لِلمُنافِقِ سَيِّدٌ، فإنَّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ أسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ ". قلت: والجمع بين هذه الأحاديث أنه لا بأس بإطلاق فلان سيد، ويا سيدي، وشبه ذلك إذا كان المسوَّد فاضلاً خيّراً، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك، وإن كان فاسقاً، أو متهماً في دينه، أو نحو ذلك، كُره له أن يقال سيّد. وقد روينا عن الإِمام أبي سليمان الخطابي في " معالم السنن " في الجمع بينهما نحو ذلك. فصل: يُكره أن يقول المملوك لمالكه: ربي، بل يقول: سيدي، وإن شاء قال: مولاي. ويُكره للمالك أن يقول: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتايَ وفتاتي أو غلامي. 1099 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ، وضئ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِيِ وَمَوْلايَ، وَلا يَقُلْ أحَدُكُمْ: عبْدِي أمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتايَ، وَفَتاتِي وَغُلامي ". وفي رواية لمسلم " وَلا يَقُلْ أحَدُكُمْ: رَبِّي، وَلْيَقُلْ: سَيِدي وَمَوْلايَ ".

وفي رواية له: " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأمَتِي، فَكُلُّكُمْ عَبِيدٌ، وَلا يَقُلِ العَبْدُ رَبي، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي ". وفي رواية له: " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأمَتي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وكُلُّ نِسائِكُمْ إماءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلامي وَجارِيَتِي، وَفَتايَ وَفَتاتِي ". قلتُ: قال العلماء: لا يُطلق الربُّ بالألف واللام إلاّ على الله تعالى خاصة، فأما مع الإضافة فيقال: ربّ المال، وربّ الدار، وغير ذلك. ومنه قول النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح في ضالّة الإِبل: " دَعْها حتَّى يَلْقاها رَبُّها " والحديث الصحيح " حتَّى يُهِمَّ ربَّ المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ " وقول عمر رضي الله عنه في " الصحيح ": ربّ الصُّرَيْمة والغُنَيْمة. ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة. وأما استعمال حملة الشرع ذلك، فأمر مشهور معروف. قال العلماء: وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه: ربي، لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية. وأما حديث " حتى يلقاها ربُّها " و " ربّ الصريمة " وما في معناهما، فإنما استعمل لأنها غير مكلفة، فهي كالدار والمال، ولا شك أنه لا كراهة في قول: ربّ الدار، وربّ المال. وأما قول يوسف (صلى الله عليه وسلم) : (اذكرني عند ربك) فعنه جوابان: أحدهما: أنه خاطبه بما يعرفه، وجاز هذا الاستعمال للضرورة، كما قال موسى (صلى الله عليه وسلم) للسامري: (وَانْظُرْ إلى إلهك) [طه: 97] أي الذي اتخذته إلهاً. والجواب الثاني: أن هذا شرعُ مَنْ قَبْلنَا، وشرعُ من قبلنا لا يكون شرعاً لنا إذا ورد شرعُنا بخلافه، وهذا لا خلاف فيه. وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع من قبلنا إذا لم يردْ شرعُنا بموافقته ولا مخالفته، هل يكون شرعاً لنا، أم لا؟. فصل: قال الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه " صناعة الكتاب ": أما المولى فلا نعلم اختلافاً بين العلماء أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يقول لأحد من المخلوقين: مولاي. قلت: وقد تقدم في الفصل السابق جواز إطلاق مولاي، ولا مخالفة بينه وبين هذا، فإن النحاس تكلَّم في المولى بالألف واللام، وكذا قال النحاس: يقال سيد، لغير الفاسق، ولا يقال السيد، بالألف واللام لغير الله تعالى، والأظهر أنه لا بأس بقوله المولى والسيد بالألف واللام بشرطه السابق. فصل: في النهي عن سبّ الريح: وقد تقدم الحديثان في النهي عن سبّها، وبيانهما في " باب ما يقول إذا هَاجَتِ الرِّيح ".

فصل: يُكره سبّ الحمى. 1100 - روينا في " صحيح مسلم " عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخلَ على أُمّ السائب - أو أُمّ المسيب - فقال: " ما لَكِ يا أُمّ السَّائِبِ - أو يا أُمّ المسيِّب - تُزَفْزِفِينَ؟ " قالت: الحمّى لا باركَ الله فيها، فقال: " لا تَسُبِّي الحُمَّى، فإنَّها تُذْهِبُ خَطايا بني آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ ". قلتُ: تزفزفين: أي تتحركين حركة سريعة، ومعناه: ترتعد، وهو بضم التاء وبالزاي المكرّرة، وروي أيضاً بالراء المكرّرة، والزاي أشهر، وممّن حكاهما ابن الأثير، وحكى صاحب " المطالع " الزاي وحُكي الراء مع القاف، والمشهور أنه بالفاء سواء كان بالزاي أو بالراء. 1101 - فصل: في النهي عن سبّ الديك: روينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَسُبُّوا الدّيكَ، فإنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلاةِ ". 1102 - فصل: في النهي عن الدعاء بدعوى الجاهلية وذمّ استعمال ألفاظهم: روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعا بِدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ " وفي رواية " أوْ شَقَّ أوْ دعا " بأو. فصل: ويُكره أن يُسمَّى المحرَّمُ صفراً (1) ، لأن ذلك من عادة الجاهلية. فصل: يحرمُ أن يُدعى بالمغفرة ونحوها لمن مات كافراً، قال الله تعالى: (ما كانَ لِلنَّبيّ والَّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهم أنهم

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الاذكار " قيل: كانوا يسمونه صفرا الاول، ويقولون لصفر: صفر الثاني، فلهذا سمي المحرم شهر الله. قال الحافظ السيوطي: سئلت لم خص المحرم بقولهم: شهر الله دون سائر الشهور، مع أن فيها ما يساويه في الفضل أو يزيد عليه كرمضان؟ ووجدت ما يجاب به بأن هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور، فإن اسمها كلها على ما كانت عليه في الجاهلية، وكان اسم المحرم في الجاهلية: صفر الاول، والذي بعده: صفر الثاني، فلما جاء الاسلام سماه الله المحرم، فأضيف إلى الله تعالى بهذا الاعتبار، وهذه فائدة لطيفة رأيتها في " الجمهرة ". اه. ونقل ابن الجوزي أن الشهور كلها لها أسماء في الجاهلية غير هذه الاسماء الاسلامية، قال: فاسم المحرم: بائق، وصفر: نقيل، وربيع الاول: طليق، وربيع الاخر: تاجر، وجمادي الاولي: أسلح، وجمادي الاخرة: أفتح، ورجب: أحلك، وشعبان: كسع، ورمضان: زاهر وشوال: بط، وذو القعدة: حق، وذو الحجة: نعيش. (*)

أصْحابُ الجَحِيمِ) [التوبة: 113] وقد جاء الحديث بمعناه، والمسلمون مجمعون عليه. فصل: يحرم سبّ المسلم من غير سبب شرعي يجوّز ذلك. 1103 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ ". 1104 - ورويناه في " صحيح مسلم " وكتابي أبي داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وصحّ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " المُسْتَبَّانِ ما قالا، فعلى البادئ مِنْهُما ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فصل: ومن الألفاظ المذمومة المستعملة في العادة قوله لمن يخاصمه: يا حمار، يا تيس، يا كلب، ونحو ذلك، فهذا قبيح لوجهين. أحدهما: أنه كذب، والآخر: أنه إيذاء، وهذا بخلاف قوله: يا ظالم ونحوه فإن ذلك يُسامح به لضرورة المخاصمة، مع أنه يصدق غالباً، فقلّ إنسانٌ إلا وهو ظالم لنفسه ولغيرها. فصل: قال النحاس: كرهَ بعضُ العلماء أن يُقال: ما كان معي خَلْقٌ إلاّ اللَّه. قلت: سبب الكراهة بشاعةُ اللفظ من حيث أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلاً، وهو هنا مُحال، وإنما المراد هنا الاستثناء المنقطع، تقديرُه ولكن كان الله معي، مأخوذ من قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أينما كنتم) [الحديد: 4] وَيَنْبغي أن يُقال بدلَ هذا: ما كان معي أحدٌ إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال: وكره أن يُقال: اجلس على اسم الله، وليقلْ اجلس باسم الله. فصل: حكى النحّاسُ عن بعض السلف أنه يُكره أن يقولَ الصائمُ: وحقِّ هذا الخاتم الذي على فمي، واحتجّ له بأنه إنما يُختم على أفواه الكفار، وفي هذا الاحتجاج نظر، وإنما حجته أنه حلفٌ بغير الله سبحانه وتعالى، وسيأتي النهي عن ذلك إن شاء الله تعالى قريباً، فهذا مكروهٌ لما ذكرنا، ولما فيه من إظهار صومه لغير حاجة، والله أعلم. 1105 - فصل: روينا في سنن أبي داود، عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أو غيره عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: " كنّا نقول في الجاهلية: أنعم الله بك عيناً (1) ، وأنعم صباحاً (2) . فلما كان الإِسلام نُهينا عن ذلك ".

_ (1) أي: أقر الله عينك بمن: (2) من النعومة، وأنعم عليك من النعمة. (*)

قال عبد الرزاق: قال معمر: يُكره أن يقول الرجل: أنعم الله بك عيناً، ولا بأسَ أن يقول: أنعم الله عينَك. قلتُ: هكذا رواه أبو داود عن قتادة أو غيره، ومثل هذا الحديث قال أهل العلم: لا يُحكم له بالصحة، لأن قتادة ثقة وغيرُه مجهول، وهو محتمل أن يكون عن المجهول، فلا يثبتُ به حكم شرعي، ولكن الاحتياط للإِنسان اجتناب هذا اللفظ لاحتمال صحته، ولأن بعض العلماء يحتجّ بالمجهول، والله أعلم. 1106 - فصل: في النهي أن يتناجى الرجلان إذا كان معهما ثالث وحده. روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا كُنْتُمْ ثَلاثَة فَلا يَتَنَاجَى (1) اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ مِنْ أجْلِ أنَّ ذلكَ يُحْزنُهُ ". 1107 - وروينا في " صحيحيهما "، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إِذَا كانُوا ثَلاَثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الثَّالِثِ " ورويناه في سنن أبي داود، وزاد قال أبو صالح الراوي عن ابن عمر: قلتُ لابن عمر: فأربعة؟ قال: لا يضرّك. فصل: في نهي المرأة أن تخبرَ زوجَها أو غيرَه بحسنِ بدنِ امرأةٍ أخرى إذا لم تدعُ إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك: 1108 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تُباشِرِ المرأةُ المَرأةَ فَتَصِفُها لزَوْجِها كأنَّهُ ينظر إليها ". فصل: يُكره أن يُقال للمتزوّج: بالرِّفاءِ والبنينَ، وإنما يُقال له: باركَ الله لك، وباركَ عليك، كما ذكرناه في " كتاب النكاح ". فصل: روى النَّحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى - وكان أحد الفقهاء العلماء الأدباء - أنه قال: يُكره أن يُقال لأحدٍ عند الغضب: أذْكُرَ اللَّهَ تَعالى خوفاً من أن يحملَه الغضبُ على الكفر، قال: وكذا لا يُقال له: صلِّ على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، خوفاً من هذا. فصل: من أقبح الألفاظ المذمومة، ما يَعتادُه كثيرون من الناس إذا أرادَ أن يَحلِفَ

_ (1) قال ابن علاّن في " شرح الجامع الصغير ": كذا للاكثر بالالف المقصورة ثابتة في الخط بصورة ياء، وتسقط في اللفظ لا لتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر، ومعناه النهي. (*)

على شئ فيتورّع عن قوله: والله، كراهيةَ الحنث أو إجلالاً لله تعالى وتصوّناً عن الحلف، ثم يقول: الله يعلم ما كان كذا، أو لقد كان كذا ونحوه، وهذه العبارةُ فيها خطرٌ، فإن كان صاحبُها متيقناً أن الأمر كما قال فلا بأس بها، وإن كان تشكَّكَ في ذلك فهو من أقبح القبائح لأنه تعرّضَ للكذب على الله تعالى، فإنه أخبرَ أن الله تعالى يعلمُ شيئاً لا يتيقنُ كيف هو، وفيه دقيقة أخرى أقبحُ من هذا، وهو أنه تعرّض لوصف الله تعالى بأنه يعلمُ الأمرَ على خلاف ما هو، وذلك لو تحقَّقَ كان كافراً، فينبغي للإِسان اجتنابُ هذه العبارة. فصل: ويُكره أن يقولَ في الدّعاء: اللَّهم اغفر لي إن شئت، أو إن أردتَ، بل يجزمُ بالمسألة. 1109 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: اللَّهُمّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسألةَ، فإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ ". وفي رواية لمسلم: " ولَكنْ ليَعْزِمْ وَلْيُعظِمِ الرَّغْبَةَ، فإنَّ الله لا يتعاظمه شئ أعْطاهُ ". 1110 - وروينا في " صحيحيهما " عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا دَعا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المسألةَ، وَلا يَقُولَنَّ اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ فأعْطِني فإنَّه لا مستكره له ". فصل: ويُكره الحلفُ بغير أسماء الله تعالى وصفاته، سواءٌ في ذلك النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، والكعبة، والملائكة، والأمانة، والحياة، والروح، وغير ذلك. ومن أشدِّها كراهة: الحلف بالأمانة. 1111 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ اللَّهَ يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بأبائِكُمْ، فَمَنْ كانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بالله، أوْ لِيَصمُت " وفي رواية في الصحيح: " فَمَنْ كانَ حالِفاً فَلا يَحْلِفْ إِلاّ باللَّهِ أوْ لِيَسْكُتْ ". وروينا في النهي عن الحلف بالأمانة تشديداً كثيراً. 1112 - فمن ذلك ما رويناه في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ حَلَفَ بالأمانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا ". فصل: يُكره إكثارُ الحلف في البيع ونحوه وإن كان صادقاً.

1113 - روينا في " صحيح مسلم " عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إيَّاكُمْ وكَثْرَةَ الحَلِفِ في البَيْعِ، فإنَّهُ يُنْفِقُ ثُمَّ يَمْحَقُ ". فصل: يُكره أن يُقال قوسُ قزح لهذه التي في السماء. 1114 - روينا في حلية الأولياء " لأبي نعيم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا تَقُولُوا قَوْسَ قُزَحَ، فإنَّ قُزَحَ شَيْطانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا قَوْسَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فهُوَ أمانٌ لأهْلِ الأرْضِ " (1) . قلت: قُزح بضم القاف وفتح الزاي، قال الجوهري وغيره: هي غير مصروفة، وتقولُه العوامّ: قدح، بالدال، وهو تصحيف. فصل: يُكره للإِنسان إذا ابتُلي بمعصيةٍ أو نحوها أن يخبرَ غيرَه بذلك، بل ينبغي أن يتوب إلى الله تعالى فيقلعَ عنها في الحال، ويندمَ على ما فعل، ويعزم أن لا يعود إلى مثلها أبداً، فهذه الثلاثة هي أركان التوبة، لا تصحّ إلا باجتماعها، فإن أخبرَ بمعصيته شيخَه أو شبهَه ممّن يرجو بإخباره أن يعلِّمه مخرجاً من معصيته، أو ليعلِّمَه ما يَسلمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرِّفَه السببَ الذي أوقعه فيها، أو يدعوَ له، أو نحوَ ذلك، فلا بأسَ به، بل هو حسنٌ، وإنما يُكره إذا انتفتْ هذه المصلحةُ. 1115 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " كُلُّ أُمّتِي معافىً إلا المُجاهِرينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ (2) أنْ يَعْمَلَ الرَّجُل باللَّيْلِ عَمَلاً ثًمَّ يُصْبحُ وَقَدْ سَتَرَهُ تَعالى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: يا فُلانُ عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذَا وكَذَا، وَقَدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عليه ". فصل: يَحرمُ على المكلّف أن يحدِّث عبدَ الإِنسان، أو زوجته أو ابنه، أو غلامَه، ونحوَهم بما يُفسدهم به عليه إذا لم يكنْ ما يُحدِّثهم به أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر. قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنوا على البِرّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ) [المائدة: 2] وقال تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] .

_ (1) هو في " حلية الأولياء " 2 / 309 في ترجمة أبي رجاء العطاردي، وفي سنده زكريا بن حكيم الحبطي البصري، وهو ضعيف. (2) وجاء بلفظ " وإن من المجافة " وفي مسلم: وإن من الاجهار، قال الحافظ في " الفتح " قوله: وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ، كذا لابن السكن والكشميهني، وعليه شرح ابن بطال، وللباقين: المجانة، بدل: المجاهرة، وفي رواية لمسلم: الجهار، وفي رواية الاسماعيلي: الاهجار، وفي رواية لأبي نعيم في " المستخرج ": وإن من الهجار، فتحصلنا على أربعة، أشهرها: الجهار. (*)

1116 - وروينا في كتابي أبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " من خبب زوجة امرئ أوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا " (1) . قلتُ: خبَّبَ بخاء معجمة ثم باء موحدة مكرّرة، ومعناه: أفسده وخدعه. فصل: ينبغي أن يُقال في المال المخرج في طاعة الله تعالى: أنفقتُ وشبهُه، فيقال: أنفقتُ في حجتي ألفاً، وأنفقتُ في غزوتي ألفين، وكذا أنفقتُ في ضيافة ضيفاني، وفي خِتان أولادي، وفي نكاحي، وشبه ذلك: ولا يقولُ ما يقوله كثيرون من العوامّ: غَرِمْتُ في ضيافتي، وخسرتُ في حجتي، وضيّعت في سفري. وحاصلهُ أن أنفقتَ وشبهه يكونُ في الطاعات. وخسرتُ وغرِمتُ وضيّعت ونحوها يكونُ في المعاصي والمكروهات، ولا تُستعمل في الطاعات. فصل: مما يُنهى عنه ما يقولُه كثيرون من الناس في الصلاة إذا قال الإِمام (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ) فيقول المأموم: إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نستعين، فهذا مما ينبغي تركه والتحذير منه، فقد قال صاحب " البيان " من أصحابنا: إنَّ هذا يُبطل الصلاة، إلا أن يقصد به التلاوة، وهذا الذي قاله وإن كان فيه نظرٌ والظاهرُ أنه لا يُوَافق عليه، فينبغي أن يُجتنبَ، فإنه وإن لم يُبطلِ الصلاةَ فهو مكروهٌ في هذا الموضع، والله أعلم. فصل: مما يتأكد النهيُ عنه والتحذيرُ منه ما يقولُه العوامّ وأشباهُهم في هذه المكوس التي تُؤخذُ مما يبيع أو يشتري ونحوهما، فإنهم يقولون: هذا حقّ السلطان، أو عليك حقّ السلطان، ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقاً أو لازماً ونحو ذلك، وهذا من أشدّ المنكرات، وأشنع المستحدثات، حتى قال بعضُ العلماء: من سمَّى هذا حقاً فهو كافرٌ خارجٌ عن ملّة الإِسلام، والصحيحُ أنه لا يكفرُ إلا إذا اعتقده حقاً مع علمه بأنه ظلم، فالصوابُ أن يُقال فيه المكسُ، أو ضريبةُ السلطان، أو نحو ذلك من العبارات، وبالله التوفيق. فصل: يكره أن يسألُ بوجه الله تعالى غير الجنة. 1117 - روينا في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يُسألُ بوجه الله إلا الجنة " (2) .

_ (1) وهو حديث حسن. (2) وإسناده ضعيف، وقد جاء الحديث أيضا بلفظ " ملعون من سأل بوجه الله " رواه لطبراني عن أبي موسى الاشعري، وقد حسن إسناده الحافظ العراقي في " العمدة " كما في " فيض القدير " للمناوي، وضعفه غيره. (*)

فصل: يُكره منعُ من سألَ بالله تعالى وتشفَّع به. 1118 - روينا في سنن أبي داود والنسائي بأسانيد الصحيحة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ اسْتَعاذَ باللَّهِ فأعِيذُوهُ، وَمَنْ سألَ باللَّهِ تَعالى فأعْطُوهُ، وَمَنْ دَعاكُمْ فأجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كافأتموه ". فصل: الأشهرُ أنه يُكره أن يُقال: أطالَ الله بقاءَك. قال أبو جعفر النحّاس في كتابة " صناعة الكتاب ": كَرِهَ بعضُ العلماء قولهم: أطالَ الله بقاءك، ورخَّصَ فيه بعضُهم. قال إسماعيل بن إسحاق: أوَّلُ مَن كتب " أطالَ الله بقاءَك " الزنادقة. وروي عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أن مكاتبة المسلمين كانت: من فلان إلى فلان: أما بعد، سلامٌ عليك، فإني أحمدُ الله الذي لا إِله إِلاَّ هو، وأسألُه أن يصلِّيَ على محمد وعلى آل محمد، ثم أحدثتِ الزنادقةُ هذه المكاتبات التي أوّلُها: أطالَ اللَّه بقاءَك. فصل: المذهبُ الصحيحُ المختار أنه لا يُكره قول الإِنسان لغيره: فِداكَ أبي وأُمي، أو جعلني الله فداك، وقد تظاهرتْ على جواز ذلك الأحاديثُ المشهورة التي في " الصحيحين " وغيرهما، وسواءٌ كانَ الأبوان مسلمين أو كافرين، وكَرِهَ ذلك بعضُ العلماء إذا كانا مسلمين. قال النحاس: وكرهَ مالكُ بن أنس: جعلني الله فداك، وأجازَه بعضُهم. قال القاضي عياض: ذهبَ جمهورُ العلماء إلى جواز ذلك، سواءٌ كان المفديُّ به مسلماً أو كافراً. قلت: وقد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك ما لا يُحصى، وقد نبَّهتُ على جمل منها في " شرح صحيح مسلم ". فصل: ومما يُذمّ من الألفاظ: المِراء، والجِدال، والخُصومة. قال الإِمام أبو حامد الغزالي: المراء: طعنُك في كلام الغير لإِظهار خَلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله، وإظهار مزيَّتِك عليه، قال: وأما الجدالُ، فعبارةٌ عن أمر يتعلّقُ بإظهار المذاهب وتقريرها، قال: وأما الخصومةُ، فلِجَاجٌ في الكلام ليستوفيَ به مقصودَه من مال أو غيره، وتارة يكون ابتداءً، وتارة يكون اعتراضاً، والمِراء لا يكون إلا اعتراضاً، هذا كلام الغزالي. واعلم أن الجدال قد يكون بحقّ وقد يكون بباطل، قال الله تعالى: (وَلا تُجادِلُوا

أهْلَ الكِتابِ إِلاَّ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ) [العنكبوت: 46] وقال تعالى: (وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] وقال تعالى: (ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَروا) [غافر: 4] فإن كان الجدالُ للوقوفِ على الحقّ وتقريرِه كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحقّ، أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزيلُ النصوص الواردة في إباحته وذمّه، والمجادلة والجدال بمعنى، وقد أوضحتُ ذلك مبسوطاً في " تهذيب الأسماء واللغات ". قال بعضُهم: ما رأيتُ شيئاً أذهبَ للدين، ولا أقصَ للمروءة، ولا أضيعَ للذة، ولا أشغلَ للقلب من الخصومة. فإن قلتَ: لا بُدَّ للإِنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه. فالجوابُ ما أجابَ به الإِمامُ الغزالي: أن الذمَّ المتأكّدَ إنما هو لمن خاصمَ بالباطل أو بغير علمٍ، كوكيل القاضي، فإنه يتوكَّلُ في الخصومة قبل أن يعرفَ أن الحقّ في أيّ جانب هو فيخاصمُ بغير علم. ويدخلُ في الذمّ أيضاً مَن يطلبُ حَقَّه، لكنه لا يقتصرُ على قدرِ الحاجة، بل يظهرُ اللددَ والكذبَ للإِيذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خَلَطَ بالخصومة كلماتٍ تُؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك مَن يحملُه على الخصومة محضُ العِناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلومُ الذي ينصرُ حجَّتَه بطريق الشرع من غير لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادةِ لجاجٍ على الحاجة من غير قصدِ عنادٍ ولا إيذاء، ففعلُه هذا ليس حراماً، ولكن الأولى تركُه ما وجد إليه سبيلاً، لأنَّ ضبطَ اللسان في الخصومة على حدّ الاعتدال متعذّر، والخصومةُ تُوغرُ الصدورَ، وتهيجُ الغضبَ، وإذا هاجَ الغضبُ حصلَ الحقدُ بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءةِ الآخر، ويحزنُ بمسرّته، ويُطلق اللسانَ في عرضه، فمن خاصمَ فقد تعرّضَ لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغالُ القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره معلقٌ بالمحاجّة والخصومة فلا يَبقى حالُه على الاستقامة. والخصومةُ مبدأ الشرّ، وكذا الجِدال والمِراء، فينبغي أن لا يفتحَ عليه بابَ الخصومة إلا لضرورة لا بُدَّ منها، وعند ذلك يُحفظُ لسانَه وقلبَه عن آفات الخصومة. 1119 - روينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " كَفَى بِكَ إثْماً أنْ لا تزال مخاصما " (1) .

_ (1) وإسناده ضعيف. (*)

وجاء عن عليّ رضي الله عنه قال: إن للخصوماتِ قحما. قلتُ: القُحَم بضم القاف وفتح الحاء الحاء المهملة: هي المهالك. فصل: يُكره التقعيرُ في الكلام بالتشدّق وتكلّف السجع والفَصاحة والتصنّع بالمقدمات التي يَعتادُها المتفاصحون وزخارف القول، فكلُّ ذلك من التكلُّف المذموم، وكذلك تكلّف السجع، وكذلك التحريّ في دقائق الإِعراب ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوامّ، بل ينبغي أن يقصدَ في مخاطبته لفظاً يفهمُه صاحبُه فهماً جليّاً ولا يستثقلُه. 1120 - روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرّجالِ الَّذي يَتَخَلَّل بِلِسانِهِ كما تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ " قال الترمذي: حديث حسن. 1121 - ور وينا في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثاً. قال العلماء: يعني بالمتنطعين: المبالغين في الأمور. 112 - وروينا في كتاب الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ، وأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ، أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً، وَإنَّ أبْغَضَكُمْ إليَّ، وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيامَةِ، الثَّرْثارُونَ وَالمُتَشَدّقُونَ وَالمُتَفَيْقِهُونَ "، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيقهون؟ قال: المُتَكَبِّرُون " قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: والثرثار: هو الكثير الكلام. والمتشدّقُ: مَن يتطاولُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم. واعلم أنه لا يدخلُ في الذمّ تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب، لأن المقصودَ منها تهييج القلوب إلى طاعة الله عزّ وجلّ، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر. فصل: ويُكره لمن صلى العشاء الآخرة أن يتحدَّثَ بالحديث المباح في غير هذا الوقت، وأعني بالمُباح الذي استوى فعله وتركه، فأما الحديث المحرّم في غير هذا الوقت أو المكروه، فهو في هذا الوقت أشدّ تحريماً وكراهة، وأما الحديثُ في الخير، كمذاكرة العلم، وحكايات الصالحين، ومكارم الأخلاق، والحديث مع الضيف فلا

كراهةَ فيه، بل هو مستحبّ، وقد تظاهرت الأحاديثُ الصحيحةُ به، وكذلك الحديثُ للغدر والأمور العارضة لا بأس به، وقد اشتهرت الأحاديثُ بكل ما ذكرتُه، وأنا أُشيرُ إلى بعضها مختصراً، وأرمزُ إلى كثير منها. 1123 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي بَرزةَ رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يكرهُ النومَ قبل العِشاء (1) والحديثَ بعدَها. وأما الأحاديث بالترخيص في الكلام للأمور التي قدّمتُها فكثيرةٌ. 1124 - فمن ذلك حديث ابن عمر في " الصحيحين ": أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) صلَّى العشاءَ في آخر حياته، فلما سلَّم قال: " أرأيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فإنَّ على رأسِ مِئَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ على ظَهْرِ الأرْضِ اليَوْمَ أحَدٌ ". 1125 - ومنها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، في " صحيحيهما ": أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) أعتم بالصلاة حتى ابهارّ الليلُ، ثم خرجَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فصلَّى بهم، فلما قضَى صلاته قال لمن حضره: على رِسْلِكُمْ أُعَلِّمْكُمْ، وأبْشِرُوا أنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْكُمْ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ " أوْ قالَ: " ما صَلَّى أحَدٌ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ ". 1126 - ومنها حديث أنس في " صحيح البخاري ": " أنهم انتظروا النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فجاءَهم قريباً من شطر الليل، فصلَّى بهم: يعني العشاء، قال: ثم خطبَنا فقال: ألا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوْا ثُمَّ رَقَدُوا، وَإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا في صَلاةٍ ما انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ ". 1127 - ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مبيته في بيت خالته ميمونة قوله: أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) صلَّى العشاءَ، ثم دخلَ فحدّثَ أهلَه، وقوله: " نَامَ الغُلَيْم؟ ". 1128 - ومنها حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في قصة أضيافه واحتباسه عنهم حتى صلّى العشاء، ثم جاء وكلَّمهم، وكلَّم امرأتَه وابنه وتكرّر كلامُهم، وهذان الحديثان في " الصحيحين "، ونظائرُ هذا كثيرة لا تنحصرُ، وفيما ذكرناه أبلغُ كفاية، ولِلَّهِ الحَمْدُ. فصل: يُكره أن تُسمَّى العشاء الآخرة العتمة، للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك ويُكره أيضاً أن تُسمَّى المغرب عشاء.

_ (1) أي قبل صلاتها لانه قد يكون سببا لفوات وقتها فيؤخرها عن وقتها المختار، ولئلا يتساهل الناس في ذلك فينامون عن صلاتها جماعة. (*)

1129 - روينا في " صحيح البخاري " عن عبد الله بن مُغَفّل المزني رضي الله عنه - وهو بالغين المعجمة - قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ على اسمِ صَلاتِكُمُ المَغْرِبِ " قال: وتقول الأعرابُ: هي العشاء. 1130 - وأما الأحاديث الواردة بتسمية عَتَمَةً، كحديث: " لو يَعْلَمُونَ ما في الصُّبْحِ وَالعَتَمَةِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ". فالجواب عنها من وجهين: أحدهما: أنها وقعتْ بياناً لكون النهي ليس للتحريم، بل للتنزيه. والثاني: أنه خُوطبَ بها مَن يخافُ أنه يلتبس عليه المراد لو سمَّاها عشاءً. وأما تسمية الصبح غداةً فلا كراهة فيه على المذهب الصحيح، وقد كثرتِ الأحاديثُ الصحيحةُ في استعمال غداة، وذكر جماعة من أصحابنا كراهة ذلك، وليس بشئ، ولا بأسَ بتسمية المغرب والعشاء عشاءين، ولا بأس بقول العشاء الآخرة. وما نُقل عن الأصمعي أنه قال: لا يُقال العشاء الآخرة، فغلط ظاهر. 1131 - فقد ثبتَ في " صحيح مسلم " أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أيُّمَا امْرأةٍ أصَابَتْ بَخُوراً فَلا تَشْهَدْ مَعَنا العِشاءَ الآخِرَةَ ". وثبت في ذلك كلامُ خلائقَ لا يُحصون من الصحابة في " الصحيحين " وغيرهما، وقد أوضحتُ ذلك كلَّه بشواهده في " تهذيب الأسماء واللغات " وبالله التوفيق. فصل: ومما يُنهى عنه إفشاءُ السرّ، والأحاديثُ فيه كثيرة، وهو حرامٌ إذا كان فيه ضررٌ أو إيذاء. 1132 - روينا في سنن أبي داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بالحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أمانَةٌ " قال الترمذي: حديث حسن. فصل: يُكره أن يُسألَ الرجلُ: فيم ضربَ امرأتَه من غير حاجة. قد روينا في أوّل هذا الكتاب في " حفظ اللسان " والأحاديث الصحيحة في السكوت عمّا لا تظهر فيه المصلحة. 1133 - وذكرنا الحديث الصحيح " منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يعنيه " وروينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يُسألُ الرَّجُلُ: فيمَ ضَرَبَ امْرأتَهُ ".

1134 - فصل: أما الشعر فقد روينا في مسند " أبي يعلى الموصلي " بإسناد حسن (1) عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سُئل رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) عن الشعر فقال: " هُوَ كلامٌ حَسَنُهُ كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام " (2) . قال العلماء: معناه: أنَّ الشعرَ كالنثر (3) ، لكن التجرّدَ له والاقتصارَ عليه مذمومٌ (4) . 1135 - وقد ثبتَت الأحاديثُ الصحيحةُ بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمع الشعرَ، وأمرَ حسان بن ثابت بهجاء الكفّار. 1136 - وثبتَ أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ". 1136 - وثبت أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: " لان يمتلئ جَوْفُ أحَدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ لَهُ منْ أنْ يمتلئ شعرا " وكل ذلك على حسب ما ذكرناه. فصل: ومما يُنهى عنه، الفحشُ وبذاءةُ اللسان، والأحاديثُ الصحيحة فيه كثيرة معروفة، ومعناه: التعبيرُ عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وإن كانتْ صحيحةً والمتكلّمُ بها صادق، ويقعُ ذلك كثيراً في ألفاظ الوقاع ونحوها. وينبغي أن يستعملَ في ذلك الكنايات، ويعبّر عنها بعبارة جميلة يُفهم بها الغرضُ، وبهذا جاءَ القرآن العزيز والسن الصحيحة المكرّمة، قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ) [البقرة: 187] وقال تعالى: (وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ) [النساء: 21] . وقال تعالى: (وَإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 237] والآيات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة. قال العلماء: فينبغي أن يستعملَ في هذا وما أشبهَه من العبارات التي يُستحيى من ذكرها بصريح اسمها الكنايات المفهمة، فيُكنّي عن جماع المرأة بالإِفضاءِ والدخولِ

_ (1) وهو حديث حسن بشواهده، انظر الفتح 10 / 445. (2) كهجاء المسلمين، والتشبب بامرأة أو أمرد معين، أو مدح الخمرة، مدح ظالم أو نحوه، المغالاة في المدح أو نحو ذلك. قال الفقهاء: المميز للشعر الجائز من غيره، أن ما جاز في النثر جاز في النظم. (3) أي المدح والذم إنما يدوران مع المعنى ولا عبرة باللفظ موزونا كان أو لا. (4) أي بحيث يكون الشعر مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيرِه من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى. قال المصنف في " شرح مسلم ": فهذا مذموم في أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضره حفظ اليسير مع الشعر، أي الخالي عن الفحش والقبح مع هذا، لان جوفه ليس ممتلئا شعرا. (*)

والمعاشرةِ والوِقاع ونحوها، ولا يصرح بالنيك والجماع ونحوهما، وكذلك يُكنّي عن البول والتغوّط بقضاء الحاجة، والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرّحُ بالخِرَاءة والبول ونحوهما، وكذلك ذكرُ العيوب كالبرص والبَخَر والصُّنان وغيرها، يعبّر عنها بعبارات جميلة يُفهم منها الغرض، ويُلحق بما ذكرناه من الأمثلة ما سواه. واعلم أن هذا كلَّه إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى التصريح بصريح اسمه، فإن دعتْ حاجةٌ لغرض البيان والتعليم، وخِيفَ أن المخاطَب لا يفهم المجاز، أو يفهمُ غيرَ المراد، صرّح حينئذ باسمه الصريح ليحصلَ الإِفهامُ الحقيقي، وعلى هذا يحمل ما جاء في الاحاديث من التصريح بمثل هذا، فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا، فإن تحصيل الإِفهامُ في هذا أولى من مراعاة مجرّد الأدب، وبالله التوفيق. 1137 - روينا في كتاب الترمذي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ " قال الترمذي: حديث حسن. 1138 - وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ما كان الفُحْشُ في شئ إلاَّ شانَهُ، وَما كانَ الحَياءُ في شئ إلاَّ زَانَهُ " قال الترمذي: حديث حسن. فصل: يحرمُ انتهارُ الوالد والوالدة وشبههما تحريماً غليظاً، قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً، إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَريماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّيَاني صَغِيراً) الآية [الإِسراء: 23 - 25] . 1139 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مِنَ الكَبائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتُم الرجلُ والديه؟ قال: نَعَمْ، يَسُبّ أبَا الرَّجُلِ فَيسبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ". 1140 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان تحتي امرأةٌ وكنتُ أُحبها، وكان عمرُ يكرهُها، فقال لي: طلّقْها، فأبيتُ، فأتى عمرُ رضي الله عنه النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) فذكرَ ذلك له، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) : " طَلِّقْها " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

باب النهي عن الكذب وبيان أقسامه

(بابُ النهي عن الكَذبِ وبيان أقسامهِ) قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنّة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمّ بيان ما يُستثنى منه، والتنبيه على دقائقه، ويكفي في التنفير منه الحديث المتفق على صحته: 1141 - وهو ما رويناه في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا ائتُمن خَانَ ". 1142 - وروينا في " صحيحيهما " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حتَّى يَدَعَها: إِذَا ائتُمِن خانَ، وَإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خاصَمَ فَجَرَ " وفي رواية مسلم " إذا وعدَ أخلفَ " بدل " وإذا ائتُمِن خان ". وأما المستثنى منه: 1143 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أُمّ كلثوم (1) رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً أوْ يَقُولُ خَيْراً " هذا القدر في " صحيحيهما ". وزاد مسلم في رواية له: " قالت أُمّ كلثوم: ولم أسمعه يُرخِّصُ في شئ مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني: الحرب، والإِصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها " فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماءُ ما يُباح منه. وأحسننُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكن التوصلُ إليه بالصدق والكذب

_ (1) وهي بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الاموية أخت عثمان بن عفان لامه، أسلمت قديما، وهاجرت سنة سبع، ويقال: إنها أول قرشية بايعت النبي (صلى الله عليه وسلم) ، تزوجها زيدُ بنُ حارثةَ، واستشهد يوم مؤتة، ثم الزبير بن العوّام وطلقها، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فمات عنها، ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنه، قيل: أقامت عنده شهرا ثم ماتت، وهي أم حميد وإبراهيم بن عبد الرحمن التابعي المشهور، خرج حديثها الستة غير ابن ماجة، وليس لها في " الصحيحين " غير هذا الحديث، روى عنها ابناها إبراهيم وحميدة وبسرة بن صفوان، ماتت رضي الله عنها في خلافة علي رضي الله عنه. (*)

جميعاً، فالكذبُ فيه حرامٌ، لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجبٌ إن كان المقصود واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه، وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيره وديعة وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالمُ قهراً، وجبَ ضمانُها على المُودع المُخبر، ولو استحلفَه عليها، لزمَه أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورّ، حنثَ على الأصحّ، وقيل لا يحنثُ، وكذلك لو كان مقصودُ حَرْبٍ، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلّه أن يورّي، ومعنى التورية أن يقصدَ بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ. ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارةَ الكذب، فليس بحرام في هذا الموضع. قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كل ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي له، مثلُ أن يأخذَه ظالمٌ، ويسألَه عن ماله ليأخذَه، فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ الله تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها ويقول ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً. وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار. وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَلَ عن سرّ أخيه فينكرَهُ ونحو ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدّ ضرراً، فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكّ، حَرُمَ عليه الكذبُ، ومتى جازَ الكذبُ، فإن كان المبيحُ غرضاً يتعلّقُ بنفسه، فيستحبّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقاً بغيره، لم تجز المسامحةُ بحقّ غيره، والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجباً. واعلم أن مذهبَ أهل السنّة أن الكذبَ هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو، سواء تعمدتَ ذلك أم جهلته، لكن لا يأثمُ في الجهل، وإنما يأثمُ في العمد. 1144 - ودليلُ أصحابنا تقييد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) " مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ ".

_ (1) وهو حديث صحيح متواتر، وقد جمع الطبراني طرقه في جزء، وهو ضمن مجموع في مخطوطات دار الكتب الظاهرية. (*)

باب الحث على التثبت فيما يحكيه الإنسان والنهي عن التحديث بكل ما سمع إذا لم يظن صحته

(بابُ الحثِّ على التثّبت فيما يحكيهِ الإِنسانُ والنهي عن التحديث بكلِّ ما سمعَ إذا لم يظنّ صحته) قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مَسْؤولاً) [الإِسراء: 36] وقال تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] وقال تعالى: (إنَّ رَبَّكَ لَبالمِرْصَادِ) [الفجر: 14] . 1145 - وروينا في " صحيح مسلم " عن حفص بن عاصم التابعي الجليل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " كَفَى بالمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ " (1) ورواه مسلم من طريقين: أحدهما هكذا، والثاني عن حفص بن عاصم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرسلاً لم يذكر أبا هريرة، فتُقدَّمُ روايةُ مَن أثبت أبا هريرة، فإن الزيادة من الثقة مقبولة، وهذا هو المذهب الصحيحُ المختارُ الذي عليه أهلُ الفقه والأصول، والمحقّقون من المحدّثين، أن الحديث إذا روي من طريقين، أحدهما مرسلٌ، والآخر متصلٌ، قدّم المتصل، وحكم بصحة الحديث، وجاز الاحتجاج به في كل شئ من الأحكام وغيرها، والله أعلم. 1146 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: " بحسبِ المرءِ من الكذبِ أن يحدّثِ بكلّ ما سمعَ ". وروينا في " صحيح مسلم " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مثله، والآثارُ في هذا الباب كثيرة. 1147 - وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح (2) عن أبي مسعود (3) أو حذيفة بن اليمان قال: سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا " قال الإِمام أبو سليمان الخطابي فيما رويناه عنه في " معالم السنن ": أصلُ هذا الحديث إنَّ الرجلَ إذَا أرادَ الظعن في حاجة والسير إلى بلد، ركب مطية، وسار حتى يبلغ حاجته، فشبّهَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ما

_ (1) الباء في " بالمرء " زائدة في المفعول، وكذبا منصوب على التمييز، و " أن يحدث " مؤول بالتحديث فاعل " كفى "، أي: كفى المرء من حديث الكذب تحديثه بكل ما سمعه، وذلك لانه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حديث بكل ما سمع فقد كذب، لاخباره بما لم يكن. (2) رواه أبو داود رقم (4972) في الادب، بابُ قولِ الرجلِ: زعموا، من حديث أبي قلابة عن أبي مسعود أو حذيفة، وأبو قلابة لم يسمع منهما فهو مرسل. (3) كذا في الاصل، ابن مسعود، وهو خطأ، والصواب: أبو مسعود. (*)

باب التعريض والتورية

يقدِّمُ الرجلُ أمامَ كلامه ويتوصل به إلى حاجته من قولهم: " زعموا "، بالمطيّة، وإنما يُقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت، إنما هو شئ يُحكى على سبيل البلاغ، فذمّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) من الحديث ما هذا سبيلُه، وأمر بالتوثق فيما يحكيه والتثبت فيه، فلا يَرويه حتى يكون معزوّاً إلى ثبت. هذا كلامُ الخطابي، والله أعلم. (بابُ التعريض والتورية) اعلم أن هذا الباب من أهمّ الأبواب، فإنه مما يكثرُ استعمالُه وتعمُّ به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأملَه ويعملَ به، وقد قدَّمنا في الكذب من التحريم الغليظ، وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا البابُ طريقٌ إلى السلامة من ذلك. واعلم أن التوريةَ والتعريضَ معناهما: أن تُطلقَ لفظاً هو ظاهرٌ في معنى، وتريدُ به معنىً آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلافُ ظاهره، وهذا ضربٌ من التغرير والخداع. قال العلماء: فإن دعتِ إلى ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخاطب أو حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شئ من ذلك فهو مكروهٌ وليس بحرام، إلا أن يُتوصَل به إلى أخذ باطل أو دفع حقّ، فيصيرُ حينئذ حراماً، هذا ضابطُ الباب. فأما الآثار الواردةُ فيه، فقد جاء من الآثار ما يُبيحه وما لا يُبيحه، وهي محمولةٌ على هذا التفصيل الذي ذكرناه، فمما جاء في المنع: 1148 - ما رويناه في " سنن أبي داود " بإسناد فيه ضعفٌ لكن لم يُضَعِّفه أبو داود، فيقتضي أن يكون حسنا عنده كما سبق بيانه عن سفيان بن أسد - بفتح الهمزة - رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " كَبُرَتْ خِيانَةً أنْ تُحَدِّثَ أخاكَ حَدِيثاً هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وأنْتَ بِهِ كاذِبٌ " (1) . وروينا عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال: الكلامُ أوسعُ من أن يكذب ظريفٌ. مثال التعريض المباح ما قاله النخعي رحمه الله: إذا بلغ الرجلَ عنك شئ قلتَه فقل: الله يعلم

_ (1) رواه أبو داود (4971) في الادب، باب في المعارض، من حديث سفيان بن أسيد الحضرمي وإسناده ضعيف، فيه مجهولان وضعيف، ورواه أحمد في المسند: 4 / 183 من حديث النواس بن سمعان، وفي سنده عمر بن هارون، وهو متروك، وشريح بن عبيد الحضرمي، وهو يرسل كثيرا. (*)

باب ما يقوله ويفعله من تكلم بكلام قبيح

ما قلتُ من ذلك من شئ، فيتوهم السامعُ النفيَ، ومقصودُك الله يعلم الذي قلتُه. وقال النخعيُّ أيضاً: لا تقلْ لابنك: أشتري لك سكراً، بل قل: أرأيتَ لو اشتريت لك سكراً. وكان النخعي إذا طلبه رجلٌ قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد. وقال غيره: خرج أبي في وقت قبل هذا. وكان الشعبي يخطّ دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها وقولي: ليس هو هاهنا. ومثل هذا قول الناس في العادة لمن دعاهُ لطعام: أنا على نيّة، موهماً أنه صائم، ومقصودُه على نيّة ترك الأكل، ومثلُه: أبصرتَ فلاناً؟ فيقول ما رأيتُه، أي: ما ضربتُ رئته، ونظائرُ هذا كثيرة. ولو حلف على شئ من هذا، وورَّى في يمينه، لم يحنثْ، سواء حلفَ بالله تعالى، أو حلفَ بالطلاق، أو بغيره، فلا يقعُ عليه الطلاق، ولا غيره، وهذا إذا لم يحلّفه القاضي في دعوى، فإن حلَّفَه القاضي في دعوى، فالاعتبار بنيّة القاضي إذا حلَّفه بالله تعالى، فإن حلّفه بالطلاق، بالاعتبار بنيّة الحالف، لأنه لا يجوز للقاضي تحليفه بالطلاق، فهو كغيره من الناس، والله أعلم. قال الغزالي: ومن الكذب المحرّم الذي يُوجب الفسقَ، ما جرتْ به العادةُ في المبالغة، كقوله: قلتُ لك مائة مرة، وطلبتك مائة مرّة ونحوه، بأنه لا يُراد به تفهيم المرات، بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبَه إلا مرّة واحدة كان كاذباً، وإن طلبه مرّات لا يُعتاد مثلُها في الكثرة، لم يأثم، وإن لم يبلغْ مائة مرّة، وبينهما درجات، يتعرّضُ المبالغُ للكذب فيها. 1149 - قلت: ودليل جواز المبالغة وأنه لا يُعدّ كذباً، ما رويناه في " الصحيحين " أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " أمَّا أبُو الجَهْمِ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاويَةُ فَلا مالَ لَهُ " ومعلوم أنه كان له ثوب يلبسه، وأنه كان يضعُ العصا في وقت النوم وغيره، وبالله التوفيق. (بابُ ما يقولُه ويفعلُه مَنْ تكلَّمَ بكلامٍ قبيح) قال الله تعالى: (وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ) [فصّلت: 36] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذَا هُمْ مُبْصِرونَ) [الأعراف: 201] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا (1) على ما فَعَلُوا وَهُمْ

_ (1) قوله: (ولم يصروا) معطوف على فاستغفروا، والاصرار على الذنب: المداومة عليه وعدم التوبة منه، = (*)

باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهم مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها وَنعْمَ أجْرُ العامِلِينَ) [آل عمران: 136] . 1150 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ حَلَفَ فَقالَ في حَلِفِهِ: باللاَّتِ والعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قالَ لِصَاحِبِهِ: تَعالَ أُقامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ ". واعلم أن مَن تكلم بحرام أو فعله، وجب عليه المبادرة إلى التوبة، ولها ثلاثة أركان: أن يقلع في الحال عن المعصية، وأن يندمَ على ما فعل، وأن يعزمَ أن لا يعود إليها أبداً، فإن تعلَّق بالمعصية حق آدمي، وجب عليه مع الثلاثة رابع، وهو ردّ الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منها، وقد تقدم بيان هذا، وإذا تابَ مِنْ ذنبٍ، فينبغي أن يتوبَ من جميع الذنوب، فلو اقتصرَ على التوبة من ذنب صحَّت توبتُه منه، وإذا تابَ من ذنب توبةً صحيحةً كما ذكرنا ثم عادَ إِلَيْهِ في وقت، أثم بالثاني، ووجب عليه التوبة منه، ولم تبطلْ توبتُه من الأوّل، هذا مذهبُ أهل السنّة، خلافاً للمعتزلة في المسألتين، وبالله التوفيق. (بابٌ في ألفاظٍ حُكي عن جماعةٍ من العلماء كراهتُها وليستْ مكروهةً) اعلم أن هذا البابَ مما تدعو الحاجةُ إليه لئلا يغترّ بقولٍ باطلٍ ويعوّل عليه. واعلم أن أحكامَ الشرع الخمسة، وهي: الإِيجابُ، والندبُ، والتحريمُ، والكراهةُ، والإِباحة، لا يثبتُ شئ منها إلا بدليل، وأدلة الشرع معروفة، فما لا دليلَ عليه لا يُلتفتُ إليه، ولا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس بحجة، ولا يُشتغل بجوابه، ومع هذا فقد تبرعَ العلماءُ في مثل هذا بذكر دليلٍ على إبطاله. ومقصودي بهذه المقدمة أنّ ما ذكرتُ أن قائلاً كرهَه ثم قلت: ليس مكروهاً، أو هذا باطلٌ أو نحو ذلك، فلا حاجةً إلى دليل على إبطاله، وإن ذكرتُه كنتُ متبرّعاً به، وإنما عقدتُ هذا الباب لأُبيِّن الخطأَ فيه من الصواب لئلا يُغترّ بجلالة مَن يُضاف إليه هذا القول الباطل. إعلم أني لا أُسمّي القائلين بكراهة هذه الألفاظ لئلا تسقطَ جلالتُهم ويُساء الظنّ بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نُقلت عنهم،

_ = ويحدث نفسه أنه ما قدر عليه فعله ولا ينوي توبة ولا يرجو وعدا لحسن ظنه، ولا يخاف وعيدا على سوء عمله، هذا حقيقة الاصرار ومقام أهل العتو والاستكبار، ويخاف على مثل هذا سوء الخاتمة، لانه سالك طريقها والعياذ بالله. (*)

سواء أصحّتْ عنهم أم لم تصحّ، فإن صحَّتْ لم تقدحْ في جلالتهم كما عرف، وقد أُضيف بعضُها لغرض صحيح، بأن يكونَ ما قاله محتملاً فينظر غيري فيه، فلعلّ نظره يُخالف نظري فيعتضدُ نظرُه بقول هذا الإِمام السابق إلى هذا الحكم، وبالله التوفيق. فمن ذلك ما حكاهُ الإِمامُ أبو جعفر النحاس في كتابه " شرح أسماء الله تعالى " عن بعض العلماء أنه كره أن يُقال: تصدّق الله عليكَ، قال: لأن المتصدّقَ يرجو الثواب. قلتُ: هذا الحكم خطأ صريح وجهلٌ قبيح، والاستدلال أشدُّ فساداً. " وقد ثبت في " صحيح مسلم " عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال في قصر الصلاة " صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ". فصل: ومن ذلك ما حكاهُ النحَّاسُ أيضاً عن هذا القائل المتقدّم أنه كره أن يُقال: اللَّهمّ أعتقني منَ النَّارِ، قال: لأنه لا يعتق إلا مَن يطلب الثواب. قلتُ: وهذه الدعوى والاستدلال من أقبح الخطأ وأرذل الجهالة بأحكام الشرع، ولو ذهبتُ أتتبعُ الأحاديثَ الصحيحة المصرّحة بإعتاق الله تعالى مَن شاء من خلقه لطال الكتاب طولاً مُمِلاًّ. 1152 - وذلك كحديث " مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً أعْتَقَ اللَّهُ تَعالى بِكُلِّ عُضْو مِنْها عُضْواً مِنْهُ من النار " (1) . فصل: ومن ذلك قولُ بعضهم: يُكره أن يقولَ افعلْ كذا على اسم الله، لأن اسمَه سبحانه على كلِّ شئ. قال القاضي عياض وغيرُه: هذا القول غلط. 1153 - فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه في الأضحية: " اذْبَحُوا على اسْمِ الله " أي قائلين باسم الله. فصل: ومن ذلك ما رواه النحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى قال: وكان من الفقهاء الأدباء العلماء، قال: لا تقلْ: جمعَ الله بيننا في مستقرُ رحمته، فرحمةُ الله أوسعُ من أن يكون لها قرار، قال: لا تقلْ: ارحمنا برحمتك.

_ (1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. (*)

قلت: لا نعلمُ لما قاله في اللفظين حجة، ولا دليلَ له فيما ذكره، فإن مرادَ القائل بمستقرّ الرحمة: الجنة، ومعناه: جمعَ بيننا في الجنة التي هي دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار، وإنما يدخلها الداخلون برحمة اللَّهَ تَعالى، ثُمَّ من دخلَها استقرّ فيها أبداً، وأمِنَ الحوادث والأكدار، وإنما حصل له ذلك برحمة الله تعالى، فكأنه يقول: اجمع بيننا في مستقرّ نناله برحمتك. فصل: روى النحّاسُ عن أبي بكر المتقدم قال: لا يقلْ: اللهمَّ أجِرْنا من النار ولا يقل: اللهمْ ارزقنا شفاعةَ النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنما يُشفعُ لمن استوجبَ النار. قلتُ: هذا خطأ فاحش، وجَهالة بيّنة، ولولا خوفُ الاغترار بهذا الغلط وكونه قد ذكرَ في كتب مصنفة لما تجاسرتُ على حكايته، فكم من حديث في الصحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم شفاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : 1154 - " مَنْ قالَ مِثْلَ ما يَقُولُ المُؤَذِّنُ حَلَّتْ لَهُ شَفاعَتي " وغير ذلك. ولقد أحسن الإِمام الحافظُ الفقيه أبو الفضل عِياض رحمه الله في قوله: قد عُرف بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعةَ نبيِّنا (صلى الله عليه وسلم) ورغبتهم فيها قال: وعلى هذا لا يُلتفت إلى كراهة مَن كَرِهَ ذلك لكونها لا تكونُ إلا للمذنبين، لأنه ثبتَ في الأحاديث في " صحيح مسلم " وغيره إثبات الشفاعة لأقوام في دخولهم الجنة بغير حساب، ولقوم في زيادة درجاتهم في الجَنَّةِ، قال: ثمّ كل عاقل معترف بالتقصير، محتاجٌ إلى العفو، مشفقٌ من كونه من الهالكين، ويلزمُ هذا القائل أَنْ لا يدعوَ بالمغفرة والرحمة، لأنهما لأصحاب الذنوب، وكلُّ هذا خلافُ ما عُرف من دعاء السلف والخلف. فصل: ومن ذلك ما حكاهُ الناس عن هذا المذكور، قال: لا تقل: توكّلتُ على ربي الربّ الكريم، وقل: توكلت على ربي الكريم. قلتُ: لا أصلَ لما قال. فصل: ومن ذلك ما حُكي عن جماعة من العلماء أنهم كرهوا أن يُسمَّى الطوافُ بالبيت شوطاً أو دوراً، قالوا: بل يُقال للمرّة الواحدة طوفة، وللمرتين طوفتان، وللثلاث طوفات، وللسبع طواف. قلتُ: وهذا الذي قالوه لا نعلمُ له أصلاً، ولعلَّهم كرهوه لكونه من ألفاظ الجاهلية، والصوابُ المختار أنه لا كراهةَ فيه.

1155 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أمرهم رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أن يرملوا ثلاثةَ أشواط ولم يمنعْه أن يأمرَهم أن يرملوا الأشواطَ كلَّها إلا الإِبقاء عليهم. فصل: ومن ذلك: صُمنا رمضانَ، وجاء رمضانُ، وما أشبه ذلك إذا أُريد به الشهر، واختلف في كراهته، فقال جماعة من المتقدمين: يُكره أن يُقال رمضان من غير إضافة إلى الشهر، رُوي ذلك عن الحسن البصري ومجاهد. قال البيهقي: الطريق إليهما ضعيف، ومذهبُ أصحابنا أنه يُكره أن يُقال: جاء رمضانُ، ودخل رمضانُ، وحضر رمضانُ، وما أشبه ذلك مما لا قرينة تدلّ على أن المرادَ الشهرُ، ولا يُكره إذا ذُكر معه قرينة تدلّ على الشهر، كقوله: صمتُ رمضانَ، وقمتُ رمضانَ، ويجبُ صومُ رمضان، وحضرَ رمضانُ الشهر المبارك، وشبه ذلك، هكذا قاله أصحابنا، ونقله الإِمامان: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه " الحاوي " وأبو نصر الصباغ في كتابه " الشامل " عن أصحابنا، وكذا نقله غيرُهما من أصحابنا عن الأصحاب مطلقاً. 1156 - واحتجُّوا بحديث: رويناه في سنن البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَقُولُوا رَمَضَانُ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، وَلَكِنْ قُولُوا: شَهْرُ رَمَضَانَ " وهذا الحديث ضعيف ضعَّفه البيهقيُّ، والضعف عليه ظاهر، ولم يذكرْ أحدٌ رمضانَ في أسماء الله تعالى، مع كثرة مَنْ صنَّف فيها. والصوابُ - والله أعلم - ما ذهب إليه الإِمام أبو عبد الله البخاري في " صحيحه " وغير واحد من العلماء المحقِّقين أنه لا كراهةَ مطلقاً كيفما قال، لأن الكراهةَ لا تثبتُ إلا بالشرع، ولم يثبتْ في كراهته شئ، بل ثبتَ في الأحاديث جواز ذلك، والأحاديث فيه من " الصحيحين " وغيرهما أكثر من أن تُحصر. ولو تفرَّغتُ لجمع ذلك رجوتُ أن يبلغ أحاديثه مئين، لكن الغرضَ يحصل بحديث واحد. 1157 - ويكفي من ذلك كله: ما رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ " وفي بعض روايات " الصحيحين " في هذا الحديث " إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ " وفي رواية لمسلم " إذَا كانََ رَمَضَان " وفي الصحيح " لا تَقَدَّمُوا

رَمَضَان " (1) وفي الصحيح " بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ " منها صوم رمضان، وأشباهُ هذا كثيرةٌ معروفة. فصل: ومن ذلك ما نُقل عن بعض المتقدمين أنه يُكره أن يقولَ: سورة البقرة، وسورة الدخان، والعنكبوت، والروم، والأحزاب، وشبه ذلك، قالوا: وإنما يُقال السورة التي يُذكر فيها البقرة، والسورة التي يُذكر فيها النساء وشبه ذلك. قلتُ: وهذا خطأ مخالف للسنّة، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك فيما لا يُحصى من المواضع. 1158 - كقوله (صلى الله عليه وسلم) : " الآيَتانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مَنْ قَرأهُما في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ " وهذا الحديث في " الصحيحين " وأشباهُه كثيرة لا تنحصر. فصل: ومن ذلك ما جاء عن مُطرف رحمه الله أنه كره أن يقول: إنَّ اللَّهَ تعالى يقول في كتابه، قال: وإنما يُقال: إن الله تعالى قال، كأنه كره ذلك لكونه لفظاً مضارعاً، ومقتضاهُ الحالُ أو الاستقبالُ، وقول الله تعالى هو كلامُه، وهو قديم. قلتُ: وهذا ليس بمقبول، وقد ثبتَ في الأحاديث الصحيحة استعمالُ ذلك من جهات كثيرة، وقد نبَّهتُ على ذلك في " شرح صحيح مسلم " وفي كتاب " آداب القرّاء " قال الله تعالى: (والله يقول الحقّ) [الأحزاب: 4] . 1159 - وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا) [الأنعام: 160] ". وفي " صحيح البخاري " في تفسير (لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا) [آل عمران: 92] قال أبو طلحة: " يا رسول الله إن الله تعالى يقول: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مما تحبون) ".

_ (1) وتمام الحديث: " بصومِ يومٍ أو يومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه " وتقدموا، أصله: تتقدموا بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا لتماثل الحركتين فيهما، ومنه (ولا تيمموا الخبيث) . (*)

كتاب جامع الدعوات

(كتاب جامع الدّعوات) اعلم أن غرضنا بهذا الكتاب ذكر دعواتٍ مهمة مستحبة في جميع الأوقات غير مختصّة بوقت أو حال مخصوص. واعلم أن هذا البابَ واسعٌ جداً لا يمكن استقصاؤهُ ولا الإِحاطة بمعشاره، لكني أُشيرُ إلى أهمّ المهمّ من عيونه. فأوّلُ ذلك الدعواتُ المذكوراتُ في القرآن التي أخبرَ الله سبحانه وتعالى بها عن الأنبياء صلواتُ الله وسلامُه عليهم، وعن الأخيار، وهي كثيرة معروفةٌ، ومن ذلك ما صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه فعلَه أو علَّمه غيرَه، وهذا القسم كثير جداً تقدّم جملٌ منه في الأبواب السابقة، وأنا أذكرُ منه هنا جُملاً صحيحةً تُضمّ إلى أدعية القرآن، وبالله التوفيق. 1161 - روينا بالأسانيد الصحيحة (1) في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " الدُّعاءُ هُوَ العبادَة " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1162 - وروينا في " سنن أبي داود " بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَستحبّ الجوامعَ من الدعاء ويدعُ ما سوى ذلك (2) . 1163 - وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " ليس شئ أكْرَمَ على اللَّهِ تَعالى مِنَ الدُّعاءِ " (3) . 1164 - وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ تَعالى لَهُ عنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ ". 1165 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثرُ دعاءِ النبي (صلى الله عليه وسلم) : " اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " زاد مسلم في روايته قال: " وكان أنس إذا أرادَ أن يدعوَ بدعوة دعا بها، فإذا أرادَ أن يدعوَ بدعاء دعا بها فيه.

_ (1) وهو حديث حسن. (3) حديث حسن. (2) وهو حديث حسن. (4) حديث حسن. (*)

1166 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ الهُدَى والتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى ". 1167 - وروينا في " صحيح مسلم " عن طارق بن أشيم الأشجعي الصحابي رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم علَّمه النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) الصلاة، ثم أمرَه أن يدعوَ بهذه الكلمات " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِني، وَعافِني، وَارْزُقْني " وفي رواية أُخرى لمسلم عن طارق: " أنه سمع النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وأتاه رجل فقال: يا رسول الله، كيف أقول حين أسألُ ربِّي؟ قال: قُلِ اللَّهُمَّ اغْفرْ لي، وَارْحَمْني، وَعافني، وَارْزُقْني، فإنَّ هَؤُلاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْياكَ وآخِرَتَكَ ". 1168 - وروينا فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " اللَّهُمَّ يا مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِكَ ". 1169 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ " وفي رواية عن سفيان أنه قال: في الحديث ثلاث: وزدتُ أنا واحدة، لا أدري أيّتهنّ..وفي رواية قال سفيان: أشكّ أني زدتُ واحدة منها. 1170 - وروينا في " صحيحيهما " عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللَّهُمَّ إني أعوذ بِكَ مِنَ العَجْزِ، وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ، وَالهَرَمِ، وَالبُخْلِ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحيَا وَالمَماتِ " وفي رواية " وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرّجالِ ". قلت: ضَلَع الدين: شدّته وثقلُ حمله، والمحيا والممات: الحياة والموت. 1171 - وروينا في " صحيحيهما " عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : علّمني دُعاءً أدعُو به في صَلاتي، قال: " قُلِ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، فاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْني إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ". قلتُ: روي " كثيراً " بالمثلة، و " كبيرا " بالموحدة، وقد قدّمنا بيانه في أذكار الصلاة، فيستحبّ أن يقول الداعي كثيراً كبيراً، يجمع بينهما، وهذا الدعاء وإن كان ورد في الصلاة فهو حسن نفيس صحيح، فيُستحبّ في كل موطن، وقد جاء في رواية " وفي بيتي ".

1172 - وروينا في " صحيحيهما " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يدعو بهذا الدعاء: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي، وَجَهْلي، وَإسْرَافِي في أمْرِي، ومَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي جَدّي، وَهَزْلي، وَخَطَئي، وَعَمْدي، وَكُلُّ ذلكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ، وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ، وَما أعْلَنْتُ وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ المُقَدِّمُ، وأنْتَ المُؤَخِّرُ، وأنْتَ على كل شئ قَدِيرٌ ". 1173 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كان يقول في دعائه: " اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ ما عَمِلْتُ وَمِنْ شَرّ مَا لَمْ أعْمَلْ ". 1174 - وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان دعاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عافيتك، وَفَجْأةِ (1) نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سُخْطِكَ ". 1175 - وروينا في " صحيح مسلم " عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول، كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك مِنَ العَجْزِ، وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَالهَمِّ وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاها، وَزَكِّها أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلاها، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا ". 1176 - وروينا في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِني وَسَدّدْنِي " وفي رواية: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ الهُدَى وَالسَّدادَ ". 1177 - وروينا في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسولَ الله، علِّمني كلاماً أقوله، قالَ: " قُلْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ لِلَّه كَثِيراً، سُبْحانَ اللَّهِ رَبّ العالَمِينَ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ "، قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: قُل اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارْحَمْني، وَاهْدني، وَارْزُقْنِي، وَعافني " شكَّ الراوي في " وعافني ". 1178 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللَّهُمَّ أصْلحْ لي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِي (2) ، وأصْلِحْ لي

_ (1) يقال: فجأة، بفتح الفاء وسكون الجيم وفتح الهمزة من غير مد، وفجاءة، بضم الفاء وفتح الجيم ممدودة. (2) أي ما أعتصم به في جميع أموري، والعصمة على ما في " الصحاح ": المنع والحفظ. (*)

دُنْيايَ (1) الَّتِي فِيها مَعاشِي، وأصْلِحْ لي آخِرَتِي الَّتي فيها مَعادي، وَاجْعَلِ الحَياةَ زيادَةً لي في كُلّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ راحَةً لي مِنْ كُلّ شَرٍّ ". 1179 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: " اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوْذُ بِعِزَّتِكَ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّني، أنْتَ الحَيُّ الَّذي لاَ يَموتُ وَالجِنُّ والإِنْسُ يَمُوتُونَ ". 1180 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن بُريدةَ رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمع رجلاً يقول: " اللَّهمّ إني أسألك بأني أشهدُ إنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ الأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ. فقال: لَقَدْ سألْتَ اللَّهَ تَعالى بالاسْمِ الَّذي إذَا سُئِلَ بِهِ أعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ أجابَ ". وفي رواية " لَقَدْ سألْتَ اللَّهَ باسْمهِ الأعْظَمِ " قال الترمذي: حديث حسن. 1181 - وروينا في سنن أبي داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالسا ورجل يُصلّي، ثم دعا: اللَّهمّ إني أسألك بأنَّ لكَ الحمدُ لا إِله إِلاَّ أنتَ المنّانُ، بديعُ السموات والأرض، يا ذَا الجَلالِ والإِكرام، يا حيُّ يا قيّوم، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) : " لَقَدْ دَعا اللَّهَ تَعالى باسْمهِ العَظيمِ الَّذي إذَا دُعيَ بهِ أجابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أعْطَى " (2) . 1182 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها، أن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كانَ يدعو بهؤلاء الكلماتِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَمنْ شَرّ الغِنَى وَالفَقْرِ " هذا لفظ أبي داود، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1183 - وروينا في كتاب الترمذي عن زياد بن عِلاَقَة عن عَمِّه وهو قُطْبَةُ بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأخْلاقِ وَالأعْمالِ وَالأهْوَاءِ " قال الترمذي: حديث حسن. 1184 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن شَكَل بن حُميد رضي الله

_ (1) إصلاح الدنيا عبارة عن الكفاف فيما يحتاج إليه، وبأن يكون حلالا ومعينا على الطاعة والمعاش. (2) وهو حديث حسن. (*)

عنه - وهو بفتح الشين المعجمة والكاف - قال: قلتُ: يا رسولَ الله، علَّمني دعاء، قال: " قُلِ اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ سَمْعِي، وَمنْ شَرّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرّ لِساني، وَمِنْ شَرّ قَلْبي وَمنْ شَرّ مَنِيِّي " قال الترمذي: حديث حسن. 1185 - وروينا في كتابي أبي داود والنسائي بإسنادين صحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: " اللهم إني أعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ وَالجُنُونِ والجذام وسيئ الأسْقامِ ". 1186 - وروينا فيهما عن أبي اليَسَر الصحابي رضي الله عنه - وهو بفتح الياء المثناة تحت والسين المهملة - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَدْمِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الغَرَقِ وَالحَرَقِ وَالهَرَمِ، وَأعُوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطانُ عِنْدَ المَوْتِ، وأعُوذُ بِكَ أنْ أمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِراً، وأعُوذُ بِكَ أنْ أمُوتَ لَديغاً " هذا لفظ أبي داود، وفي رواية له " وَالغَمّ " (1) . 1187 - وروينا فيهما بالإِسناد الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللَّهُمَّ إني أعوذُ بِكَ منَ الجُوعِ فإنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأعُوذُ بك مِنَ الخِيانَةِ فإنَّها بِئْسَتِ البطانَةُ ". 1188 - وروينا في كتاب الترمذي عن عليّ رضي الله عنه أن مُكاتباً جاءه فقال: إني عجزتُ عن كتابتي فأعنِّي، قال: ألا أُعلّمك كلماتٍ عَلمنيهنّ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ، لو كانَ عَليكَ مثلُ جبل [صبير] (2) دَيْناً أدَّاهُ عنك؟ قُلِ: " اللَّهُمَّ اكْفِني بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأغْنِني بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ " قال الترمذي: حديث حسن. 1189 - وروينا فيه عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علَّمَ أباه حصيناً كلمتين يدعو بهما: " اللَّهُمَّ ألْهِمْنِي رُشْدِي، وَأعِذْنِي مِنْ شَرّ نَفْسِي " قال الترمذي: حديث حسن. 1190 - وروينا فيهما بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: " اللهم إني أعُوذُ بكَ منَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَسُوءِ الأخْلاقِ ". 1191 - وروينا في كتاب الترمذي عن شَهْر بن حوشب قال: قلتُ لأُمّ سلمة رضي

_ (1) وإسناده حسن. (2) وهو جبل الطئ وجبل على الساحل أيضاً، بين عُمَان وسيران ويروي صبير. (*)

الله عنها: يا أُمّ المؤمنين ما أكثرَ دعاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا كان عندكِ؟ قالت: كان أكثرُ دعائه " يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلْبي على دِينكَ " قال الترمذي: حديث حسن. 1193 - وروينا في كتاب الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللَّهُمَّ عافني في جَسَدِي، وَعافني في بَصَرِي، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنِّي، لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ " (1) . 1193 - وروينا فيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " كانَ مِنْ دُعاءِ دَاوُدَ (صلى الله عليه وسلم) : اللَّهُمَّ إني أسألُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالعَمَلَ الَّذي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَأهْلِي وَمنَ المَاءِ البارِدِ " قال الترمذي: حديث حسن. 1194 - وروينا فيه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إذْ دَعا رَبَّهُ وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ: لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ، فإنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِها رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شئ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجابَ لَهُ " قال الحاكم أبو عبد الله: هذا صحيح الإِسناد. 1195 - وروينا فيه وفي كتاب ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله أيّ الدعاء أفضل؟ قال: " سَلْ رَبَّكَ العافِيَةَ وَالمُعافاةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ "، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسولَ الله، أيّ الدعاء أفضل؟ فقال له مِثْلُ ذلكَ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مِثْلُ ذلكَ، قال: " فإذَا أُعْطِيتَ العافِيَةَ في الدُّنْيا وأُعْطِيتَها في الآخرة فَقَدْ أفْلَحْت " قال الترمذي: حديث حسن (2) . 1196 - وروينا في كتاب الترمذي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئا أسأله الله تعالى، قال: " سَلُوا اللهَ العافِيَةَ " فمكثت أياماً ثم جئت فقلتُ: يا رسولَ الله علمني شيئا أسأله الله تعالى، فقال: " يا عَبَّاسُ يا عَمَّ رَسُول اللَّهِ، سَلُوا اللَّهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَة " قال الترمذي: هذا حديث صحيح (3) .

_ (1) وهو حديث حسن بشواهده. (2) وهو حديث حسن يشهد له الذي بعده. (3) حديث حسن يشهد له لذي قبله. (*)

1197 - وروينا فيه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: دعا رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً، قلت: يا رسول الله، دعوتَ بدعاءٍ كثيرٍ لم نحفظ منه شيئاً، فقال: " أَلاَ أدُلُّكُمْ ما يَجْمَعُ ذلكَ كُلَّهُ؟ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسألُكَ مِنْ خَيْرٍ ما سألَكَ منْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما اسْتَعاذَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وأنْتَ المُسْتَعانُ وَعَلَيْكَ البَلاغُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ " قالَ الترمذي: حديث حسن (1) . 1198 - وروينا فيه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ألِظُّوا بِياذَا الجَلالِ وَالإِكْرامِ ". 1199 - ورويناه في كتاب النسائي من رواية ربيعة بن عامر الصحابي رضي الله عنه، قال الحاكم: حديث صحيح الإِسناد. قلتُ: ألِظُّوا بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة، ومعناه: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها. 1200 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يدعو ويقول: " رَبّ أعني ولا تمن عَليَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لي وَلا تَمْكُرْ علي، واهدني ويسر الهدي لي، وَانْصُرْنِي على مَنْ بَغَى عَليَّ، رَبّ اجْعَلْنِي لَكَ شاكِراً، لَكَ ذَاكِراً، لَكَ رَاهِباً، لَكَ مِطْوَاعاً، إليك مخيبا أوْ مُنيباً، تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدّدْ لِساني، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي " وفي رواية الترمذي " أوَّاهاً مُنِيباً " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلتُ: السخيمة بفتح السين المهملة وكسر الخاء المعجمة، وهي الحقد، وجمعها سخائم، هذا معنى السخيمة هنا. 1201 - وفي حديث آخر: " مَنْ سَلَّ سَخِيمَتَهُ في طَرِيقِ المُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله " (2) والمراد بها الغائط.

_ (1) وفي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو صدوق اختلط أخيرا ولم أخيراً ولم يتميز حديثه فترك. (2) ذكره الحافظ السيوطي في " الجامع الكبير " من رواية الطبراني في " الأوسط " والحاكم عن أبي هريرة، وهو في " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري، 1 / 83 عن محمد بن سيرين قال: قال رجل لابي هريرة: أفتيتنا في كل شئ يوشك أن تفتنا في الخراء، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " مَن غسل سخيمته على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " والبيهقي وغيرهما، وإسناده ضعيف، ويغني عن هذا الحديث، الحديث الذي رواه مسلم في (*) =

1202 - وروينا في مسند الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله وسنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لها: " قُولي اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَما لَمْ أَعْلَمْ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرّ كُلِّهِ عاجله وآجِلهِ ما عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أعْلَمْ، وأسألُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرّبَ إِلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ " وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، وأسألُكَ خَيْرَ ما سألَكَ بِهِ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وأعوذ بِكَ مِنْ شَرّ ما اسْتَعاذَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وأسألُكَ ما قَضَيْتَ لي مِنْ أمْرٍ أنْ تَجْعَلَ عاقِبَتَهُ رَشَداً " قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإِسناد (2) . 1203 - ووجدت في " المستدرك " للحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان من دعاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بالجَنَّةَ وَالنَّجاةَ منَ النَّارِ " قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم (1) . 1204 - وفيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: وَاذُنُوباهُ وَاذُنُوباهُ، مرّتين أو ثلاثاً، فقال له رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " قُلِ: اللَّهُمَّ مَغْفِرَتُكَ أوْسَعُ مِنْ ذُنُوبي (2) وَرَحْمَتُكَ أرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلي (3) ، فقالها، ثم قال: عُدْ، فعاد، ثم قال: " عُدْ، فعاد، فقال: قُمْ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ " (4) .

_ (1) " صحيحه " رقم (269) في الطهارة، بابُ النهي عن التخلي في الطرق والظلال، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: " اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم "، وكذلك الحديث الذي رواه أبو داود، وابن ماجه، عن معاذ رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: " اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل " وهو حديث حسن بشواهده. (1) ورواه أيضا ابن حبّان في " صحيحه " (2413) موارد، وابن ماجه رقم (3846) في الدعاء " باب الجوامعَ " من الدعاء، وهو حديث حسن. (2) وهو حديث حسن. (3) أي إن ذنوبي وإن عظمت فمغفرتك أعظم منها، وما أحسن قول الإِمام الشافعي: تعاظمني ذنبي فلما قرنتُه * بعفوكَ ربي كانَ عفوكَ أعظما (4) أي تعلقي برحمتك وإحسانك أشد عندي من تعلقي بعملي من الرجاء والتعلق به، لان العمل لا ينفع صاحبه إلا برحمة الله، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : " لن بدخل أحد كم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ". (5) وفي سنده مجاهيل. (*)

باب في آداب الدعاء

1205 - وفيه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنَّ لِلَّهِ تَعالى مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُولُ: يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَمَنْ قالها ثلاثاً قالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّ أرْحَمَ الرَّاحِمينَ قَدْ أقْبَلَ عليك فسل " (1) . (بابٌ في آدابِ الدعاء) اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدّثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف: أن الدعاء مستحبّ، قال الله تعالى: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف: 55] والآيات في ذلك كثيرة مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة، فهي أشهر من أن تُشهر، وأظهر من أن تُذكر، وقد ذكرنا قريباً في الدعوات ما به أبلغ كفاية، وبالله التوفيق. وروينا في " رسالة الإِمام أبي القاسم القشيريّ " رضي الله عنه قال: اختلفَ الناسُ في أن الأفضل الدعاء، أم السكوت والرضى؟ فمنهم من قال: الدعاء عبادة، للحديث السابق " الدُّعاءُ هُوَ العبادة " (2) ولأنَّ الدعاءَ إظهارُ الافتقار إلى الله تعالى. وقالت طائفة: السكوت والخمودُ تحت جريان الحكم أتمّ، والرضا بما سبق به القدر أولى، وقال قوم: يكون صاحبُ دعاءٍ بلسانه ورضا بقلبه ليأتيَ بالأمرين جميعاً. قال القشيري: والأولى أن يُقال: الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت، وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء، وهو الأدب، وإنما يُعرف ذلك بالوقت، فإذا وجدَ في قلبه إشارةً إلى الدعاء، فالدعاءُ أولى به، وإذا وجد إشارةً إلى السكوت، فالسكوتُ أتمّ. قال: ويصحّ أن يُقال ما كان للمسلمين فيه نصيب، أو لله سبحانه وتعالى فيه حقّ، فالدعاء أولى، لكونه عبادة، وإن كان لنفسك فيه حظّ فالسكوت أتمّ. قال: ومن شرائط الدعاء أن يكون مطعمُه حلالاً (3) .

_ (1) وفي إسناده ضعيف. (2) وهو حديث حسن. (3) والدليل على ذلك ما رواه مسلم في " صحيحه " رقم (1015) في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، ولفظه: " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أيها الناس إن الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقالَ: (يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51] ، وَقالَ: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما (*) =

وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول: كيف أدعوك وأنا عاصٍ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟. ومن آدابه: حضور القلب، وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى. وقال بعضُهم: المراد بالدعاء: إظهارُ الفاقة، وإلا فالله سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاء. وقال الإِمام أبو حامد الغزالي في " الإِحياء ": آدابُ الدعاء عشرة: الأول: أن يترصَّدَ الأزمان الشريفة، كيوم عَرَفَة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، ووقت الأسحار. الثاني: أن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة، كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة، وبعدَها. قلتُ: وحالة رقّة القلب. الثالث: استقبالُ القبلة، ورفعُ اليدين، ويمسحُ بهما وجهه في آخره. الرابع: خفضُ الصوت بين المخافتة والجهر. الخامس: أن لا يتكلَّف السجعَ، وقد فسَّر به الاعتداء في الدعاء، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحسن الدعاءَ، فيخاف عليه الاعتداء. وقال بعضهم: ادعُ بلسان الذلّة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق، ويُقال: إن العلماء والأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات، ويشهد له ما ذكره الله سبحانه وتعالى في آخر سورة البقرة (رَبَّنا لا تُؤَاخِذْنا ... ) إلى آخرها [البقرة: 286] لم يخبر سبحانه في موضع عن أدعية عباده بأكثر من ذلك. قلتُ: ومثلهُ قولُ الله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) : (وَإِذْ قالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً ... ) إلى آخره [إبراهيم: 35] . قلتُ: والمختار الذي عليه جماهير العلماء أنه لا حجرَ في ذلك، ولا تُكرهُ الزيادةُ على السبع، بل يُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء مطلقاً. السادس: التضرّعُ والخشوعُ والرهبة، قال الله تعالى: (إنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخفية) [الأعراف: 55] .

_ = رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172] ، ثُمَّ ذكر الرجل السَّفَرَ، أشْعث أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ، يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حرام، مشربه حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِي بالحَرَامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لذلك ". (*)

باب دعاء الإنسان وتوسله بصالح عمله إلى الله تعالى

السابع: أن يجزمَ بالطلب، ويُوقن بالإِجابة، ويصدقَ رجاءه فيها، ودلائلُه كثيرةٌ مشهورة. قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: لا يمنعنّ أحدَكم من الدعاء ما يعلمُه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شرّ المخلوقين إبليس، إذ قال: رب أنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ منَ المُنْظَرِينَ) [الأعراف: 14 - 15] . الثامن: أن يُلحّ في الدعاء ويكرّره ثلاثا، ولا يستبطئ الإِجابة. التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى. قلتُ: وبالصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضاً. العاشر: وهو أهمّها والأصل في الإِجابة، وهو التوبةُ، وردُّ المظالم، والإِقبال على الله تعالى. فصل: قال الغزالي: فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاءَ لا مَرَدَّ له؟. فاعلم أن من جملة القضاء: ردّ البلاء بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردّ البلاء ووجود الرحمة، كما أن الترسَ سبب لدفع السلاح، والماءُ سببٌ لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترسَ يدفع السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحملَ السلاح، وقد قال الله تعالى: (وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأسْلِحَتَهُمْ) [النساء: 102] فقدَّرَ الله تعالى الأمرَ، وقدَّرَ سبَبه. وفيه من الفوائد ما ذكرناه، وهو حضور القلب والافتقار، وهما نهاية العبادة والمعرفة، والله أعلم. (بابُ دعاءِ الإِنسان وتوسّله بصالحِ عملهِ إلى الله تعالى) 1206 - روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " حديث أصحاب الغار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " انْطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كان قَبْلَكُمْ حتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إلى غارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عليهم النار، فَقالُوا: إنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلاَّ أنْ تَدْعُوا اللَّهَ تَعالى بصَالحِ أعْمالِكُمْ. قالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَ لي أَبوانِ شَيْخانِ كَبِيرَانِ وكُنْتُ لا أُغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلاً وَلا مالاً " (1) . وذكر تمام

_ (1) وهو حديث مشهور، وفيه فضل العفاف أو الانكفاف عن المحرمات، لاسيما بعد القدرة عليها والهم = (*)

باب رفع اليدين في الدعاء ثم مسح الوجه بهما

الحديث الطويل فيهم، وأن كلَّ واحد منهم قال في صالح عمله: " اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فانفرج في دعوة كلِّ واحد شئ منها، وانفرجتْ كلُّها عقب دعوة الثالث، فخرجوا يمشون ". قلتُ: أُغبق بضم الهمزة وكسر الباء: أي أسقي. وقد قال القاضي حسين من أصحابنا وغيره في صلاة الاستسقاء كلاماً معناه: أنه يُستحبّ لمن وقعَ في شدّة أن يدعوَ بصالح عمله، واستدلوا بهذا الحديث، وقد يُقال: في هذا شئ لأن فيه نوعاً من ترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى، ومطلوبُ الدعاء الافتقار، ولكن ذكرَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث ثناءً عليهم، فهو دليلٌ على تصويبه (صلى الله عليه وسلم) فعلهم، وبالله التوفيق. فصل: ومن أحسن ما جاءَ عن السلف في الدعاء، ما حُكي عن الأوزاعيّ رحمه الله تعالى قال: خرج الناسُ يستسقون، فقام فيهم بلالُ بن سعد، فحمدَ الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: يا معشر مَن حضر: ألستم مقرِّين بالإِساءة؟ قالوا: بلى، فقال: اللَّهمّ إنّا سمعناك تقول: (ما عَلى المحْسِنِين مِنْ سَبيلٍ) [التوبة: 91] وقد أقررنا بالإِساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟ اللَّهمّ اغفرْ لنا وارحمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا. وفي معنى هذا أشدوا: أنا المُذْنبُ الخَطَّاءُ والعفوُ واسعٌ * ولو لم يكنْ ذنبٌ لما وقعَ العَفْوُ (بابُ رَفعِ اليدين في الدعاءِ ثم مَسْحِ الوَجْهِ بهما) 1207 - روينا في كتاب الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: " كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسحَ بهما وجهَه (1) . 1208 - وروينا في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) نحوه، وفي إسناد كل واحد ضعفٌ. وأما قول الحافظ عبد الحق رحمه الله تعالى: إن *

_ = بفعلها، ويترك ذلك لله تعالى خالصا، وفي الحديث أيضا فضل بر الوالدين، وفيه جواز الاجارة، وفيه حسن العهد، وأداء الامانة، والسماحة في المعالمة، وفيه إثبات كرامات الاولياء، وغير ذلك من الفوائد التي استنبطها العلماء. (1) قال الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام ": وله شواهد، منها عند أبي داود من حديث ابن عباس، وغيره، ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن. (*)

باب استحباب تكرير الدعاء

الترمذي قال إنه حديث صحيح، فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي أنه صحيح، بل قال: حديث غريب. (بابُ استحبابِ تَكريرِ الدُّعاء) 1209 - روينا في سنن أبي داود، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يُعجبُه أن يدعوَ ثلاثاً، ويستغفرَ ثلاثاً. (بابُ الحثّ على حُضور القلب في الدُّعاء) اعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تُحصر، والعلم به أوضح من أن يذكر، لكن نتبرّك بذكر حديث فيه. 1210 - روينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ادْعُوا اللَّهَ وَأنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجابَةِ، وَاعْلَمُوا أنَّ اللَّه تَعالى لا يَسْتَجِيبُ دُعاءَ مِنْ قَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ " إسنادُه فيه ضعف (2) . (بابُ فضلِ الدعاء بظهر الغيب) قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الَّذين سَبَقُونا بالإِيمَانِ) [الحشر: 10] وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد: 19] وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) : (رَبَّنا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ) [إبراهيم: 41] وقال تعالى: إخباراً عن نوح (صلى الله عليه وسلم) : (رَبّ اغْفِرْ لي ولِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ) [نوح: 28] . 1211 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يَدْعُو لأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ ". وفي رواية أخرى في " صحيح مسلم " عن أبي الدرداء أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول:

_ (1) رواه أبو داود رقم (1524) في الصّلاة، بابُ الاستغفار، وإسناده حسن. (2) ولكن له شاهد عند أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فأذا سألتم الله عز وجل فاسألوه وَأنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجابَةِ، فإنَّ الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل " وهو حديث حسن. (*)

باب استحباب الدعاء لمن أحسن إليه، وصفة دعائه

" دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأخِيهِ بِظَهْرِ بالغَيْبِ مُسْتَجابَةٌ، عِنْدَ رأسهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّما دَعا لأخِيهِ بِخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بمثل ". 1212 - وروينا في كتابي أبي داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أسْرَعُ الدُّعاءِ إجابَةً دَعْوَةُ غائِبٍ لِغائبٍ " ضعّفه الترمذي (1) . (بابُ استحبابَ الدعاءِ لمن أَحْسَنَ إليه، وصفة دُعائِه) هذا الباب فيه أشياء كثيرة تقدمت في مواضعها. 1213 - ومن أحسنها ما روينا في الترمذي عن أُسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَن صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فقال لفاعله: جزاك اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أبلغ في الثناء " قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2) . 1214 - وقد قدّمنا قريباً في " كتاب حفظ اللسان " في الحديث الصحيح قوله (صلى الله عليه وسلم) : " وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكافِئُوهُ، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كافأتموه ". (باب استحباب طلب الدعاءِ من أهل الفضلِ وإن كان الطالبُ أفضل من المطلوبِ منه، والدعاء في المواضعِ الشريفة) اعلم أن الأحاديث في هذا الباب أكثرُ من أن تُحصر، وهو مجمعٌ عليه. 1215 - ومن أدلّ ما يُستدلّ به ما روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: " استأذنتُ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في العمرة، فأذِنَ وقال: لا تَنْسَنا يا أُخَيَّ مِن دُعائِكَ، فقال كلمة ما يسرُّني أنَّ لي بها الدنيا ". وفي رواية قال: " أشْرِكْنا يا أخِي في دُعائِكَ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد ذكرناه في " أذكار المسافر.

_ (1) لفظه عند الترمذي: " ما دعوة أسرع إجابة من دَعْوَةُ غائِبٍ لِغائبٍ " وعند أبي داود بلفظ: " إن أسْرَعُ الدُّعاءِ إجابَةً دَعْوَةُ غائِبٍ لِغائبٍ " ورواه البخاري في " الأدب المفرد " باللفظ الذي أورده المصنف، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنغم الافريقي، وهو ضعيف. (2) تقدم الكلام عليه في الصفحة (265) . (*)

باب نهي المكلف عن دعائه على نفسه وولده وخادمه وماله ونحوها

(بابُ نهي المكلّفِ عن دعائه على نفسه وولده وخادمه وماله ونحوها) 1216 - روينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تَدْعُوا على أنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا على أوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا على خَدَمِكمْ ولا تَدْعُوا على أمْوَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللَّهِ ساعَةً نِيْلَ (1) فيها عَطاءٌ فَيُسْتَجابَ لكم " قلتُ: نيل بكسر النون وإسكان الياء، ومعناه: ساعة إجابة يَنالُ الطالبُ فيها ويُعطى مطلوبَه. وروى مسلم هذا الحديث في آخر " صحيحه " وقال فيه: " لا تَدْعُوا على أنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا على أوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا على أمْوَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالى ساعَةً يُسألُ فيها عَطاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لكم ". (بابُ الدليل على أنَّ دعاء المسلم يُجاب بمطلوبه أو غيره وأنه لا يستعجلُ الإِجابة) قال الله تعالى: (وَإِذَا سألَكَ عِبادِي عَنِّي فإني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعانِ) [البقرة: 186] وقال تعالى: (ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] . 1217 - وروينا في كتاب الترمذي عن عُبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ما على وَجْهِ الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ تَعالى بِدَعْوَةٍ إلاَّ آتاهُ اللَّهُ إيَّاها، أوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَها ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ أوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، فقال رجل من القوم: إذا نكثر، قال: الله أكْثَرُ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 1218 - ورواه الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك على الصحيحين " من رواية أبي سعيد الخدري، وزاد فيه " أوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَها ". 1219 - وروينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولَ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لي ".

_ (1) أي ساعة عطاء، وقد ضبطها بكسر النون إسكان الياء. (*)

كتاب الاستغفار

(كتاب الاستغفار) اعلم أن هذا الكتاب من أهمّ الأبواب التي يعتنى بها ويحافظ على العمل به. وقصدت بتأخيره التفاؤلَ بأن يختم الله الكريم لنا به، نسأله ذلك وسائر وجوه الخير لي ولأحبائي وسائر المسلمين آمين. قال الله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعَشِيّ وَالإِبْكارِ) [غافر: 55] وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَللْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ) [محمد: 19] وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 106] وقال تعالى: (لِلَّذينَ اتَّقَوْا (1) عِنْدَ رَبِهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بالعِبادِ، الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بالأسحَارِ) [آل عمران: 15 - 17] وقال تعالى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] وقال تعالى: (وَالَّذينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ؟ وَلَمْ يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135] وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 110] وقال تعالى: (وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ ... ) الآية [هود: 3] وقال تعالى إخباراً عن نوح (صلى الله عليه وسلم) : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح: 10] وقال تعالى حكاية عن هود (صلى الله عليه وسلم) : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ..) الآية [هود: 52] والآيات في الاستغفار كثيرة معروفة، ويحصل التنبيه ببعض ما ذكرناه. وأما الأحاديث الواردة في الاستغفار، فلا يمكن استقصاؤها، لكني أُشير إلى أطراف من ذلك. 1220 - روينا في " صحيح مسلم " عن الأغرّ المزنيّ الصحابيّ رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّهُ لَيُغانُ على قَلْبِي، وإني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليوم مائة مَرَّةٍ ". 1221 - وروينا في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " والله إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأتُوبُ إلَيهِ فِي اليَوْمِ أكثَرَ مِن سبعين مرة ".

_ (1) للذين اتقوا: خبر، مبتدؤه: جنات. (*)

1222 - وروينا في " صحيح البخاري " أيضاً عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " سَيِّدُ الاسْتغْفارِ أنْ يقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبّي لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبُوءُ بِذَنبي، فاغْفِرْ لي فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا بالنَّهارِ مُوقِناً بِها فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ موقِن بها فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ " قلت: أبوء: بضم الباء وبعد الواو همزة ممدودة، ومعناه: أقرُّ وأعترف. 1223 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " كنّا نعدُّ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المجلس الواحد مائة مرّة: ربّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ " قال الترمذي: حديث صحيح. 1224 - وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً وَمِنْ كُلّ هَمٍّ فَرَجاً، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ". 1225 - وروينا في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعالى فَيَغفِرُ لَهُمْ ". 1226 - وروينا في سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يُعجبُه أن يدعوَ ثلاثاً، ويستغفرَ ثلاثاً " وقد تقدم هذا الحديث قريباً في " جامع الدعوات ". 1227 - وروينا في كتابي أبي داود والترمذي عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " ما أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عادَ في اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً " قال الترمذي: ليس إسناده بالقوي (2) .

_ (1) رواه أبو داود رقم (1518) في الصّلاة، بابُ في الاستغفار، وابن ماجه رقم (3819) ، ورواه أحمد في " المسند " رقم (2234) وفي سنده الحكم بن مصعب المخزومي، قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبّان في الثقات وفي الضعفاء أيضا، وترجمه البخاري في " التاريخ الكبير " ولم يذكر فيه جرحا، وباقي رجاله ثقات. (2) وفيه جهالة مولى أبي بكر، ولذلك قال الترمذي: حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نضيرة وليس إسناده بالقويّ. (*)

1228 - وروينا في كتاب الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " قالَ اللَّهُ تَعالى: يا بْنَ آدَمَ، إَّنكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ما كان منك ولا أُبالي، يا بْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يابْنَ آدَمَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايَا ثُمَّ أتَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً " قال الترمذي: حديث حسن. قلت: عنان السماء بفتح العين: وهو السحاب، واحدتها عنانة، وقيل العنان: ما عنّ لك منها، أي ما اعترضَ وظهر لك إذا رفعت رأسك. وأما قراب الأرض، فروي بضم القاف وكسرها، والضم هو المشهور، ومعناه: ما يُقارب ملأها، وممّن حكى كسرها صاحب " المطالع ". 1229 - وروينا في سنن ابن ماجه بإسناد جيد عن عبد الله بن بُسْر - بضم الباء وبالسين المهملة - رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفاراً كَثِيراً ". 1230 - وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن ابن مسعود (1) رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ قالَ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتُوبُ إِليْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ " قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. قلتُ: وهذا الباب واسع جداً، واختصاره أقرب إلى ضبطه، فنقتصر على هذا القدر منه. فصل: ومما يتعلَّق بالاستغفار ما جاء عن الرَّبيع بن خُثَيْم رضي الله تعالى عنه قال: لا يقلْ أحدُكم: أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنباً وكذباً إن لم يفعل، بل يقولُ: اللَّهمّ اغْفِرْ لي وتُبْ عليّ، وهذا الذي قاله من قوله: اللَّهمّ اغفر لي وتب علي حسن. وأما كراهته " أستغفرُ الله " وتسميته كذباً فلا نُوافق عليه، لأن معنى أستغفرُ الله: أطلبُ مغفرتَه، وليس في هذا كذب، ويكفي في ردّه حديث ابن مسعود المذكور قبله. وعن الفُضيل بن عباس رضي الله تعالى عنه: استغفارٌ بلا إقلاع توبةُ الكذّابين. ويُقاربه ما جاءَ عن رابعة

_ (1) رواية ابن مسعود هي عند الحاكم في " المستدرك " 1 / 511 وهو حديث صحيح صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورواية أبي داود والترمذي إنما هي من رواية بلال بن يسار بن زيد عن أبيه عن جده، وهي عند أبي داود رقم (1517) في الصّلاة، بابُ الاستغفار، وعند الترمذي (3572) في الدعوات، باب في دعاء الضيف، وهو حديث حسن. (*)

باب النهي عن صمت يوم إلى الليل

العدوية رضي الله تعالى عنها قالت: استغفارُنا يحتاجُ إلى استغفار كثير. وعن بعضِ الأعراب أنه تعلَّقَ بأستار الكعبة وهو يقول: اللَّهمّ إن استغفاري مع إصراري لؤم، وإن تركي الاستغفارَ مع علمي بسَعَة عفوك لعجز، فكم تَتَحَبَّبُ إليّ بالنعم مع غِناكَ عني، وأَتَبَغَّضُ إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا مَن إذا وَعدَ وَفَّى، وإذا توعَّدَ تجاوز وعفا، أدخلْ عظيمَ جُرمي في عظيم عفوكَ يا أرحم الراحمين. (بابُ النّهي عن صَمْتِ يَوْمٍ إلى الليل) 1231 - روينا في سنن أبي داود بإسناد حسن عن عليّ رضي الله عنه قال: حفظتُ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلام وَلا صُماتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ " (1) . وروينا في " معالم السنن " للإِمام أبي سليمان الخطابي رضي الله عنه قال في تفسير هذا الحديث: كان أهل الجاهلية من نُسْكهم الصُّماتُ، وكان أحدُهم يعتكفُ اليومَ والليلة فيصمتُ ولا ينطق، فنُهوا: يعني في الإِسلام عن ذلك، وأُمروا بالذكر والحديث بالخير. 1232 - وروينا في " صحيح البخاري " عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحْمَسَ يُقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يَحِلّ، هذا مِنْ عَمَلِ الجاهِلِيَّةِ، فتكلمت. فصل: في آخر ما قصدتُه من هذا الكتاب، وقد رأيتُ أن أضمَّ إليه أحاديث تتمُّ محاسنُ الكتاب بها إن شاء الله تعالى، وهي الأحاديث التي عليها مدارُ الإِسلام، وقد اختلفَ العلماءُ فيها اختلافاً منتشراً، وقد اجتمعَ مِن تداخل أقوالهم مع ما ضممتُه إليها ثلاثون حديثاً. 1233 - الحديث الأول: حديثُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنَّمَا الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ " وقد سبق بيانَه في أول هذا الكتاب (2) .

_ (1) في إسناده ضعف، قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة ": رواه أبو داود عن علي في حديث، وقد أعله غير واحد، وحسنه النووي متمسكا بسكوت أبي داود عليه، لاسيما وهو عند الطبراني في " الصغير " (2) انظر الصفحة (4) . (*)

1234 - الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مَنْ أحْدَثَ (1) في أمْرِنَا هَذَا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " رويناه في " صحيحي البخاري ومسلم ". 1235 - الثالث: عن النعمان بن بشير رضيَ الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبرأ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألاَ وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألاَ وَإنَّ حِمَى اللَّهِ تَعالى مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وَهِيَ القَلْبُ " رويناه في " صحيحيهما ". 1236 - الرابع: عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: حدّثنا رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق: " إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بأرْبَعِ كَلِماتٍ: بِكَتْب رِزْقِهِ، وَأجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أو سعيد، فوالذي لا إِلهَ غَيْرُهُ إنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل النَّارِ فيدْخُلُها وَإنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُها " رويناه في " صحيحيهما ". 1237 - الخامس: عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما قال: حَفِظتُ من رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) : " دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ " رويناه في الترمذي والنسائي، قال الترمذي: حديث صحيح. قوله يَريبك بفتح الياء وضمّها لغتان، والفتح أشهر. 1238 - السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ " رويناه في كتاب الترمذي وابن ماجه، وهو حسن. 1239 - السابع: عن أنس رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحبُّ لِنَفْسِهِ " رويناه في " صحيحيهما ". 1240 - الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إن اللَّهَ تَعالى طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المرسلين، فقال

_ (1) أي أنشأ واخترع من قِبَل نفسه في أمرنا، أي: شأننا الذي نحن عليه وهو ما شرعه الله ورسوله واستمر العمل به. (*)

تَعالى: (يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51] وَقالَ تعالى: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعث أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِي بالحَرَامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ " رويناه في " صحيح مسلم ". 1241 - التاسع: حديث " لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ " رويناه في الموطأ مرسلاً، وفي سنن الدارقطنيّ وغيره من طرق متصلاً، وهو حسن. 1242 - العاشر: عن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " الدّين النَّصِيحَةُ، قلنا: لمن؟ قال: لِلَّهِ وَلِكِتابِهِ، وَلِرسُولهِ، ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِم " رويناه في " صحيح مسلم ". 1234 - الحادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فاجْتَنِبُوهُ، وَما أمَرْتُكُمْ بِهِ فافْعَلُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنَّما أهْلَكَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسائِلِهِمْ وَاخْتِلافهُمْ على أنْبِيائِهِمْ " رويناه في " صحيحيهما ". 1244 - الثاني عشر: عن سهل بن ساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه أحبّني الله وأحبّني الناس؟ فقال: " ازْهَدْ في الدُّنْيا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيما عِنْدَ النَّاس يُحِبَّكَ النَّاسُ " حديث حسن رويناه في كتاب ابن ماجه (2) . 1245 - الثالث عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسْلمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وأنِّي رَسولُ الله إِلاَّ بإحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ للجَمَاعَةِ " رويناه في " صحيحيهما ". 1246 - الرابع عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ،

_ (1) وأوله عند مسلم: أيها الناس إن الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيبا ... الحديث. (2) ورواه أيضا الطبراني في " الكبير " وأبو نُعيم في " الحلية " وابن حبّان في " روضة العقلاء " والحاكم في " صحيحه " والبيهقي في " شعب الايمان " وآخرون، وهو حديث حسن. (*)

وَيُؤْتُوا الزَّكاة، فإذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأمْوَالَهمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسابُهُمْ على الله تعالى " رويناه في " صحيحيهما ". 1247 - الخامس عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " " بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ: شهادةَ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله، وأن محمدا رسول اللَّهِ، وَإقامِ الصَّلاةِ، وَإيتاءِ الزَّكاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " رويناه في " صحيحيهما ". 1248 - السادس عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لادَّعَى رجالٌ أمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي وَاليَمِينُ على مَنْ أنْكَرَ " هو حسن بهذا اللفظ، وبعضه في " الصحيحين ". 1249 - السابع عشر: عن وَابِصَةَ بن معبد رضي الله عنه أنه أتى رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: " جِئْتَ تَسألُ عَنِ البِرّ وَالإِثْمِ؟ قال: نعم، فقال: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ: البِرُّ ما اطْمأنَّت إِلَيْهِ النَّفْس وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإِثْمُ: ما حاكَ في النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وَأفْتَوْكَ " حديث حسن رويناه في مسندَيْ أحمد والدارمي وغيرهما. 1250 - وفي " صحيح مسلم " عن النواس بن سمعانَ رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " البرّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ ما حاكَ في نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ". 1251 - الثامن عشر: عن شَدَّادِ بن أوسٍ رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ الإِحْسانَ على كل شئ، فإذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذبحة، وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " رويناه في " صحيح مسلم "، والقتلة والذبحة، بكسر أولها. 1252 - التاسع عشر: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " مَنْ كان يؤمن باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " رويناه في " صحيحيهما ". 1253 - العشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلاً قالَ للنبي (صلى الله عليه وسلم) : أوصني، قال: لا تَغْضَبْ، فردّد مِراراً، قال: " لا تَغْضَبْ " رويناه في البخاري. 1254 - الحادي والعشرون: عن أبي ثعلبة الخُشنيِّ رضي الله عنه عن

_ (1) رواه بهذا اللفظ البيهقي، ولفظه عند مسلم: " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ". (*)

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها، وَحَدَّ حُدُوداً فَلا تَعْتَدُوها، وَحَرَّمَ أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسَكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْها " رويناه في " سنن الدارقطني " بإسناد حسن (1) . 1255 - الثاني والعشرون: عن معاذ رضي الله عنه قال: " قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني منَ النَّارِ! قال: لَقَدْ سألْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وإنه ليسير على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله لا تشرك بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البَيْتَ، ثم قال: ألا أدُّلُّكَ على أبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تلا: (تتجافى جنوبهم عن المَضَاجِع) حتى بلغ (يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16 - ثم قال: ألا أُخْبِرُكَ برأس الأمر، وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجِهادُ، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فقلتُ: يا نبيّ الله، وإنّا لمؤاخَذُونَ بما نتكلم به؟ فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ، أوْ على مَناخِرهِم، إلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟ " رويناه في الترمذي وقال: حسن صحيح. وذِروة السنام: أعلاه، وهي بكسر الذال وضمّها. وملاك الأمر بكسر الميم: أي مقصوده. 1256 - الثالث والعشرون: عن أبي ذرّ ومعاذ رضي الله عنهما عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُما كُنْتَ، وأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَة تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " رويناه في الترمذي وقال: حسن، وفي بعض نسخه المعتمدة: حسن صحيح. 1257 - الرابع والعشرون: عن العِرباضِ بن ساريةَ رضي الله عنه قال: " وَعَظَنا رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) موعظةً [بليغة] وَجِلت منها القلوب، وذرفتْ منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله كأنها موعظةُ مُودّع فأوصنا، قال: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ [عز وجل] ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تأمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ [حبشي] ، وَإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً، فَعَليْكُم بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْها بالنَّواجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ

_ (1) وهو حديث حسن. (*)

الأُمُورِ، فإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ " رويناه في سنن أبي داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 1258 - الخامس والعشرون: عن أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئْتَ " رويناه في البخاري. 1259 - السادس والعشرون: عن جابر رضي الله عنه: " أن رجلاً سألَ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: أرأيتَ إذا صَلَّيْتُ المكتوبات، وصمتُ رمضانَ، وأحللتُ الحلالَ، وحرّمتُ الحرامَ، ولم أزدْ على ذلك شيئاً، أدخلُ الجنة؟ قال: نَعَمْ " رويناه في مسلم. 1260 - السابع والعشرون: عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: " قلت: يا رسول الله، قل لي في الإِسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً غيرك، قال: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " رويناه في مسلم. قال العلماءُ: هذا الحديث من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم) ، وهو مطابق لقول الله تعالى: (إنَّ الَّذينَ قالُوا: رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحزنون) [الاحفاف: 13] قال جمهور العلماء: معنى الآية والحديث: آمنوا والتزموا طاعةَ الله. 1261 - الثامن والعشرون: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة، وهو مشهور في " صحيح مسلم " وغيره. 1262 - التاسع والعشرون: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنتُ خَلْفَ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يوماً فقال: يا غُلامُ إني أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ (1) ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجاهَكَ (2) ، إذَا سَألْتَ فاسألِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهِ، وَاعْلَمْ أنَّ الأمة لو

_ (1) احفظ الله: أي بحفظ دينه وأمره: مطيعا لربك، مؤتمرا بأوامره، منتهيا عن نواهيه وزواجره، فإن تحفظه كذلك يحفظك في نفسك وأهلك ودنياك سيما عند الموت، إذا الجزاء من جنس العمل، وهي من أبلغ العبارات وأجزها وأجمعها لسائر الاحكام الشرعية قليلها وكثيرها، فهو من بدائع جوامعه (صلى الله عليه وسلم) التي اختصه الله تعالى بها. (2) تجاهك بضم التاء وفتح الهاء، وأصله " وجاهك " بضم الواو كسرها ثم قلبت تاء، وهو بمعنى أمانك في الرواية الثانية: أي تجده معك بالحفظ والاحاطة والتأييد حيثما كنت فتأنس به وتستغني به عن خلقه، فهو تأكيد لما قبله، وهو من لمجاز البليغ. (*)

اجْتَمَعَتْ على أنْ ينفعوك بشئ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بشئ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُوكَ بشئ لَمْ يَضُرُوكَ إِلا بشئ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ " رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي زيادة " احْفَظِ اللَّهَ تَجدْهُ أمامَكَ، تَعَرَّفْ إلى الله في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أنَّ ما أخْطأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ " وفي آخره " وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً " هذا حديث عظيم الموقع. الثلاثون: وبه اختتامها واختتام الكتاب، فنذكره بإسناد مستظرف، ونسأله الله الكريم خاتمة الخير. 1263 - أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسيّ ثم الدمشقي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا أبو طالب عبد الله، وأبو منصور يُونس وأبو القاسم حسين بن هبة الله بن صصري، وأبو يَعلى حمزة، وأبو الطاهر إسماعيل، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسين هو ابن عساكر (1) قال: أخبرنا الشريفُ أبو القاسم عليّ بن إبراهيم بن العباس الحسيني خطيب دمشق، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن سلوان، قال: أخبرنا أبو القاسم الفضل بن جعفر قال: أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن القاسم بن الفرج الهاشميّ قال: أخبرنا أبو مسهر (2) قال: أخبرنا سعيدُ بن عبد العزيز (3) عن ربيعةَ بن يزيدَ (4) عن أبي إدريسَ

_ (1) هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الحافظ الكبير، ثقة الدين أبو القاسم صاحب كتاب " تاريخ دمشق " الكبير، المعروف ب " تاريخ ابن عساكر " توفي رحمه الله سنة 571 هـ. (2) هو عبد الاعلى بن مسهر بن عبد الاعلى بن مسلم الغساني أب مسهر الدمشقي، وهو ثقة فاضل، توفي رحمه الله سنة 218 هـ. (3) هو سعيدُ بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي الدمشقي، مفتي دمشق وعالمها، قرأ القرآن على عبد الله بن عامر، ويزيد بن أبي مالك، وسأل عطاء بن رباح، وروى عن عبد العزيز بن صهيب والزهري وربيعة بن يزيد وغيرهم، قال الإِمام أحمد بن حنبل: هو والاوزاعي عندي سواء، وقال الحاكم صاحب " المستدرك ": هو لاهل الشام كمالك لاهل المدينة في التقدم والفضل والفقه والامانة، توفي رحمه الله سنة 167 هـ. (4) هو ربيعة بن يزيد الابادي القصير، أبو شعيب الدمشقي، وهو فقيه أهل دمشق مع مكحول. قال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام، توفي بإفريقيا في إمارة هشام بن إسماعيل، خرج غازيا فقتله البربر سنة 123 هـ. رحمه الله. (*)

الخولاني (1) ، عن أبي ذرّ (2) رضي الله عنه، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، عن جبريلَ (صلى الله عليه وسلم) ، عن اللَّهُ تبارك وتعالى أنه قال: " يا عِبادي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَّالَمُوا، يا عِبادي إِنَّكُمُ [الَّذينَ] تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وأنا الَّذي أغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلا أُبالي، فاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ، يا عبادي كُلُّكُمْ جائعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُهُ فاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عبادي كُلُّكُمْ عارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسِكُمْ، يا عِبادي لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا على أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذلكَ منْ مُلْكِي شيئا، يا عبادي لو أن أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُِمْ كانُوا على أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحد مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذلكَ في مُلْكي شَيْئاً، يا عبادي لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا في صَعيدٍ وَاحدٍ فَسألُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مِنْهُمْ ما سألَ لَمْ يَنْقُصْ ذلكَ مِنْ مُلْكِي [شَيْئاً] إِلاَّ كما يَنْقُصُ البَحْرُ أنْ يُغْمَسَ المِخْيَطُ فِيه غَمْسةً وَاحدَةً، يا عِبادي إنَّما هِيَ أعْمالُكُمْ أحْفَظُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ". قال أبو مسهر: قال سعيدُ بن عبد العزيز: كان أبو إدريس إذا حدّثَ بهذا الحديث جثا على ركبتيه. هذا حديث صحيح، رويناه في " صحيح مسلم " وغيره (3) ، ورجال إسناده مني إلى أبي ذرّ رضي الله عنه كلُّهم دمشقيون، ودخل أبو ذرّ رضي الله عنه دمشق، فاجتمع في هذا الحديث جمل من الفوائد. منها صحة إسناده وَمَتنه، وعلوّه وتسلسله بالدمشقيين رضي الله عنهم وبارك فيهم.

_ (1) هو عائذ الله بن عبد الله بن عمرو - ويقال: عبد الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عتبة بن غيلان أبو إدريس الخولاني العوذي والعيذي، رُوي عن عمرَ بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر وبلال وغيرهم من الصحابة. وعنه الزهري وربيعة بن يزيد، وبسر بن عبيد الله وغيرهم ... قال سعيدُ بن عبد العزيز: كان أبو إدريس الخولاني: عالم الشام بعد أبي الدرداء، توفي رحمه الله سنة 80 هـ. (2) أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، قيل: اسمه جندب بن جنادة بن عبد الله، وقيل: ابن السكن، توفي رضي الله عنه بالربذة - قرية من قرى المدينة - في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (32 هـ) وصلى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومناقبه كثيرة جدا. (3) أخرجه مسلم من رواية سعيدُ بن عبد العزيز عن ربيعةَ بن يزيدَ عن أبي إدريسَ الخولاني عن أبي ذرّ، وأخرجه أيضا مسلم من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذرّ، وأخرجه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية شَهْر بن حَوْشَب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذرّ، وأخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الاشعري. (*)

ومنها ما اشتمل عليه من البيان لقواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه والآداب ولطائف القلوب وغيرها، ولله الحمد. روينا عن الإِمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث. هذا آخرُ ما قصدتُه من هذا الكتاب، وقد مَنّ الله الكريمُ فيه بما هو أهلٌ له من الفوائد النفيسة والدقائق اللطيفة من أنواع العلوم ومهماتها، ومُستجادَاتِ الحقائق ومَطلُوبَاتِها. ومن تفسير آياتٍ من القرآن العزيز وبيانِ المراد بها، والأحاديث الصحيحة وإيضاح مقاصدها، وبيان نُكَتٍ من علوم الأسانيد ودقائقِ الفقه ومعاملاتِ القلوب وغيرها، والله المحمودُ على ذلك وغيره من نعمه التي لا تُحصى، وله المِنّة أن هداني لذلك، ووفّقني لجمعه ويَسَّرَه عليّ، وأعانني عليه، وَمَنّ علي بإتمامه، فله الحمدُ والامتنانُ والفضلُ والطَّوْلُ والشكرانُ، وأنا راجٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تعالى دعوة أخٍ صالح أنتفعُ بها تقرّبني إلى الله الكريم، وانتفاع مسلمٍ راغب في الخير ببعض ما فيه أكون مساعداً له على العمل بمرضاة ربّنا، وأستودعُ الله الكريمَ اللطيفَ الرحيمَ منّي ومن والديّ وجميعِ أحبابنا وإخواننا ومَنْ أحسنَ إلينا وسائرِ المسلمين: أديانَنا وأماناتِنا وخواتِيمَ أعمالنا، وجميعَ ما أنعمَ اللَّهُ تَعالى به علينا، وأسألُه سبحانه لنا أجمعين سلوكَ سبيل الرشاد، والعِصْمة من أحوال أهل الزَّيْغ والعِناد، والدَّوامَ على ذلك وغيره من الخير في ازدياد، وأتضرّعُ إليه سبحانه أن يرزقنا التوفيقَ في الأقوال والأفعال للصواب، والجريَ على آثار ذوي البصائر والألباب، إنه الكريم الواسعُ الوهَّاب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ وإليه متاب، حَسْبُنا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل، ولا حو وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ، والحمدُ لله ربّ العالمين [أوّلاً وآخراً] وظاهراً وباطناً] ، وصلواتُه وسلامُه الأطيبان [الأتمّان] الأكملان على سيدنا محمد خير خلقه أجمعين، كلما ذكره الذاكرون، وغَفَل عن ذكره الغافلون، وعلى سائر النبيّينَ وآل كلٍّ وسائر الصالحين. قال مصنفه أبو زكريا يحيى بن شرف مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد النووي عفا الله عنه: فرغت من جمعه في المحرم سنة سبع وستين وسمتائة سوى أحرف ألحقتها بعد ذلك، وأجزت روايته لجميع المسلمين.

§1/1