الأديان والمذاهب - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 علم الأديان نشأته وأهميته وتعريفه.

الدرس: 1 علم الأديان نشأته وأهميته وتعريفه. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (علم الأد يان نشأته وأهميته وتعريفه) مقدمة عن تاريخ علم الأديان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنحن مع مادة الأديان والمذاهب، والتي تدور في فلك أهمية دراسة علم الأديان، ومعنى الدين، ونظرات حول الرسالات السماوية، والأديان الوضعية هكذا على الجملة، ودرسنا الأول يدور حول عنصرين أساسيين أهمية دراسة الأديان وعرض سريع لتاريخ الأديان فنقول وبالله التوفيق: أهمية دراسة الأديان: تتأتَّى أهمية دراسة الأديان كمنهج إسلامي في الدعوة إلى الله تعالى؛ إذ يرتكز هذا المنهج في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام على الجدال بالتي هي أحسن كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) ولا يستطيع الداعية الناجح أن يدعو غير المسلمين بالتي هي أحسن إلا إذا درس ما عندهم من ديانات، ووقف على الملل والنحل التي يدين بها غير المسلمين حتى يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فإذا علم ذلك استطاع أن يدفع الباطل، ويردَّه عن دعوته، وأن يناصر الحق والصواب على المنهج القويم الذي رسمه الله تعالى للدُّعاة إليه في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108).

وتتأتَّى أيضًا أهمية هذه الدراسة على أنها واجب علمي تقتضيه الضرورة الملقاة على عاتق الدعاة إلى الله؛ إذ بهذه الدراسة يستطيع الداعية أن يُزيح الستار عن الرسالات التي تنزلت من قِبَل الحق تبارك وتعالى، خاصة التي أسدل عليها الباطل ستاره حتى ذهب بها، وجاء الناس لأنفسهم بعقائد وتشريعات جديدة تبتعد كل البعد عن دين الله وشرعه. لذا فيجب على طالب العلم أن يكون على علم بتاريخ الأديان والمذاهب المنتشرة حوله، حتى يستطيع أن يُقارع غيره ممن يخالفونه في الدين الحجة بالحق، والبينة بالبينة، والدليل بالدليل، ويستطيع أن يؤمِّن الأجيال الحاضرة والمقبلة من خطر المنصرين، وأن يأمن على دينه مما يحيط به من أخطار وأهوال. إذن ترتكز هذه الأهمية في أن المسلم يحافظ على دينه، ويكون على بصيرة وبينة من الأمر بمعرفة الحق من الباطل، ويحصن نفسه من خطر المنصرين. وأما بالنسبة للداعية خاصة حتى يستطيع أن يدعو إلى الله -عز وجل- على بصيرة وعلم، وأن يجادل غير المسلمين بالتي هي أحسن. عرض سريع لتاريخ علم الأديان: حيث يدور في فلك بدايته مع العصر الفرعوني، وإلى نهاياته حيث النهضة الأوروبية، فنقول وبالله التوفيق: كلمة تاريخ الأديان كلمة معربة عن لغة الفرنجة، والتسمية بهذا الاسم مستحدثة لم تعرفها أوربا إلا عند فجر القرن التاسع عشر، على أن الحديث عن العقائد البشرية هو في جوهره شأن قديم، ومعاصر لاختلاف الناس في مللهم ونحلهم، تتسع مادته حينًا، وتضيق حينًا بمقدار تعارف أهل الأديان فيما بينهم، ووقوف

بعضهم على مذاهب بعض، كما يختلف طابعهم ووجهتهم مسايرة لتشعب نزعات الباحثين وأهدافهم. ولو أننا تتبعنا سلسلة الحديث عن الأديان من عهد الفراعنة، واليونان، والرومان، والمسيحية، والإسلام؛ فالنهضة الحديثة لاستطعنا أن نتبين اختلاف صوره فيما بين العصر والعصر، بل ربما بين الفترة والفترة، فمثلًا العصر الفرعوني لم يصل إلى أيدينا سجل جامع دوَّن فيه قدماء المصريين دياناتهم وأديان غيرهم، ولكن البحوث الأخيرة أثبتت إثباتًا لا يخالطه وهم أن المصريين منذ ألوف السنين قبل ميلاد المسيح -عليه السلام- بدءوا يسجلون عقائدهم وعوائدهم ووقائعهم، وألوان حياتهم: أقوالًا متفرقة مسطورة في قراطيس البردي، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد، وأنهم تركوا إلى جانب ذلك مجموعات عظيمة من التماثيل المنحوتة، والأجساد المحنطة لملوكهم ورؤسائهم، ومقدساتهم من الطير، والحيوان، والأناسي وغيرها، وكذا صنعوا في شأن الأقاليم التي فتحوها كبلاد النوبة، وسوريا، والعراق وغيرها. وعلى قدر سعة فتوحهم اتسعت صدورهم لمختلف العقائد، فتركوا لكل إقليم حريته في تقديس ما يشاء، واتخاذ ما يشاء من الرموز الموضعية. أما العصر الإغريقي: فلم يبقَ الآن مجال للشك في أن القدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية، والحضارة المصرية بوجه أخص، وليس معنى هذا أن الإغريق كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلًا حرفيًّا، فذلك

ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليل من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم ينشئوا هذه العلوم إنشاء على غير مثال سابق، كما ظنه بعضهم، بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيرًا. وإن قدماء اليونان أنفسهم يذهبون إلى الاعتراف بهذه التلمذة إلى القول بأن عظماءهم أمثال فيثاغورس وأفلاطون مدينون بأرقى نظرياتهم إلى المدرسة المصرية، والناقدون المحدثون -وإن استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات- لم يسعهم إلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة في الدين والأخلاق للنظريات المصرية. وفي حديثهم عن آثارهم ومعاركهم، وأخبارهم كانوا يتحدثون عن أسماء آلهتهم وآلهة خصومهم، ووصف القربات، والضحايا، والتوسلات التي يتوجه بها كل مظلوم أو مكروب إلى إلهه، وذكر ما يجري في زعمهم بين آلهة السماء؛ حيث تتشاور فيما بينها وحين تتنازع، وتنقسم آراؤها في الانتصار لهذا الفريق أو ذاك إلى غير ذلك. ثم تطورت هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر حيوية في تسجيل المعالم الدينية، ولكنها كانت تتسم رواياتهم بالطابع الأسطوري والتمثيلي الذي يستمدُّه الكاتب من خياله، وأسلوب تفكيره في تعليل الحوادث والنوازل، ثم يلي هذا دور الرحلات للمؤرخين الوصافين، وهذا الدور وإن كان كسابقه لم يفرد فيها للأديان تأليف مستقل؛ حيث كان الحديث عنها يمزج بالأوصاف الإقليمية وغيرها، إلا أن الاعتماد فيه كان على المشاهدات لا على التخيلات، كما أن نطاق البحث فيه كان أوسع، فقد شمل ديانات آسيا الصغرى، ومصر، وبابل، وفارس، وما يتاخمها، وامتاز أيضًا بطابع المقارنة بين معبودات

الإغريق، ومعبودات غيرهم مقارنة تميل إلى تفضيل وجهة نظر المصريين، وإلى نقد الأخطاء التي كان يقع فيها عامتهم بسبب الاشتراك اللفظي حين يكون الاسم الواحد علمًا على إله أزلي، وعلى بطل من أبطال الشر. ولقد كانت فتوح الإسكندر المقدوني سببًا في انفساح مجال المعرفة لأديان أخرى، حيث وصلت جيوش الإسكندر إلى الهند، وإلى جانب هذه الدراسات الوصفية لمختلف الأديان المعروفة؛ إذ ذاك، قامت دراسات نقدية فلسفية تهدف إلى تمحيص حقيقة الدين بوجه عام في ثنايا البحث عن حقائق الأشياء. العصر الروماني: في القرن الثاني قبل الميلاد أخضع الرومان الدولة اليونانية سياسيًّا، فأصبحت ولاية تابعة لهم بعد أن كانوا هم تبعًا لها، والعجب أنه لم يستفد الرومان من الحضارة اليونانية شيئًا يُذكر في محيط الأوساط العلمية والأدبية، لكن كان الفتح الروماني لبلاد الإغريق سببًا في اجتلاب بعض آرائهم الشائعة في العصر، كان هذا الفتح للبلاد الأسيوية والأفريقية سببًا في نقل بعض مذاهبهما الدينية إلى روما، فاشتهرت فيها بعض أسماء المعبودات مثل مترا، وبعل، وإيزيس وغيرهم. وكان وصف هذه الديانات الواغلة مضافة إلى الأديان المحلية مجالًا لأقلام الكاتبين الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فكتب سيسرون عن الآراء الفلسفية في طبيعة الألوهية، وكتب فارون عن الشعائر، والعبادات الرومانية، لا بأسلوب النقد والموازنة والترجيح، بل بأسلوب التأويل والتوفيق، أو التلفيق بين الآراء المختلفة.

أسلوب ينم عن التردد والحيرة، وعدم العناية بالبحث الجدي أكثر مما يعبر عن روح التسامح الديني، الذي ينسب إلى ذلك العهد، فالتعبير بالتسامح هنا تعبير غير محرم، واستنباط غير موفق من عادة اعتادها بعضهم إذ ذاك، وهي أنهم كانوا لا يلتزمون شعائر دين معين، بل يشتركون في عبادات متنوعة من ديانات شتَّى باعتبارها كلها رموز الحقيقة الواحدة، فهذا المسلك لا يدل على احترام كل متدين لديانة غيره، وهو معنى التسامح والإرضاء، بل يدل على الانحلال، وعدم الركون إلى دين ما. العصر المسيحي: وفي منتصف القرن الأول بعد الميلاد دخلت الدعوة المسيحية إلى أوربا في صورة دين سماوي جديد، يأبى أن ينتظم في سلك مع الأديان الوثنية السابقة، ويحاول أن يظهر عليها ويحل محلها، وكان ما كان من احتكاك وصراع، وتفاعل وامتزاج بينه وبين تلك الديانات المحلية، ثم بينه وبين المذاهب المستحدثة في عهده مثل: الديانة المانوية التي ظهرت في القرن الثالث بعد الميلاد، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة في القرن الثالث أيضًا. وكان ما كان من اضطهادات، ومقاومات عنيفة شنَّها أباطرة الرومان على دُعاته وأتباعه، حتى جاء الإمبراطور قسطنطين أول القرن الرابع فدعا في أول الأمر إلى المهادنة الدينية العامة، ثم أعلن المسيحية دينًا رسميًّا للدولة على الصورة التي وضعها المجمع المنعقد بأمره في نيقية سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين ميلادية، وقد كان ألمع اسم في قائمة المدافعين عن المسيحية المعارضين للنحل الجديدة المنافسة لها، هو اسم القديس أوغسطين، وهو أسقف كان قد اعتنق المانوية قبل أن

يعتنق المسيحية، وهو له مؤلفاته أشهرها كتاب (المدينة الإلهية) وهو أهمها، وكتاب (الاعترافات)، وكتاب (اللطف). واستمر هذا الطابع الجدلي للعقائد هجومًا ودفاعًا، هدمًا وبناءً لا بين المسيحية وغيرها فحسب، بل بين المذاهب المسيحية أنفسها، فلم يكن هم الكاتبين تصوير العقائد المختلفة كما هي، بل كان هدف كل كاتب التماس موطن من مواطن الضعف في عقيدة خصمه لإبطالها، وإبراز ناحية من نواحي القوة في عقيدته لنصرها ونشرها. العصر الإسلامي: ثم ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وما هو إلا أن تمكنت دعوته في سنة ستمائة واثنين وعشرين من الميلاد، من استنشاق نسيم الحرية خارج مكة، حتى انتشرت بسرعة البرق شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، ولم يمض قرن واحد حتى سرت في أقطار أوربا الغربية، أسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا حاملة معها علوم الإسلام وآدابه، وتشريعاته، مضافة إلى علوم اليونان، وفلسفتهم، مضافًا إليها ما اكتشفه العرب والمسلمون في رحلاتهم من علوم الشرق وآدابه، وما أفادوه من تجارب جديدة، ولم يكن بدعًا من الأمر أن يكون الغرب عالة على العرب في علوم الشرق، وإنما البديع والعجب العجاب أن يكون عالة عليهم في علوم أوربا نفسها، وأن يبقى كذلك حقبة مديدة من التاريخ، ولئن كان قد مضى الفتح الروماني دون أن يستفيد من الأدب اليوناني، ومضى العصر المسيحي في شغل بالجدل الديني؛ فإنه لم يفتح الغربيون عيونهم على تلك الكنوز العقلية إلا وهي في أيدي العرب والمسلمين الذين

جاءوهم من وراء البحار في أوائل القرن الثامن، فاتحين فتوح علم وسلم، وعدالة وسماحة، لا فتوح علو وعتو، وإشباع للغرائز الجامحة، واستنزاف للدماء والثروات. هناك هرع الناس إليهم من كل صوب ينهلون من معارفهم، وكان اليهود أول الناس انتفاعًا بهذه التلمذة، فأخذوا ينقلون هذه العلوم من العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية؛ إنما أفاده الغربيون من معارف العرب أنفسهم في الأدب والشعر، والتشريع والطب، والفلك، والتاريخ، والطبيعة والكيمياء، والجبر والتقويم، والترقيم، ومختلف الفنون والصناعات، فهو أوسع من أن نلمَّ ببعضه، ولكن الذي يعنينا هنا إنما هو أثر العرب والمسلمين في علم الأديان الذي نحن بصدده، وإنه لأثر جليل يمتاز بطابعين جديدين لم يسبق إليهم أحد فيما نعلم. أما أحدهما: فهو أن الحديث عن الأديان بعد أن كان في العصور السابقة إما مغمورًا في لُجَّة الأحاديث عن شئون الحياة، وإما مدفوعًا في تيار البحوث النفسية أو الفلسفية أو الجدلية، أو على الأقل محدودًا بحدود العقائد الموضوعية وما يشارفها، أصبح في كتب العرب دراسة وصفية واقعية، ومنعزلة عن سائر العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينه علمًا مستقلًّا قبل أن تعرفه أوربا الحديثة بعشرة قرون. وأما الآخر فهو ليس أقل نفاسة من سابقه، فهو أنهم في وصفهم الأديان المختلفة لم يعتمدوا على الأخيلة والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق والكذب، ولا على العوائد والخزعبلات الشائعة في الطبقات الجاهلة، والتي قد تنحرف قليلًا أو كثيرًا عن حقيقة أديانها، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافهم لكل ديانة من

مصادرها الموثوق بها، ويستقونها من منابعها الأولى، وهكذا بعد أن اختطوه علمًا مستقلًّا، اتخذوا له منهجًا علميًّا سليمًا. ونحن ذاكرون هنا بعض أسماء المؤلفات العربية المشهورة في هذه المادة على ترتيبها التاريخي: 1 - كتاب (جمل المقالات) لأبي الحسن الأشعري المتوفى سنة ثلاثمائة وثلاثين من الهجرة في القرن العاشر الميلادي. 2 - كتاب (المقالات في أصول الديانات) للمسعودي المتوفى سنة ثلاثمائة وست وأربعين للهجرة في القرن العاشر أيضًا. 3 - كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الظاهري المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة هجرية في القرن الحادي عشر الميلادي. 4 - كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني المتوفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة في القرن الحادي عشر. 5 - كتاب (اعتقادات المسلمين والمشركين) للفخر الرازي المتوفى سنة ستمائة وست من الهجرة في القرن الثاني عشر الميلادي. 6 - كتاب (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) للبيروني. وهكذا، هذا بخلاف الكتب الكثيرة التي وضعت في الرد على النصارى واليهود مثالها ما كتبه القرطبي (الإعلام بما في دين النصارى من أوهام)، وما كتبه ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وما كتبه ابن القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)، وكتاب الشيخ رحمة الله الهندي (إظهار الحق)، ورسالة لأبي عبيد الخزرجي إلى القس حنا مقار العيسوي.

وهكذا، ثم توالت الكتب تترى حتى هذا العصر الحديث في كتب فاقت الحصر والعد، رسائل، وأبحاث ومسلسلات، أو سلاسل علمية كالتي كتبها الدكتور أحمد شلبي، والدكتور رءوف شلبي، والدكتور أحمد غلوش، والدكتور عبد الله سمك، والدكتور عبد الله بركات، والدكتور عمر بن عبد العزيز، مع رسائل علمية متخصصة تناولت دقائق هذا العلم وجوانبه من كل زواياه، أَفَتَرَى من الإنصاف بعد هذا أن يقال عن الإسلام: إنه لم يصنع شيئًا في تاريخ الأديان المقارنة. ثم نأتي إلى نهضة أوربا الحديثة: بدأت أوربا الغربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، تستيقظ رويدًا رويدًا، وتتلفت بأنظارها إلى الشرق الذي كان مبعث نورها، فجعلت تبعث إليه البعوث من رجال الدين الفرنسيسكان، والدومينيكان، حتى بلغوا في رحلاتهم بلاد الهند، والصين، واطلعوا على دياناتها، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهما أول العصر المسمى بعصر البعث، أو النهضة انبعثت همتها للاطلاع بنفسها على علوم اليونان وآدابهم، وفنونهم، القديمة باللغة اليونانية، وكانت باكورة نشاطها في هذا الشأن تنقيبها عن الآثار الأسطورية، وتفسير ما ترمز إليه من عقائد أو حوادث تاريخية، ولم تلبث أن ظهرت حركة الإصلاح المسيحي البروتستانتية في منتصف القرن السادس عشر، فكانت مكملة لجانب من هذه النهضة العلمية في أوربا بما مهدت له من دراسات في اللغة العبرية، واللغات السامية الأخرى؛ بغية التفهم لنصوص التوراة والإنجيل، التي كان رجال الإصلاح يتمسكون بحرفيتها.

ولكنها من جانب آخر أغرقت أوربا في حمأة المنازعات والحروب الدينية التي عوقت حركة اكتشاف الأقاليم، ونشر المسيحية فيها، ولذلك بقي البروتستانت قرنين من الزمان لا يساهمون في هذه البعوث، وكان الكاثوليك من أسبان، وبرتغال، وفرنسيين، وهم القائمين إذ ذاك وحدهم بأعبائها، ثم تتابع الرحالون من الفريقين، وازدادت عنايتهم بالأقطار الجديدة في آسيا، والأيفانوسية، وأمريكا، ومجاهل أفريقيا حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام، وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إلى السؤال عما كانت عليه ديانة الإنسان الأول، وبذلت محاولات لتحديدها في ضوء المقايسة على ديانات هؤلاء البدائيين، كما بذلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطورها، أو تولد بعضها عن بعض، ومنذ ذلك اليوم أصبح علم الأديان ذا شعبتين اثنتين: شعبة جديدة مبتكرة، وشعبة قديمة نالها شيء من التجديد. أما الشعبة القديمة المجددة فهي تلك الدراسات الوصفية التحليلية الخاصة بملة ملة، وهي التي يمكن أن تعرفنا نشأة ديانة ما، وحياة مؤسسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، وألوان تطورها إلى غير ذلك من المعاني التي ما فتئت مجالًا لحديث الناس منذ اختلفت مذاهبهم، وهذه الشعبة هي المشهورة باسم تاريخ الأديان، ولو أنصفت التسمية لكانت تواريخ الأديان. والتجديد الذي لحقها في العصور الحديثة يمكن تلخيصه: أنها توسعت في مادتها ووسائلها جميعًا، فهي بعد أن كانت منحصرة فيما بين البحرين الأبيض والأحمر، أعني: ملتقى القارات الثلاث، اتسعت الآن بقعتها حتى انتظمت

تعريف الدين.

القارات الخمس، وهي كذلك، بعد أن كانت محصورة أو تكاد في نطاق الأمم المتمدنة، تناولت الشعوب الهمجية، والأمم البائدة؛ بل تطاولت إلى التنقيب عما وراء التاريخ المعروف. وأما الشعبة الجديدة المبتكرة فهي ضرب من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية التي تهدف إلى إشباع نهمة العقل في التطلع إلى أصول الأشياء، ومبادئها العامة حين تتشعب عليه جزيئاتها، وتفصيلاتها. تعريف الدين أبدأ الكلام حول معنى الدين لغة واصطلاحًا، فأقول وبالله التوفيق: معنى الدين في اللغة: له معانٍ كثيرة، توهم الناظر إليها لأول مرة أنها متناقضة، وليس الأمر كذلك، بل عند التحقيق تجدها في غاية الانسجام فيما بينها. فقد وردت الكلمة بمعنى الملك وهو الخدمة، وبمعنى الذل أي: القهر والسلطان، أو التذلل والخضوع، وبمعنى الطاعة والاستسلام، والاعتقاد والتعبد، والمحاسبة والجزاء، والحكم والقضاء، والقهر والتدبير، والحساب والمكافأة، وكذا اسم لكل ما نعتقده، أو لكل ما يُتعبد الله -عز وجل- به إلى آخر هذه الكلمات التي وردت في معاجم اللغة. والواقع أننا إذا نظرنا في اشتقاق هذه الكلمة، ووجوه تصريفها نرى من وراء هذا الاختلاف الظاهر تقاربًا شديدًا، بل صلة تامة في جوهر المعنى؛ إذ نجد أن هذه المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معانٍ تكاد تكون متلازمة، وبيانه: أن كلمة الدين تؤخذ تارة من فعل متعدٍّ بنفسه دانه يدينه، فتكون بمعنى ملكه

وحكمه وساسه، ودبره وقهره وحاسبه، وقضى في شأنه، وجزاه وكافأه، فيدور معنى الدين هنا على معنى الملك والتصرف، والذي منه الآية الكريمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4). وكذا اسم الله تعالى الدَّيَّان أي: الحكم والقاضي، ومنه الحديث: ((الكيس من دان نفسه)) أي: حكمها وضبطها، وتارة تكون من فعل متعدٍّ باللام دان له، فتكون بمعنى أطاعه، وخضع له؛ فالدين هنا هو الخضوع والطاعة، وكذا العبادة والورع، وكلمة الدين لله يصح أن يُفهم منها كلا المعنيين الحكم لله أو الخضوع لله، وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول، ومطاوع له، دانه فدان له، أي: قهره على الطاعة فخضع وأطاع. وتارة تأتي من فعل متعدٍّ للباء دان به، فيكون معناه: أنه اتخذه دينًا ومذهبًا أي: اعتقده أو اعتاده، أو تخلق به، فالدين على هذا المعنى هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريًّا أو عمليًّا، فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته، كما يقال: هذا ديني، وديدني، والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي: وكلته إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يراه سائغًا في اعتقاده. ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضًا للاستعمالين قبله؛ لأن العادة أو العقيدة التي يُدان بها لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتباعها، وجملة القول في هذه المعاني اللغوية أن كلمة الدين عند العرب تُشير إلى علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر، ويخضع له، فإذا وُصف بها الطرف الأول كانت خضوعًا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا،

وحكمًا وإلزامًا، وإذا نظرنا بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين؛ كانت هي الدستور المنظم، والحكم الذي يرسم تلك العلاقة، أو المظهر المعبر عنها، فالكلمة تدور على معنى لزوم الانقياد، فالأول: ملزم بالانقياد، والثاني: ملتزم بالانقياد، والثالث: المبدأ الذي يلتزم بالانقياد له. وكذا ينبغي التفرقة بين الدَّين بالفتح، والدِّين بالكسر، فالأول يتضمن في الأصل إلزامًا ماليًّا، والثاني يقتضي إلزامًا أدبيًّا. وهكذا يظهر لنا جليًّا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وما ظنه البعض من تناقضها، أو ما ظنه بعض المستشرقين من أنها دخيلة على اللغة العربية، أو معربة عن العبرية أو الفارسية فهو بعيد كل البعد، ولعلها نزعة شعوبية أُريد بها تجريد العرب من كل فضيلة حتى فضيلة البيان، التي هي أعز مفاخرهم، وبذا اتضح المقصود حول الكلمة اللغوية. معنى الدين اصطلاحًا: بعد بيان المعنى اللغوي لكلمة الدين نشرع في بيان معنى الدين من ناحية الاصطلاح، أو المعنى الشرعي، ولا شك أنه سيختلف معنى الدين في معناه الاصطلاحي، عند الذين يريدون وضع تعريف له، وذلك لأنه بادئ ذي بدء ستختلف وجهاتهم من حيث النظر إلى الدين، وقد تباين الناس فيه ما بين محق ومبطل، أو متبع لدين الحق وآخر باطل، ودين سماوي وآخر أرضي.

ولذلك جاءت تعريفات الدين متباينة سيما بين المسلمين الغربيين، فالمسلمون يعرفون الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، ولخصه بعضهم بقوله: "الدين وضع إلهي يشير إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات"، وهذا التعريف لا شك أنه ينطبق على الدين الحق، ولا يمكن تعديه إلى جنس الدين، وقد عُلم أن منه حسب الواقع والاستقراء الحق والباطل، وما انتشر من باطله أكثر بكثير مما عليه أهل الحق منهم قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6)، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116)، وكذا {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 106)، وكذلك {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) إلى آخر الآيات التي في هذا المعنى. وأما الغربيون فلهم في تعريف الدين تعبيرات شتَّى نذكر نماذج منها يقول سيسرون: "الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله"، ويقول كانت: "الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية"، ويقول شليلماخر: "قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة"، ويقول الأب شاتل: "الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق، وواجبات الإنسان نحو الله، ونحو الجماعة، ونحو نفسه"، ويقول روبرت سبنسر: "هو الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية، هذا العنصر الرئيسي في الدين"، يقول تايلور: "الدين هو الإيمان

بكائنات روحية"، يقول ماكسملر: "الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، فهو التطلع إلى اللانهائي، وهو حب الله"، ويقول إميل برنوف: "الدين هو العبادة، والعبادة هي عمل مزدوج، فهي عمل عقلي به يعترف الإنسان بقوة سامية، وعمل قلبي، أو انعطاف محبة، يتوجه به إلى رحمة تلك القوة"، ويقول ريفيل: "الدين هو توجيه الإنسان سلوكه وفقًا لشعوره بصلة بين روحه، وروح خفية، يعترف لها بالسلطان عليه، وعلى سائر العالم، ويطيب له أن يشعر باتصاله بها". ويقول جويوه: "الديانة هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية، والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أخرى، يركزها الإنسان البدائي في الكون"، ويقول ميشيل مايير: "الدين هو جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله ومع الناس، وفي حق أنفسنا"، ويقول سلفان بريسيه: "الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية" ويقول سلمون ريناك: "الدين هو مجموعة التورعات التي تقف حاجزًا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا"، ويقول إميل دور كايم: "الدين مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة أي: المعزولة المحرمة، اعتقادات أعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة". وبعدُ: فمن هذا العرض لتعريف الدين عند العلماء الغربيين يتبين أنهم ما أرادوا حقيقة الدين، ولكن فكرة الدين أو الاعتقاد بإطلاق، أو فكرة الخضوع والاتباع من حيث هي بغضِّ النظر عن مصدرها ومنهجها، ومدى صحتها، ومما لا شك فيه أن كثيرًا من الديانات الخرافية التي هي وليدة الخيالات والأوهام كانت تنطبق عليها هذه التعاريف، ولا تخرج عن مقتضاها.

فكل ديانة تقوم على عبادة التماثيل، أو عبادة الحيوان، أو النبات، أو الكواكب، أو الجن، أو الملائكة، أو الأنبياء إلى آخره، فإنها تكون دينًا بمعناه اللغوي، وإن لم يمت إلى الدين الحق بصلة، ولم لا والقرآن قد سماها كذلك حيث يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، ويقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6). والشيء الذي لا شك فيه أن هذه التعريفات عند الغربيين متباينة، كما أنها ليست جامعة مانعة، ذلك أن منهم من جعل الدين فكرة فلسفية في أرقى صورها؛ مخالفًا بذلك بقية صوره التي عرفها عوام المتدينين، كما أنها لا تنطبق على عقيدة المشبهين ولا المجسمين، كما لم تخلُ من طرفي النقيض ما بين مضيق وموسع، ومن نظر إلى الروحانية فقط دون المادية، ومن عكس لنا القضية، ومن ذهب إلى النظرية الاعتقادية وقد أغفل الواقع، ومن عاش في الواقع وتمرغ في أوحاله دون أن يرتقي إلى النظرية أو المثالية في شيء، كما أنه لا يجوز لبعض هذه التعريفات أن تحذف مبدأ الألوهية من تعريف الدين. ذلك، لأن قضية الألوهية هي قوام حقيقة الدين، ولا يكون الإنسان متدينًا إلا مع شعوره بالحاجة والتبعية المطلقة لقوة قاهرة أيًّا كانت، وأيًّا كان لون الخضوع لها، فهذا يسمى دينًا بغض النظر عن حقيقته وبطلانه، ولذلك كان يجب على من يتعرض لتعريف الدين أن ينظر إلى العناصر الرئيسة في العقيدة الدينية، والتي ملخصها في هذا التعريف الجامع لمعنى الدين بإطلاق، الدين: هو الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية علوية، لها إرادة واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان؛ اعتقادًا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد.

وبعبارة موجزة: هو الإيمان بالذات الإلهية، جديرة بالطاعة والعبادة، فهذا الدين من حيث هو حالة نفسية بمعنى التدين، أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجة فنقول: هو جملة النواميس النظرية التي تُحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها. وبعد تعريف الدين لغةً واصطلاحًا عند علماء المسلمين، وعند علماء الغربيين، نذكر عناصر الدين، عناصر الدين أربعة، من أجل أن يكون الدين حقًا أو إلهيًّا لا بد وأن يشتمل على أربعة عناصر: الأول: المصدر، وهو الله -جل شأنه- يقول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (الكهف: 1). الثاني: الوحي الذي يكون وساطة بين الله وعباده كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (النساء: 163)، كما قال تعالى مخاطبًا نبيه -عليه الصلاة والسلام: {حم عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى: 1: 3). الثالث: الموحى به، وهو المنهج، أو الدين يقول الله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس: 109)، ويقول أيضًا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: 7). الرابع: الموحى إليه، وهم الأنبياء والرسل على النبيين -وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام- يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًّا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ

نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:51: 53). فكل دين ليس له، أو فيه مصدر الألوهية، فليس من الجيد أن يُسمى دينًا صحيحًا، فإذا أخذ الدين عن طريق الفكر الفلسفي المحض، أو له مزيج من الدين الذي لا يمكن أن يجد له نصًّا معصومًا، وإذا فقد الدين الوحي أو النبوة مثل نحلة المسيحية، فليست دينًا صحيحًا؛ لأن قولهم إن عيسى ابن الله ينفي عنه النبوة، وبانتفاء النبوة ينتفي عنصر من عناصر الدين الصحيح، فلا تبقى المسيحية متصفة بأنها دين من عند الله تعالى، وهكذا، فكل دين لا يشتمل على العناصر الأربعة المذكورة فقد انخرم فيه خرم، ينفي عنه صفة الدين الحق الذي هو من عند الله تعالى. هذا، وإن كان القرآن قد استعمل لفظ الدين بمعناه الشامل الذي تندرج فيه نحل ومعتقدات المشركين، كما في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) فإن القرآن قرر في أمر الدين أصولًا جعلت للدين معنى شرعًا خاصًّا، فالدين لا يكون إلا وحيًّا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده، ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله، فالدين الإلهي نظام كامل شامل يشمل الفرد والأسرة، والمجتمع، والدولة، وليس فقط طقوسًا دينية، ولا كهنوتية وجدانية، بل هو نظم كاملة للروح والجسد، والدنيا والآخرة معًا، ومن فسر الدين بغير هذا فهو ليس دين الإسلام، ولكنه دينه هو، وبذلك تفترق صفات الدين الحق الذي هو دين الله عن صفات دين الشرك والأصنام والأهواء، ونحن قد رضينا بالله تعالى ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا.

وحدة الدين.

وحدة الدين الحديث عن وحدة الدين: دين الله -عز وجل- يجمع أشتات الناس على وحدة العمل، ووحدة التوجه، ووحدة الغاية والهدف، وصولًا إلى وحدة المصير، ولهذا فحري به أن يكون واحدًا، وهو كذلك، فمرد الاعتقاد واحد، ومن اسمه يتحدد رسمه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) فهو يأمرنا ونحن نسلم بما أمر به، ألا نناقش، ولا نجادل، ولا نحاور. قد تختلف أشكال العبادة من شريعة إلى أخرى، ولكن ذلك لا يمنع من أن ما أمر الله به آدم منذ خلقه هو هو ما أمر به محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نزال نأتمر به إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإنما نقصد بوحدة الدين وحدته الموضوعية، فإن الأمر فيه بالاعتقاد واحد، ورد الأمر فيه إلى واحد، فإن المراد بالتدين هو إنسان ذلك العصر، وهو هو الإنسان الأول آدم، ولعل هذا السر الذي جعل جُلَّ خطاب الوحي إليه بهذه الصفة يا بني آدم، أو يا ابن آدم، كما أن تكوينه الروحي لا يختلف عن تكوين آدم الروحي {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (السجدة: 7 - 9) إن آدم أول نبي، ولم يترقَ الإنسان في عقائده كما ترقى في العلوم والصناعات، ولم تكن عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، كما يزعم أصحاب فكرة التطور.

ابتدأ التاريخ البشري بإنسان فيه كل خصائص الإنسان، وفيه جميع عناصر المادية والروحية، وصورة من كل إنسان، من ولده جاء بعد ذلك، وهو صورة لآخر فرد يولد في هذه الحياة، أول إنسان كآخر إنسان خلق من تراب فيه كل عناصر الأرض، وابتدأ التاريخ البشري بنبي جاء بالدين نفسه الذي جاء به آخر نبي، وخاتم الرسل -عليهم الصلاة والسلام. ووحدة الدين إنما تبدو من خلال قاعدتين أساسيتين: وحدة الموضوعية في دعوة الناس جميعًا إلى رب واحد لم يخالف في ذلك نبي من الأنبياء، ورسول من الرسل دعوة إلى التوحيد الخالص منذ آدم -عليه السلام- حتى ختم الرسالات {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، فدعوة التوحيد هي الأصل الذي جاءت به رسالات السماء، وما الشرك والتعدد إلا مخالفة، واستثناء، كما أعلن جميع الأنبياء عن إسلامهم لله رب العالمين. والقاعدة الثانية: وحدة التنظيم، فإن الأنبياء جميعًا يدعون أقوامهم إلى انتهاج منهج واحد في أسلوب حياتهم، فالتشريع في الدين منذ آدم، وإلى آخر الأنبياء في الأصل واحد {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) ومثاله العبادات في أصولها، وإن اختلفت طرق الأداء والكيفيات، وكذا تنظيم العلاقات، والحض على مكارم الأخلاق، وحسن المعاملات {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). وبذلك أتم الله النعمة، وأكمل الدين بخاتم النبيين -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقال الله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وبذا يستبين لنا هل هو دين أم أديان، أنه

من الناحية الشرعية دين واحد، وهو الإسلام، وأما كلمة أديان فهي تُجمع من حيث اللغة فقط، حيث ما ندين به ما نخضع له ونذل له، وما ندين به ما نعتقده؛ لذلك جمعت كلمة أديان لغة، وأفردت شرعًا {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، فلله الحمد والمنة على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة. هل هو دين أم أديان؟ والإجابة على هذا السؤال: إن كلمة الدين يصح أن تطلق على الدين الصحيح وغير الصحيح، ولكن من ناحية اللغة، ولذلك صح جمعها لغة، فيقال: أديان، ولم يصح شرعًا لأنه دين واحد، كما قال ربنا الواحد: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وهي في ذلك مثل كلمة إله، تُطلق على الإله الحق وعلى الإله المؤله نفسه، أو الذي ألهه الناس، واللغة لا تمانع من ذلك، ولذا يقال: إله ويجمع على آلهة، ومثل ذلك كلمة رسول بمعنى المرسل من عند الله تعالى، أو هو المرسل من قبل الملك، أو أحد الناس، ومثلها كلمة حديث، فهو ما قاله الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم، أو نسب إليه، وكل ما يتحدث الناس عنه يسمى حديثًا، وكما أقول: حديثي إليكم الآن كذا وكذا. هذا، ويقول الدكتور عبد الله دراز -رحمه الله- بعد أن تحدث عن عدة مذاهب يطلق عليها أديان، لكن المسألة إنما هي في صحة تسمية هذه المذاهب أديانًا، ونحن لا نرى مانعًا من أن نصطلح على هذه التسمية، ولكنه يكون اصطلاحًا نابيًا عن معهود الناس، مجافيًا لذوق اللغات، ولا سيما لغتنا العربية التي لا يُفهم منها من اسم الدين إلا اعتقاد بشيء يدين له المرء أي: يخضع له، ويتوجه إليه بالرغبة والرهبة والتقديس؛ بل إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن كل مذهب يخلو من هذه الدينونة هو أحق باسم الفلسفة الجافة منه باسم الآخر.

كما قال الدكتور عبد الناصر أحمد حبيب: "ويُجمع الدين على أديان وديانات، والأول هو الشائع في الاستعمال، ويدل على هذا ما ورد في الصحيح بإسناد حسن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أي الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ فقال: الحنيفية السمحة)). وفي رواية علقها البخاري قال -صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحب الدين إلى الله تعالى الحنيفية السمحة))، فأفرد الدين كأنه يصوِّب للسائل مبينًا ألا جمع منه؛ لأنه في الحقيقة ليس إلا واحدًا أي: لأن الدين واحد وهو الإسلام، وقد علمت أن هذا من حيث الشرع لا من حيث اللغة. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 الفرق الدين السماوي والوضعي، والملة والنحلة، والشريعة والمنهاج، وموقف الإسلام من الأديان.

الدرس: 2 الفرق الدين السماوي والوضعي، والملة والنحلة، والشريعة والمنهاج، وموقف الإسلام من الأديان.

الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الفرق الدين السماوي والوضعي، والملة والنحلة، والشريعة والمنهاج، وموقف الإسلام من الأديان) الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي والفرق بين الملة والنحلة والفرق بين الشريعة والمنهاج وموقف الإسلام من الأديان الأخرى: الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي، فنقول -وبالله التوفيق: الفرق بين الدين الوضعي والدين السماوي أن الدين الوضعي: هو الدين الذي يكون من وضع البشر أنفسهم، وهو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقوانين العامة وضعها بعض الناس المستنيرين لأممهم؛ ليسيروا عليها ويعملوا بما فيها، والتي لم يستندوا في وضعها إلى وحي سماوي، ولا إلى الأخذ عن رسول مرسل، وإنما هي جملة من التعاليم والقواعد العامة اصطلحوا عليها، وساروا على منوالها، وخضعوا فيها لمعبود معين أو معبودات متعددة، والأمثلة على الدين الوضعي كثيرة منها الديانة البرهمية في الهند، وكذلك الديانة البوذية فيها، وفي شرق آسيا، ومنها ديانة القدماء المصريين، والديانة الفارسية القديمة وغيرها. أما الدين السماوي: فهو تعاليم إلهية من وضع الله تعالى، وإرشادات سماوية من لدن العليم الخبير لنفوس العباد وطبائعهم، وما يحتاجون إليه في إصلاح حالهم في المعاش والمعاد، والدنيا والآخرة إنه مجموعة التعاليم والأوامر والنواهي التي يجيء بها رسول من البشر أوحى الله تعالى بها إليه، وفي مقدمتها الإيمان بخالق واحد موجه لهذا الكون لا شريك له في ملكه، يجب صرف العبادة كلها إليه، والخضوع والتذلل لهذا الإله الخالق الرازق، ووجوب إفراده وحده بالعبادة والإيمان باليوم الآخر، والحساب والجزاء، وبالثواب في الجنة والنعيم المقيم، أو النار والعذاب الأليم، نعوذ بالله. وذلك مثل الديانة اليهودية في أصلها كما جاء بها موسى -عليه السلام، أو الديانة المسماة بالمسيحية يوم أن جاء بها المسيح -عليه السلام.

وفي أفضل صورها وأصحها مثل الدين الإسلامي الذي جاء به النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، ورحمة للعالمين، وكان هذا الدين خاتمًا لجميع الرسالات السماوية، فلا وحي بعد نبوة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، ولا دين بعد الإسلام، وها هي بعد الفروق بين الأديان الوضعية والرسالات السماوية، وقولنا: الرسالات السماوية باعتبارها دينًا واحدًا في صورة رسالات متعددة، وليست أديانًا متعددة أو مختلفة، وإن وقع الاختلاف فهو تنوع لا تضاد يقع في الشرائع، وليس في المعتقدات، وفي الفروع وليس في الأصول، من هذه الفروق: 1 - إن الدين السماوي دين قائم على وحي الله تعالى إلى البشر بواسطة رسول يختاره الله منهم. أما الوضعي فهو جملة من التعاليم وضعها البشر أنفسهم، واتفقوا عليها، واصطلحوا على التمسك بها والعمل بما فيها، إنها تعاليم ناشئة عن تفكير الإنسان نفسه. 2 - الدين السماوي يدعو دائمًا إلى وحدانية الله تعالى، واختصاص هذا الواحد بالعبادة، فلا يخضع المرء إلا لله، ولا يستعين إلا به، ولا يذبح إلا باسمه. أما الدين الوضعي فإنه يقدس الأحجار والأصنام، ويجيز تعدد الآلهة فيجعلها كثيرة ومتغايرة، بل قد تكون متنافرة ومتخالفة مثل: إله الخير، وإله الشر، أو إله الحرب وإله السلام. 3 - الدين السماوي ينزه الإله المعبود عن مشابهته لخلقه، فالله -عز وجل- لا يشبه شيئًا من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله قال تعالى: {قُلْ

هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: 1: 4)، أما الدين الوضعي فإنه يُجيز أن يكون الإله بشرًا مثلهم أو حيوانًا أو حجرًا يعبدونه، ويخضعون له، ويقدمون له القرابين والهدايا؛ فقد عبد بعض الناس الشمس وعبدوا العجل، واتخذوا فرعون الذي قال لهم: أنا ربكم الأعلى إلهًا، وعبدوا الأصنام والأوثان مع أن هذه الآلهة كلها التي عبدوها من دون الله لا تستطيع أن تخلق شيئًا، ولا تقدم نفعًا، ولا تمنع ضرًّا لا لنفسها، ولا لغيرها، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (الفرقان: 3). 4 - الدين السماوي بالنسبة لمسائل العقيدة غير قابل للنسخ، والتبديل أو التغيير، فعقيدة الرسل جميعهم واحدة فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته، والرسل وعصمتهم، واليوم الآخر وما يكون فيه من ثواب أو عقاب. إن الخالق عند جميع الرسل واحد، وإن هذا الخالق تجب عبادته واختصاصه جل شأنه بالعبادة. أما الدين الوضعي فالمعبود فيه يتغير، فقد يتغير من جيل إلى جيل، ومن قبيلة إلى أخرى. 5 - الدين الوضعي يلازمه النقص وعدم الكمال، وذلك أنه من وضع الإنسان، والإنسان لا يمكنه أن يحيط بجميع حاجات البشر، ومتطلباتهم المتجددة دائمًا.

الفرق بين الملة والنحلة.

أما الدين السماوي فهو كامل إنه دين تام شامل؛ لأنه من وضع خالق السماوات والأرض، وعلام الغيوب الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، والذي يحيط بكل شيء علمًا. الفرق بين الملة والنحلة وكما عرفت الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي، فهلمَّ نتعرف على معنى الملة والنحلة، تلك التي أُفرد لها علم كُتب فيها كتب الملل والنحل، فما الملة وما النحلة، كذلك نريد أن نتعرف على الفرق بين الشريعة والمنهاج. نقول وبالله التوفيق: اعلم أن الملة لغة كما يقول صاحب (القاموس): "الملة بالكسر هي الشريعة أو الدين"، ويقول الزمخشري في (أساس البلاغة): "ومن المجاز في استعمال الملة بمعنى الطريقة المسلوكة، ومنها ملة إبراهيم حنيفًا، وامتل فلان ملة الإسلام"، وعليه فالفرق بين الدين والملة: أن الدين ما يكون عليه كل واحد من أهل الملة الواحدة، وأن الملة اسم لجملة الشرائع. ثم بيَّن الراغب الأصفهاني الفرق بين الملة والدين فقال: "والفرق بين الملة والدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي -عليه السلام- التي تستند إليه نحو {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (آل عمران: 95) {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} (يوسف: 38) ولا تكاد توجد مضافة إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا يستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، فلا يقال ملة الله، ولا يقال ملتي، كما يقال دين الله وديني، ولا يقال للصلاة ملة الله، فالملة تُضاف إلى من أضيف إليه، والدين يضاف إلى من يعتنقه ويؤمن به.

وقال أبو هلال العسكري في كتابه (الفروق اللغوية): "الملة اسم لجملة الشرائع، والدين اسم لما عليه كل واحد من أهل الشرائع، ويقال لخلاف الذمي: الملي؛ لأن الملة اسم للشرائع مع الإقرار بالله، والدين ما يذهب إليه الإنسان ويعتقد أنه يقربه إلى الله، وإن لم يكن فيه شرائع مثل دين أهل الشرك، وكل ملة دين، وليس كل دين ملة، واليهودية ملة؛ لأن فيها شرائع، وليس الشرك ملة، وإذا أطلق الدين فهو الطاعة العامة التي يجازى عليها بالثواب مثل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقيل: الملة هي الدين، وفي الحديث ((لا يتوارث أهل ملتين)). ويتابع أبو هلال العسكري حديثه قائلًا: "وسميت الملة ملة لاستمرار أهلها عليها، وقيل أصلها التكرار من قولك: طريق مملول إذا تكرر سلوكه، حتى تواطأ، ومنه الملل وهو تكرار الشيء على النفس حتى تضجر، وقيل: الملة مذهب جماعة يحمي بعضهم لبعض عند الأمور الطارئة وأصلها المليلة، وهي ضرب من الحمى، ومنه الملة بالفتح موضع النار، وذلك أنه إذا دُفن اللحم وغيره تكرر عليه الحمي حتى ينضج، وفي أصل الكلمة أمللت أو أمليت الكتاب، وفي قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (البقرة: 282)، وفي ذات الآية {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (البقرة: 282)، وكذا مللت الشيء: أعرضت عنه أي: اضجرته، وفي الحديث ((إن الله لا يمل حتى تملوا)). وأما الملة شرعًا: فاسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم؛ ليتوصلوا به إلى أجل ثواب والدين مثلها، لكن تقال باعتبار الدعاء إليه، والدين باعتبار الطاعة

والانقياد له، والملة الطريقة أيضًا، ثم نُقلت إلى أصول الشرائع من حيث إن الأنبياء يعلمونها ويسلكونها، ويسلكون من أمروا بإرشادهم بالنظر إلى الأصل، وبهذا الاعتبار لا تضاف إلا إلى النبي الذي تستند إليه، ولم تأتِ الملة في البيان القرآني مضافة إلى الله عز وجل، وإنما جاءت مضافة إلى البشر بما يشمل الدين الصحيح، والدين الفاسد أيضًا. ومن نماذج الدين الصحيح إضافة الملة إلى إبراهيم الخليل -عليه السلام- في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) وقوله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة: 135). وأضيفت إلى آباء يوسف -عليه السلام- في قوله سبحانه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} (يوسف: 38)، وكذا قال الله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (آل عمران: 95)، وأيضًا قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (الأنعام: 161)، وجاءت الملة في البيان القرآني بمعنى الدين الفاسد والاعتقاد الخاطئ مضافة إلى هؤلاء المستكبرين من قوم شعيب قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} (الأعراف: 88)، وقال تعالى على لسان يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (يوسف: 37)، وفي قصة أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 20)، والكافرون من أقوام الأنبياء على مدى الأجيال كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13)، وقال

تعالى عن اليهود والنصارى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (البقرة: 120). وبهذا يتبين في لغة القرآن أن الملة تشمل الدين كله، سواء كانت له صلة بالوحي الإلهي، أم ليست له صلة، ومن الملة إلى النحلة. النحلة ما معناها؟ أولًا في اللغة يقول صاحب القاموس: "والنِّحلة بالكسر، والنُّحلة بالضم، وانتحله وتنحله ادَّعاه لنفسه، وهو لغيره، ونحله القول كمنعه نسبه إليه، ونحله فلان سابَّه، ونحل جسمه نحولًا ذهب من مرض أو سفر، فهو ناحل ونحيل، وهي ناحلة، وأنحله الهم، والنحلة بالكسر الدعوى. ويقول الراغب الأصفهاني: "والانتحال ادعاء الشيء وتناوله، ومنه يقال: فلان ينحل الشعر، ويقال: ما نحلتك أي: ما دينك"، وجاء في (القاموس المحيط) ما يلي: "النحل ذباب العسل الذكر والأنثى، واحدتها نحلة، والنِّحلة العطاء بلا عوض، والشيء المعطى، أو العطية، والنُّحل بالضم مصدر نحله نحلة أي: إعطاء، ومهر المرأة نحلة، ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) " هذا، والنحلة هي عكس الملة، فالنحلة دين من وضع البشر، والملة من وضع الله، والنحلة في القرآن الكريم: لم ترد النحلة في القرآن المجيد بأي معنى يتصل بالدين أو الفكر، وإنما جاءت بمعنى واحد، وهو العطاء الخالص كما في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) أي: عطية خالصة، فالمهر في الزواج ليس مقابل المتعة؛ لأنها مشتركة بين الزوجين، وليس مقابل تأسيس المنزل، فهو واجب الزوج وحده بقدر طاقته، وإنما المهر رمز الوفاء والمحبة يُقدمه الرجل عطية خالصة، ولهذا كان أقلهنَّ مهورًا أكثرهنَّ بركة، فالمهر يتحقق بأي شيء، ولو كان خاتمًا من حديد.

هذا، وقد اصطلح أهل العلم على تسمية الرسالات السماوية بالملل، وتسمية الأديان الوضعية التي هي من صنع البشر بالنحل، وفي ذلك نقرأ كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، أو (الفصل بين الملل والأهواء والنحل) لابن حزم وغيرهما. ومن أجل هذا فرقوا بين الكلمتين بفروق تُبين المعنى المراد، وإن كان الأمر كما علمت أن كلمة ملة تُطلق على الدين الصحيح والمحرف والباطل أيضًا، لكن من حيث الاصطلاح يمكن أن نقول: "الملة من عند الله، والنحلة من عند البشر، أو هكذا اصطلح عليها العلماء، ولكن هذا لا يرد ورود الملة بمعنى الدين الصحيح، والدين المحرف، ونذكر فروقًا بين الملة والنحلة، لقد اصطلح على تسمية الدين الذي جاء به رسل الله من عند الله -عز وجل- بالملة. والدين الباطل الذي اخترعه الناس إما إنشاء من عند أنفسهم أو تحريفًا وتغييرًا لما أنزل الله بالنحلة، وعلى هذا، فإن الملة تقابل النحلة في أمور: - الملة من عند الله لقول الله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (طه: 123) والنحلة من عند البشر. - فارق ثانٍ الملة وحي الله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163)، والنحلة نتاج أفكار البشر واجتهادات عقولهم. الثالث: الملة مرتبطة برسول الله {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، والنحلة تنسب إلى أشخاص يخطئون ويصيبون مهما بلغوا من المعرفة. الرابع: الملة لها كتاب أنزله الله على رسوله {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213). والنحلة وإن سطرت في كتاب، فإنه كتاب أرضي لا كمال فيه، ولا قداسة له.

الفرق بين الشريعة والمنهاج.

الخامس: الملة عقيدة وشريعة على نحو ما قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33). والنحلة ليست بهذا الشمول، وقد لا تتجه إلا إلى الخداع الماكر لخدمة أهواء مبتدعيها، وفرض زعامتهم على الناس. السادس: الملة صلاح الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس: 62 - 64). والنحلة قاصرة على الدنيا تقود بالأماني، وتغري بالمتعة المحدودة. السابع: الملة يشهد لها الإعجاز في مثل قول الله -عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51). والنحلة: يُشهد عليها بالعجز والقصور. الثامن: الملة حق لا ريب فيه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء: 174). والنحلة: ظن لا يغني من الحق شيئًا، هكذا على الإجمال في المعنى الاصطلاحي فيما هو فرق بين الملة والنحلة. الفرق بين الشريعة والمنهاج ونأتي إلى الفرق بين الشريعة والمنهاج: الشريعة: في اللغة من الشرع، وهي مصدر شرع بالتخفيف، والتشريع مصدر شرَّع بالتشديد، والشريعة في أصل وضعها اللغوي مورد الماء الذي يُقصد للشرب

يقال: شرعت الإبل إذا وردت شريعة الماء، ثم استعملها العرب في الطريقة المستقيمة، يقال: شرع له الأمر بمعنى سنه وبيَّن طريقته، والشرع والشريعة نهج الطريق الواضح. وقال بعض العلماء: سميت الشريعة بشريعة تشبيهًا بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة رُوي وتطهر، وجاء في (القاموس) الشريعة ما شرع الله لعباده، والظاهر المستقيم من المذاهب كالشرعة بالكسر. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما: "الشرعة ما ورد به القرآن الكريم، والمنهاج ما ورد به السنة". وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) الآية إشارة إلى الأصول التي تتساوى فيها الملل، ويراد بالشريعة كل ما شرعه الله للمسلمين من دين سواء أكان بالقرآن نفسه، أم بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم، فهي لهذا تشمل أصول الدين أي: ما يتعلق بالله وصفاته، والدار الآخرة وغير ذلك. والشريعة في الاصطلاح: ما شرعه الله لعباده من العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، ونظم الحياة في شعبها المختلفة لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة، فشريعة الله هي المنهج الحق المستقيم الذي يصون الإنسانية من الزيغ والانحراف، ويجنبها مزالق الشر، ونوازع الهوى، وهي المورد العذب الذي يشفي صدورها، ويحيي نفوسها، وترتوي بها عقولها، ولهذا كانت الغاية من شرع الله استقامة الإنسان على منهج الله؛ لينال عز الدنيا وسعادة الآخرة.

كما أنه تذكر الشريعة، ويراد بها الفقه في بعض الأحيان من باب إطلاق العام ويُراد به الخاص، وذلك في مثل قولنا: عقيدة وشريعة. ويقول الشاطبي -رحمه الله- في تعريف الشريعة أيضًا: "إن معنى الشريعة أنها تحدُّ للمكلفين حدودًا في أفعالهم وأقوالهم، واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته، ومعنى هذا أن الشريعة مرادفة للدين، وليس يُراد بها الفقه وحده؛ لأن الفقه لا يتعرض للاعتقادات كما هو معلوم"، وقد عرفت اللغة العربية كلمة شريعة قبل كلمة فقه بزمن طويل، ذلك بأننا نجد مادة شرع ومشتقاتها وردت في كثير من القرآن الكريم، بل نجد كلمة شريعة نفسها جاءت في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} (الجاثية: 18) وهذا في مقابل الشرائع السابقة. وفي بيان الفرق بين الدين والشريعة يقول أبو هلال العسكري: "الفرق بين الدين والشريعة هو أن الشريعة هي الطريقة المأخوذة فيها إلى الشيء، ومن ثمَّ سُمي الطريق إلى الماء شريعة ومشرعة، وقيل الشارع لكثرة الأخذ فيه، والدين ما يُطاع به المعبود، ولكل واحد منها شريعة، والشريعة في هذا المعنى نظير الملة، إلا أنها تفيد ما يفيد الطريق المأخوذ ما لا يفيد الملة، ويقال: شرع في الدين شريعة، ولا يقال طرق فيه طريقًا، والملة تفيد استمرار أهلها عليها". وجاء في (مقاييس اللغة) لابن فارس: "الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه، من ذلك الشريعة، وهو مورد الشاربة الماء اشتق من ذلك الشرعة في الدين والشريعة".

وجاءت في (أساس البلاغة) للزمخشري: "شرع الله الدين، وشرع في الماء شروعًا، وورد الشرع والشريعة والشرائع، نعم، الشرائع من وردَّها رُوي وإلا روى، ويُسمَّى الشرع أيضًا بالدين والملة، فإن الأحكام من حيث إنها تُطاع يقال: لها دين، ومن حيث إنها تُملى وتكتب ملة، ومن حيث إنها مشروعة شرعة، فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات، إلا أن الشريعة والملة تضافان إلى النبي -عليه الصلاة والسلام، وإلى الأمة فقط استعمالًا، والدين يضاف إلى الله تعالى أيضًا، والشرعة هي عبارة عن مطلق الشريعة، وهي الأشياء التي أوجب الله على المكلفين أن يشرعوا فيها، وهي ما سنَّ الله من الدين وأمر به كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وسائر أعمال البر. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} (الجاثية: 18)، وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). فالشرعة في الدين، والمنهاج في الطريق، وقيل الشرعة والمنهاج جميعًا الطريق، والطريق هاهنا الدين، وقيل الشرعة معناها ابتداء الطريق والمنهاج: الطريق المستقيم، قال ابن عباس: "شرعة ومنهاجًا سبيلًا وسنة"، والمنهاج نهج: النهج الطريق الواضح، فنهج الأمر، وأنهج وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه، ونهج الثوب وأنهج بان فيه أثر البلى، وقد أنهجه البلى، والمنهاج هو الطريق الواضح قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، وفي الحديث عن العباس -رضي الله عنه- لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ترككم على طريق ناهجة أي: واضحة بينة. بذا نكون قد بينا معنى كلمة الملة والنحلة، والفرق بين الشريعة والمنهاج.

موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها.

موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها إذا أخذنا كلمة الإسلام بمعناها القرآني نجدها لا تدع مجالًا لهذا السؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية، أو الرسالات السماوية؛ فالإسلام في لغة القرآن ليس اسمًا لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك العام الذي هتف به كل الأنبياء، وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء، ولم لا والإسلام هو دين الله كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) والخلق خلقه، والرسل رسله، قد أرسل الله رسله إلى خلقه بالدين الذي عنده، فمن ثَمَّ الإسلام دين جميع الأنبياء، والرسل. وقد ذكر الله -عز وجل- لنا أمثلة في القرآن الكريم فقال عن نوح -عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:71، 72). وإبراهيم -عليه السلام- قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 130 - 131). ويعقوب يوصي بنيه بذلك {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132).

وأبناء يعقوب أيضًا {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133). وعن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 127 - 128). وهذا موسى -عليه السلام- يقول كما قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس: 84: 86). وعيسى -عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52). والحواريون أتباعه {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111). بل إن فريقًا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن قالوا: {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (القصص: 53). وهذا سيدنا سليمان -عليه السلام- كان مسلمًا، ودعا إلى الإسلام: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 30، 31) فلما أسلمت بلقيس ملكة سبأ قالت: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل: 44).

وهكذا إلى أن نصل إلى النبي الخاتم محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي قال الله له: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162، 163). والأولية هنا أولية تكريم، وكذا قال: قال الله -عز وجل- {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل: 91). وبالجملة فإن اسم الإسلام شعار عام يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية، ثم نرى القرآن يجمع هذه القضايا كلها في قضية واحدة يوجهها إلى قوم محمد -صلى الله عليه وسلم، ويبين لهم فيها أنه لم يشرع لهم دينًا جديدًا، وإنما هو دين الأنبياء من قبلهم {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13)، ثم نراه بعد أن يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعله منهم جميعًا أمة واحدة، لها إله واحد، كما لها شريعة واحدة، فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (االأنبياء: 92) ما هذا الدين المشترك الذي اسمه الإسلام، والذي هو دين كل الأنبياء والمرسلين. إن الذي يقرأ القرآن يعرف كنه هذا الدين أنه هو التوجه إلى الله رب العالمين في خضوع خالص، لا يشوبه شرك، وفي إيمان واثق مطمئنٍّ بكل ما جاء من عنده على لسان أي نبي، وفي أي زمان، أو مكان دون تمرد على حكمه، ودون تمييز شخصي أو طائفي أو عنصري بين كتاب وكتاب من كتبه تعالى، أو بين رسول ورسول من رسله سبحانه، هكذا يقول القرآن: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5)، كما علمنا أن نقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136). نقول إذن: إن الإسلام بمعناه القرآني الذي وصفناه لا يصلح أن يكون محلًّا للسؤال عن علاقة بينه وبين سائر الأديان، أو بين سائر الرسالات السماوية؛ إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه فهاهنا وحدة لا انقسام فيها، ولا اثنينية، وهذا يرجع إلى أصل الدين قبل أن يدخله تحريف كالذي حدث من اليهود والنصارى، فهو دين واحد {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19). أنتقل إلى جزئية أخرى حول ضرورة الدين في حياة الإنسان، ما هي ضرورة الدين في حياة الإنسان؟ نقول -وبالله التوفيق: إن الدين ضرورة من ضرورات الحياة يحتاج إليه الإنسان، كما يحتاج إلى الهواء والماء والغذاء، وضرورة لا يستطيع أن يعيش بمعزل عنها، وما عاشت على وجه الأرض أمة ولا جماعة، وكانت لها حياة إلا وكان لها دين ومعبودات، حقًّا كان هذا الدين وتلك المعبودات أم باطلة، وكما يقرر التاريخ البشري أن كثيرًا من الحضارات والمدن قامت بلا مصانع، ولا حصون، ولا قصور، ولكن لم توجد أمة أو مدينة بلا معابد، أو صوامع، وتلك شهادة التاريخ بأن الإنسان يوم أن وُلد وُلد ومعه حظه من الدين والتدين، وإذا كانت الحياة قد بلغت في القرن العشرين قدرًا من الرقي والتقدم، وقدمت للإنسان ما يشتهي وما يتمنى، ووفرت له حظًّا من الرفاهية؛ فقد جاءت خطواتها عرجاء شائهة مرهقة، يوم تسلحت بالعلم، وتنكرت للدين. لقد رغد العيش، وتقدمت الحياة، ولكن فقدت النفس سكينتها، والمجتمع أمنه: أمان النفس والروح؛ لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، إن ضعف الوازع

الروحي والديني والنفسي في ظل الحضارة المادية المعاصرة لا يعني اختفاء الدين، وإنما هو دليل صدق، وبرهان حق على عجز الحضارة المادية المعاصرة أن توفي بحق الإنسان، وحاجته، ورغبته في حياة أفضل. لقد أيقظت تلك الحضارة في الإنسان غريزة الشهوة، فتحول إلى حيوان كل همه الوصول إلى نزواته، والحرص على شهواته، لكنها قتلت فيه الإنسان صاحب المشاعر، مرهف الحس والعواطف، الميال إلى الخير، فتحول إلى قطيع، همه اللقمة والشهوة، وصدق ربنا -عز وجل- وهو يلخص لنا حياة الكافرين بقوله وهو أصدق القائلين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (محمد: 12) إن الابتعاد عن النور اقتراب من الظلام، ولكن ليست كل الناس يجافي الحق ويجانب الصواب، ويظل طول عمره يتردَّى في الضلالة، بل يذهب الزبد جفاء، ويبقى ما ينفع الناس، حتى وإن كثر الزبد وقل ما ينفع الناس {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: 17) فمهما قل المحقون وكثر المبطلون، فلا يغررك تقلبهم في البلاد، وكما قال تعالى أيضًا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103). وفي الحديث الصحيح: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله))، إن السحب الداكنة، وإن كدرت رائعة النهار لا تستطيع أن تلغي وجود الشمس، وساعة ما تزول السحب تبقى الشمس ساطعة مشرقة حتى يُؤذن لها بالغروب، إن شمس الدين، وفهم التدين سيظلان في ضمير الإنسان إلى نهاية الوجود. إن الإنسان قد وُلد متدينًا بأصل فطرته، ينزع إلى فكرة التأليه والعبادة، وإن ناله الخطأ، أو كان حظه الإسفاف والانحراف.

يقول ابن الجوزي -رحمه الله: "إن القرون الأولى دانت بدين الله، حتى وسوست لهم الشياطين، فعبدوا ما نحتوا، وخضعوا لما صنعوا، وانحرفت بهم الأهواء، وسقطت همتهم من السماء إلى الأرض، فانتحلوا النحلة، وتركوا الملة، ومن قال: إن الإنسان وُلد بلا دين كلام مرفوض، كذلك من علل ظهور الدين في حياة الإنسان بشعوره بالضعف، والخوف، والقلق أمام مظاهر الطبيعة، فخاف أن يضن عليه النافع بمنفعته، أو يصيبه الضار بضره، ويوم أن يستطيع الإنسان أن ينزع من نفسه نوازع الخوف والضعف؛ استطاع أن يعيش بغير دين. ويكون على هذا أن الدين بضاعة الأغبياء والضعفاء والمرضى، مع أن الواقع يشهد بغير هذا، فما يجد الإنسان راحته النفسية، وأمنه الروحي إلا في ظل الدين والتدين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62: 64)، وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19 - 23) الآيات. وهذا يؤكد لنا أن الإنسان بحاجة إلى الدين، وأن الدين ضروري في حياتهم. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته.

الدرس: 3 الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته.

ضرورة الدين في حياة الإنسان.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته) ضرورة الدين في حياة الإنسان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا وأستاذنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، الصادق الوعد الأمين اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه ومن اهتدى بهديه، وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: الدين ضرورة من ضرورات الحياة لا تقل عن الهواء والماء والغذاء، إن لم تجد عليه فلن ينعم الإنسان ولن يسعد إلا في ظل الدين، هو إن وجد طريقه للغذاء المادي فهذا غذاء الجسد، لكن أهم من ذلك غذاء الروح؛ ومن ثم فالإنسان بحاجة إلى الدين في حياته حتى ينعم، حتى يسعد حتى يستقر، وإلا فالإنسان في خوف وحزن إلَّا أن يكون مؤمنًا تقيًا كما ذكرنا بالآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62: 64). والإنسان في هلع وفزع وجزع ومنع من خير إلا أن يكون صاحب دين، وصاحب إيمان حق كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ* وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (المعارج: 19 - 35). هذا وإن ما يشهده العالم اليوم في ظل الحضارة والتقدم، والرقي والرفاهية على حساب راحته النفسية والروحية؛ مما أصاب العالم كله بسعار لا نهاية له، ولا راحة معه لخير دليل على أن الدين فطرة النفس البشرية لا تسعد إلا في ظله، ويوم تستظل بغيره تفقد الأمن والأمان والاستقرار.

إن تلك الحضارة يوم أن أسقطت الدين من حساباتها، وانصرفت إلى نزواتها أيقظت في الإنسان شقه وقتلت فيه الشق الآخر أيقظت فيه شق الحيوان، فتحول إلى قطيع همه اللقمة والشهوة، والمصلحة حتى اتخمت البطون، وقتلت فيه الإنسان، ففقد المجتمع أمنه واستقامته فصار من الناس من سكن الأجداث أي: القبور وهم أحياء يتقلبون بين الأتراح والأفراح، وهم في لعبهم ولهوهم غافلون حتى يأذن الله تعالى لهم باليقظة والإفاقة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) لقد ولد الإنسان متدينًا، ولم يكن التدين نتيجة تطور وارتقاء، ولم يكن نتيجة خرافات أو أساطير أو من صنع الدهاة والكهان، ولا من صنع السحرة أو الأقوياء، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين كما قال الشاعر: ومن رضي الحياة بغير دين ... فقد رضي الفناء لها قرينا ولا حياة لمن لم يحي ِ دينَا ... ................. إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، واستعمره فيها وجعله سيدًا، وسخر له ما في السماوات، وما في الأرض جميعًا منه من أجل أن يكون عبدًا له وحده أينما ولى فثم الله، فيسبح بحمده، ويقدسه، ويعبده، ويمجده، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) تلك هي الغاية الكبرى، والحكمة الأولى من خلق الإنسان، وهو الذي يحتاج إلى هذه العبادة مع أنها لا تزيد في ملك الله ولا تنقصه، ولا تضره سبحانه أو تنفعه، ولكنها علامة الصدق، ورمز الوفاء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2). والإنسان من غير هذا التوجه الكريم إلى خالق الكون ومدبره ضعيف في هذا الكون وحيد في هذا الوجود؛ لأنه يكون مبتوت الصلة بالكون وما فيه، فتتولد

في نفسه الهواجس وتحيط به الظنون يخشى أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق؛ لذلك فهو يحتاج إلى إيمان يملأ قلبه ويربطه بالكون مخلوقًا، وبإله الكون خالقًا حتى يعلم الإنسان سبب وجوده، ومصيره المحتوم بعد رحلة الحياة وكذلك حتى يعلم الإنسان ما علاقته بالكون، وما هي الصلة بينه وبين غيره من المخلوقات كل ما في الكون قد خلق للإنسان. أما الإنسان نفسه فقد خُلِقَ لله جل في علاه؛ لمعرفته وعبادته، وأداء أمانته في الأرض، وكفى بهذا شرفًا وفخرًا؛ فالإنسان سيد في الكون عبد لخالقه وحده؛ ومن ثم فإن الدين ضرورة في حياة الإنسان من أجل معرفة غاية الوجود الإنساني، فبالدين يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقا سائبًا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء كالذين جحدوا الله، أو شكوا فيه، فلم يعرفوا لماذا وجدوا، ولماذا يعيشون، ولماذا يموتون، كلا إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره، واستبانة لمصيره بعد أن عرف الله، وأقر له بالوحدانية. أما الذي قال: لبست ثوب العيش لم أستشر ... وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أمض الثوب عني ولم أدرِ ... لماذا جئت أين المفر أو ما قاله الآخر: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.

كلا فقد اتضحت وجهته الربانية، وعرف من أين جاء، ولم جاء، وإلى من فراره، وأين قراره إنه عن طريق التدين يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله تعالى ولا يعوضها شيء غيره يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30). واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبًا رخيصًا بل هو كسب كبير، وغنى عظيم فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه ومع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني، رباني الوجهة يسبح بحمد الله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44). والحقيقة: أن في فطرة الإنسان فراغًا لا يملؤه علم، ولا ثقافة، ولا فلسفة إنما يملؤه الإيمان بالله -جل وعلا- وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله وتؤمن به وتتوجه إليه، هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة، والضرب في أرض التيه كالذي قال: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينًا بالأيام المسافر فإذا لم يجد الإنسان ربه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ فما أشقى حياته، وما أتعس حظه وما أخيب سعيه إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة ولن يجد الحقيقة بل لن يجد نفسه ذاتها كالذين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم إن الإنسان خلق عجيب جمع بين قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله فمن عرف جانب الطين، ونسي نفخة الروح لم يعرف حقيقة الإنسان، ومن أعطى الجزء

الطيني فيه غذاءه، وريه مما أنبتت الأرض، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها وجهل قدرها، وحرمها ما بها حياتها وقوامها. قال ابن القيم -رحمه الله-: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذيبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا، وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا". إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء إلى الله والإيمان به، والالتجاء إليه إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرةً وعنادًا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 61) وقد يتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات، أو غبار الشهوات، وقد تنحرف، وتتدنس باتباع الظن واتباع الهوى، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء، أو الطاعة العمياء للسادة والكبراء، وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب؛ فيظن نفسه شيئًا يقوم وحده، ويستغني عن الله؛ بيد أن هذه الفطرة تذبل ولا تموت، وتكمن ولا تزول؛ فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها ما لا قبل له به، ولا يد له، ولا للناس في دفعه، ولا رفعه؛ فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة، وينطلق الصوت المخنوق المحبوس داعيًا ربه منيبًا إليه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 67).

هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، وعلى ذلك فحاجة الإنسان إلى الدين هو احتياج في أصله يدور حول هذه المعاني السامية، ويسير في فلك هذه الغايات النبيلة، كحاجة الإنسان إلى الكرامة والعزة، أو حاجته إلى السعادة والأمل، أو احتياجه إلى الطمأنينة والهدوء، أو حاجته إلى الرشد والهدى. والإنسان أيُّ إنسان سواء من كان في قمة الحضارة، أو من كان في حضيض التأخر الإنسان البدائي، وإنسان عالم الذرة والكمبيوتر، وإنسان البادية وإنسان المدينة، إنسان الحضر، وإنسان الصحراء الإنسان الغربي والشرقي على كل سواء يبحثون عن هذه المعاني النفسية، وينادون جميعًا لاستكمال هذا البنيان الداخلي، وذلك الكمال النفسي، فكل في حاجة إليه، والكل مفتقر إليه. إن الدين وحده الذي صاحب البشرية منذ طفولتها، ولم يفارقها في صباها وشبابها وكهولتها، ولم يزل سلطانه مهيمنًا عليها هو الذي يحل لغز الوجود، ويفسر سر الحياة والموت، وغير ذلك إنه الدين نحن أحوج ما نكون إليه، والناس بغير دين يكونون كالأموات، كما قال رب الأرض والسماوات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فالحياة مع هذا الدين سيما الحق قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: 122). إن الإنسان بغير دين كالأعرج أو الأعوج غذى جسده، ولم يغذِ روحه فلن يجد سعادته، ولن يجد سكينته، وسائر الكفار مع ما أوتوا من نعم الدنيا وزخارفها، لكنهم غفلوا عن الدين، وعن الآخرة؛ فكان الأمر، كما قال الله: {يَعْلَمُونَ

عوامل الانحراف عن الدين الصحيح، وطرق معالجة هذا الانحراف.

ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) فمع هذه الغفلة عن الآخرة، وعن الدين ننظر إليهم، وإلى واقعهم، لقد جربوا كل ضروب السعادة فيما يظنون، وفنون السكينة فيما يزعمون، لكنهم لم يجدوها إلَّا مع الدين سيما أسلموا لله رب العالمين، واعتنقوا الدين الحق، فالحمد لله رب العالمين. عوامل الانحراف عن الدين الصحيح، وطرق معالجة هذا الانحراف ما هي عوامل الانحراف عن الدين الصحيح؟ وما طرق معالجة هذا الانحراف؟ كما ذكرت لك الدين، وأهميته وضرورته لكن هل كل دين صحيح أم أن البشرية قد انحرفت عن الدين الصحيح، وإن كانت البشرية قد انحرفت عن الدين الصحيح، فمنذ متى ولِمَ؟ ما هي أهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح؟ اعلم -رحمك الله- أنه من المعلوم أن الانحراف طرأ على البشرية؛ لأنها نشأت مستقيمة على دين صحيح أوحى الله به إلى آدم -عليه السلام- واستمرت الأجيال عليه قرونًا عديدة -كما سبق بيانه- ولكن وقع الانحراف بعد ذلك عن الدين الصحيح لأسباب أهمها: أولًا: عداوة الشيطان للإنسان وتربصه به. وقد علم أن الشيطان أعلن عن عدائه لآدم وبنيه منذ البداية، أو مع حادثة امتناعه عن السجود لآدم -عليه السلام- فقد توعد آدم، وذريته بالإغواء والإضلال بكل ما يستطيع، وكما حدث القرآن الكريم عنه قائلًا: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82 - 83) وكذا قال ربنا عنه {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 16، 17). وقال تعالى في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فَاجْتَالَتْهُم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) فالشيطان يوسوس

للإنسان، ويزين له مخالفة الشرع، والخروج عنه ولو بقصد الخير وهو في ذلك يأخذ الإنسان خطوة خطوة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21) وهو في ذلك له أهداف وغايات فأهم غاياته {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6) ومن أكبر أهدافه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (الحشر: 16، 17). وفي قصة إضلاله للبشرية، ووقوعها في الشرك من بداية الأمر يحدثنا ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: "ود" و"سواع" و"يغوث" و"يعوق" و"نسر" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم عبدت. قال ابن عباس: وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، وقال ابن جرير في تفسيره: كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فقالوا: لو صورناهم كان أشوقِ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم، فلمَّا ماتوا، وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يستقون المطر؛ فعبدوهم. ومما سبق ندرك أن هذه الحادثة هي بداية الشرك في العالم كله إلى أن وصلت إلى الجزيرة العربية، ولكن الله أرسل الرسل لكي يخرجوهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، ومن عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد.

السبب الثاني من أسباب الانحراف: الغلو في حب الأنبياء والصالحين: فأما عن الغلو في حب الأنبياء، كما حدث للنصارى حين بالغوا في حبهم لعيسى -عليه السلام- فادعوا أنه إله أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، ونحو ذلك مما جاء في كتبهم التي حرَّفوها، وما قاله الله تعالى عن اليهود أيضًا في شأن العزير فقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30) وكذا غلوهم في أحبارهم، ورهبانهم فاتخذوهم أربابًا من دون الله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31). وقد علمت أن أول شرك وقع في الأرض كان سببه الغلو في الصالحين؛ ولذلك حذر الإسلام من الغلو في الأنبياء والصالحين، كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله))، وحذر الإسلام من تعظيم قبور الأنبياء والصالحين، واتخاذها مساجد والصلاة إليها وإضاءتها، وإيقاد السرج عليها، والبناء عليها، وتجصيصها والكتابة عليها، وتعليتها ورفعها، واتخاذها عيدًا، وذلك حتى لا تكون هذه الأمور ذريعة إلى الشرك الأصغر والأكبر -كما رأينا- في قوم نوح، وكما هو مشاهد إلى اليوم؛ فالغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا معبودة تستوي في ضلالتها مع عبادة الأوثان، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لعلي -رضي الله عنه-: ((يا علي لا تدعن تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته)) فننظر كيف سوى النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الوثنية، والقبور المشيدة التي يمكن أن تعبد من دون الله.

ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) كذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك)) كما روت أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنهما-: ((أنهما رأتا كنيسة بالحبشة فقال -عليه الصلاة والسلام-: أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًّا، وصوروا فيه تيك الصور، أو تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))، إلى آخر الأحاديث الواردة في هذا الشأن. مما يدل على أن الغلو في حب الأنبياء والصالحين سبب كبير في انحراف الناس عن حقيقة التوحيد وعن الدين الصحيح. ثالثًا: اتباع الموروثات، والتقليد الأعمى تلك التي ورثها الأبناء عن الآباء دون تردد ودون إعمال للعقل والفكر، وإبطال ما أنعم الله عليهم من نعمة العقل والفكر، وقد قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وعلى نحو ما ذكر لنا القرآن الكريم في قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- في موقفه مع قومه في مثل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء: 69 - 82).

وكان هذا التقليد وبالًا على الأقوام يمنعهم من التفكير الصحيح، ويحول بينهم وبين اتباع الرسل كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 23، 24). وهذا الذي حدا بهم إلى ترك الحق واختيار الباطل، وهو سبب آخر من أسباب الانحراف عن الدين نسميه إيثار العمى على الهدى. رابعًا: إيثار العمى على الهدى فمن الأسباب التي أضلت الناس، وأخرجتهم عن منهج الحق أنهم آثروا العمى على الهدى، واستحبوا الظلام على النور؛ فكان أن كافأهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم، بمقتدى نظامه في ارتباط الأسباب بمسبباتها. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179). فهؤلاء أهملوا منافذ العلم والعرفان، وعطلوها عما خلقت له، فلم يصل إليها نور الحق؛ فقلوبهم غلف لا تعقل عن الله وحيه، وعيونهم عمي لا ترى الله في ملكوته، وآذانهم صم لا تسمع آيات الله؛ فهم مثل الأنعام التي لا تنتفع بحواسها الظاهرة والباطنة، بل أضل من الأنعام؛ إذ الأنعام لم تزود بما زود به الإنسان من قوى نفسية وعقلية وروحية، كما أنها لم تكلف بما كلف به الإنسان، بل سخرت له فامتثلت وأطاعت. خامسًا: من أسباب الانحراف عن الدين الاعتذار بالقضاء والقدر؛ فقديمًا اعتذر المشركون عن شركهم بأنهم مجبورون بمشيئة الله على شركهم، فأنكر الله عليهم، وأعلمهم أن حجته عليهم قائمة بما منحهم من عقل، وأرسل الله من رسل، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ

تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 148، 149). وما القضاء والقدر اللذان ورد ذكرهما في القرآن الكريم، وجعلهما الله مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون، وربط بين الأسباب والمسببات والنتائج والمقدمات سنة كونية لا تختلف، وكان من تلك السنة أن خلق الإنسان حرًا في فعله مختارًا غير مقهور، ولا مجبور ولو صح ما ذهبوا إليه لبطلت التكاليف، وكان بعث الرسل، وإنزال الكتب ودعوة الإنسان إلى دين الله، وما يجب عليه ووعده بالثواب لأهل الخير، والعقاب لأهل الشر باطلًا وعبثًا، ولا يتفق، وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكاليفه الرحيم بعباده؛ فالإنسان له حق في الحرية والاختيار، وفيه بواعث الخير وبواعث الشر كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10) فالله خلق الإنسان مستعدًا للخير والشر فهو يسعد نفسه بالخير أو يشقيها بالشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) كما قال ربنا أيضًا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3). وهداية السبيل فيها عقل ورسل، وكتب؛ لتضح الحقيقة وليستبين الأمر ويعلم الحق كما قال ربنا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) ولكل جزاء: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا م ِ نْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف: 29، 31).

فالإنسان حسب اختياره يكون جزاؤه: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سبأ: 33)، وهذا الاختيار بمشيئة الإنسان، وإن كانت مشيئة الإنسان لا تخرج عن مشيئة الرحمن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير: 28، 29). ومشيئة الله تعالى وقدره لا يعني: أن يجبر الإنسان على اختيار دين، وإلا لأجبرهم على أن يكونوا مؤمنين، فيصبحوا بذلك كالملائكة، لكن إرادة الله ليست كذلك؛ لذلك قال الله -عز وجل- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) فنهاه الله -عز وجل- عن مجرد الإلحاح، أو المبالغة في الدعوى، ويبقى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى: 48). لكن الهداية والضلال، وإن كان ذلك يرجع إلى مشيئة الله -عز وجل- لكن على الإنسان أن يختار فالإنسان بذلك يصبح صالحًا بعقله وعمله، ومسلكه في الحياة، لدرجات القرب من الله، ولدرجات البعد عنه أيضًا، وما كانت هداية الوحي إلا تقوية لجانب الخير فيه، وللأخذ بيده من نزعات الطغيان، والهوى إلى ما قدر له من كمال في دنياه وأخراه. سادسًا: من أسباب انحراف الإنسان عن الدين، وتطرق الفساد إلى التوحيد: ما وقع فيه الناس من ضلال فيما يرتبط بذات الله -عز وجل- وصفاته من حيث التشبيه والتمثيل، ونحو ذلك، فنذكر من هذا وجوهًا: الوجه الأول: التشبيه والتمثيل، أي: أنهم شبهوا الله تعالى بغيره من خلقه؛ وذلك أن أهل الملل والنحل من غير المسلمين اتخذوا وسائل لمعرفة الله -عز وجل- من الصفات الجليلة، والصلة التي بينه وبين خلقه؛ فشبهوه بأجسام مختلفة، ومثلوا صفاته في ضروب من الصور والأشكال؛ فلما طالت عليهم الآمال بقيت هذه

الصور الممثل بها، وزال من قلوب الناس اسم الله الذي لم يزل ولا يزال، وصارت المشبهة بها أوثانًا وأصنامًا وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها، ويسجدون لها ظنًّا منهم أنها مظهر من مظاهر صفات الله، ومشاهد قدرته، وتفننوا في تصور صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة، والأوثان المصنوعة. ومن ذا الذي يشك في أن الله تعالى يحب عباده، ويرأف بهم، والأمم الآرية اتخذت تمثال المرأة للحب الإلهي، فإنها عندهم مظهر الحنان والأمومة، وآلهة الغرام والحب؛ فعبروا عن حب الله بنوع من العبادة، وعن حنانه عليهم بحنان الأم على ولدها، فانقلب الإله عندهم أمًّا حنونًا، وجعلوا لها تمثالًا يسجدون له ويعبدوه، والطوائف الأخرى من الهنادك، قد أظهروا هذا الحب الإلهي لعباده وحنانه عليهم بما بين الحليلة وزوجها من المودة والمحبة؛ فاختار لفيفًا من الرجال زي النساء وهيأتهن، وتخنثوا شكلًا وأخلاقًا على زعم أن يحبهم كما يحب الزوج حليلته. وكما ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة. أما الأمم السامية: فقد تمثل الإله عندها رجلًا وأبًا إذ كان ذكر المرأة عندها على ملأ من الناس مخالفًا للآداب السامية، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها، ويدل عليه ما استخرج من بطون الأرض في بابل، وآشور، وديار الشام من تماثيل تصور الإلهَ بصورِ الرجال. الوجه الثاني: أنهم جعلوا صفاته منفصلةً عنه، ومنشأ ذلك أن أتباع الأديان الأخرى قد فصلوا صفاته عن ذاته، وجعلوها مستقلة عنه، وبذلك تعددت الآلهة، وكثرت في جميع الفرق الهندوكية من الدين البرهمي؛ لأنهم اتخذوا كل صفة إلهية إلهًا، وجسَّمُوا تلك الصفة في صورة، وجعلوا كل صفة يُرْمَزُ لَهَا بإله معين، وبعد أن كان الله إلهًا واحدًا صار لهم ثلاثون وثلاثمائة مليون إلهًا.

وتفصيل ذلك أنهم أرادوا أن يعبروا عن قوة الإله وقدرته؛ فمثلًا قالوا: إن اليدين ترمزان إلى قوة الإله، فنحتوا الله تعالى عن ذلك بيدين قويتين من حجر، بل سولت لهم أنفسهم أن ينحتوا كثيرًا من الأيدي، وحاولوا أن يعبروا عن حكمته، فجعلوا له رأسين، واتخذوا له وثنًا ذا رأسين. وإذا تتبعنا سبب كثرة آلهة الهنادك الكثيرة؛ علمنا أن السبب هو أنهم جسموا صفات الله، فإن صفات الله عندهم ثلاث صفات عظيمات هي: الخلق والقيام على المخلوق والأمانة، وقد جعلت فرق الهنادك هذه الصفات آلهة، وجسدتها ومن هنا كان الفصل والتعدد. وأما الوجه الثالث في ضلالهم وفساد التوحيد وبعدهم عنه: نراهم يغترون بكثرة المظاهر في العالم، وينخدعون بضرب مصنوعات الله، وآثار مقدوراته وحين رأوا أن الله تصدر عنه ضروب من الأعمال حسبوا أنها تصدر من مصادر متعددة، وأن فاعليها كثير، فحملهم فساد رأيهم على أن جعلوا لكل عمل عاملًا مستقلًّا واعتقدوا أن الذي يحيي غير الذي يميت، ومحب العباد غير مبغضهم؛ فاتخذوا إلهًا للعلم، وإلهًا للثروة والرزق وصارت الآلهة بعدد الأفعال، وأن جميع ما في الدنيا ينقسم إلى قسمين الخير والشر، ولكل منهما إله، كما فعل أتباع "زرادشت"، وسموا إله الخير "بزدان" وإله الشر "أهومان" واعتقدوا أن العالم ساحة حرب يعترك فيها هذان القرنان المتصارعان. هذه على الجملة أهم مظاهر الانحراف، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح. وأما طرق معالجة هذا الانحراف: فكما قيل إذا شخصنا المرض استطعنا أن نعرف العلاج، وأن معرفة الداء طريق لمعرفة الدواء؛ فلا علاج لهذا الانحراف إلا أن يعود الناس إلى دين الحق،

وتوحيد صحيح، وكتاب محكم لم يحرف، وسنة مبينة ومفسرة، ولن نجد هذا إلا في دين الإسلام؛ حيث كتاب الله تعالى، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا اختلطت علينا الأمور فاتباع القرآن، والسنة بفهمِ سلفِ الأمةِ، لا سبيل لمعالجة الانحراف عن الدين الصحيح إلا باتباع منهج الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153). إن دين الإسلام هو دين الفطرة، وإن دين الإسلام هو دين العقل، وهذه الفطرة التي يمكن أن تخرج عن مسارها الصحيح لا ضابط لها إلا الوحي، وهذا العقل الذي يعتريه القصور لا يكمله إلا الشرع، ومن ثم فطرق معالجة هذا الانحراف هو العودة إلى المنهج الصحيح، أو الدين الحق، والالتزام بالعقيدة الصحيحة التي تتفق مع الفطرة، وتتناسب مع العقل. ولذلك نقول هنا: إن الدين دين التوحيد، وهو دين الفطرة، ودين العقل هو التوحيد فطرة وعقل، إن سلامة العقل توجب احترام الحقائق، وإدراك الوقائع والوقوف بالظنون عند حدودها، ورفض الأوهام، وعدم الإيمان بالخرافات، والإنسان بفطرته التي خلقه الله عليها يدرك وحدانية الإله مثلما هو يدرك بفطرته أن العدل جميل، والظلم قبيح، وأن العلم مفخرة، وأن الجهل معرَّةٌ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30).

فالناس كما خلقهم الله يولدون على فطرتهم، فهم مستعدون لها مؤثرون لمنهجها يتدافعون في مجراها تدافع الماء إلى منحدره لكن العوائق المصطنعة هي التي تقطع عليهم طريقهم وتردهم عن وجهتهم يقول الله تعالى في حديثه القدسي: ((إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فَاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)). وقد أشار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى بعض تلك العوائق بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه))، إذًا فالإسلام نادى في دعوته الخالدة إلى التوحيد ووضع القضية أمام العقل المجرد في بساطة ووضوح وبدون أيِّ تعقيدٍ، أو غموض، ثم يدعوه إلى التفكير في هدوءٍ وتبصرٍ بدون ميل، أو هوى؛ حتى يصل إلى عقيدة التوحيد التي تشهد بها آيات الخلق، وظواهر الكون، والتي بينها القرآن الكريم وجلاها للناس في منطق واضح، وأسلوب رائع، وشرح مبدع باستحالة وجود أكثر من إله واحد في الكون ذلك أن التعدد بين الآلهة يقود إلى التناحر والتنازع بينها، وإلى انحياز كل إله إلى ما خلق بما يؤدي إلى اضطراب نظام الخلق، واختلال نواميس هذا الكون، بل إلى انهيار الوجود ودماره. قال الله -عز وجل- في هذا المعنى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22) كذا قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوًّا كبيرًا} (الإسراء: 42، 43) وقال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 91، 92).

إنه كما هو معروف في التاريخ: أن الإنسان قد يتمرد على الله، أو يكفر بالله الواحد، ويعبد سواه مما يخترعه هواه، وما حدثنا التاريخ أبدًا، ولو مرة أن إنسانًا لم يتدين حقًّا أو باطلًا، ولم يستغن عن الدين على طول التاريخ، وقد استغنى عن العلم، وعن الحضارة، وعن المال، وعن الصحة إلى آخره، كما لا يستغني عن الطعام أو الماء، وهل يدل أكله للطعام الفاسد، أو الضار على بطلان الحاجة إلى الأكل، وهل يدل شرابه للماء الملوث على بطلان حاجته للغير كذلك لا يدل التدين الفاسد على بطلان الدين، وصدق الله إذ يقول: {لاَ تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ} صل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الدرس: 4 نشأة العقيدة الإلهية.

الدرس: 4 نشأة العقيدة الإلهية.

فطرية التدين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (نشأة العقيدة الإلهية) فطرية التدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. الكلام عن فطرية التدين، وفطرية التوحيد، وأقدمية الدين، وأن الوحي بدأ مع البشرية، وأن الإسلام هو دين الفطرة والعقل مبينين من هو أول نبي، ومن هو أول رسول على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى السلام مع بيان وقفة حول نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة مؤكدين فطرية التدين، وفطرية التوحيد حتى يكون المنهج صحيحًا؛ فإنني أمهد للكلام عن نشأة العقيدة، أو تطورها عند من زعموا أن العقيدة تطورت من الشرك إلى التوحيد بأن أقول لا الحق الذي ينبغي أن يكون أن نبدأ به قبل أن نرد على هذه الشبهة بأن التوحيد فطرة وعقل، والتدين فطرة، والتوحيد فطرة، ونتحدث عن أقدمية الدين، ثم نرد على نظرية تطور العقيدة من الشرك إلى التوحيد. فنقول وبالله التوفيق بعد أن أشرنا في الدرس السابق إلى أن التوحيد فطرة وعقل أن الله -عز وجل- بين معالم التوحيد، وربطها بالعقل؛ أن الدين كله إنما هو في أصله فطرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فالناس مفطورون على التدين. وقد عُلِمَ عن طريق التاريخ أن الناس تدينوا حقًّا كان هذا التدين أو باطلًا، وأنه لم يستغنِ أحدٌ عن الدين على طول التاريخ، كما أشرنا في الكلام على ضرورة الدين في حياة الإنسان، ورأينا أن الإنسان استغنى عن العلم، وعن الحضارة، وعن الماء، وعن الصحة؛ لكنه لم يستغن عن الدين، كما لم يستغنِ عن الطعام، ولا عن الماء حتى، وإن كان الطعام فاسدًا أو ضارًّا لشدة الحاجة إلى الأكل، ولم يستغنِ عن الماء حتى ولو كان ملوثًا لشدة حاجته للري فكذلك لم يستغن عن التدين حتى وإن وقع في تدين فاسد، أو مغشوش، أو في دين باطل. لكن إذا جاءنا الفكر الغربي، أو الجاهلية الحديثة، تزعم بأن تدين الإنسان نشأ لجهله بمظاهر الطبيعة من حوله، وضعفه أمام كوارثها وأحداثها، وظنوا أنهم عرفوا ما جهله الأوائل، ونسفوا الدين من الجذور، وأتوا عليه من الأساس، وقارنوا بين الأديان ليبطلوها، ونسوا ربما متعمدين أن يقارنوا الإنسان بزملائه من الحيوانات؛ فهو عندهم حيوانات كيف تدين، ولم يتدينوا أليست هذه ظاهرة تستحق الاهتمام، وهل الإنسان وحده الضعيف أمام الطبيعة وغيره من أنواع

الحيوانات قوي، وهل الإنسان وحده الجاهل بحقائق الطبيعة وغيره من الحيوانات أعلم منه، وهل هم كفروا؛ لأنهم صاروا أقوى من الطبيعة، وأعلم بخباياها أم ماذا؟ لا جواب على هذه التساؤلات إلا جواب واحد يرضاه العقل والدين معًا هو أن الإنسان فطر على التدين فتدين، ولم يخلق الحيوانات لهذا فبعدت عنه. والحق: أنه لا تبديل لخلق الله، وهو ما جعل الإنسان من بين مخلوقات الأرض والسماء في حفلة العرض يحمل الأمانة دون غيره كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (الأحزاب: 72). فالإنسان في منطق الجاهلية الحديثة تدين؛ لأنه ضعيف وجاهل، وعلى القياس الحمار بمقتضى الجاهلية الحديثة لم يتدين؛ لأنه عالم وقوي عالم بأسرار الطبيعة فلم تدهشه، وقوي أمام مظاهرها فلم تروعه، ويوم أن يتحرر الإنسان، ويصبح حمارًا أو قردًا أو ما شاء له من الحيوانات يكون قد تحرر من الجهل والضعف؛ فتعجب لمثل هذه الفلسفة الجاهلة، أو هذه الجاهلية الحديثة. إننا على يقين من أقدمية الدين، وأن الدين موجود مع الإنسان، وقبل الإنسان مع الإنسان ربما تكون واضحة قبل الإنسان كيف حين خلق الله الجان، وحين خلق الله الملائكة؛ فالملائكة على دين يعبدون ربهم، ويطيعونه، ولا يعصونه فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم بأمره يعملون؛ ولذلك قال الله -عز وجل-: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران: 83).

وهذه قضية لا نريد تفصيلها لكن من حيث قدم الدين بقدم الإنسان؛ فمن أول إنسان آدم -عليه السلام- هل كان متدينًا نعم موحدًا؟ نعم، هل أمر ونهي؟ نعم وهو في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض، ولما أهبط إلى الأرض هبط، ومعه الدين ومعه المنهج؛ فالله -عز وجل- تاب عليه في الجنة بعد إذ أكل من الشجرة نسيانًا لكن آدم خلق ليكون في الأرض لا ليكون في الجنة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) ولم يقل في الجنة لذلك نزل آدم ومعه المنهاج: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 125). فآدم -عليه السلام- كان موحدًا، وكان متدينًا وأبناؤه من بعده كذلك، وفطروا على هذا التدين، وأخذ عليهم العهد والميثاق بتوحيد الله -عز وجل- قال -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173). قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في (تفسيره) يخبره تعالى أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل مولود يولد على الفطرة)) وفي رواية: ((على هذه الملة -أي الإسلام- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)). وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: ((إني خلقت عبادي حنفاء؛ فجاءتهم الشياطين فَاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) والمراد من القول: أن ما فُطِرَ عليه الإنسان هو التوحيد، وأن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على بني آدم قبل خلقهم، وهم في عالم الذَّرِّ في صلب آدم على الخضوع له، وتوحيده سبحانه، فأقروا له بذلك؛ فيكون الدين قديمًا قبل إيجاد الإنسان في الحياة. هذا، وإن دعوى استغناء الإنسان عن الدين دعوى باطلة يكذبها الواقع، ويبطلها تاريخ البشرية الطويل؛ إذ واقع البشرية شاهد على أن الإنسان حيثما كان، وفي أيِّ ظروف وجد، وعلى اختلاف أحواله، وتباين ظروفه لا يخلو عمن يدين له أبدًا، وسواء كان الدين حقًّا أو باطلًا صحيحًا أو فاسدًا حتى أولئك الذين يدعون اليوم أن العلم قد أغنى عن العقيدة والتدين، وأن الإنسان في عصر الذرة، وغزو الفضاء لم يصبح في حاجة إلى الإيمان بالله، وبالغوا في الكفر والإنكار، فهل يستطيع الإنسان بعقله مهما بلغ من ذكاء، ورجاحة أن يستغني عن الدين، أو أن الدين يستغني عن العقل، إننا إذا نظرنا سنجد تلازمًا وثيقًا بين العقل والدين؛ إذ لابد للدين من عقل يتحمله؛ لأن مدار التكليف عليه. وأيضًا لابد للعقل من الدين يرشده، ويوضح له الطريق، ويجيب على ما يدور بخَلَدِهِ من أسئلة؛ لأننا سنجد الإنسان هذا اللغز العظيم الذي يستحِثُّ عقولنا ما

العالم، ما الإنسان؟ من أين جاء؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقودنا عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا، أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة، هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع إلا وضع لها حلولًا جيدة أو رديئة مقبولة، أو مرذولة ثابتة أو متحولة؛ فالوحي له وظيفة والعقل له وظيفة، فوظيفة الوحي هو البحث فيما وراء المادة. أما وظيفة العقل فهو البحث في المادة؛ فالعقل والوحي لا يستغنيان عن بعضهما، ولكل منهما مجاله الخاص به يكمل فيه الآخر؛ فهناك مسائلُ الغيب ومسائل التشريع، ومسائل الخير والفضيلة، فلو تُرِكَ الناسُ وعقولهم في هذه المسائل؛ فإنهم يتقاتلون ويتنازعون، فعقول الناس رسل لهم من دخلهم ورسل الله عقول لهم من خارجهم، وهذا يوضح لنا مبلغ التآخي بين العقل والدين، وأنهما يجريان في اتجاهٍ واحد. هذا، والعقل من أشد أعوان الدين على عقيدة التوحيد، والنقل من أقوى أركانه، وكلاهما ينسجم مع الآخر، ولا يتعارضان؛ لأنهما من مصدر واحد، فإن وقع اختلاف دل على أن الوحي حُرِّفَ، أو أن العقل ضل الصراط المستقيم الذي رسمه الوحي الإلهي، والذي أساء استخدام العقل هو الإنسان نفسه، وتحريف الكتاب المنزل بتخريج نصوصه تخريجًا يبعده عن هدفه تحت التأثر بعوامل شخصية، أو بمذهب معين عمل يحول بين الانسجام بينهما. فالعقل مثلًا لا يتفق مع الدين إذا قال الدين بالتثليث أو جمع بين طبيعة الإنسان وطبيعة الإله، كما زعمته النصارى في عيسى ابن مريم -عليه السلام- وكل هذا يرد على

من قال بأن الإنسان هو صانع الدين ومبتدعه، وأن الأجيال الأولى عاشت ردحًا طويلًا من الزمن بلا دين حتى إذا تطورت، وترقت عن البداوة اخترعت الدين، أو من يعللون ظهور الدين في حياة الإنسان في ضعفه وخوفه وقلقه؛ ولذلك فإن الإنسان إذا قدر على قهر نوازع الخوف في نفسه استطاع أن يسقط الدين من حسابه، وينطلق من إساره وتبعاته مع أن الواقع يشهد بأن الإنسان كلما ازداد تعمقًا في دينه زكت نفسه، واطمأن قلبه، وانشرح صدره، وعظمت سكينته. إنه من المؤكد أنه ما ظلت فترة في الزمن بدون دين ودعوى استغناء الإنسان عن العقيدة دعوى باطلة، وأن دعوى العقل في إمكانه الاستقلال بهداية الإنسان إلى ما يصلحه، ويسعده دعوى باطلة وساقطة، أيضًا ولا وزن لها ولا واقع، وأن دعوى الاكتفاء بالعلم عن الوحي الإلهي من الشرائع الإلهية الصحيحة من التحريف، والزيادة والنقص والتبديل، كالدين الإسلامي دعوى باطلة قطعًا. إن فكرة التدين في جوهرها ليس لها دليل واحد في أنها تأخرت عن نشأة الإنسان أبعد هذا يجوز أن يقال: بأن البشرية عاشت قرونًا متطاولة في حياة مادية خالصة؟ أو القول: بأن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون من الكهنة والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى، والسفهاء؟ أو يصح القول بأن الإنسان هو الذي وضع تلك القوانين، واحتكم إليها؟! هذه النظرة الساخرة إلى الأديان والقوانين ليست مبتكرة، إنما هي ترديد لصدى مجونٍ قديم كان يتفكر به أهل السفسطة من اليونان، فقد زعم هؤلاء السوفسطائيون: أن الإنسان كان في أول نشأته يعيش بغير رادع من قانون، ولا وزاعٍ من خلق، وأنه كان لا يخضع إلا إلى القوةِ الباطشة.

وأخيرًا نقول: بأن الإنسان دائمًا في حاجة إلى الإيمان والتدين والعقيدة، وأن الدين ضرورة من ضروريات حياته، وحاجة من حاجات نفسه، فلا غنى له عن الإيمان بربه، وعن عبادته بحالٍ من الأحوال، ومن هنا لم تخل أمة وجِدَتْ على وجه الأرض، ومنذ عهد الإنسان بالحياة من عقيدة ودين؛ ومصداقًا لذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) كذا قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} (الرعد: 7). ومن هنا نؤكد أنه مع الإنسان الأول كان النبي الأول، فأول إنسان هو أول نبي هو أبونا آدم -عليه السلام- فمن أول نبي؟ ومن أول رسول؟ من اليقين المؤكد أن البشرية بدأت، ومعها التوحيد المطلق والتنزيه الكامل لله رب العالمين، والذي يقرره القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة أن آدم -عليه السلام- أبا البشرية كان نبيًّا موحدًا على أنقى صور التوحيد. وقد اصطفاه ربه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33) واجتباه أيضًا فقال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه: 122). وأنه عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، وذلك باعترافه بخطئه، وتوبته إلى ربه إذ أكل من الشجرة ناسيًا، فسارع بقوله مع زوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) وهذا اعتراف فيه رجوع وإنابة، وتذلل، وخضوع للواحد الديان الذي خلقه من تراب، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة. والذي لا شك فيه أن آدم -عليه السلام- أهبط إلى الأرض مسلمًا لله متبعًا لهداه، وأن الله أخذ عليه العهد هو وزوجته أن يتبعا ما يأتيهما من هدي، وأن يبتعدا عن خطوات الشيطان؛ إذ هو لهما عدو مبين قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي

هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَ ى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}. (طه: 123 - 125). فقام آدم -عليه السلام- بنقل ما تلقاه من ربه إلى بنيه، وتعريفهم بإسلامه وعقيدته وتلقى بنوه هذه التعاليم بالقبول حتى عندما وقع الخلاف بينهم أو بين هابيل وقابيل رأينا أثر هذه التعاليم واضحة فيما وقعوا فيه من معصية أو خلاف قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 27 - 29) الآيات. وظلت تعاليم التوحيد في أبناء آدم وأحفاده، وتوارثوها جيلًا بعد جيل وظلت أجيال عدة بعد آدم -عليه السلام- لا تعرف إلا توحيد الله تعالى عقيدة مع إسلام الوجه لله تعالى دينًا، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" والقرن قد يراد به المدة، وهي مائة سنة، قد يراد به الجيل من الناس أو المدة المتطاولة من الزمن، كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} (الإسراء: 17). كذا في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} (مريم: 74) وفي قوله سبحانه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} (المؤمنون: 42) وفي قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} (الفرقان: 38) فالتوحيد أصل في البشرية به بدأت وعليه نشأت، وأما الشرك والانحراف فهو شيء طارئ عليها ولا عجب فقد أخذ الله العهد والميثاق على ذرية آدم منذ بدأهم، وهم لا يزالون في عالم الذر كما في الآية: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: 172) وكما في الحديث الصحيح فيما رواه ابن جرير وغيره بإسناده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((مسح ربك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى)). وذكر الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه قال: ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به، قال: فيقول: نعم، قال: فيقول الله: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي)) فأول الأنبياء الجد الأكبر للأسرة الإنسانية هو آدم -عليه السلام- وقد سبق الدليل على نبوته من القرآن باصطفاء الله له واجتبائه إياه، وإضافة إلى ذلك ما صرح به القرآن من مخاطبة الله -عز وجل- له بلا واسطة فقال له: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (البقرة: 33) الآية وهذا الخطاب أحد أنواع الوحي كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51). وفي السنة ما يشير إلى هذا أيضًا أو يصرح به، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض)) فقوله: ((وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي)) دل على نبوة آدم، ومن جاءوا بعده. وفي الحديث: وإن كان في سنده كلام: روى الإمام أحمد عن أبي ذر -رضي الله عنه- قلت: ((يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: أو نبيٌّ كان؟

قال: نعم نبي مكلف، قال: قلت: يا رسول الله؟ كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضع عشرة، جمًّا غفيرًا، وقال: مرة ثلاثمائة وخمسة عشر، قلت: يا رسول الله آدم نبي قال: نعم نبي مكلف)). وإذا كان آدم -عليه السلام- هو أول الأنبياء؛ فإن نوحًا -عليه السلام- هو أول الرسل دل على ذلك القرآن والسنة، فمن القرآن قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163). ومن السنة ما جاء في أحاديث الشفاعة في (الصحيحين): ((وفيها فيأتون نوحًا -عليه السلام- فيقولون: يا نوح أنت أول رسل الله إلى أهل الأرض، وقد سمَّاك الله عبدًا شكورا)) وقد علم: أن هناك فارقًا بين النبي والرسول؛ لقوله تعالى: {وَمَا أََرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى} (الحج: 52) الآية. وهذا العطف يقتضي المغايرة، وإن كان بينهما اشتراك في مهمة التبشير والإنذار، وقد قيل في الفارق بين النبي والرسول: إن النبي من أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه، وهذا لا نطمئن إليه؛ فكيف لا يؤمر النبي بالتبليغ؟. وقال الآلوسي: الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، فالرسول هو الذي يأتي بشرع جديد، أو بأحكام وتشريعات مفصلة، والنبي هو الذي لم يأت بشرع جديد، وإنما بنى على شرع من سبقه، أو جاء بدعوةٍ مجملةٍ تدعو إلى أصول الإيمان بالله تعالى، وقواعد الخلق الذكي، وليس من اللازم أن تحوي شرائع وأحكامًا جديدة. أو أن النبي من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتابًا أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وأما الرسول: فهو من بعثه الله إلى

نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة.

قوم، وأنزل عليه كتابًا أو لم ينزل عليه كتابًا، لكن أوحي إليه بحكمٍ لم يكن في شريعة من قبله، وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس العكس -وهذا هو الراجح والله أعلم. نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة بقي لنا أن نقف وقفة حول نشأة العقيدة الإلهية؛ لنرد على المزاعم في تلك القضية، ونقصد بنشأة العقيدة الصورة التي ظهر فيها الدين أول ما ظهر، أي: الأولية التاريخية المطلقة التي لا تتقيد بزمنٍ معين منذ أن دبت قدمً الإنسان على ذلك الكوكب، ولتقرير هذه البداية نجد أن العلماء ينقسمون إلى قسمين متعاكسين. وقبل أن نعرض هذين الرأيين علينا أن نفرق بين أمرين، وهما فطرية التدين، وفطرية التوحيد؛ أما فطرية التدين: فقد اتفق علماء الأديان إلا من شذ منهم على أن التدين أمر فطري في الإنسان مركوز فيه، أي: أن الخضوع والتذلل والخوف من كائن أعلى موجود في النفس، ومحاولة إرضاء هذا الكائن، والتذلل له أمر غريزي يلبي نداء الفطرة، وكذا الإحساس الفطري على الحياة الآخرة، وأنها دار الجزاء لما قدم الإنسان من أعمال، كما أن الإنسان مدني بطبعه، فلا يستطيع أن يعيش بمعزل عن بني جنسه، بل لا بد من التعاون مع الجماعة. وأما عن موضوع هذا التدين أي: المعبود الذي تعلق به هذا التدين هل تعلق أول ما تعلق بالإله الواحد الموجد لهذا الكون، أم تعلقت هذه الغريزة

بآلهة شتى؟ الطبيعة وما حوته من جمادات وحيوانات وأرواح، ثم تطورت إلى أن وصلت للإله الواحد، لقد ذكرت: أن العلماء في هذه المسألة لهم رأيان هما: الرأي الأول: المذهب التقدمي أو التصاعدي، ويتزعمه فريق من علماء الأديان والمقارنة، ومن علماء الاجتماع الدين أمثال: "سبنسر" و"فرويد" و"دوركايم" وغيرهم من علماء الغرب مسيحيين ويهود، وتبعهم قليل من المسلمين مثل العقاد في كتابه (الله) وطه الهاشمي في كتابه (تاريخ الأديان) وفلسفتها يرى هذا الفريق أن التدين بدأ بالخرافة والأوهام، ثم انتقل إلى الوثنية والشرك، وأخذ الإنسان يتطور في دينه، وعقيدته على مدى الأجيال حتى وصل إلى التوحيد والتوحيد في نظرهم هو آخر مرحلة في التصور والتدرج، وأن الاعتراف بالإله الواحد مسبوق بعبادة الشمس. يقول العقاد: "ترقى الإنسان في العقائد، كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه، وصناعته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى". فيرى أصحاب هذا الرأي أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالقياس إلى ظهور الوثنية، والشرك ظهرت عقيدة التوحيد بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم تكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك إلى أن وصل إلى التوحيد، وهم يعتبرون أن إخناتون أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين، ثم يتحدثون عن التوحيد كآخر طور من أطوار العقيدة، كما جاء في الإسلام.

وقد كتب العقاد كتابًا عن نشأة العقيدة أسماه (الله) تفاجئك وتَفْجَئُكَ مقدمته بهذه العبارة: موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية منذ أن اتخذ الإنسان ربًا إلى أن عرف الله الواحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد، ثم قال: "الرجوع إلى أصول الأديان في العصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، فكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصرٍ واحدٍ، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرًا بعد عصر وطورًا بعد طور، وأسلوبًا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى على نحو أصعب، وأعجب من استعدادهم، لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل، ويتناولها الحس والعيان". واستدلوا على رأيهم بما يلي: أن الإنسان أخذ يتطور حضاريًا واجتماعيًا من سكنى الكهوف وأغوار الجبال إلى السكنى في البيوت المتخذة من الوبر والشعر، ثم البيوت المصنوعة من الطين، ثم القصور الضخمة، ومتع الحياة إلى آخره، فإذا كان كذلك، فلابد وأن يكون الإنسان قد تطور في العقيدة كذلك من عبادة الطبيعة، والأرواح إلى الإله الوحي. الدليل الثاني: وجود بعض القبائل المتخلفة في استراليا ووسط أفريقيا، وبعض سكان أفريقيا، وبعض سكان أمريكا ما زالوا يعبدون الأصنام والأوثان، وهم مع ذلك متخلفون اجتماعيًّا، فهناك ارتباط بين هذا التخلف الاجتماعي وبين العقائد الدينية الباطلة المبنية على الأوهام والأساطير. الثالث: كما يستدلون بالقرآن الكريم، وهو ما ورد في سورة الأنعام في قصة إبراهيم -عليه السلام- في الآيات الكريمة: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 75 - 79) الآيات. ذلك أنهم يستنتجون من هذه الآية أن إبراهيم -عليه السلام- قد تدرج في عقيدته وتدينه من الإيمان بالكواكب المتعددة إلى الإيمان بالقمر ثم الشمس، وهي أكبر ما تقع عليه العين، ثم انتهى إلى عقيدة التوحيد، ونفي الشرك هذه أدلتهم، وآخر ما في جعبتهم. وللرد عليهم نقول: أما عن الدليل الأول، وهو تطور العقيدة تابع للتطور الاجتماعي والحضاري فهذه شبهة واهية ذلك أنه قياس مع الفارق، فالتقدم الحضاري والاجتماعي والصناعي تقدم في الأمور المادية، والدين لا يتعلق بالأمور المادية، وإنما يتعلق بالأمور الروحية المعنوية التجريدية تلك الأمور المتعلقة بالنفس والروح؛ فالجامع بين المقيس عليه معدوم، فيبطل هذا القياس بالإضافة إلى أن التطور تطورت فيه الأمور من الأشياء البسيطة إلى المعقدة المركبة، وليست الأديان كذلك. أما عن الدليل الثاني: الذي يفيد أن هناك ارتباطًا بين التخلف الاجتماعي، والعقائد الباطلة فهي شبهةٌ واهيةٌ كَذِلَكَ، فليس هناك ارتباط بين الحضارة والمدنية، وبين التدين والعبادة.

فالهند مثلًا بلغت شأنًا كبيرًا في الحضارة والمدنية، وشأوًا بعيدًا، ولا زال أغلب سكانها إلى الآن يعبدون الأبقار، وروسيا والصين مبلغًا مبلغًا عظيمًا من الرقي الحضاري، والاكتشاف التكنولوجي، ومع ذلك فجمهور السكان لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجود الخالق؛ إذًا فليس هناك جامع مشترك في الارتباط بين التخلف والأساطير الخرافية. وأما عن الدليل الثالث: وهو الفهم الخاطئ للآيات من سورة الأنعام في قصة محاجة إبراهيم -عليه السلام- لعبدة الكواكب؛ فهي أوهى من سابقيها وأبسط من أن يرد عليها؛ إذ ليس المقصود من الآيات. كما ذهب العقاد والهاشمي وغيرهم من المستشرقين: أن إبراهيم -عليه السلام- وهو النبي المعصوم كان شاكًّا في عقيدته، أو تطور من عبادة الكواكب إلى التوحيد، وإنما وجد إبراهيم -عليه السلام- قومًا يعبدون هذه الأشياء ويقدسونها، فأراد أن يقيم الأدلة الحسية على بطلانها بطريقة التدرج إلى الإيمان، وبأسلوب المجاراة الذي يوهم الخصم بأنه معه فيما يعتقد بشرط مسبق، وهو أن الإله الذي يجب الإيمان به إذا ظهر لا يأفل، ولا يغيب، فلم يتحقق هذا الشرط في شيء من آلهتهم التي يعبدونها؛ فتوجه بهم بعد ذلك إلى الإيمان الحق بالخالق المبدع؛ لهذا الكون بعد أن أبطل عقيدة الإيمان بالكواكب، والقمر والشمس؛ لأنها أشياء تغيب، وتزول، ولا يصح للإله أن يغيب، أو يزول؛ فإبراهيم -عليه السلام- لم يكن ينظر، ويبحث ليصل إلى التوحيد، وإنما كان يناظر، وفرق بين النظر والمناظرة. وتلك حجة الله على لسان إبراهيم، كما جاء ذلك واضحًا في أول الآيات وآخرها: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام: 75). وفي آخرها: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ

نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83) إبراهيم -عليه السلام- صاحب رايةِ التوحيدِ، كيف يشك في الأمر، كيف يتدرج من الشرك إلى التوحيد. إن الله -عز وجل- أثنى على إبراهيم -عليه السلام- فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120 - 123). والحق يقال: إن عقيدة التوحيد كانت منذ منشأ الإنسان إلى دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي البداية والخاتمة، ونصوص القرآن الكريم تؤكد بما لا يدع مقالة لقائل: إن البشرية صاحبتها عقيدة التوحيد من أول خطوة دبت بها على وجه الأرض، وما يقوله علماء مقارنة الأديان الغربيون: هذا يؤدي إلى إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية، وتطورها مجهودًا بشريًا نتيجة للارتقاء العقلي والثقافي؛ فأين إذًا هدي الله الذي تنزل على آدم -عليه السلام-: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (طه: 123). والحق: أن آدم -عليه السلام- هو الذي عرف بنيه بربهم -سبحانه وتعالى- وبالإسلام ثم توالى موكب الإيمان بعد ذلك يتعهد البشرية أولًا بأول، ويعيدها إلى ربها إذا ضلت طريقه، أو أخطأت هداه، وكان نوح -عليه السلام- الذي جدد الدعوة إلى التوحيد، وأعاد إليه نقاءه وصفاءه، وحاول جاهدًا بكل ما يملك من طاقة النبي المرسل أن يخرج الناس مما انتكسوا فيه من ضلال، وكفران، وكانت النتيجة أن نجا الله نوحًا، ومن آمن معه، وأغرق من عداهم من عبدة الأصنام والأوثان، ثم استمر موكب الهداية يتجدد حينًا بعد آخر حتى جاء خاتم الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- فبنى على نهج إخوانه في الدعوة، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).

فالعقائد لا شأن لها بالتطور، والدين بدأ وحيًا من عند الله يدعو إلى التوحيد منذ بدأ الحياة، وإذا كان انحراف قد حدث عن أصل التوحيد في تاريخ البشرية فذلك على حين فترة من الرسل، وكل الذي يمكن أن يقال هنا: إنه إن كان حدث تطور أو اختلاف بين الرسالات؛ فإنما ذلك في الشرائع والأحكام التي قد تناسب أمة، ولا تناسب أخرى؛ لذلك قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). أما القواعد فهي واحدة، وإنما تختلف الأحكام والفروع رحمة، وشفقة بالأمم، فالصلاة مثلا والصيام كانا في الأمم السابقة، لكن طريقة الأداء، وكيفيته قد تختلف من أمة إلى أخرى، وإن بلغ كله حد الكمال والتمام في خاتمة الشرائع والرسالات التي هيمنت على السابق، ونسخت ما لا يتفق والتطور الإنساني على نحو ما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106). وكذا يقال في الرد على مذهب التطور في الأديان: لقد كان مقتضى الوضع السليم في تعرف ما كانت عليه بداية الأديان فيها قبل التاريخ أن يسترشد في مقارنتها لا بسير الفنون والصناعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إلى اليوم، وإننا لا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأت بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتها الشوائب والأباطيل على طول العهد. فالأشبه أن تكون هذه سنة التطور في الديانات كلها، وهي أن تكون بدايتها خيرًا من نهايتها، ويشهد لذلك القول قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) ومن هنا فإن الكتب السماوية

تتفق على أن الجماعة الأولى لم تترك وشأنها تستلهم غرائزها وحدها بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها رعاية السماء بنور الوحي من أول يوم؛ فكان أبو البشر آدم -عليه السلام- وأول الأفذاذ المخلصين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين، هكذا. وأما الرأي الثاني: والذي يقول به علماء المسلمين، وبالأخص جمهور أهل السنة والجماعة، والعقلاء من علماء أوربا، وأن عقيدة التوحيد فطرية في النفس البشرية أن الإنسان الأول عرف الإله الواحد الأحد، وآمن به منذ البداية، وأن الشرك والوثنية أمور طارئة وعارضة، وانحراف طرأ على العقيدة، وممن يؤيد هذا الرأي من الغرب؛ "لان" و"بروكلمان" و"شريده" و"شميدس" وغيرهم. والأدلة التي تؤكد أن الناس كانوا على التوحيد، ثم انحرفوا عنه ما قاله الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 19). يقول الأستاذ الدكتور/ نوح الغزالي -رحمه الله-: "إنه الإعجاز القرآني دون شك يلخص القصة الإنسانية في آية واحدة في نشأتها الأولى على الإيمان الحق، وفيما طرأ عليها من أهواء البشر، ونزغات الشيطان، وهو تلخيص في نفس الآية لكل مراحل الإنسانية، وهي تتكرر فيها العودة إلى الفطرة الأصيلة عن طريق نبي

يتفضل المولى -سبحانه وتعالى- بإرساله، ثم تنتكس لتعيد الجاهلية الأولى بصورة، أو بأخرى حتى كانت النبوة الخاتمة {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213). والطرف العقلي: فقط هو الذي حِدَا بقلة من المفسرين أن يذهبوا إلى أن الآية لم تقرر على الإيمان، أو على الكفر أمة واحدة حتى إذا ما طولبوا بالدليل عجزوا عنه والنص القرآني السابق يؤكد أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان في أول نشأة الإنسان، وأن الكفر هو الذي طرأ عليه فبعث الله تعالى له النبيين. ويؤكد الرازي والقفال هذا بأدلة واضحة منها: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) أن هذا يدل على أن الأنبياء -عليهم السلام- إنما بعثوا حين الاختلاف، ويؤكد ذلك قراءة ابن مسعود "كان الناس أمة واحدة؛ فاختلفوا فبعث الله النبيين" فالفاء في قوله: "فبعث" تدل على الترتيب السببي، وتقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف، ولو كان قبل ذلك أمة واحدة على الكفر لكانت بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى؛ لأنهم بعثوا عندما كان بعضهم محقًّا، وبعضهم مبطلًا، ولن يبعثوا عندما يكونون كلهم مصرين على الكفر فهذا أولى. دليل آخر أن الله تعالى حكم بأن الناس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ثم درجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل، وقراءة ابن مسعود والظاهر أنه الاتفاق والحاصل المشار إليه بقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} كان قبل الاختلاف الذي حدث بسبب العداوة والبغي والحسد، دليل ثالث آدم -عليه السلام- لما بعثه الله رسولًا لأولاده الكل كانوا مسلمين مطيعين لله، ولم يحدث الاختلاف إلا بسبب البغي والحسد عندما قتل قابيل هابيل، كما هو ثابت في الآية الكريمة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} (المائدة: 27).

هذا الصراع الذي انتهى إلى جريمة القتل أنهما كانا يتنافسان على القربى إلى الله تعالى، ويغمط أحدهما أخاه؛ لأنه تقبل من أخيه دونما يتقبل منه، وهنا ينتهز الشيطان تلك الفرصة وقعد لابن آدم بكل طريق؛ فدفعه إلى الحسد والحقد عليه حتى إذا ما سولت له نفسه قتل أخيه لم يعرف كيف يقتله ويتخلص منه، فتمثل له إبليس يضرب بالحجر رجلًا فقلده، ولم يعرف كيف يدفنه فعلمه الغراب دفن الموتى؛ فالحوار بين الأخوين يدل على معرفتهما بالله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 28) {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (المائدة: 29) دلالة واضحة على الإيمان بالله واليوم الآخر. دليل رابع: أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ثم اختلفوا بعد ذلك كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ومن الأدلة الآية الكريمة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف: 172). وقد كانت بعد خلق آدم -عليه السلام- والحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة)) مما يؤكد أن الإنسان كان على التوحيد من البداية، وأن الشرك والوثنية أمر عارض على الإنسانية، وأن المقصود بآية البقرة ويونس بأن كون الكفر باطلًا، وتزييف طريق عبادة الأصنام، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل؛ فوجب أن يكون المراد بقوله: كان الناس، وأنهم كانوا أمة واحدة على الإسلام؛ فلما وقع الناس في الشرك بعث الله الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) فالآية صريحة الدلالة على أن الله

تعالى بعث في كل أمة، وفي كل جماعة رسولًا يأمرهم بعبادة الخالق -سبحانه وتعالى- وهي عقيدة التوحيد {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30). وكما في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء؛ فَاجْتَالَتْهُم الشياطين عن دينهم)) فالمعنى: أن الله تعالى خلق عباده يدينون بالتوحيد، فجاءتهم الشياطين وحولتهم عن التوحيد إلى الشرك والوثنية؛ فهذا هو الحق الذي ندين لله -عز وجل- به؛ والحمد لله على نعمة التوحيد، وعلى نعمة الإسلام والإيمان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 اليهودية؛ تسميتها ونشأتها، والمصدر الأول لها: التوراة.

الدرس: 5 اليهودية؛ تسميتها ونشأتها، والمصدر الأول لها: التوراة.

الحديث عن اليهودية من حيث التسمية والنشأة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (اليهودية؛ تسميتها ونشأتها، والمصدر الأول لها: التوراة) الحديث عن اليهودية من حيث التسمية والنشأة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. ننتقل إلى نبذة تاريخية عن أهم الرسالات السماوية، ونعني بها هنا اليهودية والنصرانية في حديث يعطي فكرة عن هاتين الديانتين، بإذن الله -تبارك وتعالى- ثم بعد نظرة إجمالية لبعض الأديان القديمة أو الوضعية. إذن درسنا هذه المرة حول اليهودية، والحديث عن اليهودية من حيث التسمية والمصادر والنشأة، ثم بعد ذلك بيان أهم المعتقدات اليهودية، والرد على ذلك مع دراسة عن بروتوكولات حكماء صهيون، هذه أهم العناصر التي نريد أن نتناولها، ونبدأ بالكلام عن اليهودية من حيث التسمية والمصادر والنشأة، نعني: الكلام عن اليهودية من حيث التعريف لغةً واصطلاحًا. لغةً اليهودية مأخوذة من كلمة "هود " والهود في اللغة العربية يعني: التوبة يقال: هاد يهود هودًا وتهوَّد: تاب، ورجع إلى الحق فهو هائد، وفي كتاب الله تعالى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأعراف: 156) أي: تبنا إليك، وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم. قال ابن سيده: عدَّاهُ بـ"إلى" يعني: لم يقل هدنا فقط، ويقال: هدنا إليك فهو متعدٍّ، فعداه بـ"إلى"؛ لأن فيه رجعنا، وقيل: معناه تبنا إليك، ورجعنا، وقَرُبْنَا من المغفرة، والتهود: التوبة، والعمل الصالح. قال ابن الأعرابي: "هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير، وهَادَ إذا عقل، ويهود اسم للقبيلة، وقيل: إنما اسم هذه القبيلة يهوذ؛ فعرِّب بقلب الذال دالًّا. وقال ابن سيده: وليس هذا بقوي، وقالوا: اليهود فأدخلوا الألف واللام فيها على إرادة النسب يريدون اليهوديين، وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا

حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (الأنعام: 146) معناه: دخلوا في اليهودية، وقال الفراء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (البقرة: 111) قال: يريد يهودًا، فحذفت الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وفي قراءة أُبَيٍّ "إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا" قال: قد يجوز أن يجعل هودًا جمعًا. 1 - هائد مثل حائل، وعائط من النُّوق، والجمع حول وعُوط، وجمع اليهودي يهود، كما يقول في المجوسي مجوس، وفي العجمي والعربي: عجم وعرب، وهَوَّد الرجل: حوَّله إلى ملة يهود، والتَهوُّد أن يصير الإنسان يهوديًّا، وهاد وتهود: إذا صار يهوديًّا هكذا باختصار من معاجم اللغة، ومن (لسان العرب) بصفة خاصة. وأما اليهود اصطلاحًا: فهم قوم موسى -عليه السلام- جاءهم برسالته، ونزلت فيهم التوراة من عند الله تعالى، وذلك قبل ميلاد عيسى -عليه السلام- بثلاثة عشر قرنًا تقريبًا؛ فهذا هو المشهور وأذكر هنا أمرًا لابد منه أن اليهود، وإن كانوا قوم موسى -عليه السلام- لكن اليهودية ليست دين موسى -عليه السلام- فموسى -عليه السلام- ما جاء إلا بالإسلام -كما أسلفنا- من قبل، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ* الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس: 84: 86) واشتد إيذاء فرعون لأتباع موسى -عليه السلام- فقالوا له: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126).

لكن هؤلاء القوم عرفوا بعد باسم اليهود، قلنا إن نسبة إلى قبيلة يهوذ التي عربت بقلب الذال دالًّا؛ فصارت يهودا أو من قولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأعراف: 156) لكن أن يقال دين نزل من السماء يسمى اليهودية فلا؛ ولذلك فاليهود إنما هو اسم من أسماء هؤلاء القوم، وكذا يسمون بأسماء أخرى، كبني إسرائيل، والعبريين، والعبرانيين، وحديثًا عرفوا باسم الصهاينة، ويمكن أن يقال عنهم: الماسون، ويشار إلى فرق منهم فيقال: الصهاينة أو الأصوليون، وغير ذلك. فأنتقل بعد تعريفهم لغةً واصطلاحًا إلى تسميتهم، أو أسمائهم: يذكر العلماء أسماء معدودة لقوم موسى هؤلاء، فهم يعرفون قديمًا بالعبريين، أو العبرانيين نسبة إلى عابر بن سام أكبر أبناء نوح -عليه السلام- أو إلى جنس بشري يسمى عبيرو، ومنه اشتق الاسم أو ربما كان نسبة إلى حادثة العبور من مصر إلى الشام، أو الانتقال من مكان إلى آخر باعتبارهم من الأمم البدوية التي دأبت على الرحلة، وبهذا كانوا يعبرون الأماكن وينتقلون في البوادي، فارتبط بهم الاسم الذي يدل على ذلك. وعلى الجملة فكل هذه العلل واردة وممكنة، وليس بالمستطاع إلغاء بعضها أو إثباته على وجه القطع، والشيء الذي يمكن القطع به هو أن من الممكن إطلاق اسم العبريين والعبرانيين على اليهود، وأن هذه التسمية من أقدم ما عرفوا بها، ومن أسماء هؤلاء القوم اليهود، وسبب هذه التسمية كما يرى بعض العلماء يرجع إلى نسبة القوم إلى أحد أبناء يعقوب -عليه السلام- وهو يهوذا أكبر أبنائه، وأحبهم إليه، وهو غير مسلَّم به؛ لأنهم من نسل "لاوي" لا من نسل يهوذا؛ فكيف ينسبون إلى غير أبيهم.

وقد ظهرت هذه التسمية بعد موسى -عليه السلام- فكيف نرجعها إلى عصور ما قبل موسى -عليه السلام- ولعل الراجح في هذه التسمية أنها بسبب توبتهم مع موسى -عليه السلام- مأخوذة من قولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأعراف: 156) لأن هذه التسمية عرفت مع أيام موسى -عليه السلام. ومن الأسماء التي اشتهر بها القوم بنو إسرائيل، وكلمة إسرائيل مركبة من جزأين "إسرا" ومعناها عبد، وإئيل ومعناها الله، فمعنى الكلمة عبد الله، والمراد به يعقوب -عليه السلام- حفيد إبراهيم، وابن إسحاق -عليهم السلام- فقد جاء في التوراة: "وظهر الله ليعقوب فباركه، وقال له: اسمك يعقوب لا يكون من بعد اسمك يعقوب، بل إسرائيل يكون اسمًا فسماه إسرائيل، ولا بأس فجل الأنبياء والرسل وصفوا بهذا الوصف عبد الله عباد الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (مريم: 41) أو قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (ص: 45) كذا {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} (ص: 17) {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} (الجن: 19) يراد به النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-، فكذا سمي يعقوب بعبد الله، لكن أن يقال سماه الله كذلك بسبب ما جاء في التلمود: "أنه قام يصارع الرب، وكاد أن يغلب الرب؛ فمنحه الرب هذا النيشان، وذلك الوسام، وقال له: دعني يا يعقوب، وأنت من الآن إسرائيل" فهذا من كفر اليهود، ومن تخريفاتهم التي اشتملت عليها كتبهم المحرفة. وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن تسمية يعقوب بإسرائيل من قبل الله تعالى، وهي حقيقة مسلمة؛ لأن الإنسان عبد الله منذ خلقه سمي بذلك أم لم يسمَ، فإذا سمي بذلك كان تشريفًا وتعظيمًا، ومن الأٍسماء التي عرف بها القوم حديثًا الصهيونية، وليس لهذه التسمية أصل قديم، وإنما أخذت لتدل على مفهوم معين؛ لأنها تفيد لغويًّا

الصيام، والتحصن، وهذا طبع اليهود قديمًا وحديثًا؛ فإنهم يعيشون وراء حصون حصونًا من أعدائهم، ولقد سمي أحد التلال المحيطة بالقدس القديمة باسم جبل صهيون، رمزًا من اليهود إلى الحصن، ودعوة إلى تحقيق فكرة عودة اليهود إلى فلسطين لإقامة دولة تجمع شملهم، ومن أجل إنجاح هذه الفكرة قامت الحركة الصهيونية، ونشطت في الدعوة لأهدافها؛ ومما يذكر: أن الصهاينة هم غلاة اليهود في العالم كله؛ لذلك فإن اسم الصهيونية من الأسماء الخاصة التي تسمى بها البعض دون البعض الآخر. وقفة مع هذه المسميات: اشتهر بنو إسرائيل بالأسماء التي أشرت إليها إلا أن أحبها إليهم بنو إسرائيل؛ لأنه يذكرهم بمنزلتهم التي يتمنونها لأنفسهم عند الله تعالى؛ ولذلك نجدهم يسمون دولتهم الحديثة بهذا الاسم المحبب إليهم والقرآن الكريم حينما يريد مخاطبتهم بالهداية، ودعوتهم إلى الحق يناديهم بهذا الاسم المحبب، وكأنه يريد أن يقول لهم: أنتم أولاد الأنبياء ونسل الرسل، وجدير بكم بمقتضى هذه الصفة أن تستقيموا على الجادة، وأن تتبعوا الطريق المستقيم، ولا تحيدوا عنه، وأن تكونوا أول المؤمنين. وحين يريد القرآن الكريم الإشارة إلى كفرهم، وجحودهم يذكر اسم اليهود. ويرتبط اسم الصهيونية بالفكر العنصري المتزمت الذي يدعو إلى الاغتصاب والاستيلاء على حقوق الغير، كما أن اسم العبرانيين يذكرهم بعنصر الضعف والبداوة؛ ولذا كره الإسرائيليون أن يشتهروا بهذين الاسمين.

ومن حيث نشأة اليهود: إن اليهود أمة منعزلة عن سائر الأمم تكره الاختلاط بغيرها، فهم عاشروا المصريين، ومع ذلك لم يأتلفوا معهم حتى جاءهم موسى -عليه السلام- وأخرجهم من مصر برغم أنهم سادوا أيام يوسف -عليه السلام- وكان يمكنهم أن يمتزجوا مع أبناء الشعب بصورة كاملة، وعلى مر العصور لازمتهم جبلتهم، فلقد عاشوا في بلدان عديدة مددًا طويلة، ومع ذلك خرجوا منها مطرودين، أو محاطين بالكراهية والمكر. وقد عُرِفَ اليهودي المعاصر بأوصافه الخاصة القائمة على حب الذات والتعصب، ومحاولة فرض السيادة على العالم كله بمنهج مرحلي؛ معتمدًا في مسلكه على تعاليم اليهود الأوائل الذين تركوا له كتبًا تحدد له المنهج الواجب الاتباع، فاليهود بقايا متحجرة أي: أنها مجتمعات استثنائية منعزلة قد بقيت من عصر سابق، كما أن المتحجرات سجل باقٍ لأشكال الحياة التي وجدت في الأعصر الخالية. يقول الأستاذ عباس العقاد: "إن إصبعًا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية، وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها المجتمع الإنساني في جميع الأزمان؛ فاليهودي "كارل ماركس" وراء الشيوعية التي تهدم الأخلاق والأديان؛ واليهودي "دور كايم" وراء علم الاجتماع الذي يحلق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة، ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب، واليهودي "جان بول سارتر" وراء الوجودية التي نشأت معززة لكرامة الفرد مجنحًا بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة، ومن الخير أن ندرس المذاهب الفكرية، كلما شاع منها مذهب جديد،

المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة.

ولكن من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دونما، وراءها من عوامل المصادفة العارضة، والتدبير المقصود". المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة تلك إشارة حول اليهودية من حيث التسمية والنشأة، فماذا عن المصادر مما شاع عند الناس، أو ما هو معروف أن التوراة هي كتاب اليهود، أو المصدر الأساسي لهذه الديانة؟ ينبغي أن نعلم جيدًا أن التوراة، أو العهد القديم كما يسمونها ليست وحدها هي المصدر المقدس عند اليهود، بل هناك مصادر أخرى لا تقل قداسة عن التوراة، بل تزيد عنها كثيرا، وخاصة في العصر الحديث، وهذه المصادر هي: أولًا: العهد القديم أو التوراة، ثانيًا: التلمود، ثالثًا: بروتوكولات حكماء صهيون، وهي من حيث القداسة أهمها، وأقدسها عند اليهود المعاصرين بروتوكولات حكماء صهيون. وثانيًا: التلمود، وأخيرًا: العهد القديم. وقد ساد الظن أمدًا طويلًا في أن الأسفار التي دونت قبل ميلاد المسيح هي وحدها الكتب، أو كتب اليهود المقدسة؛ لأنها الكتب المعروفة والمدونة، وهي التي ورد ذكرها على ألسنة المسلمين والمسيحيين إلا أن الظن لم يدُم طويلًا بعدما ظهرت كتب أخرى من أهمها التلمود والبروتوكولات مع عدد من الشروح المتعلقة بهما. وقد عرف بعدُ أن اليهود قصدوا إخفاء هذه الكتب عن العالم؛ لما فيها من تعاليم تسيء إلى غير اليهود بل ليست مجرد إساءة فقط، ولكنها كيفية التخلص من هذا

العالم؛ ليبقى اليهود وحدهم، وإن كان لابد من بقاء العالم، فليكن خدمًا وحميرًا لشعب الله المختار. نتعرف على هذه المصادر واحدًا تلو الآخر، أولًا: العهد القديم: يذكر العهد، ويراد به الميثاق العهد هو الميثاق الذي أخذه الله على عباده؛ ليلتزموا بما عاهدهم عليه. وينقسم العهد في الاصطلاح الديني إلى قديم وحديث؛ باعتبار بعثة المسيح -عليه السلام- فما كان قبله يعرف بالعهد القديم، ويسمى التوراة، وما كان بعده يعرف بالعهد الجديد، ويسمى الإنجيل، وأول من أطلق اسم العهد القديم بولس الرسول كما يزعم النصارى في رسالته الثانية إلى أهل "كورنثوس" إذ قال: "بل أغلظت أذهانهم؛ لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه، عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف" الرسالة الثانية إصحاح 3 فقرة 14. وتشير الفقرة إلى عادة يهودية، وهي وضع برقع على الوجه عند قراءة شيء من العهد القديم لغلظةِ قلوبهم. هذا من حيث معنى العهد. أما العهد اصطلاحًا: فالعهد القديم كتاب اليهودية الرئيسي حيث يحتوي على الشريعة والتعاليم الإلهية، كما يتضمن تفصيلات التاريخ اليهودي، ويحتوي كذلك على ألوان من الآداب، والأشعار الإرشادية، وأيضًا ففيه تصوير للعقيدة، وسير لأنبياء بني إسرائيل، هذا ويزعم اليهود أنهم يعتمدون في عبادتهم وتشريعاتهم، وآرائهم، ومعاملاتهم على ما جاء في التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى -عليه السلام- والتوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، أو التعاليم الدينية.

فقد اعتمد اليهود تسعة وثلاثين سفرًا أطلق عليها اسم العهد القديم، ويعتبرونها أسفارًا مقدسة أي: موصى بها، ويطلقون على خمسة منها إطلاقًا حقيقيًا اسم التوراة، أو كتب موسى؛ لأنها في زعمهم أنزل الله على موسى -عليه السلام- وكتبها موسى بنفسه، وهذه الأسفار الخمسة هي سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر التثنية، وسفر اللاويين، وسفر العدد. أما الأربعة والثلاثون سفرا الباقية؛ فمنسوبة إلى أشخاص كتبوها بعد موسى -عليه السلام- بأزمانٍ متفاوتة في الطول والقصر، وهي: يشوع، والقضاة، وراعون، وصموئيل الأول، وصموئيل الثاني، والملوك الأول، والملوك الثاني، وأخبار الأيام الأول، وأخبار الأيام الثاني، و"عزرا" و"نحميا" و"إستير" و"أيوب" و"المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد و"إشعياء" و"إرمياء" و"مراثي" "إرمياء" و"حزقيال" و"دانيال" و"هوشع" و"يوئيل" و"عاموس" و"عويديا" و"يونان" و"ميخا" و"ناحوم" و"حبقوق" و"صفنيا" و"حجا" وزكريا وملاخ. وهذه الأسفار الأربعة والثلاثون مقدسة أيضًا عند اليهود، ويطلق عليها تجوزًا مع الأسفار الخمسة السابقة اسم التوراة من باب إطلاق الجزء على الكل. والأسفار في جملتها صبغتها دينية إلا أن منها ما يغلب عليه الطابع التاريخي كأسفار التكوين والخروج، ويشوع، والقضاة، وأخبار الأيام و"عزرا" و"نحميا" ومنها ما يغلب عليه الطابع التشريعي، والأخلاقي، والتوجيهي كأسفار اللاويين، والمزامير، والجامعة، و"إشعياء" و"مراثي إرمياء" كذلك منها ما هو طويل كسفر التكوين، والمزامير، و"إشعياء" و"إرمياء" ومنها ما هو قصير كسفر "عويديا" و"حجى" و"حبقوق". بعد هذا التعريف الموجز للأسفار المقدسة عند اليهود، والتي يطلقون عليها اسم التوراة نسأل هل هذه الأسفار المقدسة عندهم هي التوراة التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام-؟

للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الذي ينظر في هذه الأسفار يجد فيها من التناقض والافتراء والانحراف عن الحق، وسوء التعبير ما يجعله يحكم عليها بأنها في مجموعها ليست هي التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى -عليه السلام- وهذه بعض الأدلة على ذلك. أولًا: اعترف القرآن الكريم بالتوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى -عليه السلام- ومدحها في آيات كثيرة من ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 2 - 4) وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44). وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن اليهود قد امتدت أيديهم إلى التوراة فحرفوها، وبدلوها وأخفوا منها ما لا يتفق مع أهوائهم وشهواتهم كما قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 75 - 79). كما قال تعالى: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) كما قال تعالى أيضًا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا

قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13). بل إن التوراة ذاتها قد ذكرت هذا التحريف بصريح العبارة في كثير من نصوصها ومنه: "ماذا يصنع بي البشر اليوم كله يحرفون كلامي" سفر المزامير إصحاح 56 الفقرة 4، 5، وفيها أيضًا كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب" سفر إرميا إصحاح 8 فقرة 8، وفيها: "أما وحي الرب فلا تذكروه؛ لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه؛ إذ قد حرفتم كلام الإله الحي" سفر إرميا إصحاح 23 فقرة 36. وفيها أيضًا: "اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم، وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات، وأشهد عليهم السماء والأرض؛ لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون، وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام؛ لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم" سفر التثنية إصحاح 31 فقرة 28 و29. وفيها كذلك: "ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم في الظلمة، ويقولون: من يبصرنا، ومن يعرفنا يا لتحريفكم" سفر إشعياء إصحاح 29 الفقرة 15، 16. وفيها أيضًا: "حتى من يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم أي: طبيعته معوجة ملآنة من الشر والحماقة كما هو في قاموس الكتاب المقدس، بل هم أنبياء خداع قلبهم الذين يفكرون أن ينسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه كما نسي آباؤهم اسمي لأجل البعث النبي الذي معه حلم فليقص حلمًا، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمة الحق، ما للتين مع الحنطة".

يقول الرب: سفر إرميا إصحاح 23 الفقرة 26 إلى 28 وفيها أيضًا: "فلا تسمعوا لكلام الأنبياء، والذين يكلمونكم قائلين: لا تخدموا ملك بابل؛ لأنهم إنما يتنبئون لكم بالكذب؛ لأني لم أرسلهم يقول الرب بل هم يتنبئون باسمي بالكذب؛ لكي أطردكم فتهلكوا أنتم والأنبياء الذين يتنبئون لكم" سفر إرمياء إصحاح 27 فقرة 14، و15. فتلك شهادة التوراة على نفسها نستأنس بها مع ما جاء في القرآن الكريم، ومع ما سنفصل القول فيه -إن شاء الله. ثانيًا: نثبت انقطاع سند التوراة؛ فإن التوراة الموجودة حاليًا ليس لها سند متصل إلى موسى -عليه السلام- بل هي على النقيض من ذلك؛ إذ يوجد فيها ما يدل دلالة قاطعة على أنها كتبت بعده بزمن طويل؛ فمثلًا جاء في سفر التثنية بخصوص وفاة موسى -عليه السلام- نص يقول: "فمات موسى عبد الرب في أرض "موآب"، ولا يعرف شخص قبره حتى يومنا هذا" سفر التثنية إصحاح 34 الفقرة 5 و6 بتصرف، فهذا النص هل يحتمل أن يكون كتبه موسى -عليه السلام- وأنه من التوراة التي نزلت عليه، كما جاء فيها أيضًا: "ولم يكن بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى" سفر التثنية إصحاح 34 الفقرة 10. فهل هذا مما أملاه الله لموسى أيضًا، لقد قرأتُ التوراة وتصفحتُهَا، وأمعنت النظر فيها، فوجدتها لا تزيد عن كتاب سيرة يحكي حال موسى -عليه السلام- مع أتباعه، وحال بني إسرائيل من قبل ذلك ومن بعده، بل يحمل في طياته من التناقضات والمخالفات، والاتهامات الشيء الكثير، كما يمكن أن نذكر طرفًا من ذلك بعد إن شاء الله. ومن الواضح: أن مثل هذا الكلام مكتوب بعد وفاة موسى -عليه السلام- هذا وقد أقام الشيخ رحمة الله الهندي أدلة متعددة على انقطاع سند التوراة، فقال ما ملخصه: "اعلم -أرشدك الله تعالى- أنه لابد لكون الكتاب، أو السفر سماويًّا واجب

التسليم أن يثبت أولًا بدليل تام أن هذا الكتاب كتب بواسطة النبي الفلاني، ووصل بعد ذلك إلينا بالسند المتصل بلا تغيير، ولا تبديل والاستناد إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن، والوهم لا يكفي في إثبات أنه من تصنيف ذلك الشخص، وكذلك مجرد ادعاء فرقة أو فرق لا يكفي، ثم برهن على ذلك بالأسفار، وأنه لا سند لكون هذه التوراة المنسوبة إلى موسى -عليه السلام- من تصنيفاته، ويدل عليها أمور منها أن تواتر هذه التوراة منقطع قبل زمان يوشيا بن آمون. والنسخة التي وُجِدَت بعد ثماني عشرة سنة من جلوسه على سرير السلطة لا اعتماد عليها يقينًا، ومع كونها غير معتمدة ضاعت هذه النسخة أيضًا غالبًا قبل حادثة بنوخذ ناصر، أو المعروف باسم بختنصر. وفي حادثته انعدمت التوراة، وسائر كتب العهد القديم عن صفحة العالم رأسًا، ولما كتب عزرا هذه الكتب -على زعمهم- ضاعت نسخها، وأكثر نقولها في حادثة "أنتيوكس". جمهور أهل الكتاب يقولون: إن السفر الأول والثاني من أخبار الأيام صنفهما عزرا -عليه السلام- بإعانة حجي، وزكريا الرسولين -عليهما السلام- وهذان السفران في الحقيقة من تصنيف هؤلاء الأنبياء الثلاثة، وتناقض كلامهم في الإصحاح السابع والثامن من السفر الأول في بيان أولاد بنيامين، وهكذا خالفوا في هذا البيان هذه التوراة المشهورة من وجهين: الأول: في الأسماء والثاني: في العدد حيث يفهم من الإصحاح السابع أن أبناء بنيامين ثلاثة. ومن الإصحاح الخامس: أنهم خمسة، ومن التوراة أنهم عشرة،

واتفق علماء أهل الكتاب: أن ما وقع في السفر الأول غلط، وبينوا سبب وقوع الغلط، ومن قابل الإصحاح الخامس والأربعين والسادس والأربعين من سفر حزقيال بالإصحاح الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر العدد وجد مخالفات صريحة في الأحكام. ومعروف أن حزقيال -عليه السلام- كان منبع التوراة، فلو كانت التوراة في زمانه مثل التوراة المشهورة لما خالفها في الأحكام، وكذلك وقع في التوراة في مواضع عديدة أن الأبناء يؤخذون بذنوب الآباء إلى ثلاثة أجيال، ووقع في الآية العشرين من الإصحاح الثامن عشر من سفر حزقيل "النفس التي تخطئ هي تموت الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن". وَمَن طَالَعَ الزبور، وسفر نحميا، وسفر أرميا، وسفر حزقيال؛ جزم يقينًا أن طريق التصنيف في سالف الزمان كان مثل الطريق المروج الآن في أهل الإسلام إذ من المعروف أن المصنف لو كان يكتب حالات نفسه والمعاملات التي رآها بعينيه يعبر عن نفسه، وهذا الأمر لا يظهر في موضوع من مواضيع التوراة، بل تشهد عباراته أن كاتبه غير موسى -عليه السلام- وهذا الذي هو غير موسى جمع هذا الكتاب من الروايات، والقصص المشتهرة بين اليهود، ثم نسبها إلى الله مرة، وإلى موسى أخرى، وعبر عنه بضمير الغائب لا يقدر أحد أن يدعي بالنسبة إلى بعض الآيات، وبعض الإصحاحات أنها من كلام موسى، بل بعض الآيات تدل دلالة بينة على أن مؤلف هذا الكتاب لا يمكن أن يكون قبل داود -عليه السلام- بل يكون إما معاصرًا له، أو بعده. وعلماء المسيحية يقولون ظنًّا ورجمًا بالغيب: إنها من ملحقات نبي من الأنبياء، وهذا القول مردود؛ لأنه مجردُ ادعاء منهم بلا برهان. ويقول الدكتور/ سكندر

كدس من فضلاء المسيحية المعتمدين في ديباجة الإنجيل الجديد: ثبت لي بظهور الأدلة الخفية ثلاثة أمور جزمًا؛ الأول: أن التوراة الموجودة ليست من تصنيف موسى، والثاني: أنها كتبت في كنعان، وأورشليم، يعني: ما كتبت في عهد موسى الذي كان بنو إسرائيل فيه في الصحارى، والثالث: لا يثبت تأليفها قبل سلطنة داود، ولا بعد زمان حزقيال، بل أنسب تأليفها إلى زمان سليمان -عليه السلام- بمعنى قبل ألف سنة من ميلاد المسيح، أو إلى زمان قريب منه، وليس قبل خمسمائة سنة من وفاة موسى -عليه السلام. وقال غيرهم من علماء المسيحية ومنهم "نورتن": "إنه لا يوجد فرق معتد به في محاورة التوراة، ومحاورات سائر الكتب من العهد العتيق الذي كتب في زمان أطلق فيه بنو إسرائيل من أسر بابل مع أن بين هذين الزمانين تسعمائة عام". ويتحدث الدكتور علي عبد الواحد وافي عن الأزمنة التي كتبت فيها الأسفار المنسوبة إلى موسى -عليه السلام- فيقول: "هذا وأهم أسفار العهد القديم هي أسفار التكوين والخروج والتثنية واللاويين، والعدد التي ينسبها اليهود إلى موسى -عليه السلام- ويعتقدون أنها بوحي من الله، وأنها تتضمن التوراة، ولكن ظهر للمحدثين من الباحثين من ملاحظة اللغات، والأساليب التي كتبت بها هذه الأسفار، وما يشتمل عليه من موضوعات، وأحكام، وتشاريع، والبيئات الاجتماعية، والسياسية التي تنعكس فيها؛ ظهر لهم من ملاحظة هذا كله أنها قد ألفت في عصور لاحقة لعصر موسى بأمدٍ غير قصير، وعصر موسى يقع على الأرجح حوالي القرن الرابع عشر، أو الثالث عشر قبل الميلاد.

وأن معظم سفري التكوين والخروج قد أُلِّفَ حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وأن سفر التثنية قد ألف في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وأن سفري العدد واللاويين قد أُلِّفَا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وأنها جميعًا مكتوبة بأقلام اليهود، وتتمثل في هذه الأسفار عقائد وشرائع مختلفة تعكس الأفكار والنظم المتعددة التي كانت سائدة لديهم في مختلف أدوار تاريخهم الطويل، فهي إذن تختلف كل الاختلاف عن التوراة التي يذكر القرآن أنها كتاب سماوي مقدس أنزله الله تعالى على موسى -عليه السلام. وبهذا نرى أن سند التوراة الحالية منقطع، وأنها كتبت بعد موسى -عليه السلام- بأزمنة مختلفة وبأياد متعددة، ورحم الله الشيخ رحمة الله الهندي فقد تناول في الكلام على أسفار العهدين العتيق والجديد، أي: التوراة والإنجيل كل باب من أبوابها، واستشهد من كلام مؤرخيهم وعلمائهم على تبيان المطعون فيه من الأبواب والآيات، وبين بالحجج الدامغة: أنه لا يوجد لدى علمائهم سند متصل لأيِّ كتابٍ من كتب العهدين ثم تناول بعد ذلك ما في الكتابين من الاختلاف والأغلاط، ثم عقد بابًا خاصًّا؛ لإثبات التحريف في كتب العهدين القديم والجديد مصداقًا لقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء: 46). وأثبت أن بعض هذا التحريف كان عن عمد، وكان يأتي التحريف أحيانًا بالزيادة وأحيانًا بالنقصان وأحيانًا بالتبديل اللفظي، وساق على التحريف بالزيادة خمسة وأربعين شاهدًا، كما ساق على التبديل اللفظي خمسة وثلاثين شاهدًا. أما التحريف: بالنقصان فقد ساق عليه عشرين شاهدًا مما يدل على سعة اطلاع، وتتبع حريص لإقامة الحجة عليهم من كتبهم، فمن أراد معرفة المزيد من تناقض التوراة التي بأيدي اليهود الآن وتحريفها، فليرجع إلى كتاب (إظهار الحق) للشيخ

رحمة الله الهندي يجد فيه ما يشفي الغليل، ويداوي العليل، فليس المقام مقام توسع في نقد التوراة وإظهار تحريفها، ولكنه جاء عرضًا في الموضوع حيث نتحدث عن مصادر اليهود، والتي أولها التوراة. وأذكر ثالثًا: أننا إذا نظرنا إلى التوراة الحالية من حيث المتن نجدها محشوة بالقصص والعبارات المتناقضة التي تتنزل الكتب السماوية الصحيحة عن ذكرها، فإذا تحدثت التوراة عن الله -عز وجل- فكأنهم يتحدثون عن إنسان أو يبدو فيها الإله أشبه بالإنسان في أحوال ضعفه وقوته، وفي ضلاله ورشده، وفي حلمه وجهله حتى لكأن الإله قد اتخذ له خيمة مع اليهود وعاش بينهم؛ ولهذا أمثلة كثيرة قَلَّ أن تخلو منها صفحة من صفحات العهد القديم، وإذا تحدثت عن نبي من الأنبياء، فكأنها تتحدث عن رعاع الناس وسفهاء الخلق، وعن أعتى الناس إجرامًا، وأحط البشرية في ارتكاب الجرائم وانتهاك الحرمات؛ لاسيما الزنا والقتل، والمكر والخداع إلى آخر تلك الصفات والموبقات. وتتحدث في كثير من مواضعها عن الغزل والحب، وتفصيل القول في الجنس والمفاتن مما يعف اللسان عن ذكره، ويتنزه بعض الفساق أحيانًا عن قوله فضلًا عن فعله؛ فإذا وقفت على هذا، فكأنك أمام كتاب جنسٍ فاضحٍ لو لم يكن توراة مقدسة عند اليهود؛ لكان محظورًا دوليًّا ومحرمًا قانونيًّا، هذا وناهيك عن الأغلاط، والتحريفات والمتناقضات، والركاكة وسوء التعبير والتكرار من غير فائدة ولا حكمة. فالتوراة مليئة بهذا التحريف، وهي تحدثنا عن الله -عز وجل- تنسب إليه الجهل، والتعب، والخوف والطيش، وما إلى ذلك، وتنسب إلى نوح -عليه السلام- أنه سكر

وتعرى، وإلى لوط أنه زنى بابنتيه وأنجب منهما "موآب" و"عامون"، وأن إبراهيم سجد للناس، وأنه ضحى بسارة، وتنسب إلى يعقوب أنه كذب على أبيه، وعيسو احتال عليه، وتنسب إلى هارون أنه صنع العجل لبني إسرائيل، وتنسب إلى داود أنه زنا، وقتل بطريقة ماكرة خبيثة لا تصدر إلا من أفسق الفاسقين في الأرض، ولم يتورع كتبتها عن ذكرها في كتاب ينسبونه زورًا وبهتانًا إلى الله تعالى الذي يختار رسله من صفوة خلقه. وأما عن النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-: فقد ذكر في التوراة، ومع ذلك أنكروا نبوته وحذفوا الكثير من البشارات بالنبي -صلى الله عليه وسلم- جيلًا من بعد جيل، وقبيلًا من بعد قبيل، أفلا يدل كل ذلك على تحريف التوراة؟ بلى فنحن أمام أقدم المصادر ألا وهو التوراة، أو المسمى بالعهد القديم، وهذا حاله من حيث تحريفه، وبيان أنه ليس كتابًا من عند الله -تبارك وتعالى- على ما هو عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 المصدر الثاني لليهودية: التلمود.

الدرس: 6 المصدر الثاني لليهودية: التلمود.

تعريف التلمود، ونشأته، ولغته، ومحتواه، ومنزلته عند اليهود.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (المصدر الثاني لليهودية: التلمود) تعريف التلمود، ونشأته، ولغته، ومحتواه، ومنزلته عند اليهود الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد: وقفتنا هذه حول المصدر الثاني من مصادر اليهودية ألا وهو التلمود: فما هو التلمود؟ وما اشتمل عليه، وهل هو تلمود واحد أم أكثر؟ نشير إلى بعض الحقائق حول هذا التلمود الذي كان مخفيًّا حينًا من الزمان، والذي لا يعرفه كثير من الناس. فأقول بادئ ذي بدء: قد علمت أن الأسفار المقدسة عند اليهود ليست هي التوراة وحدها، بل هذا التلمود كتاب مقدس آخر يعتبرونه في منزلة لا تقل عن منزلة التوراة، بل على العكس من ذلك هو أرقى، وأقدس في نظر اليهود من التوراة. هذا الكتاب هو التلمود، والتلمود اسم مأخوذ من كلمة لامود العبرية، ومعناها تعاليم، وبهذا كان التلمود هو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية، وهو الذي يفسرها ويبسطها، التلمود لغة؟ كلمة عبرية مأخوذة من كلمة لامود، والتي تعني في العربية تعاليم، واصطلاحًا هو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية، وهو الذي يفسرها ويبَسَّطُهَا.

ويرى اليهود: أن نص التلمود مقدس، وموحى به من عند الله تعالى، ويذكرون أن الله تعالى قد خاطب به موسى -عليه السلام- ويستدلون على هذا بما جاء في سفر الخروج حيث جاء: "وقال الرب لموسى: "اصعد به إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة، والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم" سفر الخروج الإصحاح الرابع والعشرون الفقرة 12. يقول "سيمون بن لاكيس": هو حاخام يهودي وضع تفسيرًا للتوراة في تفسير هذا النص: إن المراد من الألواح الوصايا العشر، والشريعة هي القانون المكتوب المنسوب إلى الأنبياء والوصايا هي التلمود، أو المشناة أي: أصل التلمود قبل شرحه، ويتشهد بلفظة كتبتها على قداسة نص التلمود، وأنه من كتابات موسى المقدسة، وأما لفظة لتعليمهم، فتفيد قداسة شروح التلمود المسماة بالجمارة؛ لأن الشروح تأتي أثناء التعليم، وسواء صح هذا التفسير أم لم يصح؛ فإنه يدل على إيمان اليهود بقداسة التلمود". وهم يرون: أنه ظل يتنقل شفاهةً منذ عهد موسى -عليه السلام- جيلًا بعد جيل حتى عرف بالقانون الشخصي المتداول مع العهد القديم القانون المكتوبـ، ويدعي اليهود أن التعاليم الشفوية انتقلت من موسى -عليه السلام- إلى "جوشو وهذا نقله إلى الشيوخ السبعين، وهم نقلوه بدورهم إلى الرسل الذين نقلوه إلى كبير اليهود، وأخذ يتنقل بين عدد من الرابيين مشافهة حتى تمت كتابتها. وفي خلال القرن الثاني الميلادي لوحظ أن معرفة اليهود بدأت تتناقص كما أن التلمود القانون الشفهي أخذ يندثر، ويدخل في عالم النسيان، وأيضًا فإن الشعب اليهودي نفسه أخذ يتشتت في الأرض في هذا القرن ظهر الرابي "جيهوزا" الملقب بالقديس والأمير، ولاحظ هذا الوضع فسعى إلى معالجتها للحفاظ على

القانون الشفهي بمبادرته إلى جميع اللوائح المشار إليها في كتاب سماه (مشناة) أي: القانون الثاني، أو القانون المساعد. وقد احتوى هذا الكتاب على ستة أجزاء رئيسة، وعلى هذا يكون التلمود هو القانون الشفهي، و (المشناة) هي الكتاب التلمودي المدون، وقد اعتمد اليهود المشناة على أساس أنه المرجع الرسمي الموثوق به، والتعبير الصادق عن قانونهم؛ ولذلك تم توزيعه مكتوبًا على الأكاديميات اليهودية في كل مكان فيه أقليات يهودية، واهتمامًا بكتاب المشناة أخذ رجال القانون اليهودي في شرحه، وإقامة المناظرات حوله، والاجتهاد في استخراج أحكام جديدة منه، وحتى لا يضيع هذا الجهد كان يكتب، ويدون مع المشناة، وسمي المكتوب بالجمارة. وعلى هذا فقد كونت المشناة، والجمارة كتابًا واحدًا هو التلمود على اعتبار أن المشناة هي القانون الثاني المكتوب والجمارة هي تحرير لآراء اليهود وشروحهم المتصلة بالمشناة، وإن لم تتناول كل المشناة لكنها اعتبرت جزءًا من التلمود؛ لأنها صدرت من مدارس يهودية لا من فرد واحد، وقد اشتهرت مدرستا بابل والقدس مع الجمارة حتى ظهر التلمود بنسختين، هما: تلمود بابل، وتلمود القدس أورشليم، كما ضم شروحًا أخرى، وتعليقات كذلك للرابي "أشعيا" و"أشير" و"البيسك توسيفوث". ماذا عن تلمود القدس وتلمود بابل؟ أدى اهتمام مدرسة القدس، ومدرسة بابل بالمشناة إلى وضع شرحين لها؛ وبالتالي ظهر تلمود القدس، وتلمود بابل،

ويعرف تلمود القدس بتلمود فلسطين أو أورشليم، وقد تم جمعه سنة أربعمائة ميلادية بعد تعرض اليهود للاضطهاد والتشريد، ولا تعني تسمية التلمود أنه من وضع علماء القدس. بل إن الواقع يؤكد أن علماء قيسارية هم الذين قاموا بتدوينه بشكل رئيسي، وكان الحاخام "يوحنان" على رأس القائمين بأمر تدوين هذا التلمود، وقد أسهم عدد قليل من علماء القدس مع علماء قيسارية؛ لذلك كانت نسبة التلمود إلى القدس نسبة مجازية، وقد طبع تلمود القدس لأول مرة في البندقية سنة ألف وخمسمائة وثلاثة وعشرين من الميلاد، وتوالت بعد ذلك الطبعات المتعددة بلغات كثيرة، ولغة التلمود هي العبرية، وتشغل القصص والحكايات الخرافية ما يقرب من ربع التلمود. أما تلمود بابل: فقد تم تدوينه خلال مدة طويلة بدأت سنة أربعمائة من الميلاد حيث قام الرابي "آشي" بتدوين تلمود بابل، واستمر التدوين إلى القرن الثامن الميلادي حيث أتم الأحبار هذا التلمود، ووضعوا له الصورة النهائية، وقد تعرض تلمود بابل للحرق والتحريف من أعداء اليهود، وبخاصة في العصور الوسطى يوم أن كان المسيحيون يشعلون النيران أحيانًا في العربات المحملة بالتلمود المطبوع والمخطوط. وقد طبع تلمود بابل عدة مرات، وترجم إلى اللغات العالمية الرئيسية، وفي هذا التلمود من القصص والحكايات ما يشغل ثلثه هذا، ويفترق تلمود بابل عن

تلمود القدس في الكم والكيف، فتلمود القدس يبلغ ثلث تلمود بابل، وينقصه العمق المنطقي، والشمول الجامع اللذين يمتاز بهما تلمود بابل، وتلمود القدس دون بالعبرية، وتلمود بابل لغته آرامية شرقية. كان هذا تعريفًا عن التلمود لغة واصطلاحًا، ومن حيث نشأته ولغته، ونوعيه تلمود القدس وتلمود بابل، ما هو محتوى التلمود؟ وما هي منزلته عند اليهود؟ أشير إلى منزلة التلمود في نظر اليهود قبل الكلام عن محتواه؛ فأقول: تزعم اليهود أن التلمود كتاب منزل من عند الله مثل التوراة، ومنهم من يفضله عليها، وقد ورد في صحيفةٍ من التلمود أن من درس التوراة فعل فضيلة لا يستحق عليها مكافأة. ومن درس التلمود: استحق أحسن الجزاء، ومن احتقر أقوال التوراة؛ فلا جناح عليه، ومن احتقر التلمود استحق الموت، وجاء في التلمود: أن الله قد أعطى الشريعة، وهي التوراة على طور سيناء، وأعطى على يد موسى الكليم التلمود شفهيًّا حتى إذا حصل فيما بعد تسلط أمة أخرى على اليهود يوجد بينهم وبين الوثنيين. وقال أحد الحاخامات: "التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى". وقال الرابي مناحم: "إن الله يستشير الحاخامات على الأرض عندما توجد مسألة معضلة لا يمكن حلها في السماء". وفي كتاب اليهودي "كرافت" المطبوع سنة ألف وخمسمائة وتسعين من الميلاد ما يأتي: "اعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء فهي كالشريعة، وهي مثل قول الله الحي، فمن يجادل حاخامه؛ فكأنه يجادل العزة الإلهية" وقد أمر مؤلفو التلمود بما يأتي.

نماذج مما اشتمل عليه التلمود.

إن الحاخامات الذين ألفوا التلمود يأمرون بالطاعة العمياء لهم، فيخطئ من يجادلهم وهم لا يخطئون أبدًا وإن تناقضت أقوالهم، وقد قيل: إن حمار الحاخام لا يأكل شيئًا محرمًا، والحاخام معصوم من كل خطأ؛ فيجب على اليهود تصديقه، والعمل بأوامره مهما كانت. اليهود يصفون التلمود أنه فوق التوراة، والحاخام فوق الله، والله يقرأ وهو واقف على قدميه، وما يقوله الحاخام يفعله الله، إن تعاليم اللاهوتيين في التلمود لهي أطيب من كلام الله أي: الشريعة والخطايا المقترفة ضد التلمود لهي أعظم من المقترفة ضد التوراة، ويقولون أيضًا نعترف جهارًا بسمو التلمود أكثر من كتاب الشريعة الموسوية يعني: التوراة. راجع في هذا (بروتوكولات حكماء صهيون) لعجاج نويهض و (همجية التعاليم الصهيونية) لبولس حنا سعد و (اليهود بين القرآن والتلمود) أستاذ عادل هاشم مرسي. نماذج مما اشتمل عليه التلمود وبعد هذه النظرة حول أهمية التلمود عند اليهود نأتي إلى نماذج مما اشتمل عليه التلمود فنقول وبالله التوفيق: ماذا يقول التلمود عن الله -عز وجل- وعقيدة اليهود في الله -عز وجل- حسبما جاءت في التلمود. جاء في التلمود: أن النهار اثنتا عشرة ساعة في الثلاث الأولى يجلس الله ويطالع الشريعة، وفي الثلاث الثانية يحكم، وفي الثلاث الثالثة يطعم العالم، وفي الثلاث الأخيرة يجلس، ويلعب مع الحوت ملك الأسماك، هذا هو رأي التلمود. وعقيدة اليهود في الله خالق الوجود، ثم انظروا إلى عقلية اليهود أو خبثهم ومكرهم يقولون: الله أخطأ -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا في رأي التلمود، وخطيئة الله هي تركه

لليهود تعساء؛ لذلك يبكي، ويلطم كل يوم فتسقط من عينيه دمعتان في البحر؛ فيسمع دويهما من بدء العالم إلى نهايته، وتضطرب المياه، وترجف الأرض فتحصل الزلازل. ويقول التلمود: إن الله إذا حلف يمينًا غير قانونية احتاج إلى من يحله من يمينه، ولقد سمع أحد الحكماء في بني إسرائيل الله يصرخ يقول: يا لشقاي من ينقذني من قسمي هذا، كما قال، وكما أن الله حنث في يمينه، فقد كذب أيضًا بقصد الإصلاح بين إبراهيم، وزوجته سارة، وبناء على ذلك يكون الكذب حسنًا وسائغًا لأجل الإصلاح. ومن هنا ندرك سر نفاق وكذب اليهود. ويقول التلمود أيضًا: إن الله ليس معصومًا من الطيش؛ لأن الله عندما يغضب يستولي عليه الطيش، كما حصل ذلك منه يوم غضب على بني إسرائيل في الصحراء حلف بحرمانهم من الحياة الأبدية، ولكنه ندم على ذلك عند ذهاب الطيش منه، ولم ينفذ ذلك اليمين؛ لأنه عرف أنه فعل فعلًا ضد العدالة. ويقول أيضًا: إن القمر يقول لله: لقد أخطأت حيث خلقتني أصغر من الشمس فأذعن الله لذلك، واعترف بخطئه. ويقول كذلك: إن الله ندم لما أنزله باليهود وبالهيكل، وأنه ظل يصرخ، ويقول: الويل لي؛ لأني تركت بيتي ينهب، وهيكلي يحرق، وأولادي يشتتون. هكذا يرى التلمود رأيه في الله -عز وجل- تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. ومن عقيدة التلمود في الله -عز وجل- إلى الأنبياء في التلمود، يقول التلمود عن بعض الأنبياء كلامًا أشنع مما جاء في التوراة، ومنه على سبيل المثال.

يقول التلمود في خلق آدم: "أخذ الله ترابًا من جميع بقاع الأرض، وكونه كتلة وخلقها جسمًا ذات وجهين، ثم شطره نصفين، فصار أحدهما آدم، وصار الآخر حواء، وكان آدم طويلًا جدًّا رجله في الأرض، ورأسه في السماء إذا نام كانت رأسه في المشرق، ورجلاه في المغرب، ولما عصى آدم ربه نقص طوله حتى صار كبقية الناس، كذا يقول التلمود: "بعض الشياطين نسل آدم؛ لأنه بعدما لعنه الله أبى أن يجامع زوجته حواء حتى لا تلد له نسلًا تعيسًا، فحضرت له اثنتان من نساء الشياطين، فجامعهما فولدتا شياطين". وكانت حواء أيضًا لا تلد إلا شياطين في هذه المدة بسبب نكاحها من ذكور الشياطين، فانظر هكذا يرى التلمود: اتهام نبي الله آدم بالزنا، واتهام حواء كذلك، وأن آدم ملعون من الله، ومن ذريته كانت الشياطين. ويقول التلمود عن إبراهيم -عليه السلام-: كان إبراهيم الخليل يتعاطى السحر ويعلمه، وكان يعلق في رقبته حجرًا ثمينًا يشفي بواسطته جميع الأمراض، وإذا مس هذا الحجر طيرًا أو سمكًا ميتًا تعود إليه الحياة، كما قال أيضًا: إبراهيم أكل أربعة وسبعين رجلًا، وشرب دماءهم دفعة واحدة؛ ولذلك كانت له قوة أربعة وسبعين رجلًا، فتعجب. وقول التلمود عن سليمان -عليه السلام-: كان سليمان الحكيم يستخدم أمهات الشياطين المشهورات، وهن أربع، ويجامعهن بما له عليهن من سلطان إلى آخر هذا الهراء والهذيان والافتراء، والكذب على أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة وأزكى السلام.

وأنتقل إلى تعاليم التلمود فيما يتعلق بالمسيحيين: أولًا: تعاليمه عن المسيح -عليه السلام-: كثير من فقرات الكتب التلمودية تبحث في مولد يسوع المسيح وحياته، وموته وتعاليمه، لكنها لا تشير إلى الاسم نفسه دائمًا، بل تطلق عليه أسماء متعددة مثل ذاك الرجل؛ رجل معين، ابن النجار، الرجل الذي شنق إلى آخر هذه الألفاظ التي تشير إلى المسيح دون التصريح باسمه، ويقول: يدعى مسيحي من يتبع تعاليم ذاك الرجل الكاذبة الذي يعلمهم الاحتفال بالعيد الديني عند أول يوم يلي السبت. يعلم التلمود: أن يسوع المسيح كان ابنًا غير شرعي حملته أمه خلال فترة الحيض، وكانت تقمصه روح عيسو، وأنه مجنون، ومشعوذ، ومضلل صلب، ثم دفن في جهنم فنصبه أتباعه منذ ذلك الحين وثنًا لهم يعبدونه، ويدعوه البعض مجنونًا ومخبولًا، وكذلك ساحر مشعوذ وثني معبود كإله بعدما قتله أتباعه، وأن المسيح كذب وهرطقة، وتعاليم مستحيلة الإدراك، انظر (فضح التلمود). ثانيًا: تعاليمه عن المسيحيين: يدعى المسيحيون في لغة التلمود باسم "نوتساريم" أي: ناصريون نسبة إلى يسوع الناصري من مدينة الناصرة في فلسطين؛ غير أن المسيحيين يدعون كذلك بأسماء أخرى يستعملها التلمود للدلالة على غير اليهود. وعن ديانتهم يقول: "ديانة غريبة وثنية مع أن تعاليمهم متنوعة فكلهم عبدة أوثان، ويأكلون لحم الخنزير أغوياء غرباء بلهاء لحم ودم، وإن الرجال غير الروحيين الذين كتب عليهم الهلاك في قرار الجحيم، لن يتمكنوا من إقامة صلة

حميمة مع الله عصاة لا يطيعون الله، أسوأ نوع من الناس القتلة الفاسقون، الحيوانات القذرة كالغائط، بل إنهم لا يستحقون أن يسموا بشرًا فهم بهائم بأشكال آدمية، بل إنهم أهل لتسميتهم ببهائم بقر حمير خنازير كلاب، لا بل إنهم أسوأ من الكلاب يتناسلون بطريقة أردأ من البهائم أصلهم شيطاني بهيمي، أرواحهم تولد من الشيطان، وإلى الشيطان تعود في الجحيم بعد الممات، وأنه لا تختلف جثة مسيحي ميت عن حيوان إنهم الزناة نجسون يشبهون الروث ليسو كالبشر، بل هم بهائم أسوأ من الحيوانات، كذا في كتاب (فضح التلمود) من ص77 إلى 106 بتصرف. ثالثًا: حول الطقوس المسيحية وعبادتها: بما أن اليهود ينظرون إلى المسيحيين باعتبارهم، وثنيين فمن الطبيعي أن تكون جميع أشكال عبادتهم في نظر اليهود وثنية أيضًا، فكهنتهم يدعون كهنة بعل كنائسهم تدعى بيوت الكذب والوثنية، ويعتبر كل ما تضمه هذه الكنائس أيضًا من كؤوس القربان وتماثيل وكتب، إنما وجدت لتكون طعامًا للأوثان وصلاتهم الخصوصية، والعامة معًا هي صلوات أثيمة، وعدوانية بالنسبة للرب بينما تدعى أعيادهم الدينية بأيام الشيطان، وبناء عليه يجب تجنب المسيحيين؛ لأنهم لا يستحقون المشاركة في العادات اليهودية؛ ولذا على اليهودي ألا يحيي مسيحيًّا، وألا يرد عليه التحية، ولا يمثل أمام قاضي مسيحي، ولا يجوز قبول مسيحي شاهدًا أمام القضاء. ولا يجوز لليهودي أن يأكل طعامًا مسيحيًّا، وعلى اليهودي ألا يحاكي المسيحي في أيِّ عملٍ؛ وذلك لأنهم نجسون وثنيون، ويجب عدم التعامل مع المسيحيين،

وعدم استعمال أي شيء يتعلق بالديانة المسيحية، ومحرم بيع المسيحيين أي شيء يتعلق بديانتهم الوثنية، وهذا التحريم لا ينطبق على الملحدين؛ ويجب تجنب المسيحيين؛ لأنهم أشرار لا كظئر، أي: مرضعة، ولا كمعلم، أو طبيب، أو حلاق، أو كطبيب مولد. ويجب إفناء المسيحيين والإضرار بهم، والامتناع عن نفعهم، وكذلك الثناء عليهم، ولا يجوز لليهودي الإشارة إلى الأشياء التي يستعملها المسيحيون في طقوسهم الوثنية، ويجب التلفظ بأوثانهم في ازدراء، ومحذور منح هبات للمسيحيين، ومحرم عليه بيع أرضه، أي: مزرعته من المسيحيين، وتعليم التجارة لهم، ويجب الإضرار بأعمالهم، فيجب ألا يوشي أحد إذا دفع المسيحيون أكثر مما ينبغي لليهودي، والمفقود الذي يخص المسيحيين يجب ألا يعاد إليهم كما يجوز الاحتيال عليهم، ويستطيع اليهودي التظاهر بالمسيحية للاحتيال على المسيحيين. كما يجوز له التعامل بالربا معهم، ويجب الإضرار بالمسيحيين في المسائل الشرعية، فيستطيع اليهودي الكذب، والحلف بيمين كاذبة لإدانة مسيحي، كما يستطيع أن يحلف يمين كاذبة بضمير صاف، ويجب الإضرار بهم على صعيد الأمور الحياتية الضرورية؛ فعلى اليهودي محاولة خداع المسيحيين دائمًا، ويجب الامتناع عن مساعدة مريض مسيحي، ويجب الامتناع عن مساعدة امرأة مسيحية عند مخاضها، ويجب الامتناع عن مساعدة مسيحي يواجه خطر الموت، ويجب قتل المسيحيين دون رحمة، ويحكم بالموت على اليهود الذين يتعمدون بمعنى يتحولون إلى المسيحية، ويجب قتلهم؛ لأنهم طغاة وقتل الأمراء أولًا حكام الفاتيكان، وأكثر ما يكره اليهود الإمارة التي عاصمتها روما الفاتيكان.

وأخيرًا جميع المسيحيين حتى أفضلهم يجب قتلهم، واليهودي الذي يقتل مسيحيًّا لا يقترف إثمًا، بل يقدم إلى الله أضحية مقبولة، والأضحية الوحيدة الضرورية بعد هدم الهيكل هي إفناء المسيحيين، والذين يقتلون المسيحيين سيحتلون مكانًا ساميًا في الجنة، وعلى اليهود ألا يكفوا عن إبادة الغويم، أو الجويم، وهو اسم الأمميين من غير اليهود، وألا يدعوهم في أمان، ولا يخضع لهم، فجميع اليهود مكرهون على التماسك معًا لتحطيم الخونة بينهم، ولا يحول، أي: يعيد ولا أية مسألة مهما كانا مقدسين دون ضرب عنق مسيحي، وليكن الهدف الوحيد من جميع نشاطات، وصلوات اليهود هو تحطيم الديانة المسيحية في صلواتهم يتلهف اليهودي لمجيء المسيا مسيحهم؛ خصوصًا في ليلة فصحهما. هذه النصوص تراجع بنصها، وترجمتها في كتاب (فضح التلمود) تعاليم الحاخامين السرية، ويقول يكفي في الباطل عرضه ليفتضح أمره، وهذا موقف اليهود مع إخوانهم، أو أبناء عمومتهم أصحاب الكتاب الواحد معهم، فكيف يكون حالهم مع غير هؤلاء إذن. ننتقل نماذج من التلمود فيما يتعلق بالعرب وغيرهم: أ- يقول التلمود: المخلوقات نوعان: علوي وسفلي، والعالم يسكنه سبعون شعبًا بسبعين لغة، وإسرائيل صفوة المخلوقات، واختاره الله؛ لكي تكون له السيادة العليا على بني البشر جميعًا سيادة الإنسان على الحيوان المدجل، والعرب هي الأمة المحتقرة لم يتاجروا إلا بالجلود، وبعض الزيوت النباتية للتداوي بها، ومن العار الزواج بعربية، والعرب يعبدون الأصنام، والعرب هم مرتكبو تسعة أعشار الجرائم في العالم، والعربي يعبد الغبار الذي يعلق بصندله.

ب- اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض الأجنبية؛ لأن المرأة غير اليهودية تعد في شريعة اليهود بهيمة، والعقد لا يجوز بين بني الإنسان وبين البهائم. إذا سرق غير اليهودي شيئًا، ولو كانت قيمته تافهة جدًّا؛ فإنهم يستحقون الموت؛ لأنهم قد خالفوا الوصايا التي قد أوصاهم بها الله، وأما اليهود فلا شيء عليهم؛ لأنه جاء في الوصايا لا تسرق مال القريب، والأمي ليس بقريب، لا تظلم الشخص الذي تستأجره لعمل ما إذا كان من إخوتك. أما الأجنبي؛ فمستثنى من ذلك، وفي القضاء إذا جاء أجنبي وإسرائيلي أمامك في دعوى، وأمكنك أن تجعل الإسرائيلي رابحًا فافعل. وقل للأجنبي: هكذا تقضي شريعتنا، وهذا إذا كان في مدينة يحكمها اليهود. وإذا أمكنك ذلك وفقًا لشريعة الأجنبي، فاجعل الإسرائيلي رابحًا وقل للأجنبي هكذا تقضي شريعتك، وإذا لم تتمكن في الحالتين، فاستعمل الغش والخداع في حق هذا الأجنبي حتى تجعل الحق لليهودي، إن غير اليهودي لا يختلف بشيء عن الخنزير البري؛ فالمرأة اليهودية التي تخرج من الحمام عليها أن تستحم ثانية إذا وقع نظرها لأول مرة على نجس كالكلب والحمار والمجنون وغير اليهودي، والجمل، والخنزير، والحصان، والأبرص. إن عبدة الأوثان الذين لا يعتنقون الدين اليهودي، والمسيحيين المؤمنين بيسوع المسيح، والمسلمين التابعين للنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- هم في نظر اليهود أعداء الله وأعداء اليهود، ومن هنا نستخلص أن العالم كله بما فيه من مسلمين، ومسيحيين في نظر اليهود، وتعاليمهم أعداء لهم يسمح التلمود لأصدقاء الله وأقاربه في أن يضلوا الأشرار؛ ولأنه مكتوب: "كن تقيا مع الأتقياء وشريرا مع الأشرار، ممنوع

السلام على الكفار، والرياء مسموح به، ولعن رؤساء الأديان سوى اليهود ثلاث مرات كل يوم. ويمكنك أن تغش الغريب، وتدينه بالربا الفاحش، ولكن إذا بعت، أو اشتريت لقريبك اليهودي، فلا يجوز لك أن تساومه أو تراوغه، إذا رد أحد إلى غريب ما أضاعه؛ فالرب لا يغفر له أبدًا، ممنوع عليك رد ما فقده الغريب، ولو وجدته إذا أعطى اليهودي معلومات عن يهودي هارب من وجهٍ غريبٍ له عليه دين مستحق؛ فالهارب لا يستوجب الإدانة أكثر من أخيه الذي سعى به، وعلى هذا سبب الوشاية أن يعوض على أخيه ما خسره بسبب الوشاية. وفي التلمود: اهدم كل قائم، لوث كل طاهر، احرق كل أخضر؛ كي تنفع يهوديًّا بفلس، اقتل عبدة الأوثان، ولو كانوا من أكثر الناس كمالًا، من يرفع وثنيًّا من حفرة وقع فيها؛ فإنه يُبْقِي على رجل من عباد الأوثان، والمراد بعبدة الأوثان هنا من ليسو يهودًا، اقتلوا جميع من في المدن من رجل وامرأة، وطفل وشيخ حتى البقر والغنم، والحمير بحد السيف، إذا وقع وثني في حفرة فاسددها عليه بحجر كبير، اقتل الجاحد بيدك إن استطعت على اليهودي أن يقتل من يتمكن من قتله من غير اليهود، وإذا لم يفعل ذلك كان مخالفًا للشرع من يسفك دم الكفار بيده يقدم قربانًا مرضيًّا لله، وهذا يعني كل الأجانب. اقتل الصالح من غير اليهود، ومحرم على اليهودي أن ينقذ أحدًا من باقي الأمم من هلاك، من يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع أمه يمكنه أن يصير حكيمًا؛ لأنه جاء في سفر الأمثال دعوت الحكمة أمًا، ومن يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع خطيبته له أمل كبير في الحصول على صداقة الشريعة، ومن يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع شقيقته له أمل كبير بإنارة نفسه، ومن يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع امرأة قريبة يحصل على السعادة الخالدة.

وجميع خيرات الأرض ملك لبني إسرائيل، بل الأرض وما فيها، ومن عليها مِلْكٌ لليهود وحدهم، ولهم التصرف الكامل فيها، فقد سلط الله اليهود على أموال باقي الأمم ودمائهم، هكذا في كتاب (التلمود)، و (همجية التعاليم الصهونية). وهذا يكشف سر غطرسة اليهود للتملك لكل شيء، والتسلط على كل شيء عملًا بما أشار إليه التلمود كذا زعم التلمود، كما أن ربة البيت تعيش من خيرات زوجها هكذا أبناء إسرائيل يجب أن يعيشوا من خيرات الأمم، أمم الأرض دون أن يتحملوا عناء العمل لولا اليهود؛ لامتنعت البركة من الأرض وانقطع المطر، وانحجبت الشمس؛ لذلك لا يستطيع شعوب الأرض الحياة بدون الإسرائيليين؛ إن اليهود أحب إلى الله من الملائكة؛ فالذي يصفع اليهودي كمن يصفع العناية الإلهية سواء بسواء، إن المفاضلة لموجودة بين جميع الأشياء، فكما أن الإنسان يعلو البهيمة كذلك اليهود هم أرفع شعوب الأرض. إن مدافن غير اليهود تثلج صدور أبناء إسرائيل؛ لأن اليهود وحدهم هم البشر، أما الشعوب الأخرى فليسوا سوى أنواع مختلفة من الحيوانات بل غير اليهود كلاب عند اليهود بحسب تعاليم التلمود لا يسمح بإعطاء اللحم لغير اليهود بل للكلب؛ لأنه أفضل من غير اليهودي. إن بيوت غير اليهود زرائب للحيوانات، الناس حيوانات في صور إنسان، وهم حمير وكلاب وخنازير يركبهم شعب الله المختار، النصارى والمسلمون، وعبدة الأوثان خلقوا عبيدًا لهم، أي: لليهود اليهود منحدرون من الله، كما ينحدر الابن من أبيه، وشعوب الأرض مشتقة من الأرواح النجسة، ولم يعطوا صورة إنسانية إلا إكرامًا لبني إسرائيل؛ ليتسنى لهم التعامل معهم، قريب اليهودي هو

اليهودي فقط، ويلزم بغض غير اليهودي سرًّا، وغير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا. قال الرابي يهوذا: "إنه مصرح لليهودي أن يقرض أولاده وأهل بيته بالربا؛ ليذوقوا حلاوته ويقدروه حق قدره". أقول: هنيئًا لكم أيها اليهود بالربا وحلاوته، والجشع ومرارته، ويوم القيامة سترون نتيجة التحريف على الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، هذا ويقول التلمود: "الغاية تبرر الوسيلة، ويجوز استعمال النفاق مع الكفار، والكفار في نظر اليهود هم غير اليهود". ومن هنا ندرك سر فلسفة اليهود في ظلمهم، وعداوتهم للناس جميعًا؛ إن نفاق اليهود معروف، أما كبرهم فغير مألوف، إنه مصرح لليهودي أن يسلم نفسه للشهوات إذا لم يستطع مقاومتها؛ بشرط أن يكون ذلك سرًّا، أقول: ولم سرًّا؟ أتخجلون! ومنذ متى؟! وفي التلمود: "ليس للمرأة اليهودية أن تشكو زوجها إذا ارتكب الزنا في مسكن الزوجية" هكذا يقول التلمود، إن كل الكبائر التي يرتكبها اليهود تغفر لهم ما دام من يرتكبها يهوديًًّا، ويموت على دين اليهود، ثم ماذا بعد هذا التحريض السافر على ارتكاب الجرائم مع جميع الناس. إن اليهود يبيحون ارتكاب جريمة الزنا في بيت الزوجية وغيره أيضًا. وقد أباحوا الربا قبل ذلك، وأجازوا القتل بغير حق، وشجعوا على السرقة والكذب، فماذا بقي من المنكرات والمحرمات في شريعة اليهود، ورأي التلمود أن كل المنكرات مباحة لليهود، وجميع المحرمات حلال لليهود؛ فلنأخذ حذرنا بعد أن كشف الستار، ووضح المستور؛ فاليهود أعداء الدين والعقل، والإنسانية، والخلق الكريم.

ويقول التلمود: بعد موت اليهودي تخرج روحه، وتشغل جسمًا آخر. أما اليهود الذين يرتدون عن دينهم بقتلهم يهوديًّا، فإن أرواحهم تدخل بعد موتهم في الحيوانات أو النباتات، ثم تذهب إلى الجحيم تعذب مدة عام كامل ثم تعود ثانيًا وتدخل في الجمادات، ثم في الحيوانات، ثم في الوثنيين، ثم ترجع إلى جسد اليهود بعد تطهيرها، وهذا التناسخ فعله الله رحمةً باليهود؛ لأن الله أراد لكل يهودي نصيب من الحياة الأبدية لا يدخل الجنة إلا اليهود، سيظل المسلمون في النار إلى الأبد؛ لأنهم لا يغسلون سوى أيديهم وأرجلهم، والمسيحيون يدخلون النار؛ لأنهم لا يختتنون، كل الناس يوم القيامة في النار إلا اليهود، هذا ما يزعمه اليهود في التلمود، فتعجب لمثل هذا. راجع (اليهود بين القرآن والتلمود) قال التلمود: كل الأرواح خلقت في الأيام الستة الأولى للخليقة، ووضعها الله في المخزن العمومي في السماء، ويُخْرِجُ منها عند اللزوم، أي: كلما حملت امرأة، وخلق الله ستمائة ألف روح يهودية، وفي كل يوم سبت تجدد عند كل يهودي روح جديدة مع روحها الأصلية، وهي التي تعطيه الشهية للأكل والشرب، وتتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله. أما الأرواح غير اليهودية: فهي أرواح شيطانية، وشبيهة بأرواح الحيوان، قال التلمود: إن المسيح لن يأتي إلا بعد القضاء على حكم الأِشرار الخارجين عن دين بني إسرائيل؛ لذلك يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع امتلاك الأرض لأي أمة غير اليهود، وهذا بيت القصيد كي تظل السلطة لليهود وحدهم إذ من الضروري أن يكون لهم السلطة أينما حلوا، وإن لم يتيسر لهم ذلك كانوا منفيين وأسارى.

ومن هنا يأتي حلم اليهود بأنهم سيملكون الأرض ومن عليها وما عليها، وليس الغرض إلا أموالها، ويعيش اليهود في حرب طاحنة مع باقي الشعوب في انتظار ذلك اليوم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر المنتظر لليهود -نعم لليهود- وحدهم دون غيرهم من عباد الله المخلصين كذا زعموا، وتكون الأمة اليهودية يومئذ في غاية الثراء؛ لأنها تكون قد ملكت كل أموال العالم؛ فالذي يقرأ هذا التلمود وخاصة من اليهود يفهم بوضوح أنه لابد لليهودي أن يسرق وأن يقتل، وأن يزني، وأن يظلم، ويكذب وينافق، ويخون، ولا حرج عليه. هكذا تعاليم التلمود، وها هم اليهود حمائم السلام كما زعموا، فأين التسامح المزعوم؟! ولذلك لا تعجبوا مما يفعله اليهود مع الأسرى العرب، ومع سكان البلاد العربية التي اغتصبوها، ومع إخواننا في فلسطين؛ لأن أعمال اليهود من إرشاد التلمود، ومن هذا لا يعجب العرب، ولا يحزنون إذا شاهدوا اليهود ينهبون أموالهم ويسرقون ديارهم ومحالهم، ويستولون على ممتلكاتهم، ويزنون ببناتهم ونسائهم ويغتصبونهن؛ لأن ذلك بإرشاد التلمود؛ ومن أجل ذلك التحريض السافر على السرقة والنهب، والاغتصاب والقهر، والظلم والفجور، ولا يتحلى اليهودي ولا يمكنه أن يتحلى بالأمانة، أو الصدق أو العفة، أو النزاهة؛ لذلك يتغنى اليهود بالخيانة والغش والخداع والظلم والقهر؛ فأين هذا التسامح المزعوم، وأين السلام الموهوم، وأين المحبة المنشودة، والعفو المرجو أو العدل المنتظر من اليهود. وهكذا كلما عرفنا ما جاء في التلمود انكشف الستار عن اليهود، إن اليهود هم التلمود، ومن هنا كانت تعاليم التلمود، أوفى صورة لنفسية اليهود، بل هي انعكاس لدخائل أعماقهم على صفحات كتاب كانطباع الصورة على المرآة، فهي ترجمة صريحة لهذه الشخصية الموغلة في الخبث والأحقاد حتى ليتساءل بعض الباحثين أيهما صنع صاحبه، وأيهما الأثر أو المؤثر.

وفصل الخطاب في الجواب: أن كلًّا منهما تجسيد لصاحبه في واقع الأمر، فالتلمود تجسيد مكتوب لأخبث ما في النفسية اليهودية من سخائم الضلال واليهودي التلمودي هو تجسيد حي لهذه الشناعات المكتوبة، والمنسوبة للوحي زورًا وبهتانًا، وإذا كانت ضلالة السامري قد تغلغلت فيهم رغم وجود دوافعها وموانعها؛ فإن ضلالات التلمود، وجدت الطريق ممهدًا فتمكنت أولًا؛ لأنها وضعت في عصور الشتات، والقوم سماعون للكذب، وخاصة إذا صدر من أحبار السوء. ثانيًا: لأنها جاءت بعد انقطاع النبوة من بني إسرائيل، وتحويلها عنهم لما كفروا بآخر أنبيائهم؛ وقالوا عنه وفي أمه بهتانًا عظيمًا. ثالثًا: لتوافقها التام مع ظلمات نفسية اليهودية الضالة، ومن هنا نفهم كيف امتزجت هذه التعاليم بالكيان اليهودي، وسرت فيه مسرى الدماء في الخلايا؛ ولهذا آمنت الجمهرة الكبرى من اليهود بهذه التعاليم الفاحشة، وقدستها وأطاعتها عن رضا، وفضلوها على التوراة، والتزموا بها فوق التزامهم بسائر ما لديهم من وصايا وأسفار، ولا يزالون كذلك إلى يومنا هذا، وهم أصحاب الكلمة والسلطان في اليهود جميعًا، ومن يعارض التلمود منهم على قلته يعدونه ضالًا، ولا تأثير له ألبتة. التلمود الذي صنع النفسية اليهودية، والذي أباح الجرائم التي عليها اليهود في كل عصر ومصر إن الذي يقرأ التلمود يدرك جليًّا، لماذا اليهود على تلك الشاكلة؟ ليست فقط تعاليم التوراة المحرفة، والتي سبق الكلام عنها، وهذه تعاليم التلمود على نحو ما ذكرت لك مختصرًا منها أوجدت من اليهود نوعًا من البشر غريب الشكل على مدى التاريخ؛ فلقد عرف التاريخ في بني إسرائيل شر الجماعات التي تصلح أن تكون موضعًا لدراسة الآفات الإنسانية لمن شاء أن يدرس ويفكر ويعتبر.

ولقد حاول بني إسرائيل ألا تكون طباعهم السيئة مقصورة عليهم بل شاءت لهم أهواؤهم، وسولت لهم أنفسهم وشياطينهم أن يطرحوا الآخرين معهم في حمأة الأخلاق الفاسدة، والمنكرات والرذائل، وذلك هو السبب الذي جعلنا نصمم بأنهم جناة على الأخلاق؛ إذ كل رذيلة من رذائلهم المنطوية عليها صدورهم والجاري تعاملهم بها قد استطاعوا بمهارتهم وكيدهم أن يجروا الناس إليها، ويطبعوهم عليها زرافات، ووحدانا حتى صار المجتمع العالمي كله اليوم إلا قليلًا ممن عصم الله مجتمعًا يهودي الصفات والأحوال، وإن لم يكن مجتمعًا يهودي الجنس والنسب. فاليهود بناء على تلك التعاليم لا يؤمنون إلا بالمادة، ولا قيمة للمعنويات عندهم، ولا وزن للأخلاق، ولا نصيب للروح، ولا مكان للمبادئ، ولا محل للصدق والوفاء، ولا وجود للأمانة، والحياء، فهذه أمور لا يعرفها اليهود، وسائر الصفات التي هي فوق كل الغرائز. وهذا الإيمان بالماديات وحدها يقضي على مقومات الأخلاق الإنسانية والاجتماعية، بل على حقيقة الإيمان الديني؛ لأن جزءًا كبيرًا من الدين قائم على ما وراء المادة والغيبيات، ومنه الإيمان باليوم الآخر؛ ولذا نرى اليهود لغلبة المادة وسيطرتها عليهم لا يؤمنون باليوم الآخر، وما فيه وليس أدل على ذلك من أن كتبة التوراة أخلوها من ذكر هذا اليوم، فلم تذكر التوراة شيئًا عن الآخرة ولا عن الملائكة، ولم تذكر جنةً ولا نارًا، وكذا التلمود، وكل ما تَعِدُ به المحسنين مادي دنيوي فحسب.

ولما كانت الحياة الدنيا هي غاية همهم، والمادية هي مبتغاهم الأسمى، بل شعارهم الذي يسيرون وراءه لا يضلون عنه؛ فقد صاروا نفعيين أنانيين يهدمون المبادئ من أجل ذواتهم، ويدوسون المصالح العامة في سبيل منافعهم الشخصية، فحملتهم أنانيتهم، ونفعيتهم أن يسلكوا كل سبيل ملتوٍ، وكل طريق منحرف للحصول على المال والمنافع، فلم يتورعوا عن الكذب، والخداع، والغش، والنفاق، والتضليل. إنهم اليهود من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح، ومن النبي إلى الكاهن كل واحد يعمل بالكذب كذا قالت توراتهم، إننا لا نجد في اليهود إلا الرياء، وملقى الأقوياء والنفاق، وأن يكون للقول ميدان، وللعمل ميدان؛ لقد أشاعوا النفاق في الأرض حتى توهم الناس أنه من لم ينافق ليس بكيس، ومن لم يتملق لم يؤت الحكمة، ومن لم يداهن؛ فهو أحمق، ومن لم يمالئ على الشر فهو داع إلى الفتنة مثير للسوء، ومن يجهر بالحق، فهو معاند مثير للشغب، لقد نشروا النفاق في الأرض كلها، وبثوا له الدعاية بأسماء مختلفة؛ فمرة بأنه الحكمة، وأخرى بأنه الكيس، وثالثة بأنه السياسة الناجحة حتى أشاعوا بين الناس أن السياسة والأخلاق لا يجتمعان؛ وذلك قول الزور، ولقد قرر الحكماء حقًّا وصدقًا أن من يقول: إن الأخلاق لا تجتمع مع السياسة لم يفهم الأخلاق، ولا السياسة، فالسياسة الفاضلة هي والأخلاق متلازمان لا ينفصلان. إن التلمود أوجد اليهود، وجعلهم على تلك الخصال من النفاق والكذب، وشر الخصال الذي يتصف بها إنسان على الأرض، ولا حولا ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 المصدر الثالث لليهودية: بروتوكولات حكماء صهيون، وأهم المعتقدات اليهودية (1).

الدرس: 7 المصدر الثالث لليهودية: بروتوكولات حكماء صهيون، وأهم المعتقدات اليهودية (1).

المصدر الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (المصدر الثالث لليهودية: بروتوكولات حكماء صهيون، وأهم المعتقدات اليهودية (1)) المصدر الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد المصدر الثالث، والأهم والأخير من مصادر اليهودية ألا وهو بروتوكولات حكماء صهيون. وقبل أن أبين معناه أشير إلى أهميته، فأقول: يعود اليهود في استنباط نظمهم وقوانينهم إلى البروتوكولات، كما يعودون إلى العهد القديم والتلمود على اعتبار أن ثلاثتها مقدسة لصدورها على ألسنة الأحبار والحكماء، واشتمالها جميعًا على مجموعة من التعاليم المهمة للفرد، والمجتمع اليهودي؛ ولذلك عد بعض العلماء البروتوكولات مصدرًا من المصادر اليهودية المقدسة، وقداستها تأتي من إخلاص اليهود لتعاليمها بالاحترام، والتعظيم لها، واعتبارها تراثًا خالدًا له أهميته في المحافظة على دور اليهود مع سائر الأمم، أي: أن قداستها أمر اتفاقي؛ ونظرًا لما في توجيهات البروتوكولات أحاطها اليهود بعناية خاصة تفوق سواها على أساس أنها تهتم بالقوانين المفيدة المتصلة بالحياة في العصور الحديثة؛ لدرجة أن اليهود ساعة أن رغبوا في إهمال بعض تعاليم العهد القديم والتلمود حرصوا كل على الحرص على المحافظة على نصوص البروتوكولات مجردة من كل تعليق أو شرح. وإذا سلم أن الوحي الإلهي لم ينزل إلا على موسى -عليه السلام- وأن أغلب أنبياء بني إسرائيل كانوا دعاة ومفسرين ومربين لو سلم هذا يكون القول بقداسة البروتوكولات في مستوى القول بقداسة العهد القديم ما عدا أسفار موسى، وبالتالي لا تقل البروتوكولات عن التلمود في شيء، وما دام اليهود ينظرون للتلمود نظرة خاصة؛ لأنه ينظم الحياة اليهودية، ويقنن العلاقات الاجتماعية

والإنسانية؛ فإن اليهود يرون في البروتوكولات خطة عملية لتحقيق السيادة اليهودية الكاملة في مملكة صهيون العالمية، وإبراز الدور اليهودي في كل نشاط، وعمل على مستوى العالم كله؛ ولذلك كانت نظرتهم إليها محوطة بالعناية، والتقدير والالتزام بكل ما جاء فيها سواء تعلق بسلوك الفرد أو بسلوك الجماعة، هذا عن أهمية البروتوكولات، ومنزلتها في نظر اليهود، فما معنى البروتوكولات؟ تعني: الترجمة الحرفية لكلمة "بروتوكولات" محاضر جلسات أو مضابط الاجتماعات، ولو فهم الاسم بهذا المعنى لأدى إلى أن البروتوكولات عبارة عن عدة قرارات تناقش حولها عدد من الأحبار في عدد من المؤتمرات، وحينئذ يكون اسمها العربي قرارات، أو مقررات وواقع الحال ليس كذلك؛ ولذلك كانت التسمية مجازية. يقول نيلسون: "نحن لا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى أن عنوان البروتوكولات لا ينطبق تمامًا على محتوياتها؛ فهي ليست على وجه التحديد مضابط جلسات بل هي تقرير وضعه شخص ذو نفوذ، وقسمه أقسامًا بلا تناسق، أو اطراد هذا، وإن البروتوكولات مجموعة من الوثائق تضمنتها محاضرة طويلة استغرقت ثلاث جلسات ألقاها زعيم موقور المكانة على جماعة من ذوي الرأي، والنفوذ من اليهود؛ ليستأنسوا بها في كل ما يقدمون عليه حتى تقوم مملكة إسرائيل، ويؤيد ذلك المعنى فواتح بعض البروتوكولات. ففي أول البروتوكول العاشر جاء: اليوم سأشرع في تكرار ما ذكر من قبل في أول البروتوكول العشرين جاء: سأتكلم اليوم في برنامجنا المالي الذي تركته إلى نهاية تقريري؛ لأنه أشد المسائل عسرًا.

والبروتوكولات في ترجمتها العربية تشتمل على أربعة وعشرين بروتوكولات تتصل جميعًا بتنظيم اليهود، وكيفية سيادتهم على غيرهم، وتأسيس مملكة عالمية تعرف بمملكة سليمان، أو مملكة داود، ثم ماذا عن محتويات البروتوكولات، تتكون البروتوكولات المنشورة من أربعة وعشرين بروتوكولًا، وفيها حديث عما يلي أذكره مختصرًا بمعناه لا بنصه في غالب الأحيان. أولا: ضرورة استعمال القوة في تسخير الناس الغرباء، واستعمال الخديعة في إقناعهم، واللجوء إلى الخيانة والرشوة، كلما أمكن ذلك، ومع ذلك فمن الضروري رفع شعارات ذات مدلول طيب بلا ناتج عملي. ثانيًا: ضرورة إقامة حكومات هزيلة لحكم العالم مكونة من العامة، ومن غير المدربين على الحكم مع استغلال قوة الصحافة، وتأثيرها في نشر نفوذ اليهود، والتمهيد لحكومتهم العالمية، وذلك بالذهب المكدس، والمال الكثير، والنساء الجميلات. ثالثًا: ضرورة نشر الكراهية في الأمم الأخرى، وذلك بالوقيعة بين الحاكم والمحكوم، وتشجيع عوامل الفقر، وتدعيم الطائفية، وإيجاد الانقلابات العشوائية حتى يكون الناس على استعداد لتقبل حكم اليهود وسيطرتهم. رابعًا: ضرورة وجود أدوار تجتازها الجمهورية، واستغلال الماسونية عند غير اليهود مع المنافسة الدولية الاقتصادية، ودور مضاربات عبادة الذهب. خامسًا: ضرورة إبراز أفضال الشعب المختار، وآثاره في العلوم والمال والحكم ويجب إشاعة الحيرة في الرأي العام، وإيقاعه في الاضطرابات.، سادسًا: تنظيم احتكارات يهودية اقتصادية ضخمة في الصناعة والتجارة يمكن بها القضاء على صناعة وتجارة الغرباء.

سابعًا: ضرورة أن يكون لليهود جيش قوي يمكنه في أيِّ وقتٍ من تأديب الغرباء، وفي نفس الوقت يجب نشر الفتن في الأمم الأخرى حتى لا تكون لها قوة مؤثرة. ثامنًا: وجوب استعمال الحقوق القانونية استعمالًا غامضًا للتضليل، واختيار الأعوان الذين يختارون من المركز الصهيوني مع التخرج العلمي الفائق المستوى. تاسعًا: تنظيم حكومة صهيونية تعتمد على خطة مرسومة، وتشريع منظم مع ضرورة أن تعترف سائر الحكومات بحكومة اليهود الدولية بمختلف طرق الخداع، وتطبيق المبادئ الماسونية في مادة التعليم الذي نعلمه الشعوب. عاشرًا: استغلال الفضائح، ونشر جراثيم الأمراض، وغير ذلك من القبائح مع الاحتفاظ بالمظهر الخارجي للمسرح السياسي لعبقرية أولاد الحرام، والاعتداد بالنفس. الحادي عشر: تفصيل في الوسائل التي تتبعها الحكومة اليهودية لإخضاع العالم، والسيطرة على كل وسائل التوجيه، وبخاصة الصحافة، والكتب ووضع برنامج الدستور الجديد. الثاني عشر: إثارة مطالب الرأي العام في الأرياف مع التسلط على وسائل الإعلام. الثالث عشر: نشر النظريات المفسدة، والمبادئ الهدامة مع الحاجة اليومية إلى الرغيف. الرابع عشر: ضرورة هدم الأديان الأخرى؛ لإفسادها من الداخل والحط من شأن رجال الدين، وتأسيس الجمعيات السرية للمساهمة في هذا الإفساد، وبخاصة جمعية الماسونية العالمية، وجمعيات من داخل أديان الغرباء.

الخامس عشر: الانقلاب أو الثورة يعم العالم في وقت واحد مع الإكثار من المحافل الماسونية، والأساليب المتحايلة مع احتشاد أموال مع اليهود، وحق القوي هو الحق الوحيد ولا غيره. السادس عشر: إفساد التعليم عند الأمم الأخرى، وبخاصة الجامعي منها، وتحويلها إلى منتديات عامة. السابع عشر: وجوب مكافحة الكنيسة، ومحاربة البلاط البابوي، ووجوب التجسس على منوال منظمة القبالة مع سوء استعمال السلطة، والقبالة كلمة عبرية معناها التقليد، أو التلقي للرواية الشفوية، وهي كمصطلح أراد الباحثون به فلسفة القبول، ومذهب القائلين بأن الإيمان هو قبول التراث، والتوفر على أداء الشعائر بالقبول والتسليم. الثامن عشر: وجوب تدابير الدفاع السرية، ومراقبة المؤامرات من الداخل، وزوال الصبغة الدينية عن السلطنة، وإلقاء القبض والاعتقال على أقل شبهة. التاسع عشر: التجريم في المسائل السياسية والإعلان عن الجرائم السياسية، واعتماد الحكومية اليهودية على الضعف، والقهر في إذلال الرعايا الغرباء. البروتوكول العشرون: تحديد الإيراد المالي، وكيفية الحصول عليه للحكومة اليهودية حتى تتمكن من القيام بواجبها، ومهامها في تحقيق سيادة اليهود على العالم كله. الحادي والعشرون: استغلال القروض الداخلية، والديون، والضرائب، وتحويل الديون إلى أن تصبح ما يقال له الديون الموحدة، وتعلن الدولة الإفلاس، وذلك عن طريق بنوك التوفير، والدخل، وإلغاء الأسواق المالية. الثاني والعشرون: استخدام الأسرار والشعارات، مثل: القدرة والخشوع، وسر ما سيأتي به الغد.

الثالث والعشرون: التقليل من الأدوات الكمالية، ومحو المجتمعات السابقة، وبعثها في شكل جديد. الرابع والعشرون والأخير: تثبيت نسل الملك داود وتخريج الملك وإعداده للعرش، وله أعوان ويكون فوق العين. راجع: (بروتوكولات حكماء صهيون)، وأيضًا (اليهودية) للدكتور/ أحمد غلوش، و (بروتوكولات حكماء صهيون) للأستاذ عجاج نويهض. وبعد أن ذكرت لك عناوين ملخصات البروتوكولات، فأي شيء هي إنها مخططات الهدم والتدمير، وهي مخططات قديمة قصد بها تخريب الشخصية الإسلامية، وإعادة صياغتها على نمط فاسد، ولكنها عدلت أعيد النظر فيها على ضوء تجارب المعارك التي خاضها المجاهدون المسلمون قلبوا كيد القرون، وتتلخص الخطوط الأساسية لهذه البروتوكولات في صورتها الجديدة على ما يلي: أولًا: عزل القرآن الكريم عن الحياة عزلًا صارمًا حتى يصبح كتابًا تاريخيًّا، أو متحفيًّا، لا يجاوز تأثيره عجائز المساجد، أو سرادقات المناسبات والمآتم. ثانيًا: تفريغه من محتواه الخطير بضروب من سوء التأويل، وتحريف التفسير ولي معانيه من وجهتها الأصلية تحت ستار خدمة الدين ذاته، أو تجديده إلى آخر تلك الشعارات. ثالثًا: إطلاق الحياة الاجتماعية تركض في صخبٍ وطنينٍ على عكس ما رسم القرآن حتى تصبح عودته للحياة مستحيلة بقدر انفصال الواقع عنه.

رابعًا: صياغة فكر جديد في الأمة على نمط أعوج مستعار من الشرق أو الغرب، فليس له شخصية أصيلة الجذور، بل يدور على محور واحد هو مجافاة الإسلام منهجًا وفكرًا وسلوكًا؛ بحيث يصبح المثقفون أعداء تقليديين للنمط القرآني بلسان الحال أو المقال. خامسًا: سحق الطلائع الإسلامية الواعية المنظمة التي تمثل الخطر الأكبر على اليهود باعتبارها طريق البعث الإسلامي القرآني الذي لا يغلب إذا تمكن، وهذا يفسر لنا كثيرا من الألغاز والطلاسم التي ماجت بها الساحة من حولنا، وخاصة جانبها المواجه لأعداء الله في تخوم الأرض وحدودها، يفسر لنا -أولًا- كيف استمات اليهود في إنشاء الأحزاب الشيوعية في بلادنا، بل كان كبار أثريائهم هم الذين يمدونها بالمال والتخطيط، والمطبوعات، ووسائل الإفساد من خمر ونساء. ويفسر لنا -ثانيًا- سر موجات الانحلال المحمومة التي تتدفق على بلادنا عبر مخطط مرسوم يستخدم الأغاني الساقطة، والمسرحيات الهابطة، والأشرطة الماجنة، والآداب الخليعة، وقصص الجنس ناهيك عن الصحافة المنحلة، والأزياء المثيرة لأدنأ الشهوات تمامًا، كما تحدثت البروتوكولات الصهيونية. ويفسر لنا -ثالثًا- قضايا غريبة عسيرة الفهم مثل: الاستهزاء بعلماء الإسلام، وإلغاء المحاكم الشرعية، والإصرار على تعديل وتغيير قوانين الأحوال الشخصية إلى آخره. ثم يفسر لنا -رابعًا- تلك الضراوة الوحشية الفاحشة في معاملة الحركات الإسلامية التي تمثل رأس الحربة في قلب المخطط الشيطاني الزاحف، وفي الوقت الذي تطلق فيه الحرية للشيوعية؛ لتقوم بدور مرسوم في تهديد العقائد والأخلاق وتأصيل الإلحاد والفساد، ولقطع الطريق على نبت الإسلام، وإيجاد تيار فكري حركي

يقارع التيار القرآني في أوساط الشباب، وطوال العقود الماضية دوخت منطقة مصر خاصة، والمنطقة العربية عن عمد، وإصرار. وضربت ألوان من الزيغ الاعتقادي، والزيف الفكري، والتهريج الدعائي حتى لا تهتدي إلى طريقها الأصيل، ولا ترد القضية إلى إطارها الإسلامي المتفرد، وبينما كانت الأسفار، والإصحاحات على بطلانها تتلى في الشاطئ الآخر، ويتربى عليها إخوان القردة، والخنازير من اليهود كان الإسلام العظيم يعزل عن عمد، وينحى عن الساحة في ضراوة، ويطارد في الفكر والواقع كأنه وباء عاصف؛ ولذلك جاء حجم الهزيمة هائلًا رهيبًا مخزيًا، كما كان في نكسة، أو هزيمة سبع وستين، ولكنه كان أبلغ دليل على أن الإسلام ضرورة حياة ومصير، ووجود لهذه الأمة إن أرادت الحياة، فضلًا عن كونه دين الله ومنهاجه لعباده. إن التعصب والحقد لهو دين اليهودية؛ لأن اليهود أمة تحمل في أعماقها خصائص نفسية بالغة التعقيد، وتنطوي على أخلاق غاية في العوج والالتواء؛ ولذلك تموج صدورهم بحقدٍ طافحٍ على الناس جميعًا، وتتأجج جوانبهم دائمًا بوحر هذا الغل المحتدم؛ فيسعون في الأرض فسادًا، ولا يرون لأنفسهم راحة وسعادة إلا على أنقاض الآخرين، ولا يستريحون إلا بالدس والكيد، والتآمر والبغي، والتخريب والانتقام، وإنه لأمر عجاب أن توجد أمة من البشر على هذا النمط في سلسلة واحدة عبر الأزمنة والأمكنة، وتتأصل في أجيالها جميعًا كل خلائق السوء إلى هذا الحد الرهيب. ويكاد العقل ينكر هذا للوهلة الأولى، ولا يصدق استمرار هذا السعار النفسي في الجيل بعد الجيل على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكن هذا فعلا هو واقع اليهود وديدنهم بل هو دينهم الذي صنعوه لأنفسهم وأشربته قلوبهم على

تعاقب القرون والأجيال حتى صار كأنه سليقة مكتسبة تنتقل مع حاملات الوراثة إلى دماء الأخلاف من الأسلاف، فالمشكلة اليهودية ترجع ابتداء وانتهاء إلى نوعية الشخصية اليهودية ذاتها، وما درجت عليه من بغضاء وإيذاء، وما تعلموه من التلمود والبروتوكولات؛ ولذا كانت جناية الجنايات في التربية اليهودية جعلهم ذلك كله دينًا، وعقائد، وشعائر وشرائع ينسبونها بزعمهم إلى الوحي الإلهي؛ فتضفي ستارًا من القداسة الدينية على هذه الأخلاق الدنيئة، وتعطيها حوافز الإلزام، والاحترام لدى الأجيال اليهودية. ولقد أمعن أحبارهم في اختلاق القصص والتعاليم التي تؤجج سعارها وضراوتها كلما ونت في الصدور، أو خمدت جذوتها بتتابع العصور؛ وبذلك استقرت واستمرت، وتشابهت فيها قلوب الأولين والآخرين هذا الحقد اليهودي موجه إلى الناس جميعًا من قديم، ولم يفلت منه أمة قط، بل إنهم ليمدونه إلى عالم الغيب بعد أن ضاقت عنهم الأحياء والأشياء في عالم الشهادة، وهذه حقيقة تاريخية معروفة ومؤكدة، ولم يجلها على نطاق واسع إلا القرآن العظيم الذي فصل أمرها وردها إلى جذورها ومنابعها العفنة كشف مداخلها ومخارجها حيث تحدث عن النفسية اليهودية، وساق للناس دلائلها من واقع التاريخ اليهودي الذي كان قد طمس، وجهل وجهلت حقائقه، وحوادثه، وما وراءها من بواعث وأهداف. إن اليهود اعوجت نفوسهم، فأبت إلا أن تحول حياة البشر إلى جحيم، وتسعى لكي تضع نفسها في القمة فوق بني آدم، ولو على جماجم البشر وأشلائهم

مستخدمة في ذلك كل الوسائل، ولو كانت الحروب المدمرة للعالمين، فماذا فعلوا من جنايات تقضي، أو قضت على المجتمع الإنساني إن ما فعلوه يتخلص في نواح ثلاثة: أولًا: التعالي على البشر والتطاول عليهم باعتقادهم أنهم صفوة الخلق، وأنهم أفضل العالمين، وهم جديرون بالحياة والسيادة فيها، أما غيرهم، فحيوانات في صورة آدميين يقوموا بخدمة شعب الله المختار؛ فنظروا إلى العالم بعين السخرية، والاحتقار، وهذه منهم عصبية مقيتة، كما وضح ذلك في التلمود والبروتوكولات. ثانيًا: استغلال الناس، وابتزاز أموالهم بكافة الطرق والأساليب حيث سولت الأنانية لليهود أن يستغلوا بقية الشعوب، والأمم الأخرى إذا سنحت لهم الظروف، وتهيأت أسباب الاستغلال، وكل ما على اليهودي خشية لربه أن يبتعد عن أهله وبني جلدته، وليفعل في الآخرين ما يشاء، ومن يقرأ التلمود يجد من ذلك الشيء العجيب. ثالثًا: سفك الدماء، وإشاعة العداوة، والبغضاء بين الخلائق: حيث إن ما يعانيه العالم من انقسام في الرأي، والمذهب، وإشهار السلاح في الوجوه، والتهديد، والإنذار بحروب مدمرة ما هو إلا من وضع اليهود، وخطط سفهائهم التي سموها ببروتوكولات حكماء صهيون؛ فهم سفاكون للدماء يسارعون في الإثم والعدوان يسعون في الأرض فسادًا، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وهكذا حكى القرآن عنهم. وفي كتابهم المقدس كذلك ما يسجل عليهم جرائمهم البشعة، وبخاصة سفر "إستير"، واتخذت أيام القتل، والصلب عند اليهود أعيادًا، فبئسما كانوا يصنعون، ولليهود عيدان مقدسان، لا تتم الفرحة فيهما إلا بتناول الفطير

الممزوج بالدماء البشرية الأول عيد "البوريم" في مارس من كل سنة. والثاني: عيد الفصح في إبريل من كل سنة. وذبائح العيدين لا تتم شريعة إلا بذبح طفل من دينٍ غير دين اليهود، ثم استنزاف دمه لعجن الدقيق به، وإن محاريب اليهود ملطخة بالدماء التي سفكت من عهد إبراهيم حتى سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا، وإن معابدهم مخيفة بشكل يفوق معابد السحرة التي تقع داخلها مذابح البشر قربانًا للآلهة. ولقد عني بذكر ذلك الأستاذ "أرنولد لز" الذي وقف ضد الإجرام اليهودي، والسيطرة اليهودية على العالم، وألف في ذلك كتابًا معروفًا استقصى فيه حوادث يهودية من استنزاف دماء الأبرياء، وأتى فيه بقصص تقشعر منها الأبدان، يقول في كتابه: "إن الجرائم اليهودية التي عرفت في التاريخ عن اليهود، وجرى حولها تحقيقات قضائية لا تكاد تذكر مطلقًا بجانب جرائم اليهود التي لا يعلم بها أحد". ولقد ثبت هذا الإجرام في مختلف العصور، ولدى كثير من الأمم التي آوت اليهود في الشرق والغرب، وإذا كان هذا حالهم، وهم تحت نير غيرهم من الأمم، فماذا لو كانت لهم دولة وسلطان؟! وعندهم قوة واقتدار؛ لا شك أنهم يشنونها حربًا مبيدة على الأمم والشعوب حربًا لا ترحم الشيخ الهرم، ولا الطفل الوديع، ولا المرأة الضعيفة، كما قالت التوراة المفتراة، بل اقتل رجلًا وامرأة، وطفلًا رضيعًا، وبقرًا وغنمًا وجملًا وحمارًا، حتى البهائم والحيوانات الأليفة لا تجد في نفوس اليهود رحمة، بل والمدن والجمادات لا تعفى من ذلك ضربًا تضرب سكان المدينة بحد السيف، وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك؛ فتكون تلا للأبد لا تبنى بعد كذا في التوراة في سفر التثنية في الإصحاح الثالث عشر الفقرة 15، 16.

موقف اليهود من الإيمان بالله تعالى وملائكته.

وراجع في ذلك كتاب (جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع)، وكتاب (اليهود والنور والإسلام) لريتشارد بورفورد، وغير ذلك من الكتب مع (بروتوكولات حكماء صهيون) وإن شئت قلت: سفهاء الصهيون. موقف اليهود من الإيمان بالله تعالى وملائكته الكلام عن أهم المعتقدات اليهودية من خلال تلك المصادر تستبين المعتقدات اليهودية مع رد عليها مجمل -إن شاء الله تعالى. العقيدة اليهودية، أو العقائد والمعتقدات بدت واضحة من خلال هذه المصادر حتى إن هذه العقائد صارت عبارة عن خصائص ذاتية لدى الشخصية اليهودية ثابتة، وصارت عبارة عن مقومات نفسية مشتركة ملازمة لليهود في كل عصورهم لزوم شهوة وهوى، واكتساب لا لزوم جبلة، وإجبار فهم لم يفكروا في تغييرها، ولم ينظروا إليها نظرة تعقل، ولم يناقشوها، إذا كانت قضايا العقيدة تمثل الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، فما هي معتقدات اليهود في كل ذلك. أولًا من حيث قضية الإيمان بالله: نعلم أن اليهود يؤمنون بوجود إله، وغالبهم على أنه إله واحد، ولكن كيف يرون الإيمان بهذا الإله الواحد، ولا بد أن نضع في حسباننا أن من اليهود من ألَّه العزير، أو جعله ابنًا لله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) فهذه طائفة من اليهود لا تنكر. ونذكر نحن نتحدث عن أن اليهود يؤمنون بإله واحد أنهم من البداية، وقعوا في الشرك الأكبر حين عبدوا العجل، فالله -عز وجل- ذكر هذا الأمر، وبين أن اليهود عبدوا العجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} (الأعراف: 148).

وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي * وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى* قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا * قَالَ يَا قَوْم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْم إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (طه: 83 - 91). وهم مع عبادتهم العجل أرادوا أن يعبدوا إلهًا مجسمًا تمثالًا كالذي رأوه في طريقهم بعد أن نجاهم الله -عز وجل- من عدوهم، وجعل لهم طريقًا في البحر يبسًا ماذا كان بعد ذلك: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون * قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِين * وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم} (الأعراف: 138 - 141). إذًا اليهود أرادوا عبادة صنم وعبدوا عجلًا، ومنهم من قال: عزير ابن الله لا نغفل هذا، وهم مع قولهم بإله واحد كيف آمنوا به، أو كيف وصفوه لقد وصفوه بأشنع صفات من ذلك ما حكاه القرآن عنهم حين قال تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} (آل عمران: 181).

وقولهم أيضًا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} (المائدة: 64) فهنا مع إيمانهم بإله واحد موصوف بأنه فقير، وبأنه بخيل، وغير ذلك مما وصفوا به الإله الذي عبدوه، ولئن كان هذا بعض ما جاء في القرآن؛ فإن التوراة شاهدة عليهم؛ لأنهم وصفوا الله -جل وعلا- وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا بأنه يتعب فقالت التوراة عن خلق السماوات والأرض: "فأكملت السماوات والأرض، وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه؛ لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقه" سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة الأولى إلى الثالثة. ومعنى هذا: أنهم يعتقدون أن الله -عز وجل- يتعب كسائر البشر سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا، وقد بين القرآن الكريم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وما بينهما دون أن يناله نصب، أو تعب فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (ق: 38) أي: ما مسنا من نصب، ولا تعب، فهكذا نجد التوراة المحرفة تصف الله -عز وجل- بالجهل والهذيان. فتقول التوراة أيضًا حاكية عن آدم وزوجه حواء: وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، فقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت؛ لأني عريان، فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها، فقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا للخير والشر والآن، لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب من جنة عدن" سفر التكوين إصحاح 3 الفقرة 8: 23 بتصرف.

وهكذا تنسب التوراة الجهل إلى الله -عز وجل- مع الخوف كذلك كما نسبت إليه الحزن والندم فقالت: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصوري أفكار قلبه، إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته الإنسان مع بهائم، ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم" سفر التكوين إصحاح 6 الفقرة 5: 7. وتصف التوراة الله -عز وجل- بأنه إنسان له خصائص البشر تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) لكن تقول التوراة: "الرب رجل الحرب، وبريح أنفك تراكمت الحياة، نفخت بريحك فغطاهم البحر من مثلك بين الآلهة يا رب" سفر الخروج إصحاح 15 الفقرة 3: 11 بتصرف. ثم تزعم التوراة أن بني إسرائيل رأوا الله -عز وجل- فتقول: "لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء" سفر الخروج الإصحاح 19 الفقرة 11 "وفيها ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله، وأكلوا وشربوا" سفر الخروج إصحاح 24 الفقرة 10 و 11وفيه: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" سفر الخروج إصحاح 33 الفقرة الحادية عشرة في حين أن القرآن الكريم {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 55، 56).

كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} (الأعراف: 155) بل إن موسى -عليه السلام- نفسه لم يَرَ الله -عز وجل- كما قال القرآن الكريم: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 143). وفي التوراة ما يدل على أن الإله الذي يعبده اليهود لا يمكن أن يكون إلهًا، ففيه من الخصال ما لا يتفق حتى مع الكاملين من البشر، فتخاطب التوراة الرب قائلة: "ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك، واذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل عبيدك، فندم الرب على الشر الذي قال: إنه يفعله بشعبه" سفر الخروج الإصحاح 32 الفقرة 12: 14 بتصرف. أقول: ولقد تكرر هذا التجسيم في مواطن متعددة بوصف ساذج للألوهية مماثل للبشر مماثلة صارخة، فقيل في عهد الإله إليهم، وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بُوقٍ شديد جدًّا، فارتعد كل الشعب الذي في المحلة، وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله في أسفل الجبل، وكان جبل سيناء يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدًّا؛ فكان صوت البوق يزداد اشتددًا جدًّا، وموسى يتكلم، والله يجيبه بصوت، ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل" سفر الخروج الإصحاح التاسع عشر من فقرة 16: 20. وهناك غير ذلك الكثير مما زعمته التوراة المحرفة في وصف الله -عز وجل- فأي توحيد هذا، وأي رب هذا الذي وصف بصفات بشرية؟ إن الله -عز وجل- لا يشبه أحدًا من

خلْقِهِ، إنما كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) إنه كما قال -جل وعلا-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: 103). لكن هكذا اعتقد اليهود في ربهم، كما حكت توراتهم المحرفة إن شئت قلت: توراتهم المفتراة، وهذا فضلًا عما زعمه التلمود عن الله -عز وجل- فالتلمود أيضًا وصف الله -عز وجل- بصفات لا تليق واليهود يعتقدونها، كما يعتقدون التوراة أو ما جاء في التوراة، بل كما ذكرت لك عند الكلام عند المصادر أنهم يعظمون التلمود أكثر من التوراة. وقد زعموا في هذا التلمود: أن الرب يقسم ساعات النهار إلى ساعات يطالع فيها الشريعة وساعات يحكم فيها، وساعات يطعم فيها العالم، وساعات يلعب فيها مع الحوت ملك الأسماك، وليس هذا فقط، بل لله ساعات يلعب فيها مع حكماء اليهود، وأحبار اليهود حيث يصعدون إليه أو هو ينزل إليهم، ويلعبون، ويتسامرون ويتقامرون، وكذا يفعل الرب مع الأنبياء، ومن بينهم يعقوب الذي صعد ليلة يلعب مع الرب؛ فغلب الرب فقام يتصارعان، فأوشك يعقوب أن يصرع الرب، وأن يغلبه، فلما رأى الرب أنه سيغلب ضرب يعقوب على فخذه، فأصابه بعرق النسا، فقال: دعني يا يعقوب، وأنت من الآن لا يقال لك: يعقوب، بل إسرائيل، يعني: أعطاه وسامًا، وجعله إسرائيل بمعنى العبد المبارك حتى لا يغلبه، وحتى لا يطرحه أرضًا، أو لا يصيبه بضربة قاضية. أي: رب هذا الذي يعبده اليهود رب ندم جدًّا على أنه فعل ما فعل باليهود التعساء البؤساء المساكين حتى إنه كل يوم يبكي، ويلطم يلطم كل يوم، ومع كثرة بكائه تسقط من عينيه دمعتان في البحر؛ فيسمع دويهما من بدء العالم إلى نهايته،

وتضطرب وترجف الأرض؛ فتحصل الزلازل، وينزل المطر كل هذا من بكاء الرب ومن ندمه، وأنه فيه من الطيش ما يجعله يصدر أحكامًا يندم عليها، ويحلف يمينًا غير قانونية فيحتاج إلى من يحلها، وربما صعد إليه أحد الأحبار ليحله من يمينه، وما يحله الأحبار في الأرض، فهو محلول في السماء، وأنهم سمعوا الرب يصرخ، ويقول: يا لشقائي، ومن ينقذني من قسمي هذا، وأنه حنث الرب في يمينه بقصد الإصلاح بين إبراهيم، وزوجته سارة. رب ليس معصوم من الطيش؛ لأنه عندما غضب، واستولى عليه الطيش غضب على بني إسرائيل، وحلف بحرمانهم من الحياة الأبدية، لكن رجع فندم على ذلك عند ذهاب الطيش منه، ولم ينفذ ذلك اليمين؛ لأنه عرف أنه فعل فعلًا ضد العدالة، وصار يتخذ اليهود أبناء وأحباب، وندم ندمًا عظيمًا لما أنزله باليهود وبالهيكل وظل يصرخ ويلطم، ويقول: الويل لي؛ لأني تركت بيتي ينهب وهيكلي يحرق، وأولادي يشتتون سبحان الله العظيم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. كذا يزعم اليهود إن كان كما في التوراة، أو في التلمود أن الرب على هذا النحو فأي رب هذا، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا هل مثل هذا يسمى إيمان بالله، وهل مثل هذا يسمى توحيد لله تعالى الله عما يقول اليهود علوًّا كبيرًا، تلك لفتة إلى معتقدهم في الله -عز وجل- الإيمان بالله؛ فهذا إيمانهم، فهل مثل هذا يسمى إيمان إن لم يكن هذا هو الكفر الصراح البواح فأي الكفر يكون؟ وإن لم يكن هذا هو الشرك، فأي توحيد يكون، أو أيُّ شرك يكون. وأنتقل من الكلام عن الإيمان بالله إلى الإيمان بالملائكة، نحن لا نجد عند اليهود ما يشير إلى إيمانهم بالملائكة إلا بمفهوم المخالفة أنهم يعادون ملائكة الرحمن عامة، وجبرائيل، وميكائيل بصفة خاصة، وتشتد العداوة لجبريل -عليه السلام- سفير الله لأنبيائه، ومنزل الوحي على رسل الله، على نحو ما نقرأ في كتاب الله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا

لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذًا اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 97، 98). والكلام مسوق للرد على اليهود حين زعموا أن جبريل عدو لهم، وكفرهم بملك واحد هو كفر بكل الملائكة، وبذا نستطيع أن نقول: إن اليهود لا يؤمنون بملائكة الرحمن، ولئن قالت اليهود في الله ما قالته، وزعمت ما زعمته، فأي تصور لهم عن ملائكة الرحمن، لكني لم أجد ما أقف عليه حتى أكون منصفًا لكن هكذا أشير إلى عداوتهم للملائكة بصفة عامة، وجبريل وميكائيل بصفة خاصة الإيمان بالله وملائكته وكتبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 أهم المعتقدات اليهودية (2).

الدرس: 8 أهم المعتقدات اليهودية (2).

موقف اليهود من الإيمان بالكتب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (أهم المعتقدات اليهودية (2)) موقف اليهود من الإيمان بالكتب الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين أما بعد. تحدثت إليك عن اليهودية من حيث التسمية والنشأة والمصدر، فإذا انتقلنا من الكلام عن إيمانهم بالله وملائكته إلى الإيمان بالكتب، فكيف إيمان اليهود بالكتب هناك كتب تنزلت عليهم آمنوا بها، لكن مع إيمانهم بهذه الكتب التي تنزلت على أنبيائهم ورسلهم كان دأبهم دائمًا الاستخفاف بها الاستخفاف بالوحي الإلهي والكتب الإلهية، فضلًا عن تحريفها وتزييفها هذا فيما آمنوا به إيمان مع الاستخفاف بالوحي الإلهي والكتب الإلهية على نحو ما ذكر القرآن الكريم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78). إنهم أحبار السوء الذين اختلقوا هذه التعاليم ونسبوها زيفًا لله رب العالمين هذا فضلا عن كتمانهم لما أنزل الله فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 174). وليس هذا فقط، ولكن هناك ما هو أدهى، وأمر على نحو ما ذكر القرآن عنهم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91). أيضًا مع إيمانهم بالكتب التي نزلت على أنبيائهم، ورسلهم احترفوا التزييف لها والتحريف فيها، فهم لم يكتفوا بالاستخفاف والكتمان، ولكن لليهود مقدرة عامة على تزييف الوقائع واختلاقها وتحريف الحقائق عن مواضعها حتى كأنها حرفة حياتهم، أو سجية في تركيبهم الخلقي والنفسي لا يستشعرون في مزاولتها ما يستشعره غيرهم من لوم الضمير، وتأنيب النفس؛ إذ اليهود قد ماتت مشاعرهم، وقست قلوبهم

فهم كما قال الله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 13). فهناك إذًا ارتباط وثيق بين قسوة القلوب، وبين هذا التحريف، قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة:41، 42). كما قال تعالى عنهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 46). فاليهود يحرفون كل شيء حتى ولو كان كلام الله تعالى، وهم لا يفعلون ذلك ناسين أو جاهلين، وإنما يزاولون التحريف عامدين عالمين بخطورة وضراوة ما يفعلون على نحو ما قال القرآن عنهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 75 - 79). أقول: وليس القرآن فقط هو الذي شهد عليهم بتحريفهم لكتبهم بل إن التوراة ذاتها ذكرت هذا التحريف بصريح العبارة في كثير من نصوصها كما أسلفت ذلك عند الكلام عن مصدر اليهود الأول ألا وهو التوراة، وأنها محرفة، ومن بين ما جاء فيها: "ماذا يصنع بي البشر اليوم كله يحرفون كلامي" سفر المزامير إصحاح 56 الفقرة 4، 5 وفيها: "كيف تقولون نحن حكماء، وشريعة الرب معنا حقًّا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب"، سفر إرميا إصحاح 8 الفقرة 8، كذلك. أما وحي الله فلا تذكروه؛ لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه؛ إذ قد حرفتم كلام الإله الحي سفر التثنية إصحاح 31 الفقرة 28 و29 إلى غير ذلك من النصوص التي سبق ذكرها عند الكلام عن تحريف التوراة. إذن فهم مع الكتب يحرفون الكتب متعمدين هذا التحريف هذا فيما آمنوا به من كتب، ودعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فقط كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 91)، فهنا نجد اليهود فيما آمنوا به من كتب حرَّفوها وزيفوها، وكتموا الكثير منها. وأما ما لم ينزل عليهم فقد كفروا به، فهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط، ويكفرون بما وراءه؛ ولذلك لما جاء سيدنا عيسى -عليه السلام- كفروا به وبنبوته

وبالإنجيل الذي أنزل عليه، فهم لا يؤمنون بالإنجيل الذي أنزل على عيسى، وكفرهم بكتاب واحد هو كفرهم بكل الكتب، وإن ادعوا أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فقط. لقد كفروا بعيسى -عليه السلام- وبرسالته وكتابه، فنذكر هذا في معتقداتهم عند الكلام عن الإيمان بالكتب من عدم الإيمان ليس هذا فقط، بل كفروا بالقرآن أيضًا، وبالنبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فهم لا يؤمنون بالقرآن كما أنهم لم يؤمنوا بالإنجيل، وكتب كثيرة لم يؤمنوا بها، وعلى رأسها الإنجيل والقرآن الكريم إنهم لا يؤمنون بالقرآن قطعًا، كما لم يؤمنوا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- لذلك قال الله -عز وجل- عنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُو َ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 89 - 91) ولذلك قال الله -عز وجل- في صفاتهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21). فهذا يدل على اختلال عقيدتهم خاصة في الإيمان بالكتب؛ ولذلك خاطبهم الله بقوله: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران: 98، 99).

فأي إيمان هذا؟ إنه الكفر؛ لأن الكفر بكتاب كالكفر بسائر الكتب، وقد كفروا بالكتب التي لم تنزل على أنبيائهم، أما الكتب التي أنزلت على أنبيائهم؛ فقد حرفوها وزيفوها، وكتموا الكثير منها، فهذا عن عقيدة اليهود في الإيمان بالكتب، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ماذا يقال عن الإيمان بالرسل في عقيدة اليهود -عليهم لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين؟ إنه الكفر برسل الله، والوقاحة الدائمة مع رسل الله، واتهام رسل الله، وتقتيل رسل الله، إنهم كما قال الله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (المائدة: 70) تأمل فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون كما قال الله عنهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87). ويلاحظ هنا استعمال أداة العموم، والتكرار كلما تعبيرًا عن اطراد اليهود على التكذيب، أو القتل للرسل إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم الضالة فكم من رسل قتلوهم، وكم من رسل كذبوهم، وكم من رسل شنعوا عليهم واتهموهم، وهذا سيدنا عيسى -عليه السلام- نال منهم حظًّا وافرًا حين اتهموه -عليه السلام- بأنه ابن زنا -والعياذ بالله- اتهموه مع أمه اتهموا مريم الطاهرة البتول بأنها زانية، وأن عيسى -عليه السلام- هو ابن زنا، فنعى الله -عز وجل- عليهم هذا في قوله سبحانه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 156، 157). سبحان الله ما هذا الافتراء على الله، وما هذا الكذب على رسل الله، بل قتل الأنبياء ما هذه الاتهامات؟ ما هذه الخسائس، وتلك الشناعات؟

موقف اليهود من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.

موقف اليهود من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم أي أمة في التاريخ بلغت في النكالة، والإفك مبلغ هؤلاء اليهود حين فعلوا هذا مع أنبياء الله ورسله؟ وحين تعنتوا معهم، وتعنتوا مع سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تعنتوا معه في الأسئلة فكما قال الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 153) فكذبوا رسول الله، وأرادوا قتله عشرات المرات، ولكن الله -عز وجل- عصمه منهم. وأخبر تعالى بقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} (التوبة: 74) وقال في حق نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) وأصروا على موقفهم بل على كفرهم، وأبوا أن يؤمنوا بالنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال الله عنهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120). استبان الحق لهم واضحًا، فأبوا أن يتبعوه مع وضوحه وضوح الشمس حتى قال الله -عز وجل- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 145)،

ولم يكتفوا بهذا، بل راحوا يجاهدون أو يقاتلون باطلًا لردة الناس عن دينهم {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217). إنهم اتخذوا كل الوسائل في تكذيب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كما كذبوا رسلًا من قبله، وحاولوا قتله، كما قتلوا رسلًا من قبله حتى وصموا بهذه الصفة، ولازمتهم تلك الذلة والمسكنة حين قال الله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 112). وحين طالبهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالإيمان به ردوا قائلين كما قال القرآن: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 183) ومن ثم أبوا أن يؤمنوا بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو النبي الخاتم المذكور في توراتهم، والمصرح به كما سنذكر ذلك بعد قليل إن شاء الله -تبارك وتعالى. إذًا فهم مع الإيمان بالرسل على نحو ما ذكرنا، ولهم دور كبير مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام في المجادلة واللجاج، والتعنت في الأسئلة وفي المواقف، وفي كل شيء؛ ولذلك حكى القرآن الكريم هذا عنهم فيما ذكروه من أسئلة ومجادلات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيما وقع منهم من فساد؛ فجدالهم لم ينقطع، واستهزاؤهم بالدين لم ينتهِ، أذكر من هذا على سبيل المثال لا الحصر؛ المجادلات، والمخاصمات الكلامية التي أرادوا من ورائها الطعن في الإسلام، ونبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام- فجادلوا في نبوة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- بقصد الطعن فيها، وصرحوا بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليس هو النبي المنتظر التي بشرت به الكتب السماوية بعد أن عرفوا صدقه، كما يعرفون أبناءهم.

وقد حكى القرآن ذلك {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146) وكما سبق في ذكر الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89). إنهم حسدوا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأبوا الإيمان به حسدًا من عند أنفسهم؛ لأنه لم يكن من بني إسرائيل، وإنما كان من بني إسماعيل، ومن ثَمَّ كانت لهم مطالب متعنتة على سبيل التحدي والتعجيز؛ لإظهار النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- بمظهر العاجز عن إجابة مقترحاتهم حين طلبوا منه أن يكلمهم الله، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (البقرة: 118). ومن وسائلهم التي اتبعوها في طعنهم في نبوة النبي -عليه الصلاة والسلام- ومحاولتهم إنكار أن يكون القرآن منزلًا من عند الله حتى قالوا ما جاءنا محمد بشيء نعرفه، فأنزل الله فيهم {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (البقرة: 99). وجادلوا النبي -عليه الصلاة والسلام- في شأن إبراهيم وملته؛ فردَّ الله -عز وجل- عليهم بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120) وزعموا أن إبراهيم كان يهوديًّا، كما زعمت النصارى أن إبراهيم كان نصرانيًّا، ورد الله -عز وجل- عليهم بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نصرانيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67) مخاطبًا إياهم بالحق الذي ينبغي أن يعرفوه: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ

حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نصرانيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 65 - 68). وجادلوا النبي -عليه الصلاة والسلام- في نبوة عيسى -عليه السلام- كما جادلوه في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وجادلوه كذلك بقصد إحراجه -عليه الصلاة والسلام- في الروح، وسألوه عن ذي القرنين، وسألوه عن الجنازة هل تتكلم، وعن طعام أهل الجنة وشرابهم، كما سألوه عن الله -عز وجل- عن ذاته ووحدانيته، وتطاولوا على الله -عز وجل- في سؤالهم حتى أغضبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزل جبريل ليهدئ من روعه، وكانوا يؤذونه -عليه الصلاة والسلام- بكل أنواع الأذى فهم إذا أرادوا السلام عليه قالوا: السام عليك يا محمد أي: الموت، وإذا جالسوه قالوا: يا محمد راعنًا، يا محمد يريدون الرعونة، ولا يريدون الرعاية، كما حكى القرآن عنهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 46). ووصل تطاولهم إلى الذات الإلهية، كما جاء في الحديث الصحيح أنه أتى رهط من يهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ((يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى امتقع لونه -أي: تغير - ثم ساورهم - أي: باطشهم غضبًا لربه - قال فجاء جبريل -عليه السلام- فسكنه، فقال: خفض عليك يا محمد)) وجاء من الله تعالى بجواب ما سألوا عنه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: 1 - 4).

قال: فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه، كيف ذراعه، كيف عضده؟ فغضب -صلى الله عليه وسلم- أشد من غضبه الأول وساورهم، فأتاه جبريل -عليه السلام- وقال له مثلما قال أول مرة، وجاء من الله تعالى بجواب ما سألوه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67). فهذه بعض النماذج من أسئلة متعنتة التي وجهها اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصد مضايقته، وإظهاره بمظهر العاجز عن إجابة أسئلتهم، ولقد خابوا فيما سلكوه، ولم يصلوا إلى ما أراوده فقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يجيبهم بما يخرس ألسنتهم، ويردهم على أعقابهم خاسرين، ومع ذلك كذبوه وكفروا برسالته. ولم يكتفوا بهذا، فحين عجزوا في هذا الجانب حاولوا الدس والوقيعة وإثارة الفتنة بين المؤمنين ورد المسلمين عن دينهم بطريق الخداع والتلبيس والتدليس، وتلاعبهم بأحكام الله تعالى، ومحاولة فتنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند تقاضيهم إليه قائلين: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (المائدة: 41) يعني: ما كان عندكم في التوراة: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (المائدة: 41) في قضية الرجم، وتحالفوا مع المنافقين ضد المسلمين بل منهم نشأ النفاق، وإليهم يعود حتى قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (المائدة: 51، 52). وإمعانًا منهم في تكذيب النبي -عليه الصلاة والسلام- تحالفوا مع المشركين، وشهدوا لهم بأنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا كما سجلت سورة النساء هذا الموقف المخزي على

اليهود على الرغم من أنهم أهل كتاب، ويزعمون أنهم أهل دين وتوحيد، فإذا بالله -عز وجل- يحكي عنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} (النساء: 51 - 55). إنهم آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقول القبيح، والخطاب السيئ، وبكل ما استطاعوا أن يقولوه، وأن يفعلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون، واستهزءوا بدينه -عليه الصلاة والسلام- وبشعائره كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة: 57، 58). ولقد حاولوا في الأخير قتل النبي -عليه الصلاة والسلام- فلم يكتفِ اليهود بحروب الجدل التي حاربوا بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بحروب الدس والوقيعة، ومحاولة إثارة الفتنة بين أصحابه، ولا بإظهارهم الإسلام في أول النهار وكفرهم في آخره، ولا بتحالفهم مع كل مبغض للإسلام والمسلمين، ولا باستهزائهم بالدين وشعائره، لم يكتفوا بكل ذلك من أجل القضاء على دعوة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- وإنما لجئوا إلى وسيلة أخرى سولتها لهم أنفسهم الغادرة، وعقولهم الحاقدة، هذه الوسيلة هي محاولة قتل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكثر من مرة. وقد ذكر القرآن الكريم المؤمنين بنعم الله تعالى عليهم كيف أنه سبحانه نجى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من مكر اليهود، وأذاهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المائدة: 11).

وفي السنة ما جاء في محاولتهم قتل النبي -عليه الصلاة والسلام- مما كان سببًا في غزوة بني النضير، كما جاء في سبب نزول هذه الآية عن ابن أبي زياد، فيما أخرجه ابن جرير قال: ((جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني النضير يستعينهم في عقل أصابه أي: في دية تحملها الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن أصحابه، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي، فقال: أعينوني في عقل أصابني، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لنا أن تأتينا، وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا؛ فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ينتظرونه، فجاء حيي بن أخطب، وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترون أقرب منه الآن اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاءه جبريل -عليه السلام- فأقامه من ثم)) فأنزل الله تعالى الآية. فأخبر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما أرادوا به؛ وبذلك تكون الآية الكريمة، وذكرت المؤمنين بنعمة الله عليهم؛ ليزدادوا له شكرًا وحمدًا، وأشارت إلى ما أراده اليهود من أذى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحبط الله تعالى كيدهم خيب مسعاهم، ولم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة التي حاول فيها اليهود قتل النبي -عليه الصلاة والسلام- بل هناك غيرها الكثير. ومن أشهرها محاولة المرأة اليهودية أن تسم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد أخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((لما فتحت خيبر، واطمأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد فتحها أهديت إليه شاة فيها سم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن لاك منها مضغة ثم لفظها اجمعوا لي من كان هنا من اليهود؛ فجمعوا له، فقال لهم حين اجتمعوا عنده: إني سائلكم عن شيء،

فهل أنتم صادقي فيه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، قال: كذبتم أبوكم فلان -قال الحافظ ابن حجر أي: إسرائيل، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام- قالوا: صدقت، وبررت، فقال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها زماننا يسيرًا، ثم تخلفوننا فيها، فقال: اخسئوا فيها أي: اسكنوا فيها سكون ذلة وهوان- والله لا نخلفكم فيها أبدًا ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، قال: أجعلتم في هذه الشاة سمًّا -نسب إليه الجعل؛ لأنهم لما علموا به لم ينكروه- قالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك)). هكذا زعموا، وحاولوا غيرها مما يماثلها كثير بهذا نرى أن اليهود حاولوا قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة، ولكن الله تعالى عصمه من مكرهم ونجاه من شرهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون. ولم يكتف اليهود بكل هذا؛ فبعد فشلهم في هذه المجادلات، وتلك المحاولات راحوا ينقضون المعاهدات، ويدبرون المؤامرات، ويقاتلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حدث هذا في بني قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، ولهم أحابيل شيطانية، حاولوا بها تفريق الكلمة، وتمزيق الأمة، وإشاعة البغضاء بين الأوس والخزرج مرة، وبين المهاجرين والأنصار أخرى، عاهدهم النبي -عليه الصلاة والسلام- معاهدة عدل وبر، وقسط ورحمة، ومع ذلك نقضوا عهود، فهم اليهود قتلة الأنبياء، نقضة العهود، وكما قال القائل: لو تركت الحمر نهيقها، والكلاب

نباحها، والحيات لدغها ما ترك اليهود نقضهم للعهود؛ فقد كانت مواقفهم مع أنبياء الله ورسله بصفة عامة، كما حكاه القرآن {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (المائدة: 70). ومع رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بصفة خاصة على نحو ما أسلفنا من المجادلات والمحاولات، ونقض المعاهدات، وتدبير المؤامرات، واستمر ذلك بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- وإلى هذا العصر الحديث، ولكن لما كان الكلام عن الأنبياء والرسل، فقد أشرت بهذه الإشارات من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة والسيرة، وكذلك التاريخ، وأعود فأذكر عقائدهم في الأنبياء، بل وقاحتهم مع الأنبياء والرسل من خلال التوراة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 أهم المعتقدات اليهودية (3).

الدرس: 9 أهم المعتقدات اليهودية (3).

معتقدات اليهود في الأنبياء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (أهم المعتقدات اليهودية (3)) معتقدات اليهود في الأنبياء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فحديثي عن بيان أهم المعتقدات التي يعتقدها اليهود مع الرد على ذلك -إن أمكن-: ذكرت أن اليهود كفروا بعيسى -عليه السلام- وكفروا بالنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ولهم معه محاولات ومجادلات، ومؤامرات. كذلك شهدت عليهم التوراة ونعت عليهم -على الرغم من تحريفها- مع نسبوه إلى أنبيائهم مما لم يرتضه أي إنسان أن ينسب إليه، ولا يتصور صدوره إلا من سفلة الناس؛ فلقد نسب اليهود في توراتهم المحرفة إلى نوح -عليه السلام- أنه سكر وتعرى، وذكرت التوراة: "وابتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا وشرب من الخمر؛ فسكر وتعرى داخل خبائه؛ فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه؛ فأخبر أخويه خارجًا؛ فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء؛ فلم يبصرا عورة أبيهما؛ فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير قال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام؛ وليكن كنعان عبدًا لهم، ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا لهم". سفر التكوين إصحاح 9 فقرة 20: 27. وقالت عن إسماعيل: "وإنه يكون إنسانًا وحشيًّا، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه". سفر التكوين الإصحاح السادس عشر الفقرة 12. اتهمت لوطًا بأنه عرض بناته ليزني بهن أهل سدوم؛ فقالت: "هو ذا لي ابنتان لم تعرفا رجلًا؛ أخرجهما إليكم، فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم، أما هذان

الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئًا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي". سفر التكوين إصحاح 19 الفقرة 8. بل ذكرت ما هو أشنع من ذلك مع لوط وابنتيه كذلك، فقالت: "وصعد لوط من صوغر، وسكن الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه؛ فقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل يدخل علينا كعادة كل الأرض؛ هلم نسقي أبانا خمرًا ونضجع معه فنحيي من أبينا نسلًا؛ فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة ودخلت البكر، واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي ... نسقيه خمرًا الليلة أيضًا؛ فادخلي فاضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلًا؛ فسقتا أباهما خمرًا ... في تلك الليلة أيضًا قامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعهما ولا بقيامها؛ فحبلت ابنتا لوطا من أبيهما؛ فولدت البكر ابنًا ودعت اسمه مؤاب، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم، والصغيرة أيضًا ولدت ابنًا ودعت اسمه بني عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم". سفر التكوين إصحاح 19 الفقرة 30: 38. وفي قصة إبراهيم تذكر في الإصحاح السادس عشر منها: "أن الابن الأكبر لإبراهيم هو إسماعيل -عليه السلام". ثم تعود فتناقض نفسها في الإصحاح الثاني والعشرين؛ فتذكر أن الابن الوحيد هو إسحاق وليس إسماعيل فتقول: "وحدث بعد هذه الأمور: أن الله امتحن إبراهيم: قال: يا إبراهيم، قال: ها أنا ذا، قال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا واصعد هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك". سفر التكوين الإصحاح 22 الفقرة الأولى والثانية؛ فكيف يكون الوحيد ومع ذلك يكون إسحاق؟!.

ثم ذكرت في موت سارة بعد ذلك: "فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها". سفر التكوين الإصحاح الثالث عشر الفقرة 2. "ثم سأل إبراهيم بني حث أن يعطوه قبرًا ليدفن فيه ميته؛ فمنحوه أفضل قبورهم؛ فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حث" سفر التكوين الإصحاح 23 الفقرة 3: 7 بتصرف؛ فكيف يسجد إبراهيم لغير الله؟!. ثم تتهم التوراة المحرفة -بل المفتراة- أنبياء الله بالكذب والاحتيال والمكر والخداع؛ فتقول عن يعقوب: "إنه كذب على أبيه، وزعم أنه عيسو، واحتال عليه حتى يدعو له ويأخذ مباركة أبيه له فقط كما قدم لأبيه خمرًا؛ فشرب؛ فحقد عيسو على يعقوب من أجل البركة التي باركه بها أبوه وعزم على قتله؛ فهاجر فرارًا من القتل، وذهب إلى فدان آرام إلى لابان بن بتوئيل الآرامي أخي رفقة أم يعقوب وعيسو حتى لقي يعقوب راحيل بنت لابان خاله فتقدم وقبل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى". سفر التكوين الإصحاح 27، 28، 29. كما ذكرت: "وخدع يعقوب قلب لابان الآرامي إذ لم يخبره بأنه هارب". سفر التكوين الإصحاح 31 فقرة 20. كما اتهمت التوراة يعقوب -عليه السلام- لما سمع بخبر افتراس الذئب ليوسف: "أنه قام فمزق يعقوب ثيابه، ووضع مسحًا على حقويه، وناح على ابنه أيامًا كثيرة؛ فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه؛ فأبى أن يتعزى، وقال: إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية، وبكى عليه أبوه". سفر التكوين الإصحاح 37 فقرة 34، 35. كما اتهمت يوسف: "أنه أقسم بحياة فرعون أمام إخوته". سفر التكوين الإصحاح 42 فقرة 15، 16.

واتهمت هارون -عليه السلام- بأنه هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل؛ ليعبدوه من دون الله؛ فتقول: "فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وائتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا؛ فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر؛ فلما نظر هارون بنى مذبحًا أمامه،، ونادى هارون وقال: غدًا للرب؛ فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامًا وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب؛ فضرب الرب الشعب لأنهم صنعوا العجل الذي صنعه هارون. سفر الخروج الإصحاح 32 فقرة 2: 6 و35. وليس هذا فقط؛ بل اتهمت موسى مع هارون فقالت: "وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلًا: اصعد إلى جبل عباريم، هذا جبل نبو الذي في أرض مؤاب الذي قباله أريحا، وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكًا، ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور، وضم إلى قومه؛ لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين؛ إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل؛ فإنك تنظر الأرض من قبالتها؛ ولكنك لا تدخل إلى هناك، إلى الأرض التي أنا أعطيها لبني إسرائيل". سفر التثنية الإصحاح 32 الفقرة 48: 52. واتهمت التوراة داود -عليه السلام- بالزنا والقتل بطريقة ماكرة خبيثة لا تصدر إلا من أفسق الفاسقين في الأرض، ولم يتورع كتبتها عن ذكرها في كتاب ينسبونه زورًا وبهتانًا إلى الله تعالى الذي يختار رسله من صفوة خلقه فقالت -وبئس ما قالت-: "وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح البيت فرأى من

على السطح امرأة تستحم -وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا- فأرسل داود رسلًا وأخذها؛ فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة؛ فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى؛ فأرسل داود إلى يؤاب قائد الجيش يقول أرسل إلى أوريا الحثي؛ فأتى أوريا إليه؛ فسأله داود عن سلامة الشعب ونجاح الرب، فقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك واغسل رجليك؛ فخرج أوريا ونام على باب بيت الملك ولم ينزل إلى بيته؛ فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟! فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟! فقال: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يؤاب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء؛ وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب واضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر. وفي الصباح كتب داود إلى يؤاب: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه؛ فيُضرب ويموت؛ وكان في محاصرة يؤاب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه؛ فخرج رجال المدينة وحاربوا يؤاب؛ فسقط بعض الشعب، ومات أوريا الحثي أيضًا؛ فلما سمعت امرأة أوريا أنه مات ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته؛ فصارت له امرأة وولدت له ابنًا؛ وأما الأمر الذي فعل داود فقبيح في عيني الرب". سفر صموئيل الثاني إصحاح 11 الفقرة 2: 27 بتصرف. إلى آخر تلك القصة المفتراة على نبي الله داود -عليه السلام- الذي يعتبرونه ملكًا، شأنه شأن ملوك الأرض المترفين الذين لا يعنيهم من الحياة إلا إشباع رغباتهم الجنسية ونهمتهم الجسدية، ولا قيمة للفضائل الإنسانية عندهم ولا اعتبار ... داود -عليه السلام- يزني وحتى لا يفتضح أمره يقتل أخلص الناس له بأخبث طريقة ماكرة ... جريمتان

مزدوجتان: جريمة زنا من نبي، أعقبتها جريمة قتل مستور لئيم؛ "ولذا غضب الرب على داود وقبح فعله في عيني الرب"، مع أن التوراة نفسها هي التي تشهد لداود بأحسن الشهادات، وفي نفس السفر الذي ذكرت فيه هذه القصة قالت -على لسان داود-: يكافئني الرب حسب بري، حسب طهارة يدي، يرد عليَّ؛ لأني حفظت طرق الرب ولم أعصِ إلهي؛ لأن جميع أحكامي أمامي وفرائضه لا أحيد عنها وأكون كاملًا لديه، وأتحفظ من إثمي. سفر صموئيل الثاني الإصحاح 22 الفقرة 21: 24. فهل الزنا من أعمال البر؟! وهل تأتي طهارة اليدين مع القتل؟! وهل من اتباع وصايا الله والمحافظة على شريعته، وعدم الحياد عنها أن يزني الإنسان ويسفك الدم؟! ... هذا؛ وفي التوراة الحالية نصوص أخرى كثيرة فيها تطاول على الأنبياء والرسل، وإهمال أعظم ما في حياتهم من الرسالة والدعوة فضلًا عن اتهامهم بأفظع التهم وأقبح الأعمال التي تتعارض مع العصمة، ومع الخلق الكريم. ولئن كان هذا موقف اليهود مع الأنبياء عامة -كما ذكرته التوراة- فكذلك موقفهم مع النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي جاء ذكره في التوراة أكثر من مرة في أكثر من موضع على الرغم مما أصابها من التحريف؛ ومع ذلك فقد أنكره اليهود وكذبوه، وقد قال الله -عز وجل- عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة: 146، 147) وقال عنهم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ

بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الأحقاف: 10) كذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) ... وأشارت إليه السنة في حديث عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته من القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة؛ ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء؛ فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبا غلفًا بأن يقولوا: لا إله إلا الله". مما يشهد بوجود صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوراة: ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي، قال: "حدثني رجل من الأعراب، فقال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل؛ فلأسمعن منه؛ قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشيان، فتبعتهم؛ حتى إذا أتوا على رجل من اليهود وقد نشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أشهدك بالذي أنزل التوراة؛ هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟)) فقال برأسه هكذا -أي لا- فقال ابنه: أي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله؛ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أقيموا اليهودي عن أخيكم))، ثم تولى كفنه والصلاة عليه".

ومما جاء في التوراة عن صفة النبي -عليه الصلاة والسلام- قد بقي إلى يومنا هذا ما يلي: "وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله ابن إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، وتلألأ من جبال فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم". سفر التثنية الإصحاح 33 الفقرة الأولى والثانية. وهذه شهادة صريحة من التوراة وواضحة بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ورسالته؛ إذ معنى هذا النص: "جاء الرب" المراد به: ظهور ملاك الرب على نبيه وتلقينه كلام الله، و"أشرق" المراد: تجلية الشريعة وتوضيحها، "وتلألأ" المراد: قمة البيان والهيمنة، "وأتى من ربوات القدس" أي: أتى عليه الدهر أهلكه، وهي إشارة إلى انتقال القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، من هيكل سليمان للكعبة المشرفة، وقد أكد المسيح من قبل على خراب أورشليم وزوال النبوة والكتاب والملك من بني إسرائيل. وبعد معرفة معاني الألفاظ يكون معنى النص: إن الله تعالى ناجى موسى -عليه السلام- وأوحى إليه بسيناء، وأرسل عيسى -عليه السلام- وأوحى إليه بساعير -وهي من أرض الجبل المقدس- وبعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسولًا معلنًا كلمة لا إله إلا الله مستعلنًا بها من مكة الواقعة بين جبال فاران كجبل أبي قبيس وحراء وغيرهما من جبال مكة المحيطة بها، وفي بعض الترجمات: واستعلن من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، وهل غير محمد -صلى الله عليه وسلم- أرسل في مكة، ثم دخلها ومعه عشرة آلاف مؤمن بشريعة متميزة سمحاء؟!.

ومما يؤكد أن جبال فاران هي مكة ما جاء في التوراة: "وأقام إسماعيل في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر". سفر التكوين الإصحاح 21 فقرة 21. وقد جاءت هذه البشارة مرة أخرى في كلام حبقوق فيما قبلوه ورضوا ترجمته: "الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران سلاه، جلاله غطى السموات والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شعاع، وهناك استنار قدرته" سفر حبقوق الإصحاح الثالث الفقرة 2: 4. ونظير ما نقلوه ورضوا ترجمته في نبوة حبقوق: "وجاء الله من التيمن، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت فيله في البحر". وذلك في كتاب (هداية الحيارى) ولعله من البشارات التي حذفت في العصر الحديث. ومما يدل على البشارة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في التوراة: قال لي الرب: أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثله، وأجعل كلامي في فمه؛ فيكلمهم بكل ما أوصيه به؛ ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى؛ فيموت ذلك النبي، وإن قلتَ في قلبك: كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟! فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصير؛ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب؛ بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه. وهذه البشارة التي جاءت في التوراة سفر التثنية الإصحاح 18 الفقرة 17: 22 تنطبق على النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- لعدة وجوه: أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم دليل على أنه ليس من بني إسرائيل، وإلا لقال من بينهم أو من أنفسهم، ولفظ

الإخوة المقصود به أبناء إسماعيل؛ لأنه جاء لفظ الإخوة في هذا الاستعمال الحقيقي في وعد الله لهاجر في حق إسماعيل: وأمام جميع إخوته يسكن، سفر التكوين إصحاح 16 الفقرة 12 ... كما جاء ذلك في الإنجيل أيضًا: فإن موسى قال للآباء: إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون ... "من إخوتكم" يقصد أبناء إسماعيل. أعمال الرسل الإصحاح 3 الفقرة 22. وفي النص "مثلك": أي مثل موسى في أنه عبد الله ورسوله صاحب الكتاب والشريعة، وأنه من والدين له زوجة وأولاد، مأمور بالجهاد إلى غير ذلك من المواصفات التي اتفق فيها موسى -عليه السلام- مع النبي محمد -عليه الصلاة والسلام. وقوله: "ويجعل كلامي في فمه" إشارة إلى أن ذلك النبي ينزل عليه الكتاب وحيًا؛ لأنه يكون أميًا لا يباشر الكتابة؛ بل حافظًا للكلام، وهذا ينطبق على النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- فأنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وهكذا وصف بهذا الوصف في القرآن: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) إلى آخر النص الذي يؤكد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان نبيًّا صادقًا ولم يكن دعيًّا أو كاذبًا. وفي التوراة من البشارات للنبي -عليه الصلاة والسلام- وما جاء في صفاته: "غنوا لله ورنموا لاسمه، أعدوا طريقًا للراكب في القفار باسمه ياه، واهتفوا أمامه أبو اليتامى، وقاضي الأرامل، الله في مسكن قدسه، الله مسكن المتوحدين في بيت مخرج الأسرى إلى فلاح؛ إنما المتمردون يسكنون الرمضاء". مزامير داود المزمور 68 التسبيحة 4: 6. فهذه الصفات التي وردت في هذا النص إنما هي صفات النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-: "الراكب في القفار أو الغمام": هو الذي عرج به إلى السموات السبع، وهو -عليه الصلاة والسلام-

أبو اليتامى، وهو قاضي الأرامل؛ فكذا كان -عليه الصلاة والسلام- اهتم باليتامى وتزوج الأرامل، وليست هذه الصفات تنطبق إلا على هذا النبي -عليه الصلاة والسلام. ومن البشارات الواردة في التوراة بأسلوب واضح لكل ذي عينين وصريح لمن يتدبر ما جاء فيها: هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرَّت به نفسي، ووضعت روحي عليه؛ فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع، ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مردودة لا يقصف، فتيلة خامدة لا ينطفئ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر؛ حتى يضع الحق في الأرض، انتظروا جزائر شريعته؛ أنا الرب قد دعوتك بالبر؛ فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم؛ لتفتح عيون العمي وتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة، وترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار؛ لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر، الرب كالجبار يخرجك رجل حروب، ينهض غيرته، يهتف ويصرخ، ويقوى على عدائه، يخزي خزيًا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات أنتن آلهتنا، الرب قد سُرَّ من أجل بره، يعظم الشريعة ويكرمها؛ لكنه شعب منهوب ومسلوب، قد اصطيد في الحفر كله، وفي بيوت الحبوس اختبئوا، صاروا نهبًا ولا منقذ، وسلمًا وليس من يقول رد؛ من منكم يسمع؟! هذا يصغى ويسمع لما بعد. سفر إشعياء الإصحاح 42 فقرة 1: 23 بتصرف. فهذا النص معناه: أن هذا النبي المبشر به هو عبد الله ورسوله الذي اختاره الله، وأنزل عليه الروح القدس جبريل -عليه السلام- سفير الوحي، وتكون رسالته الحقة لكل الأمم وجميع العالم، وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- على خلق عظيم؛ فهو هين لين، ليس بالصخاب ولا الغليظ أو الفظ.

ثم هو مع ذلك نبي الملاحم ورسول محارب، لا يضعف ولا يُغلَب، وهو نور الله الذي لا ينطفئ، يحيي القلوب الغلف، ويثبت الحجة، ويقطع به المعذرة، به يسود الدين وتكتمل الشريعة التي جاء بها في عهده، لا من بعده، ويعصمه الله من الناس، فلا يتمكن منه أعداؤه، يقود الناس إلى الحق يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن مكانهم الذي هم فيه إلى العالم مستنيرين أقوياء. وهذا النبي يسكن الصحراء التي سكنها قيدار بن إسماعيل -الابن الثاني لإسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام- ولذلك فلتفرح تلك البلاد ترفع صوتها كما يتغنى سكان سالع أصحاب ثنيات الوداع جبل بالمدينة، ومن رءوس الجبال يهتفون بالتسبيح والتكبير والتلبية، وتمجيد الله -عز وجل- وكذلك في الجزر والصحراء. ومع هذا فهم أصحاب حروب وجهاد؛ يقودهم هذا النبي رجل الحرب، قد وعده الله بالنصر قذف الرعب في قلوب أعدائه قبل الوصول إليهم، وهو معنى: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) وأعداؤه منهزمون عبدة أوثان منحوتة، وأصحاب أصنام مسبوكة، يزعمون ألوهيتها، وقد جاءهم نبي البر بالشريعة السمحاء؛ فعظمها وكرمها، وقد أحبه ربه وسر به وفضله. هذا؛ وقد أُرسِل في شعب ضعيف متخلف، طعمة لكل آكل، نهبة لكل سالب، يتخطفون من الأرض، ولا ينقذون أنفسهم، ولا يستطيعون رد الاعتداء عليهم؛ فحبسوا أنفسهم، واختبئوا حتى مَنَّ الله -عز وجل- عليهم بهذا النبي العظيم -صلوات الله وسلامه عليه. فهل بعد هذا من وضوح في البشارة؟! من له أذنان للسمع فليسمع!.

وفي سفر إشعياء أيضًا: ترنمي أيتها العاقر التي لم تلدي، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض؛ لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب. سفر إشعياء الإصحاح 54 الفقرة الأولى. وهو هنا يتنبأ عن مكة المكرمة التي أنجبت سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- بينما أنجبت أرض بيت المقدس الأنبياء من بني إسرائيل؛ لهذا رمز إلى مكة بالمرأة العاقر بينما رمز إلى بيت المقدس بالمرأة الولود، ثم قال عنها كذلك: "قومي استنيري؛ لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرف عليك؛ لأنه هاهي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم؛ أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يسري، فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك؛ ارفعي عينيك حواليك، وانظري قد اجتمعوا، كلهم جاءوا إليك، يأتي بنوك من بعيد، تُحمل بناتك على الأيدي حينئذ تنظرين وتنيرين؛ يخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم، تعطيك كثيرة الجمال بكران مدان وعيفا، كلها تأتي من شبا تحمل ذهبًا ولبانًا، وتبشر بتسابيح الرب كل غنم قيدار، تجتمع إليك كباش نبيوت تخدمك، تصعد إليك مقبولة على مذبحي؛ لأزين بيت جمالي". سفر إشعياء الإصحاح 60 الفقرة 1: 7. وعيفا: اسم عبري معناه ظلمة: وهو ابن مديان بن إبراهيم، ونسله من بعده؛ حتى اختلط الاسم بين الرجل والقبيلة؛ واشتهرت القبيلة بالتجارة والجِمال، وكانت تسكن المناطق الشمالية من شبه الجزيرة العربية. أقول: فهذه نبوءة عن الكعبة المشرفة؛ لأنها منارة الهدى تتوهج بنور التوحيد؛ فتبدد الظلام الذي خيم على الأرض، ظلام الجهل والشرك، ويظهر بدلًا منه النور

الذي تمشي فيه الأمم ومعها الملوك، ثم يتحدث عن شعائر الحج بتفاصيلها، وعن الهدْي الذي يقدم في منى بعد الوقوف بعرفات، مما يتفق مع ما جاء في القرآن الكريم؛ فيقول: "ارفعي عينيكِ حواليكِ وانظري؛ قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليكِ يأتي بنوكِ من بعيد"؛ فهو كقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) وقوله: "يخفق قلبكِ ويتسع؛ لأنه تتحول إليكِ ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم" يعضده قول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص: 57) وقوله تعالى: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37). وأما حديث النص عن كثرة الجمال والغنم والكباش؛ فيؤيده قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج: 28) ثم هي من شعائر ديننا وحجنا؛ قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج: 37). هذا؛ وفي التوراة بشارات أخرى كثيرة بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا بخلاف الذي حرفوه، والذي حذفوه وكتموه فأنكروا رسالة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- فهذا موقف اليهود من أنبياء الله ورسله.

موقف اليهود من الإيمان باليوم الآخر.

موقف اليهود من الإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر: فأذكر فيه هذا أنني قرأت التوراة فلم أجد فيها حديثًا عن اليوم الآخر بتة! نعم ... لم تذكر التوراة شيئًا عن الآخرة، ولا عن الملائكة، ولم تذكر جنة ولا نارًا، وكل ما تعد به المحسنين مادي دنيوي فحسب، وذكر الآخرة لم يرد في نص واحد أو صريح؛ وكل ما ورد فيها من إشارات مثل كلمة "آخرتهم" أو "آخرتها" فإنها يحتمل أن تؤول إلى نهاية الأمر؛ لذلك كانت الحياة الدنيا هي غاية همهم، والمادية هي مبتغاهم الأسمى؛ بل شعارهم الذي يسيرون وراءه لا يضلون عنه؛ فقد صاروا نفعيين أنانيين يهدمون المبادئ من أجل ذواتهم ويدوسون المصالح العامة في سبيل منافعهم الشخصية؛ فحملتهم أنانيتهم ونفعيتهم أن يسلكوا كل سبيل مُلتوٍ وكل طريق منحرف للحصول على المال والمنافع؛ فلم يتورعوا عن الكذب والخداع، والغش والنفاق والتضليل. إن عدم ذكر اليوم الآخر عند اليهود في توراتهم المحرفة جعلهم لا يؤمنون إلا بالمادة، ولا قيمة للمعنويات عندهم، ولا وزن للأخلاق، ولا نصيب للروح، ولا مكان للمبادئ، ولا محل للصدق والوفاء، ولا وجود للأمانة والحياء؛ فهذه أمور لا يعرفها اليهود، وسائر الصفات التي هي فوق الغرائز. وهذا الإيمان بالماديات وحدها يقضي على مقومات الأخلاق الإنسانية والاجتماعية؛ بل على حقيقة الإيمان الديني؛ لأن جزءًا كبيرًا من الدين قائم على ما وراء المادة والغيبيات ... إنه الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك نرى اليهود لغلبة المادة وسيطرتها عليهم لا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه.

وليس أدل على ذلك من أن كتبة التوراة أخلوها من ذكر هذا اليوم، وليس هذا فقط؛ بل إذا رجعنا إلى مصدر آخر من مصادرهم -ألا وهو التلمود- وجدنا حديث التلمود عن النعيم أو العذاب يرتبط بالدنيا لا بالآخرة؛ فيقول التلمود: بعد موت اليهودي تخرج روحه وتشغل جسمًا آخر؛ أما اليهود الذين يرتدون عن دينهم بقتلهم يهوديًّا؛ فإن أرواحهم تدخل بعد موتهم في الحيوانات أو النباتات ثم تذهب إلى الجحيم، وتعذب مدة عام كامل ثم تعود ثانيًا، وتدخل في الجمادات ثم في الحيوانات ثم في الوثنيين ثم ترجع إلى جسد اليهودي بعد تطهيرها، وهذا التناسخ فعله الله رحمة باليهود؛ لأن الله أراد أن يكون لكل يهودي نصيب من الحياة الأبدية. جاء ذلك في التلمود وفي (همجية التعاليم الصهيونية) وفي (بروتوكولات حكماء صهيون) و (اليهود بين القرآن والتلمود). ومع هذا؛ فنحن نعتقد أن اليهود لهم حديث يرتبط بالجنة والنار رغم خلو التوراة من الكلام على الآخرة؛ لكن بمراجعة التلمود نجدهم يتحدثون عن الجنة والنار؛ فيعتقدون الآتي: لا يدخل الجنة إلا اليهود؛ وسيظل المسلمون في النار إلى الأبد؛ لأنهم لا يغسلون سوى أيديهم وأرجلهم، والمسيحيون يدخلون النار لأنهم لا يختتنون، كل الناس يوم القيامة في النار إلا اليهود ... هذا ما زعمه اليهود في التلمود، والذي أكده القرآن الكريم؛ فأشار القرآن الكريم إلى استهانتهم بأمور الدين واستخفافهم بالنار، ومن ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران: 24) ومع هذا كله؛ يبلغ بهم الافتراء إلى حد احتكار الجنة لأنفسهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111).

فهذا هو مبلغ ما وصلنا إليه في إيمانهم باليوم الآخر الذي لا نجد له ذكرًا في التوراة، ولكن وجدنا كلامهم عن الجنة والنار في التلمود مع ما أكده القرآن عنهم في زعمهم أنهم لن يدخلوا النار، وإن دخلوها فلن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة. لذلك نرى اليهود اتصفوا بصفات قبيحة وبأخلاق سيئة، وبعقائد فاسدة ومسالك خبيثة؛ فهم لا يؤمنون، ولا إيمان عندهم؛ بل أليق الأوصاف بهم الكفر والجحود، ونقض العهود، والأنانية والغرور والجبن والكذب، واللجاج والمخادعة، والعصيان والتعدي، وقسوة القلب، وانحراف الطبع، والمسارعة في الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل، وسوء أدبهم مع الله تعالى، وعداوتهم لملائكته، وقتلهم لأنبيائه، وجحودهم الحق، وكراهتهم الخير لغيرهم -بدافع الأنانية والحسد، وتحايلهم على استحلال محارم الله تعالى، ونبذهم لكتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام الشيطانية، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، ونسيانهم حظًّا مما ذكروا به، وحرصهم على الحياة وجبنهم عن الجهاد في سبيل الله، وطلبهم من نبيهم أن يجعل لهم إلهًا كما لغيرهم آلهة، وعكوفهم على عبادة العجل، وتنطعهم في الدين، وإلحافهم في المسألة، وإنكارهم الآخرة، وتنكرهم للقضاء والقدر ... إلى غير ذلك من هذه الرذائل التي دمغهم القرآن الكريم بها وسجلها عليهم، والتي تكشف عن حقيقتهم وتعصبهم الأعمى، التي استحقوا بسببها الطرد من رحمة الله، وضرب الذلة والمسكنة عليهم. إن هذه القبائح التي سجلها القرآن عليهم يراها الإنسان واضحة جلية فيهم على مر العصور واختلاف الأمكنة، لم تزدهم الأيام إلا رسوخًا فيها، وتمكنًا منها وتعلقًا بها، وما ذكر من رذائل ما هو إلا نماذج من قبائحهم ومفاسدهم، وإن

هذه القبائح والمفاسد قد ورثها خلف اليهود عن سلفهم، وذكر القرآن لها ليسجل عليهم انحرافهم عن الحق، وإيثارهم للغي على الهدى والتعصب على التسامح؛ وليحذر المؤمنين من شرورهم وقبائحهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37). ومع ذلك فاليهود لهم ادعاءات كاذبة يزعمون معها أنهم خير الناس، وأنهم أحب الناس إلى الله؛ فهم ادعوا أن الهدى في اتباع سبيلهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة: 135) وزعموا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه: {قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة: 18). ونعى الله -عز وجل- عليهم تأليه غيره؛ كعزير والأحبار: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 30، 31) وادعاؤهم بأن ذنوبهم مغفورة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف:169، 170). وقولهم ليس علينا في الأميين سبيل -أي من غير اليهود-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ

قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران:75، 76)؛ فنعى الله -عز وجل- عليهم أمورًا كثيرة فقال -سبحانه وتعالى-: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} (النساء:153، 154) {قُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (النساء: 154) {قُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} (النساء: 154) {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7) {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (النساء: 155، 156). {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 157 - 161). هكذا كان اليهود وكانت عقائدهم وكان حالهم في ماضيهم وفي واقعهم، وضح القرآن ما عليه اليهود من عقائد ودعاوى باطلة، ورد عليهم بما أخرس ألسنتهم، وأبطل حجتهم، وبما يقطع دابر إفكهم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42). نكتفي بهذا القدر عن عقائد اليهود وعن حديثنا عن اليهود لننتقل إلى كلام آخر عن النصارى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 النصرانية من حيث التسمية والمصادر.

الدرس: 10 النصرانية من حيث التسمية والمصادر.

أصل التسمية بالنصرانية والمسيحية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (النصرانية من حيث التسمية والمصادر) أصل التسمية بالنصرانية والمسيحية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فأبدأ حديثي عن النصرانية كواحدة من أهم الرسالات السماوية الديانة المسماة بالنصرانية، وكذا بالمسيحية: فالنصرانية هي الاسم القديم لأتباع عيسى -عليه السلام- ولا يعني هذا أنه الدين الذي نزل على عيسى -عليه السلام- فقد علم سلفًا أن الدين الذي أنزله الله -عز وجل- على كل الأنبياء والرسل هو الإسلام؛ لأن الله -عز وجل- قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) والرسل رسله والخلق خلقه؛ فأرسل رسله إلى خلقه بالدين الذي عنده: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) فعيسى -عليه السلام- ما جاء إلا بالإسلام وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52) والحواريون شهدوا بذلك أيضًا في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111). لكن كلمة "النصرانية" -وإن كانت قديمة- ترجع في تسميتها لسبب أو لآخر؛ فهل ستعود إلى قولة الحواريين: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} كما في قوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) لكن يكون هذا على غير القياس لغة، والأصح من هذا أن التسمية نسبة إلى قرية الناصرة، وقد أطلق القرآن الكريم عليهم هذه التسمية في قوله تعالى: {وَقَالَتِ

النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) وفي قوله تعالى أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62). إذن الناصرة هي النسبة التي منها كلمة نصرانية، وليست دينًا منزلًا من السماء؛ كما أن هؤلاء القوم عرفوا أيضًا بالمسيحيين والديانة عرفت بالمسيحية: والمسيحية نسبة إلى المسيح -عليه السلام- والمسيح -عليه السلام- سمي بهذا الاسم الذي معناه الصديق، وقال بعض أهل اللغة: لا يعرف هذا؛ ولعله كان يستعمل في بعض الأزمان، فدرس فيما درس من الكلام، وقد درس من كلام العرب كثير. قال ابن سيده: والمسيح عيسى ابن مريم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- سمي بذلك لصدقه؛ وقيل: سمي بذلك لأنه كان سائحًا في الأرض لا يستقر. وقيل: سمي بذلك؛ لأنه كان يمسح بيده على العليل والأكمه والأبرص فيبرئه الله، أو لأنه مسح بالبركة، وقيل: سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح الأرض، أي يقطعها؛ أو لأنه كان أمسح الرِّجل؛ ليس لرجله أخمص، قيل: سمي مسيحًا لأنه خرج من بطن أمه مسموحًا بالدهن، والله تعالى أعلم بذلك؛ لكنه يسمى بالمسيح، وقد قال تعالى مبشرًا مريم -رضي الله عنها-: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران: 45). وقيل: سمى الله ابتداء أمره كلمة؛ لأنه ألقى إليها الكلمة، ثم كون الكلمة بشرًا، ومعنى الكلمة معنى الولد والمعنى يبشرك بولد اسمه المسيح. والمسيح عيسى ابن مريم يختلف عن المسيح الدجال الذي سمي بذلك؛ لأن عينه ممسوحة عن أن يبصر بها؛ فهما ضدان: مسيح الهداية عيسى ابن مريم -عليه السلام- ومسيح الضلالة المسيح الدجال -عليه لعنة الله- فإذا ذكرت كلمة المسيحية أو

المسيحيون قيل: هم أتباع المسيح -عليه السلام- قلت: بل عبدته؛ لأنه لا يقال على أتباع المسيح مسيحيون؛ بل إذا عبدوا المسيح يمكن أن يقال عنهم هذا، كما يقال عن المسلمين: إنهم مسلمون، فإذا أريد أن يقال: نحن عبدة محمد؛ قيل: محمديون، وقد حاول كثير من المستشرقين، ومن لف لفهم أن يصف المسلمين بهذا الوصف؛ فيقول: إن المحمديين ... إن الديانة المحمدية ... إلى غير ذلك؛ حتى يلصق بنا هذا الاتهام، ونحن لا نعبد محمدًا -عليه الصلاة والسلام- لقولة الصديق -رضي الله عنه-: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات؛ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ... فنحن لا نعبد محمدًا -عليه الصلاة والسلام- لذا لا يقال عنا: محمديون؛ أما المسيحيون يمكن أن يقال عنهم كذلك؛ لأنهم يعبدون المسيح -عليه السلام- ويعتقدون فيه أنه إله وابن إله وثالث ثلاثة ... إلى آخر ما اعتقدوه. واسم "المسيحيين" أحدث من اسم النصارى، ولعل نشأته جاءت مع مذهب كان يؤمن بعودة عيسى ابن مريم -عليه السلام- وتحدثوا عن هذا كثيرًا: عودة المسيح؛ فعرفوا بالمسيحيين، ثم اشتهر هذا الاسم فيهم، وصار محببًا إليهم، وبعد أن كان في الغرب صار إلى بلاد الشرق أيضًا. وليس هذا فقط اسم للديانة أو لأتباعها؛ فكما عرفوا بالمسيحيين وبالنصارى، والديانة عرفت بالنصرانية والمسيحية؛ كذلك عرف القوم حديثًا باسم الصليبيين، ويقال: "الديانة الصليبية"؛ لأنه ارتبط بهم هذا الاسم لعبادتهم للصليب وتقديسهم له، وكذلك بعد حروبهم التي أطلقوا عليها اسم الحروب الصليبية، ورفعوا فيها الصليب يقاتلون دونه ومن ورائه، وبكثرة الحملات الصليبية انتشر فيهم هذا الاسم: "الصليبيون"، ويمكن أن يقال عن الديانة الصليبية لتعظيمها الصليب، واعتقادها أن المسيح صلب -برأه الله مما يقولون.

النصرانية من حيث المصادر المعتمدة عندهم، وتاريخها، والنظر إليها.

فهذه ثلاثة أسماء إذن تذكر عن هذا الدين بخلاف الاسم الأصلي الذي ينبغي أن يكون ما لم يحرف هذا الدين؛ ألا وهو الإسلام الذي جاء به عيسى -عليه السلام- لكن بعد هم نصارى، هم مسيحيون، هم صليبيون، ولو قلنا مثلثون نظرًا لأن عقيدة التثليث أهم عقائدهم يمكن أن يقال عنهم مثلثون، ويمكن أن يقال على نصارى مصر أقباط، نسبة إلى بلدهم في اسمها القديم قبط؛ فهم أقباط، وكانوا يعرفون بهذا الاسم ولا يزالون؛ لكن هذا ليس دينًا إنما هو نسبة إلى مكان: مصر في اسمها القديم قبط، في اسمها الإنجليزي مثلًا Egypt فيقال باللغة القديمة أقباط وبالإنجليزية Egyptian. النصرانية من حيث المصادر المعتمدة عندهم، وتاريخها، والنظر إليها تعتمد المسيحية أو النصرانية في عقائدها وتشريعاتها على: - الكتاب المقدس لديهم: وهو يشتمل على التوراة والأناجيل ورسائل الرسل وأعمالهم، ورسائل بولس إجمالًا، فالتوراة تعتبر المصدر الأساسي للتشريع عندهم؛ لأن عيسى -عليه السلام- أعلن أنه غير ناسخ للتوراة فقال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء! ما جئت لأنقض بل لأكمل! فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس حتى يدعى الكل". ولقد كان المسيح عيسى ابن مريم مصدقًا للتوراة في العقيدة والشريعة؛ ولذلك جاء في التوراة: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد.

وجاء في إنجيل متى ومرقص ولوقا أن عالمًا من علماء بني إسرائيل سأل المسيح عن الوصية العظمى في التوراة فأجابه بقوله: "الرب إلهنا رب واحد" يقول مرقص: فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون؛ فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد". وعلى ذلك سار عيسى -عليه السلام- ومن كان معه، وكان -عليه السلام- يزيل تشدد علماء بني إسرائيل، ويصحح لهم تفسير ما اختلفوا فيه، وانطلق أتباع عيسى -عليه السلام- بدعوته؛ حتى كانت دعوة بولس المشئومة، والتي غير فيها وبدل؛ كما ستعلم ذلك في موضعه -إن شاء الله تعالى. والخلاصة: أن التوراة مصدر أساسي عند النصارى، وما ذكرناه عن التوراة في الكلام عن اليهود يذكر هنا، غير أنه يقال هناك بعض الأسفار المعتبرة عند اليهود مرفوضة عند المسيحيين -مثل سفر إستير- لعدم اعتقادهم صحة الوحي فيها. أقول: فكل ما ذكر في التوراة عن الله -عز وجل- يقال في عقيدة النصارى: أنهم لم يعتقدوا نسخه، ولا ذكروا كذبه، ولا قالوا ببطلانه؛ فهي عقيدتهم إذن في الله -جل وعلا- مضافًا إليها ما قالوه بأن الله -سبحانه وتعالى- تنزل من عليائه وحل في مريم، وتربى في بطنها جنينًا وتغذى من دم حيضها، ثم نزل من رحمها؛ فتغذى من ثديها، ثم تربى على حجرها؛ حتى كبر وصار فتى يافعًا بعد أن كان طفلًا ثم شابًّا قويًّا؛ فلما بلغ مبلغ الرجال، وقام بواجب دعوته كذبه اليهود وآذوه واضطهدوه، وفي نهاية الأمر أمسكوه ووضعوا الشوك على رأسه، وبصقوا في وجهه ولكموه، ثم حكموا عليه وصلبوه {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5).

وما ذكر عن الأنبياء هناك من فواحش واتهامات يقال هنا كذلك في عقيدة النصارى ما لم يكذبوه ويرفضوه؛ ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث؛ فهي إذن عقيدتهم في الأنبياء مضافًا إليها ما زعموه في تقديس الأنبياء حتى وصولهم إلى درجة البنوة لله أو الألوهية، وكذلك الزعم للحواريين بأنهم رسل، ولا عصمة لهم ولا معجزة تؤيدهم، في الوقت الذي أنكروا فيه نبوة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كاليهود أيضًا؛ وقد ثبتت نبوته في الإنجيل كما في التوراة، وما ذكر في التوراة من تعصب يذكر هنا أيضًا في معتقدات النصارى وفي مصدرهم؛ لأنه كتابهم المقدس، والتوراة شريعتهم قبل الإنجيل، وما جاء عيسى ليغير منها حرفًا بل يكمل؛ والإنجيل ما هو إلا بشارة وأخلاق روحية؛ فالتوراة إذن مصدرهم الأول الذي يستقون منه تشريعاتهم وأحكامهم -وإن ادعى بعضهم نسخ بعض أحكامها؛ كما هو مذكور في مواضعه في الإنجيل. المصدر الثاني: الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم: ولفظ الإنجيل مختص بكتب هؤلاء الأربعة، وقد يطلق مجازًا على مجموع كتب العهد الجديد، وهذا اللفظ معرب كان في الإنجيل اليوناني إنكليون، بمعنى البشارة والتعليم؛ كما يسمى هذا الجزء من الكتاب المقدس باسم العهد الجديد، يقابل العهد القديم: وهو التوراة، ويشتمل على سبعة وعشرين كتابًا، على رأسها الأناجيل الأربعة: إنجيل متى، إنجيل مرقص، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا. ويلاحظ أن هذه هي الأناجيل الأربعة التي اعترفت بها الكنيسة، بعد أن اختارتها من عدد كبير من الأناجيل، وأصدرت قرارًا بإعدام ما عداها، واتخذت إجراءات صارمة في تنفيذ هذا القرار؛ حتى لم يبقَ منها سوى إنجيل برنابا، وهو غير معترف به أيضًا.

بقية كتب العهد الجديد على النحو التالي: كتاب أعمال الرسل -الحواريون، رسالة بولس إلى أهل رومية، رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، رسالته الثانية إليهم، رسالته إلى أهل غلاطية، رسالته الأولى إلى أهل أفسس، رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، رسالته الثانية إليهم، رسالته الأولى إلى تيموثاوس، رسالته الثانية إليهم، ورسالته تيطس، ورساله إلى قليمون، ورسالته إلى العبرانيين، ورسالة يعقوب، ورسالة بطرس الأولى، ورسالة بطرس الثانية، ورسالة يوحنا الأولى، رسالة يوحنا الثانية، رسالة يوحنا الثالثة، رسالة يهوذا، ورؤيا يوحنا ... كذا في فهرست العهد الجديد، ولنا وقفة مع كل سفر من أسفار العهد الجديد. أولًا: الأناجيل الأربعة: نظرة عامة: هذه الأناجيل الأربعة لم يملها المسيح، ولم تنزل عليه هو بوحي أوحي إليه؛ لكنها كتبت بعده بفترات متباعدة، ولقد ذكر بعض المؤرخين إلا أنه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا قبل آخر القرن الثالث؛ فأول من ذكر هذه الأناجيل أربعة أرينيوس في سنة 209 ثم جاء من بعده كرنس إسكندريانوس في سنة 216، وأظهر أن هذه الأناجيل الأربعة واجبة التسليم، ولم تكتفِ الكنيسة باختيار هذه الأناجيل الأربعة؛ بل أرادت إرغام الناس على قبولها لاعتقادها صحتها ورفض غيرها، وتم لها ما أرادت، وصارت هذه الأناجيل هي المعتبرة دون سواها. وهذه الأناجيل تشتمل على أخبار يحيى -يوحنا المعمدان عندهم- والمسيح -عليه السلام- مع تفصيل القول عن المسيح، بعد إجمال الحديث عن يحيى وما كان منه، وما أحاط

بولادته من عجائب وغرائب، وما كان يحدث منه أمور خارقة للعادة، ولا تحدث من سواه من البشر، وما كان يحدث له من أحداث، وما كان يجري بينه وبين اليهود، وما كان يلقيه من أقوال وخطب وأحاديث وأمثال ومواعظ، وفيها قليل من الشرائع التي تتعلق بالزواج والطلاق، ثم أخبار المؤامرة عليه، واتهامه، والقبض عليه، ومحاكمته؛ سواء أكانت تلك المحاكمة أمام اليهود أم أمام الرومان، ثم الحكم عليه بالموت صلبًا، وصلبه بالفعل -فيما يعتقدون- وفيها أيضًا قيامته من قبره ومكوثه أربعين يومًا ثم رفعه إلى السماء، وفي الجملة هي تشتمل على أخبار المسيح، وصلواته وأقوال وعجائبه من بدايته إلى نهايته في هذا العالم. وقفة سريعة مع كل إنجيل على حدة بكلمة عن تاريخ تدوينه والتعريف بمؤلفه: 1 - إنجيل متى: ترجمة متى: هو أحد تلاميذ المسيح الاثنا عشر، ويسميهم المسيحيون رسلًا، ولقد كان قبل اتصاله بالمسيح من جباة الضرائب للرومان في كفر ناحوم من أعمال الجليل، وكان اليهود ينظرون إلى الجباة نظرة ازدراء؛ لأنها تحمل صاحبها الظلم والعنف، والعمل فيها معين للدولة الرومانية المغتصبة التي تحكم البلاد بغير رضا أهلها؛ ولكن المسيح اختاره تلميذًا من تلاميذه، ولما أنكر الفريسيون عليه ذلك قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب؛ بل المرضى؛ فاذهبوا وتعلموا ما هو؛ إني أريد رحمة لا ذبيحة؛ لأني لم آت لأدعو أبرارًا؛ بل خطاة إلى التوبة. إنجيل متى إصحاح 9 الفقر 12: 13.

ولما صعد المسيح إلى ربه جال متى للتبشير بالمسيحية في بلاد كثيرة، وإن كان موطن دعايته -كما يروي مؤرخو المسيحية- هو الحبشة التي مات بها سنة سبعين من الميلاد، وفي رواية سنة ثلاث وستين ميلادية. إنجيل متى: اتفق جمهورهم على أنه كتب إنجيله بالعبرية أو السريانية، وأن أقدم نسخة كانت باليونانية، واختلفوا في أمور ثلاث هي: 1 - الجهل في تاريخ التدوين: والحق أن باب الاختلاف في شأن التاريخ لا يمكن سده، ولا يمكن ترجيح روايته، ولا جعل تاريخ أولى من تاريخ بالاتباع، ويمكن حصر التواريخ في سنة سبع وثلاثين، وثمان وثلاثين، وثلاث وأربعين، وثمان وأربعين، وواحد وستين وأربع وستين؛ فتعجب وتأمل. 2 - جهل النسخة الأصلية التي كتبت بالعبرية. 3 - جهل المترجم وحاله من صلاح أو غيره: ولئن تسامح الباحث في تاريخ التدوين، فليمنعه العلم من الاسترسال في التسامح؛ حتى يعرف الأصل الذي ترجم منه، ومدى مطابقته الترجمة للأصل؛ ولكن عز علينا العلم بالأصل، ولقد كنا نتعزى عن ذلك لو عرفنا المترجم، وأنه ثبت ثقة أمين في النقل، عالم لا يزيد على العلماء، فقيه في المسيحية، عارف للغتين فاهم لهما، مُجيد في التعبير بهما؛ فعندئذ كنا نقول ثقة

روى عن ثقة بترجمته، ونخل الخلة بتلك الرواية، ونرأب الثلمة بتلك النظرة؛ ولكن قد امتنع هذا أيضًا؛ فقال جمهرة علمائهم: إن المترجم لم يُعرف؛ فبقيت الثلمة من غير ما يرأبها؛ فنحن بين أيدينا كتاب لا يعرف تاريخ تدوينه، مجهول أصله، لا يعرف مترجمه. 2 - إنجيل مرقص: ترجمة مرقص: اسمه يوحنا، المقلب بمرقص، وأصله من اليهود، وكانت أسرته بأورشليم وقت ظهور المسيح، ولم يكن من الاثنا عشر الذين تتلمذوا على يد المسيح، وإن كان من أوائل الذين أجابوا دعوته، فاختاره من بين السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقادهم من بعد رفعه وألهموا بالتبشير للمسيحية كما ألهموا مبادئها؛ لكن مرقص كان يذكر ألوهية المسيح، وقد لازم خاله برنابا وبولس في رحلتهما إلى أنطاكية ثم تركهما وعاد إلى أورشليم، ثم التقى مرة أخرى بخاله واصطحبه إلى قبرص، ثم افترقا؛ فذهب إلى شمال أفريقيا، ودخل مصر في منتصف القرن الأول؛ فوجد في مصر أرضًا خصبة لدعوته ودخل كثير من المصريين فيها، وكان يتردد بين مصر وروما أحيانًا، وإلى شمال أفريقيا أحيانًا أخرى؛ ولكن مصر كانت المستقر الأمين له؛ فاستمر إلى أن ائتمر به الوثنيون؛ فقتلوه سنة اثنين وستين من الميلاد. يتفق المسيحيون على أن هذا الإنجيل كتب باللغة اليونانية؛ ولكنهم اختلفوا في الآتي:

1 - صحة نسبة الإنجيل إلى مرقص: فابن البطريك يقرر أن الذي كتبه بطرس عن مرقص في مدينة رومية ونسبه إليه، وأرينوس يقرر أن الذي كتبه مرقص من غير تدبير بطرس؛ لأنه كتبه بعد موت بطرس وبولس؛ فمن الكاتب إذن؟! وليس بين أيدينا ما نرجح به إحدى الروايتين على الأخرى. 2 - جهل تاريخ التدوين: واختلافهم في زمان تأليفه بين هذه السنوات: سنة ست وخمسين أو خمس وستين أو ستين أو ثلاث وستين أو واحد وستين؛ فبين أيدينا كتاب مشكوك في صحة نسبته إلى صاحبه ومختلف في تاريخ تدوينه. 3 - إنجيل لوقا: ترجمة لوقا: اختلف الباحثون في التعريف بصاحب هذا الإنجيل؛ فمن قائل: إنه أنطاكي، ولد بأنطاكية، ومن قائل: إنه روماني، ولد بإيطاليا، ومن قائل: إنه كان طبيبًا، ومن قائل: إنه كان مصورًا ... وكلهم متفقون على أنه من تلاميذ بولس ورفقائه، ولم يكن من تلاميذ المسيح، ولا من تلاميذ حوارييه؛ فشأنه من شأن بولس لا من شأن المسيح أو التلاميذ له. اختلف الباحثون في القوم الذين كتب لهم أولًا هذا الإنجيل؛ فمن قائل: إنه كتب لليونان، ومن قائل: إنه كتب لليهود، ومن قائل: إنه كتب للرومان، وآخر:

للكنيسة العامة، ومن قائل: إنه كتب إلى ثاوفوليس، وهذا الأخير كان مصريًّا لا يونانيًّا؛ فهو كتب للمصريين لا لليونان. جهل تاريخ التدوين: اختلفوا في زمن تأليفه ما بين سنة ثلاث وخمسين وثمان وخمسين وستين وثلاث وستين وأربع وستين؛ فبين أيدينا كتاب لا نعرف على وجه القطع شخصية كاتبه، وصناعته، والقوم الذين كتب لهم، وتاريخ تدوينه. 4 - إنجيل يوحنا: ترجمة يوحنا: يختلف الباحثون حول يوحنا، وصحة نسبة الإنجيل إليه، وتاريخ تدوينه: 1 - فجمهور النصارى على أن كاتبه هو يوحنا الحواري ابن زيدي الصياد الذي كان يحبه السيد المسيح؛ حتى إنه استودعه والدته وهو فوق الصليب -كما يعتقدون- وقد نُفي في أيام الاضطهادات الأولى، ثم عاد إلى أفسس؛ ولبث يبشر فيها حتى توفي شيخًا هرمًا. 2 - أن كاتبه يوحنا آخر لا يمت إلى الحواري بصلة روحية؛ فواضعه ليس يوحنا الحواري؛ إنما هو كتاب مزور أراد صاحبه أن يضاد اثنين من الحواريين بعضهما لبعض: وهما القديسان يوحنا، ومتى، وهذا هو الذي عليه محققو المسيحية، وقد عد المتعصبون من المسيحيين قولهم هذا خروجًا على وجه المسيحية.

أما تاريخ تدوينه: فقد اختلفوا فيه ما بين سنة تسع وستين، وسبعين، وثمان وستين، وتسع وثمانين، وخمس وتسعين، وثمان وتسعين، وست وتسعين ميلاديًّا؛ إذن فليس له تاريخ محدد لتدوين هذا الإنجيل. أما سبب تدوينه: إن المتأمل في كتب النصارى ومؤلفاتهم يرى أنهم مجمعون -أو يكادون- على أن سبب تدوين يوحنا لإنجيله هو إثبات ألوهية المسيح التي اختلفوا في شأنها؛ لعدم وجود نص في الأناجيل الثلاثة: متى، ومرقص، ولوقا -بعينها. ويستنبط من هذا أن الأناجيل الثلاثة الأولى ليس فيها ما يدل على ألوهية المسيح، أو كانت كذاك قبل تدوين الإنجيل الرابع على الأقل، وأن النصارى مكثت أناجيلهم نحو قرن من الزمان ليس فيها نص على ألوهية المسيح. أيضًا أن الأساقفة اعتنقوا ألوهية المسيح قبل وجود الإنجيل الذي يدل عليه؛ ولما أرادوا أن يحتجوا على خصومهم اتجهوا إلى يوحنا ليكتب لهم إنجيله الذي يشتمل على الحجة، وهذا معناه أن الاعتقاد بألوهية المسيح سابق لوجود نص في الكتب عليه. والواقع أن لهذا الإنجيل شأنًا أكثر من غيره؛ لأنه الإنجيل الذي صرح بألوهية المسيح وأصبحت عقيدة النصارى وأساس التباين بينها وبين العقائد الأخرى. فهذه نظرة سريعة وخاطفة حول الأناجيل الأربعة -كما يعتقد كتاب النصارى لا كما يعتقد غيرهم- وهي -كما ترى- مشكوك في أصحابها وفي تدوينها وفي ترجمتها وفي كل شيء فيها، هذا فضلًا عما اشتملت عليه من تناقض واضح وتحريف ظاهر، وسنشير إلى شيء من هذا مجملًا -إن شاء الله تعالى.

والذي يجدر التنبيه إليه ويجب أن نعتقده: أن هذه الأناجيل ليست نازلة على عيسى -عليه السلام- في نظرهم فضلًا عن غيرهم، وليست منسوبة إليه؛ ولكنها منسوبة لبعض تلاميذه ومن ينتمي إليهم، وهي -كما علمت- تشتمل على أخبار المسيح، وقصصه ومحاوراته وخطبه وابتدائه ونهايته في الدنيا -كما يعتقدون هم- فهي على أقصى تقدير لا تزيد عن كتاب سيرة لحياة المسيح ممتلئة بالخرافات والمتناقضات، وليتها صدقت في حياة المسيح كما صدق الكتاب عندنا في عرض سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكن ترى فيها العجب العجاب؛ إن دل ذلك على شيء؛ فإنما يدل على تعصب هؤلاء القوم لباطلهم ومحاربتهم للحق وجفوتهم له؛ فأين إنجيل عيسى الحق؟!. وبعد هذه النظرة السريعة حول تاريخ الأناجيل المعتمدة عندهم ينبغي أن نقول: ثبوت تحريف الأناجيل: وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وكما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13). هذا؛ وتحريف هذه الأناجيل واضح لكل ذي عينين، ومع ذلك يتعصب لها النصارى، والتناقض الذي في هذه الأناجيل ليس فيما بين إنجيل وإنجيل! لا؛ ولكن في الإنجيل الواحد نفسه؛ بل في الإصحاح الواحد، ولا أكون مبالغًا إن قلت: إن التناقض والتحريف يبدو واضحًا في الصفحة الواحدة ما بين أولها وآخرها، وربما وسطها أو ذات سطرها، ولا يقف حد التحريف عند متنها فقط؛ بل يتعداه إلى السند أيضًا.

وهاك شيء من الدليل على سبيل الإشارة والإجمال لا على سبيل التوضيح والتفصيل؛ فنقول: إن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد القديم والجديد، وليس عندهم أدنى دليل على أن سِفرًا من الأسفار كتب بواسطة النبي فلان ووصل إلينا بالسند المتصل بلا تغيير ولا تبديل، والإسناد إلى شخص ذي إلهام لمجرد الظن والوهم لا يكفي في الإثبات؛ بل دعوى الإلهام مردودة وباطلة؛ كما سنتبينه -إن شاء الله تعالى- بل ثبت لديهم أن الكثير من الأسفار هي من الأكاذيب المصنوعة، ولا حجة في شيء لا يثبت صحة إسناده لقائله، "والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال"، ولقد اعتذر بعضهم عن ذلك لوقوع المصائب والفتن على المسيحيين لمدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة؛ فنحن ليس أمامنا أي إسناد لهم، وما رأينا فيها شيئًا غير الظن والتخمين ... يقولون بالظن ويتمسكون ببعض القرائن، وإن الظن في هذا الموضوع لا يغني شيئا. نقول أيضًا: إن هذه الكتب مملوءة بالاختلافات والأغلاط، وقد أشرت عند الكلام عن التوراة إلى بعض الاختلافات في التوراة، وتلك بعض الإشارات في الأناجيل: - من قابل بيان نسب المسيح الذي في إنجيل متى بالبيان الذي في إنجيل لوقا وجد ستة اختلافات. - وكذلك الاختلافات حول مكان إقامته، ومدة إقامته، وانتقاله إلى مصر أو إلى أورشليم. - وقصة التموج والهيجان في البحر بعد وعظ الأمثال في مرقص، وبعد وعظ الجبل في متى في الإصحاح الثامن، وبعد وعظ الأمثال في الإصحاح الثالث عشر. - كتب مرقص في الإصحاح الحادي عشر أن مباحثة اليهود والمسيح كانت في اليوم الثالث من وصوله إلى أورشليم، وكتب متى في الإصحاح الحادي والعشرين أنها كانت في اليوم الثاني؛ فأحدهما غلط.

- أرسل اليهود والكهنة واللاويين إلى يحيى ليسألوه: من أنت؟ فسألوه، وقالوا له: أأنت إيلياء؟ فقال: لست أنا بإيلياء. كما جاء في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا في الآية 14 من الإصحاح 11 من إنجيل متى قول عيسى في حق يحيى -عليهما السلام- هكذا: وإن أردتم أن تقبلوا؛ فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي. فلزم التناقض. - ما جاء في إنجيل متى الإصحاح 11 ومرقص الإصحاح1 ولوقا إصحاح 7 هكذا: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. وفي سفر ملاخي إصحاح 3 هي هكذا: ها أنا ذا مرسل ملاكي ويسهل الطريق أمام وجهي. - كتب متى في الإصحاح 20 من إنجيله: أن عيسى لما خرج من أريحا وجد أعميين جالسين في الطريق، فشفاهما من العمى، وكتب مرقص في الإصحاح 5 من إنجيله: أنه وجد أعمى واحدًا اسمه بارتمواوس فشفاه. - وكتب متى في الإصحاح الثامن أن عيسى لما جاء إلى عبر، إلى كورة الجدريين؛ استقبله مجنونان خارجان من القبور فشفاهما، وكتب مرقص في الإصحاح 5 ولوقا في الإصحاح 8: أنه استقبله مجنون واحد خارج من القبور فشفاه. - كتب متى في الإصحاح 21: أن عيسى أرسل تلميذين إلى القرية ليأتيا بالأتان والجحش، وركب عليهما. وكتب الثلاثة الباقون: ليأتي بالجحش؛ فأتيا به وركبا عليه. - كتب مرقص في الإصحاح 1: أن يحيى كان يأكل جرادًا وعسلًا بريًّا، كتب متى في الإصحاح 11: أنه كان لا يأكل ولا يشرب.

- من قابل الإصحاح 1 من إنجيل مرقص، والإصحاح 4 من إنجيل متى، والإصحاح 1 من إنجيل يوحنا وجد ثلاثة اختلافات في كيفية إسلام الحواريين. - من قابل الإصحاح 9 من إنجيل متى والإصحاح 5 من إنجيل مرقص في قصة ابنة الرئيس وجد اختلافا. - في الآية 31 من الإصحاح 5 من إنجيل يوحنا قول المسيح هكذا: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق. - يعلم من الإصحاح 15 من إنجيل متى: أن المرأة المستغيثة لأجل شفاء ابنتها كانت كنعانية ويعلم من الإصحاح 7 من إنجيل مرقص: أنها كانت يونانية باعتبار القوم، وفينيقية سورية باعتبار القبيلة. - كتب مرقص في الإصحاح 7: أن عيسى أبرأ واحدًا كان أصم وأبكم، وبالغ متى في الإصحاح 15 فجعل هذا الواحد جمًّا غفيرًا، وهذه المبالغة كما بالغ يوحنا في آخر إنجيله هكذا: وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة. فانظروا إلى ظنه!. - في الإصحاح 26 من إنجيل متى: أن عيسى قال مخاطبًا للحواريين: إن واحدًا منكم يسلمني، فحزنوا جدًّا، وابتدأ كل واحد منهم يقول: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني؛ فأجاب يهوذا مسلمه، وقال: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت ... وفي الإصحاح 13 من إنجيل يوحنا هكذا: قال عيسى -عليه السلام-: إن واحدًا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظر بعضهم إلى بعض متحيرين؛ فأشار بطرس إلى تلميذ كان عيسى يحبه أن يسأله، فسأل، فأجاب: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه؛ فغمس اللقمة وأعطاها يهوذا.

- كتب متى في الإصحاح 26 في كيفية أسر اليهود عيسى -عليه السلام- أن يهوذا كان قد قال لليهود: أمسكوا من أقبله؛ فجاء معهم وتقدم إلى عيسى وقال: السلام يا سيدي وقبَّله، فأمسكوه، وفي الإصحاح 18 من إنجيل يوحنا هكذا: فأخذ يهوذا الجند من عند رؤساء الكهنة والفريسيين؛ فجاء؛ فخرج يسوع، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم عيسى: أنا هو -وكان يهوذا مسلمه أيضًا واقفًا معهم- فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض؛ فسألهم مرة أخرى من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري؛ فأجاب عيسى: قد قلت لكم: إني أنا هو؛ فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون. - اختلف الإنجيليون الأربعة في بيان إنكار بطرس على ثمانية أوجه فهم من الأناجيل الثلاثة الأوَل: أن عيسى -عليه السلام- نحو الساعة السادسة كان على الصليب، ومن إنجيل يوحنا أنه كان في هذا الوقت في حضور بيلاطس البنطي. - يعلم من متى أن مريم المجدلية ومريم الأخرى لما وصلتا إلى القبر؛ نزل ملاك الرب ودحرج الحجر عن القبر، وقال: لا تخافا واذهبا سريعًا، ويعلم من مرقس أنهما وسالوما لما وصلن إلى القبر رأين أن الحجر مدحرج؛ ولما دخلن القبر رأين شابًّا جالسًا عن اليمين، ويعلم من لوقا أنهن لما وصلن وجدن الحجر مدحرجًا؛ فدخلن ولم يجدن جسد المسيح فصرن محتارات؛ فإذا رجلان واقفان بثياب براقة. - يعلم من متى أن الملَك لما أخبر المرأتين أنه قد قام من الأموات ورجعتا؛ لاقاهما عيسى -عليه السلام- في الطريق وسلم عليهما وقال: اذهبا وقولا لإخوتي أن

يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني. ويعلم من لوقا أنهن لما سمعن من الرجلين رجعن وأخبرن الأحد عشر تلميذًا وسائر التلاميذ بهذا كله؛ فلم يصدقوهن، وكتب يوحنا أن عيسى لقي مريم عند القبر. - في إنجيل لوقا الإصحاح الحادي عشر: أن دم جميع الأنبياء منذ إنشاء العالم من دم هابيل إلى دم زكريا يطلب من اليهود، وفي سفر حزقيال الإصحاح 18: لا يؤخذ أحد بذنب أحد، وفي موضع من التوراة: أن الأبناء تؤخذ بذنوب الآباء إلى ثلاثة أجيال أو أربعة أجيال. - في إنجيل متى إصحاح 5: طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم يدعون أبناء الله. في إصحاح 10 منه هكذا: ولا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، وما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا، وبين الكلامين اختلاف، ويلزم أن يكون عيسى -عليه السلام- من الذين قيل في حقهم: طوبى، ولا يدعى ابن الله. - نقل متى قصة موت يهوذا الإسخريوطي في الإصحاح 27: أنه خنق نفسه ومات، ونقل لوقا هذه القصة في سفر أعمال الحواريين الإصحاح 1: بأنه خر على وجهه وانشق بطنه؛ فانسكبت أحشاؤه كلها ومات. - العنوان الذي كتبه بيلاطس، ووضعه على الصليب في الأناجيل الأربعة مختلف: في الأول: هذا هو يسوع ملِك اليهود، وفي الثاني: ملِك اليهود، وفي الثالث: هذا هو ملِك اليهود، وفي الرابع: يسوع الناصري ملِك اليهود.

والعجب أن هذا الأمر قليل ما بقي محفوظًا لهؤلاء الإنجيليين؛ فكيف يعتمد على حفظهم في الأخبار الطويلة؟! ولو رآه آحدٌ من طلبة المدرسة مرة واحدة لما نسيه ... واعلم أن هذا غيض من فيض وقليل من كثير جدًّا. الثالث: إثبات التحريف اللفظي والمعنوي: ولا نزاع بيننا وبين المسيحيين في القسم الثاني التحريف المعنوي؛ لأنهم كلهم يسلمون صدوره عن اليهود في العهد القديم في تفسير الآيات التي هي إشارة -في زعمهم- إلى المسيح، وفي تفسير الأحكام التي هي أبدية عند اليهود، وأن علماء البروتستانت يعترفون بصدوره عن المعتقدين في عصمة البابا في أسفار العهدين. بقي القسم الأول: تحريف لفظي: قد أنكره علماء البروتستانت في الظاهر إنكارًا شديدًا؛ لتغليظ جهال المسلمين، وأوردوا أدلة مموهة مزورة في رسائله ليوقعوا الناظرين في الشك؛ لذلك هو محتاج إلى الإثبات؛ ولذا أردنا إثباته هنا، مع القول بأن التحريف اللفظي على أقسام ثلاثة: 1 - التحريف اللفظي بالتبديل. 2 - التحريف اللفظي بالزيادة. 3 - التحريف اللفظي بالنقصان. وإذا أردت التوسع فراجع في ذلك كتاب (إظهار الحق) من صفحة 205 إلى 292؛ ولذلك أدلته الواضحة وشواهده البينة؛ إنما قصدنا الإشارة ولم نرد الذكر والتفصيل خوفًا من الإطالة، ولأنه إشارات لهذه المصادر، ولم نرِد

الحديث عن التحريف بالتفصيل؛ أما التوسع فيه وفي ذكر أدلته ففي كتاب (إظهار الحق) من صفحة 296 إلى 313. رابعًا: إثبات نسخ الكتب السابقة للقرآن الكريم: فالكتاب الخاتم والمهيمن على كل الكتب، وذلك بثبوت تحريفها، وتطرق الشك إلى أحكامها؛ ولتغير الشرائع والمناهج من وقت لوقت حسبما تستدعيه الحكمة الإلهية والمصلحة التشريعية، والنسخ ثابت في كل الشرائع لا في شريعتنا فقط؛ فكان يقع النسخ لشريعة نبي سابق بشريعة نبي لاحق، ولا يشترط أن يكون النسخ جملة؛ وإنما يتبقى العقائد الصحيحة والأصول الثابتة في كل رسالة، وكذلك ما ثبت من الشرائع. ثانيًا: وقفة سريعة حول الأناجيل غير المعترف بها عند المسيحيين -إشارة دون التفصيل-: فلقد علمنا أن الكنيسة المسيحية قبلت تلك الأناجيل الأربعة وما تبعها من الرسائل؛ ولكنها أنكرت الكثير من الأناجيل التي لا تتفق مع ما صارت إليه الكنيسة بعد المجامع التي أقيمت، ومن ثم أصدرت قرارًا بإعدامها، واتخذت لذلك وسائل عدة؛ فإن من بين هذه الأناجيل التي أعدمت أناجيل قد أخذت بها فرق قديمة وراجت عندها، ولم تعتنق كل فرقة إلا إنجيلها. فعند كل من أصحاب مرقيون وأصحاب وصال إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهو الصحيح -في زعمهم- وهناك إنجيل يقال له إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس، والنصارى ينكرونه، وهناك إنجيل اشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرنتهيس.

ولقد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة، وأجمع على ذلك مؤرخو النصرانية، ثم أرادت الكنيسة في آخر القرن الثاني الميلادي أو أوائل القرن الرابع أن تحافظ على الأناجيل الصادقة -في اعتقادها- فاختارت هذه الأناجيل الأربعة من الأناجيل الرائجة إبان ذلك. ولقد كنا نود ونحن ندرس المسيحية وأدوارها في التاريخ أن نعرف هذه الأناجيل التي أهملت، وما كانت تشتمل عليه مما كان سببًا في رفضها وحمل الناس على تركها، وخصوصًا أنها كانت رائجة ويأخذ بها طوائف من المسيحيين ويتدينون هذه الديانة على مقتضاها؛ فإن الاطلاع عليها يمكننا من معرفة اعتقاد الناس في المسيح وكيف كان؛ خصوصًا بين أولئك الذين قاربوا عصره وأدركوا زمانه، ولقوا تلاميذه ونهلوا من مناهلهم؛ وإذ ضن التاريخ بحفظ نسخ منها فقد كنا نود أن تطلعنا الكنيسة على ما اشتملت عليه مما يخالفها، وما كان من سبب رفضها، وترينا حجة الرفض لتكون دليلًا منيرًا لها على أنها بهذا أقامت دين المسيح ولم تغيره؛ ولكن ضن التاريخ علينا فطوى تلك الأناجيل، اللهم إلا ما وقع في أيدينا من إنجيل برنابا أو ما نسمع عنه أن هناك بعض النسخ من الأناجيل الأصلية أو القديمة وضعت في المتاحف؛ كما ضنت علينا الكنيسة فطوت تلك البينات؛ فلم يبقَ لنا إلا أن نكتفي من الدراسة بما بين أيدينا؛ ولعل فيه عناء إن أمعنا النظر وأمعنا في الاستنباط، وجعلنا لقضية العقل سلطانًا ومن بديهياته برهانًا. ومما تبقى من هذه الأناجيل كان إنجيل برنابا الذي أنكرته الكنيسة؛ لأنه صرح بتوحيد الله تعالى وبالبشارة بالنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال ببشرية عيسى -عليه السلام- وأنكر صلبه، وذكر أنه ألقي الشبه على يهوذا الإسخريوطي؛ كما ذكر أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق؛ فكانت هذه الأمور مخالفة لما عليه النصارى في

معتقداتهم؛ فأنكروا إنجيل برنابا الذي يمتاز بقوة التصوير وسمو التفكير، والدقة البارعة والعبارة المحكمة، والمعنى المنسجم؛ حتى أنه لو لم يكن كتاب دين لكان في الأدب والحكمة من الدرجة الأولى؛ لسمو العبارة وبراعة التصوير. هذا؛ وقد اختلف النصارى مع اليهود في عدد من كتب العهدين أو العهد القديم خاصة؛ كاختلافهم في كتاب إستير، ورسالة يعقوب، والرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية ليوحنا، والثالثة ليوحنا، ورسالة يهوذا، والخلاف حول كتاب أزدم، وطوبيا، وباروخ، وإكييزيا، إستيكس، وكتاب المكابيين الأول والثاني، ورؤيا يوحنا - ما بين قبول ورد. حتى كانت رسائل بولس الذي ادعى أنه التقى مع المسيح، وتحول بولس من عدو لأتباع المسيح إلى رسول يغير رسالة المسيح من الألف إلى الياء لسياسة النفس الطويل، وساعده على ذلك أنه كان نشيطًا دائم الحركة، ذا قوة لا تكل ونفس لا تمل، وكان ألمعيًّا شديد الذكاء بارع الحيلة، قوي الفكرة، يدير الأمور لما يريدها بدهاء الألمعي وذكاء الأروعي، ويسدد السهام لغاياته ومآربه فيصيبها؛ كما كان شديد التأثير في نفوس الجماهير قوي السيطرة على أهوائهم؛ وبذلك صارت المسيحية لبولس، وليس للمسيح -عليه السلام- وكتب بولس رسائله فهو صاحب أربعة عشر رسالة من رسائل الرسل الاثنين والعشرين رسالة. وقد ادعوا أنه كتب هذه الرسائل بالإلهام، ودعوى الإلهام باطلة قطعًا؛ سيما وأن ما كتبه يوجد فيه من الاختلافات الكثير، والأغلاط الشيء الكثير، والتحريفات المحصورة وغير المحصورة الكثير والكثير؛ فكيف يكتب هذا بالإلهام؟! وكيف يكون إلهامًا، ولم تطابق كتب النصارى أي شروط لما ينبغي أن تكون عليه الكتب؟!. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها.

الدرس: 11 أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها.

التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها) التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أنتقل بك إلى الكلام عن أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها. معتقدات النصرانية في أهمها قضية التثليث والصلب والفداء، فنقول -وبالله التوفيق-: عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس، وهي أصل الدستور الذي بيّنه مجمع نِيقِيا هي الإيمان بإله واحد، آب واحد، ضابط الكل خالق السماء والأرض كل ما يُرى وما لا يُرى، وبرب واحد يسوع الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهر، من نور الله، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء. والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنس، وصلب عنا في عهد بِيلاطِس، وتألم وقُبر وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب، وسيأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه، والإيمان بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، الذي هو مع الابن يسجد له ويمجده الناطق بالأنبياء. هذا هو جوهر العقيدة المسيحية ولُبها، والذي يقوم على هذه العناصر الثلاثة؛ العنصر الأول: التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم. والعنصر الثاني: صلب المسيح فداء عن الخليقة وقيامه من قبره ورفعه. والعنصر الثالث: أنه يدين الأحياء والأموات.

ولنتكلم عن كل واحد من هذه العناصر فنقول أولًا: عقيدة التثليث بألسنة وأقلام المسيحيين: قال الدكتور برست في (تاريخ الكتاب المقدس): "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير. ويفهم من هذا أن الأقانيم الثلاثة عناصر متلازمة لذات الخالق. وقد فسر هذا المعنى القس بوتر في رسالة صغيرة سماها (الأصول والفروع) وإليك ما جاء فيها: "بعدما خلق الله العالم وتوج خليقته بالإنسان، لبث حينًا من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بوحدانيته، كما يتبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية؛ لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات: كلمة الله، أو حكمة الله، أو روح القدس، ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني؛ لأنه لم يكن قد أتى الوقت المعين الذي قصد الله فيه إيضاحه على وجه الكمال والتفصيل. ومع ذلك فمن يقرأ التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المراد؛ إذ يجدها تشير إلى أقانيم في اللاهوت، ثم جاء المسيح إلى العالم، ران بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل أن له نسبة سرية أزلية إلى الله، تفوق الإدراك، ونراه مسمى في أسفار اليهود كلمة الله، وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة. ثم لما صعد إلى السماء أرسل روحه ليسكن بين المؤمنين، قد تبين أن لهذه الروح أيضًا نسبة أزلية إلى الله فائقة كما للابن، ويسمى الروح القدس، وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا.

مما تقدم يتضح بجلاء أن المسمى بكلمة الله، والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس، المذكوران في الإنجيل، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح، وأن وحدة الجوهر لا يناقضها تعدد الأقانيم. وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه في فهم الكتاب المقدس، لا يقدر أن يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد، ولا يفسر الروح القوة التأثيرية، بل لا بد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، متساوية في الكمالات الإلهية، وممتازة في الاسم والعمل، والكلمة والروح القدس اثنان منهم، ويدعى الأقنوم الأول الأب. ويظهر من هذه التسمية أنه مصدر كل الأشياء ومرجعها، وأن نسبته للكلمة ليست صورية، بل شخصية حقيقية، ويمثل الأفهام محبته الفائقة وحكمته الرائعة. ويدعى الأقنوم الثاني الكلمة، بأن يعلن مشيئته بعبارة وافية، وأنه وسيط المخابرة بين الله والناس، ويدعى أيضًا الابن؛ لأنه يمثل العقل نسبة المحبة والوحدة بينه وبين أبيه، وطاعته الكاملة لمشيئته، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه، ونسبة كل الأشياء إليه. ويدعى الثالث الروح القدس، الدلالة على النسبة بينه وبين الأب والابن، وعلى عمله في تنوير أرواح البشر وحثهم على طاعته، وبناء على ما تقدم يظهر جليًّا أن عبارة الابن لا يشير -كما فهم بعضهم خطأ- إلى ولادة بشرية، ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد. وإذا أراد الله أن يفهمنا تلك النسبة، لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات، والأمانة للمشورة الإلهية، وأما من حيث الولادة البشرية فالله منزه عنها. لأجل هذه الإيضاحات علم خدام الدين المسيحي

واللاهوتيون -حسب ما قررته الكلمة الإلهية- أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم حسب نص الكلمة الأزلية، ولكل منهم عمل خاص في البشر". انتهى كلامه من (تاريخ الكتاب المقدس). ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات: أولاها: إثبات أن التوراة وجد فيها أصل التثليث، لوحت به ولم تصرح وأشارت إليه ولم توضح. وثانيهما: أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم هي في شعبها متغايرة، وإن كانت في جوهرها غير متغايرة. وثالثهما: أن العلاقة بين الأب والابن ليست ولادة بشرية، بل هي علاقة المحبة والاتحاد في الجوهر. ولقد كان بيان ذلك المعنى أوضح من هذا البيان، في قول القس إبراهيم سعيد في تفسير بشارة لوقا، فقد جاء في تفسير معنى كلمة ابن العلي، التي جاءت في "إنجيل لوقا" ما نصه: يليق أن نوضح بكلمات موجزة المعنى المراد بابن العلي أو ابن الله، فلم يقصد بها ولادة طبيعية ذاتية من الله، وإلا لقيل: ولد الله، ولم يقصد بها ما يقال عادة عن المؤمنين جميعًا أنهم أبناء الله؛ لأن نسبة المسيح لله هي غير نسبة المؤمنين عامة لله، ولم يقصد بها تفرقة في المقام من حيث الكبر والصغر، ولا الزمنية ولا في الجوهر. لكنه تعبير يكشف عن عمق المحبة السرية، التي بين المسيح والله، وهي محبة متبادلة، وما المحبة التي بين الأب والابن الطبيعيين سوى أثر من آثارها، وشعاع

ضئيل من بهاء أنوارها، ويراد بها إظهار المسيح لنا أنه الشخص الوحيد الذي حاز رضا الله، وأطاع وصاياه، فقبل الموت موت الصليب، لذلك يقول الله فيه: هذا ابني الحبيب، الذي به سررت له اسمعوا. وقد تكررت هذه العبارة عدة مرات مدة خدمة المسيح على الأرض؛ لأنه تم إرادة الله في الفداء، ويراد بها إظهار التشابه والتماثل في الذات وفي الصفات وفي الجوهر، كما يكون بين الأب والابن الطبيعيين، فقيل عن المسيح: إنه بهاء مجد الله ورسم جوهره. قال هو عن نفسه: من رآني فقد رأى الأب والأب واحد، ويراد بها دوام شخصية المسيح، باعتباره الوارث لكل شيء، الذي منه وبه وله كل الأشياء. وقد يراد بها معانٍ كثيرة غير معدودة يقصر دون إدراكها العقل، وفي هذا التفسير والتفسير الذي سبقه، يبدو بجلاء أن شخصية الابن غير الأب، وكذلك روح القدس، ولكن هل يدخل في الأقنوم الثاني جسده وروحه؟ جاء في كتاب (خلاصة تاريخ المسيحية في مصر): كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من "كرلس" و"ديسيقورس" ومعنا الكنائس الحبشية والأرمانية والسريانية الأرثوذكسية، نعتقد أن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم؛ أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني -أي: أقنوم الابن- تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، مُصَيِّرًا هذا الجسد معه واحدًا وحدة ذاتية جوهرية، منزهة عن الاختلاط والامتزاج، والاستحالة بريئة من الانفصال. وبهذا الاتحاد صار الابن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين ومشيئة واحدة، وتعتقد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بأن للأقنوم الثاني طبعيتين ومشيئتين.

من هذا ترى أن الكنائس كلها تعتقد التثليث وهذا هو موضع اتفاق، ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو للجسد الذي تكون من روح القدس ومن مريم العذراء، الذي باختلاطه بعنصر إلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان. ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها أنهم متغايرون، وإن اتحدوا في الجوهر والقدم والصفات والتشابه بينهم كامل، ولكن كتابهم يحاولون أن يجعلوهم جميعًا أقانيم لشيء واحد، وبعبارة صحيحة: يحاولون الجمع بين التثليث والوحدانية، ولكن عند هذه المحاولة تستغلق فكرة التثليث وتصير بعيدة عن التصور، كما هي في ذاتها مستحيلة التصديق، وإن كُتابهم أنفسهم يعتقدون أنها بعيدة التصور عند هذه المحاولة؛ لأن من أصعب الأشياء الجمع بين الوحدانية والتثليث. فنرى صاحب رسالة (الأصول والفروع) بعد بيان عقيدة التثليث يقول: "قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهمًا أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية". أي أن عقيدة التثليث لا يمكن أن تنكشف للنفس على وجهها، إلا يوم تتجلى كل الأشياء لها يوم القيامة، وذلك حق، فإنهم لا يعلمون حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها، ويومها يعلمون كذبهم ويأخذون جزاءهم، كما قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 39).

إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- وبنوته من القرآن الكريم ومن نصوص أناجيله، وإثبات نبوته.

ويقول القس توفيق في كتابه (سر الأزل): "إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس، تعتبر أعماقًا إلهية وأسرارًا سماوية، لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها وتحليلها، أو نلصق بها أفكارًا من عندياتنا، وإذا كانت أسرارًا فلماذا أرسل بها رسول مبلغ ونزل بها كتاب". ويقول أيضًا في كتابه (التثليث والتوحيد): "الثالوث سر يصعب فهمه وإدراكه". ويقول القس "باسيلوس" في كتابه (الحق): "أجل إن هذا التعليم من التثليث فوق إدراكنا". انتهى كلامهم، كما أردنا أن نبين عقيدة التثليث عند النصارى بأقلامهم وبألسنتهم. إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- وبنوته من القرآن الكريم ومن نصوص أناجيله، وإثبات نبوته وللرد عليهم نقول -بتوفيق الله عز وجل-: أولًا: إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- وبنوته من القرآن الكريم: نؤمن نحن المسلمين بأن الله عز وجل أزلي أبدي، ليس لأزليته بداية وليس لأبديته نهاية، وأنه -سبحانه وتعالى- منزه عن الجوهر والعرض والجسد، مقدس عن أن يكون له والد أو يكون له ولد، وأنه -سبحانه وتعالى- قوي قاهر لا يهزم ولا يغلب ولا يقتل ولا يصلب، وأنه خالق قادر، خلق عيسى من غير ذكر، وحواء من غير أنثى، وآدم من تراب، وبقية البشر والخلق من ذكر وأنثى، وجعل لنا في ذلك آية. فنحن نؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ونحن بالإيمان بالمسيح ابن مريم رسول الله أولى، قدرناه حق قدره، وقلنا بفضله المعلوم وفخره، واعتقدنا بمنزلة تقبلها الأفهام وتليق بالعقول والأوهام، ليس

إلهًا ولا ابن إله ولا ثالث ثلاثة، ولا جزءًا من الله، أو نصف إله ... إلى آخر ما ادعاه النصارى، وإنما هو عبد كامل العبودية، أنعم الله -عز وجل- عليه وجعله في ولادته ومعجزاته آية وعلامة لبني إسرائيل، كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (الزخرف: 59) ثم هو لم يتأب على العبودية ولم يتكبر عليها أو يستنكف عنها، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (النساء: 172) وتبرأنا من قوم غدوا فيه على طرفي نقيض: مفتون به ضال، وظالم له بغيض، وهما في عمى بصائرهم سيان، ولدى حلبة الكفر فرسا رهان. أما المفتونون به الضالون، فقد أوقعوا أنفسهم في خطيئة ذات شقين يستحيل غفرانها؛ الأول: أنهم أوردوا عيسى بغلوهم فيه موردًا يعتذر عند الله فيه يوم الحشر بين يديه؛ إذ يقول له وهو تبارك وتعالى أعلم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 16، 17). وأما من أبغضه أو سبه ولعنه، فإنما أوردوه بفعلهم موردًا يكون حسيبهم فيه، والقائم دونه يأخذ حقه منهم، ثم نحن نسأل: لماذا عيسى إله، ألأنه من روح الله، أم لأنه بدون أب، أم لأنه يحيي الموتى؟ فلئن كان من حيث هو روح من الله فآدم -عليه السلام- كذلك، نفخ الله فيه من روحه بعد أن سواه من تراب، وعيسى نفخة من روح الله، فلماذا وجبت الألوهية لعيسى ولم تجب لآدم؟!

والنصارى يقرون له أنه روح من الله في حجاب من تراب، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29) ولئن كان من حيث إنه بدون أب، فإنه يلزم أن يكون آدم أولى منه بهذه الألوهية أو تلك البنوة؛ لأنه بدون أب ولا أم، بل خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، ولما لم يبعد خلق آدم من التراب، لم يبعد أيضًا خلق عيسى -عليه السلام- من الدم، الذي كان يجتمع في رحم أمه، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59). وربما زعموا له بالألوهية لأنه كان يحيي الموتى. نقول: ألم يكن ذلك بإذن الله، وكذلك هل كل من يحيي الموتى يحكم له بالألوهية؟ إذًا فعليهم أن يؤمنوا بألوهية إبراهيم، فقد أحيا الله على يديه الموتى، وبألوهية العزير قد أحيا الله له الموتى، وكذلك بألوهية إلياس النبي، فقد أحيا الموتى وكذلك اليسع كما ورد هذا في العهد القديم، فلم تظلمون بعضًا دون بعض. وكذلك أنطق الله الشاة المسمومة لنبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فلماذا يكون عيسى ابنا لله من دون الخلق، والابن يكون لحاجة الأب إليه في كبر سنه، وليس لله -عز وجل- حاجة فهو الغني عن العالمين، أو ليكون امتدادًا لسيرة والده من بعده، والله تعالى حي لا يموت، فلا حاجة لعيسى إذًا. ولئن كان عيسى ابنًا لله ألا تكون له خاصية وميزة على بقية الخلق، كما قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الزمر: 4) فكان جديرًا بهذا الولد أن يكون فيه شبه من أبيه وميزة على من سواه، وتنزه عن نقائص بني آدم، ولكن القرآن الكريم يحدثنا

عن عيسى وأمه كما حدثتنا الكتب السابقة أيضًا، بأنهما كانا يأكلان الطعام، وأكل الطعام كناية عن التغوط، وقد كان يجب لله تعالى لو سبق في حكمه أن يكون إنسانًا، وينزل لمقابلة عباده كما زعموا، أن يمتنع عن التغوط؛ إذ هو دنية ابتلي بها آدم وبنيه، مبنية على نقصهم وضعفهم، وهو تعالى المختص بالكمال والموصوف بالعظمة والجلال، فلا يليق به تلك الدنية. ولا نعلم من فرق المسيحية من يقول: إن عيسى لم يكن يتغوط ولا يبول، حاشا لله أن يحقر خلقًا له بدنية، يراها أخص الآدميين عارًا في نفسه لم يتشبه بعبيده فيها، بل كان يتركها دون غيرها من صفات الإنسانية. يوضح الله -عز وجل- الحقيقة بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75). وكيف يكون عيسى ابنًا لله كما زعموا، وليس لله زوجة وكذلك لا ولد بدون زوجة، فكيف يكون إذًا {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام: 101). ولم يكون لله ولد، مع أن كل الناس عباد لله، وعلى افتراض جدلي: لو أن لله ولدًا لعبدناه جميعًا وعلى رأسنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف: 81). ولكن لماذا وربنا -عز وجل- يقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم: 88 - 93) الآيات.

ولذلك حكم الله تعالى بكفر من يعتقد بهذا الشرك ويؤمن بهذا المعتقد، فقال -سبحانه وتعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 72 - 74) كما بين في قرآنه العظيم الكريم هذه الحقائق. ننتقل منها إلى إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- وإثبات نبوته من نصوص أناجيله: إن الذي يقرأ الأناجيل لا يجد فيه حديثًا صريحًا عن ألوهية عيسى، وإن عيسى -عليه السلام- لم يدع تلك الألوهية، ولم تذكر تلك الأقانيم التي يقولون بها، اللهم إلا ما كان من بعض النصوص أو الفقرات المنتحلة، والتي ثبت تحريفها بل كذبها، بل إن الإنجيل أثبت عكس ما يزعمون، فها هو عيسى -عليه السلام- حين خرج من السامرة ولحق بالجليل قال: "إنه لم يكرم نبي في وطنه أو أن ليس لنبي كرامة في وطنه"، إنجيل يوحنا إصحاح أربعة، الفقرة الثالثة والأربعون والرابعة والأربعون. وكذلك: "إنه ليس نبي مقبولًا في وطنه"، إنجيل لوقا إصحاح أربعة الفقرة الثالثة والعشرين. وحسبك هذا من دليل على أنه ما ادعى غير النبوة المعلومة. وقوله عليه السلام لمن سأل: "أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلا واحدًا وهو الله، أنت تعرف الوصايا: لا تزنِ لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تسلب أكرم أباك وأمك". إنجيل مرقص إصحاح عشرة الفقرة السابعة عشرة إلى التاسعة عشرة.

وفي الإنجيل أيضًا: أن اليهود لما أرادت القبض عليه، وعلم بذلك رفع بصره إلى السماء وقال: "قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك، واجعل لي سبيلًا إلى أن أملك كل ما ملكتني الحياة الباقية، وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلهًا واحدًا وبالمسيح الذي بعثت، وقد عظمتك على أهل الأرض، واحتملت ما أمرتني به فشرفني لديك". إنجيل يوحنا إصحاح سبعة عشر. وكذلك قول عيسى لتلاميذه: "ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض؛ لأن أباكم واحد الذي في السموات، ولا تدعوا معلمَين لأن معلمكم واحد المسيح". إنجيل متى إصحاح ثلاثة وعشرين الفقرة التاسعة والعاشرة. ومعناه: لا تقولوا: إنه على الأرض ولكنه في السماء، ثم أنزل نفسه حيث أنزله الله تعالى. وقال: "ولا تدعوا معلمين فإن معلمكم المسيح وحده". فها هو قد سمى نفسه معلمًا في الأرض له، وشهد أن إلههم في السماء واحد. وفي إنجيل لوقا أن عيسى أحيا الميت بباب مدينة نائِين، عندما أشفق على أمه لشدة حزنها عليه؛ فقال: "فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه. وليوحنا أن عيسى قال لليهود: أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا، كما أسمع وأدين ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الذي أرسلني". إنجيل لوقا إصحاح سبعة الفقرة الستة عشر. وقال: "فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلًا: تعرفونني وتعرفون من أين أنا ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه". إنجيل يوحنا إصحاح سبعة الفقرة الثامنة والعشرون. فها هو قد جعل نفسه وموضعه معلومين عند اليهود، وجعل الله عندهم مجهولًا.

وقال: "لأني خرجت من قبل الله واتبعت لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني". إنجيل يوحنا إصحاح سبعة الفقرة الثامنة والعشرون. وفي الإنجيل أنه قال لليهود بعد حوار طويل حين قالوا له: "أبونا هو إبراهيم قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، أنتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له: إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد هو الله فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قِبل الله، وأتيت لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي؟ ". إنجيل يوحنا إصحاح ثلاثة الفقرة التاسعة والثلاثون إلى الثالثة والأربعين. فها هو يحكم على نفسه بأنه إنسان، وهذا هو الحق الذي تكلم به بعد أن أوحي إليه من عند الله. ثم هو يبغض أن يقتل ويرفض ذلك ويقول لهم: لماذا لا تفهمون كلامي؟ وفي الإنجيل أيضًا: وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له: "إلى متى تعلق أنفسنا إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا، أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون". إنجيل يوحنا إصحاح واحد الفقرة الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون. ولم يقولوا: إن كنت الله؛ لأنه لم يعلموا من دعواه ذلك. ولا اختلاف عند اليهود أن الذي انتظروه هو إنسان نبي، ليس بإنسان إله كما يزعمون. وفي الإنجيل أيضًا عنه: ولما تم الثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن. إنجيل لوقا إصحاح أربعة. فأي رب هذا الذي يدعى صبيًا ويختن ويخشى على نفسه.

وفي تجربة إبليس لعيسى -عليه السلام- يقول عيسى -عليه السلام: "مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهًا". إنجيل متى إصحاح أربعة. حينئذ قال له يسوع: "اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". إنجيل لوقا إصحاح أربعة. أليس هذا هو التوحيد الذي قام يدعو به عيسى وإليه، ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه. إنجيل متى إصحاح أربعة. ولو كان ربًا لكانت تعبده ولا تخدمه، وكيف يجرب الرب أمام إبليس، وقد ورد كذلك فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه. إنجيل متى إصحاح ثمانية. وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: "ارحمنا يا بن داود". إنجيل متى إصحاح تسعة ولم يقولا: يا بن الله، وكذلك حينئذ أجاب قوم من الكتبة الفريسيين قائلين: "يا معلم نريد أن نرى منك آية". إنجيل متى إصحاح 12 ولم يقولوا: يا الله. ويصرح عيسى -عليه السلام- بنبوته ورسالته فيقول صراحة: "لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة". إنجيل متى إصحاح خمسة عشر. وقال: "لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته". إنجيل يوحنا إصحاح خمسة. فلو كان هو الله ما قال لهم هذا؛ لأنهم على الأقل أبصروا عيسى وسمعوا صوته. وقوله -عليه السلام-: "من قبل واحدًا من أولادي مثل هذا باسمي يقبلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني". إنجيل لوقا إصحاح خمسة وإنجيل مرقص إصحاح 12، ولوقا إصحاح عشرة بنحوه. وكذلك أجابهم يسوع وقال:

"تعليمي ليس لك بل للذي أرسلني، إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله، أم أتكلم أنا من نفسي، من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق، وليس فيه ظلم". إنجيل لوقا إصحاح سبعة. وجاء عنه وقال له: "أنت متغرب وحدك في أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام، فقال لهما: وما هي؟ فقال المختص بيسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبيًّا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب". إنجيل لوقا إصحاح أربعة وعشرين. وفي الأناجيل من هذا الكثير، مما يدل على رسالة عيسى -عليه السلام- ونبوته لا ألوهيته وبنوته، بل إن عيسى -عليه السلام- كان ينادي بالتوحيد الخالص في القوم، ولكنهم كذبوا عليه ومن ذلك قوله عندما سئل: "أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم بالحق قلت؛ لأنه الله واحد وليس آخر سواه، ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة". إنجيل مرقس إصحاح الثاني عشر ولوقا إصحاح عشرة بنحوه. وكان -عليه السلام- يخلص العبادة لله كما جاء في الأناجيل: وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة لله. إنجيل لوقا إصحاح ستة، فلئن كان هو الله أو ابنه فلم الصلاة ولمن؟! هذا وهناك الكثير من هذا لمن قلب صفحات الأناجيل ونظر فيها، فأين التثليث المزعوم أو الألوهية الباطلة؟!.

إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- أو التثليث بدليل عقلي.

إبطال دعوى ألوهية عيسى -عليه السلام- أو التثليث بدليل عقلي ومن بعد أدلة القرآن وأدلة الأناجيل، أنتقل إلى إبطال دعوى ألوهية المسيح أو التثليث بدليل عقلي: لقد كتبوا في الإنجيل أن الرب صعد فصار عن يمين الرب في أثر الصلب، فأخبرونا عن هذين الربين: مَن خلق منهما صاحبه؟ فالمخلوق منهما ضعيف عاجز ليس بإله، وإذا أراد أمرًا لمن الحكم منهما؟ فإن كان أحدهما مضطرًا إلى مشاورة الآخر ومساعدته، كان المضطر عاجزًا مقهورًا، ولم يكن إلهًا قادرًا، وإن كان قادرًا على مخالفته ومدافعته فهو إذًا إله مداهن، ويكون الآخر ضعيفًا عاجزًا مقدورًا عليه، والقرآن الكريم يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) ويقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91). ومن عجب التناقض اتفاقهم على أن التثليث: آب، وابن، وروح قدس، وأن كل واحد من هذه الثلاثة لا يبصَر، ولا يلحقه ما يلحق الخليقة، مع أن عيسى كان يُبْصَر ويُبصِر ويجوع ويشبع ويأكل، وغير ذلك من صفات الخليقة، ثم جعلوه الابن من تلك الثلاثة، ويلحقه ما ليس يلحقها. فإن قالوا: إن نصفه هو إله تام والنصف الآخر ليس بإله، فيلزمهم أن يقولوا: يا نصف المسيح ارحمنا، وإذا قيل لهم: من إلهكم؟ يقولون: هو نصف المسيح، وكيف يكون نصفه خالقًا ونصفه معبودًا لنصفه وليس بإله تام، وهذا مأخوذ من قولهم: لَمّا لم يكن أن ينتقم الله من عبده آدم لسقوط منزلة العبد، انتصف من

الإنسان الذي هو إله مثله، وأن الانتصاف إنما كان من الجسم فهو الماثل، فإذا جعلوه كله إلهًا فهم يعبدون غير الله، ولا فرق إذًا بين الله وبين مخلوقاته. وقالوا: إن الابن إله تام وإن الأب يستحق من الألوهية والقدم ما لا يستحقه الابن، فإذا كان ذلك فالابن إذًا إله غير تام، حيث لا يستحق من الألوهية مثل ما يستحقه الأب، وهذا من مكابرة العقول. وقالت اليعقوبية وهي من فرق المسيحية: إن الله نزل فدخل في بطن مريم، واتخذ من لحمها جسدًا، فصار مع الجسد نفسًا واحدة. وقالت النسطورية: ليست النفس هي الله وإنما هي بعضه. ومن كلام اليعقوبية: إن الله أخذ ذلك اللحم والدم، فوردهما في نفسه، فصار ذلك اللحم الله، ثم اتفقوا على أن أقانيم الأب والابن وروح القدس غير مختلفة بل هي أقنوم واحد، فإذا كان هذا الأب هو الابن وهي روح القدس الكل شيء واحد، وهذا توحيد فلم خصصتم المسيح بالابن؟ لِمَ لا تقولوا: إنه الأب وقد قلتم: إن الأب وروح القدس شيء واحد؟ فلم جعلتم البدن شيئًا معبودًا وليس من الثلاثة؟ فهؤلاء إذًا أربعة وقد بطل التثليث وصار تربيعًا، فإن أبيتم إلا ثلاثًا فقد جعلتم نفي العبد وإثباته سواء وكابرتم العقول، فهل هو تثليث أم تربيع؟! نحن نؤمن بإله واحد لا بتثليث، وبأنه سبحانه كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). ومن هنا نحن ننفي ألوهية المسيح، وننفي تجسد الله فيه، وننكر التثليث والتجسد، وأما استناد المسيحيين أو النصارى إلى أن المسيح إله أو ابن الله؛ لأنه بدون أب أو أنه روح الله، أو أنه يحيي الموتى، فقد سبق الرد عليه.

واستنادهم إلى أنه هو كلمته التي ألقاها إلى مريم، فليس في ذلك ما يبرر الألوهية والتثليث؛ لأن كلمة الله تعالى هي أمره: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82). والمسيح تكوّن في بطن أمه، وخرج إلى الدنيا بأمر الله وكلمته، فهو كلمة الله بهذا المعنى، ألا ترى أن الحاكم يصدر الأمر ويتكلم بالكلمة فتنفذ، وتحول إلى بناء يقام أو مدينة تشيد، فيقال عن ذلك: كلمة الحاكم وأمره، والأمر شيء والمأمور به شيء آخر، فعندما يُخلق إنسان بكلمة ويظهر في الوجود بأمره لا يقال أبدًا الذي تكلم الكلمة وأمر بها، ومظهره وما تكونت به شيء واحد، ولا يقال: إن الذي تكلم الكلمة هو الشيء الذي تكوّن بها ومنها، فالنار التي أطفئت بأمر الله وكلمته، ولم تصب إبراهيم ليست هي الذي أمر وتكلم وقال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء: 69). والروح هي القدرة والمسيح خلق بقدرة الله، وهو ليس وحده بل آدم كذلك، ونحن أيضًا كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (السجدة 8، 9) إن ما تزعمه النصرانية فوق مستوى العقول والنقول، وذلك ما اعترفوا به هم أنفسهم، وذكرنا من ذلك ما قاله القس توفيق في كتابه (سر الأزل) إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس، تعتبر أعماقًا إلهية وأسرارًا سماوية، لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها وتحليلها، أو نلصق بها أفكارًا من عندنا. ثم ذكر في كتابه (التثليث والتوحيد): الثالوث سر يصعب فهمه وإدراكه، هل يكلف الإنسان بما فوق فهمه وإدراكه، ما الداعي لهذه الطلاسم والألغاز، ثم في النهاية يكون العذاب الأبدي. إن العقل لا يصدق تجسد الإله، وإن كان أن

يتحول رب العالمين إلى شخص يأكل ويشرب ... إلى آخره، كما أن العقل لا يصدق أيضًا أن البشر جميعًا أرباب خطايا وأصحاب مفاسد، وأنهم محتاجون لمن ينتحر من أجلهم كي تغفر خطاياهم. وكذلك رفض الإسلام كلتا القضيتين، وتنزل القرآن الكريم مفيضًا الحديث عن تنزيه الله، وسعته وقدرته وحكمته وعلمه، كما أفاض الحديث عن الناس ومسئولياتهم الشخصية، عما يقترفون من خير أو شر، أحيانًا في هدأة الليل يرمق الإنسان النجوم الثاقبة وأبعادها السحيقة، ثم يتساءل أليس بادئ هذا الملكوت أكبر ممن خلق سبحانه، فكيف يحتويه بطن امرأة، وأحيانًا يرمق الأمواج ذوات الهدير وهي تضرب الشاطئ، وتعود دون ملل أو كلل، ويبرق في رأسه خاطر عابر، هل رب هذا البحر عظيم، كان جنينًا فرضيعًا فبشرًا قتيلًا، ثم يهز رأسه مستنكرًا، قد تتقارب وجهات النظر في أمور كثيرة، وتذوب الفوارق في أمور مختلفة، أما تذويب الفوارق بين التوحيد والتعدد كليهما فذاك مستحيل. لقد كتب بعض الناس كلامًا يريد عقد لقاء بين عقيدة التوحيد الإسلامية، وعقيدة التثليث المسيحية، فنفى أن يكون الله ثالث ثلاثة كما ذكر القرآن الكريم، وقال: إن الله الواحد هو جملة الأقانيم الثلاثة، ولما كان كل أقنوم على حدة يسمى إلهًا، فإن الكاتب أراد أن يوضح هذا الغموض، ولا نقول: يكشف هذا التناقض، فقال بنصه: "إذًا كيف نوفق بين هذا وذاك وبين ثلاثة ثم واحد، إن هذا هو بيت القصيد وفحوى الحديث. وسوف أذكر مثالًا: ماذا تعرف عن الشمس؟ الشمس الواحدة أعرف أنها قرص وحرارة وأشعة، وأي شيء من هذه الثلاثة هو الشمس، هل القرص أم الحرارة أو الأشعة، ثلاثتهم يكونوا الشمس، إذن الشمس واحدة، وهكذا الله سبحانه وتعالى، مع فارق التشبيه العظيم من حيث المكانة".

ونقف قليلًا لنذكر رأينا في هذا الكلام فنقول: إن الكائن الواحد قد يكون له عدة صفات، قد يكون طويل القامة أسمر اللون، ذكي العقل، ويمكن أن تنسب إليك صفات أخرى، فهل قلة الصفات أو كثرة الصفات تعني تعددًا في الذات؟ وهل يجوز أن يطلق شخصك نفسه على صفة الطول أو السمرة أو الذكاء؟ وهل يتصور أن تنفصل إحدى الصفات المذكورة، ليطلق عليها الرصاص، أو تتدلى من حبل المشنقة، أو تسمر على خشبة الصليب؟!. إن الشمس واحدة، ولكن استدارتها وحرارتها وإضاءتها وكثافتها ... إلى آخر صفاتها أعراض لذاتها، والصفة لا تسمى ابنًا ولا خالًا ولا عمًا، ونحن نثبت لله الواحد عشرات الأوصاف الجليلة، بيد أن إثبات الأوصاف شيء بعيد كل البعد عن القول بأن الأب هو الابن، وهو الصديق، وأن خالق الكون هو الذي صُلب على خشبة الصليب في أرضه. إن التمثيل بالشمس وأوصافها الكثيرة لا يخدم قضية التثليث ولا التربيع في ذات الله، والأمر لا يعدو لونًا من اللعب بالألفاظ. إن الله خالق هذا العالم واحد، وما عداه عبد له أوجده من العدم، ولن تنفك صفة العبودية عن أي موجود آخر سواء كان عيسى أو موسى أو محمد -صلى الله عليه وعليهم- أو غيرهم من أهل الأرض والسماء. ونريد أن نسأل هل إذا كانت الشمس هي القرص والحرارة والأشعة، فهل يمكن القول بأن الحرارة مثلًا ثلث الشمس؟ لا يقول هذا عاقل؛ لأن الصفة لا تكون

قسيمًا للذات بتاتًا. هل يمكن القول بأن القرص شكا للأشعة ما نزل به من بلاء مثلًا؟ ذاك ما لا يتصوره ذوو لب. إن هذا الكلام كما قلت لون من اللعب بالألفاظ، ولا يصور العلاقة بين أفراد الأقانيم الثلاثة كما رسمتها الأناجيل المقدسة. ثم ذكر الكاتب دليلًا آخر على أن التثليث هو التوحيد فقال: "أقول لك عن إنسان اسمه إبراهيم، إبراهيم هذا في بيته وسط أولاده يدعى ربًا لأسرته، وينادونه يا أبانا يا إبراهيم، إبراهيم هذا ذهب يومًا إلى البحر، فإذا الجموع محتشدة وإنسان يغرق وليس من ينقذه، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه وارتدى لباس البحر، وأسرع وأنقذ الغريق، فهتف المتجمهرون ليحيا المنقذ إبراهيم. ذهب بعد ذلك إلى عمله، وإذ كان يعمل بالتدريس ويشرح للتلاميذ، وصاروا ينادونه المعلم إبراهيم، فأيهم إبراهيم الأب أم المنقذ أم المعلم؟ كلهم إبراهيم وإن اختلفت الألقاب مع الوظائف وهكذا أيضًا، والله خلق فهو الأب، الله أنقذ فهو ابن، الله يعلم فهو الروح. نقول: هذا الكلام أوغل من سابقه في خداع النظر، فإن الضابط قد يرتدي في الجيش ملابسه العسكرية، وقد يرتدي في عطلته الملابس المدنية، وقد يرتدي في بيته ملابس النوم، ولم يقل مجنون ولا عاقل: إن هؤلاء ثلاثة وأنهم واحد، ولا يتصور أحد أن الضابط بزيه العسكري يصدر حكمًا بالإعدام على الضابط نفسه بزيه المدني، أو أن هذا المدني يقول لعسكري: لماذا قتلتني أو لماذا تركتني". وبعد هذا الرد العقلي مختصرًا أنادي على أهل الكتاب: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (النساء: 171، 172). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 تابع أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها.

الدرس: 12 تابع أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها.

قصة الصلب والفداء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (تابع أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها) قصة الصلب والفداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فمع الصلب والفداء إذا شاء رب الأرض والسماء، فأقول وبالله التوفيق: هناك ربط بين قضية الصلب والفداء فيقال: صلب المسيح فداء عن الخليقة، ماذا تعتقد النصرانية في قضية الصلب هذه، وماذا قالوا في هذا، وماذا قالت الأناجيل؟ يقولون في هذا: إن الله من صفاته المحبة، حتى لقد جاء في الكتب المقدسة عندهم: الله محبة، ومحبة الله ظهرت في تدبيره طريق الخلاص للعالم؛ لأن العالم من عهد سقوط آدم في الخطيئة، وهبوطه هو وبنيه إلى الدنيا مبتعد عن الله بسبب تلك الخطيئة. ولكن الله من فرط محبته وفيض نعمته، رأى أن يقربه إليه بعد هذا الابتعاد، فأرسل لهذه الغاية ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم، كما جاء ذلك في الإنجيل: لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص العالم الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن به قد دِين؛ لأنه لا يؤمن باسم ابن الله الوحيد. إنجيل يوحنا إصحاح الثالث الفقرة السادسة عشرة إلى التاسعة عشرة. وفي إنجيل لوقا: "وإن ابن الإنسان قد جاء لكي يُطلب ويخلص ما قد هلك". إنجيل لوقا إصحاح تسعة بنحوه، فبمحبته ورحمته قد صنع طريقًا للخلاص، لهذا كان المسيح هو الذي يكفر عن خطايا العالم، وهو الوسيط الذي وفق بين محبة الله تعالى وبين عدله ورحمته، إذ إن مقتضى العدل أن الناس كانوا يستمرون في الابتعاد عن الله؛ بسبب ما اقترف أبوهم، ولكن باقتران العدل بالرحمة، وبتوسيط الابن الوحيد وقبوله للتكفير عن قضايا الخطأ، قرب الناس من الرب بعد الابتعاد.

وقد كان التكفير الذي قام به المسيح هو الصلب، لهذا صلب ورضي الله عن صلبه وهو ابنه، ولماذا؟ لأن الله -عز وجل- لا يعاقب إنسانًا، فأراد أن يعاقب إلهًا مثله، فكان صلب المسيح. هكذا يفلسف النصارى مسألة صلب المسيح فداء عن الخليقة، وقد كتبوا هذا الكلام في مجلات، ووزعوها على الطلاب المسلمين بالجامعات دعوة للتنصير، وقد كتبها ورد عليها فضيلة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه (قذائف الحق). أما الأناجيل ماذا تقول عن واقعة الصلب؟ إن الناظر في الأناجيل وهي تحكي قصة الصلب، يجد عجبًا فيما اشتملت عليه من تناقضات، وما احتوت عليه من خرافات، وما انتهت إليه من أكاذيب وضلالات. ونذكر منها على سبيل المثال، جاء في إنجيل متى: "تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليصلب. إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد، فأجاب يهوذا مسلمه وقال: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت، حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة؛ لأنه مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك فيك أبدًا. قال له يسوع: الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاثة مرات. قال له بطرس: ولو اضطررت إلى أن أموت معك لا أنكرك، هكذا قال

أيضًا جميع التلاميذ، وابتدأ يحزن ويكتئب فقال لهم: نفسي حزينة جدًا حتى الموت، ثم تقدم قليلًا وخر على وجهه، وكان يصلي قائلًا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت هو ذا الساعة قد اقتربت، وابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة، هو ذا الذي يسلم لقد اقترب. وفيما هو يتكلم إذا يهوذا أحد الاثنى عشر قد جاء، ومعه كثير أناس بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو أمسكوه، فللوقت تقدم إلى يسوع فقال: السلام يا سيدي وقبله فقال له يسوع: يا صاحبي لماذا جئت حينئذ، تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه، وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه، وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه، فقال له يسوع: رد سيفك إلى مكانه؛ لأن كل الذين يأخذون السيف يهلكون، أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي، فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب، إنه هكذا ينبغي أن يكون. وفي تلك الساعة قال يسوع للجموع كأنه على لص خرجتكم بسيوف وعصي لتأخذوني، كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني، وأما هذا كله فقد كان لكي تكتمل كتب الأنبياء، حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا، وأما بطرس فتبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة، فدخل إلى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية، وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه، وأما يسوع فكان ساكتًا. فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنت قلت وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن

الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء، فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلًا: قد جدف ما حاجتنا بعد إلى شهود، ها قد سمعتم تجديفه ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت، حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه وآخرون لطموه قائلين: تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك، أما بطرس فكان جالسًا خارج الدار، فجاءت إليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلين فأنكر قدام الجميع قائلًا: لست أدري ما تقولين. ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري، فأنكر أيضًا بقسم إني لست أعرف الرجل، وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقًّا أنت أيضًا منهم، فإن لغتك تظهرك فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل، وللوقت صاح الديك فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات، فخرج إلى خارج وبكى بكاء مرًّا، ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة. ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا: إيلي إيلي لم شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فقوم من الواقفين هناك لما سمعوه قالوا: إنه ينادي إيليا، وللوقت ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلًّا، وجعلها على قصبة وسقاه، وأما الباقون فقالوا: اترك لنرى هل يأتي إيليا يخلصه، فصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم وأسلم الروح. ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضًا تلميذًا ليسوع، فهذا تقدم إلى بلاطس وطلب جسد يسوع، فأمر بلاطس حينئذ أن يعطى الجسد، فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي، ووضعه في قبره الجديد

إبطال دعوى صلب المسيح من القرآن الكريم، ومن الإنجيل.

الذي كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجرًا كبيرًا على باب القبر ومضى. وكانت هناك مريم المَجْدَلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر. وبعد السبت عند الفجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر، فإذا ليس هو هناك لأنه قام كما قال". إلى آخر ما أورده إنجيل متى إصحاح سبعة وعشرين وثمانية وعشرين بتصرف. وهكذا جاءت قصة الصلب بروايات مختلفة، ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما جاء في بقية الأناجيل، وإن كان بعضها فيه تشابه وبعضها الآخر فيه تناقض، وسنعرض إن شاء الله تعالى لقصة الصلب المزعومة، نبين مزاعمها ونظهر باطلها وندحض مفترياتها بإذن الله تعالى. إبطال دعوى صلب المسيح من القرآن الكريم، ومن الإنجيل فنقول في الرد على مزاعم النصارى في صلب المسيح -عليه السلام- نبدأ أولًا بخير الكلم، بقول الله -عز وجل-: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 157، 158). وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 55) الآية. فالآية الكريمة الأولى أوضحت بيقين أن المسيح -عليه السلام- لم يصلب، كما بينت الاختلافات التي يعجز عن فهمها حتى الآن علماء النصارى وآباء الكنيسة على الصعيد العالمي،

هذا وليس القرآن الكريم وحده هو الذي حكم ببطلان الصلب، بل الإنجيل أيضًا والتاريخ والعقل كذلك، وإليك طرفًا من ذلك. إبطال دعوى صلب المسيح من الإنجيل: فإن الذي يقرأ قصة الصلب في الأناجيل، يلاحظ أن الشخص الذي صلبته اليهود لم يكن عيسى -عليه السلام- فيما يلي: الأول: لم يكن عيسى معروفًا بشخصه لدى رجال الشرطة التي أمرت بالقبض عليه، ولذا أخذوا معهم يهوذا الإسخريوطي ليعينه لهم. الثاني: ثبت أن يهوذا ندم على استعداده لمعاونة الشرطة في تعيين شخص عيسى من بين التلاميذ، ورد لهم المبلغ الذي أخذه منهم. الثالث: يحتمل بناء على هاتين الملاحظتين -وهما مذكورتان في الإنجيل نصًّا- أن يهوذا أدركته الندامة قبل وصوله مع رجال الشرطة، إلى المكان الذي فيه عيسى مع تلاميذه، فعين لهم أحد التلاميذ على أنه عيسى، ولم ينكر التلميذ رغبة في إنقاذ معلمه فأخذ وصلب. ولا يرفع هذا الاحتمال ذهاب مريم المجدلية إلى القبر، وإخبارها بقيام عيسى -عليه السلام- لأنها لم تكن مع التلاميذ حين ذهبت الشرطة للقبض عليه، ولم يخبروها بأن المقبوض عليه ليس عيسى حتى لا ينتشر الخبر، فتعاود السلطات البحث عن عيسى، وكذلك لم يكذبوها حين روت أنه قام من قبره؛ لأن في ذلك رفعًا لشأنه وعاملًا قويًّا لحمل الناس نفسيًّا على الإيمان بالمسيحية. الرابع: أن اليهود قتلت رجلًا لم تعينه بإقرار الإنجيل، ولم تعرفه إلا بشهادة يهوذا الإسخريوطي أنه ذلك المطلوب، وأما الإنجيل فلا دليل فيه صادق بتحقيق

ذلك، ولا خبر قاطعًا للحجة، كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم صلب عيسى -عليه السلام- ووقوع الشبه على غيره وذلك من وجوه منها. الخامس: جاء في الإنجيل أن المطلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلًا ممزوجًا بمرارة، فذاقه ولم يشربه فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني، في الوقت الذي صرحت فيه الأناجيل بأن عيسى -عليه السلام- كان يطوي أربعين يومًا وليلة ويقول للتلاميذ: "إن لي طعامًا لستم تعرفونه، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يومًا وليلة، كيف يظهر الحاجة والمذلة والمهانة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد" هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء، أو كيف بالرب تعالى على ما تدعيه النصارى، فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره يقينًا وهو الذي شبه لهم. السادس: قوله: إلهي إلهي لِمَ خذلتني، هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى -عليه السلام- منزه عن ذلك فيكون المصلوب غيره، لا سيما والنصارى يقولون: إن المسيح -عليه السلام- نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلصه من الشيطان ورجسه، فكيف يتفق هذا مع ذلك وهو على خلافه تمامًا. السابع: جاء في التوراة أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون -عليهم السلام- لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فلم يجزعوا من الموت ولم يهابوا مذاقه، ولم يعيبوه، مع أنهم عبيد الله، والمسيح بزعمكم ولد ورب، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكن ذلك دل على أن المصلوب غيره. الثامن: نطق الإنجيل بأن عيسى -عليه السلام- نشأ بين ظهور اليهود في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويعجبون من براعته وكثرة

تحصيله، حتى كانوا هم يقولون: أليس هذا ابن يوسف أليست أمه مريم، أليس أخواه عندنا، فمن أين له هذه الحكمة؟. وإذا كان كذلك غاية الشهرة والمعرفة عندهم، فلم نص الإنجيل على أنهم وقتما أرادوا القبض عليه لم يحققوه، حتى دفعوا لأحد تلاميذه -وهو يهوذا- ثلاثين درهمًا ليدلهم عليه، فلما قبله لهم -وهي العلامة المتعارف عليها- أمسكوه وربطوه وتركه التلاميذ وهربوا، وتبعه بطرس من بعيد فقال له رئيس الكهنة: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ فقال له المسيح: أنت قلت ذلك. تُرى هل يمكن أن تلتبس شخصية المسيح على رئيس الكهنة والجمع الكبير، حتى يستحلفه باسم الله الحي: هل أنت المسيح؟ فيقول له: أنت تقول. التاسع: وهذا يؤكد لنا أن المصلوب ليس عيسى وإنما غيره يقينًا ألقي عليه شبه عيسى حتى صار الناس في شك منه، فالشبه شبه عيسى، ولكن الدلائل والأحوال تؤكد أنه غير عيسى -عليه السلام- لذلك سأل كبير الكهنة ذلك المصلوب: هل أنت المسيح؟ وليس هذا فقط بل شك فيه كل تلامذته وأنكره أحب التلاميذ إليه، وفي الإنجيل أيضًا أن يسوع -عليه السلام- كان مع تلاميذه بالبستان، فجاء اليهود في طلبه فخرج إليهم وقال لهم: "من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه عنهم ففعل ذلك مرتين. انظر إنجيل يوحنا. وفي إنجيل متى: "بينما التلاميذ يأكلون طعامًا مع يسوع قال: كلكم تشكون في هذه الليلة، فإنه مكتوب أني أضرب الراعي فتفترق الغنم، فقال بطرس: فلو شك جميعهم ما أشك أنا. قال يسوع: الحق أقول لك إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك، وقد كان فقد شهد عليهم بالشك بل على خيارهم وهو

بطرس، فإنه خليفته عليهم". فقد انخرم حينئذ الوثوق بأقوال النصارى في صلب المسيح، وجُزم بإلقاء الشبه على عيسى -عليه السلام. وما الذي يمنع الشبه أو يحيله، والله -عز وجل- قادر على أن يجعل شبه عيسى -عليه السلام- على ذلك الخائن أو على شيطان أو على أي شيء، والله -سبحانه وتعالى- الذي جعل من عصا موسى حية، قادر على أن يجعل إنسانًا شبه إنسان، فإذا كان الله -عز وجل- خلق جميع ما للحية في عصاة موسى -عليه السلام- وهو أعظم من الشبه، فإنّ جعل حيوان يشبه حيوانًا أقرب من جعل نبات يشبه حيوانًا، وقلب العصا حية تسعى مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على جعل النار لإبراهيم -عليه السلام- بردًا وسلامًا، وعلى قلب الماء خمرًا، فإذا جوزوا مثل هذا جوزوا أيضًا إلقاء الشبه من غير استحالة. العاشر: ولم يقع الشك من رئيس الكهنة فقط، ولا من تلاميذ المسيح حتى بطرس فحسب، بل من جميع من كان في المجمع، وحتى الذين اقتادوا عيسى لصلبه سألوه قائلين: "إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقوني، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني". فما معنى هذا القول؟ المعنى واضح: إن قلت لكم لست أنا المسيح لا تصدقونني، وإن سألتكم بعدها أن تطلقوا سراحي لا تجيبون طلبي، ويستحيل أن يكون المعنى: إن قلت لكم أنا المسيح لا تصدقوني؛ لأنهم إذا كانوا لا يصدقونه أنه المسيح فلم جاءوا به، فلم يبق إلا المعنى الوحيد المعقول، وهو إن قلت لكم: لست أنا المسيح لا تصدقوني ولا تجيبونني إلى ما أريد ولا تطلقونني. الحادي عشر: بل في الإنجيل ما يصرح بنجاة عيسى -عليه السلام- حتمًا، ويؤكد إلقاء الشبه على غيره وذلك في قوله: "أقول لكم: إنه في تلك الليلة يكون اثنان على

فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويترك الآخر". إنجيل لوقا إصحاح سبعة عشر فقرة الرابعة والثلاثون إلى السادسة والثلاثين، ويترك الآخر فيؤخذ الواحد ويترك الآخر، أي: التلميذ الخائن يؤخذ ويترك المسيح، بدليل ما جاء في سفر الأمثال: "الشرير فدية للصديق". سفر الأمثال إصحاح 21 الفقرة الثامنة عشرة. يعني: الخائن يصلب فدية للصديق وهو المسيح. ويقول سفر المزامير: كثيرة هي بلايا الصديق، ومن جميعها ينجيه الله يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر، الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقبون الرب نادى نفس عبده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب. مزمور أربعة وثلاثين عدد ثمانية عشر. وفي إنجيل يوحنا: "فرفعوا حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم". إنجيل يوحنا إصحاح ثمانية الفقرة التاسعة والخمسون، "فطلبوا أيضًا أن يمسكوه، فخرج من بين أيديهم". إنجيل يوحنا إصحاح عشرة الفقرة السادسة والثلاثون. الثاني عشر: وفي إنجيل متى مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أيديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجلك. إنجيل متى إصحاح أربعة الفقرة السادسة، ولوقا إصحاح أربعة الفقرة الأولى، فكيف تكون الوصية للملائكة، حتى لا تصدم رجل المسيح بحجر ثم يترك للصلب والتعذيب والإهانة. الثالث عشر: وفي إنجيل يوحنا: أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه، فقال لهم يسوع: "أنا معكم زمان يسير بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبونني ولا تجدوني حيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ لعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلِم اليونانيين ما هذا القول الذي قال ستطلبونني

ولا تجدوني حيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. إنجيل يوحنا الإصحاح السابع الفقرة الخامسة والثلاثون والسادسة والثلاثون. ألا يعني هذا أن ملائكة الرب حملته بعيدًا إلى السماء في يوم الضيق، ولم يتمكن منه الكهنة والفريسيون، بل إن الكهنة والفريسيين لم يروه أبدًا، ولن يروه بعد أن تركهم في الهيكل، كما قال لهم في آخر لقاء عاصف معهم: "إنني أقول لكم لا ترونني من الآن حتى تقول مبارك الآتي باسم الرب، ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل". إنجيل متى إصحاح ثلاثة وعشرون الفقرة التاسعة والثلاثون، وفي إنجيل أربعة وعشرين الفقرة الأولى. الرابع عشر: والمسيح نفسه ينفي عن نفسه فكرة القتل والصلب، ينفيها بكل قوة في مواضع كثيرة، ويتوعد بالقتل والصلب بدلًا منه يهوذا الخائن: سقط في الهوة مَن صنع. إنجيل يوحنا، وذلك لأن الرب قضى أن أمضى الشرير يعلق بعمل يديه. في إنجيل يوحنا. المعلق على الخشبة ملعون من الله. سفر التثنية إصحاح 21 الفقرة الثالثة والعشرين. بأي جنون وبأي حماقة لعنوا الناموس والمسيح فقالوا: المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا؛ لأنه مكتوب: ملعون كل من عُلق على خشبة لثابت بولس إلى غَلاطِيا. إصحاح الثالث الفقرة الثالثة عشرة. ألم تهتز عقولكم وقلوبكم ولو مرة واحدة، فتكف عن لعنة الناموس والمسيح، ألم تسمعوا يسوع يقول لكم: "تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني، أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل بالناموس، لماذا تطلبون أن تقتلوني". إنجيل يوحنا إصحاح السابع الفقرة التاسعة عشرة.

أنا أعلم أنكم ذرية إبراهيم ولكنكم تطلبون أن تقتلوني؛ لأن كلامي لا موضع له فيكم، لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد حدثكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم. إنجيل يوحنا إصحاح الثامن الفقرة السابعة والثلاثون إلى الأربعين. ألم تهتز عقولكم وقلوبكم ولو مرة واحدة، أم كنتم من الذين قال عنهم المسيح: "تمت فيهم نبوءة أشعياء القائلة: تسمعون سمعًا ولا تفهمون ومبصرون تبصرون ولا تنظرون؛ لأن قلب هذا الشعب غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم". إنجيل متى إصحاح ثلاثة عشر فقرة الرابعة عشرة والخامسة عشرة. فارجعوا إلى الحق الذي جاء به المسيح فها هو طريق الخلاص الحقيقي، لا ما أنتم عليه وتذكروا قوله: "اذهبوا وتعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة". إنجيل متى إصحاح تسعة الفقرة الثالثة عشرة. ومن هنا نعلم أن هذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات وشكوك كثيرة كما قدمت لك، بل هي احتمالات، واليهود ليسوا قاطعين بذلك أيضًا، فأي ضرورة تدعوكم إلى إثبات أنواع الإهانة والعذاب في حق رب الأرباب على زعمكم، إن هذا لمن العجب العجاب، هذا فضلًا عن تبرئة اليهود حديثًا من دم المسيح -عليه السلام- وصدق ربنا -عز وجل- إذ قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157).

إبطال دعوى صلب المسيح بدليل تاريخي.

إبطال دعوى صلب المسيح بدليل تاريخي وأنتقل بك بعد إلى إبطال دعوى صلب المسيح بدليل تاريخي: يحدثنا التاريخ أنه قد كان في سلف الدهر رجل من أمره كذا -كما حكى الإنجيل- وبأضغاث أحلام من امرأة اسمها مريم المجدلية، ادعت أنها رأت في منامها هذيانات، فقبلتم أقوالها وشرعتم بها من غير يقين ولا تواتر متصل، وسمع ذلك قيصر بن هَيْلانة حين كثر عدوه وكاد ملكه يذهب؛ لاختلاف رعاياه وأنصاره من الروم عليه، فأراد أن يحملهم على شريعة ينظم به سلوكهم ويؤلف متفرقهم. فاستشار من لديه من أهل النظر، فوقع اختيارهم على أن يتعبد القوم بطلب دم ليكون ذلك أقوى لارتباطهم معه، وآكد بجدهم في نصرته، فوجد اليهود يزعمون أن في بعض تواريخهم خبرًا عن رجل كان منهم، هَم بنسخ حكم التوراة والانفراد بالتأويل فيها، فطلبوه وهو في نفر يسير وظفروا بواحد اعتقدوا أنه المطلوب فصلبوه، وما عندهم تحقيق بكونه ذلك المطلوب بعينه، إلا فقدهم إياه من حينئذ، فعمد قسطنطين إلى من وجد من أمة عيسى، فوجدهم قد اختلفت آراؤهم بعد المسيح بأربعين سنة، والتفت إليهم غير محسوسين في الأرض، لا يظفر بواحد منهم إلا قتل ومثل به. فاستخرج قسطنطين ما بقي برسم الشريعة بأيديهم وجمع عليه وزراءه، فأثبت ما شاء وما رآه موافقًا لاختياره، كالقول بالصلب ليتعبد قومه بطلب دم، ثم أكد لهم ذلك بمنام اختلقه لهم، وجمع أنصاره ورعاياه، فلما اجتمعوا ذكر لهم أنه كان يرى في منامه آتيًا أتاه، فيقول له: بهذا الرسم تغلب، ويعرض عليه هيئة الصليب، فأعظمت ذلك العامة ومن يومه عظم الصليب.

ثم بعث إلى امرأة كاهنة في ذلك الزمان، وكانت ذات جأش وقوة، فشهدت له أنها رأت مثل الذي رأى، فقوي تصديق العامة بذلك، وفي هذا كله لا يعلمون لذلك الرسم تأويلًا، ولم يكن قسطنطين قد كشف لهم شيئًا من أمره، وخرج بهم إلى عدوه ووعظهم، وهول عليهم أمر الرسم فحصل له كل ما أراد من جد القوم واجتهادهم معه. فلما عادوا إلى أوطانهم سألوه عن تأويل ذلك الرسم وألحوا عليه فيه، فقال: أوحي إلي في نومي أنه كان الله تعالى هبط من السماء إلى الأرض، فصلبته اليهود فهالهم ذلك كثيرًا، مع ما تقدم عندهم من تصديقه وعظم عليهم الخطب فيه، فانقادوا إلى قسطنطين انقيادًا حسنًا، وصح له منهم ما أراد، وشرع لهم في هذه الشرائع التي بأيديهم إلى اليوم أو أكثرها. وقد ظهر لجماعة من أهل العلم غير أولي الشرائع من ذلك الزمان أن هذا الشخص الذي تعظمه النصارى وتصفه بالألوهية، لم يكن ولا وجد في العالم، ولكن قسطنطين ابتدع ذلك كله، واتفق مع نفر من أحبار اليهود وعلمائها على أن يعطي لهم ما يطلبونه من متاع الدنيا، ويشهدون له عند قومه، بأن ذلك الشخص كان عند اليهود فصلبته، وأن تضع الأحبار ذلك مستورًا عند اليهود، ففعلت وألقت من أخباره شيئًا، وشهدت أن ذلك القول صحيح، وأنه جمع بعد صلب ذلك الشخص بسنين قلائل، فبقيت النصارى على ذلك الإحداث في شريعتهم، مع افتراءات بمنامات تدعيها النساء، ومن لا يوثق به، فيدون ذلك وتشرع به زائدًا على ما كان بأيديهم. فلما بعث الله رسولًا كريمًا وأنزل عليه كتابًا حكيمًا، وأيده بالآيات وأنجده بالمعجزات، فصدع بالحق المبين وقطع الشك باليقين، نكسوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم فاعجب.

إبطال دعوى صلب المسيح بالأدلة العقلية.

إبطال دعوى صلب المسيح بالأدلة العقلية لقد قالوا: إنه لما لم يمكن أن ينتقم الله من عبده العاصي آدم، الذي كلمه واستهان بقدره لاعتلاء جلالة السيد، وسقوط منزلة العبد، أراد أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح -عليه السلام- ونحن نسأل أولًا عن هذه المماثلة كيف وجبت لعيسى بالله تعالى؟ وقد ثبت يقينًا بطلان ألوهية عيسى أو بنوته لله، وأن ذلك هو الكفر البواح الصراح، ثم إذا كان الله لم يرد الانتقام من آدم لاعتلاء قدر السيد وسقوط منزلة العبد، فالأولى أن يعفو عن الذنب ويتوب على المذنب، وإن الأبعد عنه عز وجل أن يعاقب أحدًا بذنب غيره؛ لأن هذا غاية الظلم ونهاية الجور. لقد أبوا التوبة على آدم -عليه السلام- مع ثبوتها يقينًا احتيالًا للصلوبية وإثباتها، ونسبوا إلى الله تعالى ما ينسب إلى شرار الآدميين من الحقد والغائلة، ونفوا عنه ما يليق به عز وجل من العفو والصفح، كيف هذا وقالوا إنه: انتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أن الصلب لحق جسم عيسى المتخذ من آدم، وأن النصف اللاهوتي لم يلحقه الصلب، ومخالفة ذلك عندهم كفر. فإذا كان هذا فإلى الآن لم ينتقم الله ولا انتصف من إله مثله، إنما انتصف وانتقم من إنسان من نسل آدم، فكيف ينبغي لله أن يظلم إنسانًا فيعاقبه بذنب جده، أخبرونا عن رجل أخطأ عبده في حقه فبقي بعده مدة غاضبًا عليه ساكتًا على معاقبته، حتى ولد لنفسه ولدًا، فعمد إلى قتله بذنب العبد الذي كان أذنب له،

ألست ترى ذلك من قتله ولده أنه أراد أن يشفي نفسه على ذلك العبد، فأصبح ذلك زائدًا في كربه وداعيًا إلى دوام حزنه. وهل يحدث هذا نفسه من عاقل أو ممن لا عقل له؟ إن الذي دعاكم إلى القول بصلب عيسى ما أقررتم به من الفداء، حين قلتم: إن آدم وجميع ولده إلى زمان عيسى كانوا كلهم ثاوين في الجحيم بخطيئة أبيهم آدم، حتى فداهم عيسى بإهراق دمه عنهم على خشبة الصليب، ثم نزل في ذلك الوقت إلى الجحيم، وأخرج منها جميعهم إلا يهوذا الإسخريوطي، أخبرونا كيف نفهم أن الله تعالى أدخل موسى بن عمران الجحيم، وخلده فيها بعد أن كلمه واصطفاه وفضله وبعثه إلى عباده نبيًّا وهاديًّا، ولم يكفر بعد ذلك. وكذلك إبراهيم الذي كان قد اتخذه الله خليلًا، واصطفاه وفضله بهدايته ونبوته، وأظهر على يديه توحيده، ولا جرم أنه لو كان ذنب آدم بقي في أعناق أولاده حتى أنقذوا منه بدم الله، لنطقت به التوراة ولصرحت به الأنبياء؛ لأنه أمر شنيع ومصاب للعالم بشيع، ففي أي موضع من التوراة ذكر، أو في أي صحيفة من صحف الأنبياء سطر، أما إنكم أتيتم على ذلك بشواهد من التوراة وكتب الأنبياء، فتأويلكم فيها لا يخفى على العواجز ضعفه، ولا يستتر على عقول صغار الولدان سخفه. ومن كان الممسك للسموات والأرض، إذ كان الله كما تزعمون مربوطًا في خشبة الصليب، هل بقيا ساكنتين، أم كان استخلف عليهما غيره، وهبط هو لربط نفسه في خشبة الصليب، وليوجب اللعنة على نفسه بما قال في التوراة: ملعون ملعون من تعلق بالصليب، عجبًا له إنه المنتقم والمنتقم منه، والحقود والمحقود عليه، وإنه الظالم يأخذ نفسًا بذنب غيرها، وهو المظلوم لأنه صلب بذنب غيره.

وعجبًا لتفاوت غائلته وحقده، كيف يمتنع عن المعايب وليس هو عندكم غير من اتصف بهذه المعايب، حتى سمرت يداه ورجلاه، ولا قنع من آدم صاحب الذنب بالتوبة حتى غرست الخشبة في ظهره؛ تكفيرًا لما ارتكبه آدم في الجنة. أخبرني ما الذي أوجب لآدم -عليه السلام- أن يكون موصوفًا لديكم بهذه الشتائم، وهو أبو البشر والله قد تاب عليه واجتباه، أستغفر الله من شر ما جئتم به وهو الغفور الرحيم، ثم وصفتم فيما جئتم به من كذب حادثة الصليب وأحاديثها الفاسدة، ثم قلتم: قام بعد ثلاثة أيام من القبر، وتحدثتم عن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب، أنهما اشتريتا حنوطًا وأقبلتا إلى القبر وقالتا: من ينزع لنا الصخرة من على فم القبر؟ فزالت الصخرة من ذاتها، فنظرتا إلى فتى قاعد في الجانب الأيمن من القبر، مغطى بثوب وذلك في يوم الأحد قبل طلوع الشمس. عجبًا لتوقحكم على الله، وتحديدكم الجانب الأيمن من القبر، وقبل طلوع الشمس من اليوم لتحققوا كذبكم على رعاع الأعاجم، فقال لهما ذلك المغطى بالثوب، ولم يكن غير التراب المصلوب قام ومضى إلى الجليل قولا لتلاميذه ينهضون إليه، وهكذا جملة من الهذيانات قصصتم عليها في ذلك لنا الحق أن نسأل: لماذا قتل الإله الأب الإله الابن؟ والجواب المعروف لدى المسيحيين هو الفداء، الفداء لخطايا الخليقة، بل باعتبار أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد عند المسيحيين، نقول: لماذا قتل الإله نفسه؟ والجواب من أجل أن تنقطع الآلام ويتحملها عن العالم بصلبه على خشبة الصليب، والسؤال: هل انقطعت هذه الآلام بعد الصلب، أم بقيت تتجدد على اختلاف الزمان والمكان، فبذلك لم تؤدِ قصة الصلب المنشود منها، فينبغي أن تتكرر، وهل يحمل هذا الإله مسئولية المآسي العالمية.

وإذا كان الصلب لفداء الخطايا، فهل هذا الفداء يتناول صنيع الشرور والآثام والمظالم أم يتجاوزهم، أم هو لتصبر الضحايا على ما ينزل بها، أرأيت لو أن رجلًا له سبعة أولاد، ستة منهم مجرمون عاقون عاصون، والسابع منهم مطيع مؤدب مهذب، فأراد هذا الوالد أن يسامح أبناءه المجرمين وأن يغفر لهم، فأعلن لأولاده إذا أردتم عفوي ومغفرتي فاقتلوا أخاكم المطيع أكفر خطاياكم، فماذا تقول عن هذا الأب؟ والإجابة التي تتفق عليها الكلمة: إنه أب مجنون، فما زاد هذا الأب عن رب النصارى الذي اطلع على عباده، فرآهم مذنبين، فلما أراد أن يكفر خطاياهم أنزل ابنه، وأمر بصلبه ليكفر عن خطايا البشر، كيف يكون إلهًا من يأمر بذبح ابنه البار من أجل تكفير خطايا المذنبين، كما أنني أتساءل: لو أنني لبست ثوبًا أبيض ثم وقعت عليه نقطة حبر، أتزول إذا غسلت ثوبك وكل الأثواب؟ والإجابة لا. قلت: فلم يزول خطأ إذا اعتذر عنه آخر، عندما ألوث نفسي بخطأ دق أو جل، فأنا المسئول عنه أغسل أنا نفسي منه، وأشعر أنا بالندم عليه وأقوم أنا من عثرتي إذا وقعت. ثم أعود أنا إلى الله لأعترف له بسوء تصرفي وأطلب منه الصفح، أما أن العالم يخطئ فيقتل الله ابنه كفارة للخطأ الواقع، فهذا ما يضرب الإنسان كفًا بكف لتصوره، لماذا يقتل الله ابنه الوحيد البريء من أجل ذنوب الآخرين، إذا كان هذا الإله رب أسرة كبيرة، فلِمَ يقتل أبناءه كلهم أو جلهم من غير جريرة، أليس الأعقل والأعدل أن يقول هذا الإله للمذنبين: تتطهروا من أخطائكم وتوبوا إلي أقبلكم، فلا يكون هناك قتل ولا صلب ولا لف ولا دوران، أليس كل إنسان مسئولًا عن نفسه {أن لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 38، 39).

ألم يكن أوفق لعدل الله ورحمته أن يعغو عن عباده بدلًا من أن يعاقب ابنه الوحيد المزعوم، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 110)، وإذا كان هذا الصلب بسبب ذنب اقترفه آدم -عليه السلام- فهو إما أن يتوب الله -عز وجل- كما حدث، يتوب عليه ويعفو عنه، أو أن يعاقبه بذنبه، ولا ثالث لهما وذلك مقتضى عدل الله. أما إنه يصلب ابنه الوحيد بزعم العدل أو الرحمة، فهذا لا يقبله من عنده مسحة عقل، وأعجب كلما ذكرت خطيئة آدم -عليه السلام- لماذا يتحمل أبناء آدم وزر هذه الخطيئة، وما الذي يجعلها دينًا في عنق أبناء آدم جميعًا، لا يكفرها إلا الصليب، ولمن يا للعجب لله الذي ارتكب آدم في حقه الخطيئة، فبدلًا من أن يكفر عنها آدم بنفسه يكفر الله عنها، ويحمل وزرها أبناء آدم، حتى يؤمنوا بأن الله قد صلب نفسه فداء لمخلوق من مخلوقاته، الذي أخطأ في حق خالقه، ما معنى هذا ولِمَ كل هذا؟! إن الابن ليس مسئولًا عن ذنب أبيه. وهكذا قرر الكتاب المقدس: لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يقتل. سفر التثنية إصحاح 24، فما ذنب عيسى يصلب بذنب أبيه آدم، وهل هو ابن آدم أم ابن الله، وهل هذا هو العدل الإلهي، فلماذا طلب المسيح نفسه النجاة وعاتب ربه أنه تركه للأعداء كما يقولون، كما نادى قائلًا: إلهي إلهي لماذا تركتني، أكان عيسى يجهل ذلك، وهل المنادي المستغيث في الأرض هو هو المنادى المستغاث به في السماء؛ لأن الأب والابن شيء واحد كما يزعمون، أجيبونا من القاتل ومن القتيل؟ قال المسيحيون: إن الله الابن صلب، لكنهم يقولون كذلك: إن الأب هو الابن هما الروح القدس جميعًا شيء واحد، إن كان الأمر كذلك فالقاتل هو القتيل،

وذاك سر ما قاله أحد الفرنجة المفكرين: خلاصة المسيحية أن الله قتل الله لإرضاء الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فهو -سبحانه وتعالى- أكبر وأعلى وأجل وأسمى من ذلك. ونحن لا نريد إجابات على هذه الأسئلة، فعقيدتنا نحن المسلمين أن الله العظيم فوق هذه التصورات الهازلة، إن هذا الكلام الذي قرأناه من أسوأ وأغرب ما وصف به الله، وما كنا نحن نتصور أن يصل الإسفاف في الحديث عن الله جل جلاله إلى هذا الدرك المعيب، ولكن تعصب المسيحية جعلهم يسطرون هذا اللغو وينشرونه بين الطلاب المسلمين؛ لأنه يعتقد أن القرآن يقبل التعاليم المسيحية، وأن التوحيد ينسجم مع التثليث، وأثبتوا هذا الهراء في منشورات ومجلات، يريدون به أن يختل المسلمون عن توحيدهم وسلامة معتقدهم. وكم نود أن نقول لهؤلاء وأمثالهم من الحاقدين على الإسلام: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77). إن الانسياق مع التعصب ضد الإسلام يجب أن يختفي، وإن كل محاولة لإهانة الإسلام وإخراج أهله، لا يمكن أن تكون موضع احترام توزع على المسلمين هذه الخرافات بين الحين والآخر، على أنها الحقائق المخفية، وأننا بحاجة إليها أحوج من الهواء الذي نتنفسه. إننا معشر المسلمين نحب عيسى ونوقره، ونعد أنفسنا من أتباعه، ونرفض بغضب كل ريبة توجه إليه، أو إلى السيدة البتول أمه، بل نحن أولى بعيسى من أولئك الذين ينتمون إليه، ويغالون فيه، وليس خلافنا مع النصارى أنه قتل أو لم يقتل، الخلاف أعمق من ذلك، الخلاف أهو إنسان كما نقول أو إله كما يزعمون، أكل امرئ بما كسب رهين، أم أن هناك قربانًا قدمه الله من نفسه لمحو خطايا البشر؟!!.

هذا وفي الوقت الذي يدين فيه النصارى بالصلب والفداء، يعتقدون أن المسيح يدين ويحاسب، فأي تناقض هذا، زعم المسيحيون أنه لم يمكث المسيح بعد قيامته هذه -التي يعتقدها المسيحيون- إلا أربعين يومًا، ثم ارتفع بعدها إلى السماء، وجلس بجوار الرب في زعمهم، وسيأتي ليدين الناس يوم القيامة، يحاسب كل إنسان على ما فعل وقال، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وله بهذا الملك الأبدي فلا فناء لملكه فهم يقولون: إن الله قد أقام يومًا سيدين فيه سكان هذه الأرض يسوع المسيح؛ لأن الأب في زعمهم لا يدين أحدًا، بل قد أعطى ذلك للابن، فأعطاه سلطان أن يدين الإنسان لأنه ابن الإنسان أيضًا. ولا بد أن يظهر الناس جميعًا أمام كرسي المسيح؛ لينال كل واحد جزاء ما كان قد صنع خيرًا أو شرًّا، هذه عقيدتهم فقد جاء في إنجيل يوحنا: "الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون لأنه كما أن الأب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان، لا تعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة. أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا كما أسمع وأدين، ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني". إنجيل يوحنا إصحاح خمسة، فهل هما واحد أم اثنان مشيئة الأب الذي أرسله، وفي ذات الوقت يجلس على يمين الرب ثم يقال: هما شيء واحد تعجب، وجاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كرنسوس: لا بد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح؛ لينال كل واحد منا ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًّا.

فهذه النصوص جميعًا تبين بجلاء أن الذي سيحاسب الناس ويجازيهم إنما هو المسيح في نظرهم، فتعجب وكفى بهذا تناقضًا وكفى بالباطل عرضه، وقد عرضنا لعقيدة النصارى في عناصرها الأساسية، بحمد الله تعالى. إن العقل لا يصدق تجسد الإله، وإن كان أن يتحول رب العالمين إلى شخص يأكل ويشرب ويأتي بلازم ذلك، كما أن العقل لا يصدق أيضًا أن البشر جميعًا أرباب خطايا وأصحاب مفاسد، وأنهم محتاجون لمن ينتحر من أجلهم كي تغفر خطاياهم، وكذلك رفض الإسلام كلتا القضيتين، لكن يصر النصارى بتعصب أعمى على أن هذا هو الحق وما دونه ضلال. وما أجمل ما قال الشاعر الحكيم: أعباد المسيح لنا سؤال ... نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم ... أماتوه فما هذا الإله وهل أرضاه ما نالوه منه ... فبشراهم إذا نالوا رضاه وإن سخط الذي فعلوه فيه ... فقوتهم إذًا أوهت قواه وهل بقي الوجود بلا إله ... سميع يستجيب لمن دعاه وهل خلت الطباق السبع لما ... ثوي تحت التراب وقد علاه وهل خلت العوالم من إله ... يدبرها وقد سمرت يداه وكيف تخلت الأملاك عنه ... بنصرهم وقد سمعوا بكاه وكيف أطاقت الخشبات حمل ... الإله الحق شد على قفاه وكيف دنا الحديد إليه ... حتى يخالطه ويلحقه أذاه وكيف تمكنت أيدي عداه ... وطالت حيث قد صفعوا قفاه وهل عاد المسيح إلى حياة ... أم المحيي له رب سواه

ويا عجبًا لقبر ضم ربًّا ... وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعًا من شهور لدى ... الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولودًا صغيرًا ... ضعيفًا فاتحًا للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي ... بلازم ذاك هل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى ... سيسأل كلهم عما افتراه أعباد الصليب لأي معنى ... يعظَم أو يقبح من رماه وهل تقضي العقول بغير ... كسر وإحراق له ولمن بغاه إذا ركب الإله عليه كرهًا ... وقد شدت لتسمير يداه فذاك المركب الملعون ... حقًّا فدسْه لا تبسه إذ تراه يهان عليه رب الخلق طُرًّا ... وتعبده فإنك مِن عداه فإن عظمته من أجل أن قد ... حوى رب العباد وقد علاه وقد فقد الصليب فإن رأينا ... له شكلًا تذكرنا سناه فهلا للقبور سجدت طرًّا ... لضم القبر ربك في حشاه فيا عبد المسيح أفق ... فهذا بدايته وهذا منتهاه ولله در القائل أيضًا: عجبي للمسيح بين النصارى ... وإلى أي والد نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا ... إنهم بعد قتله صلبوه وإذا كان ما يقولون حقًّا ... وصحيحًا فأين كان أبوه حين خلى ابنه رهين الأعادي ... أتراهم أرضوه أم أغضبوه فلئن كان راضيًا بأذاهم ... فاحمدوهم لأنهم عذبوه ولئن كان ساخطًا فاتركوه ... واعبدوهم لأنهم غلبوه

نعم الحق واضح أبلج والباطل لَجْلَج، هذه عقيدة النصارى يعجب لها من لديه مسحة من عقل، هذا هو دين النصرانية الذي تغير بتغير بولس وقسطنطين والأحبار والرهبان له، هذا الدين الذي رفض الحق وأنكروا نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- مع ما كثرة ما جاء عندهم من الدلائل والبراهين والإشارات والبشارات بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فضلًا عن معتقداتهم فضلًا عن شعائرهم وشرائعهم وتنصيرهم، وزعمهم أنهم على الحق. أي دين هذا إنه دين النصرانية أو المسيحية أو الصليبية، برأ الله ساحة عيسى ابن مريم من كل ما قالوه وما اعتقدوه، وبرئنا من كل دين يخالف دين الإسلام، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 الديانة المصرية القديمة.

الدرس: 13 الديانة المصرية القديمة.

مصادر دراسة الدين المصري.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (الديانة المصرية القديمة) مصادر دراسة الدين المصري الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: نظرة إجمالية لبعض الأديان القديمة، كأديان المصريين القدماء والهند والصين واليابان واليونان والرومان والفرس، وأبدأ كلامي -إن شاء الله تعالى- عن دين المصريين القدماء؛ فأقول -وبالله التوفيق-: ظهرت الحضارة فتية في مصر قبل الميلاد بأربعين قرنًا، وبرزت متنوعة في تراثهم الباقي أغلبه حتى الآن، وهناك إجماع عالمي في العصر الحديث على سبق الحضارة المصرية بمستواها الممتاز، مما دفع العلماء إلى الاهتمام بدراسة الآثار المصرية وكشفها، ومحاولة استنطاق الجمادات القديمة فيها؛ لمعرفة مختلف جوانب الحياة عند هؤلاء القدماء، حتى أصبح لعلم المصريات أقسام علمية في الجامعات ومراكز البحث في الجامعات، ومراكز البحث، كما أسست لدراسته المعاهد العلمية المتخصصة. ويلاحظ أن الدين لم يغب عن حضارة المصريين أيضًا، ويبدو أنه شغل ركنًا أساسيًّا وكبيرًا من حياتهم، لدرجة أن بعض العلماء يرى أن التأريخ للدين في مصر القديمة يعد تأريخًا للحضارة المصرية؛ لأن الدين هو الذي دفعهم إلى بناء المقابر الضخمة، وجعلهم ينقشون على الحجر ويكتبون في ورق البَرَدَى، ويُخلدون الأناشيد والمواعظ المقدسة، ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إنه لولا الدين لما كان هناك أثر الآن للحضارة المصرية القديمة، وبناء على ذلك فإننا نشير -إن شاء الله تعالى- إلى مصادر الدين المصري، أو مصادر دراسة الدين المصري وما هي أهم المعتقدات والآلهة عندهم.

مصادر دراسة الدين المصري: كان لمعرفة المصريين بالكتابة أثر في تسجيل تاريخهم وعقائدهم، وبفضل العثور على حجر رشيد وفك رموز اللغة الهيلوغريفية، تمكن العلماء من قراءة وفهم ما وصلهم عن عقائد المصريين، وبذلك استطاعوا أن يقدموا أسس العقائد المصرية القديمة، صحيح أن هذا التصور ليس تامًّا؛ لاحتمال ضياع بعض الكتابات وعدم العثور حتى الآن على بعضها الآخر، لكنه مع عدم تمامه يقدم تصورًا كافيًا لدارس الأديان تاريخيًّا ومقارنة، والكتابات التي عرفت العلماء بالدين المصري وجدت في المصادر الآتية: الأول: أوراق البردي، فالبردي نبات يظهر على شاطئ النيل أوراقه عريضة، اكتشفه المصريون القدماء وتمكنوا من الاستفادة منه، فقاموا بتجفيفه وصنع لفافات طويلة منه يكتبون عليها، ويحفظونها في الأماكن الهامة، كبيت الملك أو المعبد أو المقبرة تبعًا للموضوع والهدف من كتابته، وقد تم اكتشاف العديد من أوراق البردي المختلفة في حجمه وموضوعه، وعكف العلماء على ترجمة النصوص ودراستها وحفظ الورق المكتشف في المتاحف المختلفة. وتعود أقدم ورقة بردي عثر عليها إلى القرن العشرين قبل الميلاد، وتشمل صورة للاحتفالات الدينية والوصايا المقدسة التي تقال عند تولي الملك لعرشه، وتعتبر الكتابة على البردي أسبق سائر أنواع الكتابة، ولذلك وجدنا بعض الفراعنة المتأخرين بعد اكتشافهم لإمكانية الكتابة على الحجر، يقومون بنقلها من ورق البردي إلى الحجر حتى لا تتلف أو تتآكل. وذلك كما فعل فرعون مصر "شباكو" حيث نقش على الحجر ما وجده مكتوبا على ورقة بردي، كتبت في أوائل القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد، محافظة على

الموضوع؛ لأنه يتعلق بالإله الواحد الخالق للكون كله، العليم بأحوال المخلوقات المحاسب لهم بعد الموت، وهذا الحجر موجود الآن في المتحف البريطاني بلندن، وعلى الجملة فإن نصوص أوراق البردي تقدم معلومات عديدة عن عقائد المصريين المختلفة، كما أنها تحدد في الغالب تاريخ كتابتها، وهذه مسألة هامة لدارس مقارنة الأديان. الثاني: نصوص الأهرام، أي بعد أوراق البردي تأتي نصوص الأهرام، ساد الظن حينًا طويلًا على أن الأهرامات مجرد قبور، وأنها خالية من كل كتابة ونقش باطنها في ذلك كظاهرها، إلى أن تمكن الأثريون من دخول هرم بيبي الأول في سقارة لأول مرة، عام سنة ألف وثمانمائة وثمانين من الميلاد، وتبينوا وجود نصوص كثيرة منقوشة بداخله، فتتبعوا الأمر في سائر الأهرامات المكتشفة، وكانت المفاجأة أنهم أمام مجموعة متكاملة من الوثائق، فترجموها لعدة لغات وطبعوها عددًا من المرات. وقد عرفت هذه الوثائق بنصوص الأهرام. إن هذه النصوص مكتوبة باللغة الهيلوغروفية، وتغشى حيطان الممرات والدهاليز والغرف لخمس أهرامات في سقارة، وقد تم كتابة النصوص في فترة بلغ مداها مائة وخمسون عامًا، أي في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد وربع قرن قبله وربع قرن بعده، وترجع أهمية هذه النصوص للمعلومات الدينية التي تحتويها، ولأنها تتحدث عن العقائد المصرية منذ العصور الأولى، كما أنها تعد وثيقة حقيقية لم يلعب بها تحريف ولم يداخلها التبديل، وأغلب ما تتناوله النصوص يتعلق بعقائد المصريين، وبخاصة ما يتعلق بالحساب وبالآخرة وبالخلود بعد الموت، وبمناجاة الآلهة، ومن الممكن تصنيف محتوياتها في خمسة موضوعات، هي:

1 - فروض جنائزية تتلى عند القبر بعد دفن الميت. 2 - تعاويذ دينية. 3 - تصوير للعبادة والطقوس. 4 - توسلات تلقى نيابة عن الملك. 5 - أساطير دينية متعددة. وقد اهتم العلماء بنصوص الأهرام، فأخرجها المستشرق "زِيته" في مجلد ضخم، بلغت صفحاته ألف واحد وخمسين صفحة من الحجم الكبير، كما أن المستشرق "شِيفر" شرح نصوصها وحلل موضوعاتها، ومازالت هذه النصوص محل اهتمام حتى الآن. الثالث: من المصادر كتاب الموتى، شغلت عقيدة المصريين في الحياة الخالدة بعد الموت ركنًا كبيرًا في تفكيرهم وتراثهم، ولذلك نراهم يصنعون كتابًا خاصًّا يحتوي على الاعتراف بالضعف البشري، وبالندم على الخطايا، كما يحتوي على طلب المغفرة والتقرب إلى الإله ليبعدهم عن العذاب ويدخلهم الجنة، ويسمى هذا الكتاب بكتاب الموتى، وكان يكتبونه على ورق أو ينقشونه على حجر، ويضعونه تحت رأس الميت أو بجواره أو يخطونه على جدر التوابيت. وكثيرًا ما كانوا يكتبون نسخًا متعددة يضعونها مع الميت؛ اعتقادًا منهم بأن ذلك يساعد الميت على السعادة والخلود، ويؤدي إلى عفو الله ومغفرته لمن ينتقل منهم إلى الدار الآخرة، وكتاب الموتى أقرب نص يوضح العقيدة المصرية الدينية، ومدى اعترافها بالإله وبالموت وبالآخرة وبالنعيم في الآخرة، ولذلك يعتبره بعض العلماء كتابًا مقدسًا باعتبار الغاية منه، وإن كانت ألفاظه من تأليف الكهنة.

أهم معتقدات المصريين القدماء.

وقد نال كتاب الموتى اهتمام علماء الآثار والأديان لخطورة موضوعه، إلا أنه لم يطبع كله، فلقد طبعت أجزاء كثيرة منه تحت اسم نصوص التوابيت أو نصوص دينية أو نصوص مصرية، وهكذا، وعلى الجملة فهذا الكتاب يعد مصدرًا هامًّا لدراسة عقائد المصريين القدماء، وبخاصة في إيمانهم بالآخرة وبالحساب فيها. رابع المصادر: نقوش الأحجار، كلما اكتشف العلماء أثرًا عمرانيًّا، يجدون أنفسهم أمام سيل من المعلومات عن الحضارة والعقيدة المصرية مكتوبة ومصورة، وما تزال الاكتشافات تتوالى كل يوم. إن العقل البشري يقف مبهورًا أمام ما تركه المصريون القدماء، ويعجب أكثر للطريقة التي سجلوا بها عقائدهم وأفكارهم، وتمكنوا بها من تقديم أنفسهم للناس بعد زمان طويل في قوة وروعة وجلاء. هكذا عرفنا مصادر الديانة المصرية القديمة، فما هي أهم معتقداتها؟. أهم معتقدات المصريين القدماء عقائد القدماء المصريين: يتبين لنا من المصادر السابقة الجوانب الرئيسة في عقيدة قدماء المصريين، وهي: أولًا: عقيدة التوحيد، حيث آمن المصريون القدماء بالإله الواحد الخالق المحيط بالناس رب الدنيا والآخرة، وقد عرفت عنهم هذه العقيدة قبل الميلاد بأربعين قرنًا، يوم أن كانت مصر مقسمة إلى ولايات كثيرة متصارعة، فلقد عثر على نص يرجع تاريخه إلى القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد، يبين عقيدة التوحيد جاء فيه: إن بِتاح صاغ وحدانيته بنفسه، وكل كلمة ربانية إنما تخرج إلى الوجود بتفكيره، إنه الذي صاغ الأجسام والصفات، إنه هو الذي خلق كل الأطعمة وكل

الضحايا بالكلمة. إنه الذي يسبب لكل خاتمة أن تخرج، وأنه هو اللسان الذي يعلن عن أفكار القلب، إنه هو الذي خلق كل عمل وكل صنعة تصوغها الأيدي، ومشي الأقدام وحركة كل عضو تبعًا لأمره، عن طريق تفكير القلب الذي يتحقق باللسان، ودلالة هذا النص الذي عثر عليه في قطعة منفيس، الذي نقشه الملك "شِباكو" تدل على عقيدة التوحيد واضحة. وفي طيبة وجد نشيد ديني يتعلق بتسبيح الإله "آمون" جاء فيه: أول من جاء إلى الوجود في الأزمان الأولى آمون، لا إله أتي إلى الوجود قبله ولم يكن معه إله آخر، ليس له أم وليس له أب، وهو من العظمة بحيث يجب أن يسأل الناس عنه، ومن القوة بحيث ينبغي أن يعرف، كل الآلهة ثلاثة: آمون، ورَع، وبتاح، ولا تالي بعده، الخفي اسمه آمون هو رع في وجهه وبتاح في جسده، ترجم عن ولسن في تاريخ النص يرجع إلى سنة ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين قبل الميلاد. وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد يتولى الملك "أخناتون" عرش مصر الموحدة، وينشط في دعوة الناس إلى الإيمان بإله واحد، هو خالق كل شيء وهو المحيي والمميت، ومن أناشيد كهنة أخناتون وهم ينادون الإله قولهم: ما أعظم أعمالك أيها الإله، إنها خافية عن جميع البشر، أيها الإله الواحد الذي لا إله سواه. أنت خلقت الأرض حسب مسرتك. قد خلقت الجلد البعيد لتشرق منه بوجهك لكي ترى عيناك كل ما صنعت يداك. الأرض كلها بين يديك، لذلك أنت الذي صنعتها، فعندما تشرق تحيا الخلائق، وعندما تغيب تموت؛ لأنك أنت مصدر الحياة، وجميع الناس بك يحيون. وقد تصور البعض أن أخناتون هو أول من دعا إلى التوحيد في مصر القديمة، لكن النصوص المحفوظة في الآثار، خير شاهد على أن التوحيد وجد في مصر قبل

أخناتون بعشرين قرنًا على الأقل، ويلاحظ أن توحيد المصريين يتضمن الإيمان بأن الإله خالق كل شيء، وفق قدرة عاقلة حكيمة، كما يتضمن الإيمان بضرورة وجود مناسك وطقوس يؤديها الإنسان لله، وقد أورد الدكتور أحمد الحيني عددًا من المواعظ في أزمنة قديمة مختلفة ومتباعدة، للدلالة على ذلك. إن هذا التوحيد رغم صفائه ووضوحه، وبعده عن الشرك والإلحاد، ورغم ثبوته بأدلة قوية رغم ذلك توجد آلهة عديدة تدور حولها الأساطير الكثيرة، أنزلها المصريون منزلة عظيمة ومقدسة، ومن هذه الآلهة رع إله الشمس واهب الدفء، ومصدر النور، وآمون الإله المستتر. أوزوريس إله الحب والتعاون والسلام، وتُحوت إله العلم والحكمة. وإيزيس إله الحياة. ووجود هذه الآلهة وغيرها يدفعنا إلى سؤال بدهي وهام، يدور حول اجتماع التوحيد والشرك معًا في مصر القديمة. إن النصوص المصرية الثابتة لم تحل هذا التناقض، ومع ذلك فحله ليس بالأمر الشاق أو المستحيل؛ لأن من الممكن أن التوحيد كان للخاصة والشرك كان لغيرهم، أو أن الشرك مرحلة تالية للتوحيد أو العكس، أو أن الأسماء المختلفة تدور حول إله واحد، يسمى بما يوصف به، أو أن اختلاف الأقاليم أدى إلى تعدد اللغات مما جعل الاسم يختلف، وإن كانت حقيقة المسمى واحدة، أو أن حال المصريين كان كحال العرب في جاهليتهم، حيث كانوا يوحدون في الربوبية ويشركون في الألوهية، تلك كلها احتمالات ظنية ممكنة في تفسير هذه الظواهر. لكن الإنصاف يجعلنا نكتفي بمجرد الوصف، تاركين الترجيح بين هذه الاحتمالات الآن؛ لأننا لا نستطيع أن نعرف ماذا يدور بِخَلَد المصري القديم، وفيما يفكر عندما كان يسمع كلمة معبود، وعلى أي نحو كان يتمثل في خياله،

وكنه الصورة التي كانت تتمثل لدى القروي ولدى المدني ولدى رجل الدين، وهل كانت جميعًا واحدة وفي مستوى واحد، أو كانت مختلفة. إن معلوماتنا مأخوذة من أوراق البردي ومن نصوص الأهرام، ومن سائر الكتابات، وهي أوثق شيء لدينا حتى الآن، وهي الدليل عند العلماء على ما ذهبوا إليه. ومن ثم لا نستطيع تفسير هذه الظواهر بدقة، وإن كنا نستطيع تصور التوحيد ومعرفة أسماء الآلهة الكثيرة، وما يدور حولها من الأساطير، وعلى الجملة فإن المصريين عرفوا التوحيد وعبدوا الآلهة المتعددة، فاجتمع لديهم التوحيد والشرك، وقد أوردت ما يدل على التوحيد عندهم، وكذلك ما يدل على تعدد الآلهة، وقد عُلِمَ أنه شاعت في مصر القديمة عبادة الطواطِم، التي يراد بها عبادة الحيوانات، كعبادة الصقر والنسر والقط والنسناس والجُعل والتمساح، وغير ذلك من فصائل الحيوانات وهي بقايا طَوْطَمية تحولت مع الزمان إلى رموز. كما شاع عند المصريين القدماء عبادة الأرواح أو عقيدة الأرواح، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، فكانوا يؤمنون بالروح ويجعلونها في صورة زهرة أو طائر له وجه آدمي، وتارة في صورة تمساح أو ثعبان، وقالوا: إن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح. وأما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها، فهي عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، ومن هنا كانت عناية المصري بتشييد القبور، وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات التي لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وعبادة الشمس، وكذا عبادة البشر متمثلة في أوزوريس وإيزيس وحوريس، ويبدو أن المصريين قد بذلوا الكثير من الجهد

والمال والوقت والفكر في سبيل عقيدة عبادة الموتى والأسلاف، والإيمان بالحياة بعد الموت وبالثواب والعقاب، حتى أقاموا لموتاهم هذه المقابر، وشيدوها بهذه الصورة، وأسسوها على هذا النحو الخاص، وحنطوا فيها أمواتهم ووضعوا الأدوات التي يستعملونها في أماكن لا تنالها عوادي الزمن، وفي ظروف لا تسمح للصوص بسرقة شيء من هذه الأدوات. فتطور الاحتياط حسب التقدم الحضاري للمصريين، منذ كانوا يسكنون وادي النيل ويعيشون كصيادين بدائيين، ويدفنون موتاهم ومعهم أسلحتهم، وأواني مأكلهم ومشربهم، فلما تقدم الزمن وصار لهم ملوك وحضارة زاد ما كانوا يدفنونه مع موتاهم، فزادت عنايتهم واحتياطاتهم، فبنوا المقابر الضخمة ووضعوا فيها الأثاث الجنازي الكثير. ثانيًا: في عقائد المصريين القدماء: الإيمان بالحياة في الآخرة، حيث آمن المصريون القدماء بالحياة بعد الموت، على أساس إيمانهم بأن الروح لا تفنى بالموت ولا تذهب بذهاب الجسد؛ لأن الموت في نظرهم عبارة عن مجرد مفارقة الروح للجسد. وحتى يضمنوا عودة الروح لجسدها مرة أخرى بعد الموت، فقد بذلوا جهدهم في العناية بالأجساد وتحنيطها، ووضعها في توابيت قوية ومقابر ضخمة، وبالغوا في إخفائها، حتى لا يعتريها أمر يضيعها أو يضعفها، وبذلك تكون مستعدة لاستقبال الروح والعيش في السلام الكامل، وفي الحياة الآخرة آمن المصريون بالدينونة بين يدي الآلهة، ولذلك اهتموا بوضع كتاب الموتى مع الميت؛ ليعينه في اجتياز الحساب ودخول الجنة. وقد بينت النصوص عقيدة المصريين في الروح والحساب والخلود، ووضحت مدى اعتمادها على الصور الحسية الدنيوية، فهم يعتقدون أن الروح بعد الموت

تتجه إلى الوادي السحيق، حيث يوجد بوسطه نهر الدينونة الرهيب، والوادي على شكل نصف دائرة، ممتدة على جوانبه التلال والجبال، وامتلأ من داخله بالهوام والوحوش. إن الوادي مقسم إلى اثنتي عشرة منطقة، وهو ممتلئ بالأفاعي والثعابين والوحوش الضارية، ولا ينجو من هذه الآلام إلى الأرواح التي تسلح أصحابها بأعمال البر والخلق القويم. وفي الوادي توجد محكمة الموت المعروفة بمحكمة أوزوريس، وعدد قضاتها اثنان وأربعون قاضيًا، يتوسطهم أوزوريس جالسًا فوق منصة تعلو تسع درجات، وتمثل الروح أمام المحكمة، وتنهال عليها الأسئلة: هل مجدت الآلهة؟ هل ارتكبت جريمة ما؟ هل نطق لسانك بالكذب وشهدت بالزور؟ هل غدرت بجارك؟ هل أحببت قريبك كنفسك؟ فترد على ما يوجه إليها من أسئلة وتقول: هأنذا أعاين جمالك ولم أرتكب الظلم في الناس، لم أقتل ولم أأمر بالقتل، لم أكذب ولم أذكر أنني خنت أحدًا، لم أعص الأوامر الإلهية ولم أحرض أحدًا على رئيسه، ولم أُجوع أحدًا، ولم أطفف كيل القمح، ولم أغش في قياس الذراع وفي حد الحقل، ولم أضغط على قَب الميزان، فأنا نقي نقي نقي. وبعد ذلك يكون القضاء، وهي لحظة شاقة تنتظرها الروح لتعرف مصيرها في الآخرة، وهل ستكون من المقبولين الفائزين أم تكون من المحرومين المعذبين. إن الجنة هي جزاء المقبولين والعذاب جزاء المحرومين، وكلاهما في صورة حسية مادية على نمط تصور المصريين للحياة الأخروية بشكل عام. هذا وللعلماء في نشأة وتطور عقيدة المصريين آراء، حيث يتفق العلماء جميعًا على ظهور التوحيد في مصر القديمة، كما يتفقون على وجود الآلهة المتعددة فيها أيضًا، إلا أنهم

يختلفون في تفسير نشأة كل من التوحيد والتعدد، وفي أيهما الأسبق وفي الصلة بينهما، ولذلك نراهم ينقسمون إلى ثلاثة اتجاهات هي: الاتجاه الأول: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الدين ظهر عند المصريين القدماء على سنة التطور الفكري، حيث بدأ بدائيًّا ثم أخذ في الترقي شيئًا فشيئًا، حتى وصل إلى عقيدة التوحيد، ويرى هؤلاء العلماء إلى أن تحول المصري القديم من الصيد إلى الزراعة، جذب انتباهه إلى البحث عن سر تحول الحبة بعد بذرها في الأرض إلى نبات أخضر مثمر، يمثل صورة الكائن الحي في التكاثر والنماء والتغذية والإخراج، وقد أدى هذا إلى الاعتقاد بوجود إله، هو روح هذه الحياة الخضراء حيث يحفظ لها استمرارها وتجددها، وسمى المصريون هذا الإله باسم أوزوريس. ومن الزراعة نفسها أدرك المصريون ما في ماء النيل من أثر قوي على استمرار الخضرة وازدهارها، فاعتقدوا بإله النيل وأسموه حورس، ومن البيئة التي عاشها المصريون أدركوا أهمية الشمس، واعتقدوا بوجود إله يعرف بإله الشمس هو رع، وهكذا يفسر هؤلاء العلماء نشأة الآلهة المصرية، إذ يرونها ترتبط بالظواهر الطبيعية، التي أوحت للإنسان باختراع عقيدة معينة مرتبطة بالآلهة معينين، لهم أثر واضح في معاشهم ونشاطهم، ويرى العلماء أن هذه المرحلة البدائية مرت بطورين: أولهما: تأليه المظهر الطبيعي ذاته. وثانيهما: تأليه الروح التي يرمز لها المظهر الطبيعي، وقد قوي تأليه الروح حينما انتشر بين المصريين الإيمان بالروح، التي تسكن كل كائن موجود لاعتقادهم بوجود روح في كل شيء. وقد ساعد على نمو العقيدة ورقيها عند المصريين وجود

كهنة متفرغين للوعظ والعبادة، وخدمة الآلهة، ومن صور النمو الديني: شعور المصريين بأن بعض آلهتهم عالميون، كإله الشمس وإله الحياة، وإحساسهم بأن سلطان هذه الآلهة يمتد لما بعد الموت، وأنه فوق سلطان البشر، واهتمامهم بالتراتيل والأناشيد الدينية والتعاويذ حفظًا وكتابة. وقد أدى هذا النمو في مرحلة ما إلى تسليم المصريين بأن بعض الآلهة أكبر من بعض آخر، وهذا دفعهم إلى الإيمان بالآلهة الأكبر، ثم كان الترقي في النهاية إلى معرفة المصريين للتوحيد، والإيمان بوجود إله واحد أعلى مما عداه له عدة أسماء تبعًا للهجات الإقليم، وتعدد اللغات وتبعًا للصفات التي يتصف بها. وأصحاب هذا الاتجاه يرون العقيدة من صناعة المصريين بصورة كلية، ويُرجعون جميع صورها إلى العقل الإنساني والصناعة البشرية المجردة. وقد ذهب إلى هذا الاتجاه في تفسير العقيدة المصرية عدد كبير من العلماء، وعلى رأسهم الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله) والدكتور عبد المنعم أبو بكر في كتابه (أخناتون) والأستاذ جيمس هنري برستد في كتابيه (تطور الفكر والدين في مصر القديمة) و (انتصار الحضارة) والأستاذ حبيب سعيد في كتابه (أديان العالم). أما الاتجاه الثاني، فيذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن العقائد البدائية التي ظهرت في مصر القديمة من اختراع العقل، إلا أنها سرعان ما تأثرت بالتعاليم التي جاء بها الرسل، مما جعلها تقف على التوحيد الإلهي الصحيح، الذي تأثر بعد مدة بالتفكير البشري، وداخلته بعض العقائد القديمة، الأمر الذي أبعده جزئيًا عن صفاء التوحيد والدعوة الإلهية، وهؤلاء العلماء لا يسلِّمون بوجود التوحيد خالصًا في مصر، بل يؤخذون عليه ارتباطه بالشمس أو بإله الآلهة، البادي في صورة ملموسة حيث يسكن القصور ويأكل ويشرب.

ويفسرون ذلك بتأثر المصريين ببعض العقائد السماوية، وبصورة خاصة تلك الرسالات التي عاشت فترة بينهم، كرسالة إبراهيم ويوسف وموسى -عليهم الصلاة والسلام. وهؤلاء العلماء لا يرون الدين الصحيح صناعة بشرية، ويؤكدون أنه لا يكون إلا بالوحي المنزل على رسول من رسل الله تعالى، ويذهب بعضهم إلى أن الدين الصحيح جاء لسائر الأمم داعيًا للتوحيد الخالص والنظام المستقيم، استنتاجًا من الحقيقة القرآنية الواردة في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24). وهو بهذا يرى أن المصريين عاشوا بالضرورة مع رسالة سماوية صحيحة، وبعد ذلك أتاهم التحريف والتغيير، فانحدروا من التوحيد إلى التعدد إلى الوثنية، وهكذا كان تغير الدين في مصر القديمة نحو الهبوط، ولم يكن صعودًا دائمًا، وأصحاب هذا الاتجاه لا ينفون عن الدين المصري مروره في المرحلة البدائية، بل يذكر بعضهم أنها ظهرت قبل التوحيد الصحيح. (الإنسان في ظل الأديان) (معتقدات الأديان القديمة) للدكتور عمارة نجيب. أما الاتجاه الثالث فيذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الدعوات الإلهية الصحيحة، ظهرت في مصر، إلا أنهم يذهبون إلى تحديد الدعوات، التي كلف المصريون بها، إذ يذهب بعضهم إلى أن إدريس -عليه السلام- هو رسول الله المرسل إلى المصريين القدماء، حيث يقولون: ولد إدريس -عليه السلام- بمدينة إدفو من أعمال الصعيد حيث رحل إليها أهله. وقد ذكر المؤرخون أنه عاش يدعو المصريين إلى عبادة الله وتوحيده، وتنزيهه عن كل شرك كما دعا إلى المحبة والزهد والعدل والإحسان، ومن المعلوم أن إدريس -عليه السلام- من رسل الله الذين أرسلوا مع بداية حياة الآدميين على الأرض، وبذلك

تكون العقيدة المصرية بدأت بالتوحيد الخالص ثم انحدرت إلى الشرك وتعدد الآلهة. ويستدل الأستاذ محمد الهاشمي على أن البدء كان بالتوحيد الخالص الموحى به من عند الله، بما رآه العالم الأثري مانيتون استنتاجًا من الآثار المصرية القديمة؛ إذ يؤكد على أن هناك أنبياء ورسلًا أرسلوا إلى مصر، ويستدل كذلك بقول العلامة ماسبيرو: "وكان إله المصريين الأول عالمًا بصيرًا يدرِك ولا يدرَك، موجودًا بنفسه حيًّا بنفسه حاكمًا في الأرض والسموات، فهو أبو الآباء وأم الأمهات لا يفنى ولا ينضب أبدًا". وبعد التوحيد أخذت الديانة المصرية تتطور تنازليًّا إلى عبادة آلهة ثلاثة ثم إلى تسعة، وهكذا زادت شيئًا فشيئًا، حتى وصلت إلى ما يقرب من المائة. أستاذ محمد فؤاد الهاشمي في كتابه (الأديان في كفة الميزان). ولم تكن محاولة أخناتون في الدعوة إلى التوحيد؛ إلا لأنه قرأ شيئًا فشيئًا عن التراث الديني القديم وتأثر به، وأراد نشره في الناس، ولذلك كان توحيده مشوبًا بصفات البشرية وسماتها، وذهب آخرون إلى أن التوحيد الذي ظهر في مصر منقول من دعوة داود -عليه السلام- الذي أرسل لبني إسرائيل. ويستدل على ذلك بأن التوحيد المصري الذي أعلنه أخناتون ظهر بعد دعوة داود -عليه السلام- مباشرة، وأيضًا فإن بعض أنشودة أخناتون للإله آتون تتشابه مع الفقرات من عشرين إلى ثلاثين من المزمور رقم مائة وأربعة من العهد القديم، مما يدل على اتفاق إلى حد كبير بين الأنشودة وفقرات المزمور المشار إليها، بل اتحدتا في ترتيبهما.

وهذا يؤكد أن الأنشودة التي يقولها أخناتون أُخذت من المزامير، مما يرجح أن دعوة أخناتون للتوحيد هي دعوة المزامير التي رتلها داود عليه السلام. وأمام الوحدة في المعنى والترتيب لا يمكن القول بأن هذا مجرد مصادفة، أو أنه خواطر تواردت لطول الفقرات وكثرة المعاني؛ لأن المصادفة لا تتكرر والخواطر لا تلتقي في مسيرة فكرية طويلة، والأمر لا يزيد عن أن أحدهما مأخوذ من الآخر. مما دفع بعض العلماء إلى القول بأن توحيد أخناتون منقول من دعوة داود عليه السلام. وبتصوير هذا الرأي نكون قد بينا المذاهب الثلاثة في تفسير نشأة الدين عند المصريين، وتطوره بينهم. ويلاحظ أن الاتجاهين الثاني والثالث متقاربان؛ لاعتمادهما على القول بضرورة أن يكون التوحيد دعوة إلهية، نزل الوحي بها، وليس بينهما من خلاف سوى أن الاتجاه الثالث يذهب إلى تحديد الرسل ورسالاتهم، بينما اكتفى الاتجاه الثاني بوضع القضية في إطار مبدأ عام، تاركًا التفاصيل لمكتشفات المستقبل وتقدم وسائل البحث العلمي. أما الاتجاه الأول فهو مع الأخيرين على طرفي نقيض، وبالنظر في كل ما ذكرته عن دين المصريين القدماء، نتبين دقة المعلومات التي فهمت من الكتابات المكتشفة؛ لأن عدم معرفة اللغة الهيلوغريفية صرف الناس عن العبث بما كتب، فلم يتصوروها سوى نقوش خالية من أي معنى، وأيضًا فإن نقشها في باطن الصخور وفي الجدران الداخلية للمقابر، ساعد على حفظها وعلى عدم تأثرها بالطبيعة، وهذا يدفع إلى التصديق بما تدل عليه. إلا أن الباحث في الأديان ينبغي أن يكون حذرًا، إذا أراد الوصول إلى تصور كلي وتام لعقيدة قدماء المصريين، والسبب في هذا أن بعض الآثار لم يكتشف بعد،

وبعضها تعرض للضياع بفعل الأرض أو بفعل الإنسان، ويكفي أن نعرف أن بعض الناس اتخذ من سرقة الآثار وبيعها مهنة له، ومع الحذر فإن ما اكتشف وما أَجهد العلماء أنفسهم في ترتيبه كافٍ لأنْ يوجهنا إلى معرفة ما كان عليه قدماء المصريين، وقد سبقت الإشارة إلى أساسيات العقيدة المصرية، واشتمالها على توحيد الله، وفي ذات الوقت على تعدد الآلهة، مما جعل العلماء يذهبون في تفسيرها إلى المذاهب الثلاثة التي أشرت إليها، وأمام هذه المذاهب نقف قليلًا متأملين لنرجح الأقوى من بينها. إن الاتجاه الأول قائم على أساس التطور في العقيدة، وقد سبق الرد عليه عند الكلام عن هذه القضية، مع ما عليه من جملة مآخذ، وهي دخول التصور الذهني والتخمين الخيالي، مع ما تدل عليه النصوص، وهذا لا يجوز، لجواز أن تُظهر المكتشفات عكس المتخيل، كما أن التخيل بلا دليل لا يجوز مطلقًا فكيف به في تفسير العقائد. كذلك القول بالتطور يعني أن الصورة الأولى للعقيدة كانت بدائية، ثم أخذت في الترقي شيئًا فشيئًا، وهذا غير موجود عند قدماء المصريين؛ لأن النصوص تدل على أن الإيمان بالله الواحد، والإيمان بأنه الخالق المحاسب للناس بعد الموت ظهر في الأزمنة الموغلة في القدم، وقد سبق إيراد نصوص ترجع إلى القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد. أيضًا القائلون بالتطور يرون أن مرحلة التوحيد مرتبطة بعقل الإنسان المحدود بالبيئة والزمان والثقافة، ومحال أن يتمكن هذا الإنسان من تصور الله بصفات الكمال الواجبة له، بينما نرى وصول المصريين إلى صفات الكمال التي تتصف

بها الذات الإلهية، والقائلون بالتطور لا يؤمنون بالله الذي جاءت به الأديان السماوية، ولذلك فهم يرون صفات الله مجرد تصورات عقلية بلا حقيقة واقعية. بينما النصوص المكتشفة تدل على أن التوحيد في عقيدة المصريين القدماء، تعني الإيمان بالله المتصف بصفات مدركة بآثارها في الخلق والإبداع والرعاية والعون، ويدل مسار العقيدة عند المصريين على أن الأمر لم يكن يسير إلى الأرقى، وإنما الثابت أن العقيدة كانت تتجه إلى الانحدار والتقهقر، ويتخللها ومضات وحدة قوية، وهذا ما لم يقل به علماء التطور لأنهم يرون الترقي والتقدم إلى الأحسن. من هذا نرى أن الاتجاه الأول في تفسير نشأة وتطور عقيدة المصريين ليس دقيقًا، ولا يسلم به عقل علمي صحيح، أما الاتجاهان الثاني والثالث فكلاهما يعتمد على أن التوحيد هو دعوة رسل الله تعالى، التي نزل الوحي بها من عند الله تعالى، وأمام ما بينهم من خلاف، فإننا نرى أن الأولى هو ترجيح الرأي القائل بأن التوحيد الموحى به تجاه المصريين، في أقدم عصورهم من غير تحديد رسالات أو رسل معينين لما يلي: الأول: تأكيد الله تعالى في القرآن الكريم بأن سائر الأمم جاءها رسول من عند الله، لدعوتها إلى التوحيد ودين الله، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) والمصريون أمة من الأمم، بل إنهم أسبق من غيرهم، لدرجة أن من العلماء من يرى أن المنطقة التي عمرت في الكون أولًا هي مصر، وتبعًا لهذا يمكن القول بمجيء رسول إلى المصريين منذ القدم. بل إن العقل يسلم بنزول عدد من الرسل في مصر يدعون للتوحيد على فترات، فكلما غابت رسالة تأتي أخرى وهكذا، ولعل هذا يفسر ظهور دعوة التوحيد في فترات مختلفة على امتداد التاريخ المصري القديم.

الثاني: القول بتحديد أسماء الرسل يلزمنا بالدليل على ذلك، وبتعريف سائر الرسل الذين أرسلوا لمصر، بينما ذلك لم يذكره أحد ولا يستطيعه؛ لأن التعريف بالرسل لم يرد إلا في الكتب المقدسة، وهي لم تتناولهم جميعًا حيث يقول تعالى في القرآن الكريم: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78). الثالث: القول بالتوحيد الموحى به، يفسر ظاهرة وجود تعدد الآلهة بجانب التوحيد، حيث آمن البعض بالتوحيد وكفر آخرون، وتلك قضية مسلمة أكدتها البشرية مع سائر دعوات الله تعالى. الرابع: تحديد الرسالة بإدريس -عليه السلام- أو بداود -عليه السلام- يدفع إلى التسليم بخلو مصر من التوحيد قبل وبعد هذا الرسول أو ذاك، وذلك غير صحيح حيث ظهر التوحيد في حياة المصريين فترات عديدة. الخامس: القطع بأن دعوة أخناتون جاءت بعد داود -عليه السلام- غير مسلم به، فمن علماء الآثار من يذهب إلى أن دعوة أخناتون ظهرت قبل داود بوقت طويل، وفقرات المزمور مأخوذة من النص المصري، وهذا لون من تحريف التوراة. السادس: القول بالرسالات من غير تحديد لا يتعارض مع القول بإرسال رسول معين، وتحديد مسماه؛ لأن ثبوت ذلك يؤكد أنه واحد من رسل الله تعالى، بينما التحديد يمنع من احتمال إرسال ما لم يرد في التحديد، وعلى الجملة فإن التوحيد ظهر في مصر القديمة، وبلغه رسل الله تعالى، وهذا الذي نرجحه ونراه الأولى بالتسليم، والله أعلم. وأما ما يقال عن التوحيد الأخناتوني، فليس توحيدًا بالمعنى الشرعي الصحيح؛ ذلك لأن أخناتون كان يعبد الشمس، والشمس ليست إلهًا إنما هي من جنس

الآلهة الباطلة والأرباب الزائفة التي عبدها الناس بعيدًا عن الوحي الإلهي المنزل، فأخناتون أراد أن يوحد المصريين وأن يقلل من عدد الآلهة التي تعبد، فجعلها في صورة الشمس. ونحن لا نقول بأن عبادة الشمس ولو تفردت الشمس بالعبادة تكون توحيدًا، إنما هو توحيد الآلهة الكثيرة الباطلة في إله واحد باطل أيضًا، وهو عبادة الشمس، لكن التوحيد الحق هو الذي جاء في الرسالات السماوية، ومما يلاحظه الدارس لديانات العالم القديم أن أشد الأمم تدينًا هم المصريون القدماء، حتى لقد قال شيخ المؤرخين هيرودوت: "إن المصريين أشد البشر تدينًا، ولا يعرف شعب بلغ في التدين درجتهم فيه، فإن صورهم بجملتها تمثل أناسًا يصلون أمام إله، وكتبهم في الجملة أسفار عبادة ونسك". ولقد كان لشدة تدينهم أن أدخلوا الدين في كل أعمالهم الخاصة والعامة، فالدين مسيطر حتى في الكتابة في الحاجات الخاصة، وفي الإرشادات الصحية، والواقع أن عقائد المصريين كانت تتخالف بتخالف الأقاليم، وكانت آلهتهم محلية، فكان لكل مدينة إله أو أكثر، بيد أنه يجب علينا أن نعتقد أن دعوات إلى التوحيد الخالص بعبادة إله واحد، فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، قد تواردت على العقل المصري. ولقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد أن يوسف -عليه السلام- وهو نبي كريم من أنبياء الله دعاهم إلى عبادة الواحد القهار، فلقد ورد في سورة "يوسف" ما حكاه الله تعالى من كلامه لصاحبي السجن، فقد قال حاكيًا عنه: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ

النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 37 - 40). من هذا الخبر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نحكم مستيقنين أن دعوة إلى التوحيد قد وردت للمصريين، فهذا يوسف -عليه السلام- وهو في السجن يدعو صاحبيه إلى الدين القيم، وهجر عبادة ما سموه آلهة، ولقد مكن الله ليوسف في أرض مصر، واستولى على خزائن الدولة وصار ذا سلطان مبين فيها، وهو رسول من رب العالمين، فلا بد أن يكون قد دعاهم جهرة إلى الدين القيم، ولا بد أن يكون قد أجابه منهم أناس ونكص عن الإجابة غيرهم. ولعل أروع ما في العقيدة المصرية القديمة: اعتقادهم الحياة الآخرة وأنها الباقية بعد هذه الدنيا الفانية، فقد كانت الدنيا في نظرهم فترة قصيرة بعدها حياة لها أمد غير محدود، وقد قام اعتقادهم بالحياة الآجلة بعد هذه العاجلة على أساسين: أحدهما: أن هذه الدنيا معترك يتنازع فيه الشر والخير، وكثيرًا ما نرى الشر ينتصر على الخير، فلو لم يكن هناك يوم كله للخير وكله على الشر، يحاسب المسيء على إساءته ويكافأ المحسن بإحسانه، ما استقام العدل الإلهي. ثانيهما: اعتقادهم في النفس الإنسانية، فهم يعتقدون وجود نفس تنفصل عن الجسم، وإن كانت تحل فيه، وهذه النفس متصلة بالعالم الإلهي ما دام الإنسان على قيد الحياة، فإذا مات اتصلت به اتصالًا وثيقًا. وكان المصريون يعتقدون أيضًا أن الميت أو روحه في العالم الآخر، يحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء في الدنيا من طعام وشراب، وأن ما يقدم من ذلك في الدنيا يكون قربانًا على أرواح الأموات،

يفيدهم في الآخرة، ولذلك تكون روح الميت في أشد الألم إذا لم تقدم القرابين من طعام وشراب، وما إلى ذلك من مطاعم الأحياء في الدنيا إليها. والحق أنه مهما يكن في الديانة المصرية القديمة من أوهام وعقائد فاسدة، لا تستمد من المنطق قوتها، فإن الآداب التي اشتملت عليها، والفضائل التي تدعو إليها، وخصوصًا الجانب السلبي منها، كانت معينًا خصبًا، قبست منه الديانات غير المنزلة، ولقد كانت ديانة القدماء المصريين تتغير وعقائدهم تتبدل تبعًا لسنة الله في الأمم والكون، ما دامت ديانتهم لم تعتمد على أصل سماوي. بل إن الديانات السماوية نفسها قبل الإسلام كان يعتريها التحريف والتغيير والتبديل، وتفهم على غير وجهها عندما يكون الناس على فترة من الرسل، والواقع أن عقائد المصريين كانت تتخالف بتخالف الأقاليم نفسها، وكانت آلهتهم محلية فكل مدينة كانت لها آلهتها، فكان موطن أوزوريس أبيدوس، وفِتاح في منف وآمون في طيبة، وهودوس في إدفو، وهكذا ومن هذا يفهم أنه لم يعرف المصريون حتى التوحيد الإقليمي، بأن يجتمع على آلهة واحدة في كل إقليم، ويتفقوا عليها مهما تتباين جهات إقامتهم، بل كانت آلهتهم محلية كل إقليم له آلهة خاصة. فمما لا شك فيه أن المصريين عرفوا الدين من قديم، ثم حدثت الانتكاسة بالشرك، وقد تطور من ثالوث إلى تاسوع حتى بلغ المائة، فالمصريون أمة من الأمم هي أسبق الأمم تدينًا، والعقل يسلم بنزول عدد من الرسل إليهم، كلما غابت رسالة نبي جاء نبي آخر، كما هو مقرر في القرآن، ولم تكن محاولة أخناتون في الدعوة إلى التوحيد إلا أنه قرأ التاريخ الديني القديم وتأثر به، وأراد نشره في الناس ولذاك كان توحيده مشوبًا بالوثنية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 أديان الهند الكبرى.

الدرس: 14 أديان الهند الكبرى.

مصادر الديانة الهندوسية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (أديان الهند الكبرى) مصادر الديانة الهندوسية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أديان الهند: عرف الهنود الدين منذ القدم، وعاشوا أديانًا متعددة، وأهم أديانهم وأقدمها الديانة الهندستانية، المنسوبة إلى إله برهمة، والتي تعرف بالبرهمية، وبعد الهندستانية ظهرت الديانة الجِينية والديانة البوذية، وكلاهما يعتبر ردود فعل لبعض تعاليم البرهمية، وبخاصة في نظامها الطبقي ونظرتها للإله برهمة، ولكل دين من هذه الأديان الثلاثة التي ظهرت في بلاد الهند نصوص خاصة وتعاليم وعقيدة تتميز بها عما سواها، وقد عرفت بلاد الهند بأنها بلاد الأساطير والأسرار. وقد عبد الهنود النار وهي أساس عبادتهم، وقد أقاموا لها المعابد ووظفوا لها السدنة والكهنة؛ للقيام بالطقوس ورسوم تلك العبادة، وقدمت إليها القرابين من خبز وعشب وخمر وكافة ثمار الأرض، ولم تكن عبادة النار وحدها في الهند، بل كانت عبادات أخرى، فقد عبدوا القمر وغيره الكثير كما عبدوا الشمس، ولكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة لها عندهم إله، فإله السماء وارُونا وإله الشمس فِشنو وإله الصبح أُوشا وإله العواصف رُدْرا وإله الماء بَرْجانيا، وكذلك هناك آلهة للنور والريح كما عبد الهنود الأرواح والأسلاف. بل قيل إنهم عبدوا عضو التلقيح لاعتقادهم أنه سبب الخلق والوجود، كما عبدوا الأنثى من البشر، وبرزت الهند بصورة واضحة في عبادة الطواطم، واحتلت مكانة مقدسة، حتى إننا نستطيع أن نقول: إنه لم يكن هناك آلهة سواها،

كما عبدوا البقر وقالوا إنها هي أمهم، ولكن في الأخير بقيت هناك أديان شاعت وبرزت في الهند: الهندوسية أقدم أديان الهند وأوسعها انتشارًا، والبرهمية وهي أشهر وأكبر الديانات في الهند، والجينية تلي البرهمية في الأهمية، والبوذية وهي ثالثة أديان الهند الكبرى، وكل دين من هذه الثلاثة له طقوسه وواجباته وتعاليمه. وعلى أساس منهجي في هذه الدراسة نريد أن نُعرف بالمصادر وبالأركان الأساسية لكل دين، ونوضح إن شاء الله النتائج المستفادة من دراسة الأركان، ونظرًا لتميز كل دين من أديان الهند عن غيره، فإنني سأفرد كل دين بدراسة مستقلة على حدة، فأقول -وبالله التوفيق-: الهندوسية: الهندوسية أقدم أديان الهند وأكثرها انتشارًا، وهي أساس للأديان غيرها، والنصوص الخاصة بها عديدة، واهتم الهنود بها كثيرًا، فنقلوها للأجيال المتعاقبة عن طريق السماع والحفظ، أو عن طريق السلوك والتقاليد، وسنتناول توضيح البرهمية فيما يلي: أولًا: مصادر الهندوسية: للهندوسية مصادر عديدة، أهمها الفِيدات، ومعناها: العلم والمعرفة، ولذلك فهي اسم للأناشيد الدينية المسجلة والمحفوظة، كما تسمى بها الكتب الفيدية الأربعة، والفيدات مكتوبة باللغة السَنْكَرَتِية القديمة، وقد جمعها أحد حكماء الهند القدامى عرف بها، وسمي فِيدافِياسا، أي: جامع الفيدا، والكتب الأربعة هي:

1 - رَجْفيدا، أقدم الكتب الدينية؛ حيث يذكر بعض العلماء أن تاريخ تأليفه يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وهو يتكون من ألف وثمانية وعشرين نشيدًا دينيًّا، مقسمة إلى عشرة فصول، تتحدث الستة الأولى منها عن أسر المنجمين والكهان، وتنسب إليهم مزاعم كثيرة تتعلق بالإبداع والتأثير، وتتحدث الأربعة فصول الأخرى عن التعاليم والواجبات الدينية، ويتميز الفصل العاشر بشمول النظرة وعمق التحليل، ونظرًا لأن هذا الكتاب يدور أغلبه حول الأسر الحاكمة والكهان سمي بالرجفيدا، أي: الفيدا الملكية. الثاني: سِنْفيدا، ويشتمل هذا الكتاب على مجموعة من التراتيل، التي يتغنى بها الكهان أمام الآلهة، ولذلك عرف بالأنغام المطربة. الثالث: يَجُورفيدا، ويتضمن الأناشيد التي تتلى عند الدعاء، ويعتقد الهنود أن تلاوتها تحقق الخير وتجلب البركات. الرابع: أَثُروفيدا، وتتضمن التعاويذ التي تعمل على تغيير المصائب، ويتميز عن غيره باشتماله على طائفة من الشرائع البرهمية، وبخاصة ما يتعلق بنظام الطبقات المقدسة عند الهنود. والكتب الثلاثة الأولى أقدم الكتب الهندية، حيث يرجع ظهورها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أما الكتاب الرابع فقد ظهر بعد ذلك بمدة طويلة، لدرجة أن مانو المشرع الهندي وغيره يكاد لا يعده من كتب الفيدا، والفيدا مقدسة عند الهنود ويرون أنها من كلام الإله برهمة، ولذلك أحاطوها بالحرص الملائم لها من نظرهم، كعدم كتابتها حتى لا يحوزها العامة، وكالمحافظة عليها بلغتها التي كتبت بها، وهي السِّنْسِكريتية القديمة ولذلك بقيت معلومات للكهان فقط.

وكانت عقائد الهنود تحرم عليهم تعليم ما في هذه الكتب لغير الهندوسيين؛ لجهل الغير بمكانتها، وقد بقيت هذه الكتب مجهولة حتى القرن العاشر الميلادي والرابع الهجري، حتى استطاع العالم المسلم محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني أن ينقل إلى اللغة العربية نصوصًا كثيرة من محتويات الفيدا، فكان بذلك أول عالم أخرج الديانة الهندوسية إلى عالم النور، وعرف العالم بمعتقداتهم وكتبهم، الأمر الذي وجه أنظار العالم والعلماء إلى أهمية دراسة المعتقدات الدينية الهندية من كافة جوانبها. وقد استطاع أحد علماء الفرس الحصول على بعض أجزاء من الفيدا، فترجمها إلى اللغة الفارسية، سنة ألف ستمائة سبع وخمسين من الميلاد، وبعد ذلك ترجمت إلى عدد من اللغات العالمية، ويرى البعض أن بعض هذه الفيدات ثمرة تأليف أشخاص عاديين، بالرغم من اعتقاد الهنود أنها جاءت عن طريق الوحي، الذي ألقي فيه رُوعي المنجمين والحكماء. المصدر الثاني بعد الفيدات: الرسائل المسمى اليُوبُونَشَدات، وتشمل مجموعة الشروح والحواشي التي أثارتها الفيدات عند حكماء البراهمة ورجال الدين، وبرغم أن هذه الشروح والحواشي تدور حول الفيدات، إلا أن الهنود يرونها مقدسة، ويرون أنها جزء مكمل للفيدات نفسها، ويحيطونها بدرجة كبيرة من السرية مع أنها ظهرت متأخرة عن الفيدات بوقت طويل. وتتضمن هذه الرسائل مائتين وخمسين رسالة على الأقل، بعضها منثور وبعضها الآخر منظوم، وكانت الرسائل تلقن شفويًّا لطلاب المدارس، في شكل مذكرات مختصرة لسهولة حفظها، ونظرًا لكثرة الرسائل وطولها اقتصرت كل مدرسة على مجموعة منها فقط، في صورة مذكرات أو تراتيل أو حوار، وقد أدى اعتبار

الرسائل مقدسة أن قام رجال الدين بتأليف رسائل دينية، وضمها إلى مجموعة الرسائل من أجل ربط الفرق الخاصة بهم بالفيدات، وذلك كما فعل تاجور حيث ألف رسالة في سنة ألف ثمانمائة وثمان وأربعين من الميلاد، سماها اليُوبِنِيشاده البرهمية، كما ألف غيره رسائل ظهرت فيما بين سنة أربعمائة من الميلاد وسنة ألف ومائتين ميلادية. ومع هذا الاعتبار فإن متعصبي البراهمة يرون الرسائل المؤلفة حديثًا غير شرعية، ويرون أن الرسائل الشرعية هي وحدها الملحقة بالفيدات قديمًا، لكن هذا التعصب لم يمنع من إلحاق رسالتين بالرجفيدا، ومثلهما بالسنفيدا وسبعًا بيجوفيدا والأكثر بالأثروفيدا، وهذا ما دعا إلى القول إمكان إلحاق رسائل جديدة إلى القديمة، وبه أيضًا يفهم السبب في اشتمال بعض الرسائل على قضايا لا تتجانس مع نصوص وتعاليم الفيدات، والرسائل تحتوي على أفكار كثيرة مكررة، فلا تستقل الواحدة بفكرة واحدة، وإنما تتشابه في اشتمال الرسالة على أفكار كثيرة موجودة في غيرها. وقد كان للمدارس أثر واضح في قصور الرسائل عن تقديم مذهب عقلي تام المعالم، ومع ذلك فهي تشير إلى نظرات ثاقبة وفلسفة روحية في المواضيع التي تناولتها، وأهمها تمييز الإله الواحد المطلق برهمة عن أتْمن الإله، نظرية وحدة الوجود والقول بأن كل شيء هو برهمن، وعلى الجملة فإن الرسائل الفلسفية هذه قد طورتها المدارس، وحاولت أن تقدم منها مذهبًا متناسقًا يوضح العقيدة وجوانبها المختلفة. المصدر الثالث: قوانين مانُو، ينسب هذا المصدر إلى حكيم هندي اسمه مانو، ويشتمل كتابه على تفصيل لعقائد الدين البرهمي وعباداته ومعاملاته ونظمه

العق يدة الهندوسية أو البرهمية.

المختلفة، كما يشتمل على نشأة الكون والإنسان وتقسيم الطبقات، ويرى بعض الهنود أن هذا الكتاب ليس مقدسًا، لكن الغالبية العظمى من الهنود يعتبرونه كتابًا مقدسًا حيث ألهم به مانو، وكتاب مانو أهم مرجع للباحثين في الدين البرهمي؛ لأنه قد استوعب جميع نواحي هذا الدين، ولم يغادر أصلًا أو فرعًا إلا وفصله تفصيلًا، مع محافظته في سائر تفصيلاته على نصوص مستمدة من كتب الفيدا. وقد ألف هذا الكتاب كله في شعر منظوم، ووضعه صاحبه في اثني عشر قسمًا رئيسيًّا، ليشمل كل قسم موضوعًا معينًا مصاغًا في عدد من المواد، وقد بلغت مواد الكتاب كله ألفين وستمائة وأربع وثمانين مادة، قد ترجم هذا الكتاب إلى عدد من اللغات، ودارت حوله العديد من الأبحاث التحليلية والمقارنات. هذا عن المصادر. العق يدة الهندوسية أو البرهمية فماذا عن العقيدة البرهمية؟ يشتمل الدين الهندوسي على تعاليم متعددة، تتضمن جوانب الحياة المختلفة للفرد والجماعة، بما فيها من عقائد وعبادات وشرائع وأخلاق، ونحن هنا نوردها واحدة واحدة بإيجاز وتركيز إن شاء الله تعالى. عقيدة الهندوسي في الله: يذكر البيروني أن اعتقاد الهندوسي في الله، أنه الواحد الأزلي من غير ابتداء ولا انتهاء، المختار في فعله القادر الحكيم الحي المحيي المدبر المبقي، الفرد في ملكوته المنزه عن الأضداد والأنداد، لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء.

ورأى البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة) رأي البيروني هذا نشأ من مخالطته للهنود، الأمر الذي يعطي رأيه قوة خاصة، والبيروني نفسه يورد الشواهد على هذا من كتب الهندوس ذاتها، فيذكر ما جاء في أحد كتبهم المعروف بـ"باتِنْجل" على صورة حوار بين سائل ومجيب. قال السائل: من هذا المعبود الذي يُنال التوفيق بعبادته؟ قال المجيب: هو المستغني بأزليته ووحدانيته عن فعل لمكافأة عليه تؤمل وترتجى، أو شدة تخاف وتتقى، والبريء عن الأفكار لتعاليمه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدًا إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بمتجه عليه في وقت ما أو حال. ويمضي الكتاب بأسلوب الحوار مثبتًا لله كل الصفات اللائقة بالوحدانية الخالصة، كالعلم والكلام والعلو التام في القدر والغنى الجواد. ومن الكتب المقدسة التي بيناها نجد تصويرًا لهذا التوحيد، ففي الكتاب السابع من الرجفيدا جاء هذا النشيد: الحكماء هم الأجيال في طريق العظمة عنه الذي جعل العاملين الواسعين مشطورين، ودفع عقد السماء للعظمة والارتفاع، كذلك كوكب النهار وبسط الأرض عريضًا، ومع نفسي بذاتها تأملت هذا السؤال: متى أكون مع فارونًا متحدًا -فارونًا أي الإله الأكبر- أية موهبة عندي سيتمتع بها بغير سخط، متى بقلب سعيد أحظى برحمته، يا فارونا ما هو ذنبي الأساسي، أهو القضاء على صديق يتغنى بمدائحك. خبرني فالله غير خداع وذو سلطان وبلا أخطاء، هل أسترضيك إذًا بالتسبيح، اجعلني كعبد حينما يجعل مرة بلا ذنوب، أعبد الرحمن قبل زمن الغضب، صاغ الإله النبيل الغني مفكرًا، يسرع بالحكماء إلى الثراء إنه الحكيم، أرجو بنشيدي يا فارونا الحاكم القهار أن اقترب منك، وأجعل قلبك راضيًا، أرجو أن تحسن إلينا في الراحة والعمل فخصنا دائمًا بنعمائك.

يلاحظ في هذه الأنشودة الإيمان بالإله المسمى فارونا، بصفاته التي ينفرد بها، كما يتضح منها رغبة الإنسان في إفناء ذاته مع الإله، وهذا يشير إلى إيمانهم بوحدة الوجود، ومع هذا نجد كتبًا مقدسة تشير إلى آلهة أخرى، حيث نجد الإيمان بإله آخر هو أَجْنِي إله النار، وهو إله مخيف رهيب ينزل الأذى بالعصاة، مهمته تأديب العصاة والمذنبين. ونجد عندهم أيضًا إله الشمس يسمى سِفْتَر، ومهمته تتركز في إثارة الأفكار الجميلة، بمعنى أنه يوحي فتثور الأفكار؛ ذلك لأن الشمس كما توقظ الناس للعمل كذلك توقظ روح الإنسان، فشعاعها رمز لنور باطني له تأثيره الكبير، وعلى هذا النمط وجدت آلهة متعددة في بلاد الهند، حتى كان القرن التاسع قبل الميلاد، وفيه عمل الكهنة الهنود على جمع الآلهة في إله واحد، في محاولة منهم للتوفيق بين التوحيد والتعدد فقالوا: إن الله واحد، وهو الذي أخرج العالم من ذاته، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء: فهو برهمة من حيث هو موجد، وهو فِشنو من حيث هو حافظ، وهو سِيفا من حيث هو مهلك. جاء في كتب الهند أن كاهنًا توجه إلى الآلهة الثلاثة، وسألهم أيكم الإله بحق؟ فأجابوا جميعًا: اعلم أيها الكاهن أنه لا يوجد أدنى فارق بيننا نحن الثلاثة، فإن الإله الواحد يظهر بثلاثة أشكال بأعماله مِن خلق وحفظ وإعدام، ولكنه في الحقيقة واحد، فمن يعبد أحد الثلاثة فكأنه عبدها جميعًا أو عبدَ الواحد الأعلى، ويبدو أن محاولة الكهنة في هذا الجمع لم يحظ بإيمان الهندوسيين، فهم يؤمنون بالعديد من الآلهة ويعتبرون الثلاثة آلهة، يستقل كل واحد منهم عن الآخرين.

فالإله برهمة والإله الخالق، وقد أقيم له عدد من المعابد لتكريمه ويرسمونه في الفن الهندي شخصية ملكية، يمسك كتاب الفيدا يقرأ فيه، والإله سيفا يسمى الإله الكبير، وأتباعه عديدون فهو الإله المدمر الذي يصيب بالمحن والبلاء، ويرون أنه كان في الأصل إلهًا جبليًّا ينمي العشب المفيد، ولقوته في التدمير والإنماء صوروه بعيون ثلاثة، محاطًا بالثعابين والقوة المخيفة، والإله فشنو محسن جواد يدعو للمثل العليا والقيم النبيلة، يستخدم كل قواه لمساندة الخير والفضيلة. والناظر في عبادة الهنود يجدهم يعبدون بعض الحيوانات كالبقرة، وبعض قوى الطبيعة وظواهرها، وعلى الجملة فإن الكتب الهندوسية تتناول في بعض أجزائها الحديث عن التوحيد التام، المتضمن التنزيه المطلق لله تعالى، وفي أجزاء أخرى تتحدث عن عدد من الآلهة، وعن صور عبادتهم وكيفية التقرب إليهم، وللعلماء في تفسير هذا التعارض آراء متعددة، نذكرها فيما بعد. من عقائد الهندوسية: إنكار النبوة: يرى الهندوسيون أن الدين يأتيهم من الله تعالى بلا واسطة، وبذا ذهبوا إلى إنكار النبوات، وعدم التصديق بنبي أو رسول يأتي بدين ما، زاعمين أن العقل يقرر ذلك، ويسلم باستحالة بعث الرسل وإرسال الأنبياء، ويستدلون على هذا بعدة أدلة عقلية منها: الرسالة التي يأتي بها الرسول لا تخلو من أحد أمرين؛ إما أن تكون معقولة وإما أن تكون غير معقولة، فإن كانت معقولة فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فلا حاجة إلى رسول، وإن لم تكن معقولة فلا تكون مقبولة؛ إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ودخول في حريم البهيمية، والرسالة تعني اتباع الإنسان لإنسان آخر هو الرسول.

ولا ينبغي اتباع رجل هو مثل غيره في الصورة والنفس والعقل، يأكل مما يأكل غيره ويشرب مما يشربون، والله عزيز حكيم، والحكيم لا يرسل الرسل ولا يأمر بما يقبح في العقول، والرسل قد قالوا بما يقبح في العقول، مثل الطواف بالبيوت والأركان والمنازل، ومن يدري إنهم سيعصون ولا يطيعون لأن الإرسال حينئذ عبث. والقول بإرسال الرسل يكون لإخراج الناس من الضلال إلى الإيمان، والله تعالى حكيم قادر، والأولى به في حكمته والأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان من غير إرسال رسل، ولذلك بطل عندهم إرسال الرسل. هذه الأدلة وغيرها أوردها ابن حزم والشهرستاني، ورد عليها بتفصيل، وإجمال الرد أن العقل الإنساني له طاقته المعينة، الدائرة في إطار محدود، وهو قاصر عن المعرفة الكاملة والهداية التامة. والرسالة لا تغفل العقل وإنما تأتي لتوجيهه نحو الخير، في المجال الذي لا يدركه وحده ما دام تصور هذا المجال معقولًا، وحينئذ فإرسال الرسل وبعث الأنبياء ضرورة يقررها العقل، ويحتاج إليها فلا معنى لإنكارها، وأيضًا فإن الرسول يأتي لقوم ليسوا جميعًا عاصين، بل منهم من يطيع ومنهم من يعصي. ولذلك فإرسال الرسل محقق للغرض منه، وفي كون الرسول من البشر فائدة للإنسان نفسه؛ لأن الله يختار رسولًا متميزًا بالخلق والطاعة والعصمة، والبشرية مما تمكنه من تقبل الوحي، وفي نفس الوقت يبلغه للناس بلغتهم فيفهم ويؤلَف، ولو كان رسول من غير البشر لنفر منه الناس، وللزم أن يتشكل بصورة البشر ليألفه الناس، ويتمكن من إبلاغهم، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون بشرًا أو في صورة البشر.

العقيدة الثالثة: تناسخ الأرواح.

وما دام الرسول يحقق الهدي للمرسل إليهم، فإرساله حكمة ومصلحة، ولو كان للعقل قدرة على الوصول للهدي وحده لما انتشر الضلال، ولما بعد الناس عن الطريق المستقيم فترات طويلة. إن العقل قاصر عن إدراك شرع الله تعالى وحده، وأكبر ما يدل على ذلك تأثره بصاحبه المحدود بالذات وبالزمان وبالمكان، ويظهر هذا القصور في الاتجاهات العقلية المتنوعة، والمعارِضة في الموضوع الواحد، مع أن الحق لا يتعدد. وأخيرًا فإن الإيمان بالله تعالى الواحد المتصف بكل صفات الكمال، يقتضي الإيمان بكل ما جاء به الوحي وطاعته في كل ما أمر به أو نهى عنه، ومن بين ما جاء به الوحي الإخبار بإرسال الرسل، فلزم حينئذ الإيمان بإرسال الرسل؛ إذ لا يستقيم الإيمان بالله مع إنكار الرسالة والنبوة. هذا ويثبت التاريخ ظهور النبوات والرسالات على فترات طويلة على مر الزمان، ومعهم المعجزة الدالة على صدقهم، ومعهم الشريعة التي تصلح أمر الإنسان في الحال وتفيده في المآل، وعلى الجملة فإن الهندوسيين أنكروا النبوة ولم يؤمنوا برسول. العقيدة الثالثة: تناسخ الأرواح يؤمن الهنود بتناسخ الأرواح، ومعناه أن الروح حينما تفارق جسدها عند الموت تنتقل إلى جسد آخر، وتستمر هكذا في التنقل حتى تستقر في أصلها الأول الذي صدرت منه، وفكرة التناسخ هذه تتضمن فكرة وحدة الوجود التي قال بها الهنود؛ لأن جميع الكائنات في نظرهم تتضمن روحًا صدرت عن الله الواحد.

والكائنات في الحقيقة هي الروح السارية فيها، وما المادة المحسوسة إلا مظاهر فانية لا قيمة لها، والأرواح حينما تصدر من مقرها الأول تبقى عاشقة للعودة إلى مصدرها وأصلها، ولكن اختلاطها بالمادة وتشابكها مع الشهوات يؤخر لها تحقيق هذا الأمل. إن الموجودات كلها إذا انصدرت عن الله وستعود إليه فهو وحده الموجود وهو أصل كل موجود سواه، وفي إطار وحدة الوجود يفهم التناسخ الروحي؛ لأن الروح تفارق الجسد المادي عند الموت وتنتقل إلى جسد آخر. يؤكد البيروني هذه القضية، ويورد النصوص من الكتب الهندوسية فيقول: "قال ياسِيدو لأرجن: إن كنت بالقضاء السابق مؤمنًا، فاعلم أنهم ليسوا ولا نحن معًا بموتى، ولا ذاهبين ذهابًا لا رجوع معه، فإن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان، من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود، كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود، لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها ولا نار تحرقها، كل مولود ميت كل ميت عائد، وليس للإنسان من كلا الأمرين شيء، وإنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير". إن الاعتقاد في التناسخ عندهم يعتمد على بعض القضايا اليقينية في نظرهم، وهي الإنسان في الحقيقة بروحه لا بجسده؛ لأن الجسد فانٍ ينتهي أما الروح فهي باقية خالدة، وهي جوهر الإنسان. الإحساس بالسعادة أو بالشقاء متعلق بالروح لا بالجسد، والعقاب بعد الموت يكون للروح فقط. تنزل الروح من مصدرها طاهرة نقية، فإذا ما اختلطت بالجسد عاشت بين الأهواء والشهوات ومالت إليها. أعمال الإنسان في حياته تستتبع نتائجها بعد

الموت بالضرورة، فإن كان عمله خيرًا نالت روحه الخير وإن كان عمله شرًّا جوزيت روحه بالشر، وذلك يتحقق بالتناسخ لأن الإنسان الذي يعمل خيرًا تنتقل روحه إلى جسد صالح، طاهر أرقى من الجسد السابق، وهي بذلك تسعد، أما الإنسان السيئ، فإن روحه تجازى بأن تنتقل إلى جسد ناقص شقي تشقى فيه وهكذا تجازى الروح. إن الهنود لا يشكون في أن الأفعال التي يقوم بها الإنسان بإرادته، فتحسن إلى الآخرين أو تسيء إليهم، لا بد أن يكافأ عليها ذات يوم أو يعاقب، وكل من يفلت من هذه الحياة يجنيه في حياة أخرى؛ لأنه لا يموت موتًا كاملًا. إن نفس كل كائن وشخصيته لا يمكن أن تصير إلى فناء. إن النظر في تفاوت الظروف في الحياة الدنيا يؤدي حتمًا إلى التسليم بأنه كان ثمة حياة سابقة. وكذلك يتحتم أن يكون الموت مفضيًا إلى حياة جديدة، تنال فيها النفس جزاء ما قدمت في الحياة التي انقضت، ولكن إلى متى يستمر التناسخ؟ هو مستمر إلى أن تصل الروح إلى الخير التام، وتندمج في الإله برهمة، ووصولها إلى الخير التام ليس بالأمر المستحيل؛ لأن الروح تستمر في التجوال صعودًا وهبوطًا حتى تتمكن من قهر الشهوات والرغبات الدنيا، والوصول إلى نهاية سلم الطهر، وتتقمص جسدًا راقيًا نظيفًا، وبعده تستقر في الخير الأعلى، وبذلك يتحقق الهدف الأقصى للروح فتثبت وتعيش في سعادة دائمة وغامرة. ويلاحظ هنا أن الهنود يفصلون الجسد عن الروح ويجعلون كلًّا منهما مستقلًا عن الآخر، وفي نفس الوقت يُحملون كلًّا منهما ما يرتكبه الآخر من أوزار، فالروح تتقمص جسدًا تشقيه إذا ارتكب إثمًا، والجسد إذا أثم يجعل الروح آثمة معه، وهم بذلك يترددون بين مذهب الجبر ومذهب الاختيار، وفي إطار الإيمان بتناسخ الأرواح يظهر لنا إيمان الهنود بأمور ثلاثة:

من عقائد الهندوسيين: الإيمان بالجنة والنار.

الأول: تجوال الروح وهو يعني تنقل الروح من جسد إلى جسد. الثاني: وحدة الوجود وهو يعني أن الكون كله منبثق عن الله، وما الكون كله إلا مظهر لله. الثالث: الانطلاق وهو يعني عودة الروح إلى بارئها الأعلى، وامتزاجها في حقيقتها الأصلية. ويدافع بعض فلاسفة الهنود المعاصرين عن الإيمان بهذه الجوانب المتصلة بالروح، حيث يرى في الوحدة الروحية دافعًا للمحبة الاجتماعية، فحين نفهم أننا كأغصان شجرة واحدة، توجد عواطف التضامن والتعاون والمحبة، من يرى جميع المخلوقات في الموجود الواحد، ويرى الموجود الواجد في جميع المخلوقات، لا يكره أحدًا ويتحرر من الوهم ومن الألم إلى الأبد. والأديان السماوية ترى أن الروح من الله، وأن لها دورها الكبير مع الجسد، أنها لا تموت مع الجسد، وهي في هذا تتفق مع العقيدة الهندوسية، لكنها تختلف عنها في أن لكل كائن مخلوق روحه الخاصة به، ولا تناسخ بين الأرواح وأن الآخرة هي دار الجزاء الحقيقي. من عقائد الهندوسيين: الإيمان بالجنة والنار يؤمن أغلب الهندوسيين بالجنة والنار كضرورة للجزاء على الأعمال الخيرة والسيئة، وهما عندهم في الدنيا، والجزاء فيهما متعلق بالروح فقط، وحتى تتفق عقيدتهم في الجنة والنار مع عقيدتهم في تناسخ الأرواح، يقولون بمنازل أربعة تعيشها الروح:

المنزلة الأولى: العليا، وهي الجنة، التي تنعم فيها الأرواح، وتنال الجزاء الحسن على ما عملت من خير، حيث تمكث فيها الروح مدة محددة بمقدار العمل الذي أدته، ثم تنتقل منها بعد انتهاء المدة إلى المنزلة الثانية، وتسمى الجنة عندهم سَفَّلُوك. المنزلة الثانية: الوسطى، وهي مجمع الناس حيث العمل والكسب، وفيها يكون تناسخ الأرواح وتجوالها، فإذا ما قامت الروح بدورها في هذه المنزلة، تنتقل إلى المنزلة الأولى العليا إن كانت راقية، أو تذهب إلى المنزلة الثالثة السفلى إن كانت على خطأ ونقص، ويسمون هذه المنزلة مانْلُوق. المنزلة الثالثة: السفلى، وهي النار، وتأتيها الأرواح الآثمة لتأخذ عقابها الذي تستحقه، وتمكث فيها مدة معينة تخرج منها إلى المنزلة الرابعة الأدنى، والمنزلة الثالثة تسمى عندهم ناكْلُوق. أما المنزلة الرابعة: وهي الأدنى، وهي المنزلة التي تعيش فيها الأرواح النبات والحيوانات غير الناطقة، وتهبط إليها الأرواح بعد انتهاء عقوبتها في النار، وليس بعد هذه المنزلة منزلة أخرى، فإذا ما ترقت الروح فيها انتقلت إلى المنزلة الثانية، حيث تعمل وتنشط وتنال حظها الذي يستحقه صعودًا أو هبوطًا، وهكذا تتحرك الأرواح في منازلها المذكورة تبعًا لتصور معين، لا يتعارض مع تناسخ الأرواح. ومما ذكره الهندوسيون نرى أن المنزلة الواحدة تتكون من مراتب عديدة، تصل إلى المئات، كما أنهم يحددون لكل عمل مرتبة معينة، ومن البرهميين من ينكر فكرة الجنة والنار ويكتفي بما في التناسخ من عقوبة وجزاء.

خامس العقائد عندهم: الطبقات المقدسة: يقوم المجتمع الهندي على أساس طبقي، وينقسم إلى أربع طبقات مختلفة في المهنة وفي قربها من الآلهة، وهذا التقسيم مقدس جاء في قوانين مانو: ثم خلق البراهمة ثم خلق البراهمة من فمه، والكَشْتَرية من ذراعه، والوِشْيا من فخذه، والشُدْرا من رجله، فكان لكل من هذه الطبقات منزلته، وبناء على هذا الأساس وجدت الطبقات من صنع الله، ولا طريق لإزالتها، وليس هناك أمل ما في أن ينتقل شخص من طبقة إلى طبقة أخرى، الابن من يأتي على نمط أبيه ولا يتزوج إلا من طبقته، ولا يعمل إلا في المجال المحدد، وإن وُلد لأحدهم فهناك أسماء خاصة لكل طبقة. وقد أورد الدكتور أحمد شلبي نصوصًا من قوانين مانو، توضح اختصاصات كل طبقة نثبتها هنا لأهميتها في تحديد أعمال الطبقات: طبقة البراهمة: يقوم البراهمة بدراسة أسفار الفيدا وتعاليمها، وتبريك تقديم القرابين التي لا تقبل من الناس إلا عن طريقهم، ويجب أن يحافظ البرهمي على كنز الشرائع المدنية والدينية، وإذا ولد برهمي وضع في الصف الأول من صفوف الدنيا. البرهمي حمل لاحترام الآلهة وأحكامه حجة على الناس. والكتاب المقدس هو الذي يمنحه هذا الامتياز. كل ما في العالم ملك البرهمي وللبرهمي حق في كل موجود، والبرهمي إذا ما افتقر حق له أن يمتلك ما لشُدْرِي الذي هو عبد له، من غير أن يجازيه الملك على ما فعل، فالعبد وما يملك لسيده، ولن يدنس البرهمي بذنب أبدًا ولا يجبى منه مال، ولا يعاقب على جرم أبدًا وعلى الملك أن يستشيره في كل أمر.

طبقة الكشترية: لا يجوز للكشتري أن يشتغل بغير الجندية، والكشتري يعيش جنديًّا حتى في وقت السلم، وعليهم أن يتجمعوا عند أول النداء، على الملك أن يعد لهم عدد الحرب وأسلحته. طبقة الوِيشِية: الويشي يربي الماشية على الدوام، وعلى التجار منهم معرفة قوانين التجارة ونظم الربا، وليعلم الوشي جيدًا كيف يبذر الحبوب وليفرق بين الأرض الجيدة والأرض الرديئة، وليطلع على نظام الموازين والمكاييل اطلاعًا كافيًا، وليعرف أجر الخدم ولغات الناس، وما تحفظ به السلع وكل ما يمت للبيع والشراء بصلة. طبقة الشدرا: على الشدري أن يمتثل امتثالًا مطلقًا أوامر البراهمة، ولا يجوز له أن يجمع ثروة ولو كان قادرًا، ويأتي بعد هذه الطبقات وخارج النظام جماعة المنبوذين، وهؤلاء هم سلالة العناصر المغلوبة أو العبيد أو الهنادك، الذين طردوا لخروجهم على تعاليم نظام الطبقات، وكفروا بالديانة الهندوسية، وأعمال المنبوذين لا تزيد عن خدمة الطبقات الأربع المذكورة. وقد كان لارتباط هذا النظام الطبقي بالعقيدة، أن تمسك الهنود به بصورة قوية فما يزال حتى الآن مطبقًا بين تسعين في المائة من السكان، وبخاصة في المناطق الريفية، برغم المحاولات العديدة التي بذلت للتخفيف من قسوة هذا النظام، على فترات متعاقبة في تاريخ الهندوسية، ومع ما في نظام الطبقات من ظلم وإساءة للهنود، فقد وجدنا بعض فلاسفتهم يدافع عنه ويؤيده بالمبررات فيقول: إنه نظام لا يسمح للفوضى والصراع والتذمر من خلال تحديده لمكانة وعمل كل فرد.

لقد اكتشف الهنود أن الكائنات البشرية تنقسم بطبيعتها إلى أربع فئات، حيث تسعد كل منها بعمل معين يناسبها، حدده لها النظام الهندوسي، ويلاحظ أن هذا الرأي يتجه إلى جعل نظام الطبقات مسألة اجتماعية، ظهرت من خلال استعداد الفرد وطاقاته المختلفة، ولا صلة له بالعقيدة الهندوسية، لكن الواقع يؤكد ارتباط هذا النظام بالعقيدة الهندوسية، والهندوس يرونه نظامًا مقدسًا، ويرون خروج كل طبقة من مكان معين من جسد الإله برهمة. ويؤيد هذا الواقع أيضًا أن الهندي لا ينتقل من طبقته مهما كانت استعداداته وعبقريته. إنه مضطر إلى البقاء في طبقته، والويل لمن تحدثه نفسه بغير ذلك؛ لأنه إن صار على هذا ينحط قدره، ويكون من المنبوذين. ومن العقيدة إلى العبادة، العبادات الهندوسية تحدد المصادر الهندوسية الهدف الأسمى للهندوسي، وتذكر أنه الوصول إلى الإله والفناء فيه، وترى أن هذا هو قمة السعادة للإنسان، ولذلك نجد الهندوسية توضح المنهج الأمثل لتحقيق هذا الهدف. إن المنهج يشمل طقوسًا وعبادات معينة، كما يشمل نظمًا وأخلاقًا، والعبادات في الهندوسية كثيرة، وهي أساس منهج الوصول والسعادة، وأهمها ما يلي: الأولى: الحج، وهو قصد أحد البلاد الطاهرة أو أحد الأصنام المعظمة، أو أحد الأنهار المطهرة يغتسل الهندوسي بها، ويخدم الصنم ويهدي إليه، ويكثر التسبيح والدعاء، ويتصدق على البراهمة والسدنة ويحلق رأسه ولحيته، والحج عند الهندوسيين تطوع وفضيلة، وليس فرضًا ملزمًا. حددت النصوص الهندوسية الأماكن التي يحج إليها الهنود، كما أنها أجازت الحج إلى أي مكان يوصف بفضيلة ما في أي وقت.

كما أنهم يفضلون بعض الأماكن على غيرها، ومن الأماكن المفضلة بلدة بارَنْسِي، وزهادهم يقصدونها ويلزمونها، ويحرصون أن تأتيهم آجالهم فيها، ويقولون: إن سافك الدم مأخوذ بذنبه إلا أن يدخل بلدة بارنسي، فينال فيها العفو والغفران، ومن هذه الأماكن أيضًا بُوكَر وكشمير، وهناك العديد من الأساطير حول السبب في تعظيم الأماكن المعظمة. العبادة الثانية: الصوم وهو إمساك عن الطعام مدة ما. يقول البيروني: "والصوم أنواع يختلف بحسب مقدار المدة وبحسب صورة الفعل، فأما الأمر المتوسط الذي به تحصل شريطة الصوم، فهو أن يعين اليوم المصوم ويضمر اسمًا يتقرب به إليه، على أن يبدأ الصوم من ظهر اليوم السابق إلى شروق شمس اليوم التالي أو إلى الظهر منه، على أن يعلن اسمًا يصام لأجله في يوم الصيام نفسه، مع الإكثار من التسوك والاغتسال، ومن الصوم أنواع أخرى كأن يأكل عند الظهيرة فقط ثلاثة أيام، ويعقبها بالطعام في العتمة ثلاثة أيام كذلك". وهكذا تنوع الصوم عند الهندوسي تبعًا لاختلاف مدة الانقطاع عن الطعام، وتبعًا للغرض الذي من أجله كان الصوم. ويرى الدكتور علي عبد الواحد وافي أن عبادة الصوم نوعان؛ نوع خاص لرجال الدين البرهميين، حيث يلزمهم الصيام في أوائل كل فصل من فصول السنة، ووقت الكسوف ومن غروب الشمس إلى غروب الشمس إلى غروب الشفق الأحمر كل يوم، وصوم الخاصة فرض لازم، ونوع للعامة ومنه الصوم الذي أوردناه أولًا، وصوم العامة فضيلة وتطوع.

وعلى الجملة فسائر صوم الهندوس مرتبط بمواقيت فلكية، الأمر الذي جعل الهنود يتفوقون في علوم الفلك ومنازل القمر، والصوم الهندوسي من العبادات الهامة، لما له من أثر واضح في إهمال المطالب الحيوانية للجسم، وإضعاف القوى الجسمية والإقلال من تحكمها في الإنسان، وهذا أساس لتحقيق الغاية المرجوة وهي الفناء في الله والاندماج معه. العبادة الثالثة: الذكر وهي عبادة تشمل قراءة الأوراد والدعوات الدينية والتسبيح، ولزوم الصدق وملاينة الناس في الحديث والأمر بالمعروف والوعظ والتذكير. الرابعة: الصلاة وهي تسبيح وسجود، ويكون بوضع الإبهامين على الراحتين المتجهتين نحو الشمس أيًّا كان. العبادة الخامسة: تقديم القرابين، وهي تقديم أنواع من الأطعمة والأشربة للآلهة، مع ترتيل الأناشيد وتأدية رقصات وحركات عند الآلهة التي تعددت وكثرت. عبادة سادسة: حرق الموتى، يقوم الهنود بحرق موتاهم في كومة من خشب الصندل تحت إشراف الكهنة، الذين يدهنون جسم الميت بالشحوم والدهون، ويرتلون الأناشيد أثناء الحرق وقبله، ويبقى أهل الميت بجواره أربعًا وعشرين ساعة، وذلك ليجمعوا الرماد؛ لإلقائه بعد اثني عشر يومًا، في النقطة التي يعتقدون أن نهرين جُمْنَة والحانِج يلتقيان فيها بالنهر الأسطوري، عند بلدة الله أباد. العبادة السابعة: عبادة البقر، يتجه الهنود بالعبادات السالفة الذكر في بعض الأحيان إلى البقرة، وهي من المعبودات الهندية التي لم تضعف قداستها مع

الأيام. يقول المهات ماغندي: "إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم. والفكر الهندي يعتقد أن البقرة هي أم الإنسان. إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وهي خير حماية للهند، عندما أرى البقرة لا أعدني أرى حيوانًا لأني أعبد البقرة، وسأدافع عنها أمام العالم أجمع. إنها تفضل أمي الحقيقية لأنها تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تطلب مقابل ذلك سوى الطعام العادي، ولا تكلفنا علاجًا إذا مرضت وإذا ماتت تنقطع بعظمها وجلدها وقرونها. إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين". ويبدو أن عبادة البقرة تكوّن على أساس أنها أحد الآلهة التي تخضع لإله أعلى هو رب الأرباب وإله الآلهة. ومن العبادات إلى الشرائع، الشرائع الهندوسية: تتضمن الكتب المقدسة عددًا من الأسس والشرائع المنظمة للحياة الهندية، في إطار الطبقات التي أشرنا إليها، ومن هذه النظم تنظيم الدولة على أساس خضوعها لملك من البرهمة، يختاره الشعب لحماية حدود الدولة من أعدائها. وعلى الملك أن يقود الجيش بنفسه، وله من الرعية الطاعة ودفع الخراج والهدايا والأموال. وتوضيح مكانة المرأة في المجتمع وهي في الشريعة الهندوسية لا أهلية لها، كما جاء في تشريع مانو: لا يحق للمرأة في أي مرحلة من مراحل حياتها، أن تجري أي أمر وفق مشيئتها، حتى لو كان ذلك الأمر من الأمور الداخلية لمنزلها، ففي مراحل طفولتها تتبع والدها، وفي مرحلة شبابها تكون تابعة لزوجها، فإذا مات زوجها تنتقل الولاية عليها إلى أبنائه.

فإذا لم يكن له أبناء تنتقل الولاية عليها إلى عشيرته الأقربين، فإن لم يكن له أقرباء انتقلت الولاية عليها إلى عمومتها، فإن لم يكن لها رجال عمومًا انتقلت الولاية عليها إلى الحاكم، وليس للمرأة في أية مرحلة من مراحل حياتها حق في الحرية ولا في الاستقلال ولا في التصرف، وفق ما تشاء. وضع نظام للحياة الفردية والنشاط الواجب الاتباع، حيث يقسم هذا النظام عمر الرجل إلى أربعة مراحل متساوية، مدة كل منها خمس وعشرون عامًا. ففي المرحلة الأولى يشهد الفرد بناء صحته وقوته وعقله وروحه، وفي المرحلة الثانية يتزوج ويرعى أسرته، وفي المرحلة الثالثة يهتم بخدمة المجتمع بقدر استطاعته، ولا يجعل نشاطه كله لأسرته، وفي المرحلة الرابعة يهتم بترقية روحه والصعود بها إلى عالمها الأسمى؛ ليتحقق له الانطلاق، ثم وضع نظام للزواج الذي يتم عن طريق الاستيلاء على المرأة بالقوة، وبخاصة في طبقة الكشتيرية. وتبيح الهندوسية نكاح الاستبضاع الذي حرمه الإسلام، كما تبيح أن يشترك في المرأة الواحدة عدد من الأزواج إذا كانوا إخوة، كما تبيح تعدد الزوجات للزوج الواحد، والهندوسية تحرم الزواج على القديسين من رجال الدين. وتضع الهندوسية نظامًا للميراث، حيث يرث الابن أباه ولا ترث البنت، ويحددون حق الملكية الفردية في العقار والمنقول، وتضع الشريعة الهندوسية نظامًا للمسئولية، ويؤخذ بفكرة المسئولية الجماعية في القتل والسرقة والنكاح وغير ذلك، وتحدد مسئولية الملك والحاكم.

وأخيرًا الأخلاق الهندوسية: تدعو الهندوسية إلى عديد من الفضائل الأخلاقية الراقية، وتعتمد وصايا عشرًا كأساس للأخلاق عندها وهي: 1 - مرعاة الكائن الإلهي. 2 - مقابلة الإساءة بالإحسان. 3 - القناعة واحترام ملك الآخرين. 4 - الاستقامة. 5 - الطهارة الشاملة. 6 - كبح جماح النفس والحواس. 7 - دراسة الفيدا والتعقل. 8 - الصبر والمثابرة. 9 - الصدق وحب الحقيقة. 10 - اجتناب الغضب. كما يحددون الرذائل التي يجب أن يبتعد عنها الهندوسي بشكل مفصل، وربطت الهندوسية الأخلاق بالجزاء، حيث يلقى صاحب الفضائل ثوابًا روحيًّا، ويلقى صاحب الرذائل عقابًا أليمًا، والهنود يأخذون من أخلاقهم قاعدة ذهبية تقول: لا تصنع بغيرك ما لا تحب أن يصنعه غيرك بك، وأحب لغيرك ما تحبه لنفسك أشد الحب، وهم يرون في هذه القاعدة مبدأ سلام وأمان للجميع. بذا نكون قد وقفنا على أهم دين من أديان الهند، ألا وهو الهندوسية أو البرهمية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 تابع أديان الهند الكبرى.

الدرس: 15 تابع أديان الهند الكبرى.

الديانة البوذية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (تابع أديان الهند الكبرى) الديانة البوذية الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: من أديان الهند الكبرى: الديانة البوذية والجينية أولًا: البوذية: ظهرت البوذية في الهند كرد فعل للهندوسي، ذلك أن نظام الطبقات أعطى لطبقة البراهمة العديدَ من الامتيازات، وجعل الطبقاتِ الأخرى في خدمة البراهمة وتَحْت إمرتهم، مما أدى إلى استبداد البراهمة وظلمهم وطغيانهم، فضج الهنود من هذا الواقع السيئ، وتمنى ظهور قائد يخلصهم مما هم في من عَنَت وعسف، ويبعد عنهم سيطرةَ طبقة البراهمة، وكان لهم ما تمنوا حيث ظهر فيهم زعيمٌ روحي هو بوذا، أعلن لهم قواعد دينية جديدة تعتبر في حقيقتها تطورًا في الهندوسية وتعليمها، يقصد به إنقاذ الهنود من ظلم البراهيمة، وإبعادهم عن أي جو ديني يضعهم في ثَنايا الخضوع والذل والهوان مرةً أخرى. وحتى تبقى البوذية -وهي الدين الذي نادى به بوذا- راسخًا ثابتًا وضع بوذا والكهنةُ من أتباعه مجموعة من التعاليم؛ لتكون مصادر لدينهم تقدم لجيلهم وللأجيال من بعدهم الدين البوذي بما فيه من إصلاح وتجديد. بوذا مؤسس ديانة البوذية: وُلِدَ بوذا من أسرة كشتيرية غنية سنة خمسمائة وثلاث وستين قبل الميلاد في إحدى قُرى مقاطعةٍ تقع في الناحية الشرقية من الهند، وسماه أبواه سيذهاتا، وماتت أمه بعد مولده مباشرة، ونظرًا لثراء الوالد شب الطفل في النعيم وتزوج

ابنة أحد الأمراء، وبرغم النعيم والجاه الذي وجده سيذهاتا، نجده أخذ يفكر في آلام الناس ومتاعبهم لا في طبقته فقط، بل في سائر الطبقات، وأخذ يعيش مع المرضى والعجزة والمعذبين والمضطهدين، حتى وقر في نفسه ضرورة معرفة الكون، والوقوف على أسرار الحياة، ولم يجد مفرًّا من فكرة الملاذ وترك المتع والشهوات، ووضع منهجًا لنفسه طبقه بحزم وصلابة، حيث ترك زوجته وولده وامتطى فرسه وانطلق بعيدًا عن الأهل والمال والقصور؛ ليعيش مرحلةً جديدةً، ولم يقف به الجواد إلا بعيدًا عن أراضي عشيرته، وهناك خلع الحلي والزخارف، ووضعهما على فرسه ووجهه نحو أهله ليعود إليهم بما حمل. وواصل سيذهاتا سيره على قدمه حتى التقَى براهبين من البراهمة، فبقي معهما وتتلمذ على يديهما، وعزم على أن يقضي معهما بقية عمره؛ ليتحقق له ما يريده. لكنه بعد مرحلة من مشاركتهما في التقشف والزهد، لاحظ أن الزهد عندهما هو الغاية، بينما يتصوره هو وسيلة لمعرفة أسرار الكون، والوقوف على حقائقه، فقرر تركهما وسعَى بنفسه نحو الغاية التي ينشدها. تأثر سيذهاتا بالتعاليم الهندوسية، وتأثر بميولها نحو العزلة والزهد، والانقطاع والتقشف، وبدأ وحدَهُ يعيش في دنيا الرهبنة، ولذلك سمي بـ"غتاما" أي: الراهب. لجأ سيذهاتا -أو غوتاما- إلى العزلة والتقشف وأهمل الطعام والشراب، وقام بألوان من الرياضيات، وجهد النفس وقتل الشهوات كما يفعل كهنة البراهمة، إلا أنه بعد مدة رأى أن هذا المنهجَ لا يؤدي به إلى الغاية التي ينشدها، فهجره إلى الاكتفاء بالتفكير والتأمل فقط. وذات يومٍ كان "غوتاما" يمشي وإذا به يرى شجرة

وارفة الظلال فيجلس تحتها، ويشعر برغبة في المكث تحت الشجرة بعض الوقت، فيرى ما كان يتمنى. يقول: سمعت صوتًا من داخلي يقول بكل جلاءٍ وقوةٍ: نعم، في الكون حق أيها الناسك، هنالك حق لا ريب، جاهِد نفسك اليوم حتى تناله، فجلست تحت تلك الشجرة في الليلة، وقلت لعقلي وجسدي: اسمعَا، لا تبرحَا هذا المكان حتى أجد ذلك الحق؛ لينشف الجلد، ولتنقطع العروق، ولتنفصل العظام، وليقف الدم عن الجريان، لن أقوم من مكاني حتى أعرف الحق الذي أنشده، فينجيني. واستمر في الجلسة حتى تمت له الإشراقة التي كان يترقبها، ومن وقتها وهو يعرف باسم بوذا، أي: العارف المستيقظ والعالم المتنور. فبوذا هذا لقبه ومعناه العارف المستيقظ، وغوتاما اللقب الذي سبقه ومعناه الراهب، وسيذهاتا اسمه الذي سُمي به من قبل والديه. وحين جلس تحت هذه الشجرة المشار إليها سميت الشجرة التي كان يجلس بوذا تحتها شجرة العلم، أو شجرة مقدسة، وتحتل عند البوذيين مكانةً مقدسةً، ويرون ضرورة زرع شجرة واحدة منها في كل قطر؛ ليحج إليها البوذيون. وقد توفي بوذا وأحرق وجمع رماده ووزع على ثمانية أماكن، حيث بنيت بنايات عظيمة في الأماكن الثمانية. مصادر البوذية: خلَّفت البوذيةُ نصوصًا كثيرةً جدًّا إلى حد القول باستحالة أن يقرأ كاهن بوذي واحد جميعَ هذه النصوص، ومع هذه الكثرة فإن من الممكن تقسيم النصوص البوذية إلى أربعة مجموعات رئيسة باعتبار اللغة التي كُتبت بها، أو باعتبار المكان الذي حافظ عليها.

وهذه المجموعات هي: 1 - مجموعة البالية: وتتضمن هذه المجموعة النصوصَ التي جمعها الإمبرطور أوسكا، وهي أكثر تناسقًا من غيرها، مع أنها كتبت بلغة البالية المغايرة للغة الهند القديمة السنسكريتية. ونصوص هذه المجموعة تتلى في صلوات، والمراد بالصلوات مجرد التجمع وقراءة كتب البوذية، فهذه هي صلاتهم وتلك عباداتهم، وتُوجه إلى جمع من الناس؛ لبعث روح البوذية وتعميق الإيمان بها. الثاني: مجموعة السلات الثلاث: وقد عثر عليها بسيلان وتتكون من ثلاثة أسفار: الأول: سفر النظام، حيث يوضح للبوذي المحذورات التي يجب أن يبتعد عنها. والثاني: سفر الخطب، حيث يشتمل على اثنين وخمسين خطابًا، وبعض المواعظ، وبعض التراتيل والأساطير الشعبية. الثالث: السفر الفلسفي، وهي المجموعة الطويلة المعقدة، الأمر الذي يشير إلى أنها نِتاج تطور علمي عقلي. والسفر معناه عندهم: الكتاب. الثالث: المجموعة السنسكريتية: وهي المجموعة التي عثر عليها باللغة السنسكريتية، وتتضمن كل النصوص الموجودة بهذه اللغة في عدد من البلدان البوذية، وهي نيبال والصين والتبت. الرابع: المجموعة المحلية: وهي النصوص التي كتبت بلهجات محلية على مختلف العصور قديمًا وحتى الآن؛ لأن البوذيين يعتقدون أن الكهنة يُلهمون بالأقوال التي تأتيهم من قبل بوذا، وكتابتها تعني ظهور سفر جديد.

والنصوص البوذية -بصورة عامة- ظلت مدة طويلة بغير تدوين، ويقدرها بعض الباحثين بأربعمائة سنة مما يجعلها محل الريبة، فإذا ما أُضيف إلى ذلك السماح للكهنة بتسجيل نصوص مقدسة بدعوى أنهم ألهموا بها، فإن الريبة تقوى، ولعل هذا هو السبب في كثرة النصوص بصورة كبيرة لدرجة أنها لا تعرف حدًّا تنتهي عنده. والنصوص البوذية مقدسة عند البوذيين؛ لأنهم يرونها موحًى بها على طريقته في الوحي الذي هو مجرد إلهام باطني. أركان البوذية: قامت البوذية كرد فعل على بعض تعاليم الهندوسية، ولذلك نجدها تحافظ على كثير من تعاليمها وإن أسمتها بمسميات جديدة، ولعلها لم تختلف معها جذريًّا إلا في نقطتين: أولاهما: الإيمان بالآلهة. وثانيهما: نظام الطبقات. وكان للبوذية موقف معين إزاءَ هاتين النقطتين، ولسوف نوضح نقاط الخلاف بنوع من التفصيل، ثم نجمل مسائلَ الاتفاق. أركان البوذية بصورة عامة، وذلك فيما يلي: أركان البوذية: 1 - عدم الاعتراف بالآلهة: أسس بوذا دعوتَه على المعرفة الروحية لا على شيء آخر، ولذلك نراه يغفل الحديثَ عن الإله، فلم يتناول قط جانبًا من الجوانب اللاهوتية، وكان ينهى

أتباعَه عن الخوض في هذه المسائل ويوبخهم إذا سألوه فيها، ويقول لهم: أيها المريدون، لا تفكروا كما يفكروا الناس، بل فكروا هكذا: هذا ألم، وهذا مصدر الألم، وهذا إعدام الألم، هذا سبيل إعدام الألم، وكان يتجه إلى إنكار الإله بصورة ضمنية حتى عده البراهمة ملحدًا، ويرون أن عدم تصريحه بالإلحاد نوع من التقية وطلب الأمان. ونظرًا لأن الإيمان بالله فطرة وضرورة، نجد بوذا نفسه يدعو أتباعه إلى إفناء النفس الصغرى؛ لتصل جزءًا من النفس الكبرى العظيمة التي وصفها بمجموعة من الصفات المثالية، مما جعل البعض يتصور أن الإله البوذي هو هذه النفس العظيمة؛ لأنها لو لم تكن كذلك فما هي في الحقيقة؟ وقد حاول أتباع بوذا أن يبحثوا لأنفسهم عن إله خاص بهم، ووصلوا إلى أن روح الله حلت في بوذا الإنسان، أو أنه كائن علوي هبط إلى هذا العالم؛ لينقذه من شروره وسوآته، ويبدو أن إنكار بوذا للإله كان مجرد انفعال ومعاداة للهندوسية؛ لأنه لم يذكر أسبابًا معينة ومعقولة لإغفاله ذكر الآلهة. لكن الناظر في فلسفة بوذا وتعاليمه يرى أنه يؤمن بالحساب الأخروي، ويؤمن بالجنة والنار، مما يؤكد أن بوذا في صمته عن ذكر أي شيء يتعلق بالآلهة، يضطر إلى الإيمان بما يعارض هذا الإنكار. ولم يستمر إغفال البوذيين للإله فترة طويلة بعد وفاة بوذا؛ إذ نجدهم يؤمنون مع الهندوس بآلهتهم ويتقربون إليهم، بل إنهم أخذوا يؤلهون بوذا نفسه، ولم يجدوا من تعاليم دينهم ما يحرم عليهم هذا التطور أو يجيزه لهم. ويرى بعض العلماء أن البوذية مجرد فلسفة: يقول أبو المكارم آزان: يبدو لي أن وضع بوذا في صفوف الفلاسفة أسهل من وضعه في صف الأنبياء؛ وذلك لأنه

لم يتعرض في مباحثه لوجود الله، بل حاول حل مسألة الحياة فقط، وانتهى منها دون التحرش بالله وبوجوده، إنه قد قطع كل علاقة له بالحياة الدينية في الهند التي كانت تدين بآلهة لا تعد ولا تحصى، إنه بدأ بحثه وفرغ منه دون أن يلجأ إلى الاعتقاد بالله، وأن الأساس الذي بنَى عليه بحثه أساس فلسفي، وكلامه حق إلى حد كبير، لولا ما في البوذية من جانب روحي، الأمر الذي دفع أتباعَه إلى الإيمان بالآلهة بصورة حماسية يقينية، لولا ذلك لكان القول بأن البوذية مجرد فلسفة مؤكدة. الركن الثاني في البوذية: إلغاء الطبقات: لم يعترف بوذا بالتقسيم الطبقي ونادَى بضرورة إلغائه؛ لقيامه على أساس غير أخلاقي، وملخص رأيه في هذا النظام: أنه من تأليف البراهمة؛ ليستعبدوا به الناس من غير سند ديني وكل نص أو اعتقاد يؤيد هذا النظام هو من نسج الخيال، ولتشدد بوذا في هذا جعل الشرط الرئيسي لمن يدخل في البوذية ألا يسلم بالطبقات، وكان يقول: اعلموا أنه كما تفقد الأنهار الكبيرة أسماءها عندما تُصب في البحر، كذلك تبطل الطبقات الأربعة عندما يدخل الشخص في البوذية ويقبل شريعتَها، إن ما تدعو إليه البوذية هو الرهبنة، وفي الرهبنة يتساوَى سائر البشر. ومن المبادئ التي تؤيد وتدعم إلغاء الطبقات في البوذية عدمُ تخصيص جماعة خاصة للرهبنة والوعظ، وجعل ذلك واجبًا على البوذيين جميعًا، وكل من يلتحق بالبوذية عليه أن يرغب عن متاع الدنيا، ويتخلق بالأخلاق التي حددها بوذا ويدعو إليها.

ومن هذه المبادئ: تقدير الكائن الحي إنسانًا كان أو حيوانًا فليس فيهم منبوذ، وكل الحياة جميل كريم. ومن هذه المبادئ: إلزام جميع البوذيين بالعمل الذي شرعه بوذا بصورة متساوية. ومن هذه المبادئ: دعوة جميع البوذيين إلى التنازل عن ثرواتهم؛ ليكونوا طاهرين بقدر الإمكان؛ لأن الثروةَ تؤدي إلى الظلم والطغيان، وتحول صاحبَها إلى خادم لها؛ وحينئذٍ فالتنازل عنها هو العمل السليم، أما إذا لم يستعبد المال صاحبه وهذا لا يحدث إلا نادرًا، فإن بوذا لا يمنع التملك. ويوضح هذا المنهج عند بوذا إجابته عن سؤال وُجِّه إليه جاء فيه: هل أنت تدعو إلى البطالة وهجر العمل؟ فأجاب: إني أدعو إلى هجر ما لا يجوز فعله للجسد واللسان والفكر، وكذلك أدعو إلى ترك كل عمل قبيح يجر إلى الشرور، ولكن بجانب هذا أدعو إلى القيام بكل ما هو حسن، وكذلك أدعو إلى الإقبال على كل عمل يؤدي إلى الخير والسعادة. وفكرة إلغاء الطبقات فكرة مقبولة وحسنة؛ لأن الأديان السماوية تقوم على الأخوة والمساواة والمحبة والعدل، لكن نلحظ أن بوذا يخطئ في محاولته نشر هذه الفكرة الجميلة، إنه يسلم بوجود الطبقات في غير البوذيين، وهذا لا يجوز؛ لأن كرامة الإنسان مطلقًا تتعلق بحقيقة وجوده وهو هو بجوهره أيًّا كانت عقيدته. وأيضًا فإن بوذا يقصد تكريمَ الإنسان البوذي من الرجال منهم دون النساء، ويرى أن المرأة خطر على المجتمع، ولا يصح قبولها في طائفة البوذيين. سأله مرة أحد أتباعه: كيف نعامل النساءَ أيها السيد؟ فأجابه: لا تنظر إليهن، ولا تخاطبهن، وكن منهن على حذر.

وهذا الموقف من بوذا يشير إلى جعله المرأة طبقةً منبوذةً، مع أنها إنسان تتساوى مع الرجل في التكريم والحقوق. وهناك خطأ آخر وقع فيه بوذا حينما جعل البوذيين طبقةً تتميز عن غيرها من الطبقات، بينما كان الواجب -تبعًا لفلسفته- أن يكون البوذيون مع الناس سواسية إن لم يكونوا الطبقة الخادمة الملتزمة بتحقيق الخير للجميع. وعلى الجملة: فإن السبب في هذه الأخطاء يرجع إلى أن بوذا في دعوته كان يتجه إلى السلبيات الموجودة في الهندوسية فقط، الأمر الذي أوقعه في سلبيات أخرى. ثالث العقائد ما يسمى بالنرفانا: تعتمد هذه العقيدة على فكرة تناسخ الأرواح التي توجد من خلال تكرار المورد، وهي نفسها عقيدةُ الانطلاق الهندوسية، والفرق بينهما ينحصر في أن الهندوسية ترى أن الروح إذا ترك صاحبها وتغلب على شهواته ورغباته، تسمو روحه وتندمج وتفنَى في الله برهمة، بينما البوذية -لأنها تنكر الإيمانَ بالله- ترى أن الروح التي ترقّى صاحبها تصل إلى درجة الصفاء الروحي، والتخلص من جميع الأغراض الشخصية، وبذلك تنقذ الإنسان روحه من تكرار المورد، ويتوقف عن عمل الشر تمامًا. ومعنى هذا الفرق: أن النرفانا تحدث والإنسان حي. كان هذا عن أركان البوذية من بعد مصادرها. فماذا عن الأخلاق في البوذية؟ تقوم البوذيةُ على الزهد والتقشف، وعلى ضرورة أن يصل معتقدوها إلى النرفانا، يتخلصوا من الآلام، ويبتعدوا عن كل عمل سيئ.

ولمساعدة البوذي على هذا وضع بوذا ما عُرف بالشريعة، وهو مجموعة قواعد أخلاقية تُعرف بالشعب الثماني للبوذية، وهي: 1 - الرؤية السليمة: وتكون بالهدوء الدائم، وعدم الاستسلام للفرح أو الحزن. 2 - القرار السليم: ويتأتى بهدوء المرء دائمًا، ولا يفعل أذًى بأي مخلوق. 3 - الكلام السليم: ويكون بالابتعاد عن الكذب والنميمة، وعدم التلفظ بألفاظ النابية. 4 - العمل السليم: ويتأتى بالبُعد عن العمل السيئ، مثل: التزييف، وأخذ السلع المسروقة، واغتصاب المرء ما ليس له. 5 - السلوك السليم: بالابتعاد عن السرقة والقتل، وفِعْل ما يأسف المرء على فعله، أو يخجل منه. 6 - الجهد السليم: بأن يسعى المرء دائمًا إلى كل ما هو خير، والابتعاد عما هو شر. 7 - العبرة السليمة: وذلك باستخلاص الخير، وفَهم الصواب، والابتعاد عما هو شر. 8 - التركيز السليم: وهو لا يتأتى إلا باتباع القواعد السابقة، وبلوغ الإنسان مرحلةَ السلام الكامل. إن هذه الشعب الثماني كفيلة بتخليص الإنسان من الآلام، وإبعاده عن أسبابها، كما تحدد الشريعةُ العوائقَ التي تقف في طريق الخلاص والفوز، وهي: 1 - الوهم الخادع في وجود النفس.

الديانة الجينية.

2 - الشك في بوذا وتعاليمه. 3 - الاعتقاد في تأثير الطقوس والتقاليد الدينية. 4 - الشهوة والكراهية، والغرور، والرغبة في البقاء والخلود. 5 - الكبرياء، والاعتداد، والجهل. وما دامت العوائق قد حددت بهذه الصورة، فإننا نرى البوذيةَ تطالب بالتخلص التدريجي منها، وفي مجال الأخلاق البوذية نجد عديدًا من الوصايا التي نادَى بها بوذا؛ نظرًا لأن البوذية تنكر الآلهة نجدها لا تضع عباداتٍ حيث لا حاجةَ إليها، ولم تحدد نظمًا اجتماعيةً، وتركت ذلك لأُولي الأمر، والنظام الذي وضحته فقط هو إعداد الدعاة لنشر البوذية، وهو نظام يقوم على ضرورة اختيار رجال متميزين بالفطنة والذكاء والإخلاص لتعاليم بوذا. تلك هي أهم تعاليم البوذية، وهي -كما رأينا- عبارة عن تطور مضاد لبعض تعاليم الهندوسية، وتأكيد للبعض الآخر. كانت هذه فكرة ملخصة عن الديانة البوذية، ثاني الديانات الكبرى في الهند. الديانة الجينية ثالث الديانات الكبرى في الهند ألا وهي: الجينية: ظهرت الجينية في الهند كديانة مطورة من الهندوسية أيضًا، وتعتبر في الحقيقة رد فعل لبعض تعاليم الهندوسية، وبخاصة في عقيدة التأليه ونظام الطبقات، ولذلك كانت شبيهة بالبوذية إلى حد بعيد.

ومؤسس الجينية هو مهاويرا. ترجمته: وُلِدَ مهاويرا من طبقة الكشترية من أسرة تقيم في إحدى قرى ولاية بِهار، وكان لوالده دورٌ هام في شئون الحرب وحُكم الإقليم، وكانت أمه بنتَ مدير الولاية، ولم يولد لهذه الأسرة سوى مهاويرا وابن آخر يكبره، ولذلك ولي الابن الأكبر ولاية الإقليم بعد وفاة أبيه. وقد سمي الابن الثاني مهاويرا أي: البطل العظيم، كما لقب بـ"جينا" أي: القاهر الغالب. ونشأ بين الرخاء وطيب العيش، يقبل عليه الناس والعديد من الكهان والرهبان مع أهله، وسرعان ما تأثر بالمواعظ والنصائح والحكم، فمال إلى طريق الرهبنة والتبتل والزهد، وفي محاولة من والديه لإبعاده عن هذا الطريق، زوجوه صغيرًا، لكن هذا الميل كان جارفًا، ولذلك صارح أخاه برغبته بعد وفاة والديه فاستجاب له. وبعد عام من توليه جَمَعَ الأهل والأقاربَ حيث أعلن مهاويرا رغبتَه في الزهد والتبتل، وهجر المُلك ومتاع الدنيا، وسنه ائذاك ثلاثون سنة. وبعد ذلك اتخذ مهاويرا لنفسه مسلكًا قاسيًا، نتف شعر جسمه، وصار حافيًا، وأكثر من الانقطاع وعدم الطعام، والتجول في البلاد، والتأمل والتفكير. وقد دارت حول مهاويرا الأساطير العديدة التي تعد جزءًا من فكر أتباعه وعقيدته، ومنها: اعتبار اسم مهاويرا من اختيار الآلهة، وتصورهم أن مهاويرا ولد مزودًا بثلاث من درجات العلم والمعرفة والتي تبلغ جملتها خمس درجات، وتصورهم أن مهاويرا كان يلهم الأسئلة التي تدور بخلد مستمعيه فيجيب عليها،

وتصورهم أن مهاويرا جاء تابعًا لسلسلة طويلة من الرهبان الذين دعوا إلى الجينية، وهو الرابع والعشرون. واعتبرنا هذه المسائل الأربع من الأساطير الوهمية؛ لأن مهاويرا نفسه ينكر الآلهةَ، فكيف يُقال: إنه مِن اختياره؟! كما أن من يولد مزودًا بأكثر من نصف العلم والمعرفة يمكن أن يصل إلى كله بمجرد النضج والتفكير العقلي بلا مشقة وتعب، وأيضًا فإن أي عاقل يعايش جماعةً من الناس يستطيع إدراك ما يجول بخواطرهم، ولو أن مهاويرا كان تابعًا لغيره لنُسبت الجينية لمن سبقه، ولَمَا عدت رد فعل للهندوسية. يقول الجينيون: إن مهاويرا وصل بعد سنتين من صراع النفس وقَهْر شهواته إلى نهاية الطريق، وحصل على درجات العلم الخمس، فلقب بالمرشد، وأخذ يدعو الناس إلى أن جاء أجله، فقضى نحبه سنة خمسمائة وسبع وعشرين قبل الميلاد تقريبًا. والشاهد أن مهاويرا الذي نشأ هذه النشأة المعينة، ووصل إلى مرحلة الذهول وعدم الإحساس بما حوله، وبَعد مدة أخذ يدعو لعقيدته في عشيرته ومدينته وفي الإقليم الذي يتبعه، مسجلًا دعوته في النصوص الكثيرة التي خاطب بها الناسَ من خلال خطبه ووصاياه، وإجابته على الأسئلة التي وُجهت إليه. مصادر الجينية، وتعاليمها فيما يلي: أولًا: المصادر الجينية: يرى الجينيون أن كل ما ذكره مهاويرا يعد مصدرًا لعقيدتهم على اعتبار أنه أُلهِمَ به، ويحصي أتباع مهاويرا له خمسًا وخمسين خطبة، وإجابة ستة وثلاثين

سؤال، وعددًا وفيرًا من الحكم والوصايا، وهو تراث قليل يسهل حفظه والمحافظة عليه بالمشافهة، ولذلك درج الجينيون طوال الثلاثة قرون على عدم كتابته، لكنهم بعد هذه المدة خافوا من ضياعه واختلاطه بغيره، فعقدوا مؤتمرًا لمدارسة الأمر، وجمعوا بعضَ نصوصهم في عدد من الأسفار، ولم يتفقوا على جميع ما وجدوا، ولذلك توقفوا عن كتابه قانون عام للجينية. ولكنهم في العام سبع وخمسين من الميلاد اجتمعوا مرةً ثانيةً لنفس الغرض، وعاودوا الاجتماع في القرن الخامس الميلادي، واتفقوا على كتابة التراث الجيني وتسجيله، ولم يكتفِ الجينيون بما ذكره مهاويرا وإنما ضموا إليه أقوالَ الكهنة والمرشدين الذين حصلوا على درجات العلم الخمس التي يتصورونها، وهي: الأولى: الإدراك بطريق الحس والذهن. الثانية: الإدراك بالفَهم من الوثائق المقدسة. الثالثة: الإدراك بالروح، حيث يعلم الشخص الأشياءَ غير المرئية بواسطة الروح. الرابعة: الإدراك بالوجدان، ويتعلق بما ليس له صورة في الواقع، أو في الذهن، وهذا الإدراك يتخطى الزمان والمكان والأشياء. الخامسة: الإدراك بما في الضمائر والأسرار، وهو أرقى درجات العلم. وعلى هذا، فالمصادر الجينية أقوال مهاويرا، وأقوال المرشدين الذين نالوا بواسطة الرياضة والزهد على جميع القناعة، وحصلوا على درجات العلم المذكورة. ثانيًا: أركان الجينية: تقدم المصادر الجينية تصورًا معينًا عن أركان الديانة الجينية، وهي في جملتها لا تختلف عن البوذية إلا في نواحٍ قليلة.

وسوف نوردها هنا في إجمال: 1 - الجينية والإله: يرى الجينيون -كما يرى البوذيون- أن ظلم البراهمة يرجع أساسًا إلى الإيمان بالآلهة، ولذلك ذهبوا إلى إنكار الآلهة تحت أي مسمى ممكن، ولا يختلف الجينيون عن البوذيين في هذا إلا في إعلان هذا الإنكار، فلم يلتزموا الصمت، ولكنهم -بسبب ميلهم الشديد إلى المسالمة وعدم العنف- ذهبوا إلى الاعتراف بآلهة الهندوس للهندوس فقط، وعلى مذهبهم في الآلهة لم يشرعوا عبادةً أو نسكًا حيث لا حاجةَ إلى ذلك، كما أنهم ليسوا في حاجة لإنكار النبوة، وقد أثر التسامح في الأجيال اللاحقة من الجينيين، حيث بدأ بعضهم يؤمنوا بإله الهندوس لنفسه، وأخذ البعض الآخر يأله مهاويرا ومَن سبقه. الركن الثاني: الجينية والطبقة: تنكر الجينية نظامَ الطبقات على أتباعها، إلا أنها تسلم به للهندوس؛ منعًا للتعارض معهم، وتختلف في هذا عن البوذية؛ لأن البوذية تنكر الطبقاتِ لأتباعها ولغيرهم، كما أن البوذية لا تسمح بظهور الطبقات بأي صورة من الصور، بينما الجينية تقسم أتباعها إلى عامة وإلى خاصة، وتحدد لكل طائفة واجبًا معينًا، صحيح أن واجبات الخاصة تقشف وآلام لكنها على كل حال نوع من التقسيم الطائفي. الركن الثالث: تناسخ الأرواح: يؤمن الجينيون -مثل الهندوس والبوذيين- بانتقال الروح من جسد إلى جسد على النحو الذي سبق ذكره في الديانة الهندوسية، وإذا ما ترقت الروح ووصلت

إلى نهاية درجات الطهر والعفة، فإنها تسبح في عالم غير مادي، إنه عالم مليء بالسعادة والسرور، إنه فوق عالم البشر لا نهاية له، ولذا لا يمكن تعقله ووصفه، وكل ما يمكن الإحاطة به أن الأرواح هي التي تعيش السعادة، وهي وحدها التي تفوز وتنجو في وسط جو نوراني مليء بالمعرفة والخير، ولا يمكن الوصول إلى النجاة إلا بعد سلسلة من التناسخ والرقي، يتكرر معها الموت والولادة مع اتباع منهج صحيح يتضمن الاعتقاد الصحيح في القادة الجينيين، والعلم الصحيح بالكون المادي والروحي، والخلق الصحيح المشتمل على الأقوال والأعمال أمهاتُ الفضائل، والقناعة والزهد، ومحاربة شهوات النفس، والتحلي بالطهارة الظاهرة والباطنة. إن مَن يتبع هذا المنهج يصل إلى النجاة، ومن العلوم أن النجاة والنرفانا والانطلاق كلها تقوم على فكرة واحدة ولا تختلف، إلا فيما تذهب إليه الهندوسية في أن الانطلاق يؤدي إلى الفناء في الإله برهمة، بينما النجاة والنرفانا لا يقولان بهذا حيث لا إلهَ في البوذية ولا الجينية. العناصر المشتركة في أديان الهند: إن مَن يقوم بدراسة هذه الأديان الثلاثة من أديان الهند: الهندوسية، البوذية، الجينية، يلاحظ أن هناك عناصر تلتقي عندها سائر أديان الهند، وهي بإجمال ما يلي: 1 - الإيمان بخلود الروح، واستمراريتها في أجساد متعددة، وذلك عن طريق التناسخ وتكرار المولد. 2 - الإيمان بأن الروح تبقَى متنقلةً حتى تستقر في السعادة والخير والمعرفة التامة، وهذا ما يعرف بالانطلاق أو النرفانا أو النجاة.

دور المذاهب في نشأة وتطور أديان الهند.

3 - الإيمان في أن سبيل الوصول للسعادة والخير ينحصر في الزهد والبعد عن شبح الشهوة وزخارفها، ولذلك وضعت جميع الأديان مناهجها للوصول للغاية على هذه الأسس. 4 - تدعو جميع أديان الهند إلى التسامح والعفو مما جعلها تتعايش في سلام. 5 - يؤمن الجميع بالإلهام، وبه ظهرت جميع النصوص الدينية، وما زالت تظهر حتى الآن. ومن الممكن اعتبار هذه العناصر مشتركة أساسًا تعتمده سائر الأديان التي ظهرت عند الهنود. دور المذاهب في نشأة وتطور أديان الهند المذاهب في تفسير نشأة وتطور أديان الهند: ذهب العلماء في تفسير نشأة أديان الهند وتطورها مذاهبَ متعددةً نجملها في اتجاهين رئيسيين: الاتجاه الأول: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن أديان الهند جميعًا نشأت بطريق التطور الطبيعي، ويرونها في بدايتها مجموعة من العادات والتقاليد القديمة التي حولها الهنود خلال القرن الثامن قبل الميلاد إلى دين منظم شامل لألوان من العبادة والطقوس المختلفة، ويذهب هؤلاء إلى أن البداية قامت على تعدد الآلهة في صورة بدائية، حيث كان يقولون بأن الليل إله والصبح إله، وكان يتقربون إليهما بشرب الخمر، وكان يؤلهون الشمسَ ويسمونها بأسماء متعددة، ويألهون العواصفَ ويرمزون لها بالعجل، وهكذا كثرت الآلهة في الهند بصورة واضحة

متنقلة من صور آلهة صغيرة وضعيفة إلى آلهة قوية وكبيرة، ثم حدث رقي أكثر فظهر ثالوث الآلهة العظيم القائم على برهمة، وفشنو، وسيفا، حيث تدور حولهم الأساطير العديدة، وأخيرًا كان التطور إلى الإيمان بإله خالق متصف بصفات راقية، كما جاء في أنشودة الخلق التي تضمنها الكتاب العاشر من "الرجفيدا". وعلى هذا تعتبر الديانة الهندوسية من صناعة الإنسان؛ حيث صارت على سنة التطور والترقي، كما تعتبر البوذية والجينية صورًا لهذا التطور وإن اتخذت اتجاهات مضادة في بعض التعاليم، وأصحاب هذا الاتجاه يرجعون جميع مصادر الأديان الهندية إلى تأليف الإنسان ووضعه، وما قداستها إلا بسبب إحاطتها بهالة من التعظيم والاحترام، وللكهنة دور رئيسي في إبراز هذا التقديس بواسطة الأساطير والمتخيلات التي يرونها عن الآلهة وآثارهم، وبواسطة هذا الاتجاه يتضح السبب في تناقض العقيدة عند الهندوس من أمثال الإيمان بالله، وإنكار النبوة، والقول بالإلهام المستمر للبراهمة الطبقة المقربة للإله برهمة، ومن أمثال الإيمان بالحساب على الأعمال بواسطة التناسخ، حيث يحمل الوزر ما لم يرتكبه. وأصحاب هذا الرأي عديدون، وهم لا يهتمون بتحليل الأديان الهندية أو مصادرها، حيث لا فائدةَ من هذا التحليل؛ لأن أي تعارض أو تضاد مُسلَّم عندهم حيث يقتضي التطور ذلك. الاتجاه الثاني: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن وجود التوحيد التام المنزه من كل ريب ونقص في الهندوسية، دليلٌ على أن الدعوة الإلهية قد جاءت مباشرةً أو وصلت إليهم بطريقة ما، ويستدلون على ذلك بعجز العقل عن الوصول وحده إلى التوحيد المطلق بكل تفصيلاته وكمالاته، كما يستدلون بأن القول

بالتطور والترقي يقضي بظهور التوحيد في المرحلة الأخيرة من التطور، بينما التوحيد وُجِدَ في الهند منذ البداية. يقول "ماكس مولر": أيًّا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المستورة في الريجفيدا، فقبل ذلك العصر كان قبل الهنود مؤمنون بالله الواحد الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى، ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية، وقد ارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلى أوج سام، سام في إدراكهم لحقيقة الربوبية، إنه إدراك أرفع وأعلى مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين، بل إن البوذية والجينية وهما تنكران الإله ولا يعترفان بالعديد من التعاليم الهندوسية، جاءت متأخرةً، مما يؤكد أن الدين في الهند كان يتردى في كثير من الحالات. ويقول أصحاب هذا الاتجاه: بأن عقيدة التوحيد عند الهنود دخلها تحريف البشر، ولهذا نرى الكتب الهندوسية تتضمن التوحيدَ مع التعدد، وتنكر النبوة، وتحيط الآلهة بالأساطير، وتقدس نظامَ الطبقات، وكل ذلك ألوان من التحريف، كما أن البوذية والجينية لا تزيد عن هذه الاتجاهات المحرفة، ومن الممكن تفسير تناقضات موجودة في أديان الهند على هذا، بأن البعض يرجع إلى الدين الحقيقي كالإيمان بالجنة والنار، والإيمان بقوة الروح، ويرجع البعض الآخر إلى التحريف والتأليف البشري. إن الرسالات السماوية برغم كتبها المقدسة وتعاليمها الرشيدة تظهر مع الأفكار المحرفة والاتجاهات الضالة، ولذلك لا تلبث الفرق العديدة إلا وتظهر مدعيةً تبعيتها للرسالة الإلهية، بل وتزعم أنها الوحيدة المتمسكة بالحق، إن هذا يؤكد الاتجاه الثاني، ويشير إلى أن دخول التحريف في أي دين ممكن.

هذا، وقد أشار بعض علماء مقارنة الأديان إلى وجود تشابه يكاد أن يتطابق بين نصوص دينية هندية وبين نصوص نصرانية موجودة في الأناجيل، الأمر الذي يضع الباحث أمام ضرورة أن أحدهما تأثر بالآخر ونقل عنه في إطار عدد من الاحتمالات العقلية والوقائع العلمية الثابتة. وإني هنا أكتفي بذكر مختارات من هذه النصوص المتطابقة نقلًا عن كتاب (الديانات القديمة) للشيخ محمد أبي زهرة. فالنصوص الهندية ومقابلها في النصوص النصرانية نجد الآتي: في النصوص الهندية: قد يجد الملائكة، ويحاكي والده، كرشنا ابن الله، وقالوا: يحق للكون أن يفاخر بابن هذه الطاهرة. في النصوص النصرانية: دخل الملك على مريم العذراء والدة يسوع المسيح، وقال لها: سلام لك أيها المنعم عليها، الرب معك. في النصوص الهندية: عرف الناس ولادةَ كرشنا من نَجمه الذي ظهر في السماء. وفي النصوص النصرانية: لما ولد يسوع المسيح ظهر نجمه في المشرق وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس محل ولادته. في النصوص الهندية: لما ولد كرشنا أضيء الغار بنور عظيم، وصار وجه أمه ديفاكي يرسل أشعة نور ومجد. في النصرانية: لما ولد يسوع المسيح أضيء الغار بنور عظيم، أعيا بلمعانه عيني القابلة وعيني خطيب أم يوسف النجار. وفي النصوص الهندية: وعرفت البقرة أن كرشنا إله وسجدت له. وفي النصرانية: وعرف الرعاعُ يسوعًا وسجدوا له.

في الهندية: وآمن الناس بكرشنا وتعرفوا بلاهوته، وقدموا له هدايا من صندل وطيب. وفي النصوص النصرانية: وآمن الناس بيسوع، وقالوا بلاهوته، وأعطوه هدايا من طيب ومُر. وفي الهندية: وسمع نبي الهنود نادر بمولد الطفل الإلهي كرشنا، فذهب وزَارَه في تُوكل، وفحص النجوم فتبين له من فحصها أنه مولود إلهي يُعبد. وفي النصوص النصرانية: ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك، إذ المجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود الجديد؟. وفي النصوص الهندية: كرشنا وبرهمة العظيم القدوس وظهوره بالناسوت، سر من أسرار العجيبة الإلهية. وفي النصوص النصرانية: يسوع هو يهوه العظيم القدوس، وظهوره في الناسوت سر أسراره العظيمة الإلهية. في النصوص الهندية: كرشنا هو المخلص، والفادي، والمعزي، والراعي الصالح، والوسيط، وابن الله، والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، وهو الأب والابن وروح القدس. وفي النصوص النصرانية: يسوع المسيح هو المخلص، والفادي، والمعزي، والراعي الصالح، والوسيط، وابن الله، والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، وهو الأب والابن وروح القدس. هي هي، فقط هنا كرشنا، وهنا يسوع المسيح.

أيضًا في نصوص الهندية: لما مات كوزا ودفن حَلت الأكفان، وفتح غطاء التابوت بقوة غير طبيعية. في نصوص نصرانية: لما مات يسوع ودفن، انحلت الأكفان، وفتح القبر بقوة إلهية. هذه أمثلة فقط أوردها الشيخ محمد أبو زهرة من أمثال هذه المقارنات في كتابه (الديانات القديمة) مما يدل على أن أحد الديانتين متأثر بالآخر. حق التعليق: - بالنظر في الاتجاهات المفسرة لظهور الأديان في الهند، وبمقارنتها بواقع هذه الأديان، نلحظ أن الاتجاه الثاني هو الأَولى بالقبول؛ لما يأتي: - ظهور التوحيد في الأديان الهندية بصورة منزهة لله تعالى، مع وصفه بكل كمال يليق به، وهذه الصورة في التوحيد لا يمكن للعاقل وحده أن يصل إليها. الثاني: عدم التسليم بالترقي والتطور في الدين الهندي؛ لأن البوذية والجينية جاءتَا متأخرتين، ومع ذلك أنكرَا الآلهة مطلقًا. الثالث: التسليم بالحقيقة الربانية التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، حيث أخبرنا بإرسال رسول لكل أمة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) الآية. والهند أمة عريقة في الحضارة والتاريخ والفكر، فلا بد إذًا من بَعْث رسول لها بدين الله الصحيح.

4 - بالنظر في الأديان المسندة تاريخيًّا إلى أشخاص معينين، نجد التناقض الواضح كإنكار الألوهية، والقول بالوحي والإلهام، مما لا يستقيم مع العقل الصحيح، وهذا يدفعنا إلى تصور أن القول بالوحي من تعاليم الدين الإلهي، وإنكار الآلهة من تحريف العقل ووضع الكهنة. وبهذا يترجح الرأي الثاني. ويلاحظ أن الكتب الدينية الهندية في جملتها من وضع الكهنة والرهبان والحكماء؛ لِمَا فيها من اضطراب وتناقض، إنها مليئة بالأساطير والخرافات، ولا يمكن تصور وجود دعوة لعبادة البقر والصنم والأشخاص في كتاب ديني صحيح، وأن رجال الأديان الهندية يعنون بالوحي من حيث معناه اللغوي، وحينئذٍ فلا غرابةَ إن اختلف المصدر الموحَى به في تصوير المسألة الواحدة، ومن المعلوم أن الزمن فعل فعله مع أديان الهند كلها، فظهرت الفرق المتعددة، وتداخلت الاتجاهات المتباينة، وانتشرت الفكرة أحيانًا؛ بسبب تعصب الحاكم لها، وحدث تغيير وتبديل في كثير من التعاليم الدينية. وعلى الجملة: فإن الهندوسية تُسيطر -الآن- على الهند كلها، وترى أن البوذية في صورتها القديمة حركةً هندوسيةً، أما البوذية الحديثة فلها انتشارها في سيلان والصين، وفيتنام ومنغوليا، وسيام وبورما، وكمبوديا واليابان، إلى جانب العديد من البلاد الأخرى؛ أما الجينية فلها أتباع قليلون لا يزيد عددهم عن المليون، موزعين في عدد من البلدان، ويتعرض أتباع الأديان الهندية في العصر الحديث لحركات تبشيرية عديدة، وكذا

لكي يتعرضون لدعاة الشيوعية. وهؤلاء وهؤلاء يصادفون نجاحًا بسبب الفراغ الموجود في الحياة الدينية عند هؤلاء الأتباع من الهنود. وأما النصوص المتشابهة التي جاءت في مصادر النصرانية وفي مصادر الهندوسية، فإننا نرى فيها عدم مساس بالاتجاه الثاني الذي رجحناه؛ لأن ظهور الأديان الهندية كان قبل الميلاد بمئات سنين، وكل ما تدل عليه هو انتقال النصوص الهندية إلى الفكر المسيحي الحديث، وبخاصة أن كل الأناجيل لا تُنسب لله ولا للمسيح، وإنما تنسب لأشخاص آخرين، كما أن الأناجيل تعددت مع أن كتاب الله إلى المسيح واحد، مما يؤكد لنا أن المسيحية أخذت عن أديان الهند، خاصةً الهندوسية، وخاصة فكرة التثليث، وألوهية المسيح -عليه السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 أديان الصين واليابان.

الدرس: 16 أديان الصين واليابان.

دين الصينيين: "الديانة الكنفشوسية".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (أديان الصين واليابان) دين الصينيين: "الديانة الكنفشوسية" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أهم أديان الصين وكذلك اليابان متمثلةً في الديانة الكنفشوسية. دين الصينيين: يعود تاريخ ظهور الأديان في الصين إلى عصور موغلة في القدم، برغم أن ما اكتشفه العلماءُ من مصادر يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، وهو القرن الذي ظهر فيه "كنفشيوس" ولذلك كان الحديث عن أديان الصين بصورة مفصلة من واقع هذه المصادر التي تُشير في بعض نصوصها إلى الحِكم والمعتقدات القديمة، ولولا الأساطير الشعبية الكثيرة التي تدور حول الشخصيات الصينية التي لها قداستها قبل القرن السادس قبل الميلاد بوقت طويل، وتتحدث عن معتقداتهم، لولا ذلك لنسي العالم الدين الصيني القديم، ولأغفله العلماء بصورة كاملة. إن أديان الصين خليط عجيب من العادات المحلية، والثقافات الأجنبية، والفلسفات التي وجدت مع دعاتها، وانتشرت في البلاد كلها. أولًا: ما هي المصادر الدينية لأديان الصين؟ تتعدد المصادر الدينية في الصين وتتخذ صورًا أدبيةً كثيرةً، فبعضها منظوم، وبعضها منثور، وبعضها في صورة حوار، وبعضها على هيئة مقالة أدبية. ومن الممكن حصرها في قسمين رئيسيين: القسم الأول: وهذا القسم يتضمن كتبًا خمسة حيث يحتوي كل كتاب على موضوع معين، ويسمى باسم أحد الملوك القدماء، ويقول المؤرخون: إن هذه

الكتب قديمة وليست من وضع "كنفشيوس" إلا أنها تنسب لـ"كنفشيوس" باعتبار أنه نقَّحها وشرحها، وأضاف إليها بعض الحواشي لدرجة أن القيمة الحقيقية لهذه الكتب توجد في الحواشي: والكتاب الأول: يسمى كتاب "الملك ب" يتناول موضوعاتٍ أخلاقية، وسياسية، وروحية، وجل استخداماته يكون في الأغراض الدينية من أمثال تحديد الصفات، الرجل المثالي الذي يكون في انسجام مع السماء والأرض، والفصول الأربعة، ومن أمثال الحديث عن كيفية الخلق بواسطة الآلهة. والكتاب الثاني: يعرف بكتاب "الملك شو" ويتضمن مجموعة من الوثائق القديمة، ولذلك اشتهر بأنه كتاب التسجيلات، ويتناول الكتابُ الإشارةَ إلى نظام حكومة فاضلة يهيمن عليها مبعوث إلهي كريم، كما يتناول العديدَ من الوصايا التي وجهها هذا المبعوث إلى ولاته وأفراد شعبه. والكتاب الثالث: يُعرف بكتاب "الملك شي" ويتضمن الأناشيدَ والتراتيلَ والأغانيَ التي يصيح الصينيون بها عند تقديم القربان العظيم لمذبح السماء وفق نظام معين. والكتاب الرابع: يعرف بكتاب "الملك لي" ويتضمن مجموعةً من التعاليم المحددة للواجبات الدينية في داخل أسرة، والمبينة لضرورة تقديم القرابين، وضرورة الاهتمام بالمراسم الدينية في الأعياد الواردة في الكتب المقدسة. والكتاب الخامس: يعرف بكتاب "الملك تش" ويسمى بكتاب الربيع والخريف، ويقال: إن هذا الكتاب كله من وضع "كنفشيوس" ويرجح هذا أنه كتب بأسلوب قصصي خالي من الحواشي، وهذا ما اشتهر به "كنفشيوس" إذ كان يقول القصص متضمن الأحكام الدينية والأخلاقية التي تظهر من وراء النص على منهج الكتابة الرمزية.

وبهذا، فإن إسناد الكتب الخمسة للكنفشيوس ليس إسنادًا حقيقيًّا إلا في الكتاب الخامس فقط، كما أن اعتبار هذه الكتب مقدسة مجاراة للمفهوم الصيني عنها، حيث وردت تصريحات كثيرة تنسب بعضها للفلاسفة وتنسب بعضها الآخر للحكماء، وهكذا مما يجعل قداستها محل نظر وتأمل. القسم الثاني: المختارات: ويشتمل هذا القسم على كتب أربعة من وضع "كنفشيوس" وزملائه، وأهميتها ترجعُ إلى تضمنها للنظريات الأساسية لمذهب "كنفشيوس" وفلسفته. ولذلك نجد الكتب تسمى باسم النظريات التي تحويها، وهي: "المنتخبات الأدبية الدينية"، "العلم العظيم"، "القصد والتدبير"، "المجتمع العظيم". وسوف تتضح هذه المفاهيم حين نتناول التعاليم الدينية الصينية بصورة مفصلة واضحة. ويلاحظ هنا أن الأديان في الصين ليس من وضع "كنفشيوس" فقط، ولكنه برز من بين جميع الحكماء والعلماء باعتبار ما أسداه لأمته من فضل، وباعتباره أنه الذي حول الأساطير والخيالات إلى واقع عملي التزم به الصينيون، وساروا به طوال عصور متتالية. مَن هو كنفشيوس؟ وُلِدَ كنفشيوس في سنة 551 قبل الميلاد في مقاطعة "لَو" من أعمال ولاية "شانتنج" وكان أبوه ضابطًا حربيًّا من سلالة عريقة، وبعد إنجابه لولده بثلاث سنوات مات وتركه وحيدًا فقيرًا، وبعد أن شب الطفل انصرف إلى البحث والدرس وخصوصًا في الآداب القديمة. ولما بلغ أشده اشتغل بوظيفة التدريس، وتعلم منها

الصبرَ وحبَّ الخير، ومداومة النصيحة، الأمر الذي جعل شهرته تنتشر بين الناس، ثم عمل في الحكومة مدة رجع بعدها إلى التدريس مرة ثانية؛ حيث أقبل عليه بعض الشباب، فبشرهم بفلسفته الاجتماعية والسياسية، وقد أعجب تلاميذه به إعجابًا شديدًا، واعتبروه أحدَ الأبطال العظام. وقد سمع الملك "شو" به فدعاه إلى مجلسه فلبى دعوته، وانتقل إلى عاصمة الإقليم حيث التقى بالعديد من العلماء والمصلحين، وبعد مدة تقلد منصب رئيس القضاة، ثم انتقل منها إلى رئاسة الوزراء، فكانت فرصة يطبق فيها أفكاره النظرية وقد نجح في ذلك، حيث اختفت الجرائم والسرقات، وانتشر الأمن والاطمئنان، وانمحت صور الاستغلال والظلم في كل مكان. وتبعًا لسنة الحياة أوقع حاسدوه بينه وبين الملك، وراحوا يتزلفون للحاكم بكافة الصور الخسيسة، حتى حولوا إعجابه بالرجل إلى كراهية وعدم التقدير، الأمر الذي جعل "كنفشيوس" يتنازل عن الرئاسة على الفور؛ لأنه لم يسع إليها قط، وتفرغ بعد ذلك مرة ثانية للتدريس، وكتابة الكتب، وشرح النصوص القديمة. ويكفي "كنفشيوس" أنه يُنسب دائمًا لكل حكمة صينية راقية، ولكل نصيحة جميلة، ولم يستطع أعداؤه في القديم والحديث النيلَ منه، والحط من قدره، وقد توفي "كنفشيوس" سنة أربعمائة وثمان وسبعين قبل الميلاد، ولم يتزوج ولم ينجب ولدًا. أركان الدين الصيني: فقد بينت المصادرُ عقائدَ الصينيين المتعددة الجوانب، والتي من أهمها:

1 - الإيمان بالآلهة: يرجع إيمان الصينيين بالآلهة إلى عصور سحيقة، فَهُم يؤمنون بإله يسمى "شنعتاي" وهو إله ثامن يعلو العديدَ من الآلهة، وهو في تصورهم إمبرطور قديم قدم لهم خدمات جليلة، والآلهة الصغرى عديدة؛ كالشمس والقمر والنجوم والغيوم والرعد، كما يتخذون من أسلافهم آلهةً، وتمتلئ دور العبادة باللوحات المعبرة عن هذا التعدد، حيث تُرسم لوحة تمثل إله "شنغتاي" وفي مقام منخفض عنها توضع لوحات أخرى تمثل بقية الآلهة التي يرمز إليها بصورة متعددة. وهم يكتفون في تأليه الأسلاف بكتابة أسماء الأشخاص على لوحات يحفظونها في دار الأسرة مدى حياة جيلًا أو جيلين، وبعد ذلك تنتقل إلى هيكل أسلاف الأسرة. وكان الصينيون يعتبرون الإله "شنغتاي" عظيمًا يتجهون إليه بالذكر والقرابين، ومن أناشيدهم جاء قولهم: "إليك أيها الصانع العظيم، يتجه فكري وأنا أعبدك، لست إلا قصبة مردودة، ونبتة هزيلة، قلبي قلب نملة حقيرة، ومع ذلك فقد نِلت لديك شرفًا وحظوةً، هب لي أن أراعي وقارَ الشرائع والأحكام، باذلًا جهدي لأن أقوم بواجبي، بولاء وإخلاص؛ لترضَى بأن تقبل تقدماتنا، وترمقنا بعينيك حين نعبدك، يا ذا الصلاح غير المتناهي". وقد يعرف هذا الإله العظيم باسم "تيان" أي: السماء، وهو اللقب الذي يستعمله "كنفشيوس" غالبًا، ومن حواشيه على كتاب "الملك ب" جاء الرجل العظيم هو ذلك الذي يكون في انسجام بصفاته مع السماء والأرض، وبتلألؤه مع الشمس والقمر، وبخطواته المنسقة مع الفصول الأربعة، وبصلته مع ما هو مستحب، ومع ما هو مشئوم، منسجمًا مع شبيه الروح الفعالة للإله، يسبق السماء فلا تعمل السماء ضده، يتبع السماء ولا يكون عمله إلا ما تحمل في ذلك

الوقت، وإذا لم تعمل السماء ضده فما أصغر الناس إيذاءَه، وما أصغرَ عملًا شبيهًا بالروح. وبالنظر في هذه النصوص نلمح أن السماء المذكورة لا يقصد بها تلك القبة الزرقاء، بل يقصدون بها سائرَ الأفلاك ومداراتها، والقوة المسيطرة التي تسيطر عليها، وتسيرها في مداراتها، وباتصالها بالأرض وبالأمطار والرياح، تنبت الأرض من كل زوج بهيج، وكانت عبادة الصينيين للسماء؛ لأنهم يعتقدون أنها عالم حي منظم دقيق محكم، وأن كل ما في العالم من قوى مسيرة، إنما هو خاضع لسلطان السماء، وكما سمي الإله بأسماء الطبيعة فإن بعض الكهنة والأمراء سموا بأسماء تنسبهم إلى الإله الطبيعيين: ابن السماء، الأمر الذي جعل الصينيين يتجهون لتعظيم الأسلاف واتخاذهم آلهة، لدرجة أن الكثير منهم يعتقد في أن "كنفشيوس" ند للسماء يُعبد وتُقدم له القرابين. ونظرًا لقرب الصين من الهند نجد بعض الفلاسفة الصينيين يحاول وضع مذهب صيني متأثرًا بأهم تعاليم البوذية، وبخاصة إنكارها للإله، وقولها بالتناسخ، إلا أن هذه المحاولة لم يكتب لها الانتشار وقد قام بها الفيلسوف الصيني "شوهس". ومن العجيب في العقيدة الصينية أنها تربط بين الآلهة المتعددة برباط واحد مشترك، فالأعمال مقدرة عند السماء، والإمبراطور الكاهن ابنان للسماء يعبدان من الناس، وعليهما أن يعبدَا السماء، والعقوبة للمسيء تأتي من قبل البشر بتسليط السماء لهم بصورة مستترة. جاء في أساطير الصين: أن ملِكًا استولى على العرش بعد أن انتصر على الملك الذي قبله وقتله، ثم قال: أعطى الإله لكل إنسان ضميرًا إذا اتبعه يحفظه، ويقوده إلى الطريق السوي، والإله دائمًا يبارك الطيب، ويعاقب الرديء، وكذلك أنزل المصائب على بيت الملك السابق حتى يضع حدًّا لآلامه ومساوئه.

وعلى الجملة: فإن الباحث في العقيدة الصينية بالنسبة للآلهة يجد خلطًا وتداخلًا بين توحيدهم للإله وبين تعديدهم له، مما حدَا ببعض العلماء أن يتصور ذلك نتيجة تأثرهم بعقائد الدول المجاورة، الأمر الذي جعلهم يفرزون عقيدةً خاصةً بهم، جامعة للقضايا المتناقضة في المسألة الواحدة. والذي يهمنا هو مجرد الإحاطة بعقيدة الصينيين في الآلهة، ومعرفة مدى تصورهم في هذا المجال، إنهم كان يعتقدون في الآلهة -في آلهة متعددة- وينظرون إلى إله واحد منها على أنه أعظمها جميعًا، يمنحهم البركة، ويجتهد الصيني في إرضائه، فبرضاء هذا الإله العظيم الذي هو في السماء أو الذي هو السماء ترضى جميع الآلهة؛ لأنه تستمد حاجتها منه، فالمطر إله ينزل من السماء، والسحب إله تأتي هي الأخرى من السماء، والريح إله تهب أيضًا من السماء، والرعد والبرق وقوس قزح موجودة للرائي من السماء، والأسلاف صعدت أرواحهم للسماء. وبهذا فالسماء رب الأرباب، وإله الآلهة. ومن الأناشيد التي كانوا يناجون بها الإله العظيم، جاء قولهم: "اجعلني وقورًا، طريق السماء واضحة، وتحديداتها غير هين الاحتفاظ بها، لا تجعلني أقول إنها مرتفعة جدًّا وبعيدة عني، إنها تصعد وتنزل نحو أفعالنا، تراقبنا يوميًّا حيث تكون، لست إلا كطفل صغير بغير نباهة حتى أحترم واجباتي، سأتعلم القبض بقوة على وميض المعرفة حتى أصل إلى النباهة المنيرة، أعنِّي لاحتمال عبء منصبي، وأرني كيف أظهر بسلوك فاضل". وهكذا، اعتقد الصينيون في آلهة أحاطوها بالتقديس والاحترام والتعظيم. الركن الثاني: العبادة والقرابين: تتضمن الكتب الصينية القديمة تصويرًا لبعض القرابين وألوان العبادات التي يؤديها الصيني لآلهته في احتفالات عامة، ومن أهمها القربان الذي يقدم بمذبح

السماء في احتفال ديني يُعلن عنه بأمر إمبراطوري، وتتم ترتيباته تحت إشراف المجلس الكهنوتي، ويحدد مجلس التنجيم التاريخَ المعين له، وقبل الاحتفال بخمسة أيام تفحص الضحايا المقدمة للقربان؛ للتأكد من سلامتها، وينقش خطاب الإمبراطور على لوحة خاصة، وفي اليوم السابق ليوم القربان يقام عرض فخم يسير إلى ساحة المعبد، ويُعرف المعبد بمذبح السماء، ويتكون من ثلاث شرفات، ترتكز الواحدة فوق الأخرى، وأعلاها يبلغ قطرها تسعين قدمًا، والوسطى قدرها مائة وخمسون قدمًا، والثالثة وهي الأدنى مائتان وعشرة أقدام. وأمام الشرفات ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين لوحة، وللشرفات سلالم أربعة، في كل جهة واحد، وحول المعبد فناء دائري وآخر أبعد من الأول مربع محاط بسور أحمر، ويتكون المعبد من داخله من فرن كبير لحرق الأضاحي، ومناضد تجمع منها الهيئات، ومخازن متعددة، وأماكن المرتلين وكبار الرسميين والكهنة، ويمتاز المعبد بالروعة والجمال والنظافة، لدرجة أن مبشرًا أمريكيًّا ذهب لزيارته منذ سنوات فخلع حذاءه من قدميه؛ محافظةً على نظافته رغم النظام لا يقضي بذلك، وقد امتلأ المعبد بالعديد من التحف النادرة التي أُهديت له في مختلف العصور. فهذه صورة المعبد الذي يقام فيه العرض، والذي يتقدمه الإمبراطور؛ لأنه رئيس الكهنة، وبصحبة الحرس والموسيقيين، والراقصين والقواد، وأصحاب الأعلام، والمظلات والضحايا، ويظل هذا الجمع سائرًا طوال الليل حتى يأتيَ يوم الاحتفال وفيه تُحرق الضحايا، ويغسل المعبد، وتقام الدعوات والصلوات، وتلقى الأناشيد بصحبة المزامير، وذلك كله للإله العظيم السماء الذي سمي المذبح باسمه.

إن الصينيين يعتقدون في أن إشعال النار ورفع الصوت واللغو بالأناشيد والرقص، تبلغ الإله، وتحمل معها فحوى الرسالة التي يريدون بلوغها إليه، ومع اعتقاد الصينيين في الآلهة، ومع تقديمهم للقرابين وأدائهم للعبادات، مع ذلك لم يكونوا يؤمنون بجنة أو بنار، وإنما كانوا يرون أن الهدف هو إصلاح معايشهم وحياتهم التي يحبونها، ولذلك نجدهم يركزون في شعائرهم ونظمهم على الأخلاق الفاضلة، وأسس الخير والشر، وقواعد السلوك العملي الممتازة. ولقد بلغت الأخلاق عند الصينيين درجةً من السمو أدهشت العلماءَ عندما تعرفوها، الأمر الذي جعلهم يقفون في تصور السر وراءها مواقف كثيرة. إن المدهش في فلسفة الأخلاق عند الصينيين ارتباطها بالدين برغم ما في تدينهم من خيالات وأساطير لا صلةَ لها بالواقع، وهنا يرى الشيخ محمد أبو زهرة أن لا دهشةَ في هذا؛ لأن الأخلاق الصينية اعتمدت على العقل المطلق وفكر الحكماء، بينما الدين اعتمد على النقل، وكل منهما رضي لنفسه طريقه، وإن تشابكَا معًا في المسيرة كطبيعة الصينيين في كثير من حياتهم وآرائهم. ثالثًا: الأخلاق الصينية: آمن الصينيون منذ القديم بأن جميع الأحداث تتبع الأخلاق، فكلما كان الاعتدال والانسجام والفضائل تسوده المعاملة بين الناس، فالكون سائر في فلكه من غير أي اضطراب، لكن إذا حاد الإنسان عن الحق والفضيلة اضطرب بعض ما في الكون، وما الزلازل والكسوف والخسوف إلا أمارات لفساد أخلاقي. وقد اهتم جميع الفلاسفة والحكماء بهذا الجانب الهام، ومن أقوال "كنفشيوس": "إن الناس قد ولدوا صالحين ويجب أن يبقوا صالحين ما داموا أحياءً، إن الطريق

إلى البقاء صالحين طريق الحياة الصالحة، هو طريق المعرفة، وعبادة الأسلاف، ووفاء الآباء والأبناء، ووفاء المواطنين لحكامهم، وقبل كل شيء العدالة، وللعدالة، ويقول "مو" وهو فيلسوف صيني ولد بعد "كنفشيوس" وقد عرف أتباعه نظام الجماعة المنسقة، حيث يعقدون اجتماعات دورية بأمر مختارين مِن بينهم، وله كتابه المعروف بكتاب (مو) يقول: تريد السماء من الناس أن يحبوا، وأن ينفع بعضهم بعضًا، ولا تريد من الناس أن يكرهوا ويسيء بعضهم إلى بعض، وكيف يعرف هذا؛ لأن السماء تشمل الجميعَ بحبها لهم، وتشمل الجميعَ بنفعها لهم، لا وجودَ لشباب أو لمسنيين أو لأشراف أو لسوقة، فالكل راعية السماء. هذا وقد وضعت الأخلاق الصينية في نظم مفصلة منها نظام صلاح الفرد والمجتمع، ويقوم على حسن أداء الفرد لواجبه، ومحافظة على حقه، كما أنهم يحددون العلاقات الرئيسية في المجتمع وهي علاقة الأمير بالرعية، وعلاقة الأب بالابن، وعلاقة الأخ بإخواته، وعلاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الصديق بالصديق، فإن روعيت الأخلاق الفاضلة في هذه العلاقات حسن حال الفرد والمجتمع، ويسمون هذا النظام بالتبادل الحسن. ثانيًا: نظام الفضيلة القانوني: ويقوم على اعتبار أن الفضيلة وسط بين طرفين ولا تتحقق إلا بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأفعال، فالقناعة مع الجد من غير استسلام فضيلة، واللين من غير ضعف فضيلة، والرحمة مع العدل مع المسيء فضيلة. وهكذا. وغاية الفضائل تحقيق الكمال الإنساني، والسعادة الدنيوية، وإقامة المجتمع على التواد والتآلف والإخلاص والإلفة.

حاجة الأخلاق للمعرفة: ترتبط الأخلاق بالمعرفة الصحيحة ويرى "كنفشيوس": أن الشخص الكامل يكون على تمام المعرفة بنفسه وبحقائق الأشياء، ويرى أن المعرفة الصحيحة جزء غير قابل الانفصام من منهجه الخلقي، ويتميز "كنفشيوس" في هذا عن كثير من الفلاسفة بأنه ربط بين المعرفة والسلوك، فقال: مَن يعلم الحق دون من يولع بطلبه، ومَن يُولَع بطلبه دون من يطمئن إليه دائمًا، ويقسم الناس بالنسبة للمعرفة إلى أربع درجات: الدرجة الأولى: درجة رجل وهبته السماء المعرفة وأوتي الإلهام. والدرجة الثانية: رجل لم يؤتَ إلهامًا ولكن فيه ذكاء. والدرجة الثالثة: رجل لم يؤتَ إلهامًا ولا ذكاء. والدرجة الرابعة: رجل حائر به بلادة لا يعرف ولا يحاول المعرفة. والمعرفة في هذا التقسيم تشمل العلمَ والسلوكَ. دور الأمراء في نشر الفضيلة: لا بد من قيام السياسة على الأخلاق، ويرى "كنفشيوس" أن الملوك والقادة يؤثرون بأخلاقهم أكثر مما يؤثرون بقوانينهم وسلطاتهم، ولذلك اهتم بإصلاح القادة؛ لتصلح الرعية، ولتنشأ الثقة بين الحاكم والمحكوم، سأله أحد تلاميذه: عن ضروريات السياسة؟ فقال: مِن ضروريات السياسة الأقوات الكافية، وذخائر الحرب الواقية، وثقة الرعية، فقال التلميذ: لو اضطررنا إلى حذف واحد من هذه الثلاثة، فبأيها نبتدئ بالحذف؟ فقال: احذفوا ذخائرَ الحرب، فقال: لو

اضطررنا إلى حذف أحد هذين الأمرين، فأيهما يُحذف، وأيهما يبقى؟ فقال: احذفوا الأقوات، فإن الموت حظ الإنسان منذ الغابر من الأزمان، ولكن السياسة لا تقوم إلا بثقة الرعية. ومن أشد الأمور جذبًا لثقة الرعية التزام الحاكم بالسلوك القويم، والتزام أعوانه بالفضائل والأخلاق، ولقد سأل أمير المقاطعة "كنفشيوس" قائلًا: كيف تكتسب طاعة الرعية؟ فأجابه بقوله: إذا أُعلِيَ الصالحون وأبعد الطالحون، فولاية أهل الصلاح تجذب الناسَ إلى الحاكم، وكان يقول: لو تداولت أيدي الصالحين شئونَ الدولة لمدة قرن واحد، لتهذب الظالمون جميعًا، ولاستغنى الحاكم عن العقوبة، وما دام الصلاح لازمًا لاستتباب الأمر في الدولة، فعلى الصالحين الأكفاء أن يطلبوا الولاية لأنفسهم، وإذا نالوها وشعروا أن الحكومة ظالمة، عليهم أن يتركوا عملهم فورًا، إن الدولة تقوَى بالأخلاق والشجاعة وتعتني بالثقة، وتعيش بالأمن والهدوء. ولعل أسلوب الحوار الذي سجل به "كنفشيوس" كتابه، وجعله بين أستاذ وتلميذ، ووضع فيه كل آرائه الأخلاقية، لدليل عملي على منهج الأستاذ في ربط العلم بالسلوك. كيفية نشر الأخلاق؟ وضع "كنفشيوس" منهجًا لنشر فلسفته الأخلاقية طبقه على نفسه، وهو منهج مفيد لنشر الأفكار والمعتقدات، يعتمد هذا المنهج على الوسائل التالية: أ- دعوة الأشخاص الملازمين كالأهل والأصدقاء والجيران، ولذلك كان دعوة الأبناء لآبائهم واحترامهم لهم من أولى اهتمامات "كنفشيوس".

ب- التدرج في الدعوة؛ ليكون البدء بالأمور السهلة المسلمة، ثم يكون الانتقال برفق ولين إلى بقية القضايا؛ حتى لا يسأم المدعو ولا يفر ممن يدعوه. ج- مراعاة حال المستمع، وذلك لمخاطبة كل إنسان على قدر طاقته، فمن الناس من يستطيع محادثته في العلم ولا يمكن أن نحمله على السير معنا بمقتضى الفطرة، ومن الناس من نستطيع أن نسير بهم على الفطرة من غير أن يكونوا ذوي قدم ثابتة فيها، ومنهم من يكون ذا خلق قويم شديد التمسك بالفطرة والكمال الإنساني، ولكن لا يمكننا مشاورته في تقدير الشئون، وعلى هذا فكل إنسان له خط من الإصلاح يعالج به، ويحمل على الجادة. د- القدوة، وذلك بتقديم الصورة العملية مع الدعوة النظرية؛ لأن الناس أكثر إلفًا بالعمل، وأسرع طاعة لصاحبه، ومن أقوال "كنفشيوس": أتظنون أني أخفي عليكم شيئًا؟ ما من أمر أعمله إلا فيه إرشاده، وهذه هي طريقتي في التربية. الاختلاط والمعايشة: وذلك يكون بالعيش شبه الدائم مع المدعوين؛ لأن العزلة تؤدي إلى التنافر، والتعالي يحقق عدم الثقة. ومن أقوال "كنفشيوس": لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش فلو لم أعاشر هذه الأمة، فمن الذي أعاشره؟ إذا كان واجب كل شخص من آحاد الأمة أن يعتزل في كهف من الكهوف، فمن الذي يبقَى في المدن يعمرها؟ وفي الأرض يفلحها ويزرعها؟ وفي الصنائع يمهر فيها؟ ومَن الذي ينسل ويعمل ليبقى الكون عامرًا ببني الإنسان؟ وإذا كان الاعتزال مقصورًا على الحكماء والفضلاء، فَمَن الذي يربي الإنسان ويؤدبه؟ أم يُترك الناس حائرين لا هادي ولا مرشد. وكان يتجه إلى الجماعات يصلحها ويؤدبها ويعظها، ولا يعتزل ويترك الناس في غيهم يعمهون.

رأي العلماء في نشأة وتطور أديان الصين.

وتدعيم الثقة والألفة، وذلك بتقوية العلاقات الكريمة بكل ما يمكن من سبل؛ إثراءً للتربية، وتأكيدًا للفضائل، يقول أحد أتباع "كنفشيوس": آراء أستاذي تملأ نفسي تحيط بي، تستغرق كل حسي، توسع مجال فكري، وتضبط سلوكي، حتى إني إذا رغبت في ترك آرائه ما طاوعتني نفسي. ز- معاقبة المسيء حتى لا يتحول الأمر إلى الفوضى، وذلك إذا تعمد البعض الإساءةَ فلا بد من معاقبته بالعدل، وعلى قدر إساءته. إن الباحث في العصر الحديث يقف معجبًا بهذه الفلسفة الأخلاقية؛ لتوافقها مع أحدث النظريات التربوية التي اكتُشفت في العصر الحديث، وفي الأخير. رأي العلماء في نشأة وتطور أديان الصين يقف علماء الأديان في موضوع نشأة الدين عند الصينيين مختلفين، حيث يشاهدون فكرة الألوهية مبهمة ومجردة من أهم الصفات التي يجب أن تحاط بها، وفي نفس الوقت يجدون أنفسهم أمام مجموعة من النظريات الأخلاقية التي يلهث العالم في العصر الحديث من أجل تطبيقها في السلوك الفردي والعام. فيذهب العلماء في تفسير نشأة الدين الصيني ثلاثة آراء هي: الرأي الأول: يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الدين نشأ في الصين من اختراع العقل البشري، حيث مَر بمجموعة من التطورات، ويؤيدون رأيهم بما لوحظ في الفكر الديني عند الصينيين، حيث يجدونه مركزًا بصورة رئيسة على الجانب

العملي الأخلاقي، مع سكوته التام عن تناول أحد أركان العقيدة الدينية، اللهم إلا في الألوهية، فلقد تناوله بإيجاز وتصور يدل على الاختراع البشري والتأليف العقلي، فالإله العظيم هو السماء، أو الروح السائدة فيها، وكل الآلهة الأصغر متصلة بالسماء إيجابًا وسلبًا، وحتى العبادات الواردة عبارة عن ألوان من المراسيم الإمبراطورية في العصور القديمة ألبسوها ثوب الدين، وأسسوا لها البنايات الشاهقة؛ لتكون دورًا للعبادة. ويبدو أن الأمراء والحكام بالغوا في تدعيم هذا؛ تقويةً لسلطانهم؛ لأن الإمبراطور كان كبير الكهنة في نفس الوقت، ولهذا اشتهر تعظيم الأسلاف حتى عُدُّوا من آلهة الصينيين، ووصل الأمر ببعض هؤلاء العلماء إلى جعل الصينيين من الأمم التي لم تظهر فيها رسالة صحيحة، ويقارنها بالهنود والمصريين الذين جاءتهم رسالات سماوية، ويستنتج هؤلاء العلماء من عجز الصينيين عن الوصول إلى التوحيد الخالص، عجز العقل مجرد عن معرفة الله، والإحاطة بصفاته؛ لأنه لو لم يعجز لتمكن الصينيون من معرفة الله، وأصحاب هذا الرأي فريقان: فريق يبني رأيه على مبدأ التطور والترقي، حيث يتتبع الفكر الصيني ويستخرج منه ما يدل على هذا. والفريق الثاني: لا يقول بنظرية التطور أساسًا، ولذلك نجده يبني رأيه على أساس التداخل العقل في إيجاد الدين الصيني على فترات التاريخ صعودًا أو هبوطًا بلا تطور نحو الأرقى، وإلا لتمكن الصينيون من الوصول بعقولهم إلى التوحيد الخالص، مع أن ذلك لم يحدث، والذي حدث أن العقول كانت تتقهقر بالفكر والدين في الصين إلى الوراء. يقول "ولز": حدث في الصين أن أفسد التعليم

معلميهم سواء كان "كنفشيوس" أو "لاهتوس" أو غيرهما، وتغشتها الأساطير. وقد ضمت إليها أشد الطقوس والفكرات الخرافية تعقيدًا وخروجًا عن المألوف، فلقد نشطت أفكار السحر البدائية، وتحركت الأساطير البشعة التي ظهرت في ماضي طفولة جنسنا تكافح ضد التفكير الجديد في العالم، ونجحت في أن تسدل عليه ستارًا من طقوس غريبة مضحكة، وغير معقولة، وعتيقة بالية. وعلى الجملة: فإن أصحاب الرأي الأول لا يقولون برسالة سماوية ظهرت عند الصينيين. الرأي الثاني: يذهب أصحاب الرأي الثاني إلى القول بظهور رسالة صادقة في بلاد الصين، تضمنت دعوتهم إلى دين صحيح، والقائلون بهذا الرأي يستدلون بما في التراث الصيني من روائع أخلاقية وحكم ووصايا، لم تقف عند حد الفكر النظري، بل وصلت إلى قمة السلوك التطبيقي. إن العديد من علماء مقارنة الأديان يقفون معجبين بما كان عند الصينيين القدماء، وكثيرًا ما يحاولون مقارنتَه بما في الكتب السماوية المقدسة؛ لاستخراج ما بينهما من تماثل في القضايا والحكم؛ تأييدًا لرأيهم في إرجاع ما عند الصينيين لرسالة صحيحة، وهؤلاء العلماء يرون أن السماء التي اتخذها الصينيون إلهًا عظيمًا لهم ورمزًا لسمو الإله وقداسته، وكل خلق من صناعته وهم إليه منتسبون، وتبعًا لطول الزمان وبُعد الرسالة، اتخذ الصينيون مظاهر الطبيعة والأسلاف والأرواح آلهةً صغرى يعبدونها ويقدمون لها القرابين؛ خضوعًا للتحريف وتداخل التأليف البشري. وعلى هذا، فأديان الصين عبارة عن بقايا رسالة سماوية مع تآليف بشرية خيالية من وضع الكهنة والأباطرة، ويرجع السبب في رقي الجانب الأخلاقي في نظر

هؤلاء العلماء إلى اهتمام الرسالة الإلهية بهذا الجانب، وتأثر العامة بها، مما جعل التحريف يعجز عن تغيير هذا الجانب الذي امتثله الناس في حياتهم، كما أن ظهور علماء مخلصين يزكون الأخلاق، ويدعون إليها، ساعد على استمرارية السمو الأخلاقي حتى اشتهرت الصين بين الأمم جميعًا بسمو الأخلاق نظريًّا وعمليًّا. ويبدو أن النظريات أسرع في النسيان من الأعمال؛ لأن الأعمال المكررة تتحول إلى عادة وتقليد، وقد تنسى فلسفتها وتبقَى صورتها، وهذا ما جعل الصينيين أصحابَ ذوق خاص، وسلوك منظم بعد ظهور الاشتراكية وإعلان الشيوعية مذهبًا تسير عليه الصين، برغم ما في الشيوعية من تعسف وإذلال. وهكذا، ألغِيَ الدين من نظامهم، ولكنهم حافظوا على تقاليدهم الأخلاقية وعاداتهم النبيلة. الرأي الثالث: يرى أصحاب هذا الرأي ما رآه أصحاب الرأي الثاني، ويزيدون عليه القول: بأن "كنفشيوس" كان هو الرسول المبعوث من الله تعالى إلى الصينيين، مستدلين بسمو دعوته وأصالة مبادئه، ويذكرون أن هذا المستوى الممتاز في تعاليم هذا الحكيم الصيني يرجع سببها إلى منبعها الإلهي الذي هو أصلها ومصدره. وبهذا يكون الرأي الثالث متفقًا مع الرأي الثاني إلى حد بعيد، حيث يشتركان في إرجاع الدين وأديان الصين إلى أصول رسالة سماوية، وهذا يستتبع بالضرورة إغفال فكرة التطور الديني، وعدم التسليم بقدرة العقل للوصول وحده إلى عقيدة التوحيد الخالص.

الخاتمة والتعليق: بالنظر في كل ما ذُكر عند الديانة الصينية، يُلاحظ ارتباط النصوص في أغلبها بالجانب الأخلاقي، السمة الغالبة على الفكر الصيني كله، الأمر الذي يعطي عذرًا للعلماء الذين لا يرون للصينيين إلا أصحاب حكمة وفلسفة، ولولا ربط الأخلاق الصينية بالدين لرجحنا هذا الاتجاه. لقد ارتبطت الأخلاق بالدين على اعتبار أن الدين يدعو إلى حسن المعاملة، كل ما تتطلبه الآلهة هو السلوك القويم، وبالنسبة للكتب الدينية نلاحظ فيها إنها دُونت على فترات زمانية طويلة، كما أضيف إليها الحواشي والشروح العديدة التي اعتبرت أجزاءً منها، وهذا يؤكد أن قداستها اعتبارية، وأن تعظيمها جاء بسبب موقف الكهان منها، وأن نسبتها إلى أصحابها محل نظر ونقد. وقد دخلت تطورات عديدة على أديان الصين -وبخاصة في العصر الحديث- فلقد حدث عقب ثورة 1911 ميلادية أن أُعلنت الجمهورية وأعلن دستورها الذي لم يتضمن سوى فقرات قصيرة متصلة بالدين، وقد سارع رجال الدين الصيني إلى تكوين جمعية الكنفشوسية؛ للدفاع عن دينهم، الأمر الذي كان له أثره في اتخاذ أسس الفضائل الدينية مبادئ لحركة الحياة الجديدة التي أسست سنة ألف تسعمائة وأربع وثلاثين. وأخيرًا أعلنت الشيوعية في الصين، فعمدت إلى تغيير كافة الأوضاع في المجتمع الصيني كله، والشيوعيون يعتبرون الفكر الصيني القديم نتاجَ صراع بين الطبقات وبين أفكارهم، وبأسلوب الشيوعية المعتمدة على الظلم والقهر يحاولون نشر مبادئهم الباطلة بكافة الوسائل الظالمة.

ولكن ما هو الرأي الأرجح في تفسير نشأة الدين الصيني؟ الأرجح هو الرأي الثاني؛ جَرْيًا على ما سلمنا به، وسرنا عليه، وهو أنه ما من أمة إلا وأرسل الله لها مَن يبلغها بدينه، ويهديها إلى الحق والصواب. وإن الصين أمة كبيرة يبلغ عدد سكانها ربع العالم، ولا بد أن يُبعث فيهم رسول يدعوهم إلى الدين الصحيح. ومع الترجيح لهذا الرأي لا نسلم بأن "كنفشيوس" كان رسولًا مبعوثًا من قبل الله تعالى؛ لأن الكتب الإلهية تحدثت عن الرسل وصفاتهم ومعجزاتهم ودعواتهم، وليس "كنفشيوس" على نمطهم، لقد دَعَا إلى الإيمان بالأديان الصينية القديمة مع ما فيها من خرافات وأساطير، وأقصى ما يمكن التسليم به هو أن "كنفشيوس" أحد المؤمنين برسالة سماوية سابقة، وأنه التزم بالدعوة إلى بعض جوانبها التي تحمس لها وتصور صلاحيتها لأمته. إن الأديان السماوية لا تمنع وجود رسالات إلهية في الصين، فلقد أخبر الله تعالى أن الرسل ورسالاتهم لم يُذكروا جميعًا على وجه الحصر، فمنهم من ورد ذكره وجاءت قصته، منهم من سكت الله عنه ولم ينزل في شأنه قرآنًا هم الجم الغفير من رسل الله تعالى، وفي نفس الوقت وضع قاعدةً تقوم على العدل الإلهي المطلق، وهي أن الرسل جاءوا إلى جميع الأمم على وجه الحصر؛ لأن الإنسان بلا رسول لا يصل إلى الحق وحده، وما دام الإنسان مسئولًا ومحاسبًا بعد الموت ليعيش في النعيم المقيم أو الشقاء الدائم، ما دام الأمر كذلك، فإن العدل يقتضي إرسال الرسل إلى جميع البشر، وهذا ما أخبر الله عنه في القرآن الكريم، حيث قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} (النحل: 36).

وعلى هذا، فلا معارضة في ظهور رسالة ورسالات في الصين، بل إن المعارضة تكون في القول بغير هذا. وهنا ملاحظة تتعلق بما حدث في العصر الحديث في الصين وفي أماكن عديدة، وهي أن الشيوعية داء خطير يتجه بالهدم نحو أي عقيدة أو فكرة سامية، في محاولة لإفراغ الإنسان من داخله؛ ليمتلئ بعد ذلك بالفكر المركسي والعقيدة الشيوعية الباطلة، كما أن الشيوعية تحاول دائمًا هدمَ التاريخ بصورة عامة شاملة، فما الأديان القديمة إلا حركات وصراع مستمرة، وما الدول والجماعات إلا نتاج للصراع. وهكذا، فإن الشيوعية تهدم وتشوه ما عداها بلا منطق ولا علم، وما دارت أنها بذلك تهدم نفسها، وتضع بذور الكفر بها وبتعاليمها، وإن غدًا لناظره قريب في الصين وفي العالم كله. وفي نهاية المطاف ألخص ما ذكرته حول دين الصين واليابان: وحيث إن أمة الصين من أمم الحضارات القديمة كان لها مدنية وعلم، وبالضرورة كان لها دين تدين به، وتلتزم تعاليمه وتمارس طقوسه، ولقد جربت الصين جميعَ أنواع العبادات من الخرافة إلى الأسطورة إلى الحكمة إلى الأخلاق، ودانوا بالقيم الوضعية والقيم الرفيعة على السواء، وأخذوا من دين كل الأمم واعتقادات كل الشعوب، وما يعتقدون أنه لم يكن في البداية إلا إله "بانكو" الذي كان قويًّا شديدًا رهيبًا، له رأس تنين وجسد أفعى، طال عمره إلى آلاف السنين، ولما كان الموت تجمعت أنفاسه فكانت الريح والسحب، وكانت أناته الرعد، ودمه الأنهار، ولحمه الأرض، وعرقه المطر، وعظامه الصخور، وأسنانه

المعادن، وشعره الغابات والأشجار، وعينه اليسرى الشمس واليمنى القمر، أما الحشرات التي تعلقت بجسمه فهم الآدميون. وتوالى ملوك السماء من بعده يحاولون أن يمدينوا هؤلاء الآدميين، ويهذبوهم، ويوجهوهم الوجه الصحيحة؛ حتى لا يبقوا كما خلقوا حشرات دنيئة ضارة وضالة، وعبدوا المطر والرياح والسحاب، والرعد والبرق، وكل مظاهر الطبيعة. وجعلوا السماء هي الإله الأكبر، باعتبار أن معظم الخير يأتي منها، وعبدوها بجانب الشمس والقمر والمطر، والرعد والأنهار، وأطلقوا عليها اسم الإله الأعظم "تيان" كما عبدوا أرواح أسلافهم وأجدادهم، وهذه الديانة لا تعترف بالرسل والأنبياء، وإنما يقوم بأمور الدين رجال مربون ومعلمون، ولقد دانت اليابان أيضًا بالكنفشوسية، واعتقدت مبادئها كما اعتقدت مبادئ البوذية، وديانة الشننتو القديمة، وأبرز تعاليم كنفشيوس حب العلم، ولا تزال للكنفشوسية المكانة الجليلة في اليابان. الكنفشوسية: لقد اتصلت الفلسفة الصينية بالدين وامتزجت به امتزاجًا تامًّا، فالفسلفة في الصين لم تتجاف عن الدين ولم تنأ عنه، ولم يكن "كنفشيوس" مدعيًا للرسالة ولم يكن هو رسولًا مبعوثًا، بل كان حكيمًا فيلسوفًا يبشر بمذهب الأخلاق، وأما عقيدته فهي ما كان يعتقده الصينيون القدماء، وأساس هذه العقيدة أنهم يعبدون ثلاثة أشياء: السماء، والأرواح المسيطرة على ظواهر الأشياء الملائكة، وأرواح الآباء، ومن عقائد الصينيين أن أرواح الأموات تنفصل عنهم بعد موتهم وتبقى في الدنيا مع أسرهم، ولذلك يعبدون أرواحَ الآباء؛ تقديسًا لهم ووفاءً لعهودهم.

وعبادات الصينيين لا تعدو إلا أن تكون غناءً ورقصًا وموسيقى، ولم يكن الصينيون القدماء يؤمنون بجنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب، ولقد أخذ "كنفشيوس" بكل هذه العقائد ولم يزد عليها، فلم يؤمن باليوم الآخر ولم يفكر في حياته بعد الموت، بل كان كل همه في إصلاح الحياة الدنيا. هذا والفيلسوف الحكيم الذي لا تزال الصين تجله على اختلاف مللها ونحلها وشيوعيتها أيضًا، وله آراؤه الخلقية التي لا تزال في الصين نبراسًا يهتدى به. ويجدر بنا أن نقول: إن ذلك الحكيم لم تكن عنايته الكبرى متجهة إلى تأليف كتب، ولكن عنايته اتجهت إلى تكوين نفوس. وكما كانت الصين كانت اليابان في اتخاذها للكنفشوسية دينًا ومذهبًا، وما اختلط بها من الأساطير، ثم ما داهمها بعد ذلك من شيوعية وإلحاد. وفي الأخير نذكر الصين كمثال لمسألة عدم تطور الأديان، حيث يقال: بأنها ليس من أمم الرسالات الدينية، ولم تحظَ في تاريخها القديم شيئًا من ذلك، فكيف كانت معتقداتها؟ وهل تصبح دليلًا يؤيد قضيتنا في عدم تطور الدين أم ينقضها؟ فلقد اصطلح علماء مقارنة الأديان على أن الصين على اتساع رقعتها وكثرة شعوبها، قد اختبرت جميعَ أنواع العبادات، ولكنها على الرغم من ذلك لم تحظ برسالة دينية واحدة تنشأ فيها، فلم تخرج للعالم قيمًا دينيةً تصدر منها، ولكنها أرضت العقلَ الفطري الباحث عن الألوهية بمعتقدات وردت إليها من الخارج قديمًا وحديثًا كعقائد البوذية، والمجوسية، والمسيحية، والإسلام، ولم تعط أمة عقيدتها باستثناء اليونان التي أخذت عنها رحلة "كنفشيوس" الحكيم المشهور. ومن الجائز جدًّا كما يقول "ولز": إن أقدم حضارات الصين كانت حضارة سمراء كما كانت مماثلة في طبيعتها لأقدم الحضارات المصرية والسومارية، ومهما يكن

الأمر فإنا نجد أنه لما وافت ألف سبعمائة وخمسين قبل الميلاد كانت الصين مكونة فعلًا من مجموعة هائلة من الممالك الصغيرة ودول المدن، وكلها تعترف بولاء المفكك العُرى وتدفع رسومًا إقطاعية لإمبراطور كاهن واحد هو ابن السماء الكاهن الأعظم، وانتهى حكم أسرة "شانج" في سنة 1025 قبل الميلاد، وخلفتها أسرة "تشاو" الطويل، وانحدرت إلى البلاد شعوب من "الهون" وأنشأت الإمارات، وقطَع الحكام المحليون الجزيةَ، وأصبحوا مستقلين. ويقول أحد الثقات الصينيين: إن البلاد كان بها في القرن السادس قبل الميلاد خمسة أو ستة آلاف مقاطعة مستقلة تقريبًا، وهذا العصر هو الذي يسميه الصينيون في سجلاتهم باسم عصر الفوضى، ويهمنا جدًّا أن ندرك أن عصر الفوضى هذا كان مليئًا بكثير من النشاط الفكري، وبوجود كثير من مجالات الفن المحلية، والعيش المرفه والمتحضر، ومع ذلك لا نجد للدين صورة راقية تدل على التوافق بين الرقي الفكري والرقي الديني، أو بين التحضر وتطور المعتقدات الدينية. فكل ما استطاع أن يصل إليه الإنسان الصيني في هذا العصر أن وجد "كنفشيوس" الذي بشر بالحلم والصبر، والبر بالوالدين، والعطف على الأقربين والغرباء، وأوصى أن تقابل السيئة بالعدل، أو وأن يقابل الإحسان بالإحسان، وقد أحزنه كثيرًا ما يغشَى الصين من فوضى وخروج على القانون، فاختط لنفسه صورة مثل أعلى لحكومة أحسن وحياة أفضل، وأخذ يتنقل من ولاية إلى أخرى؛ باحثًا عن أمير يؤخذ بنظرياته في التشريع والتعليم وينفذها، ولكنه لم يعثر قط على ذلك الأمير، وحين عثُر عليه أحاطت به مؤامرات رجال البلاط، فقوضت سلطان "كنفشيوس" عن الأمير، وتغلبت في النهاية على مشروعاته الإصلاحية.

ويتلخص مذهب "كنفشيوس" في منهج عيش الرجل النبيل أو الاستقراطي أو المثل الأعلى، أي: أنه شُغل بسلوك الشخص وأفعاله، فاهتم بالشئون العامة ورفى لاضطراب العالم وتعاسته، وأراد أن يجعل الناس نبلاءً -أي: فضلاء- رغبةً في إيجاد عالم فاضل، لذلك حاول أن ينظم السلوكَ إلى درجة تفوق كلَّ مألوف، وأن يدبر القواعد السليمة لكل مناسبة من مناسبات الحياة، وكانت صورة السيد المهذب الذي يهتم بالشئون العامة، والذي يأخذ نفسه بالتأديب الصارم هي المثل الأعلى. ومات "كنفشيوس" محطم الآمال وهو يقول: لَمْ ينهض حاكم ذكي الفؤاد ليتخذني أستاذًا له، وها قد حانت منيتي. بيد أنه لما مات في سنة 478 قبل الميلاد، أقاموا له الهياكل، وعبدوه على سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادةً رسميةً -أي: حكومية- على عهد أسرة "هان" في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة، ولم تزل عبادته قائمة إلى أوائل القرن العشرين، فخصوه في سنة 1906 بمراسم الإله الأكبر "شانجتي" إله السماء؛ لأنه في عرفهم ند السماء، ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده عيدًا قوميًّا، يحجون فيه إلى مسقط رأسه. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 أديان الفرس.

الدرس: 17 أديان الفرس.

مصادر أديان الفرس.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (أديان الفرس) مصادر أديان الفرس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: لا يزال حديثنا موصولًا عن نظرة إجمالية لبعض الأديان القديمة، تناولنا منها أديان المصريين القدماء، ودين الهند الكبرى، والصين، واليابان، ونحن مع أديان الفرس، والرومان، واليونان إن شاء الله تبارك وتعالى. أديان الفرس، نقول وبالله التوفيق: الفرس من الأمم ذات الحضارات العريقة الموغلة في القدم، وقد اهتم بدراسة آثار الفرس العديد من العلماء المتخصصين في العلوم المختلفة، وبخاصة علماء الأديان الذين يجدون أنفسهم أمام دينٍ متكامل الجوانب شامل للعقيدة والشريعة والسلوك، الأمر الذي يُعطي لهذا الاهتمام ضرورةً معينة من أجل المعرفة. ومن خلال بحثنا في أديان الفرس سنتناول القضايا التالية إن شاء الله تعالى: - التعريف بمصادر أديان الفرس. - التعريف بزرادشت. - التعريف بجوانب الدين، كما وضّحتها المصادر. - ومناقشة آراء العلماء واتجاهاتهم في نشأة الدين عند الفرس وتطوره. - وذلك كله في إيجاز وتركيز، مع المحافظة على إعطاء صورة متكاملة عن أديان الفرس. أولًا: مصادر أديان الفرس: برغم أن أديان الفرس ذاتُ تاريخٍ قديم فإن كتبها المقدسة التي توضح الدين وتفصّل جوانبه لم تعرف إلا على يد زرادشت؛ فلقد أحياها وشرحها، ودعا

الناس إليها، ولذلك نجدها لا تعرف إلا به، ووصل الأمر ببعض العلماء أن جعلوه مؤسس الدين الفارسي، وبدءوا بحثهم في أديان الفرس من زمن هذا الحكيم الكبير، والمصادر الدينية عند الفرس مجموعة من الكتب يضمها كتابٌ واحد يعرف بالفستا. الفستا: وهو الكتاب الرئيسي للدين الفارسي، ومعناه في العربية: النص الأصلي، ويطلق عليه العرب اسم الأبستاق، وقد ظل هذا الكتاب يتداول شفويًا طيلة قرون عديدة باللغة الفهلوية القديمة، والكتاب في الجملة يؤرّخ للفرس ودينهم وأدبهم بلا ترتيب زمني، ويشتمل الكتاب الموجود في العصر الحديث على ثلاثة أقسام أو فصول هي: القسم الأول: ويتناول حديث الإله أهورامزدا إلى زرادشت؛ حيث يعلمه أوامر الشريعة تفصيلًا كما يتناول قصة خلق العالم وتكوينه، ويبين بعض النظم الاجتماعية، ويسمى هذا القسم الفنديداد. القسم الثاني: ويتناول توضيح الطقوس الدينية، وهو عبارة عن تراتيل وصلوات خاصة برجال الدين الفارسي، وتلاوة هذا القَسم لا تحتاج إلى جمهور يسمعها، ويُعرف هذا القسم بالفاسبرد. القسم الثالث: ويتناول تمجيد الملائكة، ويتحدث عنهم كآلهة صغار، كما يتناول بيان صلوات وشعائر دينية، وهذا القسم له اهتمام خاص لدرجة أن البعض يعتبره الجزء الذي لم يحرّف من الفستا، ويعرف هذا القسم بالياستا. وقد دارت حول الفستا أساطير كثيرة، نقلها بعض العلماء على أنها حقائق مسلمة؛ من هذه الروايات: إنه كُتب في اثني عشر ألف مجلد من جلود البقر والثيران والماعز، وإنه كُتب حفرًا على الجلد ونقشًا بالذهب، وإنه حفظ في

التعريف بزرادشت.

حوافظ الموابذة، الذين هم كبار رجال الدين الفارسي، مع كتابته على النحو المذكور، والذي يجعلنا نلحق هذه المعلومات بالأساطير شبه الإجماع عند علماء الأديان على أن الفستا لم تدوّن طيلة عدة قرون، كما أن التسليم بهذه الروايات يؤدي إلى عدم ضياعها وتحريفها، بينما المعروف أن أكثر من ثلاثة أربعها .. إن أي: كتاب ينال هذا الاهتمام حفظًا وتدوينًا كفيلٌ باستمراره مع الزمان، وبخاصة أنه وجد بين دولة تقدستة وأمة تدين به، لكن الثابت عدم استمراره، مما يؤكد أن الروايات المذكورة مبالغٌ فيها وبعيدة عن الواقع. وقد اهتم علماء الدين الفارسي بشرح الفستا، وإحاطته بالحواشي التي تشرحه وتشرح شرحه وتبين شرح شرحه؛ وذلك واضح من الزِّند، وهو كتاب يشرح الفستا، وقد ألف بعد الفستا بمدة طويلة، والباذند وهو شرح للزند، والإياردا وهو شرح للبازند، وهذه الشروح كُتبت باللغة الفهلوية بلغة الفرس القديمة، وترجمها العلماء في العصر الحديث إلى عددٍ من اللغات الحية مع ترجمة الفستا، والعلماء المحدثون يرون أن أهم ما يوضّح العقيدة الدينية للفرس هو كتاب التراتيل المعروف باسم الياسنا، وهو القسم الثالث من الفستا، ويرون أنه يتضمن العناصر القديمة للزرادشتية، ويحتوي على أقوال زرادشت؛ ولهذا نجد العلماء يهتمون بدارسة هذا القسم وتحليله أكثر من غيره. التعريف بزرادشت ثانيا: التعريف بزرادشت: اختلف علماء الدين في حقيقة شخصية زرادشت؛ فمنهم من يرى أنها شخصية أسطورية لا وجود لها في الحقيقة، صنعها الكهنة ورجال الدين الفارسي، من

أجل تدعيم عملهم وتحقيق مكاسب لهم ولذويهم، وكل ما روي عن الإنسان اختلاق، وتأليف سواء كان منبعه دين قديم أو وضع بشري محدد، والقائلون بهذا لا يجدون دليلًا حقيقيًّا، وكل ما يستدلون به ما يروى عن نشأة زرادشت وحياته؛ حيث يرون تشابهًا بين ذلك وبين أحداث تعرّض لها رُسل الله من أمثال إبراهيم وعيسى، ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- وهذا الرأي لا يصح التسليم به لقيامه على الفرض المجرد من الدليل، بينما الموضوع له أهميته التي لا بد لها من البراهين القوية والأدلة الساطعة. وأيضًا فإن المكتشفات العلمية الحديثة تؤكد بطلان هذا الرأي، ومن العلماء من يرى أن زرادشت شخصية حقيقية، وأنه هو إبراهيم -عليه السلام- الذي ورد ذكره في الكتب السماوية التوراة القرآن الكريم، يستدل هذا البعض بما ورد في سيرة زرادشت من أحداث تشبه بعض معجزات إبراهيم -عليه السلام- وبعض أحداثه التي حدثت معه مثل نجاته -عليه السلام- من النار بعد أن ألقي فيها، ومثل تأمله في الكواكب والنجوم، ومثل دعوته إلى الإيمان بالواحد الخالق بكل هذه الظواهر ولجميع المخلوقات، وهذه الأدلة لا تَثبت مدعاها؛ لأن التشابه في بعض الأحداث في حياة شخصين أمرٌ ممكن، كما أن من أحداث سيرة زرادشت ما يشبه بعض ما جاء، وما حدث مع موسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مثل البَشريات والإرهاصات العديدة التي جاءت لأمه أثناء مولده، ومثل نجاته بصورة معجزة من محاولات قتله المتكررة، ومثل انتصاره على السحرة وإعجازهم، ومثل هذا التشابه جائز من غير أن يكون الشخصان شخصًا واحدًا. وأيضًا فإن الأدلة الثابتة تؤكد أن زرادشت ليس هو إبراهيم -عليه السلام-؛ لأن إبراهيم -عليه السلام- نشأ في بلدة أور ببلاد الكلدان، بينما زرادشت ولد بأذربيجان؛

ولأن إبراهيم رحل إلى مكة بينما زرادشت لم يرحل إلى بلاد الحجاز، ولم تكن له بها صلة؛ ولأن إبراهيم تزوج من سارة وهاجر، بينما زرادشت تزوج من امرأة واحدة هي هفويه، ولأن إبراهيم -عليه السلام- ظهر في القرن السابع عشر قبل الميلاد بينما ظهر زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وكل هذا يؤكد أن زرادشت شخصية حقيقية، وليس هو سيدنا إبراهيم -عليه السلام-. وإذا ثبت هذا، فمن يكون زرادشت؟ ولد زرادشت في مدينة أذربيجان الواقعة غربي بحر القزوين في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ويروى أن أباه كان يرعى ماشيته ذات يوم إذ تراءى له شبحان نورانيان، اقتربا منه وقد ناله وقدما له غصنًا مقدسًا، وأمراه أن يحمل الغصن ويقدّمه لزوجته؛ لأنه يحمل في كيانه الطفل الروحاني، وصدع أبوه بالأمر، فحملت زوجته لليلته، وبعد خمسة شهور من الحمل أتت لأمه البشارات المتتالية، وعندما ولد لم يبكِ كسائر الأطفال، وإنما فَهِق بصوتٍ عالٍ اهتزت له أركان البيت، وهربت الأرواح الشريرة، وارتعد كبير السحرة فرقًا؛ لأنه يعلم أن هذا الوليد سيقدر على السحرة والكهان ويخرجهم من البلاد. وقد تعرض زرادشت لمحاولات متعددة من السحرة لقتله بأن ألقي في طريق قطيع كبير من الماشية لتدوسه، لكن بقرةً أسرعت نحو الطفل ووقفت فوقه تحرسه حتى مر القطيع، وألقي في وكرَ الذئاب لتأكله أو ليموت جوعًا لكن الذئاب تسمّرت وأقبلت عنزتان، ودخلتا الوكر معه لترضعاه، ولما بلغ زرادشت السابعة من عمره أرسله أبوه إلى حكماء الفرس؛ ليتعلم منهم، ويتلقى الحكمة، واستمرت هذه الفترة ثمانية أعوام تزوج خلالها، وعاشق مهنة خدمة المرضى وعلاجهم،

ولم تكن مصاحبة آلام الناس وأحزانهم النهاية في نشاط زرادشت، بل إنها كانت البداية؛ حيث أخذ يتساءل ويبحث عن مصدر الشرور والمتاعب، ويعجب من عدم سيطرة الخير على كل شيء، وقرر هجر زوجته والانقطاع للتأمل والبحث فوق جبل سابلا. وذات يومٍ أدرك من تأمله في الليل والنهار أن العالم يضم الخير والشر كما يضم اليوم الليل والنهار، هكذا في صورة مستمرة من غير طغيان أحدهما على الآخر، ومع اكتشاف لهذه الحقيقة سأل نفسه: لماذا خلق الخير والشر معًا؟! ولم يدم به التساؤل طويلًا، فلقد أتاه كبير الملائكة، وقاده إلى الله تعالى أهورامزدا إله النور الأعظم، الذي يحيط به ضياء عظيم؛ حيث تلقى كلمات الحق والحقيقة وتعلم أسرار الوحي المقدسة، واستمع إلهه للنبوة. ونزل زرادشت للجبل حاملًا رسالة الله للإيرانيين، ومعه كتاب الوحي، لكنه قوبل بالإعراض والصدود من قومه، ومن عشيرته الأقربين، وقضى في دعوته عشر سنوات متحملًا الأهوال صابرًا على الأذى محتسبًا ذلك عند أهورامزدا، الذي ظل يؤيده ويقوِّي عزيمته، ويثبّت عقيدته بالوحي المتوالي، ويقال: إن الله كلامه شفاهة وظهر له كبار الملائكة، وبعد أن جاوز عمره الأربعين آمن أخوه بدعوته، وأخبره بأنه يدعوه بأفكار صعبة لا يفهمها إلا المتعلمون والخاصة، فبدأ زرادشت لساعته يدعو المتعلمين والخاصة مبتدئًا بالملك كشتسيب والملكة والأمراء المقيمين في بلخ، وعقد الملك مناظرة بين حاشيته وبين زرادشت حتى تبين له صدق الدعوة، فآمن بالزرادشت واتبعه. لكن الكهنة دبّروا مؤامرة كاذبة لزرادشت أدت بالملك أن يسجنه بتهمة السحر والشعوذة، وحدث أن جواد الملك أصيب بمرض غريب أدى إلى تقلص قوائمه

الأربعة ودخولها في بطنه، ولم يعد يظهر منها سوى الأطراف، وجمع المالك أشهر الأطباء لعلاج الجواد لكنهم عجزوا وأصيبوا بالحيرة أمام هذا المرض العجيب، وبلغ الخبر زرادشت وهو في السجن، فأرسل إلى الملك أخبره أنه يمكنه علاج الجواد، فجيء به على الفَور، فلما حضر طلب من الملك شروطًا تتحقق إذا أبرأ الجواد، فَقبل الملك ونفذ الشروط بالفعل؛ حيث آمن به حينما برأت ساقه الأمامية اليمنى، وآمن ابنه حينما برأت ساقه الأمامية اليسرى، وآمنت الملكة مع شفاء الساق الثالثة، وحاكم المتآمرين على زرادشت بعد شفاء الساق الرابعة. ومضت الأيام والخوارق تظهر لزرادشت حتى تم له النصر، وانتشرت دعوته في إيران بمساعدة الدولة وعلى رأسها الملك والأمراء، وبعد أن اتجه زرادشت بدعوته إلى مملكة توران التي رفضت الدعوة، واشتبكوا في حرب مع الإيرانيين، وحاصروا مدينة بلخ واستولوا عليها وأقبلوا على زرادشت وهو يصلي في المعبد، وطعنوه في ظهره فسقط صريعًا، ومعه عدد كبير من الكهنة، وكان ذلك في سنة ثمانمائة وثلاث وخمسين قبل الميلاد تقريبًا، وعمره سبعة وسبعون عاما. ولكن هل يعتبر زرادشت رسولًا من الله تعالى لقومه؟ هنا يختلف علماء الأديان؛ حيث يذهب البعض إلى التسليم بسائر ما رويناه في نشأته، ويرى ما فيها من إرهاصات ومعجزات، وقيام زرادشت بدعوة قومه إلى توحيد الإله أهورامزدا دليلًا على رسالته ونبوته، ويمثل هذا الاتجاه الأستاذ حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت الحكيم نبي قدامى الإيرانيين)؛ حيث يقول: "إن هذا الرجل إذا قيس بمقياس التاريخ، وجب أن يعدّ في صف كبار الأنبياء الذين ظهروا في شتى البيئات والعصور، وأرشدوا الناس إلى طريق الحق والخير؛ لما

عرف عنهم من دقة استقامة، وشدة إخلاص لربه، وتفرغه لتقديسه، وقوة إيمانه برسالته، وشدة تحمسه في نشر دعوته" والكاتب يبين أهم الأسباب الدافعة للقول بنبوة زرادشت، ويوجزها في المعجزة، ونزول الوحي والدعوة إلى الإيمان بإله واحد هو أهورامزدا؛ أي: أنا خالق الكون. يقول الشهرستاني: "ودين زرادشت عبادة الله، والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث" ومن أقوال الزرادشت: "النور والظلمة فصلان متضادان، وهو مبدأ موجودات العالم، وحصلت التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة، ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، ولا ضد ولا ند، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة، لكن الخير والشر إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، والباري هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة". ويشير الشهرستاني إلى ما يُنسب إلى زرادشت من معجزات، ومنها دخول قوائم فرس كشتاسب في بطن الفرس، وإطلاق زرادشت لها بعد عجز الأطباء، ومنها أنه مر على أعمى فوصف لقومه حشيشة عصروا ماءها في عين الأعمى فبرئ لتوِّه، وعلى هذا الاتجاه سار الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله)، وقد سلّم به ابن حزم بدون قطع، وهو يعتبر أهل فارس أهل كتاب بصورة عامة، ويستدل على هذا بأخذ الجزية منهم وهم المجوس. هذا وهناك فريق آخر يرى أن زرادشت لم يكن رسولًا مبعوثًا من الله، وأن دعوته عبارة عن محاولة تطوير المجوسية القديمة وتنقيتها من بعض تعاليمها التي بان فسادها بسبب الرقي العقلي أو بسبب الاتصال بأصحاب الديانات الأخرى، يستدل أصحاب هذا الاتجاه بأن ما رُوي عن حياة زرادشت من معجزات أو

خوارق هي من فعل الكهنة، ومن الأساطير التي روجها العامة، كما أن دعوة زرادشت يشوبها الشرك وتعدد الآلهة؛ حيث تقدس النار وتدعو لعبادتها، كما أنها تنظر إلى أهورامزدا وأهرومن على اعتبار أنهما إلهان اثنان. وبالنظر في هذه الاتجاهين نلمح ضعف الرأي الثاني؛ حيث لا دليل معه حول ما يزعمه من أسطورية نشأة زرادشت، كما أن الشرك وتعدد الآلهة، وعبادة النار وُجدت في المجوسية، وهي ليست دعوة زرادشت؛ إن المجوسية لونٌ من ألوان الشرك ظهر منذ فجر التاريخ، وقد انتشرت في ممالك فارس القديمة، وتمكنت من أن تحرّف دعوة زرادشت بعد وفاته، والذي ننبه عليه هو أن المجوسية ليست من الزرادشتية، وليست هي الزرادشتية، هذا من جهة، ومن جهة ثالثة لا نؤيد الرأي الأول على إطلاقه؛ لضياع أغلب كتب الزرادشتية، كما أن البعض الباقي يداخله شك كبير في إثبات صحة نسبته لصاحبه، كما لا ننكره على إطلاقه؛ لأن إرسال الرسل في سائر الأمم أمرٌ مقرر شرعًا عند أصحاب الملل، ومن الجائز أن يكون زرادشت واحدًا من هؤلاء الرسل. إن الدعوة الإلهية تتضمن بشكل رئيسي الدعوة إلى الله الواحد الأحد المتصف بكل كمال يليق به الخالق لكل شيء، وتتضمن القيام بعبادات ونسك لهذا الإله، كما تشتمل على الأخلاق الفاضلة، والتعريف باليوم الآخر بما فيه من حساب، إن أي: دعوة تتضمن هذا هي دعوة رسول مرسل، فإن كان الرسول قد ذُكر في الكتب السماوية نؤمن برسالته ونصدق بدعوته، وإن لم يرد ذكره في الكتب السماوية، فإننا نتوقف مكتفين بالتسليم المجمل في قضية الإيمان بالمرسلين، وعلى الجملة فإن الأولى هو التوقف في القطع برسالة زرادشت مع الاكتفاء بدراسة تعاليمه كما وردت عند العلماء والإحاطة بما ذُكر في هذا المجال.

أركان الدين الفارسي.

أركان الدين الفارسي ثالثا: أركان الدين الفارسي: عرف الفارسيون منذ القديم -وقبل زرادشت بزمن سحيق- الدين، ولكنه كان دين قائمًا على تقديس الطبيعة، واتخاذ مظاهرها آلهة يعبدونها، وكانت تصوراتهم الدينية لا تزيد عن الأمل في نماء الزرع، ووفرة الخير والبركة، وقد ألّهوا من بين من ألّهوا التماثيل والأصنام، ووظّفوا لخدمتهم الرهبان والكهنة الذين أصبحوا طبقة مميّزة عن سائر الإيرانيين، جعلتهم يزعمون للناس وساطتهم الحتمية لمن يتقرب للآلهة، وهكذا كانت فكرة قُدامى الإيرانيين عن الدين، وهم قدامى المجوس الذين كانوا قبل زرادشت، والمعلومات عن هذه الفترة تعتمد على الظن في أغلبها؛ لعدم تدوينها وحفظها بطريقة ما، وجاء زرادشت وظهرت الكتب المقدسة مفصِّلة جوانب دين عرف بدين الفرس أو بالزرادشتية نسبة لهذا الحكيم الذي له الفضل الأكبر في نشره بين الإيرانيين. يقول جميس هنري برستيد: "الزرادشتية من أنبل الديانات التي ظهرت في العالم القديم؛ حيث دعت كل إنسان، وأهابت به أن يختار أحد الطريقين؛ إما أن يملأ قلبه بالخير والنور أو ينغمس في الشر والظلمة؛ ليلاقي جزاءه ويحاسب على ما آتاه". فما أركان هذه الديانة إذن؟ تتحدث الفستا وشروحها عن جوانب الدين الفارسي كما دعا إليه زرادشت بالتفصيل، وتحدد أهم معالمه وهي كما يلي:

1 - الإيمان بالإله الواحد: تدعو الزرادشتية إلى الإيمان بإله واحد قديم أزلي مجرد من الشهوات لم يولد، ولن يموت، وأقوى الناس يشعرون بضعفهم أمامه، ولا يقدر على إدراك حقيقته عقل بشري، ومن أجل أن يتمكن الناس من تصور هذه القوى الغيبية، فقد رُمز لهذا الإله برمزين ماديين مشاهدين هما الشمس والنار؛ الشمس في السماء تمثل روح الإله في صورة يستطيع الإنسان إدراكها لما امتازت به من صفات كالإشراق وبعث الدفء والسمو عن نزعات الشر ومجاله، والنار في الأرض هي العنصر الذي يمثل للناس قوة الله العليا، فهي قوة مطهرة باقية نافعة، ويسمى هذا الإله أهورامزدا، ومعنى الاسم: أنا الله الخالق. ومما يدل على هذه العقيدة من نصوصهم قول زرادشت: "إلى أي أرضٍ أفر! وإلى أي اتجاه يكون المهرب! إلى النبلاء والسادة وهم يقاطعونني أم إلى الناس وهم غير راضين عني أم إلى حكام الأرض الخونة؟ كيف أبلغ رضاك يا أهورامزدا؟ ألجأ إليك لتكون لي عونًا يعطيه صديق لصديقه وعلمني بالحق كيف أحظى بالفكر الخير" وهذا النص يشير إلى ربه القادر حيث يتوجه إليه بالشكوى، ويطلب منه العون. وقد أورد الشهرستاني مساءلات جرت بين زرادشت وبين الإله أهورمزدا، تبين أن دين الفرس قائم على أن الله واحد، قال زرادشت: ما الشيء الذي كان ويكون، وهو الآن موجود؟ قال الإله: أنا والدين والكلام؛ أما الدين فعمل أورمزدا، وأما الكلام فكلامه، وصارت بقية الأسئلة والأجوبة حول حكمة خلق الكون، وعن أصل الخلق، وعن الرسالات السابقة، وعن ملائكة الوحي، ويبدو أن المراد بالفكر الخيّر في كلام زرادشت يعني أحد هؤلاء الملائكة العظام،

وتبدو وحدانية الله عند الزرادشتيين من العهد الذي يجب أن يأخذه الزرادشتي على نفسه، وفيه يقول: لن أُقدِم على سلب أو نهب أو تخريب أو تدمير، ولن آخذ بالثأر، وأقر أني أعبد الإله الواحد أهورمزدا، وأني اعتنق دين زرادشت، وأقر أني سألتزم التفكير في الخير والكلام الطيب والعمل الصالح. ومن المسلم أن الله الواحد الخالق قد أوجد عديدًا من القوى المخلوقة وفق حكمة معينة ومنها قوة الخير وقوة الشر، وإليهما ترمز الزرادشتة بالنور والظلمة؛ النور رمز الخير ويطلقون عليه اسم شترا، والظلمة رمز الشر ويطلق عليها اسم أهرمن، وتؤكد النصوص أن هاتين القوتين عنصران أساسيان في قوام الحياة، أوجدهما الإله الخالق؛ لينشط كلٌّ منهما من مجال خاص به، جاء في اليسنا الثلاثين ما يلي: في البداية الروحان اللذان هما توءمان أحدهما الخير والآخر الشر، في التفكير وفي الكلمة وفي الفعل، وبين هذين العاقل يحسن الاختيار، وليس كذلك الأحمق، وعندما يرتد أحد الروحين عن الآخر يعلمان أساس الحياة للحياة، وفي النهاية تكون أسوء الحال للأنذال، ولكن للأخيار الفكر الخيّر، من هذين الروحين اختاروا الشر لعمل السيئات، ولكن الروح القدس يكون بجانب العدالة ويعمل آنئذ كل ما من شأنه أن يرضي الله الحكيم بالأعمال الخيرة، وهذا النص صريح في أن قوة الخير وقوة الشر ليست محددة في شيء مادي معين، لكن يرمز لهما بشيء معين وأنهما من خلق الله وإيجاده. وبعد وفاة زرادشت دخل التغيير والتحريف في هذه العقيدة الموحِّدة، فظهر من قال بأن هناك إلهين هو إله النور، وإله الظلمة، ثم قدست النار، وعبدت وأقيمت لها المعابد والبيوت، وأصبحت الديانة الفارسية بعد هذا التحريف تعرف

بالمجوسية، ذاك الاسم القديم الذي عرفت به أديان الفرس قديمًا، وأشهر المحرِّفين في الزرادشتية ماني ومزدك وديصان وملقيون، وقد عرَّف الشهرستاني معتقداتهم بالتفصيل، وسوف نجملها بعد الانتهاء من الزرادشتية إن شاء الله تعالى. العقيدة الثانية: الإيمان باليوم الآخر: تدعو الديانة الزرادشتية إلى الإيمان بالآخرة حيث يحاسب الإنسان على ما عمل قبل الموت؛ لينال جزاءه العادل في الجنة أو في النار، وتبين الزرادشتية منزلة نبيها في الآخرة، فتذكر أن بيده تقرير المصير لأخطاء الناس، ومن اليسنا الفقرة 44 نقرأ: "حقًّا إنه هو النبي المرسل الذي تُوضع لروحه الساحرة كل خطايا البشر، ومع ذلك فدأبه كصديق تحيا عوالم الحياة من جديد". ويلاحظ أن النص وهو يثبت هذه المنزلة لزرادشت لم يوضح سببها وهل تكون في منزلة الشفاعة أو في صورة أخرى؟ المهم أن عقيدة الفرس تدعو إلى الإيمان باليوم الآخر، ويلاحظ كذلك أن للمتزوجين منزلة أعلى من العزاب، وأن من له بيت أسرة أفضل في الآخرة ممن لا أسرة له. وتعتبر أكبر الكوارث التي تحل بالرجل ألا تكون له ذرية، ويذكرون أن أول سؤال يحاسب عليه الميت يدور في هذه المسألة، ولا يفترق تصور العقيدة الزرادشتية لما يحدث في اليوم الآخر عن التصور الإسلامي إلا في مسائل قليلة؛ فعقيدة الفرس: أن الميت يحاسب عقب موته، وعندهم أن الموتى يُبعثون من رقادهم حينما تقوم الساعة، ويحشرون في مكانٍ للحساب، وعندهم أن الجنة والنار منازل عديدة، ويختلفون عن التصور الإسلامي في أن الشقاء والسعادة في الآخرة تلحق الروح فقط، وفي أن الجنة تقع في أقصى شرقي جبال البرز، حيث

يتخيلون الجبل عاليًا إلى مستوى النجوم، وعلى الجملة فإن العقيدة الزرادشتية تؤمن بالآخرة وما فيها. ثالثا: العبادات: يقوم الزرادشتي بعبادات معينة يؤديها للإله أهورامزدا، وأهم العبادات مجموعة من الأدعية يتلوها وهو يناجي الإله أو الملائكة أو الأرواح الهائمة، ودور العبادة تعرف بالهيكل؛ حيث تقام الصلوات فيها خمس مرات في اليوم، والهيكل على صورة دائرة في وسطه تقاد النار التي يتجهوا إليها الناس في صلواتهم التي يؤدونها في أوقات مرتبطة بحركة الشمس، كالشروق والزوال والغروب، والصلاة عبارة عن أقوال معينة يرددها المصلي، وهو متجهٌ إلى النار في ثبات، والأقوال هي: أرجو منك أيها الرب الخالق المطلق القدير أن تغفر لي ما ارتكبت من سيئات وما دار بخلدي من تفكير سيئ، وما صدر عني من قولٍ أو عمل غير صالح، إلهي أرجو منك أن تباعد بيني وبين الخطايا حتى أحشر يوم الدين مع الأطهار الأخيار. وفي مجوسية الفرس المتأخرة نلحظ تقديسًا وتعظيمًا للنار؛ فلا ينبغي للنار أن تطفأ، ولا يلقى عليها ماء، ولا تصلها أشعة الشمس، والبيت الطيب هو الذي توقد فيه نار ولا يخلو معبد منها، وكانت المعابد تسمى بها، وتعرف باسم هيكل النار، ورجال الدين الفارسي يسمون بالموابذة، وعملهم الوعظ والتدريس والتعليم، ولهم منزلة كبيرة في المجتمع، ولهم معاونون يُعرفون بالموابذة، وهم معينون لإقامة الشعائر في المعابد وحراسة النار والمحافظة عليها.

وهذا نص ننقل ترجمته الحرفية من اليسنا 44 يوضح جوانب العقيدة الزرادشتية، وهو على صورة حوار بين زرادشت وأهورمزدا: عن هذا أسألك يا أهورمزدا، فأبنْ لي الجواب! من كان عند الخلق أول أبٍ للحق؟ من رسم للشمس والنجوم طريقها؟ إذا لم تكن أنت فمن قرر نماء وشحوب القمر؟ أريد أن أعرف هذا أيها الواحد الحكيم، عن هذا أسألك، فأبن لي الجواب! من أقر الأرض تحت والسماء من فوق بسحابها لا تتحرك؟ من أسرج للريح جيادها؟ عن هذا أسألك فأبن لي الجواب! أي صناع خلق الضياء والظلام؟ أي صناع خلق النوم واليقظة؟ من خلق الصبح والضحى والأمسية؟ عن هذا أسألك فأبن لي الجواب! من شرع العبادة مقدسة مع الملكوت؟ ويتحتم على المرء أن يسترشد بالدين وبالعبادة وهي جميعًا تجعل أموري في هناء، عن هذا أسألك فأبن لي الجواب! هل سأصل بعونك إلى هدفي؟ هل سأحظى ثوابًا من الحق؟ الآلهة الزائفة هل هي آلهة حقًّا؟ هذا النص يبين عقيدة الزرادشتيين في الإله والعبادة والثواب، بصورة مجملة. رابعا: الشريعة والأخلاق: تهتم الديانة الزرادشتية بالشرائع والأخلاق، وبخاصة في الشروح التي تعلقت بالفستا، ومن أهم هذه النظم: العمل والإنتاج الزراعي، وتربية الماشية، كما تحث على النظام والنظافة وصيانة النفس والوطن، كما تدعو إلى مجموعة من الفضائل الأخلاقية التي أساسها الفكر الطيب، والكلم الطيب، والعمل الطيب، وفي نصوص الفستا دلالات واضحة على الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتحلى بها من يدخل في دين زرادشت.

هذه هي أهم أركان الدين الفارسي كما جاءت في مصادره المقدسة، ومما تفرّع عن هذه الديانة ديانة ماني ومازدك، أو المانوية والمزدكية؛ حيث ظهر ماني ومازدك في بلاد فارس، وقد نادى كل منهما بدعوة خاصة دينية في إطار الزرادشتية إيجابًا أو سلبًا، وتعد هاتان الدعوتان أكبر الحركات التحريفية في الدين الفارسي؛ إذ أبعداه عن كل مضمون صحيح أو التقاءٍ مع بعض المبادئ المسلّمة في الأديان الصادقة، وكان لهذين الرجلين آثارٌ واضحة نظرًا لصلتهما بالسلطة ورجال الحكم، الأمر الذي ساعدهما على فرض آرائهما بالقوة والعنف، ويلاحظ أن هذين الرجلين ظهرا بعد ظهور عيسى -عليه السلام- ولذلك كان اختراعهما للدين عبارة عن مزج للفكر البشري في ثنايا فكر ديني صحيح. يقول الشهرستاني: "إن الحكيم ماني زعمَ أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين؛ أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان، لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين، داركين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الخير متحاذيان تحاذي الشخص والظل، وفي رأي ماني: أن ما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور، وما فيه من مضرّة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة، وهذان القديمان -النور والظلمة- يمتزجان ويفترقان وفق فلسفة معينة عند ماني، ويرجع سبب الامتزاج إلى أبدان الظلمة التي تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور فكلّفت الأبدان لممازجة النور فمازجته، فرأى ملك النور ذلك فبعث خمسة أجناس نورانية امتزجت بخمسة ظلامية، وبذلك خالط الدخان الهواء والحريق النار والنور والظلام والسموم الريح والضباب الماء، ولما ظهر هذا

الامتزاج لملك النور خلق العالم كله على هيئة الامتزاج مستعدًّا لتخلص كل عنصر من غيره، وبذلك يحدث الخلاص التام في يوم القيامة والمعاد، وقد ظهر ماني هذا بعد ظهور المسيحية. وحديث ماني عن ملك النور وملك الظلمة يعتبرهما الإلهين؛ لأن كلًّا منهما محيط بعالمه ظاهر وباطن، قديم لا أول له، آخر لا نهاية له، وقد تضمنت دعوة ماني تكاليف معينة كتأدية أربع صلوات في اليوم، وإخراج عشرٍ من الأموال، وترك القتل والعدوان، والسرقة، والزنا، وهجر عبادة الأوثان، والكذب، والسحر، كما تتضمن الدعوة إلى الحق والتمسك بالأخلاق الفاضلة، ويعترف ماني برسالة عددٍ من الرسل منهم عيسى -عليه السلام- وينكر رسالة موسى -عليه السلام، ولماني -هذا- تصور معين لقيام الآخرة التي يحاسب فيها الناس على أعمالهم؛ حيث ترتفع الأعمال النورانية إلى فلك القمر فيكبر شيئًا فشيئًا، ويتغير صوره تبعًا لذلك، فإذا بلغ منتهاه أخذ يوصل للشمس التي توصل بدورها إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال الأمر كذلك حتى لا يبقى نور في الأرض، فيسيطر الملك الذي يجذب السموات، فيسقط الأعلى على الأدنى، وتأتي النار على كل شيء، هذا عن أفكار ماني. أما مازدك، فلقد ظهر زمن الملك قباز؛ قبيل ظهور الإسلام، كان يقول بالنور والظلمة كأصلين قديمين كما قال ماني، إلا أنه يفترق عنه في أن النور يفعل بالقصد، والظلمة تفعل بالصدفة، والنور عالمٌ حساس، والظلام جاهل أعمى، وإن المزج بالاتفاق والخلاص بالصدفة، ويدعو مازدك إلى الطاعة وترك الكراهية والقتال، ولقد دعا مازدك إلى شيوعية عامة في المال والنساء، حتى لا يُوجد

آراء العلماء في دين الفرس.

كراهية بين الناس؛ ولذلك اعتبر من أقدم الشيوعيين في العالم، وقد كلّف مازدك أتباعه بعبادات معينة، وصور الآلهة المعبودة بصور جسمية؛ حيث جعله قاعدًا على كرسيه العلوي يعاونه أربع قوى من ورائهم سبعة آخرون وهكذا. وعلى نمط ماني ومازدك ظهرت آراء متعددة لأشخاص آخرين، وكلهم يحرّفون تعاليم زرادشت، ويخلطونها بالآراء الفاسدة الباطلة. آراء العلماء في دين الفرس رابعا: آراء العلماء في دين الفرس: اتخذ العلماء مواقف متعددة في تفسير نشأة الزرادشتية وتطورها؛ فمن قائل بالتطور الديني على أساس أن عقائد الفرس بدأت بالخرافات والأساطير وتأليه الظواهر المحسوسة مع تعدد الآلهة، وأنها استمرت في التطور حتى عرفت التوحيد الخالص في المراحل الراقية، ومن قائل بأن الرسالات الإلهية ظهرت في بلاد الفرس، وأنها هي التي علّمت الناس هناك وحدانية الله تعالى. وهكذا إن الحقائق العلمية تؤيد القول بوجود رسالات صحيحة في الفرس على الأساس الذي بيناه من قبل، وهو إرسال الرسل إلى جميع الأمم، ولأن العقول البشرية لا تصل وحدها إلى التوحيد الخالص بحقائقه التي يأتي بها الرسل، وأيضًا فإن التطور يقتضي الترقي المستمر نحو الأفضل، بينما في أديان الفرس نرى أن دعوة من جاءوا بعد زرادشت كانت انحدارًا وانتكاسًا حيث دعا ماني ومازدك وغيرهما إلى تعدد الآلهة بعدما دعا زرادشت إلى التوحيد، ومع ترجيحنا هذا، فإن القول بأن زرادشت هو الرسول المبعوث لا نعلّق عليه نفيًا أو إثباتًا؛ حيث لا

تنهض الأدلة مثبتة أو نافية، وكل ما يمكن القول به أن النبوة قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليست ممنوعة، لكن الإيمان برسول معين توقف على ورود ذكره في القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي قص أخبار بعض الرسل، وأشار إلى وجود رسل لم يرد لهم ذكر؛ ولذلك لزم التسليم بإمكانية إرسال رسول لكل أمة من غير تعيين شخصه ما لم يرد له ذكرٌ في القرآن الكريم. وهذه خلاصة نذكرها عن دين الفرس: الديانة الفارسية من الديانات الآسيوية القديمة، التي جذبت انتباه الباحثين وعلماء الأديان؛ إذ جاءت متكاملة الجوانب واضحة المعالم متميزة عن كل الديانات الآسيوية القديمة، ولقد عاش الأقدمون من الفارسيين حياة بدائية، ومارسوا عبادات وثنية، واصطنعوا دينًا خرافيًا يعتمد على السحر والشعوذة، ويألِّهوا مظاهر الطبيعة، فعبدوا الشمس إلهًا؛ لأنها تنتج المحاصيل وسموها الإله نِثرا، وعبدوا الأرض إلها للخصوبة لخصوبة تربتها وسموها الإله أنيتا، كذلك جعلوا المطر إلهًا والريح إلهًا والسحاب، وكل ما ينفعهم في البيئة الزراعية وحياتهم الرعوية إلهًا، يتوجهون إليه بالتقديس والدعاء، ويتقدمون إليه بالقرابين من أطيب طعامهم، وفي صناعة آلهتهم من الأصنام بمختلف أنواع المادة المصنّعة باختلاف الطبقات؛ فالفقراء أصنامهم من الطين والحجارة طبقة الموسرة من الفضة، والطبقة الغنية من الذهب، وأقامت المعابد، وتقربت للآلهة بواسطة الكهنة. وظلت الأحوال الدينية هكذا في بلاد فارس حتى جاء زرادشت الذي ولد على الراجح عام 660 قبل الميلاد، وهم يجعلون لزرادشت معجزات كثيرة عند

ولادته، وفي حالة الحمل به، ولما وُلد زرادشت أخذ يدعو إلى الدين الذي أرسل به، وينهى الناس عن الأوثان والشيطان، ولكن الناس في البداية صدوه وأعرضوا عنه، فاشتكى لربه أهورمزدا "الإله الأعظم"، وبذا يقول الشهرستاني: "وكان دين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما كانت دعوة زرادشت تقوم على ذلك وعلى توحيد الله -عز وجل- ذهب بعض العلماء أنه كان نبيَّا مرسلًا من الله لأهل فارس ووصل بهم الأمر إلى أن قالوا: إن زرادشت هو إبراهيم -عليه السلام-، وهذا قول باطل مردود، وإن كان ما ورد عنه -إن صح- لا يحول دون نبوته ورسالته، والله أعلم. وهناك المانوية والمازدكية من ديانات الفرس المعروفة أيضًا كما أشرنا، مما يؤكد على تطور العقيدة الزرادشتية على يد البشر، فواضح أن الديانة الزرادشتية كانت في أصلها ديانة توحيد منزهٍ خالص دُعي إليها في وقت كانت فيه المجوسية تقول بأصلين أو مبدأين أو خالقين، وكان الوثنيون يعبدون الكواكب والأصنام، ولا ريب أن للزرادشتية مرجعًا من الوحي: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) فما يستطيع التطور الفكري أن يصل إلى التوحيد الحقيقي المنزه بدون معونة من الوحي أو اقتباس من ديانة موحى بها. وواضح أن ديانة إبراهيم قد سبقت الزرادشتية بحوالي عشرة قرون، فلا مانع من أن تكون الزرادشتية مقتبسة منها أو منقولة عنها، فلما تدخل الفكر البشري الخالص مدفوعًا بطبيعة البشر العنصرية المادية الأنانية الغريزية العاجزة- أصيبت الزرادشتية بكثيرٍ من التحريف والتبديل، وأصبحت ديانة الشرك، يعتقد أتباعها بوجود إلهين أحدهما أهورامزدا، ويجعلونه إلهًا للخير، والآخر أهريمان ويجعلونه إلهًا للشر، ويرتبون على هذا الاعتقاد صراعا دائما بينهما؛ لأن كل منهما يرمي

إلى السيطرة على العالم، ويظهر أن هذا التراجع الفكري نشأ عن عدم قدرة العقل الإنساني على مجاراة الوحي في تجريد الذات الإلهية وتنزيهها، بعدما فُقد الموجهون أو قلوا. فقد رمزت الديانة الزرادشتية إلى قدرة الذات الإلهية برمزين ماديين محسوسين؛ أحدهما النور ممثلًا في الشمس، والآخر النار، ومن ثمّ كان حرص الديانة الزرادشتية على أن يوقد في كل هيكل من هياكلها شعلة من النار، وأن تبقى مضيئة متوهجة يتعاهدها رجال الدين الموابذة والهوابذة، فيقدمون لها وقودًا من خشب الصندل وغيره من الأعشاب والمواد العطرية، وترتل حولها الأدعية وتقام الصلوات، وقد بدأ الانحراف بالمبالغة في شأن الرمز كعادة الإنسان دائمًا حتى انتهى بتقديس النار وعبادتها لذاتها، بعد أن كانت مجرد رمز لقدرة الإله، ثم أشركوا مع النار في التقديس بدرجة أقل من النار، الماء والتراب والهواء، وهكذا الإنسان في كل زمان ومكان، يبدأ انحرافه عن الحق بالمبالغة في تقدير بعض الأشياء أو المظاهر أو الناس، ثم لا يلبث هذا التقدير أن يلبس ثوب التقديس؛ ليحلّ الزيف محل الحقيقة، والباطل محل الحق، حتى يتدخل الوحي أو الرجوع إلى الوحي الصحيح لتصحيح مسار الإنسان وتوجيه العقل أو الفطرة المستقيمة إلى الصراط المستقيم. وقد يبدأ هذا الانحراف، وينتهي إلى نتائجه السيئة في دورٍ من أرقى أدوار الحضارة المادية لأمة من الأمم إن سُمي هذا التقدم المادي البحت حضارة، كما قد يبدأ تصحيح مسار الإنسانية في دورٍ من أسفل أدوار الانحطاط البشري المادي والعقلي أيضًا، وينتهي إلى نتائج عظيمة وخيرة للمادة والمعنى إن صح المثل.

هذه هي الحقيقة يؤيدها الواقع المادي للأمم والحضارات كما رأينا، وكما يتضح هذا من تغير الديانة الزرادشتية إلى ديانة مانوية أو مازدكية، فهذه المانوية التي ظهرت على يد ماني بن فاتك الحكيم، وذلك بعد اضمحلال المسيحية أي: بعد ظهور دين سماوي صحيح، تعرّض للتحريف ودخلته الأهواء البشرية، وتنازعته الأغراض الدنيوية، فكان ماني أو مانو يقول بنبوة المسيح -عليه السلام- ولكنه أدخل مع هذا القول تلك النزعة التي كثيرًا ما تصيب عباد القديم، فعاد إلى مجوسية الفرس القديمة، واقتبس منها القول بأن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين؛ أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم. ثم اختلفت المانوية في مرجع الخير والشر، ومدى ارتباطهما بالنور والظلام، ثمّ كانت المازدكية امتدادا للمانوية، وصورة جديدة للتدخل البشري، وكيفية خضوع البشر لأهوائهم وأغراضهم الدنيوية، فكان مازدك يقول بالأصلين، لكنه ادعى أن النور يعمل بالقصد والاختيار، أما الظلام فيعمل بالصدفة والاتفاق، وأن النور بهذا يكون عالمًا حساسًا، بعكس الظلام الذي يصير جاهلًا لا يدرك ولا يحس ولا يرى، ويترتب على كل هذا أن المزاج يعمل هو الآخر بالصدفة والاتفاق، ولا يعرف قصدًا ولا اختيارًا، وكذلك النجاة والخلاص يقعان بالصدفة والاتفاق لا بالاختيار، وكان مازدك يحرص في اعتقاده على تعاون الناس واتفاقهم، كما يحرص على تحقيق الحب والمودة في حياتهم، وراح يضع خطةً لتحقيق ما يحرص عليه، فوضع أوامره العامة ومنهياته في: 1 - عدم المخالفة. 2 - عدم المباغضة.

3 - عدم القتال. أما رؤياه لما يُحقق ذلك، فقد حددته في أسباب ما يراه يوقع المخالفة والمباغضة أو المقاتلة، وهي النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والهواء والكلأ والنار، وحكي عنه أنه أمر بقتل النفس -أي: الانتحار- لتخلص من الشرّ ومزاج الظلمة، العقيدة عند مازدك برؤية العبيد قاصرة، وبعقلية البشر المستقلة العاجزة، كان مازدك يعتقد أن معبوده يجلس على كرسيه في العالم العلوي، ثم يصور نفسه ولأتباعه هذه الجلسة بصورة الملك أو القيصر أو الإمبرطور في العالم السفلي، ويقرّب الصورة أكثر فيذكر خسروبزى، وبين يديه أربعة أشخاص، وكذلك إله مازداك بين يديه أربع قوى؛ قوة التمييز، وقوة الفهم، وقوة الحفظ وقوة العلم، وهذا العدد هنا يدبر أمر العالم بسبعة من ورائهم، وهذه السبعة تدور في اثني عشر ... إلى أخر هذا الكلام. وكل إنسان تجتمع له هذه القوى الأربع، والسبع والاثنى عشر تصير ربانيًّا في العالم السفلي ويرفع عنه التكليف، وهكذا لا يزال العقل الإنساني يسبح وراء خيالات وأوهام يبنيها على أساس أو على غير أساس، حتى ينحرف عن الحقيقة أو يحرّفها أو يتلفها ويفسدها، وهكذا كان مازدك والمازدكية، وما تفرع عنها من فرق شملت بلاد فارس ونواحيها، وما تفرع للقول بالأصلين النور والظلمة وقدرتهما نفيًا وإثباتًا، قصدًا واختيارًا، أو طبعًا واضطرارًا،

كل هذه الاجتهادات الإنسانية لا تمثل غير الدليل الحي على أن البشر أعجز من أن يصلوا إلى الحقائق الدينية الصحيحة من غير الاستناد إلى الوحي الصحيح مهما كانت درجة حضارتهم المادية أو تقدمهم الفكري أو إنتاجهم العلمي. وعليه، فلا دليل لأحد هنا على أن الدين الصحيح من صنع إنسان أي إنسان، كما لا دليل لأحد على أن الدين يتطور مع الحضارة المادية رقيًّا وانحلالًا، إلا أن يكون هذا الدين صناعة بشرية خالصة، وحتى هذه الصناعة البشرية الخالصة نجدها لا تُوافق في درجة إقناعها للعقل أية صناعة بشرية أخرى، كما سنرى ذلك بعد إن شاء الله في معتقدات اليونانيين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 أديان اليونان والرومان.

الدرس: 18 أديان اليونان والرومان.

دين اليونان.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أديان اليونان والرومان) دين اليونان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: بقي لنا نظرات إجمالية حول أديان اليونان والرومان. ومع دين اليونان: تعتبر أديان اليونان نموذجًا واضحًا لعجز العقل البشري عن الوصول وحده إلى الدين الصحيح ومعرفة الله تعالى، فبرغم الرقي العقلي الذي برز في اليونان منذ القديم؛ حيث وُضعت هناك أصول الفلسفة، وقواعد التفكير العقلي السليم- برغم ذلك نرى سذاجة اليونان في تصور الآلهة وإحاطتها بالأساطير والخيالات. إن هوميروس الشاعر اليوناني الكبير يضع قصيدته الإلياذة والأوديسة في نظم رائع جميل، يتحدث عن آلهة قومه، ويصوّرهم من واقع وجودهم، كما أن فلاسفة اليونان ساهموا مع الشعراء في الحديث عن الدين واتجاهاته، وبرغم هؤلاء العباقرة -شعراء وفلاسفة- فإن اليونانيين اتخذوا عديدًا من الآلهة، وجعلوا لهم مقرًّا رسميًّا فوق جبال الأولمبا في مكان يعرف بالأكربول. ومن آلهتهم زيوس إله الجو، وصانع المطر أكبر الآلهة، وأعظمها شأنًا، ومن الأساطير الدائرة حول هذا الإله أن أباه كان يخاف على ملكه حتى من أبنائه؛ ولذلك قسا على زيوس وابتعدت به أمه حتى شب وترعرع، وتمكن من الاستيلاء على ملك أبيه، بعد معارك طاحنة مع أعداء الخير، وبعد أن دان له ملك أبيه رحل إلى بلاد اليونان، وسلب سلطة إلهية يونانية صغيرة، وأخضعها لسلطانه وهيمنته، ثم تزوج وأنجب عددًا من الأبناء. ومن آلهتهم أثينا البنت الكبرى للإله زيوس، وهي إله الحكمة والعلوم والفنون، وكانت مقربة لأبيها، وقد أقام لها اليونان معبدًا ضخمًا وتمثالًا من الذهب يعد آية في الفن والروعة، وبها تسمى عاصمة اليونان حديثًا.

ومن آلهتهم أبوللو أحد أبناء زيوس، وهو إله الشباب والقوة، يضر ويفيد، واليونانيون يمثلونه بشابٍّ جميل، وبيده القوس، وعدد من السهام رمزًا للقوة والانطلاق. ومن آلهتهم أفروديت إله الحب والجمال، ومن مهامه إتمام عملية التزويج والولادة بمساعدة ولدها كيوبيد، واليونانيون يمثلونها بامرأة جميلة تبدو دائمًا مبتسمة، وهي راكبة عربة يجرها طائران كبيران، هكذا تمتد الآلهة في أسرة زيوس لتضم جميع أولاده، وأخواته، وزوجاته؛ حيث يتولى كلٌّ منهم التأليه في جانب ما، ويلاحظ إحاطة جميع هذه الآلهة بسائر أنشطة البشر ولو كانت سيئة، فهيرا زوجة زيوس تخونه وتعشق أريس، وزيوس نفسه يعشق مايه، وينجب منها هرميس المعروف بأنه المرشد السماوي الذي يحمل إرشادت أبيه؛ ليعلم بها الأنفس الضالة، وهذا المرشد تجده حينما يغادر السماء يتواطأ مع اللصوص، ويغش أباه الإله العظيم. إن آلهة اليونان بدأت مسيطرة على القوى الطبيعية بصورة غامضة، ثم أخذت تترقى وظائفها، واتضحت ذواتها، خرجت إلى عالم النور وتميزت بعضها عن بعض، ولم تنحصر عددًا وإنما تزايدت بصورة بيّنة، ودائمًا وضع اليونانيون آلهتهم في صورة جميلة متحضرة تدل على الذوق الرفيع والسحر الأخّاذ؛ لقد صور هوميروس شاعر الإغريق الآلهة اليونانية في شعره الرائع في أبهى الصور وأحلاها، فمهّد بذلك أمام الفنانين الطريق ليصنعوا تماثيل الآلهة من المعادن الثمينة في هيئة رائعة الحسن خالية من العيب تأخذ الألباب والأبصار، والآلهة كما تكلم عنهم هوميروس لها سلطة عظمى على الحياة، ولها إرادة وقدرة على كل ما يحدث من خير أو من شر؛ ومن أجل هذا التزم اليونانيون بطقوس معينة يتجهون بها للآلهة كالذبح والتراتيل.

لكن هل الآلهة من أسرة زيوس هي كل الآلهة - وبخاصة في المرحلة الأولى؟ لم تكن الآلهة البشرية هي كل الآلهة عند اليونان؛ لأننا نجدهم يؤمنون بآلهة خفية غامضة تميل لنشر الذعر والخوف بين الناس، وكان يرونها فوق الطبيعة وأقوى منها؛ ولذلك لم يتمكنوا من تحديد حقيقتها، لقد درج اليونانيون على تصوير آلهتهم المعروفة والخفية بأنها تُنزل قضاءها الرهيب بالخلائق، وأحاطوا هذا المعنى بالأساطير العديدة المدونة في أشعار مطولة، وكانت هذه الأساطير هي أساس روايات التراجيديا اليونانية، ذلك الفن الأدبي الذي نبع في بلاد اليونان وامتد بروعته وتأثيره إلى العالم كله. قد استمر اليونانيون على ما هم عليه بالنسبة للآلهة حتى جاء القرن الخامس قبل الميلاد، وفيه يحدث تنظيمٌ جديد في نظرة اليونان لآلهتهم؛ حيث يُرفع إله واحد فوق جميع الآلهة، ذاك الإله هو زيوس ممثل العدالة، وكل الآلهة تخضع لقوة هذا الإله وسلطانه، كل ما يقع للناس هو بأمر زيوس، وأيضًا فإن زيوس يؤثر خيرًا وشرًّا بكل عدل ونزاهة وأمانة، وقد سلك الشعراء هذا المنحى في أشعارهم خلال القرن الخامس قبل الميلاد وبعده، ومن خلال بحث فلاسفة اليونان عن أصل العالم اتفقوا على أن أصل العالم واحد، قالوا: إنه النار أو الماء أو التراب أو العدد أو الموجود نفسه، ومهما تباينت آراء الفلاسفة في أصل العالم، فإنهم اتفقوا على أن هذا الأصل فيه قوة وإبداع لا يحاكي الإنسان الفاني لا في شكله، ولا في عقله، وما التماثيل التي صنعها الفنانون إلا صناعة بشرية صاغها الناس خضوعًا لأمزجتهم وميولهم الخاصة! وجاء أفلاطون ووضع نظريته في المثل حيث يرى أن الموجودات كلها خيالات وصور ممثلة لحقيقة موجودة في الملأ الأعلى، وهي الوجود المؤثر في الكون

المرئي، قد سمى أفلاطون هذا الموجود الحقيقي بالخير الأسمى أو مثال الخير، وإذا تتبعنا أقواله عن هذا الوجود الحقيقي نجده يشير إلى الله، ويعبر عنه أحيانًا بصيغة المفرد، وأحيانًا أخرى بصيغة الجمع، ويقول: إن هناك خالقًا أعلى يدبر العالم ويحكمه، وبعد أفلاطون صار الفلاسفة على نمطه في تجريد التفكير فيما وراء الطبيعة أو الحقيقة الإلهية، وما يحيط بها من غيب؛ حيث نجد أرسطو يقول: إن الله هو الموجود حقًّا؛ لأن له أتم صورة، كلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة، وهي العلة الصورية والغائية والمحركة لهذا العالم، وإذا كان الله هو العلة الصورية كان الله مثلًا أو فكرة أو عقلًا، وإذا كان هو العلة الغائية كان هو غاية الغايات، وهو الذي يسعى إليه ويقصد نحوه كل موجود، وإذا كان هو العلة المحركة كان هو المحرك الأول، وهو مصدر كل حركة، وإن كان هو ليس متحركًا. وحديث أرسطو، وإن كان ذا تركيب عقلي، فإنه غامض مبهم يوقع القارئ في البحث من جديد عن الإله الذي دعا إليه أرسطو، ويسأل: هل الله مشخص موجود أم لا وجود له في الحقيقة؟ وتساهم آراء أرسطو في تأييد هذا وذاك، الأمر الذي يؤكد غموض الفكرة وخفاءها، يستمر الفلاسفة في مسيرتهم حتى تظهر الأفلاطونية الحديثة في مدرسة الإسكندرية، وتحاول تفسير غموض الفكر اليوناني الفلسفي، فتقول بالواحد غير المتعدد فوق المادة وفوق الروح، قائم بنفسه، ولا يمكن وصفه إلا بصفات سلبية، وهو ليس مادة، وليس حركة، وليس صفة، ولا نهاية له وهكذا، ومن هذا الواحد انبثق العقل ليفكر في الله وفي نفسه، وقد خلع أفلوطين على هذا العقل خصائص المثال الموجود الحقيقي عند أفلاطون.

ومن العقل انبثقت النفس، ولها نيلان تعلو إلى الواحد، وتهبط إلى الطبيعة، إن النفس الكلية أقل مرتبةً من العقل، ومن النفس انبثقت نفس ثانية هي الطبيعة، وهي نفس جزئية وسعادتها في اقترابها إلى أصلها أي: النفس الكلية، وشقاؤها في الهبوط إلى الدرجة التي تليها، وهي المادة. إذن، فهناك الواحد والعقل، والنفس الكلية، والنفس الجزئية، وبعد ذلك نسأل: هل هذا توضيح أم إخفاء؟ إنه إخفاء بلا شك، ولا لوم على الفلاسفة في هذا، فهم بشر تحركوا على قدر طاقاتهم، ويلاحظ أن الأفلاطونية الحديثة وجدت في أوائل القرن الثالث الميلادي، لدرجة أن من العلماء من يرى أن الغموض الذي دخل في المسيحية في تفسيرها للتوحيد حيث تقول: إن الأب والابن والروح القدس أقانيم ثلاثة، تعني واحدًا هو الله، وتقول: إن الابن انبثق من الأب، والروح القدس انبثق من الأب أو منه ومن الابن، وإذا علم أن الأقنوم يعني ذاتًا مستقلة بصفات إلهية مستقلة؛ لظهر أمامنا الغموض الذي دخل في المسيحية من خلال فلسفة الإغريق، وفكر أفلوطين. إن الذي يقارن بين الأقانيم الثلاثة، وبين الواحد والعقل والنفس في الأفلوطونية -يرى وحدة الفكر والتصور بلا فرق، إلا في أن المسيحية ترى أن الأقانيم متساوية في الجوهر والرتبة، بينما الأفلاطونية لا تساوي بين الواحد والعقل والنفس؛ ترى أنها منبثقة عن بعضها كما ذكرنا، وإنها تمثل ثلاث درجات روحية متفاوتة، لا يمكن القول بأن العقل البشري، وهو صانع أديان اليونان كان يتحرك للأمام ويتطور إلى العلا؛ لأن الآلهة يومًا كانت في زيوس وأسرته، كانت تزداد عددًا وتقل قدرًا، ولم يحط بها رقي أو سمو إلا في جانب التصوير الأدبي.

ولما انتقلت قيادة الفكر إلى فلاسفة الإغريق لم يحققوا تطورًا؛ لأنهم أخذوا يبحثون في الأصل الواحد للكائنات، وأخذ كل منهم يهدم ما قال به غيره؛ فطاليس قال بالماء، وقال إنكسمينث بالهواء، والفيثاغوريون قالوا بالعدد، واستمر الأمر على هذا حتى جاء أفلاطون وأرسطو فزادوا الأمر تعقيدًا وغموضًا، بل إن أفلوطين قال بالتعدد والكثرة في الآلهة، وهذا يدل على عجز العقل البشري في مجال الدين، وعدم تمكنه أن يتطور به، وفي نفس الوقت يكون حقًّا. إن تخبط رجال اليونان في البحث الديني في الوقت الذي وصلوا فيه إلى القمة في علوم الفلسفة والمنطق والشعر والفن -لدليلٌ على عجز العقل في المجال الديني، واحتمال بعث رسولٍ إلى اليونانيين غير وارد؛ لأن ما وصلنا عن أديان اليونان لا يُوجد هذا الاحتمال؛ ففكرة التوحيد الخالص أو الشذرات الباقية منها لا وجود لها، هذا في الوقت الذي نسلم تسليمًا عقليًّا بأن إرسال رسل إليهم في الزمن القديم ليس مستحيلًا أبدًا. هذا ومن خلال الحديث عن دين اليونان يستبين لنا الآتي: تعدّ بلاد اليونان مهدًا من مهود الحضارات القديمة الخصيبة بأنواع العلوم والفنون والآداب، وجميع فروع المعارف الأخرى، التي بلغت فيها مكانة راقية تسامق الذرا، حتى لقد ظل مؤرخو الغرب يعتقدون طويلًا أن مهد المدنية الغربية كان اليونان، إلى أن تبين لهم سبق بلاد النيل ودجلة، إلا أن هذه البلاد لم تحظ برقي مماثل في العقيدة؛ لاعتمادهم في هذا الشأن على العقل الإنساني وحده، والفكر المستقل عن الوحي، وإنسان هذا شأنه لا يمكن أن يصل إلا إلى المستوى البشري العاجز الذي يحاول أن يرضي فطرته المتطلعة إلى الإيمان بمدبر لهذا الكون، بأمور

حسية أو خيالية ساذجة هي كل ما يمكن أن يصل إليها عقله المستقل، وهي أمور قد ترضي الفطرة إلى حين، ولكنها لا تقنع العقل إلا زمنًا يسيرًا؛ لهذا سرعان ما تتطور مثل هذه العقائد وتتغير، ولكن كل تطور وتغير يبقى ساذجًا طالما بقي الوحي بعيدًا عنها، أو بمعنى أصح طالما بقي الإنسان بعيدًا عن استمداد عقيدته من الوحي الإلهي الصحيح. وهكذا كان شأن اليونانيين القدامى كما يبدو مما نقل عنهم في همجيتهم، ومنذ بداية تحضرهم، وتصورهم للألوهية تصورٌ عجيب؛ فهذه أرباب الأولمب الذين قلدوا في أشعار هوميروس في الملحمتين العظيمتين الإلياذة والأوديسا، وشاعت عبادتهم بين الإغريق يقول عنهم العقاد: كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلى الحضارة وتنظيم العبادات؛ فالإله زيوس أكبر أرباب الأولمب، والإله ديوس المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة، واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعًا، مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات، والربة أرتميس، ومثلها الربة أفروديت أو فينوس هي الربة عشتار اليمانية البابلية، ومنها كلمة ستار التي تدل على النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة، والربة دمنس هي أيزيس المصرية كما قال هيرودت المؤرخ اليوناني المشهور، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق، وأضيف إلى هذه الأرباب أدونيس من أدوناي العبرية بمعنى السيد أو الإله، كما أضيفت إليها عبادة ديونسيس في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرًا بعبادة مترا في الديانة الأورفية السرية.

ثم رسم لهم الخيال صورًا لآلهتهم الكثيرة عللوا بها سر الكائنات، وما يقع لها من أحداث، فما سطع نجم، ولا تجمعت سحابة، ولا هبت نسمة إلا وصور لهم خيالهم وراءها إلهًا موكّلا بها، وقد عبروا عن كل هذا بتماثيل ورسوم أوحى بها خيالهم أيضًا، فالموكل بالليل عندهم إله في صورة امرأة متراخية الأعضاء يداعب النعاس جفونها، وفي يدها مشعل مقلوب ويكسوها رداء قد زُين بالنجوم، وكان يعتقدون أن كبار آلهتهم يقيمون فوق جبال الإلمب أو أولمبس، وأن كبيرهم زيوس له فوقه قصرٌ وعرش، وأن من حوله أحد عشر من كبار الآلهة يدينون له بالطاعة، وينفذون أوامره ونواهيه، وكانوا يتصورون أرباب الألمب يقترفون ما يقترفه البشر من آثام، ويجرون وراء شهواتهم الشرهة. فمثلًا قتل زيوس أباه رينوس وضاجع بنته، وهاجر سماءه؛ ليطارد عرائس البحر، ويغازل بنات الرعاة في الفلوات، وغار من ذرية الإنسان فأضمر له الشر والهلاك، وضنّ عليهم بسر النار، وعاقب المارد برموسيتوس؛ لأنه أتى للإنسان بقبس من النار من السماء، ولم يستطع خياله حتى ذلك الحين تصور الإله زيوس خالقًا للدنيا وخالقا للأرباب التي تحيطه بعرش في جبل الإلمب، فهو على الأكثر والد لبعضها، ومنافس لأنداده منها، وتعوذه أحيانًا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد، فتصيبه بدلًا منها القوة والعذر، يتصورون القدر فوق الجميع حتى زيوس نفسه يخضع لهذا القدر، ويتقيد بقيوده ويعجز عن الفكاك مما يقضيه. وإليك صورة مفصلة بعض الشيء عن بعض الآلهة نذكرها فيما يلي: 1 - زيوس: كان زيوس حسب اعتقاد اليونانيين القدامى ابن بكرونس، أو إله الزمن ولترا آلهة الأرض، كان أبوه قاسيًا يخشى على سلطانه حتى من أبنائه، كان يقتل من يولد له، فقررت أمه إبعاده عنه، فوكّلت إلى بعض الرعاة رعايته

وحمايته وتنشئته، فأخذوا يغذونه بلبان الماعز حتى شب وترعرع، ولما أصبح شابّا نحى والده عن الرياسة ثم تبوأ مكانه لكنه لم يصل إلى هدفه هذا إلا بعد معارك وقتال مرير مع أشرار المردة الذين كان من دأبهم عجم الآلهة بكتل الصخر الهائلة، تلك الكتل التي اعتقدوا بأنها كونت عند سقوطها من السماء الجزر والجبال، ثم تزوج زيوس بهيرا ملكة السماء، ودانت له الأمور، وجلس فوق عرشه وفي يمينه الرعد والبرق وعلى رأسه صولجان على هيئة النسر، أما زوجته هيرا فراحت تشرف على الزيجات والولادة، وكانوا يمثلونها بهيئة سيدة مهابة على رأسها تاج، وبجوارها طاوس. 2 - أثينا: أثينا إلهة الحكمة والعلوم والفنون، كانت مقربة إلى كبير الآلهة زيوس؛ ولذا كان يستجيب لجميع مطالبها، ولقد أقام لها أهالي مدينة أثينا معبدًا تكريمًا لها، وأقاموا بداخله تمثالًا صنعه "فيدياس" من الذهب والعاج، وهو من أبدع ما نفذته يد إنسان، ويسمى هذا المعبد اليرسيتون. 3 - هستيا: إلهة النار عندهم، ولقد كان من وسائل التقرب إليها مداومة إشعال النار داخل معبدها، وكانوا يرمزون لها بتمثال على هيئة امرأة وفي يدها مصباح، وعليها رداء أبيض اللون ومن فوقه وشاح أحمر. 4 - أبوللو: وهو أحد أبناء زيوس، وقد خصه أبوه بالضوء، يقول: لأنه هو الذي يقود عربة الشمس وقد منحه أبوه كذلك الشباب وطول العمر، كما جعله يهيمن على الموسيقى والفنون والشعر والطب، وكانوا يمثلونه بشاب جميل، وبيده القوس وعددا من السهام رمزًا لأشعة للشمس.

5 - أرتيميس: وهي ابنة زيوس وكانت توءمًا لأخيها أبوللو، وهي عندهم في الأرض آلهة الغابات والصيد، وفي السماء آلهة القمر، ويشبهونها بامرأة مكشوفة القدمين في ثياب الصيد، وفوق جبينها هلال. 6 - دميترا: وكانوا يعتقدون أنها هي التي علّمت الإنسان حرث الأرض، وبذر الحبوب، وحصاد الزرع، كما علمته عمل الخبز، وكانوا يشبهونه بأمراة تجري بحثًا عن ابنتها برثوبينا، وأحيانا يمثلونها امرأة، وعلى رأسها أكليل من نبات القمح. 7 - إفيسيس: وهو من أبناء زيوس، وكان قبيح الخلقة أعرج، ولكنه كان أعظم اجتهادًا، وقد وكِّل إليه القيام الكثير من الأعمال، فهو الذي يصنع اللآلئ والحلي كما يصنع الأسلحة لإكليز بطل الإغريق، وهو كذلك عندهم إله الحديد والنحاس والفضة والذهب، ويرمزون له برجل في يمناه مطرقة، وفي يسراه ملقة. 8 - عارس أو مارس: وهو عندهم إله الحرب، ويرمزون له برجل قوي في لباس الحرب من درع وخوذة، ورمح وترس. 9 - أفروديت أو فَينوس: آلهة الجمال والحب وكان ابنها كيوبيد يساعدها في إتمام الزيجات والولادة، وفي كل ما كان له بالحب، ويمثلونها دائما مبتسمة ابتسامة تكشف عن ثناياها راكبة عربة تجرها بجعتان. 10 - ديونيس: وكان الإغريق يعتقدون أنه هو الذي علّم الناس زراعة الكروم، وقد مثلوه برجل يركب برميلًا، وفوق رأسه إكليل من أوراق العنب، وله قرنان دلالة على القوة.

11 - تيميس: وهي عندهم آلهة العدالة والقانون والسلام، ويمثلونها، وهي تقبض بإحدى يديها على السيف وترفع بالأخرى الميزان، وقد وضعت عصابة فوق عينيها رمزًا لعدم التحيز لأحد المتخاصمين. 12 - أيروس أو كيبيود: كان رمز الحب، قد علم أبوه وقت ولادته أنه سيكون مبعث المتاعب والشقاء، وأراد التخلص منه، ولكن أمه فينوس أخفته عن أبيه في الغابات وأرضعته بلبان الماعز، ويمثلونه بطفل جميل له جناحان، وفي يده قوس وبجعبته سهام، وهو يصيب بها الناس خبط عشواء. 13 - جوفيتيس: وهي ساقية الآلهة، ورمزوا لها بامرأة توجت رأسها بالأزهار وفي يدها قدح، وقد زعموا أنها عندما تزوجت خلفها في عملها جنياميد، وكان أمير الطلعة فاختارته الآلهة ليكون لهم ساقيًا، فحمله نسر وطار إلى جبل الألمب. وهكذا، ما من شيء إلا نسبوه إلى إلهٍ من آلهتهم العديدة، التي ذكرنا بعضها، والتي قدّسها اليونانيون، وجعلوها آلهة وعبدوها، وقدموا لها قرابين خشية بطشها أو تزلفًا إليها ابتغاء مرضاتها، وتصوّرها على هذه الصورة الساذجة البلهاء التي تدل على طفولة فكرية، وبدائية عقائدية في وقت نمت فيه حضارتهم العلمية والمادية والأدبية إلى مستوى راقٍ يُحسدون عليه، وهذا يؤكد لنا عدم تطور الدين من الشرك إلى التوحيد كما زعم أصحاب هذه النظرية، كما يؤكد لنا الفصل الكامل بين التطور في الحضارة، والتطور في الناحية الدينية؛ ففي الوقت الذي نجد فيه تطورًا في الحضارة نجد انحدارًا في الدين من التوحيد إلى الشرك، ومن أرباب قليلة إلى أرباب كثيرة، وهذا هو واقع اليونان بما وصلت إليه من وثنية، بل وما آل إليه الأمر من إلحاد.

دين الرومان.

دين الرومان وأنتقل من وثنية اليونان إلى وثنية الرومان، أو من أديان اليونان إلى أديان الرومان، فأقول: اعتقد الرومان -كما اعتقد اليونان من قبل- بأن كل ما يحدث في هذا العالم هو مما قضت به إرادة خالقٍ له، لكنهم لم يعتقدوا بوحدانية الخالق، بل عددوا أربابهم بتعدد مظاهر الطبيعة؛ فهناك رب ينبت البذر، وآخر يحمي الحقل، وثالث يحرث الثمار، ولكل رب اسمه وجنسه وعمله، فالأرباب قد تعددت عند الرومان، فلكل مظهر من مظاهر الحياة رب، فعندما يولد الطفل يأتيه رب يعلمه النطق، وربة تعلمه الشرب، وأخرى تقوي عظامه، وربانِ يرافقانه إلى المدرسة، وآخران يرجعان به، ولقد أتى عهد على الرومان كان يعبدون فيه تلك الآلهة من غير أن يتخذوا لها تماثيل، بل كانوا يعبدونها من غير تماثيل خالصة لكل إله، ثم اتخذوا بعد ذلك الأصنام وكانت من الخشب في بادئ الأمر، ثم اتخذوها من الرخام. ولقد كان الرومان يؤمنون بالطيرة أو الفأل، فيذهبون إلى أن الأرباب يعرفون ويُرسلون للناس آيات يدركونها، فيستنصح الروماني الأرباب قبل أن يشرع في عملٍ، فإذا أراد الحاكم عملًا يجمع لديهم مجلسًا ينظر إلى الطيور السائرة، فإذا كانت فيها إشارة موافقة يدركون أن الأرباب استحسنت المشروع، وإلا كان معناه أنهم غير راضين عنه، ولقد كان الرومان يقدّسون الأباطرة أيضًا، ويقيمون المحاريب. وراجع في هذا (الديانات القديمة) لأبي زهرة،

وبذلك نجد هذه الوثنيات المتمثلة في الأديان القديمة سواء أكانت ديانة المصريين القدماء أو أديان الهند والصين واليابان أو اليونان والرومان- إنما أردت أن أذكر لك ملخّصًا لهذه الأديان وللتعريف بها، وللوقوف عليها، دون التعمق فيها أو الاستطراد والتوسع؛ لأن هذا مما يتنافى مع طبيعة المنهج الذي هو تحت عنوان "نظرة إجمالية لبعض الأديان القديمة"، والحمد لله رب العالمين. صل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1