الأديان الوضعية - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا.

الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا) معنى الأديان الوضعية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فينبغي أن يكون الطالب ملمًا بحقيقة الأديان الوضعية التي يدين بها معظم بلدان جنوب شرق آسيا وشرق آسيا، مع التعرف على تاريخ نشأتها، وإلى من تنسب، وما هي شعائرها الدينية، مع البرهان على بطلان هذه الأديان، وموقف الإسلام منها. وقبل أن ندخل في مفردات المادة أحب ألفت النظر إلى معنى الأديان الوضعية فأقول -وبالله التوفيق-: الأديان الوضعية هي أحد قسمي الأديان؛ فالأديان إما سماوية أتى بها الأنبياء والرسل من عند الله -عز وجل- أو وضعية وضعها البشر من عند أنفسهم، لا عن طريق الوحي، ورغم أنّ رِسالَات الله توالت على البشرية تترى، منذ أول إنسان خلق على وجه الأرض، وهو آدم -عليه السلام- إلا أنّ البشرية أبت إلا أن تُكَذّب الرُّسل، وتعرض عن آيات الله ودينه، ولما حاد الإنسان عن الطريق السوي، واتبع شيطانه وهواه، واتخذ لنفسه آلهة متعددة؛ فمنهم من عبد الحجر، ومنهم من عبد البقر، ومنهم من عبد النجوم والشمس والقمر، ومنهم من عبد البشر ... إلى آخره. فانتشرت الأديان الوضعية المختلفة على وجه الأرض؛ فكانت ديانة قدماء المصريين، وكانت ديانات الهند، وديانة الفرس، وغيرها من الديانات الوضعية.

والفَرقُ بين الدين الوضعي، والدين السماوي: أنّ الدين الوضعي هو الذي يكون من وضع البشر أنفسهم، وهو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقوانين العامة، وضعها بعض الناس المستنيرين لأممهم؛ ليسيروا عليها، ويعملوا بما فيها، والتي لم يستندوا في وضعها إلى وحي سماوي، ولا إلى الأخذ عن رسول مرسل، وإنما هي جملة من التعاليم والقواعد العامة، التي اصطلحوا عليها، وساروا على منوالها، وخضعوا فيها لمعبود معين، أو معبودات متعددة. والأمثلة على الدين الوضعي كثيرة منها: الديانة البرهمية في الهند، والديانة البوذية فيها أيضًا، وفي شرق آسيا، ومنها ديانة قدماء المصريين، والديانة الفارسية القديمة وغيرها. أما الدين السماوي؛ فهو تعاليم إلهية من وحي الله تعالى، وإرشادات سماوية من لدن العليم الخبير بنفوس العباد وطبائعهم، وما يحتاجون إليه في إصلاح حالهم في المعاش والمعاد، والدنيا والآخرة؛ إنه مجموعة التعاليم والأوامر والنواهي، التي يجيء بها رسول من البشر أوحى الله تعالى بها إليه، وفي مقدمتها: الإيمانُ بخالق واحد موجه لهذا الكون، لا شريك له في ملكه، يجب صرف العبادة كلها إليه والخضوع له. والتذلل لهذا الإله الخالق الرازق، ووجوب إفراده وحده بالعبادة، والإيمان باليوم الآخر، والحساب والجزاء، وبالثواب في الجنة والنعيم المقيم، أو النار والعذاب الأليم، وذلك مثل الديانة اليهودية في أصلها، كما جاء بها موسى عليه السلام، أو الديانة المسماة بالمسيحية، يوم أن جاء بها المسيح عليه السلام، وفي أفضل صورها وأصحها مثل الدين الإسلامي الذي جاء به النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رحمة للعالمين، وكان هذا الدين خاتمًا لجميع الرسالات السماوية؛ فلا وحي بعد نبوة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا دين بعد الإسلام.

ما الفرق بين الدين الوضعي والدين السماوي؟: لعله بات واضحًا الفرق بين الدين السماوي، والدين الوضعي، ونستطيع أن نجمل القول بأنّ الدين السماوي ما توافرت له دلائل صحة سنده، وسلامه متنه، بينما الدين الوضعي هو الذي لم تتوفر له دلالة صحة السند، كما لم تتوفر له دلائل سلامة المتن. وعلى ذلك أرى أن الدين قد يكون باعتبار أصله سماويًّا: لأنّ له نسبة إلى الوحي مثلًا، ولكن يحكم على بعضه بالوضع؛ لما أصاب المتن من تحريف وتغيير، أي: لم تتوفر له سلامة المتن. يوجز الدكتور عوض الله حجازي الفروق بين الدين السماوي والوضعي قائلًا: إن الدين السماوي دين قائم على وحي الله تعالى إلى البشر، بواسطة رسول يختاره الله منهم، أما الدين الوضعي؛ فهو جملة من التعاليم، وضعها البَشرُ أنفسهم، واتفقوا عليها، واصطلحوا على التمسك بها، والعمل بما فيها، إنه تعاليم ناشئة عن تفكير الإنسان نفسه. والدين السماوي يدعو دائمًا وباستمرار إلى وحدانية الله تعالى، واختصاص هذا الواحد بالعبادة؛ فلا يخضعُ المَرءُ إلا لله، ولا يستعين إلا به، ولا يذبح إلا بأسمه جل شأنه. أما الدين الوضعي؛ فإنّه قد يُقَدّس الأحجار والأصنام، ويجيز تعدد الألهة فيجعلها كثيرة ومتغايرة، بل قد تكون متنافرة ومتخالفة، مثل: إله الخير وإله والشر، أو إله الحرب وإله السلم ... إلى آخره. والدين السماوي ينزه الإله المعبود عن مشابهته لخلقه، فالله -عز وجل- لا يشبه شيئًا من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: 1 - 4). أما الدين الوضعي: فإنه يجيز أن يكو الإله بشرًا مثلهم، أو حيوانًا، أو حجرًا يعبدونه ويخضعون له، ويقدمون له القرابين والهديا؛ فقد عبد بعض الناس الشمس، وعبدوا العجل، واتخذوا فرعون الذي قال لهم: "أنا ربكم الأعلى" إلهًا وعبدوا الأصنام والأوثان، ولا يزال الناس حتى أواخر هذا القرن العشرين عصر العلم والحضارة والمدنية، يُقَدّسون بعض الأشخاص، ويتقربون إليهم، ويعبدون البقر والغنم، كما هو حاصل الآن في الهند وغيرها. مع أنّ هذه الألهة كلها، التي عبدها ويعبدها البشر من دون الله لا تستطيع أن تخلق شيئًا، ولا أن توجد أضعف المخلوقات، بل أنها لا تملك لنفسها نفعًا أو ضرًّا، قال تعالى في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 73، 74). هذا؛ والدين السماوي بالنسبة لمسائل العقيدة غيرُ قابل للنسخ والتبديل أو التغيير؛ فعقيدة الرُّسل جميعهم واحدة، فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته، والرسل وعصمتهم واليوم الآخر، وما يكون فيه من ثواب أو عقاب، إنّ الخالق عند جميع الرسل واحد، إنّ هذا الخالق تجب عبادته واختصاصه جل شأنه وحده بهذه العبادة، وأن هذا الإله يجب أن يثبت له صفات الكمال، وأن ينزه عن جميع صفات النقص، وأنه سيحاسب النّاس جميعًا على أعمالهم، ويُجازيهم

عليها إن خيرًا فالجزاء خيرًا، وإن شرًا فيكون الجزاء شرًّا وكل هذا قدر مشترك بين جميع الرسالات السماوية. أما الدين الوضعي؛ فالمعبود فيه قد يتغير من جيل إلى جيل، ومن قبيلة إلى أخرى، كذلك الدين الوضعي يُلازمه النقص وعدم الكمال؛ ذلك أنه من وضع الإنسان، والإنسان لا يمكنه أن يُحيط بجميع حاجات البشر ومتطلباتهم المتجددة دائمًا. أما الدين السماوي فهو كامل أنه تامًا شامل؛ لأنه من وضع خالق السماوات والأرض، عَلّام الغُيوب الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة، والذي يحيط بكل شيء علمًا. وهكذا نَلحظُ أن هذه الفروق إما مردها إلى دلائل السند كالفارق الأول، أو إلى دلائل المتن كالفروق الأخرى. ومما تجدر الإشارة إليه أن الدارس للأديان الوضعية مثل: أديان البرهمية، والبوذية، والجينية مثلًا أو الديانة الفارسية القديمة، أو ديانة قدماء المصريين، مما اصطلح على تسميته دينًا وضعيًّا يجدُ فيها ذكر لصفات الرب المتفرد بالكمال والجلال، أو ذكر اليوم الآخر والجزاء؛ مِمّا لا إمكانية للعقل معه من علم الغيب، ولا قدرة له عليه؛ فلا سبيل لإدراك شيء منه إلا بالسماع والنقل أو الوحي. وهذا يعني: أنه دليل على بقاء آثار دين صحيح، وهو يتكامل مع قول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24).

وعلى هذا نستطيع القول: بأن اجتهادات الناس التي وضعت لإصلاح حياة أمة بعينها، مِمّا اصطُلِحَ عليه فيما بعد دينًا وضعيًّا، إنّما هي نتاج عقل في موروث جمع بين حق آثار وبقايا دين صحيح وباطل، مما أسفر عنه تدخل العقول في النصوص والتحريف لهذا الدين باتباع الأهواء؛ فكان هذا المزيج وإن كان لاعتبار نسبته إلى إنسان معين؛ عرفناه بأنه دين وضعي. كذلك الرِّسَالاتُ السَّماوية، مثل اليهودية والنصرانية مثلًا؛ فهي سماوية باعتبار أصلها، لكن واقعها كما هي اليوم بأيدي أربابها نجد فيه أمارات التحريف والكتمان، والزيادة والتغيير؛ كما ثبت ذلك، أعني فيها إمارات للوضع، وإن كانت باعتبارها وحيًا صادقًا، ودينًا سماويًّا صحيحًا؛ فهي بنصوصها شيء آخر. وخلاصة القول: فإن العلماء اصطلحوا على تقسيم الأديان إلى: سماوية: وهي ما نُسبت إلى الله وحيًا لرسله. ووضعية: وهي ما نُسبت إلى الإنسان، ولكن تبقى الدراسة رهينة تحقق دلائل الصحة للسند، والسلامة للمتن للحكم على المضمون والنص، كما أن الفروق بين السماوي والوضعي على هذا الاعتبار يَحْكُمها صفات تنسب إليه، فما لله ذاتي كامل أبدي أزلي، وما للإنسان مكتسب ناقص زائل حادث. وصدق الله العظيم حيث قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149)، وقال سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19).

فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا.

فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا الهند بلاد الأسرار والأساطير، كما يقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه: (أديان الهند الكبرى). وهي مجتمع شعوب وطبقات، بل مجتمع مجتمعات، تكثر فيها الأديان، وتتعدد اللغات والألوان، فالحديث عن الهند حديث ذو شجون، تعال بنا نورد تعريفًا بالهند، قبل أن نصل بالحديث عن أديانها الكبرى، ومن الواضح أن حديثنا هنا عن الهند يشمل أيضًا ما يُسمى الآن باكستان وبنجلاديش. لمحة عن جغرافية الهند: تبلغ مساحة الهند "مليون ومائتين وواحد وعشرين ألف، واثنين وسبعين ميلًا مربعًا، أو ما يعادل مساحة دول أوروبا مجتمعة باستثناء روسيا، والهند ذات موقع مهم على خريطة العالم، وهي شبه جزيرة تشبه في منظرها قارة أفريقيا بوجه عام، فهي عبارة عن مثلث غير منتظم الأضلاع؛ قاعدة إلى أعلى ورأسه إلى أسفل، وقاعدته جبال الهمالايا الشامخة، ورأسه رأس كوماي. والهند بلاد مقفلة كما يسميها الباحثون، فضلعا المثلث في الشرق والغرب يدور حولهما البحر، أما قاعدة المثلث في الشمال فتحيط بها جبال الهمالايا، وجبال سليمان، ويحتضنها نهران عظيمان: أحدهما: نهر الأندوس السند، وينبع من جبال الهمالايا، ويَصُبّ في خليج العرب، بعد أن يتصل بأنهار البنجاب؛ الأنهار الخمسة. والآخر نهر كنكا أو نهر الكينج وهو ينبع أيضًا من جبال الهمالايا ويصب في خليج البنجال بعد أن يتصل بنهر براهما بوترا المقدس.

ويشق الهند عند منتصفها تقريبًا سلسلة من الجبال والأدغال تبدأ من الغرب، وتسير حتى قرب الساحل الشرقي، وهذه السلسلة تقسم الهند قسمين: يَخْتَلِفُ أحدهما عن الآخر في طبيعته، وفي سكانه وحضارته، ومن نهر الأندوس أو السند أشتق اسم الهند، وظهرت كلمة أندوهند، ومعناهما الأرض التي تقع فيما وراء الأندوس، وسمي سكان هذه البلاد الهنود أو الهندوس. وعن تسميه الهند يقول "جوستاف لوبون": يرى الغربيون أن نهر السند أندوس أعار من اسمه اسمًا للبلاد الحافلة بالأسرار الواقعة فيما وراءه، ولا يُسلم بهذا تمامًا، بل يحتمل اشتقاق اسم الهند من اسم الإله أندرا. ويجاور الهند ممالك بلخستان، وأفغانستان في الشمال الغربي، والتركستان في الشمال، والصين في الشمال والشمال الشرقي، وبورما في الشمال الشرقي كذلك. وحضارة الهند قديمة جدًّا وقد أنتجت تربه الهند فلاسفة عظامًا قبل أن يولد سقراط، وانتشرت في الهند معاهد العلم، ووجدت المباني الضخمة في عهد كانت الجزر البريطانية تعيش في بربرية وفوضى، والهند بلاد العجائب والمفارقات حتى يمكن اعتبارها أقطارًا في قطر، فلها كل الأجواء، بسبب اتساعها، وتفاوت ارتفاع بقاعها؛ فبينما يكونُ الحرُّ شديدًا للغاية في سواحل ملبار وكور، ومندل، وسهول البنجاب ترى ربيعًا ساحرًا في قمم بعض الجبال، وثلوجًا تغطي شواهق همالايا، وبينما يغمر الفيضان بعض الأراضي نرى مناطق أخرى أعيا أهلها الجفاف، وطلب السقيا. وبينما ترى الصحارى الجرداء والأرض القاحلة، إذ بك ترى الغابات الكثيفة والمروج الخضراء والمزارع الفينانه.

وعن مفارقات الهند يقول "ريرانس": في الهند الحديثة يتقابل وجهًا لوجه الشرق في عصور بدائيته، مع الغرب في عصور حضاراته وتطوره، ومن مظاهر ذلك: الطائرات النفاثة التي تشق الجو؛ لتقيم شبكة مواصلات بين مدن الهند بعضها والبعض الآخر في حين لا تزال أشهر وسيلة للمواصلات داخل المدن عبارة عن الركشة، وهي مركب ذو ثلاثة عجلات يركبه شخص أو شخصان، ويدفعه حطام من بني آدم. سكان الهند: الهند مركز من مراكز الحضارات القديمة في العالم، وهي في هذا تضارع مصر والصين وآشور وبابل، ولكن حضارة الهند التي سبقت العهد الآري، ظلت غير معروفة حتى أظهرت الاكتشافات الحديثة مدى الرقي الذي عرفته الهند في الشئون المعمارية والزراعية والاجتماعية، قبل الميلاد بحوالي ثلاثة آلاف من الأعوام، أي: قبل الغزو الآري بحوالي ألف وخمسمائة عام، ولكن التاريخ الواضح للهند ارتبط بالعهد الآري. فقد قلنا فيما سبق: أن الهند تعتبر بلاد مقفلة إذ تحيط بها البحار والجبال ويصعب اقتحام الهند عن طريق البحر؛ لتعذر الملاحة في خليج البنجال، ولأن الشاطئ الهندي لبحر العرب عبارة عن جبال عاتية، وعلى هذا لم يكن البحر معبرًا للهند، وبخاصة في الأزمنة السالفة، قبل الرقي بنظم الملاحة، وكما صعب اقتحام الهند عن طريق البحر، صعب أيضًا اقتحامها عن طريق جبال همالايا الشامخة في الشمال، إلا أن هناك معبرين كان كل منهما منفذًا سلكته أجناس من البشر إلى الهند، حيث تكون السكان الذي نريد أن نتكلم عنهم. ويقع أحد هذين المعبرين في شرقي جبال همالايا، عند وادي نهر برهما بوترا، سمي الباب الشرقي، ويقع الثاني غربي هذه الجبال، ويسمى الباب الغربي،

ومن هذين البابين اقتُحمت الهند عدة مرات بأجناس مختلفة، ولهذا ولاختلاف أجواء الهند أصبح سكان الهند كما يقول "غوستاف لوبون": ذوي أمثلة متباينة؛ ففيها تجد شعوبًا بيضًا بياض الأوروبيين، كما تجد الزنوج والسود وبين هؤلاء وأولئك ألوان وألوان. فمن الباب الشرقي دخلت الشعوب الصفراء، التورانيين أفواجًا منذ آلاف السنين، يضيق الزمن بينها أو يتسع، وقد فر من وجهها بعض السكان الأصليين، واحتموا بقمم الجبال، أما أغلب السكان الأصليين؛ فقد ارتبطوا بالزاحفين، وتم في الجنسين ألوان من العلاقات؛ أنتجت ما أصبح بعد حين يعرف بالسكان الأصليين، وكان هذا المجتمع الجديد يتكون من جماعتين: إحداهما يغلب فيها الدم التوراني، والثانية يغلب فيها الدم الهندي، أما الذين آووا إلى قمم الجبال؛ فقد أطلق عليهم زنوج الهند. ومن الباب الغربي اقتحم الآريون بلاد الهند، وبهم ارتبط تاريخ الهند القديم، وأصل الآريين الجنس الأبيض مشكوك فيه، فيرى بعض الباحثين أنهم نشأوا ببلاد الدانوب بأوروبا، ثم هاجروا إلى آسيا عندما ضاقت بهم الأرض؛ متخذين طريق الشرق، حتى بحر مرمره، ثم عبروا البسفور أو الدردنيل، إلى آسيا الصغرى، واستمروا في سيرهم شرقًا، متجنبين الحضارات المزدهرة التي قد نشأت في طريقهم؛ حتى نزلوا فارس بالقرب من تبريز، ومن هناك انحدروا إلى الهند. ويرى باحثون آخرون -وهو الأرجح-: أن الجنس الآري آسيوي الأصل، كان يعيش في وسط آسيا في بلاد التركستان، بالقرب من نهر جيحون، ثم

زحفت أفواج ضخمة من هذا الجنس، في أزمنة غير واضحة، واتجهت نحو إيران عبر الهند، واتجهت كذلك نحو أوروبا. ويبدو أنّ الزحف الآري نحو الهند، قد تَمّ في القَرن الخَامس عشر قبل الميلاد، وقد حارب الآريون الممالك التي أقامها الجنس الأصفر بالهند، وانتصروا على الكثير منها، وكونوا لهم بها مناطق نفوذ، ولم يتصل الآريون بسكان الهند بطريق التزاوج، بل حافظوا غالبًا على سلالتهم البيضاء، وساقوا سكان الهند إلى الغابات والجبال، أو أخذوهم أسرى، وسماهم الأدب الآري المبكر أمة العبيد. واستنصر الآريون عليهم بإلههم "أندرا"، ومن دعائهم في ذلك: "يا إلهانا أندرا، إننا قد أحاط بنا قبائل داسيو عبيد، من جميع الجهات، وهم لا يقدمون الضحايا، وليسوا بآدميين، ولا يعتقدون في شيء، يا مهلك الأعداء أهلكهم، وأهلك نسل داسا العبد". والسبب في أن الآريين لم يتم التزاوج بينهم وبين الهنود هو: أن الآريين دخلوا الهند كشعبٍ مُهاجِر، لا كشعب مُحارب، والفَرْقُ كَبيرٌ بين الحالتين؛ فالجيش يكون عماده الرجال، الذين سرعان ما يتصلون بنساء الشعب المغلوب. أما الآريون؛ فقد دخلوا بثرائهم ونسائهم وأطفالهم، فلم يحتاجوا لنساء الهند للتزاوج، وكان عدم الحاجة للنساء مع الاستعلاء الذي يصحب النصر، من دواعي نشأة الطبقات، كما كان هذا من أسباب كثرة الألوان في الهند. أما مدى نفوذ الشعوب الصفراء التورانيين، والبيض الآريين على الهند، فيوضحه "غوستاف لوبون" بقوله: والتورانيون أشد الغزاة تحويلًا لعروق الهند من الناحية الجسمانية، والآريون هم الذين تركوا أقوى الأثر في عروق الهند من

الناحية المدنية؛ فمن التورانيين أخذ سكان الهند نسب أجسامهم، وتقاطيع وجوههم، وعن الآريين أخذ سكان الهند لغتهم ودينهم وقوانينهم، وسجاياهم وطبائعهم. ولم يتوار الآريون بالامتزاج في الهند بسرعة، كما توارى العرب في مصر؛ لأن عدم التزاوج ثم نظام الطوائف الحاسم، حال دون امتزاجهم في الهند بالتورانيين المقهورين زمنًا طويلًا، ولكن الامتزاج على كل حال، تم بتعاقب القرون، ومع الامتزاج؛ فإننا نستطيعُ أن نَرى أنّ آثار الآريين الجسمانية لا تزال بارزة في الشمال الغربي؛ حتى العهد الحاضر، كما يقول "ويش". ففي البنجاب نجد السكان أطول قامة، بشرتهم بيضاء، أو أميل إلى البياض، ملامحهم أدق، وهم بهذا يخالفون باقي الهنود، حيث تنتشر ملامح التورانيين، أو حيث توجد ملامح السكان الأصليين بالجنوب، وتقل ملامح الآريين كلما اتجهنا جنوبًا أو شرقًا، وبالتقاء الآريين والتورانيين مع السكان الأصليين بدأت الطبقات في الهند، وأصبحت ذات أهمية كبرى في تاريخ هذه البلاد. فمن الآريين كانت طبقة رجال الدين البراهمة التي تساوي "برهمن" وطبقة المحاربين "كسترا"، ومن التورانيين تكونت طبقة التجار والصناع "فسيا"، أما الهنود الذين اتصلوا بالتورانيين؛ فلم يَدخلوا التقسيم في أول الأمر، ولكن الحضارة الآرية امتدت إلى بعضهم بمرور الزمن؛ فأوجد الآريين منهم الطبقة الرابعة، وجعلوها طبقة الخدم والعبيد "شودرا". أما الذينَ لم تمتد لهم الحضارة الآرية من السكان الأصليين؛ لأنهم انعزلوا عن الفاتحين، فقد بقوا بعيدين عن التقسيم، وظلوا طريدي المجتمع أو منبوذين، وسنتكلم فيما بعد عن هذه الطبقة.

ونعود إلى ذوبان الجنس الآري، الذي اقتبسنا الحديث عنه آنفًا من "غوستاف لوبون"؛ لنقرر أنّ هذا الذوبان بدأ عندما أندفع بعض الآريين عن طريق ممر "دلها" الذي يَفصل بين الصحراء الغربية، وبين فروع نهر "الكينج" وفي المهجر الجديد تخلى الآريون عن كثير من خصالهم وتقاليدهم، وتبنوا كثيرًا من أخلاق الهنود، وطرق حياتهم؛ فتوقفوا عن الذبح وأكل اللحوم، إلا فيما يتعلق بالقرابين. وفقدت المرأة حياة الحرية والطلاقة، التي كانت تحياها في المجتمع الآري، وتوارى كثير من الآلهة التي كانت موضع تقديس في كشمير؛ حيث المهجر الأول للآريين بالهند، واستمر هذا الذوبان ينتشر حتى تم اندماج الآريين في الهند. ومن العوامل الواضحة الأثر على سكان الهند جميعًا شدة الحرارة؛ ففي ما عدا جبال الهمالايا التي تكسوها الثلوج نجد درجة الحرارة في الهند شديدة طول العام تقريبًا، ويرى "ويش" أنّ شِدّة الحَرارة كان لها أثر في السكان؛ فقد تسبب عنها عزوفهم عن العمل، وسرعة التعب إذا عملوا كما تسبب عنها نقص في القدرة على الابتكار، وفي الكفاية والنشاط على العموم. أما الناحية الرُّوحية؛ فتمتاز الهند بنصيب كبير فيها، ولكن ليس معنى هذا أن عامة الهنود على شيء من الصفاء الروحي، فإنه ليس في بلاد العالم كلها بلد تنمو فيه الخرافة وتزدهر كما تنمو في الهند، ولكن ذلك لا يقلل من نشاط الاتجاه الروحي في الهند؛ لأنّ الظروف الملائمة للخرافة والبدع، هي نفسها خير الظروف لصفاء النفس، فالاتجاه الروحي إذا سما اخذ وجهته نحو الفكر والعمق، وإذا كان ضحلًا أو مضطربًا أخذ طريقه نحو الخرافة.

اللغات في الهند: رأينا فيما سبق اختلاف عناصر السكان، واختلاف ألوانهم، ولكن اللغات في الهند كانت أكثر اختلافًا، وأكثر عددًا، وكانت الحياة القبلية المنتشرة بالهند، من أهم أسباب كثرة اللغات؛ فقد كانت كل قبيلة تكاد تكون مستقلة، تَعزِلُها الجِبَالُ أو الغَاباتُ أو الأنهار عن سواها من القبائل، ولها لغة خاصة بها، لا يعرفها سواها من القبائل أيضًا، وعلى هذا بلغت اللغات في الهند نحو مائتين وأربعين لغة، وثلاثمائة لهجة إذا صح ما يقوله "غوستاف لوبون" بالإضافة إلى الفَارسية التي كانت لغة رسمية للقصور، والمجتمعات الراقية في الهندوستان، والبهلوية وهي لغة المجوس. وعلى هذا لم يكن من الممكن التّفاهم بين سُكّان المناطق المختلفة، وهذا مهد الطريق للغة الإنجليزية؛ لِتكون لغة عامة، بجوار هذه اللغات المحلية، وهناك لغة أخرى تكونت في القرن الخامس عشر الميلادي، وهي اللغة الهندوستانية وأصلها آري، ثم دخلت عليها كلمات كثيرة من اللغات الفارسية، والعربية، والهندية، والتركية، وتسمى آلان: "اللغة الأردية" نسبة إلى الأردو وهو المعسكر إذ كانت لغة معسكرات المغول أولًا. وانتشرت هذه اللغة بين المسلمين وغير المسلمين، وشجعها الملوك والسلاطين؛ حتى ضارعت اللغة الإنجليزية في عمومها وانتشارها، وأصبحت لغة رسمية بجوار الإنجليزية، ولما تم تقسيم الهند إلى دولتي الهند والباكستان، اعتبرت هذه اللغة لغة إسلامية في نظر كثير من الولايات الهندية؛ فاحتضنتها الباكستان، وترعرعت هذه اللغة في الدولة الإسلامية الكبرى.

أما في الهند فقد عانت الأردية صور من الاضطهاد في بعض الولايات، ولكن ولايات أخرى هندية اعترفت بها، مثل: بُومباي، وأندرو ومدراس، ومن العجب أن الذين كانوا يُهاجمون الأُردية من الهنود، كانوا يهاجمونها بها كما قال "التانتيد نهرو". أما عن اللغات في الهند بعد التقسيم: فقد اتخذ الدستور الهندي اللغة الهندية، لغة رسمية للبلاد، وهي لغة قامت على انقاض السنسكرتية، ولما كانت هذه اللغة غير شائعة؛ فقد رؤي الاستمرار في استعمال اللغة الانجليزية كلغة رسمية للبلاد؛ حتى تصل اللغة الهندية إلى الانتشار الكافي، وإلى جانب اللغة الهندية اعترف الدستور بثلاث عشر لغة في مختلف ولايات الهند، وكل منها لغة حية ذات ذخيرة، ولها أدب يانع مترعرع. ومن هذه النظرة الجغرافية والتاريخية نأخذ فكرة عن الأديان في الهند التي هي أصل قضيتنا. في (موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية) للدكتور أحمد شلبي قال ما يلي: "رأى مجموعة من علماء مقارنة الأديان مؤداه: أن الغزيرة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، وأنّ الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، كما ذكرنا أن هناك عوامل تقوي هذه الغريزة، من أهمها: اختلاف قوى الطبيعة، ومواجهة الإنسان لهذه القوى، وجهًا لوجه، وإحساسه بالضعف تجاهها". والهند حقل رائع لتطبيق هذه المبادئ، فقد نشدت قوى الطبيعة وواجهها الإنسان الهندي وجهًا لوجه، وأحس بالضعف تجاهها؛ فأصبح متدينًا بطبيعته، يشغف بالروحانيات، ويسعى دائبًا إلى معرفة الله، ويتخذ الزهد وسيلة ليتخلص من دنيا

المادة، وينتظم في دنيا الروح، وهيهات أن تجد هندوسيًّا لا يعبد عددًا من الآلهة؛ فالعالم عنده زاخر بها، حتى أنه يصلي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الخط الحديدي الذي يصنعه الأوروبي، وللأوروبي نفسه عند الاقتضاء. وقد عرف الهنود القُدماء عبادة الحيوانات، وبخاصة البقرة، كما عرفوا قوى الطبيعة، وعرفوا كذلك عبادة عضو التلقيح؛ معتقدين أنه سبب الخلق، وكان هذا الإله يسمى عندهم "لينجا" وهي من اشتقاق كلمة إنجليزية "لينك" أي: صلة ورابطة، وفي العصور الآرية اندمج هذا الإله في الإله الذي تكون منه الثالوث الهندي، وعبادة الهنود للحيوانات نشأت عن الفكر التوطمي، أو عن اعتقادهِ بأن الله يتجلى في بعض الأحياء؛ فيحل فيها فيحتمل حلوله في هذا الحيوان أو ذاك، أو لأنهم آمنوا بالتناسخ، فجاز عندهم أن يكون الحيوان جدًّا قديمًا، أو صديقًا عائدًا إلى الحياة. وقد كان للبقرة من بين الحيوانات قدسية خاصة، ولذلك سنخصها بالذكر فيما يلي، ثم نتكلم بعد الحديث عنها عن آلهة الهنود من الظواهر الطبيعية. عبادة البقرة: من بين المعبودات سالفة الذكر: حظيت البقرة في الهند بأسمى مكانة، وهي من المعبودات الهندية التي لم تضعف قداستها مع كر السنينن وتوالي القرون؛ ففي "الويدا" حديث عن قدسيتها والصلاة لها، ولا تزال البقرة حتى الآن تحتفظ بهذه القدسية؛ ففي الأدب المنسوب للمهاتما غاندي، تفسير لما حظيت به البقرة قديمًا وحديثًا من نفوذ ديني.

وفي مجلة تصدر في بومباي بالهند سنة 1963 بها عدة مقالات عن عبادة البقر، نَقْتَبِس هُنا خُلاصة هذه المقالات، وأوّل ما نقتبسه نشيد من سامويدا نشرته المجلة في صفحة مُستقلة، داخل رسم تخطيطي للبقرة، ترجمة هذا النشيد: "صلاة إلى البقرة، أيتها البقرة المقدسة، لكي التمجيد والدعاء، في كل مظهر تظهرين به، أنثى تدرين اللبن في الفجر وعند الغسق، أو عجلًا صغيرًا أو ثورًا كبيرًا، فلنعد لك مكانًا واسعًا نظيفًا يليق بك، وماء نقيًّا تشربينه، لعلك تنعمين بيننا بالسعادة". وهناك أسطورة تروى كمحادثة نقتبسها من المجلة، وهي محادثة جرت بين خنزير وملك، ونحن ننقلها فيما يلي: "ذهب الخنزير يومًا إلى ملك وهو يصلي أمام البقرة، ويعلن لها أنها معبوده الأسير عنده، فقال الخنزير للملك: متى ستعبدني؟ فثار الملك ونهر الخنزير، قائلًا: اخرج وإلا قتلتك. بكى الخنزير وانتحب، وقال: نعم، أنا أعرف أنك تحب فقط لحمي، فأنا أموت لأقدم لك ما تحب، ومع هذا؛ فإنك تعبد البقرة ولا تعبدني، فأجاب الملك: إنك أحمق أيها الخنزير إنني آخذ لحمك بعد موتك، أي بعد أن تكون في حال لا تستطيع أن تمنح، ولا أن تمنع، وسرعان ما ينتهي لحمك. أما البقرة فإنها تقدم لي طعامي، طائعة وهي حية، وكذلك تستمر تقديمه من يوم إلى يوم دون نهاية، إنها رمز الإيثار ولذلك فإنا أعبدها". أما رأي المهاتما غاندي في عبادة البقرة؛ فجدير بأن نفسح له مكانًا وأن نحاول أن ننقله كله أو جله من هذه المجلة، وهو بعنوان: "أمي البقرة" وفيما يلي ترجمة أهم ما جاء به: إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم، وهي إحساس برباط الإخوة بين الإنسان وبين الحيوان، والفكر الهندي يعتقد أن البقرة أم للإنسان، وهي كذلك في الحقيقة، إنّ البقرة خير رفيق للمواطن الهندي،

وهي خير حماية للهند، عندما أرى بقرة لا أعدني أرى حيوانًا؛ لأنني أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم الأجمع. وأمي البقرة تفضل أمي الحقيقية من عدة وجوه: فالأم الحقيقة ترضعنا مدة عام أو عامين، وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا؛ لكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تتطلب منا شيئًا مقابل ذلك سوى الطعام العادي، وعندما تمرض الأم العادية تكلفنا نفقات باهظة، ولكن أمنا البقرة لا نخسر لها شيئًا ذا بال. وعندما تموت الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طائلة، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهي حية؛ لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون. أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم، ولكن لأبين السبب الذي دعاني لعبادة البقرة؛ إنّ ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين. وأما الآلهة الأخرى التي يعبدها الهنود؛ فهي ترتبط بالظواهر الطبيعية، الآلهة من الظواهر الطبيعية، من آلهة الآريين التي وردت في كتبهم المقدسة، مجموعة من الظواهر الطبيعية مثل: وارونا إله السماء، إندرا إله الرّعد، الذي يُسبب الأمطار، وكانت له الغلبة فيما بعد، الشمس وكانت تُعبد في خمسة أشكال؛ فتعبد لذاتها باسم سوريا، وتعبد كمصدر للانتعاش باسم ساوتري، وتعبد لتأثيرها في نمو الحشائش والنبات باسم بوشان، وتعبد كبنت السماء باسم مترا، وأخيرًا باسم وشنو أي النائب عن الشمس ثم استقل وشنو فعبد لذاته.

أيضًا أغنى إله النار، أوشا إله الصبح، رودرا إله العواصف، بارجينيا إله المطر والمياه والإنهار وايواتو إله الرياح، ويعلق الكتاب هنديوسم على كثرة الإلهه بقول: إن هذه الديانة توزع الآلهة حسب المناطق، وحسب الأعمال التي تناط بهذه الإلهه؛ فلكل منطقة إله، ولكل عمل وظاهرة إله. ويقول مولانا محمد عبد السلام الرنبوري: كانت الأمة الهندية متسامحة في كل ما يعرض عليها من الأفكار والمعتقدات تكثر عندها الآراء والابتكارات، وكان الناس حيارى مُشرفين على القبول والمعاضدة، عقائدهم متضاربة، وأفكارُهم متباينة؛ فشتْ فيهم رهبانية، وسرت فيهم باطنية، قامت حلقات الفكر في كل نواحي القطر، يتزعمها العرفاء والعلماء، ونشأت دراسات أخلاقية، قصدها العامة والخاصة. قد عمت الرياضات الشاقة المتعبة في سبيل حصول السيطرة على القوة الكونية، ورجى التبتل في الكهوف؛ للمراقبات النفسية، والانقطاع في الغابات لإتعاب الأبدان؛ لتبقى القوى الروحانية، وعلى هذا اشتهرت الهند بكثرة الأديان والمعتقدات التي تضارع في كثرتها لغات الهند، أو تقرب منها، وكانت الهندوسية أشهر هذه الأديان، وأوسعها انتشارًا؛ بل إنها الدين العام الذي حوى غالبية الهنود أو كلهم، وإذا تمردوا عليه أحيانًا، أو تمرد بعضهم عاد المتمردون بعد وقت قصير أو طويل إلى رحابه. وقد وضح كتاب (هندوستم) السبب في ذلك بقوله: "إنه لمن الصعب أن يُطلق على الهندوسية دينًا بالمعنى الشائع؛ فالهندوسية أشمل وأعمق من الدين، إنها صفة لملامح المجتمع الهندي بنظامه الطبقي، ومكان كل طبقة فيه، إنها الحياة الهندية وأسلوبها الخاص، الذي يعتبر في ذاته شعيرة من الشعائر، إنها خليط

يشمل الأمور المقدسة، والأمور الدنيوية جميعًا، إذ لا يوجد في الفكر الهندي حد فاصل بين الاثنين، إنها الاتجاهات الروحية والخلقية والقانونية، وهي إلى جانب ذلك مبادئ وقيود وعادات توجه الحياة الهندية، وتسيطر عليها. و (لويدا) كتاب الهندوس المقدس، يشمل مبادئ الفكر الهندي في أكثر مراحله، ويمكن أن نقسم تاريخ الفكر الهندي إلى العصور التالية: أولًا: العصور الويدي: وكلمة ويدا أو فيدا، كلمة سنسكرتية معناها الحكمة والمعرفة، ولذلك أطلقوا على واضعيها كلمة أريشيون أو الحكماء والعارفون. العصر الويدي الأول ويشمل ثلاث مراحل فرعية: أ- مرحلة انتشار الأفكار البدائية، وعبادة قوى الطبيعة: سواء في ذلك ما جلبه الآريون، أو ما كان نابعًا من البيئة الهندية، ويبدأ ذلك من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وفي الويدا معلومات مفيدة عن هذه المرحلة. ب- مرحلة تدوين الويدا، وتأويلها على أيدي البراهمة، ويُسمى هذا التأويل البرهمانات، وتبدأ هذه المرحلة من حوالي قبل الثامن قبل الميلاد؛ فقد ظهر في هذا العصر جماعة من أهل العلم والنظر اهتموا بالشئون الدينية، وفكروا في

عقائدهم، فأدى التفكير بهم أو ببعضهم إلى آراء مغايرة للعقائد الموروثة؛ تكون مذهبًا هو "البرهمة". ويرى ريري سدلت أن البراهمة قاموا بهذا التأويل لمصلحتهم، وليجعلوا امتيازاتهم مقدسة، ثم إنهم لاحظوا أن الاتصال بدأ يتم ويتعمق بين جنسهم وبين السكان الأصليين؛ فأرادوا أن يضعوا نظام الطبقات ليحول بين تمام الامتزاج، وسنزيد ذلك شرحًا إن شاء الله تعالى عند الكلام عن نظام الطبقات. وبهذه المرحلة تبدأ الهندوسية التي لا تزال موجودة. ج- مرحلة تلخيص الويدا في أسفار مقدسة تسمى "الأوباميشدات" ألاوباميشدات، وهي مرحلة تبدأ من القرن السادس قبل الميلاد وتستمر إلى ما بعد الميلاد بعدة قرون. أما المرحلة الثانية فهي: عصر الإلحاد في رأي أتباع لويدا، وفيه ظهرت الديانة الجينية، والديانة البوذية، وضعفت الديانة الويدية ابتداء من القرن السادس قبل الميلاد. ثالثًا: العصر الويدي الثاني هو عصر عود النصر للويدا وانتصارها على ديني الإلحاد الجينية والبوذية، ولكن مع التوسع في شروح الويدات، وبيان الخصائص الدينية والاجتماعية التي وردت بها. ومن أهم هذه الشروح قوانين "منو" التي وضعت حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، وبقوانين منو هذه تتضح الهندوسية، وتستقر معالمها وسنعود لشرائع منو بمزيد من الشرح فيما بعد إن شاء الله. وبهذا تصبح أكبر الديانات في الهند متمثلة في الديانات الثلاث: الهندوسية، والجينية، والبوذية. مع ما لهذه الديانات من كتب مقدسة لدى الهنود. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر.

الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر.

تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر) تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فنشير هنا -إن شاء الله تعالى- إلى بقية القضايا؛ حيث فلسفة الموت والروح وعلاقتها بالبدل، وعقيدة الهندوس في خلق العالم، وفكرة الخلاص من الشر؛ فنقول -وبالله التوفيق-: يُقسم أبو الريحان البيروني الهنود بالنسبة إلى اعتقادهم في البرهمية إلى خاصة وعامة، ويفترض أنّ الخاصة موحدون، وغيرهم وثنيون، وهو يقول في هذا المقام: إنما اختلف اعتقادهم الخاص والعام في كل أمة؛ بسبب أن طباع الخاصة تنازع المعقول، وتقصد التحقيق في الأصول، وطباع العامة تقف عند المحسوس، وتقتنع بالفروع. ويقول البيروني أيضًا: واعتقاد الهند في الله -سبحانه وتعالى- أنه الواحد الأزلي، من غير ابتداء ولا انتهاء، والمختار في فعله القادر الحكيم المدبر، المنفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد، وأما منشأ الوثنية في الديانة البرهمية: فهي أنهم كانوا يعبدون القوة المؤثرة في الكون، ثم لم يلبثوا أن جسدوا تلك القوى بأن اعتقدوا حلولها في بعض الأجسام؛ فعبدوا الأصنام بحلولها فيها، وتعددت آلهتهم حتى وصلت إلى ثلاثة وثلاثين إلهًا، ثم اعترى عقائدهم التغيير والتبديل، حتى انحصر الآلهة في ثلاثة أقانيم، وذلك أنهم توهموا أن للعالم ثلاثة آلهة وهي: "برهما" وهو الإله الخالق مانح الحياة، القوي الذي صدرت عنه جميع الأشياء، وينسبون إليه الشمس. الثاني: سيفا أو سيوا، وهو الإله المخرب المفني، الذي تصفر به الأوراق الخضراء، ويأتي بالهرم بعد الشباب، وينسبون إليه النار؛ لأنها عنصر مدمر مخرب. الثالث: "وشنو أو يشن" على حد تعبير البيروني ويعتقدون أن "وشنو" هذا حل في المخلوقات؛ ليبقي العالم من الفناء التام.

وهذه هي الإلهه الثلاثة أقانيم لإله واحد في زعمهم، والإله الواحد هو الروح الأعظم، واسمه ادما، والهنود يعتقدون أن بعض آلهتهم حلت في إنسان اسمه كريشنا، والتقى فيه الإله بالإنسان، أو حل اللاهوت في الناسوت في كرشينا، ويصفونه بأنه البطل الوديع المملوء ألوهية، لأن الإله وشنو قد حل فيه؛ فعندهم إذن فكرة الاتحاد والحلول، وفكرة الأقاليم الثلاثة، تلك التي آلت بعد إلى النصرانية. أما النفس وخلودها وتناسخ الأرواح: فهو أيضًا من أهم معتقدات الهندوسية؛ فالنفس في نظر البراهمة جوهر خالد صافٍ، ما دام منفصلًا عن الجسم، والنفس عندهم خالدة باقية لا يعتريها الفناء، ولا يتطرق إليها البلى، وهي تنتقل من جسم إلى جسم، ومن ذلك جاء اعتقادهم في تناسخ الأرواح، وقد قامت عقيدة التناسخ على دعائم ثلاث: 1 - اعتقادهم خلود الأروح. 2 - اعتقادهم أن الروح بعد مغادرة الجسم تكون في حنان دافعًا إلى الأجسام، لما انطبع فيها من المحسوسات. 3 - النفس في حالة بقائها في الجسم تُحيط علمًا بالجزئيات والكليات. وحول النّفس وخلودها يقول البيروني أيضًا: إذا تجردت النفس عن المادة كانت عالمة؛ فإذا تلبست بها كانت بقدراتها جاهلة، وظنت أنها الفاعلة، وأن أعمال الدنيا معدة لأجلها؛ فتمسكت بها، وانطبعت المحسوسات فيها؛ فإذا فارقت البدن كانت آثار المحسوسات باقية، فلم تنفصل عنها بالتمام، وحنت إليها وعادت نحوها، وهذه النظرية التي تُقرر

أنّ النّفس عالمة قبل اتصالها بالجِسْم، تُقارب نظرية أفلاطون في المثل العليا في النفس، ورُبّما كانت أصلًا لها، فالعالم لا يقع في قبضة أحد، بل هو يتنقل في البلاد والأمم تنقل الرياح والأمطار فيها، لا تقف دونه الحاجزات، ولا تسد الطريق عليه سدود من حدود وحصون. والنفس عندهم خالدة باقية لا يعروها الفناء، ولا يتطرق إليها البلى، ولقد صرح بذلك كتبهم، وهذا ما نقله البيروني يشهد بما نقول؛ قال باسيدو لأرجل يحرضه على القتال، وهما بين الصفين: إن كنت بالقضاء السابق مؤمنًا؛ فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن بموتى، ولا زاهبين ذهابًا لا رجوع معه، فإن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغير الإنسان، من الطفولة إلى الشباب والكهولة، ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العودة له. وقال أيضًا: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة، ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يبثها، ولا ريح تيبسها؛ لكنها تنتقل من بدنها نحو آخر، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق؛ فما عملك لنفس لا تريد. ومن هذا النص يفهم أن عقيدتهم في النفس أنها لا تريد، وأنها تنتقل من جسم إلى جسم، ومن ذلك جاء اعتقادهم في تناسخ الأرواح، وهو الطابع الذي امتازت به الديانة البرهمية؛ حتى لقد قال في ذلك البيروني: كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والأسبات علامة اليهودية؛ كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، من لم يتنحله لم يكن منها. ولذلك فاعتقادهم في بقاء النفس، وأنّ النفس في بقائها في الجسم تحيط علمًا بالجزئيات، وإن كان علمها بالصورة الكلية ثابتًا لها، وهي في تنقلها من جسم

إلى جسم تستفيد من كل جسم علمًا جديدًا بجزئيات لم تكن تعلمها؛ فليس من المعقول أن تحيط بكل الجزئيات علمًا؛ ببقائها أمدًا قصيرًا في جسم واحد، ولذلك احتاجات إلى تتبع الجزئيات، واستقراء الممكنات، وإن كانت متناهية عددها كثير، والإتيان على الكثرة وإحصاؤها علم يحتاج إلى فسحة في الأمد، ولذلك لا يحصل ذلك العلم للنفس إلا بمشاهدة الأشخاص والأنواع، وما يتناوبها من الأفعال والأحوال؛ حتى يحصل لها في كل واحد تجربة، وتستفيد بها جديدًا في المعرفة. لهذا كله كانت الأرواح تنتقل في الأجسام، وتنتقل متدرجة في الرقي من جسم إلى جسم، حتى تصل إلى الكمال المطلق، وتكون في صف الروحانيات المتجردة، وهي الملائكة، وتكون غير محجوبة عن التصرف في السماوات والأرض وتدبير الكون، وإذا كانت الروح قد ارتكبت خطايا في أثناء حلولها في أحد الأجسام أركست في حيوان دون الذي كانت فيه؛ لتكفر عن خطيئاتها، وتطهر من سيئاتها، ثم تسير قدمًا إلى الرقي، لا يعوقها عن بلوغ أوجه إلا خطايا تتأثم بها ثم تتطهر، وتستمر كذلك حتى تصل إلى الملكوت الأعلى مع الملائكة في أعلى عليين، وتتجرد من الغلاف الجسمي، وقد يكون تدرجها في أدنى؛ فتهوى إلى جهنم على حسب الأقوال عندهم. ولعقيدة التناسخ التي استولت على الفكر الهندي، وأثرت فيه كانوا يعتقدون أن الروح الواحدة، تحل في عدة من الأجسام، وأن الشخص قد تكون روحه قد حلت في مئات الأجسام قبله، يحكي البيروني عن ملك من ملوكهم أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يحرق فيه

ميت قبل، وأنهم طلبوا موضعًا كذلك فأعياهم؛ حتى وجدوا صخرة من البحر ناتئة؛ فظنوا أنهم ظفروا بالبغية، فقال لهم "باسيدو": إن هذا الملك أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة؛ فافعلوا ما تريدون؛ فإنما قصد إعلامهم وقد قضيت حاجتهم. ويقول الإمام محمد أبو زهرة: من عادات الهنود الدينية أن أجسامهم أكبارهم تحرق بعد الموت، وذلك لأنّ النار في اشتعالها تعلو شعلاتها إلى أعلى بخط عمودي على أفق الأرض، والعامود أقرب المستقيمات من السطوح والخطوط، ولذا تتجه الروح بهذا الاحتراق إلى أعلى، سائرة باتجاه عامودي فتصعد إلى السماء في الملكوت الأعلى في أقرب زمن، هذا سبب من أسباب حرق أجسام كبرائهم بعد موتهم، وهناك سبب آخر هو أن في الاحتراق تخليصًا للروح من غلاف الجسم تخليصًا تامًّا، وذلك أن في الجسم نقطة بها يكون الإنسان وهي متئشبه بالجسم متصلة به. فَلا تَخْلُص منه إلا باحتراق أمشاجه، وصيرورتها ذرات صغيرة بالاحتراق؛ فعندئذ تتخلص تلك النقطة، وهي معنى الإنسان، وبتخلصها تتخلص الروح من الجسم، وتعلو عنه لتتصل بجسم آخر، أو لتسمو لدرجة الملائكة، إن كانت قد وصلت إلى درجة الخلاص، وإذا تخلصت الروح من الجسم كان أمامها ثلاثة عوالم: أولها: العالم الأعلى وهو الملائكة، تصعد إليه الروح إن كانت بعملها تستأهل الصعود إليه، والخلاص من الجسم، والسمو إلى الملكوت الأعلى. والعالم الثاني: عالم الناس، وهو عالمنا الحاضر معشر الآدميين، والنفس تعود إليه بالحلول في جسم إنساني آخر؛ لتكتسب عمل خير، ولتتجنب عمل شر، إذا

كانت أعمالها في الجسم الأول لا ترفعها إلى مراتب التقديس في أعلى عليين، ولا تنزل بها إلى أسفل سافلين في العالم الثالث وهو عالم جهنم، وهذا العالم يكون لمرتكب الخطايا الواقعين في الذنوب، وليس هناك جهنم واحدة، بل لكل أصحاب ذنب جهنم خاصة بهم؛ فالمدعون على غيرهم حقوق كاذبة، وشهود الزور لهم جهنم خاصة بهم، وسافك الدم وغاصب حقوق الناس، والمغير عليهم وقاتل البقر لهم جهنم خاصة بهم. وقاتل البرهمي وسارق الذهب ومن صحب الأمراء الذي لا ينظرون إلى رعاياهم لهم جهنم خاصة، والذي يرد قول أستاذه ولا يرضاه، ويستخف بالناس ويستهين بالكتب المقدسة، أو يكتسب بها في الأسواق له جهنم أيضًا خاصة، وهكذا لكل صنف من الآثمين جهنم بمقدار يتناسب مع ذنبه، ومقدار ما فيه من فسوق، ومقدار ما فيهم من فسوق عن الدين وخروج من حظيرته. ثم هل جهنم دائمة وكذلك الجنة؟ منهم من يرى أن الجنة نزلها دائم، وأن الجحيم كذلك، وأنها لا الجنة ولا الجحيم أبدًا، على مقدار ما قدم الشخص من عمل؛ فإن كان العمل في الحياة لا يرفع إلى الجنة، ولا ينزل إلى الجحيم، أعيدت الروح إلى جسم آخر لتعمل ما يعليها أو يرديها، ومنهم من يرى أن طريق الاكتساب هي الإنسانية وحدها، وأن التردد فيها مكافأة قاصرة عن درجة الثواب والعقاب الأخروي، أما الجنة؛ فإنها في علوها تكون للنعيم الذي يستحقه من قدم عملًا حسنًا؛ ويكون البقاء فيها إلى أمد محدود. وإذا كان العمل الإنساني أثمًا وخطيئة تردت روح الشخص في الحيوان والنبات، وعقابًا لها على ما اجترحت من سيئات وقدمت من خطايا. وبقيت في ذلك أبدًا

حتى تتطهر مما اجترحت، وليست جهنم إلا هذا التردي عند هؤلاء فالجنة والجحيم ليستا أبديتين عند هؤلاء، بل هما مؤقتتان بهذا التأقيت وبعدها تصعد الروح درجة إلى العالم العلوي أو تنزل إلى مرتبة الإنسانية، وكلا الرأيين يسيرُ على مناهج تناسخ الأرواح، وإن اختلفت أنظارهم فيه، ومهما يكن من خلاف في هذا المقام؛ فالمُتّفق عليه أن البعث في العالم الأخروي إنما هو للأرواح لا للأجساد؛ فالروح أما في روح وريحان، وأما في شقوة وجحيم على نحو ما بينا. وعن فكرة الخلاص من الشر أيضًا يقول الدكتور طلعت أبو سيف في كتابه (أضواء على مقارنة الأديان): وروح كل شيء تعود في نهاية المطاف إلى مصدرها الأول الذي نشأت منه، وهو الإله والإنسان أحد الكائنات له ما يعرض لها، وروحه قطرة من نور الله، انفصلت عن الله أجلًا محدودًا، واتصلت به ثم تتصل بعده بكائن آخر وآخر، وهكذا ثم في النهاية تعود إلى الله متى جاء الأجل، وذلك عندما تتوقف الميول والشهوات وينقلب الإنسان على نفسه، ويتخلص عندئذ من تكرار المولد ويمتزج بالإله، وهذا هو الهدف الأسمى للحياة عند الديانة الهندوسية إذ يتحرر الإنسان من رق الأهواء، وتنعدم حقيقة الحواس ويتحد بالإله. ويقول الدكتور رءوف شلبي في كتابه (الأديان القديمة في الشرق) والذي كان يسمى بـ (آلهة في الأسواق) في طبعة سابقة، عن مسألة الروح كما يَدينُ بها البَراهمة أو كما هي في الديانة الهندوسية يقول: "لقد أودع الإله في كل امرئ نفسًا تُسمى عندهم آتما، وهذه النفس في البدن بمنزلة السائق من العربة؛ فكل الحواس لا يمكن أن تؤدي وظائفها إذا لم تكن "آتما" وهي النفس صاحبة القيادة والإرادة،

وذلك لأن النفس "آتما". هذه أصلها من براهما، الذي يعتبر لها كقرص الشمس، وهي شعاعه تلك الأشعة التي تدخل في كل مكان على امتداد العمران والكرة الأرضية، وهذه النفس لها أوصاف ذكرها الهندوس في الكتاب الحادي عشر في الفقرات الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين، وترجمتها كالآتي: لا تؤثر فيها الأسلحة، ولا تؤثر فيها الرياح، لا يَبُلّها المَاء لا تحرقها النيران؛ خالدة أبدية، مَوجُودة في كل مكان، لا تنتقل من شخص إلى آخر، دائمًا مع صاحبها، لا تتحرك لم تولد لا تتبدل ولا تتغير، لا يحيط بها فكر، كاملة سواء كانت للرجال أو للنساء. إن النفس كاملة، ولكن البدن الذي يولد ليس كاملًا بل هو ناقص، واتصال النفس بالبدن علاقته غير معروفة أولها. ولهذا؛ فإن البدن عليه أن يستغل وجود الروح فيه ليعمل أعمالًا كثيرة، على مظنة أنه لا حياة بعد ذلك أبدًا، وأن الموت الذي سيأتي ولا يمكن دفعه أبدًا سوف يقضي على الحياة نهائيًّا، والروح بعد ذلك سوف لا تنقل إلى بدن آخر، ولهذا وجب أن يحرق البدن حسب تعليم "كارما" الذي يقضي باتحاد الروح مع الجسد، وإحراقهما عند الموت، أما الروح فهي أبدية باقية، فحسب أعمال صاحبها تنال الجزاء؛ فهي إما في الجنة، وإما في النار حسب أعمال صاحبها. وعن عودة الأرواح يقول: وبعد أن تنال الروح نصيبها من النار أو من النعيم، لا تستقر هناك، بل تُولد من جديد، وتظل هكذا مرارًا وتكرارًا، حتى تعرف حقيقتها؛ فتنفرد بذاتها، بإلهها، وهنا تتخلص من مسؤولياتها الدنيوية، ثم تعود إلى رَبّها في عالم البهجة والسعادة، ويتم ذلك إذا انتهت كل البواعث التي

تشد "آتما" التي هي النفس، إلى العودة إلى الدنيا؛ فلا يبقى لها من أهل، إلا أن تتحد مع "آتما" إلهها وذلك هو المأرب الأخير للروح. ثم يعقب الدكتور رءوف شلبي تحت عنوان ملاحظة يقول: في النصوص التي قرأتها باللغة الشرقية عبارات تفيد: أ- أن الروح لا تنتقل من بدن إلى بدن آخر. ب- ولكنها بعد أن تنال نصيبها من النعيم أو الجحيم تولد من جديد. ج- لم تبين النصوص محل هذه الولادة ولكنها ذكرت أن هذه العملية تكرر دون أن تصف المحل التي تحل فيه الروح. د- غاية الأمر أن عملية تكرار نعيم الروح وعذابها، ثم ولادتها من جديد لها نهاية هي: أنّ الرّوحَ تَتّصلُ منفردة بربها؛ فتَعْرِفَ حَقيقتها، وعندئذ يكتب لها الخلود والبقاء. ولعل هذا المعنى بعيد كل البعد عن مفهوم تناسخ الأرواح، أو لعل هذا مذهب في مفهوم تناسخ الأرواح، صحيح أن الشهرستاني قرر أن أصحاب التناسخ مختلفون في تقرير هذا المبدأ، لكنه عنف الهندوس ووصفهم بأنهم أشد الناس اعتناقًا في التناسخية، ولعل هؤلاء الذين وصفهم بذلك غير البرهانية لأنه ينطبق عليهم وصف الشهرستاني لأصحاب الروحانيات، الذين أثبتوا متوسطات روحانية جاءت برسالة من عند الله في سورة البراهمة، التي نقلت عنها أسماء الريش، الملهمون الذي نزلت عليهم كتب لويدا. وإذا فليس صحيحًا على الإطلاق أن يقال: إن الهندوسية تقول بالتناسخ بمفهومه المصطلح عليه، أن تحل الأرواح في صورة حيوانات،

ويُؤكد هذه النحلة الجينية، وهِي النِّحلة التي قامت تُعارض الهندوسية، تقول بتناسخ الأرواح، وهذا يُبَرهِنُ على أن الهندوسية لا تقول به؛ لأن الجينية قامت خاصة لمعارضة التدين الهندوسي. ولست أدافع عن الهندوسية؛ فهي نحلة ضالة -ولا شك في ذلك- ولكنني أحب أن أكون أمينًا في ما قرأته من مصادرهم المباشرة أنهم يقولون: ببغي نقل الروح إلى بدن آخر، ويقولون كذلك بعودة الروح إلى الوجود الذي يتكرر؛ حتى تخلص الروح إلى ربها، فتخلد في عالم السرور والبهجة، وذلك حسب منطقهم ولغتهم؛ فمن استطاع أن يثبت لهم تناسخ بأدلة علمية، فلست مُحاجًا ولا خصمًا في هذه القضية. انتهى كلامه - رحمه الله تعالى. وعن مسألة العمل والجزاء يقول: "كارما بهالا" هاتان عبارتان معناهما العمل والجزاء العمل كارما، والجزاء بهالا؛ فالأعمال الخيرة جزاؤها لا بد أن يكون خيرًا وحسنًا، والأعمال الشريرة لا بد أن يكون جزاؤها مثلها شرًّا ومقتًا؛ ولهذا فإن فكرة الخير والشر هذه تدفع الإنسان إلى أن يحرص دائمًا كل تصرفاته بفعل الخير، وأن يبتعد عن كل ما يفسد الخلق والسلوك والحياة. أنواع الجزاء: والجزاء الذي يعطى للمحسنين الخيرين ثلاثة أنواع: سان شيتا: وهي النِّعم والآلاء التي يعيشُ فيها الإنسان حاليًا، ولها دوام في المستقبل، و"بارابدا"؛ النِّعمُ التي نعيشُها في وقت محدود، وليس لها استمرار،

و"كريامانا" الجزاء الطيب الذي لم نحصل عليه في حياتنا المعاصرة سوف نحصل عليه في الحياة المستقبلة بعد الموت، فالمحسنون الطيبيون في الدنيا الذي لا يحصلون على أجر في الدنيا سوف يدخر لهم جزاؤهم الطيب في الحياة الآخرة. ويقولُ عن مسألة الخلاص أيضًا: الخلاص من جاذبية الدنيا إنّ غاية الغايات للإنسان ليس فقط أن يقدم الخير لنفسه وللمجتمع، وليس فقط أن يرتفع عن الآلام والبلايا، ولكن غاية الغايات أن يتمكن من الخلاص من جاذبية الحياة الدنيا، التي يعبر عنها بلغة القوم "موسكا" والخلاص من جاذبية مشاغل الحياة الدنيا ليس بالموت والفناء، بل يُمكن الحصولُ على هذه الغاية والإنسان ما زال حيًّا، وذلك عن طريق الفداء والتضحية المستمرة، حتى يحصل على رضوان الإله "سانج هانج ويدي". على رضوان الإله الخالق، ووسيلة ذلك هي ممارسة رياضة "اليوجا" تلك الرياضة التي تقوم على أساس من التذكر والتفكير والصمت، وبهذه الرياضة يحصل الفرد على "جنانا" الوسيلة الوحيدة للخلاص من كل الآلام والبلايا والمصائب، تلك التي تأتي لتمحص الإنسان، وتدفعه إلى أعلى؛ ليحل فيه الروح المُقَدّس التي يشعر بسببها بسمو روحه، وترفعها على الشعور بالمصائب والآلام؛ فالبلايا في صورتها السهلة مثلما تفعله الأم بولدها، عندما تَربط يديه كي لا يأكل التراب؛ فهو يبكي ويتألم، ولكنها مسرورة؛ لأنها تدفع عنه شرًّا وبيلًا، وكذلك البلايا أنها تأتي بخير الإنسان، وعليه أن يتخلص منها بالرياضة والحصول على "جنانا". فالرّجل المُتدين هو الذي يبتسم للأذى؛ فذلك أرقى أنواع الطب الروحاني، وبذلك أيضًا في الآلام والبلايا لا تترك أثرًا في البدن الجسماني، أما عن "اليوجا" التي هي وسيلة الحصول على السعادة الروحية "موسكا" فهي

أولًا: الاتصال والوحدة مع الإله، وهي "جنانا يوجا". ثانيًا: العملُ على أن يَحصُل المَرء على "جنانا" بأسلوب العبادة الخالصة، وفعل الخيرات وهي باللغة السنسكرتية "بهيكتي يوجا". ثالثًا: أن يفعل المثل العليا دون انتظار شكر من الناس وهي بلغة القوم "كارما يوجا". رابعًا: أن يعيش زاهدًا "تيبا" آمنًا خاشعًا متبتلًا وهي بلغة "رايجا يوجا". وهذه الفواصل الأربعة كلها مساو للبعض، وكلها يؤدي إلى بعض، وكلها مساو في الوسيلة التي تؤدي إلى الغاية، وهي "موسكا" أي: الخلاص والسعادة والسرور، ومِمّا يرتبط بهذه الفكرة؛ فِكْرَةُ الخَلاص من الشر، والوصول إلى السعادة والسرور، ما ذُكر في الديانة الهندوسية، تحت عنوان "المنجيات والمهلكات". أولًا: المُهلكات: وهي النفس والنسيان، والغضب والسكر، والحيرة والحقد، وهذه الأمور الستة تتعلق بالوجدانات والأفئدة، وبقيت المهلكات في ستة أفعال تتعلق بالهدم، وهي: أن تحرق مال غيرك، أن تسم غيرك، أن تمارس السحر، أن تحدث فوضى أن تكون عنيفًا، أن تفتن الناس. ومن المهلكات أيضًا: سبع خصال هي: الجمال الثراء الذكاء النسب الرفيع الفتوة شرب الخمر، الانتصار.

ثانيًا: المنجيات: "تليكايا" ومعناها: ثلاثة أسس للتعريف البشري، وكلمة "باري سدها" معناها الواجب تنظيفه وتطهيره، والمسائل المحتاجة إلى هذا التطهير بالقطع، تكون أساسًا للسلوك، وهي أُسس التفكير، أسس المحادثة، أسس الفعل، وتفصيل ذلك عندما يوجد التفكير الصالح يلحقه الحديث الصالح، وينتج عن ذلك الفعل الصالح؛ فتكون جميع السلوكيات صالحة، ومثمرة وطيبة. أ- أسس التفكير الصالح ثلاثة وهي: 1 - لا نؤجل ولا نرغب في شيء ليس حلالًا. 2 - لا نفكر بسوء أو بشر نحو أي من البشر. 3 - لا ننكر الثواب الذي يدخره الله للصالحين. أسس الحديث الصالح أربعة وهي: 1 - عدم محبة الشتائم. 2 - عدم محبة الألفاظ النابية. 3 - عدم محبة الفتنة. 4 - لا ينكر الوعد ولا يخلفه. ج- أسس الفعل الصالح ثلاثة وهي: 1 - لا يعذب أحدًا ولا يقتل نفسًا. 2 - لا يسرق. 3 - لا يزني.

هذه باختصار المنجيات والمهلكات؛ حسب تبويب كتاب النحلة الهندوسية، نقلًا من مصادرها الأساسية، ولقد جانب الصواب كثير من كتاب الغرب وغيرهم، إذ عدو هذه الصفات فنقصوا وغيروا، وفي مقدمة هؤلاء "المستر جلف صمويل داو" في كتابه (المجتمع ومشاكله) نقلًا عن كتاب (الأديان القديمة في الشرق) للدكتور رءوف شلبي رحمه الله تعالى. وفيما يرتبط بذات القضية في كتاب (قصة الديانات) للأستاذ سليمان مظهر، قال عن ثواب الحياة الأخرى: وقال الكهنة البرهميون: إذا كنت صالحًا في هذه الحياة؛ فستجازى عن صلاحك في الحياة الأخرى، وتساءل القوم: أي حياة؟ فأجاب الكهنة: لكل كائن حي روح، وهذه الروح تأتي من براهمة روح العالم، وبراهمة لا يموت قط. وهكذا فإن روح الكائنات الحية التي تأتي من روح العالم لا تموت قط، وتساءلوا من جديد: إذًا ما الذي يحدث للروح عندما يموت الإنسان؟ وكان الجواب: عندما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده، وتدخل على الفور جسد طفل ولد لتوه، فإذا كان الإنسان ممن يحيا حياة طيبة صالحة، ولد في طائفة أعلى، بينما يولد في طائفة أدنى إذا كان يحيا حياة فاسدة مليئة بالشر. وسأل بعض الناس: وما الذي يحدث للإنسان إذا هو استمر يحيا حياة فاسدة، بعد حياة أخرى أكثر فسادًا؟ فأجاب الكهنة مثل هذا الإنسان يظل يولد في طائفة أدنى من طائفته مرة بعد أخرى، وقد يولد عليلًا ليظل يشقى طوال حياته عقابًا له على ما أساء، بل وما

من بأس في أن يولد حيوانًا أعجم، وقد يولد إنسان الذي هو غاية في السوء فيلًا، وإذا صار فيلًا شريرًا؛ فإنه بعد موته يولد مرة أخرى كلبًا، وإذا كان كلبًا فاسدًا ظل ينحدر كلما ولد؛ حتى يولد برغوثًا أو بعوضة. وأراد القوم أن يعرفوا السر الذي يجعل أرواح الصالحين من الناس تتجسد في طوائف أعلى، بينما يجعل أرواح السيئين تتجسد أجسامًا من الطوائف الدنيا، أو الحيوانات؛ فقال الكهنة: هناك قانون للحياة يقول "جزاء الخير خير مثله، وعقاب الشر شر مثله" وهذا القانون اسمه "الكارما" ورأى الناس بالفعل أن هذا ما يجب أن يكون، فالعمل الصالح يجب أن يثاب عليه، والعمل السيء يجب أن يعاقب عليه المرء، وبدا صواب لديهم أن يكون في الحياة مثل هذا القانون. وظهر سؤال: ولكن ما الذي يحدث للمرء إذا هو استمر يحيا حياة صالحة بعد حياة صالحة أخرى؟ وأجاب الكهنة: إذن يثاب؛ فإذا كان رجل من طائفة غاية في الانحطاط يحيا حياة طيبة، فإنه يولد في المرة التالية في طائفة أعلى، وإذا ظل مواظبًا على الصلاح، يظل يرتفع مرة بعد مرة حتى يصبح كاهنًا برهميًّا، وماذا يحدث لو أن الكاهن ظل صالحًا، فبأي صورة يولد من جديد؟ عندئذٍ لا يولد مرة أخرى، فهنا تنتهي دورة الحياة، ولكن ما مصير تلك الروح التي تظل خيرة مع مجرى الزمن؟ إن أرواح الكائنات تأتي من "براهمة" روح العالم؛ فعندما تنتهي الروح من دورة الحياة، تعود إلى روح العالم، وتتحد مع براهما، وهذا هو ما يسمى بـ"النرفانا" وتلك أعظم سعادة يمكن أن تتمناها روح، ومن هنا كان على كل الناس أن يحيا حياة صالحة، وألا يفعلوا الشر؛ حتى يمكن في الحياة أن يتحدوا مع روح العالم وأن يدخلوا النرفانا.

فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس.

فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس من هنا بالذات جاء تناسخ الأرواح، كما يؤمن به الهندوس؛ فالروح تتقمص عديدًا من الأجساد خلال رحلتها في الفضاء الخارجي، حتى تصل إلى هدفها النهائي، وتنطبق نظرية التناسخ على كل الكائنات سواء أكانت بشرية، أم حيوانية، أم حشرية، أم نباتية؛ فكلها يحكمها قانون واحد ولا تختلف روح عن روح إلا بقدر ما يقوم صاحبها به من أعمال. وعن فكرة التقمص هذه أو تناسخ الأرواح، وأسسها الفلسفية، وآثارها في حياة الإنسان، يقول "سيرغي كوكاريث" في كتابه (الأديان في تاريخ شعوب العالم) ترجمة الدكتور أحمد محمد فاضل: الإيمان بالتقمص تبدأ في هذا العصر بالبروز، واحدة من النظريات الدينية الهامة، والتي اعتبرت فيما بعد حجر الزاوية في الديانة الهندوسية: إنها فكرة التقمص، ويَكَادُ الشك لا يُخَامِرُنا فِي أنّ هذه الفكرة انتقلت لتحل في الديانة البرهمية من معتقدات محلية قديمة، ثم إنّ التّصورات في دين فيدا لدى الآريين حول مصير الروح بعد الموت، كانت تتصف عمومًا بالضبابية؛ أما الإيمان بتجسيد ثان لروح الميت، فكان على ما يبدو معدومًا تمامًا. وكان الأمر على النقيض في معتقدات القبائل المحلية "الدراوديين والموندا" حيث شغلت التصورات التطومية عن تكرار التجذر، كما تشغل الآن مكانة مرموقة، لقد لاحقت تطورها بشكل ما في البرهمية، غير أنه كان تطور خاصًّا يرتبط بالبنيان الطائفي،

توجد تعاليم في قوانين "مانو أو منو" حول انتقال الأرواح، غير أنها منصوصة فقط في الفصل الأخير الثاني عشر، ويَجري بدلًا منها في الفصول الأخرى، تصوير أفكار عن تعذيب الآثمين في جهنم، وإنما في المؤلفات البرهمية المتأخرة، في "الأبوماشيدات" تسود فكرة انتقال الروح. وحسب التصورات البرهماتية؛ فإن روح الإنسان لا تهلك بعد موته، بل تنتقل لتحل في جسد مادي آخر، أما في أي شيء ستتجسد؛ فهذا يرتبط بسلوك المرء في حياته الحالية، وقبل كل شيء بدرجة مراعاته وتقيده بالقواعد الطائفية، إن القواعد الرئيسة والأساسية هي التقيد بقواعد الطائفة، فإذا قام "شودري" بخدمة الطوائف الأخرى بكل استقامة وخنوع، مُنفذًا كافة مبادئ سلوك طائفته، فسيحظى عند وفاته، بإمكانية الولادة ثانية متقمصًا في إنسان من طائفة أكثر رفعة. وعلى العكس فالمرء الذي يخرق مبادئ طائفته، لن يتمكن في التقمص المقبل في أن يكون في طائفة أدنى فحسب، بل ربما يتحول إلى أكثر الحيوانات وضاعة، حتى إن البرهماتيين وضعوا مقولة الذنوب التي ينال الإنسان عنها حسابًا محددًا، ولقاء الذنب السابق التصميم على المرء أن يتقمص كمندوب لطائفة دنيا، وكحيوان مقابل آثم اللسان، إما لسلوك كله ذنوب فيكون التقمص في مادة جامدة لا روح فيها، وهكذا اتخذ الإيمان القديم بالتقمص شكل عقيدة خاصة بذاتها، عن يوم حساب الآخرة؛ لتصبح في خدمة التكريس النظام الاستثماري الطائفي دينيًّا. وأما عن "الكارما" فيقول: تَمّت في الفلسفة الدينية الهندية، وقتذاك صياغة أساس نظري لتعاليم التجدد، أي: إعادة الولادة، إنها فكرة "كارما" ومفهوم

كارما معقد، يفسر بأشكال مختلفة، من قبل تيارات الفلسفة الهندية المختلفة، وهو يطابق في اللغة الروسية أثنين من المفاهيم السبب والمصير، ويكتب الفلاسفة الهنود منهم شاتر، جيوج، داتا، اتشاتر جي، وجيم داتا، قائلين: إن قانون كارما يعني أن كل سلوك المرء الذاتي حسنًا كان أم سيئًا يستدعي نتائج مطابقة له في حياته؛ فإن كانت التصرفات تجري لقاء رغبات؛ فسيجني منها الثمار، أي: إذا كانت ناتجة عن سبق تدوير. إن كل تصرف حسن يؤدي إلى مكافئة الإنسان، وكل عمل طالح يستدعي العقاب، لكن القاعدة تقول: إن هذا لم يتم في هذه الحياة، بل في التقمص المقبل إن مصير الإنسان بالذات، أو أي كائن آخر في هذه الحياة، ليس سوى نتاج سلوكه في الوجود السالف، والإنسان نفسه يصنع مصيره في تقمصه المقبل بسلوكه، وهكذا ربطت فكرة "كارما" الفلسفية في أساس التعاليم البرهماتية حول التجدد. ويقول الدكتور محمد جابر عبد العال الحيني في كتابه (في العقائد والأديان) حول نهاية الروح الكاملة: يصور عادة نهاية الروح الكاملة التي فيها تتحد المادة والروح، بحالة شخص في نوم عميق بلا أحلام، و"الهندستانية" لا تعني بذلك عدم وجود الروح أو فنائها، ذلك بأن الروح عندهم خالدة، إنما يعنون بذلك الدُّخول في النفس العظيمة، وعلى ذلك فهي فيها بلا مادة تلك المادة التي كانت مجال نشاطها، وتُصبح الأغراض عملية في حالة لا وعي. وتذهب الهندوستانية والبوذية تتفق معها، إلا أن هذه الحالة للروح البشرية، هي حالة السعادة المذهلة، وهي النرفانا عند الهندوستانية، والنبانا عند البوذية،

وكلاهما يعنيان أنها حالة انتفاء لهيب الرغبة، ومن ثم فإن الموت لا دخل له في هذه الحالة، ولا يتأتى إلا في حالة من له طابع خاص، والذي يتوقع "استوس بتا" في هذه الحياة الدنيا، يقتضيه ذلك رياضة نفسه؛ حتى يصل إلى حالة النوم، وهي المرحلة النهائية في "اليوجا" وذلك عندما ينال "سنباها" التي معناها الحرفي: هو الجمع معًا أو الفناء، وهذه الحالة تكون إما وقتية وإما دائمة. ومن الواضح أن هذه العبارات تصور حالة الروح الكاملة بعد خلاصها من الجسد. وإليك النُّصوص التي تبين هذه النظرية في كتابه "هدبرينكا" في الفقرة الرابعة من الثالثة والسابعة عشرة: في حالة اليقظة هذه يسرع مرة ثانية بعد طوافه، ورؤيته الحسن والقبيح، إلى العودة لحالة النوم، وفقًا للمدخل وموضع الأصل وتبين "ألبير بري هدرينكا" "السوسبتا" في الفقرة من ثلاثة وعشرين إلى الثانية والثلاثين: حقًّا إنه حينما لا يرى هناك بعينيه؛ فهو على التحقيق رأي، وإن لم يكن يرى ما هو عادة يرى، لا لأنه لم يكن هناك توقف لرؤية رأي بسبب عدم فقدانه أنه رأي، ما يرى لا يكون شيء آخر غير نفسه، ومنفصلًا. حقًّا أنه حينما لا يفكر هناك، فهو على التحقيق مفكر، وإن كان لا يفكر بما تعوده من تفكير؛ لأنه لم يكن هناك توقف لتفكير مفكر، ما يفكر فيه لا يكون في شيء آخر غير في نفسه ومنفصلًا، وهذا التعبير نفسه يتكرر بالنسبة للشم والذوق والكلام والسمع واللمس والتعرف على نحو ما قيل في الرؤية والتفكير، وينهي الحكيم هذا الجزء من حديثه للملك قائلًا: "حقًّا حَيثُما يبدو أنه شيئًا آخر؛ فإن المرء يرى ويشم ويذوق ويتكلم، ويسمع ويفكر، ويَلْمَس ويَعرف هذا الشيء الآخر، ولكن أيها الملك إذا توحدت لرؤية بحر من غير تعدد، فإنه يصبح هو

الذي عالمه "براهمة" وبذلك يكون "يجنافاكيا" قد وجهه، وهذا أعلى طريق الإنسان، وهذا أقصى ما يبتغي، وهذا أسمى عالمه وهذا أعظم سعادة له. أما المخلوقات الأخرى، فلا تحظى في حياتها إلا بجانب من هذه السعادة. ويبدو أن هذا الحكيم "يجنافاكيا" مقتنع بأن الإنسان لا يستطيع أن يكون دائمًا في حالة "سوسبتا"؛ ذلك لأنه يمضي قائلًا: أن الإنسان وقد طاف واستمتع بحالة "السوبستا" وبِمَا فيها من سعادة كاملة، يقول: إنه وفقًا للمدخل، وموضع الأصل يعود المرء سريعًا إلى حالة اليقظة. وألخص هذه القضية من (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة) فنقول، حول معتقدات الهندوس في الكارما وتناسخ الأرواح وانطلاق وحدة الوجود: 1 - الكارما: قانون الجزاء أي: أن نظام الكون إلهي قائم على العدل المحض، هذا العدل الذي سيقع لا محالة، إما في الحياة الحاضرة، أو في الحياة القادمة، وجزاء حياة يكون في حياة أخرى، والأرض هي دار الابتلاء كما هي دار الجزاء والثواب. 2 - تناسخ الأرواح: إذا مات الإنسان يسمى منه الجسد، وتنطلق منه الروح لتتقمص وتحل في جسد آخر، بحسب ما قدم من عمل في حياته الأولى وتبدأ الروح في ذلك دورة جديدة. 3 - الانطلاق صالح الأعمال وفاسدها ينتج عنه حياة جديدة، متكررة لتثاب فيها الروح أو لتُعاقب؛ على حسب ما قدمت في الدورة السابقة. بل لم يرغب في شيء، ولَن يَرغب في شيء يتحرر من رق الأهواء، واطمأنت نفسه؛ فإنّه لا يُعاد إلى حواسه، بل تنطلق روحه لتتحد بالبراهمة.

يُؤخذ على هذا المذهب: أنّه جَعَل التصوف والسلبية، أفضل من صالح الأعمال؛ لأن ذلك طريق للاتحاد بالبراهمة. 4 - وحدة الوجود: التجريد الفلسفي ارتقى بالهنادكة إلى أن الإنسان يستطيع خلق الأفكار، والأنظمة، والمؤسسات كما يستطيع المحافظة عليها أو تدميرها، وبهذا يتحد الإنسان مع الآلهة، وتصير النفس عين القوة الخارقة: أ- الروح كالآلهة أزلية سرمدية مستمرة غير مخلوقة. ب- العلاقة بين الإنسان وبين الآلهة كالعلاقة بين شرارة النار والنار ذاتها وكالعلاقة بين البذرة والشجرة. ج- هذا الكون كله ليس إلا ظهور للوجود الحقيقي والروح الإنسانية جزء من الروح العليا. أفكار ومعتقدات أخرى مرتبطة بهذه القضية عند الهندوس: الأجساد تحرق بعد الموت؛ لأن ذلك يسمح بأن تتجه الروح إلى أعلى وبشكل عامودي؛ لتصل إلى الملكوت الأعلى في أقرب زمن، كما أن الاحتراق هو تخليص للروح من غلاف الجسم تخليصًا تامًّا. عندما تتخلص الروح وتصعد يكون أمامها ثلاثة عوالم: 1 - إن العالم الأعلى عالم الملائكة. 2 - إن عالم الناس مقر الآدميين بالحلول. 3 - وإن عالم جهنم وهذا لمرتكب الخطايا والذنوب. ليس هناك جهنم واحدة بل لكل أصحاب ذنب جهنم خاصة بهم. البعث في العالم الآخر: إنّما هو للأرواح لا للأجساد يترقى البرهمي في أربع درجات:

1 - التلميذ وهو صغير. 2 - رَبُّ الأسرة. 3 - النّاسك ويقوم بالعبادة في الغابات إذا تقدم به السن. 4 - الفقير الذي يخرج من حكم الجسد وتتحكم فيه الروح ويقترب من الآلهة، المرأة التي يموت عنها زوجها، لا تتزوج بعده بل تعيش في شقاء دائم وتكون موضع للإهانات والتجريح، وتكون في مرتبة أقل من مرتبة الخادم، قد تحرق المرأة نفسها إثر وفاة زوجها، تفاديًا للعذاب المتوقع الذي ستعيش فيه، وقد حرم القانون هذا الإجراء في الهند الحديثة. الديانة الهندية تجيز عقد القرآن للأطفال وهم يحبون، ويحدث أن يموت الولد فتشب البنت أرملة ابتداءً، ولكن القانون الهندي الحديث حرم ذلك ومنع عقد القرآن إلا في سن الشباب، ليس للفرد أهمية إلا إذا كان عضوًا في جماعة، وتكون هذه الجماعة عضو في جماعة أكبر، ذلك أن العناية للجماعة لا للفرد، يلاحظ هبوط المستوى الاقتصادي لمعتنقي الهندوسية؛ لأن بعض الطبقات لا تعمل، ذلك لأن العمل لا يليق بمكانتها السامية، كطبقة البراهمة مثلًا. نظام الطبقات يعطل مبدأ تكافؤ الفرص، رفضت الهندوسية حركة الإصلاح الداخلي المتمثلة في الإسلام، وقاومتها محتفظة بتعليماتها ومعتقداتها، وحاول الزعيم الهندي غاندي تقليص الحدة من الطبقات وبين المنبوذين، ولكن محاولاته ذهبت أدراج الرياح، بل كان هو ذاته ضحية لهذه المحاولة حاولت جماعة السيخ إنشاء دين موحد من الهندوسية والإسلام، لكنهم فشلوا إذ سرعان ما انغلقوا على أنفسهم؛ فصاروا متميزة يرفضون التزاوج مع غيرهم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1).

الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1).

الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الديانة الهندوسية (1)) الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فأقول -وبالله التوفيق-: يرجع سكان الهند في أصولهم، إلى ثلاثة عناصر أساسية: "العنصر التوراني، والعنصر الدرافيدي، والعنصر الآري". أما التورانيون: فهم سكان البلاد الأصليون، ولم يعرف متى كانت وفادتهم إليها، فقد امتازوا بقصر القامة والألوان القاتمة، وكان لهم شيء من الرقي، في الفن المعماري والشئون الزراعية. والدرافيديون: حلوا في شبه الجزيرة الهندية قبل الميلاد، بحوالي ثلاثة آلاف سنة. أما العنصر الأخير فهو: العنصر الآري الأبيض: الذي وفد إلى البلاد من شمالي أوربا، من على ضفاف الدانوب الأزرق، ويمتازون بطول القامة وبياض البشرة. والمعروف أن قسمًا من القبائل الآرية، استقر في بلاد فارس وأعطاها اسم إيران، أما القسم الآخر فاتجه إلى الشرق الأقصى عبر سفوح جبال الهيمالايا، واقتحموا الهند من بابها الغربي، كان الآريون في بداية أمرهم، يهتمون برعاية الماشية، إلا أنهم تحولوا إلى الزراعة، وأحكموا سيطرتهم على التورانيين، وأبقوا على شعورهم المتعالي والمتفوق على العنصر التوراني، وهو شعور سوف يتكرس فيما بعد دينيا، لقيام العقيدة على أساس التمييز الطبقي.

وقد أشار "جوستاف لوبون": في كتابه الشهير عن الحضارة الهندية، إلى مدى نفوذ كل عرق من العرقين، الأصفر والأبيض في بلاد الهند، يقول: التورانيون هم أشد الغزاة تأثيرًا، على سكان البلاد الهندية من الناحية الجسمانية، والآريون تركوا أقوى الأثر، في عروق الهند من الناحية المدنية، وهكذا فإن سكان الهند أخذوا عن "التورانيين"، نِسب أجسامهم وأشكال وجوههم، وعن الآريين أخذوا اللغة والدين والقوانين والسجايا والطبائع. إن التمازج بين الآريين والتورانيين، لم يحصل دفعة واحدة، إذ احتاج إلى فترة زمنية طويلة، وأتت العقيدة الدينية لترسيخ التمايز الطبقي، لتبقى الأفضلية للعنصر الآري، فتشكلت من الآريين طبقة رجال الدين البراهمة وطبقة المحاربين، ومن التورانيين تكونت طبقة الصناع والتجار. أما الطبقة الرابعة وهي طبقة الخدم أو العبيد، فتكونت من بقايا السكان الأصليين من الهنود، ويسمون أيضًا بالمنبوذين، والاتصال بين هذه الطبقات بالتزاوج، كان محرما دينيًّا، لذلك حافظ العرق الأبيض الآري، على نقاوته واستعلائه على العناصر الأخرى. لقد علل الباحث "ويتش" ذلك، بقوله: إن السبب في عدم اختلاط الآريين بالهنود، هو أن الآريين دخلوا الهند كشعب مهاجر لا كجيش محارب، والفرق كبير بين الحالتين، فالجيش عماده الرجال، الذين عند استتباب الأمر وبسط السيطرة، سرعان ما يتصلون بنساء الشعب المغلوب، والآريون دخلوا البلاد الهندية، ومعهم ماشيتهم ونساؤهم وأطفالهم، ولم تكن لهم حاجة للنساء للتزاوج، وعدم الحاجة هذه صاحبه استعلاء ولده النصر، ولذلك نشأت الطبقات في الهند وتعددت الألوان. غير أن الحياة الجديدة التي باشرتها الشعوب الآرية، ونمط الإنتاج الزراعي الذي كان البديل عن النمط الرعوي والمناخ، كانت عناصر مهمة لتبديل خصالهم وتقاليدهم، وتبني خصال هندية عريقة، مثل: التوقف عن أكل لحوم الحيوانات

وعدم ذبحها، إلا في مناسبات تقديم القرابين للآلهة، وتخلت المرأة عن انطلاقتها ونفوذها في الأسرة، ثم إن الحرارة الشديدة في البلاد الجديدة، أكسبتهم البلادة والتراخي في الأعمال، وقلة النشاط والابتكار. وقد أثر اختلاف السكان في الهند، على عدد اللغات المتداولة، فأحصى "جوستاف لوبون" مائتين وأربعين لغة، وحوالي ثلاثمائة لهجة، إذ أن كل قبيلة من القبائل الوافدة إلى الهند، اعتزلت في منطقة واستقلت بها، يساعدها في ذلك حواجز طبيعية، من جبال وأنهار وغابات، أما اللغات التي أثرت على اللغات المتداولة في بلاد الهند، فهي: "الفارسية، والعربية، والتركية"، وقد سمح تعدد اللغات واللهجات للانجليز، لبسط نفوذهم وترويج لغتهم وجعلها لغة شائعة، ووسيلة للتفاهم بين سكان الولايات. ويعترف الدستور الحالي في الهند بلغة هندية رسمية، وبثلاث عشر لغة منتشرة في الولايات. إلا أن عدم انتشار اللغة الهندية الرسمية وشموليتها، جعل المؤسسات الرسمية تستمر في استخدام اللغة الانجليزية، لانتظار انتشار لغتهم الانتشار الكافي، الذي يؤهلها لأن تكون لغة البلاد الرسمية. الأصول الدينية: أقام الهندوس الأوائل صلواتهم في الهواء الطلق؛ نظرًا لعدم وجود معابد خاصة، وكانت الجماعة التي تؤدي شعائرها الدينية، تقوم بخدمة الطقس، لعدم وجود كهنة يقومون بهذه المهام، وكغيرهم من الشعوب في بداية أمرهم، نظروا بإجلال إلى مظاهر الطبيعة وقواها، والتفتوا إلى ضعفهم كبشر حيالها، فقدسوها

وجعلوا لكل ظاهرة الإله الذي يُحركها أو يسكنها، وقدسوا بعض الحيوانات وبخاصة البقرة، وفي أسفار "الفيدا" إشارات، حول المرحلة البدائية الأولى للديانات الهندوسية، حيث انتشار عبادات القوى الطبيعية، وهي مرحلة تبدأ من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، إلى مرحلة تدوين "الفيدا" في القرن الثامن قبل الميلاد. تتضمن الفيدا أناشِيدَ وابْتِهَالاتٍ لعدد كبير من الآلهة، أهمُهّا: الإله فارونا، وهنا نتحدث عن أهم القصائد في الله وفي النفس، الإله "فارونا" إله التدبير والتنظيم للقوى الطبيعية، والأعمال والأخلاق الإنسانية، ومهمة فارونا لا تقتصر على التنظيم فقط، لأن دوره يتعدى ذلك، إلى المحافظة على نظام الطبيعة، وحماية الإنسان من الشرور والوقوع في الخطيئة، والإنسان الذي يقع في الخطيئة ويسيء التصرف، يرفع الصلاة ويطلب الغفران من فارونا، ويأمل منه المسامحة والمغفرة. ومن الآلهة القديمة عند الهندوس، "ياما" إله الموت أو الديان الذي يحاكم الموتى على أفعالهم في حياتهم، وياما هو أول إنسان مات، وارتفعت روحه إلى رحاب السماء وصار إلها، وفي الفيدا أغنية تخبر عن نشأة ياما، وتوضح دوره وتدعو إلى احترام ياما الملك، الذي يجمع الناس معا، وقد ارتحل إلى السماء العليا ليشق الطريق للكثيرين، فهو أول من وجد مكانًا، نستقر فيه ولا نخسره أبدا، وتدعو الأغنية الناس إلى ملاقاة ياما، الذي يجمع الموتى بآبائهم وأسلافهم، ويساعدهم في قطف ثمار الأعمال الحسنة في أعلى السماء، وتحذر الناس من الخطيئة، وتشير إلى الإنسان يكتسي في الحياة الثانية جسدا أخر. أما الإله "أندرا" وهو عندهم إله العواصف والحرب، فهناك أغنية تعظمه وتقدم أوصافه وقدراته، تقول الأغنية: "أن أندرا هو الأعلى من كل شيء، وهو

الأسمى ذو القوة العليا، الذي أمام قدرته الغالبة، ترتعد الأرض والسموات العالية، أيها الناس استمعوا لشعري، إنما هو أندرا إله الكون، هو الذي قهر الشياطين في الحساب، وأجرى الأقمار السبعة الصافية الكبار، واقتحم كهوف الكآبة والأكدار، وأخرج البقرات الجميلة من الأرحام، وأضاء النار القديمة من البرق في الغمام، ذلك هو أندرا البطل الجسور، الأرض والسماء تعترفان بسلطانه وكماله، والجبال المرتفعة تخر له وتسجد لجلاله، هو الذي يرسل صواعق السماء على أعدائه، فلتهدى إليه السبائك المقدسة، فإنه يقبل هذه الخمر ويمنحنا رضاه، ويستمع للشعر وأغاني الولاء". وكان للشمس والنار أناشيد كثيرة تعظمهم: منها في الشمس: "يجيء بالشمس جيادها الحمر، فيصل الفجر العظيم الجميل، ينعش الجميع بضيائه، وتأتي الإلهة على مركبة فخمة، وتوقظ الإنسان ليقوم بعمل نافع". وتقول أغنية للنار: "حينما أرى هذا الكائن المنير في قلبي، تدوي أذناي وتختلج عيناي، وتتيه نفسي في ارتياب، فماذا أقول وماذا أفكر، فيا أغنى "إله النار" مجدتك جميع الآلهة، واجفة ما تواريت في الظلام". وكان لأغنى أهمية خاصة في عبادات الهنود الأوائل، بسبب الحاجة إليه، عند إقامة طقوس الذبيحة، لذلك كانت ترفع إليه الصلوات والأناشيد لاستحضاره، وقارنوا بين النار وأغنى، فكما أن النار تنظف وتطهر كذلك أغنى، الذي ينتزع الخطيئة والشرور من القلوب، ويحمي المنازل التي يحل في مواقدها، ويطرد الشياطين عنها، كما أنه يحمي الزيجات ويباركها، ويغدق على المتزوجين السعادة والهناء.

نظر الهُنود الأوائل إلى الظواهر والقوى الطبيعية، نظرة إجلال وتقديس وشكر، كما اعتقدوا بأن لهذه الظواهر، أرواحًا ونفوسًا كامنة فيها تحركها وتسيرها، لذلك تقربوا من مظاهر الطبيعة وعبدوها، وقدموا إليها القرابين واعتبروها آلهة يمكن استرضائها ودعوتها، لمساعدتهم في حل مشكلاتهم ورفع الأسى والشقاء عنهم. وكان لبعض الحيوانات كالأفعى والثعابين والبقرة، قداسة خاصة، ويمنعون أذيتها أو إزعاجها، هذا بالإضافة إلى القداسة المميزة، التي كانت للمياه النظيفة الصافية بشكل عام، ولمياه نهر الغانج بوجه خاص، واعتقد الهنود بأن مياه الغانج لها قدرة، على تخليصهم من خطاياهم وذنوبهم عند الاغتسال بمياهه، فجعلوه المظهر الأرضي للمطهر السماوي. إن تقديس الهندوس لمظاهر الطبيعة، لم يحصل دفعة، إذ أن جمال المظاهر الطبيعية وعظمتها، هو الذي حرك فيهم الشعور الديني والإقبال عليها بكل عواطفهم، لدرجة أنهم صاروا إذا ما توجهوا، إلى واحدة من ظواهر الطبيعة غفلوا عن غيرها، وأطلقوا عليها أسمى الأوصاف وأجمل الأسماء، وألبسوها أفضل المعاني، ومع امتداد الزمن بدأ يتكون عندهم الشعور، بأن الآلهة تتفاوت في الرتبة والقوة والعظمة، وتنقسم إلى رؤساء ومرءوسين، حتى انتهوا إلى الاعتقاد، بوجود الإله الأعظم والأقوى، الذي لا يماثله غيره من الآلهة أو الموجودات. غير أن فكرة التوحيد، الناتجة عن الشعور بضرورة إله أقوى وأعظم، سبقتها فكرة التثليث الإلهي، لقد جمع الكهنة الهنود آلهتهم في إله احد، أعطوه أعظم الصفات وأجلها وأقواها، وحصروا فيه القدرة على إخراج العالم إلى الوجود

من ذاته ونفسه، وجعلوا قدرته تُهيمن على العالم وتحفظه أو تهلكه، لذلك اهتم الكهنة بثلاث صفات، هي الإيجاد والحفظ والتدمير أو الإلغاء، وأطلقوا على إلههم ثلاثة أسماء، فهو: "براهمة" من حيث هو موجد خالق للعالم، وهو "فشنو" من حيث هو حافظ للعالم وموجداته، وهو أيضًا "شيفا" المُهلك والمدمر للعالم وما فيه. ومن هذه التعددية في الوحدة: الوحدة في الوجود، والتعددية في الأفعال والصفات، سوف تنصب فيما بعد الجهود البشرية، لفهم العلاقة بين العالمين الطبيعي والفائق للطبيعة العالم الإلهي. وقبل طرح التعددية التثليث في الوحدة الإلهية، نظر الهنود كما تشير الفيدا، إلى ظاهر طبيعية ثلاث رئيسية، وجعلوا لكل ظاهرة إلهها الكامن فيها، فارونا إله السماء وهو فيها، وأندرا إله الهواء وقائم فيه، وأغنا إله الأرض أو التراب وساكن فيها، إن قيمة الآلهة الثلاثة "فارونا وأندرا وأغنا"، ودور كل واحد منها وقواها وتفريعاتها وصفاتها، خضعت لتقلبات عبر تطور الديانة الهندوسية، وتبلورت عبر فترة زمنية طويلة. إن أسماء وأدوار الآلهة في أشعار الفيدا الأولى، تعود إلى أصول هندوإيرانية، الإله سوما يُقابله في الإيرانية الهوما، والسوما في الأصل شراب مقدس مسكر، كان يعد في احتفالات طقسية معقدة، وقد أطلق البراهمة على مليكهم شعب السوما، وخصصت الريجفيدا كتابًا كاملًا لتراتيل وأناشيد تعظم الإله "سوما"، وخضع الإله سوما لعملية توحد فيما بعد مع إله القمر، وحصرت فيه السيادة على القمر، والإشراف على نمو الغلال في الحقول الفسيحة، ونمو الأجنة في الأرحام الحيوانية والإنسية.

أما الإله فارونا هو أقدم في الظهور من أندرا، فقد أصابه ما أصاب ديوس، إذ أضعف إله الحرب دوره وقلص ظهوره في "الريجفيدا"، والإله فارونا وهو إله ذكرى كسائر الآلهة الأوائل في الفيدا، وهو المنظم للعالم وتعاقب الفصول الأربعة المتتالية، و"فارونا" مُنظم الحياة الاجتماعية والأسرية، من خلال عيونه الكثيرة المنتشرة في كل الأنحاء، وتجعله يعلم كل ما يكنه الرجال والنساء، وفي الخلوات لا يجتمع اثنان إلا ويكون الفارونا ثالثهما، حتى إن مقاتل الفيدا الشجاع والذي لا يقهر، يمثل أمام فارونا منكسًا خاشعًا خاضعًا، وراجيًا العقاب العادل من فارونا القدير على كل شيء. ومن آلهة الهندوس الصغار الذين تذكرهم الفيدا، والذين تطورت فكرتهم ودخلت في تكوين فكرة الإله شيفا المدمر الإله "ياما"، الذي سبق الحديث عنه وهو إله الموت، الذي يحرس عالم الآباء بكلابه الداكنة، والإله "ردرا" الذي تحمل سهامه المرض، وهو أيضا إله الشفاء من المرض بالأعشاب، والجانب الأخير من صفات ردرا، هو الذي يجعله يقرب من الإله شيفا المبشر بالخير، إلا أن دور الإله ردرا بسيط جدًّا في الفيدا. المذاهب الأساسية: يلاحظ من خلال نظرة شاملة، أن الديانة الهندوسية محكومة بثلاثة أمور، هي: المذاهب أو الأنساق الست للمستويات العقلية، والملاحم. البرانس التي تروي الأساطير، ونظام الطبقات على صعيد السلوك الأخلاقي. أما المذاهب العقائدية: ففيها جملة الطرائق المؤدية إلى الانعتاق، والتحرر من العلائق المادية الأرضية، ويُمكن جمع هذه المذاهب في ثلاثة أزواج، هي: نيايا وفيشيسكا، وسنخايا، ويوغا وميمنسا، والفيدا ننتا،

يقوم مذهب نيايا على مجموعة من الأفكار المنطقية، ولفظ نيايا تعني التدليل والبرهنة، فالهدف الأول لهذا المذهب، هو هداية العقل وتوجيهه نحو الصواب في القول المعتقد، وواضح قواعد النيايا المنطقية هو جنانا، الذي يصرح عن سعيه إلى بلوغ حالة النرفانا، عن طريق التفكير الصحيح والواضح. ويشبه مذهب "فيشيسكا" مذهب ديمقريطس، صاحب المذهب الذري في الفلسفة اليونانية، ولفظة فيشيسكا تعني آكل الذرات، وواضع المذهب هو كانادا، الذي اعتبر أن العالم يس فيه إلا ذرات وفراغ، وعن اجتماع الذرات بالفراغ وجدت الأشياء، ثم إنّ الذرات أزلية ومغايرة للروح، عندما تتعرض الروح على الذرات تتحقق الانعتاق والتحرر. ويعتبر مذهب سنخايا وهو أقدم المذاهب، أن المادة براكريتي تعارض الروح بورشا، وأن الأرواح الفردية لا متناهية ومتفردة، وهي تحقق الانعتاق والخلاص عن طريق تحللها، من علائق المادة واستعادة طهارتها الأولى، ويقول مذهب سناخيا بوجود قوى جوناز ثلاث للكائنات، تسبب الخير والانفعالات والبلادة في الأشياء، وتعني لفظة يوغا النير، ويُقصد بها خضوع الإنسان لنير من نظام تقشفي قاس، يَبلُغ حالة الطهارة الكامِلة من أدران المادة.

وهناك تفسير آخر لمعنى لفظة يوغا، مستمد من أصلها اللغوي في السنسكريتية، وهو أن اللفظة تعني الاتحاد، وتطلق على حياة الزهد والتصوف، الهادف إلى التخلص من علائق المادة للإتحاد مع روح الكون المطلق، ويطلب مذهب "اليوغا" من أتباعه، نموذجا قاسيا من الرياضة الجسدية والروحية، توفر الاستغراق بالتأمل والانعتاق والممارسة، والممارس لليوغا يقوم بحركات جسدية صعبة جدا تسمى "هاتا يوغا"، تساعد على التأمل وزيادة الكونداليني، أي القوى الروحية المتصورة على هيئة أفعى، ترقد عند أسفل النخاع الشوكي في الرأس، وتمتد على طول العامود الفقري بمحاذاة الوريد، وعقيدة اليوغا مشتركة عند جميع المذاهب الهندية، لجهة هدفها السامي هو الإتحاد بالآلهة. ويمتاز مذهب "ميمنسا" عن المذاهب الأخرى، بكونه أقام مدرسة في تفسير الفيدانتا، ومعنى لفظة "فيدانتا" نهاية الفيدا ويقصد بها اليوبنشاد، أو الكتاب الذي يتضمن التراث الفلسفي الهندوسي حول الله والروح وبراهمة، وهو من أبرز الكتب التي تعتمد، في دراسة الديانة الهندوسية حتى أيامنا هذه، ومن أبرز شراح "اليوبنشاد" الفيلسوف الهندي شانكارا، الذي خلص إلى وضع تصور للواحد الأوحد أو براهمة أو الروح المطلق، الذي تتحدث عنه اليوبنشاد. امتزجت مُعتقدات الشعوب والقبائل الوافدة إلى الهند، مع معتقدات قبائل البلاد الأصليين، وتشكل من تدامجها بعضها مع بعض، مؤتلف من عقائد وطقوس

دينية خاصة، وبناء ديني متكامل ومُقدس، وقد اتخذت العقائد الدينية عبر العصور، قدسيتها وشرعيتها عند عموم سكان شبه الجزيرة الهندية، إن القبائل الآرية القادمة من إيران، بلغت بلاد الهند في القرن السابع عشر قبل الميلاد، إلا أنّ الأشعار الدينية التي اكتشفت، لا ترقى إلى أكثر من ألف خمسمائة قبل الميلاد، وهي تحمل ضمنًا الإشادة بمآثر الآريين المُجتاحين للبلاد. وحينئذ كتبت الكتابات المقدسة للهندوس، أسفار "الفيدا" والملاحم والأساطير، ومنها ملحمة مهابهرتا ويوغا فاسستي وملحمة راماينا. والذي يعنينا من هذا أن نذكر شيئًا من قصائدهم عن الله، حيث ورد في نشيد كان يتغنى به النساك المقاطع التالية: "في البدء لم يكن ما هو موجود، أو ما لم يوجد، لم يكن هناك ما تثبته وما تنفيه، لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء، لم يكن موت ولم يكن خلود، لم يكن ثمة نهار ولا ليل، لم يكن سوى الأوحد، يتنفس حيث لا أنفاس ولا شيء سواه". إن الأوحد الذي يشير إليه النشيد، كان ولا شيء معه سوى الفراغ، الذي امتلأ برغبة جامحة "كاما"، ومن هذه الرغبة جاء الموجود الأول، وعنه أتى الموجود التالي، وهكذا دواليك، حتى وجدت جميع الموجودات العينية أو الحسية والظواهر الطبيعية، كل الأشياء وجدت عن الموجود الأول، وعن الرغبة الجامحة التي ولدت فيه، والتي تحولت إلى شكل زفرة أو نفخة، وفي هذه اللحظة ولدت الآلهة التي أوجدت بدورها البشر. وكتاب "الفيدا" تساءلوا كيف يأتي الوجود من العدم؟ وانتهوا إلى القول بأن العملية هذه، تحتاج إلى معجزة يعرفها موجود يحفظ هذا العالم، وهو وحده يعرف سر وجود الموجودات التوالي، التي تلت الموجود الأول، ولا بد من الإشارة إلى أن الواحد الأوحد الخالق والصانع للعالم، قد عُبّر عنه في تاريخ

الديانة الهندوسية بأسماء مختلفة، أو أنهم استبدلوا آلهة بآلهة أخرى، أو قللوا دور آلهة ورفعوا مقام أخرى. من ذلك أن "أندرا" قد خُلِع عدة مرات، مرة بواسطة "براجباتي" إله المخلوقات ورب كل حي، وسمي أيضًا بإله الشمس أو السنة الشمسية، وشيدت له مذابح مؤلفة من ثلاثمائة وستين حجر، وثلاثمائة وستين قنينه، لأن السنة الشمسية عندهم مؤلفة، من ثلاثمائة وستين نهارًا وثلاثمائة وستين ليلًا. كما نقرأ في البراهمان، وبرجباتي خالد خلود الدهر في دوراته المتتالية، وأعطوا البرجباتي أهمية كبرى، حتى إنّ البراهمي كان يعتقد أن الشمس لا تبزغ، إذا لم توقد النار لهذا الإله قبل الفجر، وأن القربان الذي يقدم لبرجباتي والتكريم، يعيد تأليفه ويعيد خلق العالم من جديد. وخلع "أندرا" مرة أخرى، وحل محله "فيشفا كرمان" صانع كل شيء، وخلع أندرا مرة أخرى؛ ليَحُلّ محله براهمة نسباكس، المعروف عنه أنه إله السحر الممسك بالكون، ومرة رابعة بواسطة فاش أو الكلمة، ونظرًا لقيمة التضحية في نفوس الهندوس؛ فإن هناك ترنيمة تقول: بأن عملية الخلق كانت نتيجة تضحية الإنسان الأول مانو، بنفسه وتمزيق جسده، وخروج الطبقات الاجتماعية من رأسه وذراعيه وفخذيه وقدميه، وبالطريقة نفسها خلقت الحيوانات والهواء والسماء والقمر والشمس، انبثقت السماء عن رأسه، والقمر من ضميره والشمس من نظرته، وأندرا وأغنى من فمه، والهواء عن زفراته. ولكي يجد الإنسان أصوله، عليه أن يقوم بالتضحيات الشبيهة بالتضحية الأولى، وهناك أغنية أخرى تقول: بأن الإنسان الأول مزق جسده على مذابح الآلهة، وحول هذا الجسد إلى ذرات صغيرة، توحدت من جديد فوجدت الأرض وكل ما يحيط بها.

هذا وترتكز الديانة البراهمانية، على أمرين اثنين متممين لبعضهم البعض: الأول: الذات البراهمانية: التي تقول بتوحد الذات الفردية، مع الروح الأزلية السرمدية. والثاني: التناسخ أو تقمص الروح أو تعدد الولادات للروح الواحدة. وتسليط الضوء على هذين الأمرين، يفضي إلى الكشف عن مجمل المعتقدات الدينية البراهمانية. براهمة تصوره نصوص "الأبيناشاد"، على أنّه الكَائِنُ المَوجود، الكائن الأقوى والأعظم، والمبدأ الميتافيزيقي للوجود الكائن، الذي يفوق في وجوده، ويتجاوز كل الأوصاف الممكنة في لغة البشر، والذي تحيط به أدق التحديدات التي يقدمها العقل، إنّه المَوجود الذي يعجز العقل عن وصفه وتحديده، وتعتبر البراهمانية المؤسس الحقيقي لمذهب الحلول الفلسفي، إذ تؤكد بأن براهمة كروح يحل في جميع الأشياء، ويتحد معها وهو قائم فيها، وبذلك يصبح للذات أو الأنا الشخصية المعبرة عن براهمة، مفهوما ميتافيزيقيا ينطبق على الذات والأنا البشرية، من جهة كونها المسكن للروح الكلية للعالم، والمنفتحة عليها في آن واحد، أي كون الروح الفردية تذوب في الروح الكلية يعني في براهمة. وبراهمة أو الروح الكلية للعالم، يحل في جميع الموجودات ويتحد معها، وهي لذلك تأخذ معنى روحيا، وتكتسب قدسيتها وسموها الوجودي، واتحاد براهمة مع الموجودات، يكسبها معنى الأزلية والديمومة، ويجعلها في حالة سعي دائمة للترقي والارتفاع إلى المطلق، في عمليات تنقية مستمرة مما فيها من أدران المادة، لبلوغ التوحد الكامل مع براهمة الروح المطلق والذوبان فيه.

وفي نُصوص "الأبينيشاد"، مَقَاطِعُ رائعة في وضوحها ودقة تعبيرها، حول وحدة الوجود، منها "براهمة المبدأ الأول منه تولد المخلوقات، وبفضله تعيش إذ تولد، وإليه تؤول إذ تموت، عليك أن تدركه، إنه البراهمة، إن روح المخلقات واحدة، لكنها ماثلة في كل مخلوق، إنها في الوقت نفسه وحدة ومجموعة كما القمر، الذي يتلألؤ على صفحات المياه. وبراهمة هو الحقيقة ويشبه الشرارة التي تخرج من اللهب، ثم ترجع إليه من جديد، هي هذه الحقيقة، كما من اللهب تتطاير ألوف الشرارات المتوهجة مثل، هكذا من هذا الكائن الأبدي تولد الكائنات، التي لا تلبث أن تعد إليه من جديد، وعلى صعيد الأفراد فالأمل بالعودة إلى براهمة دائم الحضور، هو هذا أنت ومهما أحسست نفسك ضعيفا بائسا ووحيدا، تبقى جزءا حيا من الروح الأزلية". وحول وحدة الوجود: جاء في أحد النصوص من كلام براهمة "تتعلق بي، كما تتعلق مجموعة من الخرزات بخيط، أنا من الماء العذب طعمه، وأنا من القمر فضته، ومن الشمس ذهبها، أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي تشق أجواز الأثير، والقوة التي تكمن في نطفة الرجل، أنا الرائحة الطيبة الحلوة، التي تعبق في الأرض المبتلة، وأن من النار وهجها الأحمر، وأنا الهواء باعث الحياة، أنا القدسية فيما هو مقدس من الأرواح، أنا حكمة الحكيم وذكاء العليم، وعظمة العظيم وفخامة الفخيم، إن من يرى الأشياء رؤية الحكيم، يرى أن براهمة المقدس والبقرة والفيل والكلب النجس، والمنبوذ وهو يلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد". وفي وصف براهمة والتعريف به: ورد في أحد النصوص: "هذه هي الذات، التي لا يمكننا وصفها بهذه أو بتلك من الصفات، فهي لا تخضع لوصف لأنها غير

مسألة التقمص أو نظرية التناسخ.

مرئية، ولا تخضع لإزالة لأنها غير ملموسة، ولا تخضع للحفظ لأنها لا تضبط، وهي غير متصلة بشيء مع هذا، هي ثابتة وطيدة لا إلى اندثار". هذه المقاطع وغيرها مما هو من نوعها، لا يدرك أبعادها ومراميها الفلسفية إلا طبقة الكهنة، الذين بلغوا مرتبة الحكمة واكتسبوا نقاء الروح، الذي يسمح لهم بالتأمل والترقي، وربما كانت هذه الأقوال بعيدة المنال على الناس البسطاء، لكن القول بوحدة الوجود، وحلول الروح المطلق في الوجود الفردي، مدعاة للتفاؤل والأمل في الارتقاء، للعودة إلى الأصل إلى براهمة. مسألة التقمص أو نظرية التناسخ ومن ذلك كانت مسألة التقمص أو نظرية التناسخ، حيث توصل الفيلسوف الفرنسي "رينون"، بعد دراسة مستفيضة للديانة الهندية، إلى تعريف التقمص كالتالي: "هو سلسلة لا إلى انتهاء من تغيرات الحالات لدى الكاهن، على أن لكل حالة ظروفا خاصة بها، مما يخلق للكائن دائرة وجودات لا يجولها إلا مرة واحدة، وعلى أن الوجود الأرضي أو عامة الجسدي، ليس إلا حالة خاصة بين حالات أخرى لا عد لها". وفي نظام الطبقات في الديانة الهندوسية: لا يتم الانتقال من طبقة إلى طبقة عليا أو إلى طبقة سفلى، وأن ذلك غير ممكن في حياة واحدة، بل يكون عند ولادة جديدة، أي: أن الثواب والعقاب عن حياة حاضرة، يكون في حياة لاحقة، من هنا كان الاعتقاد بتعدد الولادات أو التقمص. ونشير هنا إلى أن نظرية التناسخ، كما تبلورت في العقيدة البرهمانية، ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة السلوك البشري، وتشكل حافزًا من حوافزه، كما أن هذه النظرية من مستلزمات

القول بوحدة الوجود، وحلول الروح الكلي براهمة في الكائنات، لذلك يختلط فيها التفاؤل والتشاؤم في نغم واحد، إذ أن الأمل باتحاد الروح الفردية بالروح الكلية، يعطي للفعل قيمة ودفعة تفاؤلية، بمحاذاة هذا الأمل يتولد القلق من تعددية الولادات، خصوصًا بالنسبة للطبقات الشعبية الدنيا، لتبلغ مرتبة البراهمة، عندها يصبح الناتج للفعل والسلوك مؤجلًا إلى عدد لا نهاية له، من تكرار الولادة والدخول في متاهات الوجود الإنساني، المثقل بهم الانعتاق والتحرر من مأساة الحياة، بالذوبان في الروح الكلية حيث السعادة المطلقة، وبمقدار ما يكون القلق من دورات الولادات المتعاقبة، يكون الشعور بتناقض القول بالذات البرهمانية الحالة في كل الكائنات، والقول بالتقمص، وعندئذ يلزم تأكيد التوافق بين النظريتين، ليخرج الإنسان من دائرة تعددية الولادات في السعي الدائم، للتخلص من علائق المادة. ونتوقف عند مسألة الثواب والعقاب، أو الجزاء على الأفعال، لارتباطها ارتباطًا مباشرًا بمسألة التقمص: وقانون الجزاء باللغة السنسكريتية يسمى كارما، إن السلوك وهو مجموع الأفعال التي يقوم بها الفرد، يؤثر على الآخرين وينعكس على حياته خيرًا أو شرًّا، ولهذا وجب تطبيق قانون الجزاء عليه، ولا مفر لأحد من البشرية، من أن ينال جزاءه على أفعاله، إذ ليس في الكون مكان لا الجبال ولا السماوات ولا البحار ولا الجنات، يفر إليه المرء من جزاء أعماله حسنة كانت أم سيئة، طبقًا لنظام العدل والكون بما فيه، خاضع لنظام عادل صارم، والعدل يقضي بالجزاء على كل عمل يقوم به الإنسان.

وهذا يُحَتّم إحصاء الحسنات والسيئات في أعمال البشر، لينال كل واحد جزاءه، لكن واقع الحياة يكشف أن الجزاء قد لا يحصل، ويموت الظالم دون أن ينال العقاب الذي يستحقه، والمُحسن يُقضى دون أن ينال الثواب المناسب على أعماله، والحل هو عندهم القول بالتناسخ والقول بعودة الروح، في جسد جديد وحياة جديدة وفي رتبة أعلى أو أدنى، من التي كان فيها في الحياة السابقة، والفرد بما هو فرد هو المسئول عن مصيره، أو مصيرها إذا كانت أنثى في حياتها اللاحقة، تبعا للسلوك الأخلاقي الذي يختاره. ونظرية التقمص تبطن فكرة الارتقاء والانعتاق، من عالم المادة والشقاء، إلى عالم الآلهة، واتحاد الروح "آتما" الفردية مع براهمة، الموجود المطلق الذي لا يقاس به أي شيء من موجودات العالم، وعملية التوحد والحلول في المطلق، تحتاج إلى حالات مديدة وصارمة الزهد والتنسك والأعمال الصالحة، والترفع عن علائق المادة بأنواعها المختلفة. ومن التقمص إلى الزهد: فكرة الزهد وتطبيقاته العملية السلوكية، خضعت للتطور كغيرها من الأفكار والاعتقادات الهندوسية، إذ تخبر أسفار الفيدا عن أشخاص صامتين، يرسلون شعرهم ولا يحلقون ذقونهم طوال حياتهم، وتتوقف اهتماماته على التركيز والتأمل الداخليين، بهدف بلوغ حالة الرؤية المميزة للحقيقة، التي يحصل الناسك منها عند بلوغها السعادة المطلقة، التي ليس بعدها سعادة، والذي ورد في أسفار الفيدا عن هؤلاء الأشخاص، هو في الحقيقة أخبار عن الناسك الباحث عن الفنوس، "الفنوس" كنسس الذي سوف تتضح صورته أكثر في العصور

التالية، وبالتحديد في عصر "اليوجونشاد"، في العصور اللاحقة لعصر الريجفيدا، هو الكتاب الذي يخبر عن بدايات التفكير الديني الهندوسي، وتزايد الحديث عن الناسك المتجول المعلم أو الشارمان، ومصطلح الشارمان يطال مؤسسي الديانة الجينية والبوذية المنبثقين من الهندوسية. النسك هو أعلى المراتب الدينية في العقيدة الهندوسية، وغاية الناسك الزاهد هي الانعتاق والخلاص من شرك الرغبات والشهوات، والحاجات المادية الرخيصة والدنيئة، وحياة الناسك سعي دائم وعراك مستمر، تهدف إلى بلوغ السكينة والاستقرار، استعدادا للذوبان في المطلق. البؤس والقضاء على الشهوات والرغبات، ولبس الثياب البالية وتعذيب النفس والتسول، هي العناوين الرئيسة لسلوك الراهب الهندوسي المنصرف إلى العبادة، وبها يتحدد نظامهم الحياتي، وقد حددت أربعة مراحل لا بد للناسك البرهمي من المرور بها، ومدة كل واحدة خمس وعشرون سنة، على أساس أن متوسط العمر عندهم هو مائة سنة. أما الدور الأول: فهو دور التربية والتنشئة الروحية والعقلية والجسدية، إنها مرحة التحضير للمرحلة الثانية الحاسمة، والمحدد لبقاء استمرار المريد الهندوسي. الدور الثاني: يتم فيه بناء أسرة متكاملة، فيكون للمريد زوجة أبناء، وفي هذا الدور ينصرف البرهمي، إلى العناية بأسرته حسب التعاليم الدينية ويقيم شعائرها الصارمة.

في الدور الثالث: ينتقل الزوج والزوجة من العلائق العائلية، للانصراف إلى الخدمة الاجتماعية والاهتمامات العامة، دون أن يكون لهما أي غاية شخصية أو منفعة مادية أو طموحات فردية. ويتوج الدور الرابع المراحل السابقة، إذ يتحول البرهمي من الأمور الشخصية والأسرية أو العائلية، والاجتماعية العامة، إلى ترك أمور الدنيا ومشاغلها، وينصرف إلى الرياضة الروحية، وإعداد نفسه للذوبان بالروح المطلق أو براهمة. إن الأدوار أو المراحل التي أشار إليها "البروفيسور أترية"، حول الحياة الروحية والاجتماعية للبراهمي، تكشف عن أحوال الترقي التي يمر بها البراهمي، من خلال الذوبان الكلي في شئون كل مرحلة من مراحل العمر، في المرحلة الأولى اهتمام صريح بشئون الذات الشخصية، من حيث هي بنية وحواس وقوى، وقوى جسدية وعقلية في علاقتها مع العالم المادي الخارجي، مما يتيح الفرصة للكائن أن يحقق وجوده الكامل، كفرد وكشخص أو الأنا الفردية، في بعدها الوجودي المعاش أو الحاضر، وغايتها حفظ الكائن وسلامته الشخصية، ثم المرحلة الثانية مرحلة بناء الأسرة، فهي إعداد الكائن في استمراره من خلال ذريته وتقديسه، وإقامة الطقوس عن روحه بعد الممات وتقديم القرابين. وبعد مرحلتي تثبيت الوجود وحفظه، وتأكيد الديمومة والاستمرار في الذرية، وكلاهما المرحلة الأولى والثانية، تكشفان عن البعد الذاتي أو طغيان الأنا الفردية، في حين أن المرحلة الثالثة، تبرز الأنا في سعيها للذوبان في الكائن الاجتماعي، بعد الاطمئنان والشعور بالتوازن الداخلي في المرحلتين السابقتين. تأتي المرحلة الرابعة حيث يتحقق للأنا الفردية والاجتماعية، إمكانية الذوبان والاتحاد في براهمة الكائن المطلق أو الوجود المطلق، وهكذا تكون المراحل أو الدورات درجات للترقي،

وترقي الكائن البشري المخلوق، يكمن في حركة العودة إلى الكائن المطلق الخالق والموجد. إن التأمل يشكل حلقة أساسية من حلقات الترقي البشري، لكن السلوك لا يقل أهمية في الإعداد لعملية الذوبان في اللامتناهي والمطلق، لذلك حددت العقيدة الهندوسية، شروط السلوك الصحيح لبلوغ الغاية المنشودة، وقهر الذات التغلب على شهواتها، من أهم الأمور التي شرططها العقيدة، وعملية قهر الذات تكون بالزهد، وهو على درجات تتناسب والمراحل الأربعة، التي يمر بها الكائن البشري. ومما جاء في شريعة "منو" وفي كتاب "يوغا وأسستج"، حول قواعد الزهد وغاية الحياة: "إن الجسد لا خير فيه، إنه محل للعاهات، ووعاء لسائر الآلام وهو سائر إلى الانحلال، تتصف الطفولة بالعجز والضعف، وعدم القدرة على الكلام والتجرد من العلم، ليس الشباب إلا كومضة برق تخطف أبصارنا، ثم لا تلبث أن تختفي، مفسحة الطريق للشيخوخة وقساوة متاعبها، ما الحياة إلا كنور السراج الموضوع في الخلاء، تلعب به الريح من كل جهة، وما بهاء الأشياء كلها إلا كومضة برق، تنير لحظة ثم تختفي ولا تعود مرة ثانية، الرغبة فينا متأرجحة دائمًا وقلقة كالقرد، والنفس لا تشبع أبدًا ولا تقنع بما ملكت اليد، ولا تزال متطلعة إلى ما لم تملكه، وكلما أشبعتها زاد جوعها وطلبت المزيد، وعظم طموحها لذلك، اجعل طعامك مما تنبته الأرض وتثمره الأشجار، ولا تقطف الثمر بنفسك، بل كل منه ما سقط من الشجرة من ذاته. وعليك أن تصوم يما وتفطر يوما، وابتعد عن أكل اللحم وشرب الخمر، عود نفسك على تقلبات الطقس، وتعرض للشمس المحرقة، واجه المطر الشديد في

موسمه، واترك رطوبة المطر تتسرب إلى معطفك ولا تتذمر، لا تفكر بالراحة البدنية، تجنب سائر الملذات اجعل الأرض فراشك، ولا تجعل خاطرك يرتاح إلى مكان أو موطن، إذا مشيت كن حذرا، حتى لا تدوس شعرة أو عظمة أو حشرة، وإذا شربت فاشرب بحذر، كي لا تبلتع بعوضة متناهية الصغر. لا تفرح لموجود ولا تحزن لمفقود، إن الذي تخلى عن كل ما في يده، أفضل من الذي حصل على كل شيء وتشبث به، إن الذي يتغلب على نفسه، يكون قد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ولا تشبع أبدا وتطلب المزيد بصورة دائمة، عندما تسعى في طلب العلم، اترك طيبات الدنيا، فلا تأكل الحلوى وتجنب النساء، ولا تأكل اللحم، ولا تدلك جسدك بما له رائحة طيبة، ولا تكتحل ولا تلبس الحذاء، ولا تظلل نفسك بشمسية، ولا تسعى إلى رزقك وطعامك بغير التسول. عند بلوغك سن الشيخوخة، عليك أن تتخلى عن الحياة العائلية والاجتماعية، والإقامة في الغابة، وتترك شعر رأسك ولحيتك من غير قص، وعليك ألا تقلم أظافرك، أما السعادة فلا سبيل لها في هذا العالم، إذ كل نفس فيه ذائقة الموت، كل شيء في هذا العالم يسير إلى الزوال والفناء، ومسرات هذا العالم خادعة وكاذبة، والأفراح القليلة لا تعادل الأحزان الكثيرة، وإن كنا أحرارًا فإننا في الحقيقة نعمل كالعبيد المقهورين، ما قيمة الجسد والأفراح والثروة والجاه والملك، ما دام الموت قدرنا المحتم عاجلًا أم آجلًا، والموت قدر كل الأشياء بلا استثناء". هذا؛ وقد جاء في كلام "كريشنا": إن الذي تغلب على أهواءه النفسية، وملك حواسه كلها، فلا يخاف شيء ولا يطمع في شيء ولا يحب أحدًا، فهو الذي نال

العقل وجمعه، إن الحواس تتبع ميولها، فعلى المرء أن يجذب إلى قبضته حواسه من مشتهياتها، كما تجذب السلحفاة أطرافها إلى بعضها، أجل إن النفس لطاغية جامحة، إلا أنه يجب السعي لضبطها وتحويلها إلى الله، فالذي لا علاقة له بشيء ولا يخاف شيئًا ولا يطمع في شيء، وحواسه تحت أمره، فهو مطمئن حقا، وإن كان يقوم بأعمال الحياة الدنيا كغيره من الناس. أما العمل الحقيقي هو التحرر من سلطة النفس، فمن تحرر منها، فقد فاز بالطمأنينة الحقيقية واهتدى إلى الله وفاز بالنجاة". سأل أريجنا إن كانت النجاة لا سبيل إليها، إلا بالتغلب على الحواس وقهر النفس، فلماذا نهتم بأمور الناس؟، فأجاب كريشنا: "إن الذي يتجرد من الدنيا بترك واجبه، لا يصل إلى الكمال أبدًا، والأعمال التي تأثر الإنسان، هي التي يقوم بها لإرضاء نفسه، لا لأجل المصلحة العامة، فعلى المرء أن يجعل سائر أعماله، خالية منزهة من أهواء النفس، وما عاشت هذه الدنيا، إلا بمثل هذه الأعمال النبيلة المنزهة، والذي يطبخ الطعام ليأكله وحده لأثم، وإذا أكل فلا يأكل إلا إثمه، والذي لا يهتم بمصلحة غيره فهو سارق، والذي يحيا لإرضاء حواسه، فحياته كلها إثم، ليس لأحد أن يسخر غيره لإشباع ميوله، وإنما الطريق إلى الله، أن تكون الأعمال خالصة له ولنفع خلقه. فاعلم أن أشد أعداء الإنسان اثنتان الشهوة والغضب، فهما اللذان يدفعانه إلى الذنوب، وكما يغطي الدخان النار ويكدر الغبار صفاء المرآة، كذلك الشهوة والغضب يغطيان عقل الإنسان، فعلى الإنسان أن يقتل هذين العدوين، لا شيء يطهر الإنسان أكثر من هذا العرفان، والعَارِفُ يُدرِكُ بالتدريج أن الله معه وفيه، وأكبر ما يحتاج إليه الإنسان في سلوكه إلى الكمال، هو الإيمان وقهر النفس".

سأل أريجنا مرة أخرى: ما الأفضل للإنسان، التجرد من الدنيا ومراقبة النفس، أو تطهير النفس مع التعلق بأمور الدنيا؟، أجاب كريشنا: "إن الذين يفرقون بين الطريقتين أطفال لا يعقلون، أما العالم العاقل فلا يفرق بينهما، والإنسان يصل إلى الكمال بأي طريق سلكه، إن قام بشروطه حق القيام، والذي يرى الطريقين سبيلا إلى المقصود فهو المصيب، والناسك الحق هو الذي لا يبغض أحدًا، ولا يشتهي شيئًا، ولا يرى غير الله شيئًا، إنه يجري وراء واجبه دائما، قد طهر قلبه وتغلب على حواسه، فالنفس في قبضة يده، لا تنازعه ولا تحيد به عن الصواب، وهو يرى جميع الأرواح كروحه ولا يفرق بينها، ولا يقصد بعمله إلا وجهه تعالى وحده. والذي يقوم بواجبه كما قلت، يبزغ نور العرفان في داخله كما تبزغ الشمس في السماء، فيرى ربه بعين قلبه، ويسعد بالنجاة بعد أن تذهب ذنوبه، وتحل محلها الحسنات، واللذائذ الحسية عاقبتها الحزن والألم، فلا يجري العاقل وراءها، والذي ملك حواسه ونفسه في هذه الحياة، فهو الناسك حقّا، وهو الذي فاز بنعمة راحة البال، إنه يجد الطمأنينة والراحة والنور في روحه، ويصل إلى النجاة بفنائه في الخالق، ولا يسعد بهذا إلا من نسي نفسه وقهر هواه، ولا يزال في عمل مستمر لمصلحة الناس عامة. وليس الناسك من يتشبث بظواهر النسك وحدها، فلا يمس النار ويفعل هذا ولا يفعل ذلك كالمتنطعين، إنما النسك كيفية قلبية لا هيئة خارجية، فالذي لا يبالي بالعواقب في أداء واجبه، فهو الناسك الصادق، والذي يتخلى عن واجباته في الدنيا، فهو ليس من النسك في شيء، ليس للإنسان صديق إلا نفسه، وليس له عدو إلا نفسه، ومن تغلب على نفسه فهو صديق نفسه، ومن قهرته نفسه فهو عدو نفسه، فمن غلب نفسه فأصبح لا يبالي، بالحر والبرد، بالراحة والألم، بالسراء والضراء، فهو صاحب الروح

الأكبر، ومن يرى الصديق والعدو والقريب البعيد والسعيد والشقي، بعين واحدة فهو المهتدي. ليست النجاة للذين افتتنوا بالدنيا، ولا للذين هجروا الدنيا فارين من واجباتهم، بل هي للذين يلزمون الطريقة الوسطى، فلا يفرطون ولا يفرطون، في مآكلهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم، إنهم وسط في كل شيء، فيستريحون كما ينبغي وينصبون كما ينبغي، والناسك الحق هو الذي يرى، وجوده في وجود الآخرين ووجودهم في وجوده، وهو الذي لا يفرق بينهم وبينه، بل يدرك الله في الجميع ويدرك الجميع في الله، فمن كان هكذا فعلاقته بالله وثيقة لا انقطاع لها، فالذي يحمد الله في خلقه وينسى نفسه، فهو مع الله أينما كان وحيثما كان، ومن يرى سعادة الآخرين وشقائهم سعادته وشقائه، فهو حبيب الله حقًّا". ثم سأل أريجنا: أليس قهر النفس الأمارة كما تقول من أصعب الأمور؟ أجاب كريشنا: "أجل يا عزيزي، إنه من أصعب الأمور، لا يكون قهر النفس، إلا بصدق النية والتمرين والرغبة عن لذائذ الدنيا، والذي حرم قوة الإرادة والعزيمة، فلا يتمكن من قهر نفسه ولا ينال النسك، والشرائع الظاهرية والطقوس الرسمية لا تنفعه شيئًا، إنّ مُجرد الرغبة في هذا السلوك، يغني المرء عن "الفيدا" وعن شرائع الفيدا، هذه الرغبة تجعله فوق كل هذا، ومن سعى مع هذه الرغبة سعيا صادقا، وإن قليلًا ينتفع به، وإن اضطرب قلبه ولم ينجح في النسك كل النجاح، لأن طريق التقدم الروحي ينفتح أمامه يسلكه إذا وطد عزمه. والعارف الذي يعبد الله، يرى الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، وأينما يتجه بوجهه، يرى وجه الله الحي الذي لا يموت، والرب الذي به يكون كل شيء. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2).

الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2).

التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الديانة الهندوسية (2)) التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فنتحدث عن الهندوسية أكبر أديان الهند؛ من حيث التأسيس والتطور: الهندوسية ديانة الجمهرة العظمى في الهند الآن، قامت على أنقاض الويبية، وتشربت أفكارها وتسلمت عن طريقها، الملامح الهندية القديمة والأساطير الروحانية المختلفة، التي نمت في شبه الجزيرة قبل دخول الآريين، ومن أجل هذا عدها الباحثون امتدادا للويبية وتطورًا لها. وتسمى الهندوسية أو الهندوكية، إذ تمثلت فيها تقاليد الهند، وعاداتهم وأخلاقهم وصور حياتهم، وأطلق عليها البرهمية، ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة إلى براهمة، وهو القوة العظيمة السحرية الكامنة، التي تطلب كثيرا من العبادات، كقراءة الأدعية وإنشاد الأناشيد وتقديم القرابين، ومن براهمة اشتقت الكلمة البراهمة، لتكون علمًا على رجال الدين، الذين كان يعتقد أنهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي، وهم لهذا كانوا كهنة الأمة، لا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم. الهندوسية من حيث فكرة التأسيس: من مؤسس الهندوسية؟ من الذي وضع الهندوسية؟ من الذي وضع كتابها المقدس "الويدا"؟ في الإجابة على هذين السؤالين، نقرر أنه ليس هناك مؤسس للهندوسية، يمكن الرجوع إليه كمصدر لتعاليمها أحكامها، فالهندوسية دين متطور ومجموعة من التقاليد والأوضاع، تولدت من تنظيم الآريين لحياتهم جيلًا بعد جيل، بعدما وفدوا على الهند، وتغلبوا على سكانها الأصليين، واستأثروا دونهم بتنظيم المجتمع، وقد تولد من استعلاء الآريين

الفاتحين، على سكان الهند الأصليين ومن احتكاكهم بهم، تلك التقاليد الهندوسية التي اعتبرت على مر التاريخ دينًا، يدين به الهنود ويلتزمون بآدابه. ويمكن القول: أن أساس الهندوسية، هو عقائد الآريين بعد أن تطورت، بسبب اختلاط الآريين، وهم في طريقهم البطيء إلى الهند، بشعوب كثيرة وبخاصة بالإيرانيين، ثم تأثرت هذه العقائد بعد احتلال الآريين للهند، بسبب الاتصال بأفكار السكان الأصليين، وبفلسفات وأفكار نشأت في الهند، في مراحل متباعدة من التاريخ، حتى أصبحت الهندوسية بعيدة عن العقائد الآرية الأصيلة. والهندوسية أسلوب في الحياة، أكثر مما هي مجموعة من العقائد والمعتقدات، تاريخها يوضح استيعابها لشتى المعتقدات والفرائض والسنن، وليست لها صيغ محدودة المعالم، ولذا تشمل من العقائد ما يهبط لعبادة الأحجار والأشجار، وما يرتفع إلى التجريدات الفلسفية الدقيقة. وإذا كانت الهندوسية ليس لها مؤسس معين؛ فإن "الويدا" كذلك، وهي الكتاب المقدس الذي جمع العقائد والعادات والقوانين بين دفتين، ليس له كذلك واضع معين، ويعتقد الهندوس أنه أزلي لا بداية له، وملهم به قديم قدم الملهم، ويرى الباحثون من الغربيين والمحققون من الهندوس، أنه قد نشأ في قرون عديدة متوالية لا تقل عن عشرين قرنًا، بدأت قبل الميلاد بزمن طويل، وقد أنشأته أجيال من الشعراء والزعماء الدينيين والحكماء الصوفيين عقبًا بعد عقب، وفق تطورات الظروف وتقلبات الشئون، وينسب بيري كتابة "الويدا" إلى الآريين، سنعطي فيما بعد إن شاء الله معلومات كافية عن هذا الكتاب المقدس.

أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية.

أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية والموضوعات الجديرة بالدراسة حول الهندوسية، يمكن تلخيصها في الآتي: 1 - "الويدا". 2 - الله في التفكير الهندسي. 3 - نظام الطبقات. 4 - أهم عقائد الهندوسية: (الكارمة، تناسق الأرواح، وحدة الوجود، الانطلاق). 5 - من صور الأخلاق عند الهندوسيين: (مراحل الحياة، التسول، محاربة الملاذ، تعذيب الجسم). 6 - نماذج من الفقه الهندوسي. 7 - تعريف بالكتب المقدسة لدى الهندوس بعد "الويدا". 8 - لمحة تاريخية عن الديانة الهندوسية. وسنتكلم عن هذه الموضوعات بشيء من التفصيل فيما يلي بإذن الله تبارك وتعالى. أولًا: "الويدا": قلنا فيما سبق: إن "الويدا" كتاب الهندوس المقدس، لا يعرف له واضع معين، ولإعطاء صورة أقرب إلى الدقة عن "الويدا"، الذي يعد بحق دائرة معارف عن الهندوس، نلجأ إلى كاتب هندي قدير، وهو الأستاذ محمد عبد السلام، لنلخص بحثه عن "الويدا"، ضمن أبحاثه القيمة عن فلسفة الهند القديمة، يقول: للويدا قيمة تاريخية كبرى، إذ تنعكس في هذا الأدب الديني، حياة الآريين في الهند في عهدهم القديم ومقرهم الجديد، ففيه أخبار "حملهم وترحالهم، دينهم وسياستهم، حضارتهم وثقافتهم، معيشتهم ومعاشرتهم، مساكنهم وملابسهم، مطاعمهم ومشاربهم، مهنهم وحرفهم"، وترى فيه مدارج الارتقاء للحياة العقلية، من سذاجة البدو

إلى شعور الفلاسفة، فتوجد فيه أدعية ابتدائية تنتهي بالارتياب، وإلوهية تترقى إلى وحدة الوجود. و"الويدات" عبارة عن أربع كتب دينية، هي: 1 - الريج ويدا. وهو أشهر الأربعة وأهمها وأشملها، كما سيظهر من مقارنة موضوعاته، بموضوعات "الويدا"ت الثلاث الأخرى، ويقال: إن تأليف "الريج ويدا" يرجع إلى ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد، وتشمل ألف وسبعة عشر أنشودة دينية، وضعت ليتضرع بها أتباعها أمام الآلهة، أو يتغنون بها عن الآلهة، وأشهر الآلهة الذين ورد ذكرهم فيها هو الإله "أندرا" إله الآلهة، ثم يجيء بعده الإله "أغنى" إله النار وراعي الأسرة، فالإله "فارونا" فالإله "سوريا الشمس" وغيرهم، ولا زال الهنود يتغنون بأناشيد من الريج ويدا، يرتلونها في صلواتهم صباحًا ومساء، ويتيمنون بتلاوتها في حفلات زواجهم، كما كانوا يفعلون منذ ثلاثة آلاف عام. الثاني: "ياجور ويدا". وتشمل العبادات النثرية، التي يتلوها الرهبان عند تقديم القرابين. الثالث: "ساما ويدا". وتشمل الأغاني التي ينشدها المنشدون، أثناء إقامة الصلوات وتلاوة الأدعية. الرابع: "آثار ويدا". وتشمل المقالات في السحر والرقي والتوهمات الخرافية، مصبوغة بالصبغة الهندية القديمة. فالحياة الهندية كما يصورها آثار فيدا مملوءة بالآثام، والكون حافل بالشياطين والأغوال يخوفون الناس، والآلهة كفت أيديها عن الخير ولم

تعد تدفع الشر، ويروي أثار فيدا لجوء الناس للخرافات والرقى والسحر، ليحموا أنفسهم. وكل من هذه "الويدات" الأربعة، يشتمل على أربعة أجزاء، هي "سامهتا، وبراهمن، وأرنيك، أبانيشاد"، وهي بهذا الترتيب من حيث قدمها التاريخي، سنتحدث عن كل منها فيما يلي: 1 - سامهتا أو مجموعة المنظومات لكثرة المنظوم فيها. ومنظومات "الريج ويدا" أهمها، وقد تكرر أكثرها في "ساما ويدا"، وهذه المنظومات يتغنى بها عند تقديم القرابين، ويشمل "سامهتا من ياجور ويدا"، بعض الأدعية التي تقرئ عند تقديم القرابين كذلك، أما منظومات أثار فيدا، فأدعية كانت يقدمها سكان الهند الأقدمون، لآلهتهم قبل زحف الآريين، وإذا فلها قيمة تاريخية ودينية عظيمة، وتمثل "السامهتا" مذهب الفطرة في التفكير "الهندوسي". 2 - "البراهمن، أو الهدايات". التي يقدمها البراهمة للمقيمين في بلادهم وبين أهليهم، وتشمل بيان أنواع القرابين وتفاصيلها ومواسمها، وتبيان أن إرضاء البراهمة ضروري، لقبول القرابين، يمثل البراهمن مرحلة أقرب إلى التحضر للتفكير الهندوسي. 3 - "أرنيك" أو الغاديات أو الهدايات والإرشادات. التي تقدم للشيوخ المعمرين، الذين يتركون أهليهم في الربع الرابع من أعمارهم، ليقيموا في الكهوف والغابات، والأرنيك تهدي أمثال هؤلاء إلى أعمال سهلة، يقومون بها بدل القرابين، التي أصبحوا يعجزون عن تقديمها.

4 - "أبانيشيدات". وهي الأسرار والمشاهدات النفسية للعرفاء من الصوفية، وتدون هذه إرشادًا للرهبان والمتنسكين، الذين مالوا إلى باطن الحياة وتركوا ظاهرها، وتمثل الأبانيشيدات مذهب الروح، الذي هو المرتبة العليا في سلسلة الارتقاء الديني، وتعتبر "الأبانيشيدات" خطوة جريئة في سبيل الحرية الدينية، وتخليص الدين من الرسوم البرهمية، وبها أبعدت الآلهة أو قل الاهتمام بها، وهدأت الأدعية وندرت القرابين وانحطت المراقبات اللاهوتية، وحل العلم والعرفان محل ذلك، ولولا بقايا من الشعور الديني، لكانت الأبانيشيدات فلسفة محضة. والناظر إلى هذه الأقسام الأربعة، يلاحظ أن "السامهتا" يمثل دين الفطرة أو الفكر البدائي، أما البراهمن فيمثل مذهب القانون ودين الأمة، التي تركت البداوة ولم تتعمق بعد في الحضارة، أما "الأرنيك" فينقل الفكر من القانون إلى الروح، فهو معبر تاريخي، وتجيء بعده الأبانيشيدات حيث مذهب الروح، الذي هو المرتبة العليا في سلسلة الارتقاء الديني، وقد وضعت الأبانيشيدات في المدة من ثماني مائة إلى ستمائة قبل الميلاد. نماذج من "الويدا": فيما يلي نماذج من (الريج ويدا) مترجمة عن السنسكريتية، هذه أغنية لـ (أندرا) إله الآلهة: تقول: "هو الأعلى من كل شيء وهو الأسمى، إله الآلهة ذو القوة العليا، الذي أمام قدرته الغالبة، ترتعد الأرض والسماوات العالية، أيها الناس استمعوا لشعري، إنما هو إندرا إله الكون، هو الذي قهر الشياطين في الحساب، وأجرى السبعة الصافية الكبار، واقتحم كهوف الكآبة والأكدار، وأخرج

البقرات الجميلة من الأرحام، وأضاء النار القديمة من البرق في الغمام، ذلك هو اندرا البطل الجسور، الجيش المتقدم للهيجاء، يناديه للنصرة يوم الحرب، الأعزاء بصيته الذائع يهتفون، والأذلاء يذكرون اسمه بشفاههم ويهمسون، وقائد الجيش على العجلة الحربية، يدعو ويستنصر إندرا إله الحرب، الأرض والسماء تعترفان بسلطانه وكماله، والجبال المرتعدة تخر له وتسجد لجلاله، هو الذي يرسل صواعق السماء على أعدائه، فلتهدى إليه الزكائب المقدسة، فإنه يقبل هذه الخمر ويمنحنا رضاه، ويستمع للشعر وأغاني الولاء، له البقرات وأفراس الوغى، له القرى والمساكن وعجلات الحرب. ويرفع الشمس بيده اليمنى، ويفتح الأبواب الحمر من شفق الفجر، فيمزق السحاب الأحمر تمزيقا، يرسل شآبيب المطر لنصدق به تصديقًا". وهذه أغنية للشمس: "يجيء بالشمس جيادها الحمر، فيصل الفجر العظيم الجميل، الذي ينعش الجميع بضيائه، وتأتي الإلهة على مركبة فخمة، توقظ الإنسان ليقوم بعمل نافع". هذه أغنية لـ"أغنى" إله النار: "حينما أرى هذا الكائن المنير في قلبي، تدوي أذناي وتختلج عيناي، وتتيه نفسي في ارتياب، فماذا أقول وماذا أفكر، فيا أغنى مجدتك جميع الآلهة، واجفة ما تواريت في الظلام". ويمكن أن نذكر بعد إن شاء الله، مزيد من الاقتباسات من "الويدا"، عند الكلام عن النقاط الأخرى المتصلة بالهندوسية. ثانيًا: الله في التفكير الهندوسي. التعدد والوحدانية في الفكر الهندي. يوجد في التفكير الهندوسي فيما يختص بالإله نزعتان مختلفتان تمام الاختلاف: نزعة الوحدانية ونزعة التعدد، وإن كانت نزعة التعدد أقوى وأكثر انتشارًا، وقد بلغ التعدد عند الهنود مبلغًا كبيرًا، فقد كان عندهم كما سبق القول، لكل قوة طبيعية تنفعهم

أو تضرهم إله يعبدونه، ويستنصرون به في الشدائد، كالماء والنار والأنهار والجبال وغيرها، وكانوا يدعون تلك الآلهة، لتبارك لهم في ذريتهم وأموالهم، من المواشي والغلات والثمار وتنصرهم على أعدائهم. ولم يصل "الهندوس" إلى عبادة هذه الظواهر دفعة واحدة، إنما مروا بمراحل انتهت بهم إلى عبادتها، ويصور الأستاذ محمد عبد السلام مراحل هذا الانتقال بقوله: "وكانت المظاهر الكونية الجميلة والمناظر العظيمة، باعثة لإيقاظ الشعور الديني فيهم، فأعجبوا بهذه المظاهر واستمتعوا بها، وشكروا لها وامتنوا وأثنوا عليها، ثم ظنوا أن لهذه المظاهر أرواحًا ونفوسًا، كما أن لهم هم أرواحًا ونفوسًا، واعتبروا هذه الأرواح قوة كامنة وراء الظاهر، واعتبروا هذه الأرواح قوة كامنة وراء المظاهر، وبيدها أن تمنحهم هذه المظاهر، التي أعجبتهم أو تحجبها عنهم، فتقربوا إليها بالعبادة والقرابين، واعتبروها آلهة ودعوها عند الحاجات، وعلى هذا كثرت الآلهة عندهم كثرة زائدة، ولكنهم في وسط هذا التعدد، كانوا يميلون أحيانًا للتوحيد أو إلى اتجاه قريب منه؛ فقد كانوا إذا دعوا إلها من آلهتهم، أو أثنوا عليه أو تقربوا إليه بقربان، أقبلوا عليه بكل عواطفهم وجل ميولهم، حتى يغيب عن أعينهم سائر الآلهة والأرباب، ويصير إلهاهم هو ذلك الإله لا غير، فيسمونه بكل اسم هو حسن، ويصفونه بكل صفة كمالية، يخاطبونه برب الأرباب وإله الآلهة، تعظيما وإجلالًا لا تحقيقًا وإيقانًا. وإذا عطفوا إلى إله غيره، أقاموه مقام الأول وجعلوه رب الأرباب وإله الآلهة، فهذا التعبير رب الأرباب أو إله الآلهة، كان أولا يدل على العظمة والجلال، فلما مضت القرون على هذا النحو، أصبح هذا التعبير ثابت المعنى، أي أنهن اعتقدوا فعلًا أن في صف الآلهة، رئيسًا ومرءوسين وآمرًا ومأمورين، وأن

الرئيس والآمر هو وحده رب الأرباب وإله الآلهة، وهذا وصف ثابت له لا ينتقل إلى سواه، والكائنات كلها تحت يده وسائر الآلهة تحت أمره". التثليث في الفكر الهندي: في حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، وصل فكر الكهنة الهنود إلى إبراز هذه النتيجة، التي تقرب من التوحيد أو تصل إليه؛ فقد جمعوا الآلهة في إله واحد، وقالوا: إ نه هو الذي أخرج العالم من ذاته، وهو الذي يحفظه ثم يهلكه ويرده إليه، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء: "فهو براهمة" من حيث هو موجد، وهو "فشنو" من حيث هو حافظ، وهو "سيفا" من حيث هو مهلك. وهكذا فتح الكهنة الهنود الباب للمسيحيين، فيما يسمى تثليث في وحدة ووحدة في تثليث، فبراهمة اسم الله في اللغة السنسكريتية، وهو عند البراهمة الإله الموجود بذاته، لا تدركه الحواس ويدركه العقل، وهو مصدر الكائنات كلها لا حد له، وهو الأصل الأزلي المستقل، الذي منه يستمد العالم وجوده، وجاء في كتاب (الباجا فاتا بورانا) وهو من الكتب الهندية المقدسة، أن كاهنًا توجه إلى الآلهة براهمة وفشنو وسيفا، وسألهم أيكم الإله بحق، فأجابوا جميعًا اعلم أيها الكاهن، أنه لا يوجد أدنى فارق بيننا نحن الثلاثة، فإن الإله الواحد يظهر بثلاثة أشكال، بأعماله من خلق وحفظ وإعدام، ولكنه في الحقيقة واحد، فمن يعبد أحد الثلاثة، فكأنه عبدها جميعا أو عبد الواحد الأعلى. وقد سبق أن ذكرنا أن هذا الثالوث الجديد ظهر متأخرًا، نتيجة للتطور الذي سقناه، ومن أجل هذا ليس له ذكر في "الويدا"، أما الآلهة الواردة بـ"الويدا"ت فعديدة، ولكنها اجتمعت في ثلاثة آلهة رئيسة، هم فارونا في السماء، واندرا في الهواء، وأغنى في الأرض.

الاحتفال بالمعبودات الهندية: وقبل أن نطوي صفحة الكلام عن آلهة الهنود، يجدر بنا أن نقتبس من كتاب (هندسم)، وصفه الرائع للاحتفال بالمعبودات الهندية، ومن هذا الكتاب يتضح، أن من أهم الشعائر الدينية، أن يعد التمثال أحسن إعداد وأن يقام في المعبد، ويعامله عباده كأنه حي يسمع ويعي، يدهنونه بالزيوت ويضمخونه بالطيب، ويحتف بالإله الجديد الذي يدخل المعبد لأول مرة احتفاء واسعًا، يتجه الكل للترحيب به وحسن استقباله كأنه ضيف عظيم، يغسل بالعطور ويكسى بأحسن ثياب ويزين بالجوهر واللؤلؤ، ويوضع أمامه أحسن طعام وأشهى شراب، ويحاط بالزهر والريحان، وتطوف به الجماعة منحنية ضارعة، على أنغام الموسيقى ودخان البخور وأصوات الغناء. ويستمر هذا الكتاب ليقرر، أن بعض الهنود يرون في التمثال إلههم، ويراه آخرون رمزا للإله، ويخضع العابد إلى شعائر دقيقة، لتقبل توسلاته وعبادته، فهو يبدأ بأن ينظف نفسه ويقلل من الطعام أو يصوم، يتخذ أمام إلهه جلسة خاصة، ويشير إليه بإصبعه في خضوع، ويحبس أنفاسه ما أمكن، وهذه الصلاة تتكرر ثلاثة مرات في اليوم، ويصحبها قربانًا من أي نوع، ولا يطول وقتها في العادة، إلا بالنسبة لهؤلاء الذين لهم مطلب، يرجون عون الآلهة لتحقيقه، أو أولئك الذين يميلون للنسك، ويريدون مزيدًا من التقرب للآلهة، فأمثال هؤلاء يقدمون قرابين أكبر، وتطول صلاتهم أمام الآلهة. والاحتفالات أو الصلوات اليومية، يمكن أن تجرى في البيت، إذ لا يكاد يخلو بيت من معبود، أما الاحتفالات العامة فتجرى في المعبد أو في الخلاء، ويستغرق بعضها ساعة أو ساعات، ويمتد بعضها لعدة أيام، وبعضها يتصل بمواسم زراعية أو فيضان أنهار أو هطول أمطار، وبعضها يتصل بالمعبود نفسه، بما يشبه ما نسميه في البلاد العربية المولد،

وبعض المعبودات له شهرة واسعة، تجلب له الحجاج في أثناء الاحتفال به من أقاصي شبه الجزيرة، وبعضها يحتفل به احتفالًا محليًّا، أي في القرية أو في مجموعة القرى المتجاورة فقط، وهكذا. وقد ورد الحديث عن براهمة وعن خلق الكون في كتاب (قوانين منو)، ومنه ننقل الفقرة التالية التي تشرح هذا الموضوع، "في المبدأ كان الكون مغمورا في غيابة الظلام، ولا يمكن إدراكه، وخال من كل وصف مميز، لا يستطاع تصوره بالعقل ولا بالوحي، كأنه في سبات عميق، وانقضى على هذا أمد طويل، ثم تعلقت إرادة المولى الموجود بذاته التي لا تدركها الأبصار، فجعل هذا العالم مرئيًّا هو وعناصره الخمسة وأصوله الأخرى، متلئلًا بالنور الأقدس، قاشعًا الظلام الحالك. فاقتضت حكمة براهمة الذي لا يدركه إلا العقل، أن يبرز من مادته المخلوقات المختلفة، فأوجد الماء أولا ووضع فيه جرثومة، فصارت الجرثومة بيضة لامعة لمعان الذهب، وعاشت داخلها الذات الصلبة على صورة براهمة، وهو جد جميع الكائنات، فبعد أن لبس براهمة في البيضة سنة برهمية، وهي تعادل ملايين السنين البشرية، قسم المولى بمحض إرادته هذه البيضة قسمين، وصنع منهما السماء والأرض والكائنات، وعين لكل كائن اسمه، وخلق عددا عديدا من الآلهة، وخلق طائفة غير مرئية من الجن، خلق الزمان وأقسامه والكواكب والأنهار والبحار والجبال". وهناك رواية أخرى عن خلق الكون، ترويها الأساطير الهندية، فحوى هذه الرواية، أن الروح الكوني تشكل بالشكل الإنساني، ثم نظر حوله فلم هناك يجد شيئا غير نفسه، فصرخ بملء فه هاأنا ذا، فوجدت من هذه الساعة كلمة أنا، ولذلك فأول ما يقول الإنسان إلى الآن، عند كلامه عن نفسه أنا، وشعر هذا الروح

الكوني أو الإنسان الأول بالخوف من وحدته، فلذلك يخاف الإنسان إلى الآن إذا كان وحيدا، لكنه سأل نفسه لماذا أخاف، ما دام ليس هناك أحد غيري، وإنما يخاف الإنسان من غيره، ووجد نفسه لا يشعر بالسعادة، لذلك لا يشعر الإنسان بالسعادة إذا كان وحيدًا، فرغب في إيجاد قرين له، فقسم نفسه قسمين، قسم بقي على حاله، وتحول القسم الآخر إلى امرأة، فكانت هذه المرأة زوجته، ومن تلك الساعة تسلسل خلق الإنسان. ونختم كلامنا عن الآلهة، بإبراز أن هذه هي الآلهة عند طبقات الهندوس الأربعة، التي يتكون منها المجتمع الهندوسي، أما المنبوذون فلهم تفكيرهم الديني الخاص، إذ لم يكونوا محسوبين أعضاء بذلك المجتمع، ولم يكونوا تابعين للمجتمع الهندوسي، ولعل من الأفضل أن نتكلم هنا كلمة موجزة، عن عقائدهم ووضعهم السياسي والاجتماعي، في عهد سيطرة الهندوسية. دين المنبوذين: والمنبوذون كما سبق القول: هم سكان الهند الأصليون، الذين لا يجري في عروقهم الدم التوراني أو الدم الآري، ويسمون زنوج الهند، وقد حرمهم المجتمع الهندوسي حقوق الإنسان، ونزل بهم إلى مستوى أقل أحيانًا من مستوى الحيوان، ولم يسمح لهم بأن يعتنقوا الدين الهندوسي أو يتخلقوا بآدابه، وتركوا هكذا في حياة بدائية مريرة، ومن ثم اتجهوا في تدينهم إلى الأمور البدائية، فأصبح دينهم أشبه بعبادة الأرواح، التي اعتصمت بها الأقوام الفطرية الساذجة، وأعظم الآلهة في مجتمع المنبوذين، ربما كان كومة من الآجر تمثل أم القرية، أو شيطانها الذي يمنح الخصب للعواقر، ويحمي المحصول من الآفات، ويرعى القرية بعنايته ورعايته، وقد يكون للمنبوذ فكرة غامضة مبهمة، عن كائن سام عظيم، ولكنه إلى جانب ذلك يؤمن بجملة من الأرواح الشريرة. ولا يزال المنبوذون يعانون هذا أو أكثره حتى اليوم، فالحرف الحقيرة وقف أو ضريبة عليهم، ودور العلم لا تفتح لهم إلا قليلًا، وقد دفع هذا الوضع

الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية.

برؤسائهم، أن يهددوا باعتزال الهندوس، والدخول في مجتمعات الأديان الأخرى، ومن أجل هذا فقط، خفت حدة المعاملة التي كان يعاملهم بها الهندوس، خوفًا من أن ينضموا إلى الأديان الأخرى التي تحارب الهندوسية، وساعد على ذلك ما أصدرته الحكومة الهندية من قوانين المساواة، التي إن لم تحقق المساواة الكاملة، فقد حسنت حال هؤلاء المساكين بعض الشيء، وقد انتهزت فرق التنصير المسيحي هذا الوضع، فتوغلت بين جماعات المنبوذين، تدعوهم للدخول في المسيحية، وللمسلمين للأسف جهودا محدودة، نحو تقديم الإسلام لهؤلاء المنبوذين، ولا تزال المعركة تدور. الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية ثالثًا: الطبقات في الفكر الهندوسي: سبق أن أشرنا إلى نظام الطبقات في الهند، وذكرنا أن المجتمع الهندي، يتكون من أربع طبقات، هي: 1 - البراهمة. 2 - الجند. 3 - التجار والصناع. 4 - الخدم والعبيد. ولا يدخل المنبوذون في هذا التقسيم، وقلنا: إن هذا التقسيم، نشأ عن التقاء الآريين بالتورانيين والسكان الأصليين، ومعنى هذا أنه نشأ أول ما نشأ على أساس الجنس، ويؤيد وش هذا الرأي، فهو يقول، وكان الآريون شعبًا يفوق في نشاطه وحيويته السكان الأصليين، وكانوا يعتقدون اعتقادًا جازمًا، بسمو جنسهم على سواهم من الأجناس، وكلمة آري التي عرفوا بها معناها النبلاء، ونَحنُ في

مصدر هذا التقسيم، نَختلف مع مؤلف (تاريخ الإسلام في الهند)، فهو يرى أن الحياة بالهند، اقتضت أن يقوم بعض الناس بالطقوس الدينية، ويقوم آخرون بالحروب، كان من الطبيعي أن توجد جماعة تقوم بالعمل في الحقول. ونسأل إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يكن الآريون أو بعضهم مثلا، هم الذين يقومون بالزراعة أو الخدمة، إن المسألة فيما نرى ليست مقتضيات الحياة، ولكنها مقتضيات السيادة والقوة، التي لاحظها الآريون في أنفسهم. ونختلف كذلك مع "البروفيسور أترية" الأستاذ بجامعة منارس في الهند، الذي يرى أن الهنود القدماء، نظموا حياتهم الاجتماعية على طبقات أسموها شاتر فارنا، وهذا التنظيم قائم على أساس اختيار المهن، ولا يمت بصلة إلى هذه الطائفة الممقوتة الحاضرة، التي ابتليت بها الهند، لأنها ابتليت بالحكم الأجنبي الذي دام عدة قرون، وإن نظام الطبقات ما أريد به قط تمزيق المجتمع، بل توحيده على أساس تقسيم العمل: فمن الناس قسم يولع بالعلم، فيترك له العلم ويكون طبقة البراهمة. والقسم الثاني هواه في الحكم والسلطان وأعمال الجراءة والحرب، ومنهم تتكون كاشتريا. والقسم الثالث: أولئك الذين جبروا على حب المال، فليكونوا تجارا وزراعا الوشيا. والقسم الرابع: الذين خلقوا أغبياء بلاداء؛ فلا يصلحون لغير المهن السافلة والقيام بالخدمة، وتتكون منهم طبقة الشدرا،

ونسأل "البروفيسور أترية"، هل لو مال أحد من الشدرا للعلم وعشقه، كان يباح له أن يصبح براهميا؟، وألا يوجد في طبقة "الكاشتريا" خامل أو بليد، وإذا وجد بها خامل أو بليد، هل يمكن أن ننحدر به إلى طبقة الشدرا؟، الإجابة دائما بالنفي، فالطبقية مصدرها العرق سيادة الجنس، أكثر من أي شيء آخر. ويقول "ويلز" عن هذه الطبقات: كان المجتمع الهندي بعد الغزو الآري مقسم إلى طبقات، لا يؤاكل بعضها بعضًا ولا تتزاوج، ولا تختلط اختلاطًا حرًّا، ثم استمر هذا التقسيم الطبقي أمد التاريخ كله، وهذا أمر من شأنه أن يجعل سكان الهند، شيئا يخالف المجتمعات الأوربية والمغولية البسيطة السهلة التزاوج، فهو في الحقيقة مجتمع مجتمعات، ويشير "ويش" إلى نقطة مهمة، هي أن نظام الطبقات، بدأ يظهر عندما بدأ اختلاط سمح، بتكون مجتمع موحد من هذه العناصر المتباينة، أما قبل هذا الاختلاط، فلم تكن هناك ضرورة لتكوين هذا النظام، فنظام الطبقات كان وسيلة للمحافظة على سلامة العرق السامي، بعد أن خيف عليه من الاندماج في الأجناس الأخرى، التي بدأ يتصل بها. ويؤكد "بيري" ذلك، إذ يقرر أن نظام الطبقات، لم يظهر إلا في قوانين منو، حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، ويذكر "ويش" كذلك أن هذه الطبقات الأربعة، ليست في الحقيقة إلا تبسيطا للحديث عن نظام الطبقات في الهند، إذ أن الهنود مجتمع تنتشر فيه الطبقات، حتى أن عدد طبقاته الآن يبلغ حوالي ثلاثة آلاف طبقة، ويذكر بيري أن طبقة الكهنة، حافظت طويلًا على نقائها، أما الطبقات الثلاث الأخرى، فقد تفتت ونشأ عنها طبقات كثيرة. بقي أن نقول عن المنبوذين، إنهم لم يدخلوا التقسيم، ولم يكونوا إحدى طبقات المجتمع الهندوسي، إذ لم يعدوا منه، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، على أن الفلسفة الهندية لم تقنع بالجنس والعنصر، سببًا لنشأة نظام

الطبقات، بل رأت أن تربطه بنص مقدس، فورد في قوانين منو، التي اقتبسنا منها بعض فقراتها آنفًا سبب هذه الطبقات، يقول منو وهو يعدد خلق براهمة للكائنات، "ثم خلق البرهمية من فمه، والكاشتريا من ذراعه، والويشا من فخذه، والشدرا من رجله، فكان لكل من هذه الطبقات، منزلته على هذا النحو". وبناء على هذا التفكير، الذي يرى أن الطبقات خلقها الله على هذا الوضع، يصبح هذا التقسيم أبديًّا، فهو من صنع الله ولا طريق لإزالته، وعلى هذا لا يرتفع أي شخص من أي قسم إلى القسم الأعلى، وبناء عليه كذلك، ومع الاعتقاد أن الابن يأتي على نمط أبيه، لا يجوز لرجل أن يتزوج امرأة من طبقة أعلى من طبقته لعدم الكفاءة، ولأنّ أولاده منها سيهبطون إلى مستواه، وهذه خسارة على التكوين الاجتماعي، ولكن يجوز للرجل أن يتزوج امرأة من طبقة أقل من طبقته، على ألا تكون من الطبقة الرابعة "الشدرا"، التي ليست إلا للخدمة، ولا تسمو لأن يتزوج منها أحد أفراد الطبقات العليا الثلاثة. وجاء في قوانين منو، أن الرجل من الطوائف الثلاثة الشريفة، إن غلبه الحب فتزوج بامرأة من غير هذه الطوائف، فإنه سوف يرى هلاك أسرته. ويتبع نظام الطبقات كذلك، أن تلاحظ أسماء الأطفال من كل طبقة، فيختار الاسم من الكلمات الدالة على البهجة السرور، إن كان برهميًّا، وعلى الحول والقوة إن كان كاشتريا، وعلى الغنى والثروة إن كان ويشيًّا، وعى الذل والمهانة إن كان شدريا، وتلتقي هذه الطبقات الأربعة في الاعتقاد بالآلهة، وكلها تقدس البقرة وكلها تخضع للنظام الطبقي، والبراهمة هم ملجأ الجميع، في حالات الميلاد والزواج والوفاة.

وقد تحدثت شرائع منو بالتفصيل، عن وظائف كل طبقة على النحو الآتي: ولكل طبقة من طبقات المجامع الهندوسي، وظائفها وواجباتها، فعلى البرهمي أن يشتغل بالتعليم والتعلم، وبإرشاد الناس في دينهم، فكان هو المعلم والكاهن والقاضي، أما "كاشتريا" فكانت وظيفته أن يتعلم، ويقدم القرابين وينفق في الصدقات، ويحمل السلاح للدفاع عن وطنه شعبه، أما ويشيا فعليه أن يزرع ويتجر ويجمع المال، وينفق على المعاهد العلمية والدينية، وأما "شدرا" فعليه أن يخدم الطوائف الثلاثة الشريفة. ومن شرائع منو، نورد بعض النصوص التي تقرر اختصاصات كل طبقة: البراهمة: يقوم البراهمة بدرس أسفار "الويدا" وتعليمها، وتبريك تقديم القرابين، التي لا تقبل من الناس إلا عن طريقهم، ويجب أن يحافظ البرهمي على كنز الشرائع المدنية والدينية، وإذا ولد برهمي وضع في الصف الأول من صفوف الدنيا، البرهمي محل لاحترام جميع الآلهة، بسبب نسبه وحده، أحكامه حجة في العالم، والكتاب المقدس هو الذي يمنحه هذا الامتياز، كل ما في العالم ملك للبرهمي، وللبرهمي حق في كل موجود، والبرهمي إذا ما افتقر، حق له أن يمتلك مال "الشدري"، الذي هو عبد له، من غير أن يجازيه الملك على ما فعل، فالعبد وما يملك لسيده. ولا يدنس البرهمي بذنب، ولو قتل العوالم الثلاثة، ولا ينبغي للملك أن يجبي خراجا، من برهمي عالم بالكتاب المقدس، ولو مات الملك محتاجًا، ولا يجوز له أن يصبر على جوع برهمي في ولايته، وليتجنب الملك قتل برهمي، ولو اقترف جميع الجرائم، وليطرده إذا رأى من مملكته، على أن يترك له جميع أمواله، وألا يصيبه بأذى، وعلى الملك ألا أمرا مهما كان، دون استشارة البراهمة.

"الأكشتريا": إن الذين تغذت عقولهم بكتب "ويدا" وغيرها، هم الذين يصلحون لأن يكونوا قوادًا أو ملوكًا أو قضاة أو حكامًا للناس، ينصب الملك من الأكشتريا، وللملك على الأكشتريا احترام الجنود لقائدهم، ويجب ألا يستخف بالملك ولو كان طفلًا، ذلك بأن يقال: إنه إنسان، فالألوهية تتجسم في صورة الملك البشرية، ولا يجوز للأكشتري أن يشتغل بغير الجندية، والأكشتري يعيش جنديًّا حتى في وقت السلم، وعلى "الأكشتريا" أن يتجمعوا عند أول نداء، وعلى الملك أن يعد لهم عدد الحرب وأسلحته. لا تبارك موارد الملك ووسائله، ولو نال كنوزًا واكتسب أملاكًا، إلا إذا أصبح صديقًا للضعيف. "الويشية": يجب على الويشي أن يتزوج امرأة من طائفته، وأن يعنى جادًّا بمهنته، ويربي الماشية على الدوام، وعلى التجار منهم معرفة قوانين التجارة ونظم الربا، وليعلم الويشي جيدًا كيف يبذر الحبوب، وليفرق بين الأرض الجيدة والأرض الرديئة، وليضطلع على نظام الموازين والمكاييل اضطلاعًا كافيًا، وليعرف أجر الخدم ولغات الناس، وما تحفظ به السلع، وكل ما يمت إلى البيع والشراء بصلة. أما "الشدرا": فيجب على الشدري، أن يمتثل امتثالًا مطلقًا أوامر البراهمة، سادة الدار العارفين بالكتب المقدسة والمشتهرين بالفضائل، فترجى له السعادة بعد موته لبعث

أسمى، لا يجوز للشدري أن يجمع ثروات زائدة، ولو كان على ذلك من القادرين، فالشدري إذا جمع مالًا آذى البراهمة بكحته، ويجب نفيه من الطبقة الدنيا الذي تحدثه نفسه، بأن يساوي رجلًا من طبقة أعلى من طبقته، وأن يوصم تحت الورك، وتقطع يده إذا على من هو أعلى منه بيده أو بعصاه، وتقطع رجله إذا رفصه برجليه، وإذا ما دعاه باسمه أو باسم طائفته بدون تقدير، أدخل إلى فمه خنجر، محمي متلوث النصل طوله عشرة قراريط، ويأمر الملك بصب زيت حار في فمه وفي أذنيه، إذا بلغ من الوقاحة، ما يبدي به رأيا للبراهمة في أمور وظائفهم. ولا يزال النظام الطبقي سائدًا في الهند، وقد اتخذ أحيانًا أسس جديدة، فمن ذلك مثلا أتباع مذهب السك، الذي أنشئ لخلق دين موحد من الهندوسية والإسلام، ولم يفلح هؤلاء فيما قصدوا إليه، ولكنهم سرعان ما اتخذوا من مذهبهم، أساسًا لنظام طبقي، فقد عدوا أنفسهم طبقة، ورفضوا التزاوج مع سواهم، ووضعوا كذلك نظام القرية، الذي لا يسمح أحيانًا، بالزواج بين سكانها وسكان قرية أخرى، وهناك محاولات تزعمها الزعيم غاندي، للتخفيف من حدة هذه الطبقات أو إزالتها، وكذلك لإنصاف طبقة المنبوذين بوجه خاص، ولكن هذه المحاولات لم يقدر لها النجاح بعد، وكان الزعيم غاندي ضحية من ضحاياها. وتعتمد هذه المحاولات على اتجاه فلسفي جديد لهذا التقسيم، بأن تذكر بأنه ليس خلقيا ولا طبيعيًّا، وليس إلا توزيعًا للأعمال، حسب طبع كل إنسان وميله واستعداده، كما مر بنا ذلك.

رابعا: أهم عقائد الهندوسية: أهم العقائد في الديانة الهندوسية أربعة، هي: 1 - الك ارمة. 2 - تناسخ الأرواح أو تجوال الروح. 3 - الانطلاق. 4 - وحدة الوجود. وسنشرح فيما يلي رأي الهندوس، في كل من هذه العقائد. 1 - الكارمة: يقول البروفيسير "أترية": إنّ الشهوة أقوى عامل في حياتنا، ولكن شهواتنا تؤثر على الآخرين، فنحن في أعمالنا التي تفرضها الشهوات، نحسن إلى الآخرين أو نسيء، فلابد أن ينطبق علينا قانون الجزاء، المُسيطر على سائر الأحياء الحرة في الكون، وقانون الجزاء يسمى في اللغة السنسكريتية كارمة، وليس لأحد أن يتملص منه، وقد جاء في كتاب (يوجا وأسسها) ما يلي: ليس في الكون مكان، لا الجبال ولا السموات ولا البحار ولا الجنات، يفر إليه المرء من جزاء أعماله، حسنة كانت أو سيئة، وجميع أعمال البشر الاختيارية، التي تؤثر في الآخرين خيرًا كانت أو شرًّا، لا بد وأن يجازى عليها بالثواب أو العقاب، طبقا لناموس العدل الصارم، فنظام الكون إلهي قائم على العدل المحض، وأن العدل الكوني قضى بالجزاء لكل عمل، وأن في الطبيعة نوع من النظام، لا يترك صغيرة ولا كبيرة من أعمال

الناس بدون إحصاء، وبعد إحصائها ينال كل شخص جزاءه على عمله، ويكون الجزاء في هذه الحياة. ولكن الهندوس لاحظوا من واقع الحياة، أن الجزاء قد لا يقع، والظالم قد ينتهي قبل أن يقتص منه، المحسن قد ينتهي قبل أن يحسن إليه، ولذلك لجئوا إلى القول بتناسخ الأرواح، وسنشرح هذا فيما بعد، ليقع الجزاء في الحياة القادمة، إذا لم يتم في الحياة الحاضرة. ويبدو أن "البروفيسير أترية" لاحظ صعوبة فهم هذا القانون، فتدارك هذا قائلًا: لا صعوبة علينا معشر الهندوس، في فهم هذا الناموس ناموس كارمة، وإن لم يسهل على غيرنا فهمه. وتحاول فلسفة اليوجا، تقريب موضوع الكارمة إلى الأذهان، فتذكر أن حياتنا تكون سارة أو غير سارة، تبعا لما نقوم به من أعمال، وهذا يشبه ما يقال، عندما تقع المصيبة على شخص، فإننا نقول: من عمله، إذ الجزاء من جنس العمل، ولكنا نعرف هذا في نفس الحياة، فالظالم يظلم والمعين يعان، ولكن الكارمة تجعل الجزاء حياة في حياة أخرى. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله صحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3).

الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3).

بقية العقائد الهندوسية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الديانة الهندوسية (3)) بقية العقائد الهندوسية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فتعال بنا إلى العقيدة الثانية المتمثلة في: تناسخ الأرواح: يطلق بعض الباحثين على هذه العقيدة تعبيرًا اصطلاحيًّا آخر هو تجوال الروح، وقد يطلق عليها التناسخ فقط، ويطلق عليها كذلك تكرار المولد والتناسخ رجوع الروح بعد خروجها من جسم إلى العالم الأرضي في جسم آخر، وسبب التناسخ أو تكرار المولد هو: أولًا: أن الروح خرجت من الجسم، ولا تزال لها أهواء، والشهوات مرتبطة بالعالم المادي لم تتحقق بعد، وثانيًا: أنها خرجت من الجسم وعليها ديون كثيرة في علاقاتها بالآخرين لا بد من أدائها فلا مناص إذا من أن تستوفي شهواتها في حيوانات أخرى، وأن تتذوق الروح ثمار أعمالها التي قامت بها في حياتها السابقة، فالميل يستلزم الإرادة، والإرادة تستلزم الفعل في هذا الجسد، وإن لم يصلح هذا ففي جسد غيره فقد خلقت الميول لتستوفى، وإذا لم تستوفِ لم ينجُ الإنسان من تكرار المولد، وإذا اكتملت الميول، ولم يبقَ للإنسان شهوةٌ ما، وأزيلت الديون، فلم يرتكب الإنسان إثمًا، ولم يَقُم بحسنة تستوجب الثواب نجت روحه، وتخلصت من تكرار المولد، وامتزجت بالبراهما سواء كان الاكتمال لجسدٍ واحدٍ، أو أجساد متعددة؛

فجسد الإنسان المادي هو الذي يولد من جسدين لوالدين. وأما الذي يحركه وينشطه، ويسيطر عليه فجسد اللطيف يتركب من القوى الأساسية، والحواس، والقوة الآلية المحركة والعناصر اللطيفة والعقل فإذا حدث ما نسميه الموت مات الجسد المادي وتوقف وبلي. أما الجسد اللطيف فلا يموت، بل يخرج، ويعمل مدة من الزمن في آفاق اللطيفة التي تشبه حال أحلامنا، فيجرب هناك الجنة والنار التي تكلمت عنها الكتب الدينية، ثم يعود مسوقًا بالميول، والأعمال الماضية كرة أخرى إلى هذه الحياة متقمصًا جسدًا جديدًا، وتبدأ بذلك دور جديدًا لهذه الروح، وتكون هذه الدورة نتيجة للدورة الماضية فتوجد الروح في إنسان أو حيوان أو ثعبان ويسعد أو يشقى نتيجة لما قدم من عمل في حياته السابقة. ومن الشروط اللازمة لتجوال الروح أن الروح في عالمها الجديد لا تذكر شيئًا عن عالمها السابق فكل دورة منقطعة تماما بالنسبة للروح عن سواها من الدورات وهنا نجد الديانة الهندوسية تلتقي مع الأديان السماوية في جانب، ولكنها سرعان ما تبتعد عنها فنقطة الالتقاء هي خلود الروح وحسابها على ما قدمت، ولكن الأديان السماوية ترى الروح كائنة مستقلة بجسم، فهو يحاسب على ما ارتكب مع هذا الجسم، ويتم الحساب بعد أن يتعرف الإنسان بأخطائه، ويذكره بها لسانه الذي نطق ويده التي امتدت، ورجله التي سارت يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

أما في الهندوسية فهناك انقطاع تام بين الدورتين، ومعنى هذا أن الروح تعاقب على ذنب لا تعرفه ولا تذكره، وترى الأديان السماوية أن الأرض دار بلاء واختبار، وان الآخرة دار حساب وجزاء، ولكن البرهمية اعتبرت الأرض دار جزاء وثواب. وقد تسرب القول بالتناسخ إلى سلة من المسلمين يقول بن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين؛ فذهبت الفرقة الأولى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجسام أخرى، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت، وهذا قول أحمد بن حافظ، وأحمد بن موسى تلميذه، وأبي مسلم الخراساني، ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب الذي صرح بذلك في كتابه المرسوم (العلم الإلهي) وهو قول القرامطة. وقال الرازي في بعض كتبه: لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح من الأجساد المتصورة بالصورة البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصورة الإنسان إلا بالقتل، والذبح لما جاز قتل شيء من الحيوان أو ذبحه البتة وعلق بن حزم على هذا الاتجاه، وهو القول بالتناسخ بأنه دعاوى وخرافات بلا دليل، ومما تسرب إلى بعض فرق الشيعة متصلًا بالتناسخ القول برجعة فهي عودة الروح لحياة جديدة، ولكنها في الرجعة تعود في الجسم أي: أن الشخص نفسه جسمًا وروحًا يعود للحياة بعد الموت.

وقد قال بعض الإمامية بعودة علي بن أبي طالب، وقال أكثرهم: بعودة الإمام الثاني عشر، وهو المهدي، وسموه المهدي المنتظر، وقال: إنه سيعود إلى الأرض فيملأها عدلًا بعد أن ملئت ظلمًا. أما ثالث العقائد: فيسمي بالانطلاق، وقد سبق أن تكلمنا عن اكتمال الميول ونريد هنا أن نزيد هذا الموضوع وضوحًا؛ فنقرر أن معنى اكتمال الميول والشهوات هو توقفها وتغلب الإنسان على نفسه بحيث لا يبقي له شهوة ولا ميلا، بل يقنع بما حصل عليه، ولا يتطلب مزيدًا، وإذا تم ذلك مع انقطاع عن الأعمال وعن علائق الدنيا، وما فيها من ملاذ وعصيان تلك التي تستلزم تكرار المولد إذا تم له ذلك نجا من تكرار المولد، وامتزج بما رهب، وهذه الحالة هي التي يعبرون عنها بالانطلاق؛ فالانطلاق هو الامتزاج بما رهب، كما تندمج قطرة من ماء بالمحيط العظيم، وهدف الحياة الأسمى والانطلاق من دورات الوجود المتوالية، والاندماج في الكائن الأسمى، وهذا الانطلاق لا يكتسب بالأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة يجازى عليها الإنسان من طريق الميلاد المتكرر كالأعمال الشريرة تمامًا وقد ورد في أرمك ما يلي: من لم يرغب في شيء ولن يرغب وتحرر من رق الأهواء واطمأنت نفسه فإنه لا يعاد إلى حواسه ويتحد بالبراهما فيصير هو ويصبح الفاني باقيًا ويؤخذ على هذا المبدأ أنه جعل التصوف، والزهد، والسلبية أفضل من صالح العمال فهي الطريق للإتحاد بالله، ومصالح الأعمال، فتنقذ دورة جديدة في الحياة تساب فيها الروح على ما قدمت من خير في الدورة السابقة.

رابعًا: وحدة الوجود هذا المبدأ وثيق الصلة بالمبادئ السابقة، بل يمكن القول أن هذه المبادئ كلها وثيقة الصلة بعضها ببعض، وقد سبق عند الحديث عن الله في التفكير الهندوسي أن شرحنا كيف انبثق الكون عن الله، ثم شرحنا عند الكلام عن مبدأ الانطلاق، كيف يمكن أن يعود الإنسان إلى الإتحاد بالله. وفي ولويد مزيد ل إ يضاح الصلة بين الكون وبراهما؛ مما أدى إلى اعتقاده بوحدة الوجود وأن نقتبس من فلسفة الهند الخطوات التي قادت إلى هذا التفكير، فقد كان الناس يؤمنون بأن في لعالم قوة عظيمة يلزم التقرب لها بالعبادة والقرابين، وكانت هذه القوة تسمى براهما في مرحلةٍ تاليةٍ لم تعد القرابين المادية ضرورية، بل حل محلها مراقبات على ظواهر كونية تخيلها الإنسان ضحايا، وذلك كالشمس، والنار، والهواء، وفي المرحلة الثالثة راقب الإنسان نفسه وتصورها قربانًا يوصل إلى براهما. في المرحلة الرابعة تجردت المراقبات عن تصور القرابين، بل صار الناس يراقبون أنفسهم على أنهم القوة الكامنة العالمية المؤثرة، ثم وصلوا من التمثل إلى العينية، وأذعنوا أن النفس الشخصية هي عين القوة الحيوية العالمية، أو البراهما؛ فصار المفتكر والموضوع الخارجي شيئًا واحد. وقد صور أستاذ هندي متخصص هذا الموضوع في مقال طويل نقتبس منه بعض الفقرات: خلقت الحياة هذه من الروح أتم؛ فالإنسان ليس جسمه أو حواسه؛ لأن هذه ليست إلا مركبًا، وهي تتغير وتموت، وتبلى، بل الإنسان هو الروح وهي سرمدية أزلية أبدية مستمرة غير مخلوقة، وذكرت شروح "لويدا" أن الإنسان من حيث روحه جاء على فطرة الله براهما، وكما أن شرارة النار نار؛ فإن الإنسان من نوع الإله، وروحه لا يختلف عن الروح الأكبر، إلا كما تختلف البذرة عن الشجرة عندما تجرد الروح بالظواهر المادية تبدأ رحلتها للعودة للروح الأكبر؛ ولذلك يسمى تخلصها من الجسم طريق العودة،

والإله في التفكير الهندي له صفات ثلاث فهو براهما، أي: خالق، و"وشنو" أي: حافظ، وسيفًا، أي: مهلك. وهذه الصفات الإلهية الثلاثة كامنة في الإنسان فهو يخلق الأفكار والأنظمة والمؤسسات، ويحافظ عليها، ويستطيع تدميرها ليعيد خلقها في شكل آخر. وفي فلسفة الهند الأخلاقية المسماة "ويدانت" وردت العبارة التالية هذا الكون كله ليس إلا ظهورًا للوجود الحقيقي الأساسي، وإن الشمس والقمر، وجميع جهات العالم، وجميع أرواح الموجودات أجزاء ومظاهر لذلك الوجود المحيط المطلق، وإن الحياة كلها أشكال لتلك القوة الوحيدة الأصيلة، وإن الجبال والبحار، والأنهار تفجر من ذلك الروح المحيط الذي يستقر في سائر الأشياء. وهذا التفكير هو ما قال به "سانكرا" في القرن الثامن الميلادي إذ وضح الهندوس في وحدة الوجود، وحاول أن يدلل على رفض الازدواج، وأن الروح الإنسانية هي جزء من الروح العالية براهما. وقد تسرب هذا التفكير إلى بعض طوائف المسلمين من الصوفية، والشيعة وقد لقي الحلاج حتفه؛ بسبب اعتناقه المذهب، ودعوته له، ومما يروى من شعره في ذلك: عجبتُ منك ومني ... أفنيتُك مني عني أدنيتني منك حتى ... ظننت انك أني ويروي الشهرستاني: أن ابن سبأ قال مرة لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنتَ أنتَ" يقصد أنت الإله؛ فنفاه علي إلى المدائن، وربما يقال: إن عقوبة النفي لم تكن

الأخلاق عند الهندوسيين.

كافية، ولكن يجاب على ذلك أن فسق ابن سبأ لم يكن قد وضح بعد، وأن الجملة التي قالها: "أنت أنت" لم تكن ظاهرة الدلالة. المقصود الضال الذي كانت هذه الجملة معبرة عنه؛ ولذلك نجد موقف علي قويًّا بالغ القوة عندما اتضح ذلك المقصود فيما بعد فيروي بن حزم أن قوم أصحاب عبد الله بن سبأ أتوا عليًّا، وقالوا له: إنه هو، فقال لهم: ومن هو؟ فقالوا: أنت الله فثار علي، وحكم عليهم بالإعدام حرقًا، وأمر بإشعال نار وألقاهم فيها. الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة. الأخلاق عند الهندوسيين وأنتقل بك أيها الدارس الكريم من عقيدة الهندوس إلى الأخلاق عند الهندوسيين: من صور الأخلاق عند الهندوسيين أن أغلى ما يطمع فيه البرهمي هو الانطلاق والاندماج في براهما -كما قلنا- ودستور عقل الهندي للوصول إلى هذه الغاية كان دائمًا الزيادة المفرطة بالصوم، وأرق الليل وتعذيب النفس كما كان، بأن يعيش أسير الحرمان، ويحمل نفسه ألوان البلاء، وبأن يبدو دائمًا كثير الهموم، والخوف، والتشاؤم، هو لا يتمنى الموت؛ لأن ما تنقله إلى دورة جديدة من دورات حياته، بل يرجو لنفسه الفناء في براهما. ومن أجل ذلك حفلت حياة كثير من الهنود بالبؤس ومحاربة الملاذ والسلبية والتصور وتعذيب النفس. وقسمت الفلسفة الهندية الحياة أربع مراحل وجعلت لكل مرحلة منهجا يليق بها، وكل دور مدته خمسة وعشرون عامًا باعتبار متوسط العمر مائة عامًا،

فالدور الأول دور التربية الجسدية، والعقلية والروحية، والدور الثاني دور الحياة العائلية المرء في هذا الدور، ويكون له أهل، وذرية، ويقوم بواجباته الأهلية. وفي الدور الثالث يتنحى عن الحياة العائلية هو وزوجته ويشغلان أنفسهما بخدمة المجتمع دون أن يكون لهما مطمع شخصي، أو نفع عائلي، أما الدور الرابع فيتجرد المرء فيه من كل ما هو دنيوي، ويتفرغ للرياضة الروحية وفي كل مرحلة من هذه المراحل نوع من الزهادة، ولكن الزهادة في المرحلة الأخيرة أقصى وأصعب. وسننقل من شرائع منه بعض ما فرضه الفقه الهندوسي على الهندوس من الزهادة وبخاصة في المرحلة الأخيرة وفيه إن الذي تغلب على نفسه فقد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر إن النفس لأمارة بالسوء والنفس لا تشبع أبدًا، بل يزداد جشعها بعد أن تنال مشتهاها، إن الذي أوتي كل شيء، والذي تخلى كل ما كان في يده، فهذا خير من ذاك على طالب العلم أن يتجنب الحلوى، واللحوم، والروائح الطيبة، والنساء، وكذلك يجب عليه ألا يدلك جسده بما له رائحة طيبة، ولا يكتحل، ولا يلبس حذاءً ولا يتظلل بالشمسية، وعليه ألا يهتم برزقه يحصن رزقه بالتسول. وعندما تتدخل في الشيخوخة عليك بالتخلي عن الحياة الأهلية، وبالإقامة في الغابة، وإذا أقمت في الغابة فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك وشواربك، ولا أن تُقَلِّمَ أظفارك، وليكن طعامك مما تمد الأرض وتثمر الأشجار، ولا تقطف الثمر بنفسك، بل كُلْ منه سقط من الشجرة بنفسه وعليك بالصوم، تصوم يومًا وتفطر يومًا، وإياك واللحم والخمر.

عود نفسك على تقلبان الموسم؛ فاجلس تحت الشمس المحرقة، وعش أيام المطر تحت السماء، وارتدي الرداء المبلل في الشتاء، لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، لا تقترب من زوجتك نَمْ على الأرض ولا تأنس في المكان الذي أنت فيه، إذا مشيت فامشي حذرًا حتى لا تتخطى عظمًا، أو شعرًا، وحتى لا تدوس نسمة، وإذا شربت الماء فاحذر أن تبتلع نسمة، لا تفرح للذيذ، ولا تحزن على الرديء. ولعل مما يكمل صورة البؤس، والتشاؤم عند الهنود أن نقتبس بعض عبارات من كتاب يعد عند الهندوس أعظم كتاب ألف تحت السماء كما قال بذلك "سوامي رانترتيها" القديس الهندوسي المعاصر، وهذا الكتاب هو (يوجا وأسوذوتها) الذي كأكثر الكتب المقدسة لدى الهنود لا يعرف مؤلف، ولا زمن تأليفه، يقول: هذا الكتاب السعادة لا سبيل لها في العالم الذي خلقت كل نفس فيه لتموت كل شيء في هذا العالم سائر إلى الزوال والفناء مسرات، هذه الحياة ليست إلا خداعًا وأوهامًا. وقد سقطت الأفراح على الأحزان أجل لم يشتريها أحدًا، كما تشترى العبيد، ولكننا نعمل كأننا عبيد مسخرون الرغبة فينا متقلقلة دائمًا كالقرد والنفس لا تشبع أبدًا، ولا تقنع بما في اليد، ولا تزال وثابة إلى ما تناله ومهما أشبعتها ازدادت جوعًا وطموحًا، لا خير في جسدٍ له محل للعاهات ووعاء لسائر الآلام، وهو سائر إلى الانحلال. اتصفت الطفولة بالضعف والطوقان والعجز وعدم القدرة على الكلام والتجرد من العلم، ويا ترى ماذا يجود علينا به زمن الشباب، وهل الشباب إلا كومضة برق تخطف أبصارنا، ثم لا تلبس أن تختفي مفسحة الطريق للشيخوخة بآلامها الثلجية القاسية، ما الحياة إلا كنور السراج الموضوع في الخلاء تلعب به الرياح من كل جهة ولي بهاء الأشياء كلها إلا كومضة برق تنير لحظة، ثم تختفي إلى الأبد. وما هي قيمة الجسد والأفراح والثروة والجاه، والملك إن كان محتمًا علينا أن نموت عاجلًا أو أجلًا، وأن الموت سيقضي على كل شيء.

نماذج من الفقه الهندوسي.

نماذج من الفقه الهندوسي أنتقل بك إلى نماذج من الفقه الهندوسي، لإعطاء نما ذ ج من الفقه الهندوسي سنعتمد على مصدر مهم جدًّا هو الكتاب "منوبهراما ساستر" هو كتاب جامع يحتوي على الشرائع التي تطبعها الطائفة الهندوسية. ويقول ناشر الكتاب: إنه مؤلف عتيق لا نعرف مبدأه ولا مؤلفه وقد زعم البعض أنه من تأليف أول إنسان على الأرض، أو أول عارف وضعه بإلهام من الله في زمان غارق في القدم ولكن الأصح أنه وضع في فترة متتالية بعيد ما بينها فقد ورد ذكره في المؤلفات التي يرجع عهدها إلى القرن السابع قبل الميلاد مما يدل على أن بعض أجزائه كتب قبلها، وبه ذكر لما وقع في العصر البوذي، وهو على العموم يحمي الشرائع التي لا يحيد عنها الهندوس المتدينون حتى الآن، وسنقتبس من هذا الكتاب بعض النظم والقوانين الخاصة بالسلطة الحاكمة وبالمرأة، ثم بعض النظم المالية. الملك خلق الله الملك ليسوقنا البلد، ويدافع عنها؛ ولذلك لا تحتقرن ملكا وإن كان طفلًا رضيعًا؛ لأنه إله في صورة إنسان فوق الأرض وقد منح الله الملك السلطان الذي يعاقب به المذنبين، فلا ملك إلا بسلطان، ولا طاعة إلا بسلطان العقاب، وعلى الملك أن يصطفي لنفسه الوزراء من الأسر الطيبة ممن اتصفوا بالعلم والشجاعة والنزاهة، وإنما جاز له ذلك لأن الرجل الواحد يصعب عليه القيام بأعباء الملك الثقيلة وعلى الملك أن يختار سفراءه من أهل العلم والفراسة الذين تكفيهم الإرشادات للنفوذ إلى الأسرار العميقة؛ وليعلم الملك أن البهمي، وإن ساءت سيرة فله أن ينصح الملك إذا شاء، وعلى الملك الرفق بالطيبين والشدة مع الأشرار؛ فالملك العادل الذي لا يداهن الناس يحبه الناس. أما الكلام عن المرأة تعيش المرأة وليس لها خيار سواءً كانت بنتا صغيرة أو شابة أو عجوزًا البنت في خيار أبيها والمتزوجة في خيار بعلها والأرملة في خيار أبنائها، وليس

لها أن تستقل أبدًا، وعلى المرأة أن ترضى بمن ارتضاه لها والدها بعلًا فتخدمه طول حياته، ولا تفكر في رجل آخر بعد وفاته، بل عليها حينئذٍ أن تهجر ما تشتهيه من الأكل اللذيذ، واللبس الحسن، والزينة كلها، وتعيش أرملة إلى آخر عمرها، وإن وجدت زوجها لا يعتني بها، ويحب امرأة غيرها، فلا تحقد عليه، ولا تقصر في خدمته، ونيل مرضاته، فقد نيطت جنة المرأة برضاء بعلها، فلا تفعلن شيئًا لا يرضاه بعلها، وليس لواله البنت أن ينال شيئًا من المال، أو المتاع عند تزويجها لأن من يفعل ذلك فكأنه باع بنته والأسرة التي تحترم المرأة؛ فإن الآلهة تخصها بعطفها وأما الأسرة التي تحتقر فيها المرأة؛ فإن حسناتها تذهب سدى، والأوفق أن تشهد النساء للنساء، والرجال للرجال، والشهادة النساء، وإن كن نزيهات لا يقام لها كبير الوزن؛ لأن عقولهن لا توازن فيها. يحب الزوج زوجته وليعلم أنها تلده في صورة ابنه فهي خليقة بحب زوجها والمرأة سيدة بيتها فعلى الرجل أن يسلمها مقاليد البيت وواجباتها أن تلد وأن تربي أولادها وتدبر أمور منزلها ولتعلم المرأة أن عظمتها منوطة بعظمة زوجها والذي قال لرجل: إني أزوجك ابنتي فلا يحل له أن يرجع عن قوله ويخلف وعده وإن فعل ذلك؟ باسم الذي يقتل ألف نفس بريئة وإذا ابتلى أحدًا بزوجة شريرة خداعة قاسية القلب، فله أن يطلقها ويطردها من بيته، وليعيش الزوجان بالحب والوفاء؛ لأنهما لم يقترنا على اسم الله ليفترقا أو يتباغضا. ومن الكلام عن الملك والمرأة إلى كلام عن مسائل اقتصادية لا يجوز أكل الربا الفاحش، ولصاحب المال أن يأخذ روبية وربع -وربع روبية- ربًا عن مائة روبية في كل شهر.

وإذا حاول عم صبي صغير أن يستولي على أملاكه؛ فيمنعه الملك من ذلك، ويحول الأملاك إلى إدارته حتى يبلغ الصبي الرشد والعقار الذي لا يوجد له صاحبه يبقيه الملك في يده ثلاث سنوات؛ فإن لم يعرف صاحبه خلال هذه المدة يصبح ملكا للملك بعدها، وإذا وجدت لقطة في مكان أمر الملك بحفظها حتى يوجد صاحبها، والذي يسرق مثل هذا المال يلقي أمام فيل ليدوسه نكال لجنايته، وكما تمس العلقة الدم قليلًا قليلًا، كذلك يجب على الملك أن يكتفي بالقليل من الضرائب على رعيته، فيأخذ من أرباح الفضة والذهب النصف، ومن الحبوب الثمن أو السدس ومن ثمار الأشجار السدس، وكذلك قصب السكر، والعطور، والعقاقير. أما الصناع والعمال والمنبوذون فيسخرهم الملك يومًا واحدًا في كل شهر لأعماله؛ فهذه الضريبة التي عليهم أن يدفعوها. والولد الأكبر هو الذي يرث والديه، أما إخوته وأخواته، فكلهم يعيشون تحت أمره لأن الأخ الأكبر بمنزلة الأب، والذي ليس له ابن يجوز أن يقول لزوج ابنته إن ولد لها ولد هو الذي يرثني ويقوم مقام ابني، ولينظم الملك بواسطة الخبراء أثمان السلع المتقلبة كل خمسة أيام إلى خمسة عشر ولا يملك الولد والزوجة والرقيق شيئًا، وكل ما يحرزونه ملك لعائلته ولا يجوز للملك أن يفرض ضريبة على الأعمى والأبله، والكسح، وابن السبيل ومن يساعد المتبتلين إلى الكتاب المقدس.

الكتب المقدسة لدى الهندوس.

الكتب المقدسة لدى الهندوس أنتقل بك إلى الكتب المقدسة لدى الهندوس وإعطاء فكرة عنها أو تعريف بهذه الكتب المقدسة الفكر الهندي يتسلط عليه اتجاه الروحاني، ومن هنا كثرة الآلهة لدى الهنود؛ وبالتالي كثرت الكتب المقدسة حتى جاوزت المئات ووصلت إلى الألوف، وفي الديانات السماوية يكون مصدر تقديس الكتب أنها كلام الله أوحى به إلى أنبيائه بالمعنى فقط كالتوراة والإنجيل، أو بالمعنى واللفظ كالقرآن الكريم. أما مصدر تقديس الكتب عند الهندوس، فليس لأنها موحى بها من الله فهي لم يوحَ بها بلا يعرف لأكثرها وضع معين، وإنما اشترك في تأليفها عدد كبير من الناس على ما يذكرون، وليس مصدر التقديس إبداعها في الفكرة أو الأسلوب فكثيرًا ما شملت هذه الكتب أفكارًا بدائية وأساليب ركيكة، بل إن مصدر تقديس هذه الكتب هو على العموم الاتجاه الروحاني لدى الفكر الهندي والموافقة على تأليه أي كائن، أو تقديس أي كتاب دون حاجة إلى إبداء الأسباب. ومن الناحية العملية كان مصدر هذه الكثرة تفسير كتاب "ألويد" الذي يعتبر أعظم الكتب المقدسة لدى الهندوس فإن مرور الزمن على هذا الكتاب جعله عسير الفهم غريب اللغة؟؟ فألفت كتب كثيرة لشرحه وتفسيره وعدها الهندوس مقدسة، ومرت قرون أخرى، واحتاجت هذه الشروح إلى شروح جديدة وإضافات فكتبت كتب أخرى واستساغ العقل الهندوسي أن يجعلها مقدسة أيضًا، وتضخمت لويدا فاحتاجت إلى وضع مختصرات قدسها العقل الهندوسي

كذلك هذا بالإضافة إلى كتب وضعت غير متصلة بلويد بل تصف حدثًا دينيًّا أو تاريخيًّا جديدًا على أن الكتب المقدسة لدى الهنود ليست كلها بطبيعة الحال في مستوىً واحد، فمنها كتب قليلة الانتشار، أو لا تحظى بتقديس جميع الهندوس، ومن كتب أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح. ومن أعظم كتبهم المقدسة على العموم "ألويدا" وقوانين "مينو" وقد تحدثنا عنهما واقتبسنا منهما اقتباسات كافيه لإظهار أهميتهما وبقي أن نعرف بكتب الأربعة آخرى تعتبر في القمة بين كتب الهندوس المقدسة وهذه الكتب هي: (مهابهارتا) (كيتا) (يوجا) و (سستها)، و (راميانا) (مهابهارتا) ملحمة الهند الكبرى تشبه "الإليزا والأوديسا" عند اليونان، وهي من الكتب الهندية القليلة التي يعرف مؤلفها: إن اسمه، وياس، وهو ابن العارف الكبير برسرا، وقد أملي "وياس" هذا النشيد المقدس على كنيتي الذي دونه. وقد وقعت هذه الملحمة الكبرى حوالي سنة 950 قبل الميلاد وهي تصف حربا بين أمراء أسرة ملكية واحدة ولكن جميع ملوك الهند اشتركوا فيها مع هذا الجانب آنذاك بل اتخذ الآلهة دورا في المعركة أيضًا كما تروي الأقاصيص ذلك، ومن أعظم المعلمين الذين عنوا بتدريس "مهابهارتا سوتا" الذي يلقاها على جماعة العلماء والنساك والمرتضين. وقد افتتحها بقوله إنني أوفر حظًّا، وأسعد طالعًا بإبلاغي إليكم رواية "مهابهارتا" التي وضعها "وياس" ليعلمكم الدين الإنساني ويرشدكم إلى الحياة وغايتها، وقد سمعت رواية "مهابهارتا" بجوهرها، والقصص الاستطرادية المشتملة عليها ثم بعد ذلك حدث أن قمت برحلة طويلة زرت فيها الأماكن

المقدسة وزرت ساحة القتال التي دارت فيها راحة الملحمة الكبرى التي تتحدث عنها وتصفها هذه الأنشودة الحماسية. ويبدأ سوتا يروي هذه الملحمة التي يعتبرها الهندوس أنشودة حماسية نادرة لاحتواها على كثير من الروايات التمثيلية، والتعاليم الجليلة؛ ولأنها كما يقولون كالبحر الذي في قاعه من الدرر البهية والأحجار الكريمة ما لا يعد ولا يحصى، وهي ينبوع يتفجر تفيض منه الثقافة، وتنهمر منه الأخلاق والآداب. وعندما نقرأ رواية "سوتا" يشق علينا فهمها، ويصعب علينا متابعتها؛ لكثرة الأسماء الصعبة، وتشابهها ولكثرة الاستطرادات والغموض وسنحاول هنا أن نعطي موجزًا للقصة، ثم نتبعه بنماذج منها تجري حوادث هذه الملحمة في هستنابور حيث كان للملك ولدان الكبير منهما يدعى دهر "تارا شتارا" وكان مكفوف البصر؛ ولذلك آل الملك إلى الصغير المسمى "باندو" ولكن هذا اقترف ذنبًا، وهو ملك فحكم عليه بالنفي للتكفير عن الذنب إلى مجاهل الصحراء وإلى هنا انتقل الملك وزوجتاه وأل الملك إلى أولاده أخيه ويطلق عليهم "كورو" ومات "باندو" في المنفى بعد أن أعقب خمسة أولاد كانوا يعرفون بخمسة "باندو" وتربى هؤلاء في كنف الناسكين بالكهوف والفيافي حتى وصلوا إلى مرحلة عالية في الدراسة الدينية وفي إجادة لويزا وغيرها من الثقافات. ولما بلغ أكبرهم سن الرشد عاد بإخوته إلى "هاستنابورو" وطالب ميراثه في الملك بعد أن تمت الكفارة فناصبهم "كورو" العداء، وانقلبوا حاسدين لهم، واعين جهد المستطاع لكل ما يضرهم، ويؤذيهم، وبدأت المناوشات تدب بين الفريقين، ولكن مساعي الصلح، وفقت بينهما فاشتركَا في الحكم، ثم هزم ألبا ندوا في لعبة النرد

التي كانت تعد طبق التقاليد السائدة شرفًا، وكرامة "لكشتريا" فقضي عليهم بالنفي عن مملكتهم إلى غابات الصحاري ثلاثة عشر عامًا. وسافر هؤلاء إلى المنفى، ولما انتهى الأجل المضروب رجعوا إلى المملكة، وطالبوا بحقهم، ولكن "ديرودهن" المنتمي إلى "كورو" رفض أن يرد لهم حقوقهم، فاحتكم الطرفان إلى حراب، وشهدت ساحة القتال حربًا ضروسًا بين الفريقين انتهت بهزيمة "ديروديهن". هذا هو جوهر الملحمة الكبرى، وفي طيات القصة تأتي آداب هامة عن لعبة النرد والوفاء بالعهد والتكفير عن الخطايا، وتتدخل الآلهة، والجن في الموضوع من حين إلى آخر، كما يمكن أن نسميه خرافات خيالات، وأن نختر بعض الأحداث لنقصه كما يلي في نموذج من هذا الكتاب العظيم لدي الهندوس. كانت هناك حرب سجال بين الآلهة، وطائفة "السورا" وعلى رأس كل من الفريقين المتحاربين قيادة حازمة تدبر الحيل وتعمل بيقظة لتكسبن النصر فكان "برهسبتي" الخبير بأسرار الكتب المنزلة ومعارفها قائد الآلهة، وكان " سوكر أجاريا " المحنك البصير يقود " أسورا " في كفاحهم ضد الآلهة، ولكن " سوكر أجاريا " كان يجيد عملية "سنجيوني" التي تعيد الميت حيًّا. وعلى هذا فطالما رجحت كفة "أسورا" بسبب إعادة الحياة لمن يموت منه في الحرب، وكان هذا يرجح كفته على الآلهة التمس الآلهة من "كاجا" وكان قد اعتزل الحرب أن يتصل "بسوكر أجاريا" ويتقرب إليه، ويتعلم منه عملية "سانجيوني" ولو بطريق الخداع فقبل "كاجا" ويمم وجهه شطر سورا، ودخل على "سوكر أجاريا" وهتف به: قصدت إليك لأتلقى

دروس الحكمة والعرفان تحت وصايتك، ولم يرده " سوكر أجاريا " لأن الأستاذ المتضلع لا يرد طلب التلميذ النبيل، والتحق "كاجا" ببيت " سوكر أجاريا " يتعلم ويخدم. وكان لـ"سوكر أجاريا " بنت جميلة أسماها " ديويا ن ي " كان أبوها يحبها حبًّا جمَّا، وكان "كاجا" يقضي أكثر أوقاته معها يسليها بالغناء والرقص والقصص ويقضي لها كل حاجاتها فتعلقت به " ديوياني " وشغفت بحبه، وخافت " أسورا " من عاقبة هذه العلاقة بين "كاجا" و " ديوياني " وتخيلت أن "كاجا" سيستطيع تحت ستار طلب العلم والخدمة أن يعرف سر عملية " سنجيوني "، ولذلك قررت سورا قتل "كاجا" وانتهزت فرصة خروجه يرعى ماشية أستاذه، وهجم عليها أفراد منها، وقتلوه، ومزقوا جسمه شر ممزق. ولما عادت الماشية بدونه انزعجت "ديوياني" وأسرعت إلى أبيها صارخة باكية، وقالت: يا أبتي، إن الشمس قد غابت وعادت الماشية، ولم يأتِ "كاجا" إني أخاف أن يكون شر نزل به، وإني لا أستطيع أن أعيش ولا أراه بجانبي، فرق قلب الأب لابنته، واسترعى عملية " سنجيوني " وسرعان ما حضر "كاجا" وقص عليهما ما حدث له وهو يرعى الماشية من هجوم " أسورا " عليه وقتله، ولكن " أسورا " دبر ت طريقا جديدا للتخلص من "كاجا" فذهب مرة ليحضر الأزهار الجميلة من الغابة إلى " ديوياني " فانقض عليه بعضهم وقتلوه وحرقوه، ألقوا رماده في اليم، وطال انتظار ديوياني له دون جدوى فهرعت أبيها باكية ناحبة فأحياه لها مرة ثانية. ولكن " أسورا " دبرت أمرًا خطيرًا، فقد أمسكت بـ"كاجا" وقتلته وحرقت جسته وأذابت رماده في كأس خمر، وقدمت الكأس إلى " سوكر أجاريا " فشربه،

وهرعت " ديوياني " إلى أبيها لثالث مرة، وعندما طالت غيبة "كاجا" وحاول أبوها أن ينصحها بالرضا بالقضاء والقدر، ولكنها بكت بنشيج وحسرة، ولما حاول أبوها أن يحييه هذه المرة اضطرب "كاجا" في أحشائه فقال أبوها: إن عودة "كاجا" للحياة لا تتم إلا بموتي؛ ليخرج هذا من بين أحشائي، وشمل الحزن " ديوياني "؛ إذ أدركت أنها لا بد أن تفقد حبيبها أو والدها واضطربت لهذا الأمر الفاجع، ولكنَّ أباها وجد حلًّا للمشكلة، فقد علم السر " سنجيوني " إلى "كاجا" وهو في أحشائه، وقال له: الآن تشق بطني لتخرج أنت من أحشائي، وأموت أنا، ثم تعيد لي الحياة باصطناع سن جيوني معي، وتم ذلك بنجاح. ولما أعاد "سوكر" أجاريا للحياة انحنى تلميذه أمامه، وقال: إن الشيخ الذي يعلم التلميذ الساذج يقوم مقام الأب فأنت أبي، وحيث إني خرجت من داخلك فأنت لي كذلك أم حنون. ذلك نموذج من الأقاصيص التي اشتركت فيها ال آلهة ودونتها (مهابهارتا) وكما قلنا أنفا: إنها تتخللها أحكام وقوانين آداب فشرب الخمر يصبح معصية بعد أن خدع بسببه "سوكر أجاريا" ومن هتاف "سوكر أجاريا" محذر ً امن الخمر لا تقترب الفضيلة شارب الخمر ويزدريه الناس احتقارا هذا بلاغ، وقتل برهمي غدرا يعتبر عملا منكرا يتحدث عنه "سوكر أجاريا" طويلا محذرا " أسورا " من ارتكابه وكان ذلك بمناسبة الاعتداء على "كاجا". ومن هذا الكتاب المليء بالأساطير إلى الكتاب الثاني (ك ِ يتا) أو (ك َ يتا) هذا الكتاب جزء من الملحمة الكبرى مهابهارتا التي تحدثنا عنها أنفا والتي كما قلنا تصف حربا شعواء بين فريقين من الأمراء ينحدران من أسرة ملكية واحدة، وينسب هذا الكتاب أو أكثر إلى كرشنا أحد أبطال الهندوس المقدسين، وكان قد اتخذ جانبا في هذه الملحمة تحت قيادة البطل أروجنا.

ومن قراءة (كيتا) يلاحظ اهتمام هذا الكتاب لا بالجانب القصصي أو الخرافي الذي لاحظناه في النموذج السابق، بل بالجانب الفلسفي والاجتماعي، و (كيتا) لهذا يعتبر من الروافد التي قدمت إلى مهابهارتا أروع التعاليم وأرقى الثقافات، ومنه استمد ت تعاليم كثير ة رأيناها في دراستنا السابقة، والكتاب يقدم لنا صورة الهيئة الاجتماعية الهندية في ذلك العصر فنعلم منه ما كان عليه الشعب من المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية والأفكار الفلسفية، وو جهة نظره العامة في الحياة وما بعد الممات، وهو يخبرنا أن الناس ضلوا عن سواء السبيل، ووقعوا فريسة للتقاليد والأوهام فتركوا لب الدين وتمسكوا بقشوره، وكانوا يتشدقون بألفاظ ويدا ويعملون بظواهرها فيقيمون الطقوس والعبادات الرسمية وهم مع اعتقادهم بوحدة الله يعبدون آلهة آخرى، وليس هذا فحسب بل يعبدون أسلافهم، وكذلك يعبدون العفاريت، ويتطيرون ويعتقدون في الفعل. وبجانب هؤلاء وعلى العكس منهم يوجد أناس ينعون على متبع الظواهر اتجاههم، ولكن هؤلاء غلو كذلك في مذهبه م فأنكروا العبادات والظواهر على الإطلاق زاعمين أنها قشور، وكان أكثر هؤلاء وأولئك مقلدين جامدين، ويوجد أناس آخرون يرون في الرهبانية والتجرد من الدنيا النجاة فيهجرون الكسب ويعيشون عالة على الناس. وكان " أورجنا " زعيم أحد الحزبين المتحاربين متأثرا بأحوال بيئته مؤمنا بمعتقدات عصره وخ ادعا للأفكار الشائعة، فلما اصطفت الصفوف ودقت الطبول وآن أوان القتال تلجلج في مباشرته، وجرى بينه وبين " كريشنا " حوار ف وعظه " كريشنا " وحثه على القتال وكتاب (كيتا) اشتمل على هذا الحوار الذي جرى في ساحة الحرب، وأعفي سمعك من هذا الحوار المطول والمليء بالأساطير لأنتقل بك إلى الكتاب الثالث المقدس عند الهندوس إعطاء فكرة عنه، وهو المسمى (رامايانا).

(رامايانا) كتاب قديم لا يعرف مؤلفه ولا تاريخ تأليفه بالضبط، وكل ما نعرفه عن تاريخه أنه كله أو بعضه أقدم من (مهابهارتا) الذي تكلمنا عنه سابقا، وعرف تاريخ (رامايانا) التقريبي بواسطة إشاراتي إليه في (مهابهارتا) وإن كان ذلك لا يحدد تاريخه بالضبط؛ لأن الكتب المقدسة الهندية ألفت في فترات طويلة فلا يدل حدث بها على تاريخ تأليف الكتاب كله، و (رامايانا) يعني بالأفكار الس ي اسية أو الدستورية للحياة الهندية فهو يتحدث عن تكوين م جالس الشورى وطرق اختيار الملوك وولاة العهود، ثم عن واجبات الملك وعن واجبات مجالس الشورى وسلوك أعضائها. ونقتبس من هذا الكتاب ثلاث خطب تتصل بأحد الملوك الهند المشاهير وهو الملك " راما "، وتحتوي على تقاليد ونظم هندية تتصل بالسياسة؛ أحس " داسارتها " ملك الهند بوهن في صحته فعقد المجلس التشريعي في عاصمته أيودها وألقى بالمجلس الخطاب التالي: اخترتموني ملكا عليكم وقد بذلت كل جهدي في القيام بواجباتي نحوكم، وها أنا ذا قد بلغت من الكبر عتيا، ويحتم علي واجبي أن أصارحكم بأن أعباء الملك فوق مقدرتي الآن، وأراني أضعف من أن أتحملها، وهذه الأعباء تحتاج إلى رجل أقوى مني جسدا وعقلا، وإنكم لتعرفون " راما " ابني ولا تخفى عليكم مزاياه التي تؤهله ليكون ولي عهدي، وينوب عني في الحكم ما دمت حيا، ويخلفني بعدي ويخدم شعبه كأبيه، هذا رأيي أنا ولك م الحرية التامة في قبوله أو رده، فإن قبلتموه فذاك ما أريد وإن رفضتموه واخترتم رجلا غيره فإني أنزل على إرادتكم وأقبل قراركم بطيب نفس؛ لأن غايتكم وغايتي واحده هي خدمة الشعب وخير البلاد. وخرج الملك وترك الأعضاء ليتناقشوا فاتفقت كلمتهم على قبول " راما " وليا للعهد ونائبا عن الملك في حياته على أن يكون ملكا بعد وفاة أبيه إن سار سيرة والده في الحكم، فلما بلغ " داسارتها " ذلك عاد للمجلس ومعه " راما " خاطبه أمام الجالسين قائلًا:

لقد وقع اختيار مجلس الشعب عليك لتكون ولي عهدي ونائبي في الحكم وخلفي في الملك بعد مماتي بما أنك أكبر أولادي من زوجتي الأولى التي هي كفء لي في العز والمجد، فأنت أحق أولادي بالشرف الذي أراك المجلس أهلا له، ومزاياك المعروفة جعلتك خلي ق التخدم شعبك، فعليك أن تخفض جناحك لرعيتك وتسهر على راحتها ورفاهيتها، وتعدل في الحكم وتنصف سائر الناس، وليكن الكبير والصغير سواء عندك في الحكم ولا تؤثرن نفسك على المصالح العامة، ولا تخلدن للراحة والتمتع بلذائذ الحياة، وليكن همك الوحيد رضا الشعب وهناء هـ، فالملك يجب أن يكون محبوبا لدى شعبه، محمودا في سيرته، وأشقى الناس وأنحسهم الملك الذي تمقته رعيته؛ لأن من يمقته خلق الله يمقته الله. وابتدأ " راما " مس ئ ولياته بخطاب قال فيه: لا يوجد العدل إلا ب ال صدق، ويجب أن يكون محض اصريحا لا تشوبه شائبة من الكذب والباطل، وأعضاء هذا المجلس الذين يعرفون الحق ثم يظلون ساكتين هم أكثر الكاذبين شرا، والذين يسكتون عن الحق نظرا لمصالحهم الذاتية أو خوفا من نقمة الأقوياء هم المجرمون الذين يخلدون في نار الجحيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4).

الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4).

"لويزا" كتاب الهندوس المقدس

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الديانة الهندوسية (4)) "لويزا" كتاب الهندوس المقدس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فنواصل الكلام عن الديانة الهندوسبة من حيث "الكارما" وتناس خ الأرواح، ووحدة الوجود والانطلاق، والأخلاق عند الهندوسيين والعبادات، وما إلى ذلك مما تبقى في عناصر هذه الديانة. علمت أن "لويزا" كتاب الهندوس المقدس لا يعرف له وضع معين، وإنما له قيمة تاريخية كبرى؛ إذ تنعكس في هذا الأدب الديني حياة الأهليين في الهند في عهدهم القديم، ومقرهم الجديد، وفيه أخبار حلهم، وترحالهم، ودينهم، وسياستهم، وحضارتهم، وثقافتهم ومعيشتهم، ومعاشرتهم، ومساكنهم، وملابسهم، ومطاعمهم، ومشاربهم ومهنهم، وحرفهم، وترى فيه مدارج ارتقاء الحياة العقلية من سذاجة البدوي إلى إلى شعور الفلسفي، فتوجد فيها داهية الابتدائية تنتهي بالارتياق، وإلوهية تترقى إلى وحدة الوجود. وكما علمت أيضًا أن "الويدات" عبارة عن أربع كتب دينية هي "الريجويدا" و"ياجورويدا" و"ساماويدا" و"آثارويدا" وكل من هذه الويدات الأربعة يشتمل على أربعة اجزاء هي: "سمهت" و"برهمن" و"أرنيك" و"أبونيشد" والناظر إلى هذه الأقسام الأربعة. يلاحظ أن "السمهت" تمثل دين الفطرة، أو الفكر البدائي، أما "البرهمن" فيمثل مذهب القانون، ودين الأمة التي تركت البداوة، ولن تتعمق بعد في الحضارة بـ"الأرنيك" فينقل الفكرة من القانون إلى الروح، فهو معبر تاريخي وتجيء بعده "ألفبني شيدات" حيث مذهب الروح الذي هو المرتبة العليا في سلسلة الارتقاء الديني. وقد وضع "الأبنيشيدات" في المدة من ثمانمائة إلى ستمائة قبل الميلاد وعلمت أيضًا أن النظام عند الهندوس يقوم على الطبقات الأربع حيث يتكون المجتمع حسب الهندوسية من أربع طبقات هي: "البرهمه" و"القشتريا" و"الويشاش " و " الشودر" ومزاعم الهندوسية تصل إلى حد التمييز في مصدر ما يتكون منه أهل كل طبقة، وفي شرع منه المعروف باسم "منوسيماتري" يقولون لسعادة العالم خلق "برهمه" البراهمه من وجهه و"القشتيريين" من ذراعيه و"الويش" من فخذيه و"الشودر" من قدميه، وقد سبق تفصيل ذلك ونأتي إلى شعائر وعبادات الهندوس. الطهارة تتوزع في الهند أماكن عديدة لها صفة القداسة عند الهندوس وهذه الكثرة العددية حصلت بالتراكم عبر السنين، ويلاحظ أن هذه المواقع التي يحجون إليها تتوزع على ضفاف الأنهار، وإن كان نهر الغانج من بينها هو الأكثر قداسة، وفيه يلقون رماد موتاهم بعد حرق جثثهم، ونهر الغانج يزعمون أنه ينبع من تحت قدمي الإله الحافظ "فشنو". ولعل الماء يتمتع بمكانة عندهم بسبب ما فيه من فوائد من حياة عند البشر ولسائر المخلوقات، وقد اعتمد الهندوس الماء في الطهارة وطقوسهم في الطهارة بواسطة الماء نجد منها ما يتفق مع ما جاء في الشرائع السماوية، وقد يكون ذلك عندهم مستفادًا من هذه الشرائع السماوية؛ فالجنابة عندهم يتم التطهر منها بالاغتسال بالماء، كما جاء في نصوص كتابهم منه مثلًا: "إذا ما خرج المني من الإنسان؛ فإنه يتطهر بالغسل، وبالنسبة للمرأة، كذلك تغتسل بعد الحيض. وأما بعد الإجهاض وإسقاط الحمل قبل أوانه، فالواجب معرفة كم من الأشهر مضى على حملها، بحيث تقوم بالتطهر بعد عدة أيام هي عدد الأشهر التي مضت على الحمل، وفي "منيوسماتري" تطهر المرأة بعد الإجهاض بيوم عن كل شهر من أشهر الحمل وتطهر بعد الحيض بالغسل

يطهر المرء بالغسل إذا ما لامس شخصًا من الأسافل، أو امرأة حائضًا أو نفساء، أو جسمان ميت، أو لمس من قد لمس جثمان ميت، وكل من يموت في معركة، أو قتال، أو يهلك بصاعقة، أو دون بقرة، أو برهمي أو يقتل بأمر الملك أو يريد الملك أن يكون طاهرا لا يتنجس أحد بموته والطهارة عند الهندوس منها ما هو حسي، وهو الاغتسال بالماء، ومنها ما هو معنوي كطهارة الروح بالعلوم المقدسة والقلب بالعبادات وهكذا دواليت؛ ولهذا الغرض التطهيري نص شرعهم على ما يلي: إن العلم والنار، والطعام، والتراب، والقلب، والماء، والطلي بخفي البقر والهواء، والطقوس الدينية، والشمس والزمن كل أولئك تطهر جسم الإنسان. إن البدن يطهر بالماء، أما الجوف فيطهر بالصدق، ويطهر الروح بالعلوم المقدسة، وبالعبادات، ويطهر القلب بالعلم الصحيح، ويستنتج من النص السابق أمران اعتبار بول البقر مادة للتطهر؛ ولذلك فإن في معابدهم، وبعد انتهاء طقوسهم قد يرشون على الناس بول بقر، وظن أنها تعطي البركة، والربط بين طهارة البدن، وطهارة النفس، والروح هذا أمر في منتهى الأهمية عندهم. أما الصلاة: فيبدو أن للصلاة عندهم أركان لا تتم إلا بها هي الاستحمام وارتداء الثياب النظيف ذات اللون الأصفر، أو الأبيض هذا مع غسل الأيدي والأفواه بالماء المعطر، وأثناء بدء الصلاة هناك هيئة تخص كل من الرجل والمرأة، فالرجل يجلس متربعًا، والمرأة تجلس على ركبتيها هذه أركان الصلاة التي يكون أداؤها كما يلي: ليس في الهندوسية صلاة جامعة، ولا صلاة جماعة؛ فالصلاة كلها فردية وهي ثلاثة أنواع صلاة برفقة الكاهن، واتباع ترانيمه، وصلاة برفقته دون اتباع الترانيم، وصلاة فردية محضة،

أما بالنسبة لصلاة الهندوس فهي مرتان في اليوم الأولى صباحًا، والثانية مساءً، وتفسيرهم أن كل صلاة تسقط ما حصل من هفوات، وأخطاء، وذنوب حصلت من الإنسان ما بين هاتين الصلاتين فصلاة الصبح تسقط ذنوب الليل، وصلاة المساء تسقط ذنوب النهار. ورد في هذا الموضوع في نصوص شرعهم من "نوسمتري" ما يلي على المصلي أن يقرأ في صلاة الصبح "كيتري" في قلبه وهو واقف على قدميه من انبلاج الفجر حتى مطلع الشمس، ويقرأها في صلاة المساء، وهو جالس إلى ظهور النجوم إن صلاة الصبح بهذه الطريقة تذهب كل ذنوب الليل، وصلاة المساء تذهب كل ذنوب النهار، إن من لا يؤدي هاتين العبادتين قائمًا في الصباح وقاعدًا في المساء يجب أن يطرد ك"الشودر" ويمنع من أداء الواجبات الدينية، ويحرم من حقوق المولودين ثانية. ويلاحظ من هذا النص تشدد الهندوس في مسألة الصلاة فمن لم يؤدِّ الصلاة عندهم يطرد، ويصبح من المنبوذين، وهم الطبقة الخادمة الشودر وهذا عقاب القاسي إضافة إلى حرمانه من حقوق المولودين ثانية أي: من انتقلت إليهم روح كانت لها حياة سابقة، ولعل ذلك يشكر دليلًا على أهمية الصلاة في شعائرهم؛ ولأن الهنود مولعون بالتمسك، والاعتزال في الغابات، وعلى ضفاف الأنهار، فإن شرعهم يرشد إلى عبادة تولد الاطمئنان، وهي تلك التي يمكن أثناءها أن يمارس المرء تأمل العقلي طلبا لصفاء النفس، فقد جاء عندهم لا بأس بأن يقوم المرء بالعبادات حتى ولو بقراءة "كيتري" وحدها؛ وذلك بالقرب من نهر أو من غابة، وهو مطمئن البال مستجمع الفكر. ويستخدم الهندوس عن طقوسهم في معابدهم برفقة الكاهن إضافة إلى الماء في النهار النار التي يوقدون بها البخور ومع ذلك الأزهار، والصلاة التي تؤدى في المعابد

تؤدى على الشكل التالي يتلو الكاهن تعاويذه التقليدية، وبعدها يركع الشخص تحت قدمي الصنم متضرعًا يتلو الكاهن الأدعية التقليدية كل طبقة لها وضع خاص في الأدعية التي يتلوها الكاهن في الختام، يتلو الكهنة دعاء مخصوصًا يصلي الشخص ثم يرش الماء، ثم يخرج. ومن شعائرهم إحراق الموتى والنفس هي الأساس في المفهوم الهندوسي والبدن ليس له اعتبار كبير وضمن نظام التناسخ فإن النفس عندهم تنتقل في دورة الحياة من بدن إلى آخر؛ طلبًا للزكية، والتطهر حتى إذا ما تم لها ذلك توقف حلولها في الأبدان، وأتحدث بالروح الكلية "النيرفانا" لذلك اعتمدوا نظامًا قاسيًا مع البدن في الحياة، وإذا ما مات المرء فيكون في طقوسهم إحراق الجسمان، ومن ثم وضع الرماد في أنبوب، وإلقاء هذا الرماد في نهر "الغانج" النهر المقدس عندهم. والغريب عندهم: أنهم يعدون من باب تكريم البقرة دفنها إذا ماتت ضمن مراسيم معينة بينما الإنسان يحرقونه، والأكثر غرابة ما كان سائدًا عندهم بشأن النساء، حيث كان من طقوسهم إحراق المرأة حية مع جسمان زوجها المتوفى، وبقيت هذا العادة السائدة عند بعضهم حتى أواسط القرن التاسع عشر للميلاد حيث سنت الحكومة البريطانية التي كانت تستعمل الهند يومها قانونًا يمنع ذلك. "اليوغ" الإنسان في الهندوسية من نفس "أتمان" وجسده أشبه ما يكون بحاجز كثيف يمنع النفس من انعتاق من توالي دورة الحياة عليها ليتحقق الإتحاد من الروح الكلية، أو بالإله براهما؛ لذلك اعتمد الهندوس مصطلح كارما، ويشير هذا المصطلح إلى نظريته في الولادة، وتناسخ الأرواح بين الأبدان، ومصير الإنسان خاصة النفس مرهون بأعمال الإنسان نفسه؛ فإذا سلك الإنسان

سبل الخير، والعمل الصالح، وقام بواجباته الدينية، بلغ "المقشى" و"انعتق" من دورة الحياة والموت، واتحد بالكل براهما، وإذا سلك الإنسان طريق الشر والمفاسد وأهمل الواجب بقيت روحه متنقلة من جسد لآخر، وتتكرر عليها دورة الحياة والموت. لهذه الغاية عمد الهندوس إلى رياضة "اليوغ" و"اليوغا"، وهي التحكم بالتنفس، وبالجسد، والعمل لتلاشيه، وإماتة شهواته يجب أن تقترن بما يستمونه "هيمسا"، أي: اللاعنف، والامتناع عن توجيه الأذى للآخرين من البشر، أو المخلوقات، وكل ما فيه حياة بما فيه ذلك الحيوان" أو النبات إن "براهما" وأتمن النفس واحد؛ لذلك تكون "اليوغا" من أجل إعادة هذه اللحمة التي انفكت عند نزول النفس في بدن فمطلب تحرير النفس لتتحد براهما إذا هو غاية "اليوغا"، أو تسمى اليوجا، وبذلك تكون ممارسة "اليوغا" أمرًا مطلوبًا لتحقيق الحكمة التي من خلالها يمكن القضاء على الجهل الذي يتسبب في الخلط بين "البروشا" الروح و"البلاكريتي" أي: المادة ويكن أيضًا إدراك الطبيعة الجوهرية للذات: واعتبارها "البوشا" الروح. إن "اليوغا" تحدث في شبه انفصال للنفس والبدن رغم تلاقيهما؛ بحيث لم تعد آلام البدن ذات فعل في النفس، و"اليوغا" تمكن الإنسان من الخلاص من الدنيا وزينتها، وهو على قيد الحياة، وهذا فضله؛ لأن الخلاص بالموت واحد للجميع. "اليوغ" هي السبيل للخلاص من الآلام والبلايا؛ تمهيدًا لتحقيق "النيرفانا" التي بها يتم الإتحاد والذوبان الكامل لأتمون الروح ببراهما؛ هكذا تنتهي "اليوغا" بالإنسان إلى خلاص من نير البدن، ومن نوازع الأنا ليكون محبًّا للناس جميعًا

هذه الدرجة الرفيعة تعطي لصاحبها لقب "مهاتما"، وهو لقب يطلق على الصلحاء، والقديسين عند الهندوس، والكلمة بالأصل من مقطعين أتما أو أتمن، أي: الروح ومها معناه العظيم؛ وبذلك يصبح من تحقق له الخلاص صاحب الروح العظيم. المرأة عند الهندوس: إن الهندوسية التي اعتمدت نظامًا طبقيًّا جائرًا ظلمت كذلك المرأة، وسلبت منها الحرية، والحقوق بكل أنواعها، ولم تعطها أية ما كان وبمراجعة نصوصهم في شرعهم "مينوساماتري" نجد ما ورد في حق المرأة ظالمًا لا يقر لها بأبسط الحقوق الإنسانية المرأة عند الهندوس خاضعة في شتى مراحل عمرها للرجل، ويحل واحد بعد آخر في هذا الأمر فتكون مسئولية الأب، وبعد الزواج للزوج، وبعد وفاة الزوج للابن ورد ذلك عندهم في نصيين لا تليق الحرية المطلقة بالمرأة قط، بل يجب أن يرعاها أبوها في صغرها وزوجها بعد ذلك وابنها في كبرها يجب على المرأة وهي صغيرة، وشابة، أو مسنة ألا تعمل عملًا، ولو داخل دارها بمطلق إرادتها وحريتها، بل يجب أن تكون في صغرها تابعة لأبيها، وفي صباها لزوجها وإذا مات زوجها فلابنها، ولا تكون مطلقة الحرية. وتعطي الشريعة الهندوس للرجل حق التسلط على زوجته في شتى وجوه حياتها وسلوكه الديني والدنيوي حتى العبادات عندهم من صلاة وصوم لا تؤديها إلا من خلاله، ويطالبونه أن تطيعه لدرجة العبودية، وأن تكون طاعتها له قائمة حتى لو كان منحرفًا، وغير صالح، وبذلك يكون مجتمع الهندوس مجتمع ذكوريًّا بكل الكلمة من معنى، ورد عندهم حول هذا الموضوع ما يلي:

على المرأة المخلصة أن تحترم زوجها كالإله، ولو كان عاريًا من كل فضيلة وكان يميل إلى غيرها. ليس على المرأة أن تقوم مستقلة عن زوجها بعمل تقدمه، ولا أن تنذر نذرًا، ولا أن تصوم؛ لأن المرأة المطيعة لزوجها تنال الفردوس الأعلى بطاعتها له. جاء عندهم قد فُطِرَ النساء على إغراء الرجال، فعلى العقلاء أن يحذروهن إن في استطاعة النساء استهواء حتى العلماء من الرجال، وجعلهم عبيد الهوى والغضب. وتدعو الهندوسية الرجل إلى عدم مواقعة زوجته وهي في الحيض، وهذا أمر يلتقون فيه مع الشرائع السماوية، ولكنهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يذهبون إلى القول بالابتعاد عن المرأة أثناء الحيض، وعدم النوم على فراشها، أو استخدام ما تمسه من أدوات طول هذه المدة، ويعطون صورة منفرة عمن يواقع زوجته في الحيض، ويرغبون بالمقابل باجتناب في هذه الحالة ورد في "مينوسامتري" حول هذا الأمر، وعليه -أي: الرجل- ألا يقترب من زوجته عند ظهور دم الحيض مهما غلبت عليه شهوته، وألا ينام معها بفراش واحد، وهذا معروف عند اليهود أيضًا. إن وطء الحائض يذهب العقل، والنشاط، والقوة، والجمال، وبالاختصار إنه يضيع الحياة كلها واجتنابها، وهي في حالة الحيض يزيد العقل، والنشاط والقوة، والعمر والمرأة، عند الهندوس لا تتاح لها فرصة التحصيل العلمي خاصة الفلسفة؛ لأنها لا تطيق ذلك، ويقودها إلى الجنون، وكذلك يحرمونها دراسة كتب "الفيدا" و"لويدا" المقدسة عندهم ينقل "ديوارانت" في هذا

ففي "المهاباراسا" إذا درست المرأة كتب "الفيدا" كانت هذه علامة الفساد في المملكة. إن البراهما يحولون بين زوجاتهم وبين دراسة الفلسفة؛ لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرةً فلسفيةً أصابهن مس من الجنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن. والهندوس يشجعون على الزواج المبكر، ويعتبرون عدم الزواج عارًا، ومنذ الصغر يهتم الأهل بإتمام زواج أولادهم، والزواج يربط المرأة بزوجها رباطًا أبديًّا؛ لذلك انتشر عندهم إن مات الزوج قبل الزوجة أن تحرق الأرملة مع جثمان زوجها؛ لأنه خير لها ألا تبقى بعده، ويدعون للتباعد في الزواج بحيث يتزوج الإنسان من قريباته، إما لجهة الأم أو الأب، ويضعون بعض التوجيهات لجهة اختيار الزوجة في "مينوساماتري" عن الزواج ما يلي: إن خير زوجة للمولود هي التي ليست من قريبات الأم، ولا من أسرة الأب وإذا كان موضوع حرق المرأة الأرملة مع جثمان زوجها قد توقَّفَ بشكل شبه نهائي بعد قانون أصدره المستعمرون الإنجليز سنة ألف وثمانمائة وثلاثين من الميلاد؛ فإن المرأة ظلت محرومة من الميراث أبويها حتى سنة ألف وتسعمائة وست وخمسين من الميلاد؛ حيث صدر قانون في الهند يعطيها هذا الحق إلا أن المرأة لم تنتهِ معاناتها بعدُ في مجتمع الهند حيث إشكالية الدوقة التي على أهلها تأمينها كي تقبل كزوجة، وهذا الأمر وبعد تطور الفحص الجنيني قبل وضع الحمل معرفة جنس الجنين ساعد على انتشار حركة الوأد الخطيرة للمولود الأنثى، إما بالإجهاض، أو بالدفن لحظة الولادة.

من تقاليد الهندوس.

وهذا الأمر ليس بعيدًا؛ ففي أوائل أغسطس من عام ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين الميلادية أصدر البرلمان الهندي قانونًا يحذر إجراء الفحوص الطبية لتحديد نوع الجنين قبل ولادته؛ لأن طلب الأهل للذكور دون الإناث كان يؤدي بعد معرفة نوع الجنين إلى ممارسة عمليات الإجهاض للإناث من الأجنة، وبعض الأسر الفقيرة في ولايتي كامل و"راجستان" تقوم بقتل المواليد الإناث بعد دقائق قليلة من الولادة، وهذا يحصل غالبًا في الأسر الفقيرة التي يكون فيها عدد من الإناث، ولا يستطيع الأهل القيام بواجب التجهيز. بقي أن نقول بأن الهندوسية تعطي للرجل حق تطليق زوجته وهذا الحق غير معطى لها أما الأمور التي تبرر له هذا الطلاق، فهي بحسب شرعهم في مينوسامتري محددة بالنص التالي: يحق للرجل أن يطلق زوجته إذا ما ظهر له فيها عيب، أو مرض أو أنها غير بكر، أو أنها أعطيت له بخدعة. من تقاليد الهندوس ثم أنتقل بك أيها الدارس الكريم إلى شيء من تقاليد الهندوس: لا تجلس على الحصير، أو الفراش الجالس عليه من هو أكبر منك قدرًا، وإذا كنت جالسًا، ودخل عليك من هو أكبر منك قدرًا، فَقُم له، واستقبله، وسلم عليه، والصغير إذا لقي الكبار عليه أن يبدأهم السلام، وأن يعرفهم بنفسه، ومن لا يعرف ألفاظ السلام يستخدم مع الكبير تعبيرًا "تمسكار" أي: انحني أمامك. في نصوصهم: "على الصغير إذا ما لقي كبيرًا أن يعرفه بنفسه بعد السلام عليه قائلًا: أنا فلان

هذا التكريم ينطلق من القدر، والعلم لا من العمر فقط ويتسع ليشمل عددًا كبيرًا من ذوي الشأن المحيطين بالإنسان؛ لذلك جاء الأمر عندهم بضرورة احترام، وإجلال مجموعة كبيرة من الأشخاص. قف وعظِّمْ خَالَكَ، وعمك، وحماك، والعلماء الذين يقومون بالأعمال الدينية وأستاذك ولو كانوا أصغر منك سنًّا، وقبل ذلك؛ فالتكريم الأكبر، والاحترام الأعم هو للوالدين، فهما أصحاب الفضل الأساسي على الإنسان، وقد عانيا ما عانيا في تربيته، وإعداده ليس بالمستطاع مكافأة الأبوين حتى ولا بمائة سنة على ما يقاسيانه من العذاب في نسل الأولاد. على التلميذ أن يقوم على خدمة الأبوين، والأستاذ بما يرضيهم، وبذلك ينال ثواب عبادته كلها، إن طاعة هؤلاء الثلاثة هي خير العبادات؛ فعلى التلميذ ألا يقوم بعبادةٍ ما رجاءَ الثواب، وزيادةَ الحسنات إلا بإذنهم؛ فالوالدان؛ والأستاذ هم أكثر من يحسن للإنسان، ويسهم في تشكيل شخصيته لذلك وجب عليه أن يبادلهما الإكرام والإجلال، وهذا الاحترام يعبر عنه بأسلوب المخاطبة، وبالهيئة عند التخاطب مع الأستاذ. والأدب الهندوسي في هذا الباب فيه: يجب على التلميذ ألا يكلم أستاذه وهو مضطجع، أو وهو جالس على حصير، أو وهو يأكل، أو كان منحرف الوجه عنه، بل عليه أن يكلمه قائمًا إن كان الأستاذ جالسًا، ويتقدم إليه، ويقترب منه إن كان قائمًا، ويسرع إليه إن كان قادمًا، ويركض خلفه إن كان سائرًا، والهندوسي عليه أن يسعى إلى النعيم الأخروي؛ وبذلك عليه أن يتحمل الأذى في الدنيا، وألا يرد الإساءةَ بمثلها.

وفي الهندوسية جملة وصايا تصب كلها في مجمل اتباع الفضائل، فقد جاء في نصوصهم: "لا تؤذي غيرك ولو أوذيت، ولا تتكلم بما يؤذي غيرك، ويمنعك من النعيم الأخروي، ولا تحسد الآخرين على ما آتاهم الله من فضله واحرم الهندوسية القمار، وتطالب الحاكم أن يمنع القمار، وكل أشكال الرهانات وأن يعمل على معاقبة ذلك. ويعدون القمار كسبًا غير مشروع، وهو من جملة أنواع السرقة يقولون في تحريم القمار على الملك أن يمنع المقامرة، والرهان في مملكته؛ لأنهما يبيدان الملك على الملك أن يعمل جهد طاقته لإبادة المقامرين والمراهنين؛ لأن القمار والرهان سرقة ظاهرة، وتستمر مسيرة القيم مع الهندوسية، فإذا بها تحرم الرشوة، وتحارب النفاق، والتدليس، وتحظر التنجيم، والارتزاق من خلاله، كما أنها تعاقب من لا يمارس عمله خاصة الأطباء بصدقٍ وأمانة، وتطالب الحاكم بأن يلاحق هؤلاء، وينزل بهم العقاب المناسب لاستئصال الفساد من المجتمع. ورد في شرع "مينو سماتري": "أن المرتشي، والماكر، والمدلس، والمقامر والمعلم الذي يعلم أداء الطقوس الدينية بالأجر لا للصواب هو الذي يسلك بالخبث، والنفاق، والذي يعيش بالتنجيم، ورجال الحكومة الكبار، والطبيب الذي لا يمارس مهنته بصدق، والمشعوذ، والمومس الماكرة، وغيرهم من الناس الذين يخادعون، ويمكرون جهرًا، والذي يتزي بزي الفرق العالية هم شوك للرعية على الملك أن يستقصي أخبار هؤلاء الناس، ويقبض عليهم؛ فإذا أصبحوا في قبضة الملك عليه أن ينظر إلى إجرامهم، وإلى قواهم البدنية، ثم لينزل العقاب بكل واحدٍ منهم بالنسبة إلى جرمه، والهندوسية تحرم السرقة، وتنزل أشد العقوبات بالسارق، وتتدرج العقوبة وصولًا إلى الإعدام حالة تكرار فعلِ السرقة.

اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح.

يقول شرعهم: "على الملك أن يقطع أيدي اللصوص الذين يسطون على المنازل ليلًا للسرقة، ثم ليصلبهم فتقطع إصبع اللص في أول سرقة يسرقها وتقطع يده وقدمه في السرقة الثانية، ويعاقب بالموت بالسرقة الثالثة، ومن آداب الهندوسية، وشرعها تحريم الغش، وبالتالي فمن يغش عندهم له العقاب، ولا يصح أن يمر عمله بلا عقاب؛ كي يرتدع سواه كي يرتدع وسواه عن فعل الغش. ورد في "مينو ساماتري" يعاقب بالغرامة المالية الصغرى، أو المتوسطة كل من يغش زبائنه، أو يغالي في الثمن، وتحرم الهندوسية الخمر؛ لأنه نجس، ومصدر للخبث، كما في قانون "مينوساماتري" إن الخمر نجسة كالإثم فعلى المولودين ثانية ألا يشربوها. ومن صور الأخلاق عند الهندوسيين: نقول إن أغلى ما يطمع فيه البربهمي هو الانطلاق، والاندماج في براهما، ودستور العقل الهندي للوصول لهذه الغاية كان دائمًا الزهادة المفرطة بالصوم، وأرق الليل وتعذيب النفس، كما كان بأن يعيش أسير الحرمان، ويحمل نفسه ألوان البلاء، وبأن يبدو دائمًا كثير الهموم، والخوف والنشاذ، هو لا يتمنى الموت لأن الموت ينقله إلى دورة جديدة من دورات حياته، بل يرجو لنفسه الفناء في براهما. اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح أنتقل بك إلى ما يعتقده الهندوس حول تناسخ الأرواح حيث يؤمن الهنود بتناسخ الأرواح: ومعناه: أن الروح حينما تفارق جسدها عند الموت تنتقل إلى جسد آخر وتستمر هكذا في التنقل حتى تستقر في أصلها الأول الذي صدرت منه وهو الله تعالى، وفكرة التناسخ هذه تتضمن فكرة وحدة الوجود الذي قال بها الهنود؛ لأن جميع الكائنات في نظرهم تتضمن روحًا صدرت من الله الواحد، والكائنات في الحقيقة هي الروح السارية فيها.

وما المادة المحسوسة إلا مظاهر فانية لا قيمة لها، والأرواح حينما تصدر من مقرها الأول تبقى عاشقة للعودة إلى مصدرها، وأصلها، ولكن اختلاطها بالمادة، وتشابكها مع الشهوات يؤخر لها تحقيق هذا الأمل. إن الموجودات كلها قد صدرت عن الله، وستعود إليه؛ فهو وحده الموجود وهو أصل كل موجود سواه، وفي إطار وحدة الوجود يفهم التناسخ الروحي لأن الروح تفارق الجسد المادي عند الموت، وتنتقل إلى جسد آخر. وأكد البيروني هذه القضية، ويورد نصوص من الكتب الهندوسية تقول: قال ياسدوا لأرجن: إن كنت بالقضاء السابق مؤمنًا؛ فاعلم أنهم ليسوا، ولا نحن معًا بموتى، ولا ذاهبين ذهابًا لا رجوع معه؛ فإن الأرواح غير مائتة، ولا متغيرة إنما تتردد في الأبدان على تغير الإنسان من الطفولة للشباب والكهولة، ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن، ثم العودة كيف يذكر الموت، والقتل من عرف أتن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، وهي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، كل مولود ميت وكل ميت عائد، وليس للإنسان من كلا الأمرين شيء، وإنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير. إن الاعتقاد في التناسخ عندهم يعتمد على بعض القضايا اليقينية في نظرهم وهي: الإنسان في الحقيقة بروحه لا بجسده؛ لأن الجسد ينتهي، أما الروح فهي باقية خالدة، وهي جوهر الإنسان. الإحساس بالسعادة أو بالشقاء متعلقٌ بالروح لا بالجسد، والعقاب بعد الموت يكون بالروح فقط.

تنزل الروح من مصدرها طاهرة نقية؛ فإذا ما اختلطت بالجسد عاشت بين الأهواء، والشهوات، ومالت إليها. أعمال الإنسان في حياته تستتبع نتائجها بعد الموت بالضرورة؛ فإن كان عمله خيرًا نالت روحه الخير، وإن كان عمله شرًّا؛ جوزيت روحه بالشر وذلك يتحقق بالتناسخ؛ لأن الإنسان الذي يعمل خيرًا، تنتقل روحه إلى جسد صالح طاهر أرقى من الجسد السابق وهي بذلك تسعد أما الإنسان السيئ؛ فإن روحه تجازى بأن تنتقل إلى جسد ناقص شقي تشقى فيه، وهكذا تجازى الروح. إن الهنود لا يشكون في أن الأفعال التي يقوم بها الإنسان بإرادته فتحسن إلى الآخرين، أو تسيء إليه لابد أن يكافأ عليها ذات يوم، أو يعاقب بها، وكل من يفلت من هذه الحياة يجنيه في حياة أخرى؛ لأنه لا يموت موتًا كاملًا، إن النفس في كل كائنٍ هي شخصيته، ولا يمكن أن تصير إلى فناء. إن النظر في تفاوت الظروف في الحياة الدنيا يؤدي حتمًا إلى التسليم بأنه كان ثمة حياة سابقة، كذلك يتحتم أن يكون الموت مفضيًا إلى حياة جديدة تنال فيها النفس جزاء ما قدمت في الحياة التي انقضت، ولكن إلى متى يستمر التناسخ. التناسخ مستمر إلى أن تصل الروح إلى الخير التام وتندمج في الإله براهما، ووصولها إلى الخير التام ليس بالأمر المستحيل، إن الروح تستمر خلال التناسخ في التجوال صعودًا، وهبوطًا حتى تتمكن من قهر الشهوات والقضاء على الرغبات الدنيا، والوصول إلى نهاية السلم؟ وحينئذ تتقمص جسدًا راقيًا نظيفًا، وبعده تستقر في الخير الأعلى وبذلك يتحقق الهدف الأقصى للروح فتثبت، وتعيش في سعادةٍ دائمةٍ وغامرة.

ويلاحظ هنا أن الهنود يفصلون الجسد عن الروح، ويجعلون كلًّا منهما مستقلًّا عن الآخر، وفي نفس الوقت يحملون كلًّا منهما ما يرتكبه الآخر من أوزار؛ فالروح تتقمص جسدًا تشقيه إذا ارتكب إثمًا، والجسد إذا أثم يجعل الروح آثمة معه، وهم بذلك يترددون بين مذهب الجبر، ومذهب الاختيار، وفي إطار الإيمان بتناسخ الأرواح يظهر لنا إيمان الهنود بأمور ثلاثة: أ- تجوال الروح وهو يعني تنقل الروح من جسد إلى جسد. ب- وحدة الوجود وهو يعني أن الكون كله منبثق عن الله وما الكون كله إلا مظهر لله. ج-الانطلاق وهو يعني عودة الروح إلى بارئها الأعلى ولامتزاجها في حقيقتها الأصلية. ويدافع بعض فلاسفة الهنود المعاصرين عن الإيمان بهذه الجوانب المتصلة بالروح؛ حيث يرى في الوحدة الروحية دافعًا للمحبة الاجتماعية؛ فحين نفهم أننا كأغصانِ شجرةٍ واحدة توجد عواطف التضامن والتعاون والمحبة، إن من يرى جميع المخلوقات في الوجود الواحد. ويرى الموجود الواحد في جميع المخلوقات لا يكره أحدًا، ويتحرر من الوهم ومن الألم إلى الأبد والأديان السماوية ترى أن الروح من الله، وأن لها دورها الكبير مع الجسد، وأنها لا تموت مع الجسد، وهي في هذا تتفق مع العقيدة الهندوسية، لكنها تختلف عنها في أن لكل كائنٍ مخلوق روحه الخاصة به، ولا تناسخ بين الأرواح، وأن الآخرة هي دار الجزاء الحقيقي وأن النعيم والعذاب يلحق بالجسد والروح.

ثم الحديث عن الجنة والنار يؤمن أغلب الهندوسيين بالجنة، والنار كضرورة للجزاء عن الأعمال الخيرة، أو السيئة، وهما عندهم في الدنيا، والجزاء فيهما متعلق بالروح فقط، وحتى تتفق عقيدتهم في تناسخ الأرواح يقولون بمنازلهم أربعة تعيشها الروح. المنزلة الأولى: العليا وهي الجنة التي تنعم فيها الأرواح، وتنال الجزاء الحسن على ما عملت من خير حيث تمكث فيها الروح مدة محددة بمقدار العمل الذي أدته، ثم تنتقل منها بعد انتهاء المدة إلى المنزلة الثانية وتسمى الجنة عندهم. المنزلة الثانية الوسطى: وهي مجتمع الناس، حيث العمل والكسب، وفيها يكون تناسخ الأرواح وتجوالها، فإذا ما قامت الروح بدورها في هذه المنزلة، تنتقل إلى المنزلة الأولى العليا إن كانت راقية، وتذهب إلى منزلة الثالثة السفلى إن كانت على خطأ ونقص، ويسمون هذه المنزلة مارلوك. المنزلة الثالثة السفلى: وهي النار، وتأتيها الأرواح الآثمة لتأخذ عقابها فالذي تستحقه، وتمكث فيها مدة معينة تخرج منها إلى منزلة رابعة الأدنى، والمنزلة الثالثة تسمى عندهم "ناكلوك" المنزلة الرابعة الأدنى، وهي المنزلة التي تعيش فيها أرواح النبات، والحيوانات غير الناطقة، وتهبط إليها الرواح بعد انتهاء عقوباتها في النار، وليس بعد هذه المنزلة منزلة أخرى فإذا ما ترقت الروح فيها انتقلت إلى المنزلة الثانية حيث تعمل وتنشط وتنال حظها الذي يستحقه صعودا أو هبوطا وهكذا تتحرك الأرواح في منازلها المذكورة تبعًا لتصورٍ معينٍ لا يتعارض مع تناسخ الأرواح.

العبادات الهندوسية والطقوس الدينية.

ومما ذكره الهندوسيون نرى: أن المنزلة الواحدة في حركة الأرواح تتكون من مراتب عديدة تصل إلى المئات كما أنهم يحددون لكل عمل مرتبة معينة ومعنى هذا أن الروح قد تمكث في منزلةٍ واحدة آلاف السنين متنقلة بين مراتبها العديدة، ومن البرهميين من ينكر فكرة الجنة والنار ويكتفي بما في التناسخ من عقوبة وجزاء. العبادات الهندوسية والطقوس الدينية وأنتقل بك إلى الحديث عن العبادات الهندوسية والطقوس الدينية؛ حيث تحدد المصادر الهندوسية الهدف الأسمى للهندوسي، وتذكر أن غايته الوصول إلى الإله والفناء فيه، وترى أن هذا هو قمة السعادة للإنسان؛ ولذلك نجد الهندوسية توضح المنهج الأمثل لتحقيق هذا الهدف. إن المنهج الهندوسي يشمل طقوسًا، وعبادات معينة، كما يشمل نظمًا وأخلاقًا، والعبادات في الهندوسية كثيرة، وهي أساس المنهج للوصول عادة، وأهمها ما يلي: أولًا: الحج: وهو قصد أحد البلاد الطاهرة، أو أحد الأصنام المعظمة، أو أحد الأنهار المطهرة يغتسل الهندوسي بها، ويخدم الصنم، ويهدي إليه، ويكثر من التسبيح، والدعاء، ويتصدق للبراهمة، والسدنة، ويحلق رأسه، ولحيته والحج عند الهندوسيين تطوع، وفضيلة، وليس فرضًا ملزمًا. وقد حددت النصوص الهندوسية الأماكن التي يحج إليها أو التي يحج إليه الهنود كما أنها أجازت الحج إلى أيِّ مكانٍ يوصف بفضيلةٍ ما في أيِّ وقتٍ كما أنهم يفضلون بعض الأماكن على غيرها، ومن المفضلة بلدة "بارانسي" وزهادهم يقصدونها، ويلازمونها، ويحرصون على أن تأتيهم أجيالهم فيها

ويقولون: إن سافك الدم مأخوذٌ بذنبِهِ إلَّا أن يدخل بلدة "بارانسي" فينال فيها العفو الغفران، ومن هذه الأماكن "بوكر" و"كشمير" وهناك العديد من الأساطير حول السبب في تعظيم هذه الأماكن المعظمة. ثانيًا: الصوم: وهو إمساك عن الطعام مدة ما يقول البيروني، والصوم أنواع يختلف كل نوع بحسب مقدار المدة، وبحسب صورة الفعل، فأما الأمر المتوسط الذي به تحصل شريطة الصوم فهو أن يعين اليوم المصوم فيه ويضمر اسم يتقرب به إليه على أن يبدأ الصوم، من ظهر اليوم السابق إلى شروق شمس اليوم التالي، أو إلى الظهر منه على أن يعلن اسمًا يصام لأجله في يوم الصيام نفسه مع الإكثار من التسوك، والاغتسال. ومن الصوم أنواع أخرى كأن يأكل عند الظهيرة فقط ثلاثة أيام، ويعقبها بالطعام في العتمة ثلاثة أيام كذلك، وهكذا تنوع الصوم عند الهندوسي تبعًا لاختلاف مدة الانقطاع عن الصوم، وتبعًا للغرض الذي من أجله كان الصوم. ويرى الدكتور على عبد الواحد وافي: أن عبادة الصوم نوعان نوع خاص لرجال الدين البرعميين حيث يلزمهم الصيام في أوائل كل فصل من فصول السنة ووقت الكسوف، ومن غروب الشمس إلى غروب الشفق الأحمر كل يوم، وصوم الخاصة فرض لازم ونوع للعامة، ومنه الصوم الذي أوردناه أولًا وصوم العامة فضيلة، وتطوع؛ وعلى الجملة فسائر صوم الهندوسي مرتبط بمواقيت فلكية الأمر الذي جعل الهنود يتفوقون في علم الفلك، ومنازل القمر،

والصوم الهندسي من العبادات الهامة؛ لما له من أثرٍ واضحٍ في إهمال المطالب الحيوانية للجسم وإضعاف القوى الجسمية والإقلال من تحكمها في الإنسان، وهذا أساس لتحقيق الغاية المرجوة، وهي الفناء في الله، والاندماج معه. ثالثًا: الذكر: وهو عبادة تشمل قراءة الأوراد والدعوات الدينية، والتسبيح ولزوم الصدق، وملاينة الناس في الحديث، والأمر بالمعروف، والوعظ والتذكير. رابعًا: الصلاة وهي تسبيحٌ وسجودٌ، ويكون بوضع الإبهامين على الراحتين المتجهتين نحو الشمس أيًّا كانت. خامسًا: تقديم القرابين: وهي تقديم أنواع من الأطعمة، والأشربة للآلهة مع ترتيل الأناشيد، وتأدية الرقصات، وحركات أمام الآلهة التي تعددت وكثرت. سادسًا: حرق الموتى؛ حيث يقوم الهنود بحرق موتاهم في كومة من خشب السندل تحت إشراف الكهنة الذين يدهنون جسم الميت بالشحوم والدهون، ويرتلون الأناشيد أثناء الحرق وقبله، ويبقى أهل الميت بجواره أربعًا وعشرين ساعة، وذلك ليجمعوا الرماد لإلقائه بعد اثني عشر يومًا في النقطة التي يعتقدون أن نهري جمنى والجاج يلتقيان فيها بين أهل الأسطوري عند بلدة الله أباد. سابعًا: عبادة البقر؛ حيث يتجه الهنود بالعبادات السالفة الذكر في بعض الأحيان إلى البقرة وهي من المعبودات الهندية التي لم تضعف قداستها مع الأيام. يقول المهاتماهاندي: إن حماية البقرة التي فرضتها الهندوسية هي هدية الهند إلى العالم، والفكر الهندي يعتقد أن البقرة هي أم الإنسان. إن البقرة خير رفيق للمواطن الهندي، وهي خير حماية للهند، عندما أرى البقرة لا أعدني أرى حيوانًا؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عنها أمام العالم أجمع إنها تفضل أمي

الحقيقية؛ لأنها تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تطلب مقابل ذلك سوى الطعام العادي، ولا تكلفنا علاجًا إذا مرضت، وإذا ماتت تنقطع بعظمها وجلدها وقرونها، وإذا ماتت ينتفع بعظمها، وجلدها، وقرونها. إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين، ومن العجيب أن يصدر هذا التعظيم للبقرة من مفكر كبير حرر قارة بأكملها هو "المهاتماهاندي" لكنه الضلال الذي يصاحب الإنسان حين يبعد عن طريق الله، واقرأ معي قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (الكهف: 103 - 105). وتلك حالة تفسر ألوان الضلال الذي يحدث من العلماء والمفكرين، وكثير من الرجال المشهورين. هذا؛ ومن العبادات إلى الشرائع؛ حيث تتضمن كتب المقدسة عند الهنود عددا من الأسس والشرائع المنظمة لحياة الهندية في إطار الطبقات التي أشرنا إليها، ومن هذه النظم تنظيم الدولة على أساس خضوعها لملك من البراهمة يختاره الشعب لحماية حدود الدولة من أعدائها، وعلى الملك أن يقود الجيش بنفسه، وله على الرعية الطاعة، ودفع الخراج، والهدايا والأموال. وفي شرائعهم توضيح مكانة المرأة في المجتمع؛ وإذ الشريعة الهندوسية لا أهلية لها -كما أشرنا قبل- ووضع نظام للحياة الفردية، وللنشاط الواجب الإتباع حيث يقسم هذا النظام عمر الرجل إلى أربعة مراحل متساوية كل منها خمس وعشرون عامًا؛ ففي المرحلة الأولى يشهد الفرد بناء صحته وقوته وعقله وروحه، ثم الحالة الثانية يتزوج، ويرعى أسرته، ثم الحالة الثالثة يهتم بخدمة المجتمع بقدر استطاعته،

ولا يجعل نشاطه كله لأسرته، وفي المرحلة الرابعة يهتم ببقية روحه والصعود بها إلى عالمها الأسمى ليتحقق له الانطلاق. وفي التشريع الهندوسي وضع نظام للزواج الذي يتم عن طريق الاستيلاء على المرأة بالقوة وبخاصة في طبقة القشتريا، وتبيح الهندوسية نكاح الاستضلاع الذي حرمه الإسلام، كما تبيح أن يشترك في المرأة الواحدة عدد من الأزواج إذا كانوا إخوة، كما تبيح تعدد الزوجات للزوج الواحد، والهندوسية تحرم الزواج على القديسين من رجال الدين. وتضع الهندوسية نظامًا للميراث حيث يرث الابن أباه، ولا ترث البنت ويحددون حق الملكية الفردية في العقار والمنقول، وتضع الشريعة الهندوسية نظامًا للمسئولية يأخذ بفكرة المسئولية الجماعية في القتل والسرقة والنكاح، وغير ذلك وتحدد مسئولية الملك والحاكم، ومن الشرائع إلى الأخلاق حيث تدعو الهندوسية إلى العديد من الفضائل الأخلاقية الراقية تعتمد وصايا عشرة كأساس للأخلاق عندها وهي: 1 - مراعاة الكائن الإلهي. 2 - مقابلة الإساءة بالإحسان. 3 - القناعة واحترام ملك الآخرين. 4 - الاستقامة.

5 - الطهارة الشاملة. 6 - كبح جماح النفس والحواس. 7 - دراسة الفيدا والتعقل. 8 - الصبر والمثابرة. 9 - الصدق وحب الحقيقة. 10 - اجتناب الغضب. كما يحددون الرذائل التي يجب أن يبتعد عنها الهندوسي بشكل مفصل وربطت الهندوسية الأخلاق بالجزاء حيث يلقى صاحب الفضائل ثوابًا روحيًّا ويلقى صانع الرذائل عقابًا أليمًا، والهنود يأخذون من أخلاقهم قاعدة ذهبية تقول لا تصنع بغيرك مالا تحب أن يصنعه غيرك بك، وأحب لغيرك ما تحبه لنفسك أشد الحب، وهم يرون في هذا القاعدة مبدأ سلام، وأمان للجميع. وأختم بالكلام عن المذاهب في تفسير نشأة تطور أديان الهند حيث ذهب العلماء في تفسير نشأة أديان الهند وتطورها مذاهب متعددة نشملها في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الأول: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن أديان الهند جميعا نشأة بطريق التطور الطبيعي ويرونها في بدايتها مجموعة من العادات والتقاليد القديمة التي حولها الهنود خلال القرن الثامن قبل الميلاد إلى دين منظم شامل لألوان من

العبادة، والطقوس المختلفة، ويذهب هؤلاء إلى أن البداية قامت على تعدد الآلهة في صورة بدائية حيث كانوا يقولون: إن الليل إله، والصبح إله. وكانوا يتقربون إليهما بشرب الخمر، وكانوا يألهون الشمس ويسمونها بأسماء متعدد، ويؤلهون العواصف، ويرمزون لها بالعجل، وهكذا كثرة الآلهة في الهند بصورة واضحة تترقى من صور آلهة صغيرة ضعيفة إلى آلهة قوية كبيرة، ثم حدث رقي أكثر فظهر ثالوث الآلهة العظيم قائم على برهمة وشيفني، وسيفًا حيث تدور حولهم الأساطير العديدة. وأخيرًا كان التطور إلى الإيمان بغله خالق متصف بصفات راقية، كما جاء في أنشودة الخلق التي تضمنها الكتاب العاشر من "الرشفيدا"، وعلى هذا تعتبر الديانة الهندوسية من صناعة الإنسان؛ حيث سارت على سنة التطور والترقي كما تعتبر البوذية والجينية صورًا لهذا التطور، وإن اتخذت اتجاهات مضادة في بعض التعاليم، وأصحاب هذا الاتجاه يرجعون جميع مصادر الأديان الهندية إلى تأليف الإنسان ووضعه، وما قداستها إلا بسبب إحاطتها بآلة من التعظيم والاحترام. وللكهنة دور رئيس في إبراز هذا التقديس بواسطة الأساطير والمتخيلات التي يرمونها عن الآلهة وآثارها وبواسطة هذا الاتجاه يتضح السبب في تناقض العقيدة عند الهندوس من أمثال الإيمان بالله، وإنكار النبوة، والقول بالإلهام المستمر للبراهمة الطبقة المقربة للإله برهمه، ومن أمثال الإيمان بالحساب على الأعمال بواسطة التناسق، حيث يحمل الوزر ما لم يرتكبه وأصحاب هذا الرأي عديدون، وهم لا يهتمون بتحليل الأديان

الهندية، أو مصادرها حيث لا فائدة من ذا التحليل؛ لأن أي تعارض من تضاد مسلم عندهم حيث يقتضي ذلك. أما الاتجاه الثاني: فيذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى إن وجود التوحيد التام المنزه من كل ريب ونقص في الهندوسية دليل على أن الدعوة الإلهية قد جاءت مباشرة، أو وصلت إليهم بطريقةٍ ما، ويستدلون على ذلك بعجز العقل عن الوصول وحده إلى التوحيد المطلق، بكل تفصيلاته وكمالاته، كما يستدلون بأن القوة بالتطور، والترقي يقضي بظهور التوحيد بالمرحلة الأخيرة من التطور بينما التوحيد وجد في الهند منذ البداية، كما يقول "ماكسميلر": أيًّا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المذكورة في "الريجفلدا" فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الواحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى، ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية. وقد ارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلى أوجه سام في إدراكهم الحقيقة الربوبية إنها إدراك أرفع وأعلى مما يطيف بأذهان قول يخدعون أنفسهم بأنهم من أهل الكتاب بل إن البوذية والجينية وهما الإله، ولا يعترفان بالعديد من التعاليم الهندوسية جاءت متأخرة، مما يؤكد أن الدين في الهند كان يتردى في كثير من الحالات. يقول أصحاب هذا الاتجاه: إن عقيدة التوحيد عند الهنود دخلها تحريف البشر؛ ولهذا نرى الكتب الهندوسية تتضمن التوحيد مع التعدد وتنكر النبوة وتحيط الآلهة بالأساطير وتقدس نظام الطبقات، وكل ذلك ألوان من التحريف، كما أن البوذية والجينية لا تزيد عن هذه الاتجاهات المحرفة.

ومن الممكن تفسير التناقضات الموجودة في أديان الهند على هذا بأن البعض يرجع إلى الدين الحقيقي كالإيمان بالجنة والنار والإيمان بقوة الروح، ويرجو البعض الآخر إلى التحريف، والتأليف البشري من الرسالات السماوية رغم كتبها المقدسة، وتعاليمها الرشيدة تظهر معها الأفكار المحرفة، والاتجاهات الضالة؛ ولذلك هي تلبس الفرق العديدة إلا وتظهر مدعية تبعيتها للرسالة الإلهية، بل وتزعم أنها الوحيدة المتمسكة بالحق. إن هذا يؤكد الاتجاه الثاني، ويشير إلى أن دخول التحريف في أيِّ دين منكر. هذا وقد أشار بعض علماء مقارنة الأديان إلى وجود تشابه يكاد أن يتطابق بين نصوص دينية هندية، وبين نصوص نصرانية، موجودة في الأناجيل الأمر الذي يضع الباحث أمام ضرورة أن أحدهما تأثر بالآخر، ونقل عنهم في إطار عدد من الاحتمالات العقلية، والوقائع العلمية الثابتة، ولا شك أن اللاحق قد نقل عن السابق. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 الديانة البوذية (1).

الدرس: 7 الديانة البوذية (1).

الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الديانة البوذية (1)) الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: ففي حديثنا عن أديان الهند الكبرى بعد الديانة الهندوسية أو البرهمية يأتي الكلام عن الديانة البوذية والجينية، وقد ذكرت لك من قبل أن البوذية كانت أحد الاتجاهات الفكرية التي نبعت في القرن السادس، وذكرنا كذلك أنها كالجينية سارت في إطار الفكر الهندي في أكثر مبادئه، وذكرنا أيضًا أنها كالجينية كانت رد فعل لعسف البراهمة واستبدادهم مما أثار عليهم الطبقات الأخرى وبخاصة طبقة الكشتيريا حيث الأمراء والمحاربون، فالديانة البوذية والجينية هما حركتان فكريتان متعاصرتان مع الديانة الهندوسية أو البرهمية، وحديثنا الآن عن البوذية من حيث بوذا وحياته ومبادئه وتأسيسه للديانة البوذية. ويبقى الكلام بعد - إن شاء الله - عن عقيدة البوذية في الإنسان، وحقيقة النفس ما بين الخير والشر ونشأة الرهبنة في البوذية وأصولها وانتقالها إلى المسيحية، إلى غير ذلك مما هو يرتبط بهذه الديانة البوذية لنقف عليها ولنتعرف على ملامحها -بإذن الله تبارك وتعالى- فنقول: البوذية منسوبة إلى بوذا. من بوذا؟ تعالى بنا نتعرف على مولده ونشأته من حيث المولد والنشأة في الناحية الشرقية من الهند، وبجانب مملكة "كوسالا" بين مدينة "بنارس" وجبال "الهيمالايا" شمال نهر "الكنج" المقدس حيث تقع الآن آجام كثيفة على حدود نيبال، كانت تمتد أرض خصبة مخضرة يانعة، فارعة الأشجار طيبة الخمائل، وكانت هذه الأرض موطن قبيلة "ساكيا" من الطبقة "الكشتيريا". وكان أمراء القبيلة هم أصحاب السيادة على هذه البقعة، وسلاطينها المسموعي الكلمة النافذي الرأي، وكان "سدودانا" أحد نبلاء هذه القبيلة يقطن قرية تُدعى "كبيلا وافو"، له فيها ضياع فسيحة، وزروع نضرة، وقصور شاهقة، وجاهٌ عريض، وكان متزوجًا من نبيلة اسمها "مايا" يعيش معها في هذا النعيم المقيم، والمجد العظيم.

وفي سنة 563 قبل الميلاد أنجب هذان الأبوان طفلًا أطلقا عليه ""سذهاتا"" وماتت أمه في الأسبوع الأول من ولادته، فحضنته خالته "مهاياباتي" وشب الطفل في هذا النعيم العظيم، كما يشب أترابه من أبناء السادة والملوك، ووجد الدنيا كلها تحت أمره، والنعيم رهن إرادته وتهيأت له مفاتن الحياة، وانبسط الأمل أمام عينيه وتدفقت المسرات تحفه من كل جانب وبلغ مطلع الشباب، وهو يرفل في هذه النعمة كلمته مسموعة، ورأيه مطاع وسارع أبوه فزوجه من ابنة أحد الأمراء واسمها "ياسودهارا" ولم يطل الوقت حتى وُلد له ابن سموه "راهولا". كان من الممكن أن يعبر "سذهاتا" الحياة، كما عبرها، ويعبرها آلاف مثله من الأمراء والملوك وكان من الممكن أن تنسيه مفاتن الحياة التي نعم بها تلك الآلام التي يعانيها البؤساء والأشقياء، وكان من الممكن أن يلهيه شبابه عن هرم الشيوخ، وصحته عن آلام المرضى، وحياته المرحة عن صور الموت والفناء، كما كان عند سواه، أو شغف بالحياة، كأن الشباب لا يهرم والصحة لا تنحل، والحياة لا تزول. كان من الممكن أن يحصل هذا، ولكن ""سذهاتا"" لم يستسلم للملاذ والشهوات، ولم يفرغ لنفسه، ويستغرق في شهواته، وإنما عاش فردًا في مجموعة يفكر فيها، ويحس بإحساسها، لا بل الحق أن نقول: إن "سذهاتا" جذبه جانب الشر والألم في الحياة أكثر مما جذبه جانب النعيم والسرور، فلم يرضخ للحياة التي رُسمت له، وإنما رسم هو لنفسه حياة من طراز آخر على ما سيأتي تفصيله فيما بعد -إن شاء الله. أفكار "سذهاتا" وفلسفته: تروي الأقاصيص أن "سذهاتا" التقى مرة بشيخ عجوز واهن يتوكأ على عصاه ويوشك أن ينكفئ على صدره وقد احدودب

ظهره وتقوس وثقل عليه رأسه فلا يطيق حمله، فاضطرب له "سذهاتا" وتألم له، فقال له رفيقه شانا هكذا نهج الحياة، فلا مفر لنا من هذا المصير، وتروي قصة أخرى أن "سذهاتا" رأى مريضًا يتلوى من المرض ويئن من الألم، ويشكو من العناء، وأهله حوله لا يستطيعون إيقاف الألم، بل لا يرون الداء، ولا يحسون بالعناء، فقال له شانا هكذا نهج الحياة. وتروي قصة ثالثة: أن "سذهاتا" شاهد جثة أمعن فيها البلا، وبُعثت منها رائحة مؤذية ونتن كريه، فاستغرق في التفكير فقال له شانا هكذا نهج الحياة. وفكر "سذهاتا" في هذا العناء، وهذا الشقاء ما مصدره، وكيف يمكن التخلص منه، وبخاصة أن كل إنسان لا بد أن يعاني المرض يومًا، ولا بد أن يعاني سكرات الموت، وكثير من الناس يمتد بهم العمر؛ فيعانون الهرم والشيخوخة، وأحس والده باتجاهه، فحاول مقاومة هذا الاتجاه، بأن يبعد مناظر الألم عن ابنه، وأن يسبغ عليه مزيدًا من اللذات، والمسرات لتجذبه عن التفكير في الآلام، والشجون، ولكن هذه الأحاسيس كانت قد تمكنت من فكر "شذهاتا". فلم يكن من السهل أن يثني عنها، ثم إن "سذهاتا" عمق فيه هذا الطابع وكانت اتجاهه صدًّا لأحاسيس نفسية قوية؛ ولهذا فإن إبعاده عن هذه المناظر لم يأتِ بأية ثمر، واستقر رأي "سذهاتا" على أن يدع صخب الحياة، وأن يبدأ حياة الزهد، والفكر لعله يصل إلى معرفة سر الكون. وفي إحدى الليالي حيث كان القصر يموج بالبشر والمسرات بسبب ولادة ابنه قال "سذهاتا" وهذه رابطة أخرى علينا أن نرسمها، وحسم "سذهاتا" أمره على أن يفارق هذه الملاذ، وأن يبدأ تأملاته، وفي هجمة القصر بعدما شاهده من مرحٍ

وغناءٍ ألقى "سذهاتا" نظرتهم نظرة أخيرة على زوجته وطفله، وتسلل من القصر، وامتطى جواده، وانطلق إلى مرحلة جديدة، وكان سنه آنذاك تسعة وعشرين سنة، سار "سذهاتا" في تلك الليلة شقة بعيدة، حتى إذا أسفر الصبح توقف خارج أراضي عشيرته على ضفة نهر رملية، وهناك ترجل، وقطع بسيفه ذوائبه المتهدلة، وأماط عنه كل حلية، وأرسلها مع حصانه وسيفه إلى منزله، ثم واصل سيره حتى التقى براهبين من البراهمة فبقي معهما، وتتلمذ عليهما، وأراد عن طريقهما أن يصل إلى غايته. ولكن بعد فترة تأكد له أن ما يعيشان فيه من زهادة، وتقشف شيء مقصود لذاته، كأنها الغاية التي يتطلعان إليها، وكان "سذهاتا" يريد الزهادة وسيلة لمعرفة أسرار الكون، ولذلك هجرهما "سذهاتا" وقرر أن يسعى بنفسه إلى نيل المعرفة، وكشف أسرار الكون، وقد سلك من أجل هذا وسائل متعددة كالتصوف، والفلسفة، ثم انجذب نحو دنيا الرهبنة فبدأ حياة الترهب؛ لذلك يحسن بنا في هذه المرحلة من حياته أن نسميه "غوتاما" أي: الراهب، أو "غوتاما" أسير الفلسفة الهندية. وقبل أن نسترسل في هذه المرحلة من حياة "سذهاتا" يحسن بنا أن نتساءل لماذا اتجهت فلسفة "غوتاما" إلى الآلام والأشجان، حتى أصبحت الحياة كلها في نظره جحيمًا لا يُطاق ونسي ما في الحياة من معروف وخير وتخفيف ضر وتحقيق أمل، ثم لماذا اتخذ التقشف والانقطاع، والتبتل سبيلًا للوصول إلى كشف الحجاب عنه؟ كل هذه الأسئلة تدفع الباحث إلى الاعتقاد أن "غوتاما" كان على الأقل في هذه الفترة أسير الفلسفة الهندوسية، قرأها، وعرف اتجاهاتها، وتأثر بميولها إلى العزلة، والزهد والانقطاع عن الناس بتفكير، أو بدون تفكير، فلما رأى "غوتاما" منظر المرض، والشيخوخة، وجثة الميت ضعف دافع المقاومة في نفسه، ورجح عنده الميل إلى سلوك نفس الطريق الذي سلكه الهندوس من قبل.

"غوتاما" في تقشفه: لجأ "غوتاما" إلى العزلة والتقشف، وخلع ثيابه واكتفى برقاع وأوراق شجر يستر بها عورته، وألقى بجسمه بين الأشواك والحصى وأهمل الطعام والشراب والملاذ، ويُقال: إنه كان يتبلغ بمقدار ضئيل جدًّا من الطعام بلغ أحيانًا حبة من الأرز في اليوم، واتخذ ذلك طريقًا رجاءَ أن تُكشف له أسرار الحياة، ويعرف السبيل للنجاة من عنائها، وقام بألوان من الرياضات النفسية رغبة في أن يطهر نفسه حتى تصل إلى سر الكون. وقد كلفته هذه الأعمال اضمحلال في جسمه وانحلالًا في قواه، وزامله في هذه الفترة القاسية خمسة من النساك، وكانوا يرونه أكثرهم قسوة على نفسه وأصبرهم على الآلام، ولذلك وضعوه في موضع الزعامة بينهم، إذ كانت الزعامة في ذلك الحين لمن يستطيع أن يكون أشد صلابة وقسوة على جسمه، وأمضى "غوتاما" سبع سنين في هذا الصراع العنيف لم يحس في أثنائها ولا في نهايتها بأيِّ أثرٍ يسير به إلى غايته، وأدرك أن ما يفعله ما هو إلا إجهاد لجسمه، لا يغني فتيلًا، وهنا أقدم "غوتاما" بشجاعة على ما لم يكن معهودًا في نساك عصره. هؤلاء النساك الذين يرون محاربة الجسم كأنها غاية وليست وسيلة، ويستمرون في هذه الحرب حتى الفناء، وربما عدوا قديسين بسبب ذلك الموقف، أما "غوتاما" فكان كما قلنا قد اتخذ الزهد وسيلة، ثم رأى أنها وسيلة غير مجدية، فأعلن تمرده على هذه الطريقة، وعاد إلى طعامه وشرابه وكسائه، وقرر أن يتوقَّفَ عن قتل شهوات نفسه بالجوع، وأعلن أن خير ما يوصله إلى غايته عقل يتغذى في جسم سليم، وقد خيب فعله هذا أملة أتباعه فيه، ففارقوه آسفين على ما آل إليه أمره.

الإشراقة والكشف عن الأسرار: على أن "غوتاما" وإن كان قد عدل عن إماتة نفسه وتعذيبها؛ فإنه لم يعدل عن تفكيره، ومن الواضح: أن الإنسان قد يستطيع فجأة أن يغير أحواله المادية من صوم إلى طعام، ومن تقشف إلى بذخٍ، ولكنه لا يستطيع بسهولة أن يتخلى عن تفكيره وفلسفته، وبينما كان يمشي وحيدًا موحشًا، مال إلى شجرة في غابة "جوريلا" ليتفيأ ظلالها، ريثما يتناول طعامه، ولكن المقام طاب له في ظل هذه الشجرة، ويُقال: إنه أحس برغبة في البقاء تحتها بعض الوقت، فاستجاب لهذه الرغبة، وبقي تحت الشجرة، وفي هذا المكان حدث ما كان يتمناه "غوتاما". ويقول "غوتاما" واصفًا هذه المرحلة: سمعت صوتًا من داخلي قول بكل جلاء وقوة، نعم في الكون حق أيها الناسك، هنالك حق لا ريب فيه، جاهد نفسك اليوم حتى تناله، فجلست تحت تلك الشجرة في تلك الليلة من شهره الأزهار، وقلت لعقلي وجسدي: اسمعا لا تبرحا هذا المكان حتى أجد ذلك الحق، لينشف الجلد، ولتتقطع العروق، ولتنفصل العظام، وليقف الدم عن الجريان، لن أقوم من مكاني حتى أعرف الحق الذي أنشده فينجيني، وتم له في هذه الجلسة الإشراقة التي كان يترقبها، ويراها بعض الباحثين الغربيين وحيًا، ويصورها بوذا بأنها صوتٌ حادثه وسنروي هذا الحديث عند الكلام عن "النيرفانا". وهنا ننقل عبارة مولانا محمد عبد السلام الرانبوري، وهي "وكان مستغرقًا تأمله، خائضًا في تفكره إذ أخذه نزعة سماوية فغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، وطفق يطرأ عليه حال بعد حال، ويلحقه طور وراء طور، ثم عاد شعوره يتجلى رويدًا رويدًا، فأشرقَ الكون لديه، وأصبح العقل يتجرد عن شوائب المادية فانشرح صدره، ورأى العالم في تكوناته، وتقلباته، ومباديه ومناحيه.

وقد غلب اللاهوت فتنور اللاهوت، فذاق سرورًا ما خطر بباله من قبل، ووجد قوة ما استشعر بها قط، فأبصر ينابيع الحياة، فأحاط بمنابع الآلام واستوعب منابت البؤس، واكتشف مقاليد السرور، ورأى سبيلًا يهدي إلى تلاشي الأحزان وزهوق الآلام، فأدرك متمناه، ونال مبتغاه، وتخلص من تقلبات الحياة، ونجا من حزازات الآلام، تيقظ شعوره وتنورت بصيرته واستوى على عرش البوذية وسار بوذا، أي: العارف المستيقظ والعالم المتنوع. ومن الآن سنطلق على بطل هذه الديانة بوذا، وهو الاسم، أو اللقف الذي حصل عليه عندما انكشف عنه الغطاء، ويحسن بنا هنا أن ننقل العبارة التي سجل بها بوذا هذه اللحظة التي يعتبرها هو ويعتبرها أتباعه لحظة إشراق وفوز. يقول بوذا: "لما أدركت هذا تحررت من الهوى تحررت من شرور الكون الأرضي، تحررت من شرور الخطأ، تحررت من شرور الجهل، وتيقظ في المتحرر شعور التحرر، وشعور عدم تكرر المولد، قد انتهى الصراط المقدس، قد تمت الفريضة فلن أرجع إلى هذه الدنيا رجعة أخرى قد أبصرت هذا". ترى ما هذه الإشراقة التي حصل عليها بوذا، وما هذا السر الذي كُشف له، وما هذه الأنوار التي أحاطت بنفسه، وما تلك الوسائل التي استطاع بها أن يحل مشكلات الحياة، ويوقف المرض والشيخوخة والموت؟ على كل حال لنسري الآن شوطًا آخر قبل أن نتحدث عن الإشراقة أو ما يسميه البوذيون "النيرفانا"، وهي السر، أو الحل لكل هذه الآلام، نحب هنا أن نوضح بعض الأسماء، والمظاهر الجديدة التي حدثت مع حدوث البوذية ومن أهمها إطلاق لقب بوذا، أي: العارف المستنير على "غوتاما" كما ذكرنا آنفًا. واللفظ في الأصل وصف، ولكن غلب إطلاقه على "غوتاما" فأصبح علمًا عليه، وجاز بذلك استخدامه من غير "ال" التعريفية، وبوذا هو الاسم الذي سنستعمله منذ الآن في الحديث عن "سيذهاتا" الأمير أو "غوتاما" الراهب. أما الشجرة التي كان بوذا يجلس تحتها لما تم له الكشف فقد سُميت شجرة العلم، أو الشجرة المقدسة، وقد احتلت عند البوذيين مكانة سامية، مثل مكانة الصليب عند المسيحيين، وإذا كان المسيحيون قد نشروا الصليب في حياتهم، ورسموه على حليهم وأجسامه، فإن البوذيين يرون في الشجرة المقدسة شيئًا يجب أن يسعى له الناس، لا أن يسعى هو للناس، ولهذا زرعوا في كل قطر شجرة واحدة من نوع الشجرة المقدسة يحج الناس إليها في المناسبات المختلفة.

وفي معبد "بروبودور" بالقرب من "جوكاجاكرتا" بأندونيسيا توجد الشجرة الوحيدة في "جاوا" من هذا النوع، والبوذيون يسعون إليها للتبرك والزيارة، وتحميها إدارة المعبد بسور حولها خوف أن يلتقط البوذيون أوراقها أو أغصانها للتبرك، أو يعبثوا بجذعها في تقربهم لها، واحتكاكهم بها. ويعلق ويلز على عناية البوذيين بهذه الشجرة بقوله: "ومن سوء الحظ أن تلاميذ "غوتاما" عنوا بحفظ شجرته أكثر من عنايتهم بالحفاظ على أفكاره التي أساءوا منذ البداية فهمها وشوهوها ومسخوها، أما غابة "أوريلا" فقد فقدت منذ ذلك التاريخ هذا الاسم، واتخذت اسمًا جديدًا يتناسب مع هذا الحدث الجلل الذي حدث بها، وهذا الاسم هو "بوذاكيا". الدعوة للبوذية وإعداد دعاتها: وبعد أن كُشف عن بوذا الحجاب، وأدرك منيته وقف مترددًا بعض الوقت وسأل نفسه أيقنع وحده بهذا النعيم الذي انغمس فيه، ويستمتع وحده بهذا السر الذي انكشف له؟ أم يبشر به، ويذيع أمره بين الناس حتى ينعموا معه بتلك السعادة، وذلك السرور؟ وفكر بوذا في قصور البشر عن إدراك هذه الحقائق السامية؛ خشية أن يكذبه الناس، ويرموه بالافتراء، أو الجنون، فأوشك أن يكفي بهذا السر لنفسه غير أن جانب الخير، كما يقول غلب عليه، والميل إلى الإيثار رجح في نفسه، ورأى أن عليه أن يدعو الناس، وليس عليه أن يفكر في النتيجة؛ إنه يريد الخير لهم والهداية، وإن لم يستجيبوا فقد أدى واجبه وأرضى ضميره.

ويعد البوذيون هذا الاتجاه من بوذا مطلع خير لهم وللبشرية جمعاء، ثم يصلون ويكبرون ويعلنون سرورهم واغتباطهم، كلما وصلوا في قصة بوذا إلى هذه النقطة، وعندما استقر رأي بوذا على أن ينشر دعوته ترك غابة "بوذاكايا" إلى مدينة "بنارس" حيث كان يعيش رفاقه الخمسة الذين زاملوه في فترة جهاده وتقشفه، ولما دعاهم لمذهبه لم يبدوا أية مقاومة، فقد كان ماضيهم معه يدعوهم لقبول دعوته، ثم خطى بوذا خطوةً أخرى، وجمع حوله مجموعة من الشبان بلغ تعدادهم مائتين، وعلمهم مبادئه ولقنهم دعوته، ووكل إليهم القيام بنشرها ريثما يكمل رحلته ليرى أسرته، وقد حاولت أسرته أن تكفه عن هذه الدعوى التي صورها خيالات تبدت إليه ولكنه لم يكف ولم يغيره بريق المال، وضروب الرخاء والسعادة، وعاد إلى أتباعه حيث بدأت مظاهر النجاح تبدو له، فالتف حوله عدد كبير من الرجال والنساء، والشيب، والشبان كانوا جميعًا يتخذون من بوذا مثالًا لهم، وكان هو يحيطهم بعنايته، ويشملهم جميعًا بحدبِهِ ورعايَتِهِ. واشتهرت دعوته بتسميتها النظام، أو عجلة الشريعة، فقد ظل بوذا يدفع عجلة الشريعة إلى الأمام أكثر من أربعين عامًا، حتى وصلت سنه الثمانين، واختار حياة المبشر المتسول مع كل ما تشتمل عليه من صعوبات وحرمان وسخرية ومقاومة، ولم يكن بوذا وحده هو الذي يدعو للنظام، وإنما اختار -كما سبق- القول نخبة من أتباعه؛ ليقوموا بالدعوةِ لها في مختلف النواحي، وتدلنا المراجع الرئيسة على أن بوذا كان يختبر الذين يقومون بالدعوة اختبارًا دقيقًا قبل أن يرسلهم لهذا الغرض. ونسوق هنا مثالًا لهذا الاختبار، كان أحد المريدين واسمه "بورنا" يريد أن يذهب إلى قبيلة "سورنا بارانتا" لدعوتهم، وكان بوذا يعلم أن هذه القبيلة معروفة بالشراسة والخشونة، ولا

ينجح معها إلا الثابت الضليع، فأراد أن يعرف متى استعداد مريده لتحمل ما قد يلم به من عناء، فقال له: إن رجال هذه القبيلة قساة سريعو الغضب، فإذا وجهوا إليك ألفاظ بذيئة خشنة، ثم غضبوا عليك، وسبوك فماذا كنت فاعلًا؟ فأجاب "بورنا" أقول: لا شك أن هؤلاء قوم طيبون لينوا العريكة؛ لأنهم لم يضربوني بأيديهم، ولم يرجموني بالحجارة، فإن ضربوك بأيديهم، ورجموك بالحجارة، فماذا كنت قائلًا؟ أقول: إنهم طيبون لينون؛ إذ لم يضربونِ بالعصي، ولا بالسيوف، فإن ضربوك بالعصي والسيوف؟ أقول: إنهم طيبون لينون؛ إذ لم يحرمونِ الحياة نهائيًّا، فإن حرموك الحياة؟ أقول: إنهم طيبون لينون إذ خلصوا روحي من سجن هذا الجسد السيئ بلا كبير آلام، فقال له بوذا: أحسنت يا "بورنا" إنك تستطيع بما أوتيته من الصبر والثبات أن تسكن في بلاد قبيلة "سورنا بارانتا" فاذهب إليهم، وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك، وكما تعزيت فعزهم، وكما وصلت إلى مقام "النيرفانا" الكاملة، فأوصلهم إليها مثلك. فهب "بورنا" إليهم، وكانت النتيجة أن آمنوا كلهم بالبوذية واتبعوها، ومثل هذا ما ترويه الأساطير، والقصص عن دعوة قطاع الطريق لدخول النظام؛ فهؤلاء الذين فروا من الحكومات والسلاطين، ولجئوا إلى الغابات قد وصلتهم الدعوة، وأنذرتهم بأنهم إن فروا من جنود الحكومة؛ فلن يستطيعوا الفرار من الهرم، والموت، والذنوب، وطالما استجاب هؤلاء للدعوة، وسجدوا لها واتبعوها، ليتحرروا من قيد الخوف، وليعيشوا في صفاء، ولم تصل لهم هذه الدعوة إلا بعد إعداد المريدين إعدادًا عجيبًا جعلهم يسخرون من كل المتاعب، ويقدمون على نشر الدعوة ببطولة نادرة وشجاعة عديمة المثال.

كان بوذا يودع مريديه الذين يتخذون طريقهم إلى الدعاية والإرشاد بقوله: "اذهبوا وانشروا النظام في البلاد رحمة بسائر الخلق، وإيثارًا لمصلحة الكثيرين على راحتكم، ولا يذهبن اثنان منكم في طريق واحد، بل يسلك كل واحد سبيلًا غير سبيل أخيه، بشروا بهذه الدعوة النبيلة في مبدئها النبيلة في وسطها النبيلة في غايتها، وبهذا الإصرار من بوذا ومريديه استطاعت الدعوة أن تنجح وتنتشر. نجاح بوذا وانتشار البوذية: شهد القرن الخامس قبل الميلاد نهاية اثنين من عظماء القادة والمفكرين كان بوذا أولهما، وكان سقراط ثانيهما، وكل منهما هاجم المعتقدات والطقوس، وسخر من الأفكار التي كان الناس يتبعونها في عهده، ولم يكن بوذا بأقل من سقراط معارضة وسخرية، فقد قال بإلغاء الطبقات، ولم يعترف بالآلهة الويدية، ولكن مع هذا نجد أن سقراط يصادف كثيرًا من العناء والتعذيب، بل الحكم بالإعدام، وتنفيذ هذا الحكم، ولكن بوذا عاش هادئًا ومات هادئًا، ورأى بنفسه نجاحه، وذيوع دعوته، فما السر في هذا النجاح الذي صادفه بوذا دون كبير عناء؟ الإجابة عن هذا السؤال سهلة يسيرة سبقت الإشارة إليها عند مطلع الكلام عن البوذية، وهي أن اضطراب الناس وحيرتهم في الهند كان داعيين لقبول أيِّ مذهبٍ يرد، أو فكرة تخطر بالبال، ثم إن الغريزة الهندية أكثر احتمالًا للأفكار الدينية من الغريزة اليونانية، على أن نجاح بوذا اشتركت فيه، بالإضافة إلى الطبيعة الهندية عوامل أخرى من أهمها قوله بإلغاء الطبقات، فقد كان ذلك داعيًا إلى أن يتبعه كثيرون ممن حطت طبقاتهم، أو ممن كانوا يحسون بثورةٍ ضد هذه الطبقات المتعددة المتفاوتة السيادة في الهند، وسنتحدث فيما بعد عن موقف بوذا من الطبقات، ونتائج هذا الموقف.

ثم كان لصفات بوذا الشخصية أثر كبير فيما صادفه من نجاح، ومن أبرز صفاته عدائه للتعصب الديني، واعتبار التعصب أعدى أعداء الدين، وقد رأى مرة أحد تلاميذه غرق في نقاشٍ حادٍّ مع برهمي كان يرمي بوذا بالإلحاد وقلة الورع، وكان يطعن في نظام التسول الذي أسسه بوذا، ولما رأى بوذا حماسة تلميذه وحدته أنكر عليه ذلك. وقال: أيها الإخوان إن كان هناك من يقذع في ذاتي، أو في ديني، أو في النظام، فليس لكم أن تغضبوا، أو تحزنوا، أو تحقدوا؛ لأنكم بهذا تعرضون أنفسكم لخطر الخسارة الروحية أولًا ثم لا تتمكنون في ثورة الغضب من تمحيص أقوال القادح ثانية، وكما كان عدوًا للتعصب الديني كان عدوًا للغضب والطيش، فلم يُعرف عنه أنه سبَّ، أو سخط، أو نطق لسانه بكلمة جارحة أو قاسية، وكان يرى الدنيا جاهلةً غافلةً لا شريرة خبيثة، كل هذا جمع الأصدقاء حول بوذا، وسببت لدعوته النجاح الذي حظيت به دون كثير من العناء والجهل. وفاة بوذا: بلغت عناية الأدب الهندي الحديث ببوذا، والبوذية درجة كبيرة، وبين يدي مقال رائع أشبه بقصيدة رقيقة يصور نهاية بوذا، ومن هذا المقال نقتطف بعض فقرات: عاشت "ياسود هارا" زوجة "غوتاما" منذ خرج زوجها في كوخ مثل كوخه على مدخل مدينة "راج راها"، ولما احتشدت الجمعية في ظل التلة الصغيرة هناك قبيل انهيار الأمطار، وكان السيد يحرك عجلة الإرشاد أمام الجميع جلست "ياسود هارا" وحدها مختفية بين ذلك الحشد العظيم تسمع كلام المبارك، وكان "راهولا" ابنها الوحيد يكلمها مرة واحدة كل سنة. أما السيد فكانت لا تراه، وعندما توجه السيد إلى التل وليس معه إلا "أنندا" ابن عمه، ومريده الأول أسر إليه السيد قائلًا: يا "أنندا" لقد حانت الساعة التي تجتاز

فيها "ياسود هَارَا" العين، أي: أنك على وشك أن تُنقل لعالم الروح حيث تصبح غير مرئية بالعين وذاك كناية عن الموت، فانتهز "أنندا" هذه الفرصة، وأجابه، وهو يرتعد ألا يرى السيد أن يتكلم معها، فأبدى السيد موافقته دون أن يفوه بكلمة. وفي الكوخ وجدا عجوزًا شمطاء حليقة الرأس ذابلة، عينها كالسراج الذي نضب زيته، خائرة القوى ترتعد، وهتفت لزوجها قائلة قد أطاعت الآمة سيدها، ودخلت النظام منذ أذن لها، والحمل الثقيل الذي حملته أضعه الآن على الأرض، إنه لم يبقَ في نفسي بذر للحياة، وسقطت فاقدة الحياة، قال "أنندا": إنها وصفت حملها إنه ثقيل، هل كان لها أن تتكلم مثل هذا إن كانت قد نالت النجاة؟ وأجابه كانا أحد المريدين إنها ماتت حيث تولد من جديد، وأستأنف بوذا سيره ومعه تلاميذه ومريدوه. وظهر التعب الإعياء على السيد فخاطب تلاميذه قائلًا: "كل شيء يؤول إلى انحلال، وأنا كذلك أيها التلاميذ قد شِخْتُ، وأوشكت أن أموت جدوا لتحرير أرواحكم بكل ما أوتيتم من الحول، وفي خلال الشهور القادمة سأموت إن أجلي قد حان، وإن حياتي يجب أن تنتهي، وآن لروحي أن تلقي حملها، أيها الرهبان عليكم بالتيقظ والتبصر، لتكن أفكاركم سليمة، راقبوا قلوبكم وصونوا نفوسكم، ولا تغفلوا، لتكن إرادتكم طاهرة قوية، واجتازوا بحر الحياة غير آسفين، ولا متحسرين. وواصل السيد سيره بين القرى والآجام، وكان "أنندا" قلقًا فقال له السيد: قل ما الذي يختلط في صدرك؟ فأجاب "أنندا" إن السيد يمشي في بلاد غير عامرة ليس بها إلا الأكواخ وأرى ألا يستحسن أن يموت السيد في مكان كهذا، ليكن

ذلك في مدينة عظيمة حيث يراه الكثيرون، ويؤمنون ويهتدون، فأجاب السيد في مثل هذا المكان يا حبيبي "أنندا" شعرت بأعمق السكينة في نفسي، هذه الشجيرات هي التي تنشرح روحي بجوارها، ودخل السيد الغابة، وتعمق هو ومريدوه حتى وصلوا مكانًا ترتفع أمامه قمم "هيمالايا" الشاهقة المكللة بالثلج. واختار السيد مكانًا بين دوحتين باسقتين، واستلقى على جنبه في إجهاد ظاهر، وتعب واضح، وأسح "أنندا" بأن السيد يقرب من النهاية، فانتحى ناحية وأخذ يبكي فطلبه السيد فجاءه وجلس بجواره، فقال له السيد: ألم أقل لك مرة بعد مرة إن الأشياء كلها لا ثبات لها، ألم أبين لك أن الأشياء التي نهواها لقربها منا هي التي يجب أن نقطع علاقتنا بها؛ لأن زوالها، أو الحرمان منها يورثنا الألم والحزن، وبات السيد تلك الليلة كلها يحرك عجلة العرفان أمام تلاميذه راقدًا رقدة الأسد تحت الشجرتين. وقد جاء كثير من الناس وتلقوا العلم عنه، وعند فلق الصبح، قال المبارك: قد يقول بعض منكم قبل نهاية اليوم لقد ذهب السيد عنا، وليس لنا معلم، كلا لا تقولون ذلك؛ فإني أترككم على المنهاج المعبد المستقيم الملون، اسمعوا معلمكم بعد ذهابي هو الشريعة والجمعية، ثم استوى جالسًا يرنوا إلى الجبال الشاهقة البيضاء، وقد سمعوه يتنفس الصعداء، والطمأنينة بادية على وجهه، وبعد قليل أخذ ينشد أنشودة البيت المتضالع: من بيت وراء بيت سجنني ... ومن رسالة إلى رسالة أرسلني

ولادة بعد ولادة وأنا أدور في دائرة ... متعبة باحثًا عن صانع هذه الخيمة إن البيت قد ارتجفت أركانه سقفه ... يرحب بمطر الموت في داخله وجدرانه من الغبار تنتظر النهاية ... كانت الولادة بعد الولادة أليمة الخجل والعذاب يتبعني وأنا ... آتيه في البيداء لا نهاية لها الآن يقوم السجين متحررًا ... يا صانع البيت لقد رأتك العين ها تهدم السقف وسقطت الجدران ... وانهارت الأركان لا شاطئ طال اختفائك ها قد وجدتك ومسكتك ... مسكًا قويًّا لا تنفلت من يدي أبدًا حان لي أن أتخلص من عذابي ... لقد خمدت هذه النار إلى الأبد

عاد بوذا بعد ذلك إلى رقدته الجسدية متبعًا، وقد ثقل تنفسه، ومع ذلك تكلم، أيها النساك كل شيء زائل مار كمر السحاب، تذكروا هذه الحقيقة واسعوا لحريتكم بالتواضع، والجد ناظرين إلى النهاية، سكت السيد وأغمض عينيه، ودخل في التفكير العميق لا يحرك ساكنًا، ولا يبدوا عليه أنه يشعر بما حوله. لقد مات السيد، قال "أنندا": أخيرًا زجره بعض الإخوان قائلًا: كلَّا إنه لم يمت، بل طرأت عليه حالة التفكر الذي لا يبقى معها حس، ولكنهم علموا بعد أن راقبوه مدة أن كل شيء قد انتهى، فما كان من بعض الإخوان الذين ما زالوا فريسة للأوهام أن ألقوا أنفسهم على الأرض يتمرغون في الغبار، وينتحبون، إلا أن "أنندا" وأصحابه الذين تحرروا من الأوهام، قالوا لهم: كل شيء زائل أيها النساك، والعقل الذي تحرر من الهوى يعرف ذلك. ويعرف أيضًا أنه كان لزامًا أن يرافقنا المبارك، وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، سمع الرهبان والمنتحبون هذا الكلام، فرجعوا عن سلوكهم المخجل وأُعلن في البلاد أن السيد قد مات، وعلى شاطئ النهر وعلى الأرض الرملية الفسيحة أحرقوا الجثة، وأخذ كل واحد منهم يطوف حولها ثلاث مرات، جامعًا كفيه إزاء صدره، ثم يقف عند قدم المبارك، وينحني احترامًا وإجلالًا. وقد اجتمع أهالي "كوسينارا" القرويين، فاحتفلوا بموت السيد كما يُحتفل بموت الملوك لأنهم تذكروا أنه كان ابن الملك، ثم جُمع رماد السيد وقسموه إلى ثمانية أجزاء، وأرسلوا كل جزء منها إلى الجهة التي رأوها لائقة به، فبنيت فوق الرماد بنايات عظيمة في الجهات الثمانية".

من أخلاق بوذا وأقواله.

من أخلاق بوذا وأقواله أخلاق بوذا: يصور علماء الهند صورة رائعة لبوذا فيقررون أنه كان شديد الضبط، قوي الروح ماضي العزيمة، واسع الصدر، عزوفًا عن الشهوة، بالغ التأثير، بريئًا من الحقد، بعيدًا عن العدوان، جامدًا لا ينبعث فيه حبٌّ ولا كراهيةٌ، ولا تحركه العواطف، ولا تهيجه النوازل، بليغ العبارة، فصيح اللسان، مؤثرًا بالعاطفة والمنطقة، له منزلة كبيرة في أعين الملوك، ومجالسه ملتقى العلماء والعظماء. ومن القصص التي تُروى لتدل على تواضعه أن أحد تلاميذه قال له مرة: إنني أيها السيد أؤمن بكل قلبي أنه لم يوجد قط، ولا يوجد الآن ولن يوجد إلى آخر الدهر مرشد أعظم قدرًا وأكثر قدرًا من مرشدنا المبارك. فأجاب بوذا هل أنت قد عرفت كل العارفين الذين سبقوني؟ وهل عرفت كل العارفين الذين يأتون بعدي؟ فأجاب التلميذ: لا يا سيدي؛ فلم يتيسر لي ذلك. فقال بوذا: هل عرفتني كل المعرفة، وتوغلت في نفسي كل التوغل؟ قال التلميذ: لا يا سيدي، وكيف لي ذلك؟! فقال بوذا: فلما إذًا أسرفت في قولك، وجعلتني خير الناس، وأنت لا تعرفني، ولا تعرف الناس. من أقوال بوذا: أوردنا فيما سبق بعض أقوال بوذا في مناسبات مختلفة ونورد فيما يلي مزيدًا من أقواله التي تشرح لنا فلسفته واتجاهاته: أ) ناموس الطبيعة ودورنا معه: إن ناموس الطبيعة هو الذي يسيطر على كل شيء، وهو يقضي أن لا يدوم العذاب والجحيم إلى ما لا نهاية، كما لا تدوم الجنة ولا النعيم، ومهما طال عهدهما فإنهما زائلان.

أخيرًا متى وكيف يتم ذلك؟ هذا يتوقف علينا نحن، كل محرك سافل يجب أن نقهره، كل إرادة مهينة نضبطها، كل ضعف معيب نتغلب عليه، ولكن ليس معنى هذا أن نغمض عيوننا عما يعانيه البشر من فقرٍ وشقاءٍ، زاعمين أنهم استحقوه بما جنته نفوسهم، إذ كل من يفكر هكذا، لا يتمسك بالإخوة العامة، والمحبة الشاملة مع سائر الخلق. فلا شك أن ناموس الطبيعة يعاقبه أشد العقاب؛ لأنه خارج عليه لعدم بذله الجهد الذي يسبب العفو والمرحمة، هذا وإن ناموس الطبيعة ليس بخاضع لذات قدسي يتصرف فيه كيفما شاء، بل ذلك الناموس مستقل بذاته نافذ بنفسه لا يتأثر بمؤثر بشري أو إلهي أبدًا. ب) في التناسخ: الإنسان مركب جسدي، يملك قوى يتحرك بها، وآلات يشعر بها فهو يحس، ويلمس، ويبصر، ويسمع، ويشم، ويدرك، وهو بهذه الحواس، والمشاعر يتصل بالعالم الخارجي، أما طبعه فيشتمل على النزعات، والكفاءات المنتجة من الماضي، فهي حسنة كانت أو قبيحة إرث له من الحياة التي عاشها في الماضي، وهي التي تكيف شخصيته التي تبدأ بها حياته جديدة، وذلك أن الحياة الداخلية للشخص ليست إلا سلسلة من الخيالات والرغبات والعواطف، فإذا انفصلت الأواصر المادية بالموت تقمصت قوى المادة الأولية جسدًا جديدًا. ولا تزال هذه القوى متوافرة إن لم ماديًّا فنفسيًّا، فيسعد الشخص الجديد، أو يشقى حسبما تهيأ له من السلوك السابق، العناصر التي تشكل شخصًا جديدًا لا تزال في تبدل مستمر، ولكنها لا تتلاشى كلية حتى تفنى تلك القوة التي تتمسك بها، وتدفعها إلى الميلاد الجديد، وليست تلك القوة إلا الرغبة في الوجود المنفرد.

ج) نار الشهوة وكيف تُطفأ: إن الحياة كلها من الولادة إلى الموت لهيب وحريق، إنها نار الشهوة، ونار البغض، والعداء والهوى، ومن هم أولئك الخدم الذين يشعلون هذه النيران، العواطف الستة والحواس الستة، إن العين ترى الأشياء الجميلة مزخرفة اللون، والأذن تسمع الأصوات الحلوة، والأنف يشم الروائح الطيبة، واليد تشعر بنعومة الريش، أو الحرير، الفم أو الحلق يقول: إن ثمر المانجو هذا لذيذٌ حقًّا. والقلب يتأثر بالأشياء المرغوبة، هؤلاء هم العبيد الستة الذين يسعون لتنفيذ أوامر سيدهم، فيجمعون الحطب فتزداد النيران اشتعالًا، ولكن هناك فريقًا لإخماد هذه النار، اتبعوا الصراط السوي النير، إن هذا الصراط مستقيم لا عوج فيه. أما بابه فهو تطهير الذهن ونهايته السلام والحنان لكل الخلق من الأحياء، إن الذي يسلك هذا الصراط لا يقول: إنني أنا، وذلك الإنسان غيري، ولذلك ففيه نفعه خسارته كلا، بل هو يقول يجب علي أنا الذي فزت بالبصيرة أن أشعر بالحب والحنان، لكل الخلق الذين قيدوا بهذه الأغلال، أغلال العلة، وتعدد الحياة، ولقد كسرت أنا هذه الأغلال بنفسي بقلع الشهوة من قلبي فيجب علي الآن أن أسعى للكل؛ فأجعلهم أحرارًا. "النيرفانا": في الهندوسية ما يُسمى بالانطلاق، وفي الجينية ما يُسمى بالنجاة، أما في البوذية فنتكلم عن النيرفانا، والكرما، والتناسخ أساس لأديان الهند كما سبق القول، والطريق واحد تقريبًا في هذه الأديان للتخلص من تكرار المولد، وهذا التخلص هو أسمى ما يتطلع له الهنود وذلك الطريق يتمثل بوجه خاص في قتل الشهوات الرغبات، والتوقف عن

عمل الخير والشر، وإذا استطاع الإنسان أن يجتاز هذا الطريق وصل إلى انطلاق، أو "النيرفانا" التي لا تختلف مدلولاتها اختلاف ذا بال، بالمدلول في الجميع هو التخلص من تكرار المولد، والحصول على اللذة الصادقة، والسعادة الدائمة، ولنعد إلى "النيرفانا" بالشرح الإيضاح. وقد سبق الكلام عن الإشراقة والكشف عن الأسرار وذكرنا أن "غوتاما" وهو تحت الشجرة المقدسة تمت له الإشراقة وانجلت له عقدة الكون وبوذا نفسه يصف هذه الإشراقة فيقول: كلمني صوت من داخلي قائلًا: إن الهوى هو أصل الحزن، والنفس هي التي تجلب الشقاء، وذلك أن المرء يقول دائمًا: أنا أنا، ويقول أيضًا: زوجتي وأولادي فهم أيضًا نوع من أنا، أما من سواهم فليسوا أنا، فيهوى ما يرى فيه شهوة نفسه، وإذا خاب شقي، وبهذه الفكرة يذهب الناس في الدنيا كالحريق العظيم المدمر فيؤذون ويقتلون، ويكونون لعنة على الخلق. قال بوذا للصوت: إن قبلت قولك فهل أنال الحرية، فأجاب الصوت نعم نعم، إنه يجلب لك الحرية أيها الناسك، فهل هذه "النيرفانا"؟ هل هي القضاء على الأنانية والتحرر من الهوى، وسلطان النفس؟ نعم هذا هو اتجاه بعض الباحثين وعبارته في ذلك هي أن شقاء الحياة وعناءها، وضجرها تبعث من رغبات النفس، وإن الإنسان يستطيع أن يكون سيدَ رغباته لا عبدًا لها، وإن في مقدوره الإفلات من قوة هذه الرغبات بقوة الثقافة الروحية الداخلية، ومحبة الآخرين، واتخذ تلاميذ بوذا هذا الاتجاه أحيانًا نظرية لهم توصل للنجاة أو لـ"لنيرفانا"، وتقي من تكرار المولد. وقد حدث أن سأله تلاميذه مرة عن مريد له مات حديثًا هل نجا من تكرار المولد فأجاب بالإيجاب، ولكن أحد البراهمة سمع ذلك، فاعترض على هذا

الغموض، فعاد بوذا يعلم تلاميذه أن لا يؤمنوا بالنظريات والعقائد، وألا يتكلموا عما بعد الموت، وأن يوجهوا عنايتهم للعمل، وكلماته في ذلك هي، يا أيها التلاميذ لا تسألوا أسئلة كهذه؛ فإنها عارية من كل نفع، ولا يقدر أحد على جوابها، هل تكلم يومًا الذي مات؟ إن السؤال عن الغيب وتجدد الحياة لا يجدي نفعًا، ولكنه يعذب العقل، وينهك القوى، عليكم بالسبيل النير الشريف؛ فإنه يوصلكم إلى السلام في هذه الحياة، واتركوا ما بعد هذه الحياة إلى اليد التي تولته من أول الكون، وعلى هذا عادت "النيرفانا" إلى الغموض. ويزيد هذا الغموض عن قراءة ما نُسب إلى بوذا عنها وهو قوله لمريديه، أيها المريدون هي طور لا أرض فيه ولا ماء، لا نور فيه ولا هواء، لا فيه مكان غير متناهي ولا عقل غير متناهي ليس فيه خلاء مطلق، ولا ارتفاع الإدراك واللا إدراك معًا، ليس هو هذا العالم، وذاك العالم لا فيه شمس، ولا قمر، أيها المريدون هي طور لا أقول عنه بإتيان، ولا بذهاب، ولا بوقوف، لا يموت، ولا يولد هي من غير أساس من غير مرور من غير انقطاع ذلك نهاية الحزن. ويقول العلامة "رادها كريشنن": إن بوذا رفض أن يشرح "النيرفانا"، وعلى هذا لا يجدي نفعًا أن نحاول فهمها، بل ربما كانت اللغات البشرية لا تستطيع شرح "النيرفانا"، ولكن لا تزال لدينا معلومات تقودنا إلى أسلم طريق لإيضاح "النيرفانا" ويبدو مما لدينا من مراجع أن "النيرفانا" مرت بمراحل تاريخية فقد كان مفهومها عند بوذا أول الأمر أنها الاندماج في الله والفناء فيه، ولكن أفكار بوذا تغيرت بالنسبة في التفكير في الله، فقد تخلى عن القول بأن هناك إله بل أنكر وجود الإله، كما سنبينه في معتقدات هذه الديانة -إن شاء الله- وبناءً على هذا الإنكار لم تعد "النيرفانا" الاندماج في الله، بل اتخذت لها معنى جديدًا، أو قل أحد معنيين متلاحقين هما:

1) وصول الفرد إلى أعلى درجات الصفاء الروحاني بتطهير نفسه والقضاء على جميع رغباته المادية، أو بعبارة أخرى فناء الأغراض الشخصية الباطلة التي تجعل الحياة بحكم الضرورة دنيئة أو ذليلة مروعة، ويصبح المقياس هو كل من شاء منا أن ينقذ حياته عليه أن يخسرها. 2) إنقاذ الإنسان نفسه من رقة الكرمة، ومن تكرار المولد بالقضاء على الرغبات والتوقف عن عمل الخير والشر، وبناءًا عن المعنى الأول يصل الإنسان إلى "النيرفانا"، وهو حي وبناء على المعنى الثاني ترتبط "النيرفانا" بالموت، وبالتخلص من هذه الحياة على ألا يعود لها. وصل اللهم وبارك على سيدنا وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 الديانة البوذية (2).

الدرس: 8 الديانة البوذية (2).

التعريف بالديانة البوذية.

ب سم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (الديانة البوذية (2)) التعريف بالديانة البوذية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فحدثتك عن البوذية بدءًا بالكلام عن بوذا وحياته ومبادئه، وها أنا ذا أحدثك عن تأسيس ديانته، فماذا عن الديانة البوذية وما تبقى لنا من الكلام عن عقيدة البوذية، ونحو هذا. الديانة البوذية تعتبر خطب بوذا وتعاليمه التي ألقاها على تلاميذه، والحوارات التي جرت بينه، وبين فئات مختلفة من الناس، أهم المصادر التي تعرف بالعقيدة البوذية؟ وكذا اكتشاف العلل الاثنتا عشرة للألم، وكذلك الحقائق الأربعة التي توصل إلى معرفتها في أثناء دخوله حالة "النيرفانا" والتي تعتبر المدخل الصحيح إلى كل الفكر الديني البوذي، مع العلم أن البوذية قدمت نفسها كدينٍ إنسانيٍّ وعالميٍّ هدفه الأقصى فتح باب الخلود للناس، وإعطاء النور إلى المكفوفين المدفونين في الظلمات، وفتح باب الخلود للناس لم يكن له إلا بعد أن وجه انتقاداته للمذهبين السائدين آنذاك في الهند، وهما الجينية والهندوسية. نتلمس انتقاداته لعقيدة الجينية من خلال الحوار مع "أوبيكا" الشاب البرهماني الجيني الصديق القديم لبوذا، لم يسفر الحوار بينهما عن نتيجةٍ إيجابية، وانتهى بأن سلك بوذا طريقه، وأخذ "أوبيكا" طريقًا آخر. أما انتقادات بوذا للهندوسية البرهمانية فكانت في حواراته مع الرهبان الخمس الذين أشار عليهم بسلوك الطريق الوسطي، وحاول من خلال فكرة الطريق الوسطي أن يصحح أهم مسلمات الرهبان، أي: المبالغة والتطرف في التقشف، قال بوذا موجهًا كلامه إلى الرهبان: هنالك طريقان متطرفان على الرجل الذي ينبذ العالم تحاشيهما، فمن جهة عادة إشباع شهواته هذه طريقة تافهة وباطلة وبدون ثواب، ولا تتناسب إلا مع الأرواح المتجهة نحو العالم. ومن جهة أخرى: فإن إماتة الذات هي طريق مرهق ومضني وبدون فائدة، ليس الامتناع عن أكل السمك واللحم أو العري، أو حلق الرأس، أو إرسال الشعر

المجدول أو لبس الثوب الخشن أو التغطي بالغبار، أو تقديم الذبائح إلى "أغنا" إله النار عند الهندوس يساعد على تطهير الإنسان الذي لم يتحرر من عيوبه وضلالاته. قراءة كتب "الفيدا" وتقديم التقديمات إلى الكهنة، وذبح الذبائح للآلهة، وإماتة الذات تحت وطأة الحرارة، أو البرد لا تطهر أبدًا الذين لم يتحرروا من عيوبهم، وضلالاتهم، والطريق الوسطي التي يدعو إليها بوذا تزيح الطريقين المتطرفين، وهذه الطريق تفتح الأعين، وتعطي الفهم، وتؤدي إلى سلام الفكر والروح، وإلى الحكمة السامية وإلى الاستنارة الكاملة وإلى "النيرفانا". الأمر السلوكي الآخر الذي خالف فيه بوذا المتشددين في التقشف وإماتة الذات الاختيارية أنه سمح للرهبان بلبس الثياب المدنية، إذ كان النساك، والرهبان يعيشون عراة، ويلبسون الخِرَقَ الرثَّةَ المجموعة من المقابر، أو من كومات النفايات، وكانت هذه الثياب تنقل إليهم الأمراض، حتى إن بوذا نفسه أُصيب بمرض شديد نقلته إليه الثياب الوسخة التي كان قد جمعها من النفايات. وتذكر الروايات أن الناس فرحوا كثيرًا عندما سمعوا بسماح بوذا للرهبان بارتداء الثياب المدنية، وقُدمت في يومٍ واحدٍ عدة آلاف من البذلات إلى الرهبان من قبل السكان "رادجا كريها" كما سمح بوذا بتناول الأدوية والمعالجة، وهو أمرٌ لم يكن معهودًا في حياة الرهبان والنساك الهندوس الذين يعتبرون أن شدة الألم، وقهر الجسد طرائق للخلاص من العلاقات المادية، فلما حلَّ المرض بالرهبان استدعى بوذا الطبيب "ديجي فياكا" لمعالجتهم، وأمرهم بتناولِ الدواءِ، وألزمهم باستعمال المراهم الطبية، وعندما أصيب بوذا بالمرض قَبِلَ باستدعاء الطبيب ومعالجته بالأدوية، وحمامات مناسبة حتى شُفي من مرضه.

وقبل بوذا النساء في كنيسته بعد تردد، وأول امرأةٍ قُبلت في الكنيسة كانت خالته ومرضعته "ماها برادجاباتي" وتلتها "ياسود هرا" زوجته، وجماعة من النساء اللواتي سُمح لهن بوفاء نذورهن، ورسمهن تلميذات، ثم راهبات، لكنه طلب من تلاميذه الاحتراس من النظر إلى المرأة إلا كأمٍّ إذا كانت عجوزة، وكأخت إذا كانت صبية، وكابنة إذا كانت صغيرة. وأمر بوذا رهبان كنيسته بعدم صنع العجائب، أو التبجح بالقدرة على صنع ما لا يقدر عليه عامة الناس، وكان حازمًا في قرارِهِ هَذَا، السبب في ذلك أن أحد الرهبان استطاع بسلطته الروحية أخذ قصعة من أعلى عمود عالي دون استخدام السلالم، أو قضيب له كلاب صغير، عم الخبر وتناقله الناس، وقالوا: إن تلاميذ بوذا يصنعون العجائب، عندما عرف بوذا بالأمر أخذ القصعة وكسرها، ومنع تلاميذه من صنع العجائب من أيِّ نوعٍ كان، خاصة وأن رهبان دير من الأديرة روجوا دعاية عن قدرات خارقة يتمتع بها الرهبان في موسم المطر، وحصول المجاعة، فأسرع أهالي القرى يحملون التقديمات للرهبان الذين عاشوا ببحبوحة، وازداد جوع الناس في المحيط، فانتقد بوذا خبث الرهبان، وحرصهم على كسب المال، أو على أشياء أخرى، وخاطبهم: "أنا أمنعكم أيها الرهبان عن استعمال الرقيات، والسحر، والصلوات؛ لأنها أشياء غير نافعة. ويعتبر أن من يجرب صنع العجائب؛ يكون قد خرج عن العقيدة البوذية. وينتقد بوذا ما يفعله البراهمة من ابتهالات، وصلوات، وتضرع للآلهة على أمل الوصول إلى حالة الاتحاد بالإله براهما، فلا الابتهال للإله "اندرا" ولا التضرع إلى الإله "سوما" ولا التوسل إلى الإله "فارونا" بمؤدي إلى رؤية "براهما"، وهو يشدد في كلامه على استحالة رؤية الإله براهما، ويسخر من كل الممارسات الطقسية

التي يقوم بها البراهمة، ويحكم بأنها فارغة، ولا تجدي نفعًا. المقدسات البوذية: يخبر أحد تلاميذ بوذا وهو "اشقد جئت" عن العقيدة البوذية، ويصفها بالأبيات التالية: كشف بوذا عن المعنى الحق لكل ... المعلولات التي تولد من علائها وعلم الحكيم الكبير كيفية إخماد أهواء النفس ... الرديئة وميول القلب إلى الشر والآلام فما هي العلل التي كشف عنها بوذا، وما هي الطريقة لإخماد أهواء النفس؟. يؤكد بوذا في أكثر من موضع ومن خطبة وموعظة أن الجهل هو جذر كل الشرور عندما تبصر بأصل الولادة والموت، ويؤكد أيضًا أن الشرور حلقات السلسلة في نمو الحياة المسماة "النيداناواد" الاثنتا عشرة، وبما أن سبب كل ألم يرجع إلى أصل ينام مختبئًا في الجهل حيث تتجول الحياة وتتطور؛ فإن إزالة الجهل تؤدي هدم الشهوات التي تتولد منه، وإتلاف الشهوات، إتلاف للشعور الخاطئ الناتج عنها، وهدم الشعور الخاطئ يوقف الضلالة، والغواية لدى الكائنات الفرضية، وإيقاف الضلال، والغواية يؤدي إلى الخلاص من كل تعلق مريض، وإبعاد التعلق يهدم أنانية الأناني. وعند هذه الحالة الأخيرة يصبح الإنسان فوق الولادة، والهرم، والمرض، والموت ويتخلص من كل أشكال الألم والعزاء، عند الإعلان عن العلل الاثنتا عشرة للألم والأصل المختبئ تحت كل واحدة منها، والجهل

أطلق بوذا عجلة الشريعة ويصف بوذا هذه العجلة بقوله: "عوارض العجلة هي قواعد السلوك الطاهر، الحق هو تناسق طوله وتناسق طوله، الحكمة هي إصابته، والتواضع، والحياء، والحكمة، والتبصر هي المركز الذي يتركز فيه محور الحقيقة الثابت المستقر، جعل بوذا من الجهل الأصل لكل الشرور، وهو شأن فكري عقلي غير أنه عندما حدد عناصر دولاب الشريعة انطلق من السلوك، وانتهى به، وهو شأن حياتي عملي خارجي له بعده الاجتماعي والكوني. الأمر الذي يجعل من العمل في رأس اهتمامات الديانة البوذية، فالجانب الخلقي هو الجانب الطاغي على مجمل خطب، ومواعظ البوذا، ثم إن بوذا كان قد أطلق دولاب الشريعة الحقيقية مع تحديد دقيق للحقائق الأربعة المقدسة، الأولى وتتعلق بالألم والثانية تكشف عن أصل الألم، والثالثة تهدم إلى إخماد الألم، والرابعة تحقق محو الألم، وتقدم الطريقة ذات الشعب الثمانية لمحو الحزن، ويصف بوذا هذه الحقائق أنها حقائقٌ نبيلةٌ وشريفة. تقديس بوذا: استحق بوذا القداسة؛ لأنه رفض مملكته وثروته، وعائلته، وأسرته، واكتشف الطريق الحق مقدمًا هكذا إلى العالم المثل الذي يجب الاقتداء به، والسير على نهجه للوصول إلى "النيرفانا"، يقول بوذا عن نفسه في حوار مع والده، وبعد إعلان الدعوة وتحريك عجلة الشريعة: بأنه معلم الحقيقة، واعظ العدالة والإنصاف، ومدخل سلام "النيرفانا" إلى القلوب.

وتقول "ياسودا هارا" زوجة بوذا لولدها "راهولا" الطفل في تعريفه على والده هذا الرجل القديس ذي المنظر المجيد العظيم الشبيه بالإله براهما الكبير هو والدك، ويملك أربعة مناجم من الكنوز إشارة للحقائق الأربعة لم أشاهدها بعد، اذهب وتوسل إليه ليملكك إياها؛ لأن الابن يجب أن يرث ثروة أبيه. يُنظر إلى بوذا على أنه سيد العالم وملك الشريعة وملك الحقيقة المقيم فيها، إنه القديس الذي امتلك سلام الفكر والروح، صارع بوذا الشيطان أربع مرات كانت المرة الأولى عندما ترك قصر والده الملك، وزوجته، وابنه، والمرة الثانية في أثناء تأمله تحت شجرة المعرفة، وتصميمه على نشر الحقائق التي توصل إليها. المرة الثالثة عند بلوغه حالة "النيرفانا" للمرة الأولى، وعودته منها ليعلم الشريعة ويخلص الأنا الكونية، إنه عاد من غيبته الأولى الصغرى بتدخل من براهما نفسه الذي خاف على فناء العالم، إذا لم ينشر بوذا الشريعة الحقيقة، أما غيبته الكبرى فكانت وهو في عمر الثمانين حيث دخل حالة "النيرفانا" للمرة الأخيرة، وانتقل إلى عالم النور بعد أن اطمأن قلبه باستمرار الدعوة إلى العقيدة الصائبة، والحقيقية، لقد رفض بوذا الموت في المرة الأولى، ولكنه قبله في المرة الثانية وقد أدار عجلة الشريعة، واطمأن أن أحدًا لن يقدر على إيقافها. رافقت العجائب مراسيم حرق جثة بوذا، كما واكبت العجائب يوم مولده، لقد أُشعلت جثة بوذا على وجهٍ لم يُعمل إلا لملك الملوك، وهذا من الألقاب التي أطلقت عليه،

وجاء في الإنجيل، ولما أُشعلت المحرقة المأتمية في مدينة "كويسنا هارا" انطفأ وهج الشمس والقمر وسارت الأنهار الهادئة من الجهات سيولًا جارفة، ورجفت الأرض وارتجفت، وتقلقلت كل أوراق أشجار الغابات المتلفة القوية، كما ترتجف وتتقلقل أوراق شجر الحور، وسقطت على الأرض أزهار، وأوراق الأشجار، ولم تكن هذه الأشجار في فصل إوراقها وإزهارها. وأمطرت السماء أزهار المندرة وتركتها حتى غطت كل مدينة كوسيا هارا بسماكة قدم رجل حتى غطت كل مدينة "كويسنا هارا" بسماكة قدم رجل، وهذا الحديث العجائبي يعتقد به البوذي اعتقاده بكل ما جاء في الشريعة التي سنها بوذا وتركها للبشرية، تشير الكتابات البوذية المقدسة إلى لقاء للرهبان المقربين من بوذا بعد مراسيم حرق الجثة، وقال كل واحد منهم رأيه في بوذا؛ إنها الآراء، والمشاعر التي يحملها كل بوذي، ويُكِنُّهَا لصاحب الشريعة ومعلمها. منها المضبوط بوذا هو الحقيقة، وبهذه الصفة فهو موجود في كل مكان وخالد، البوذا هو الحقيقة الكاملة الروعة، والخالدة، والحاضرة في كل مكان، والتي لا تتغير، هذه هي "السلبهارغاكايا" أي: نعمة السعادة الكاملة. البوذا هو المعلم الذي يعز كل الكائنات، ويتخذ شكل الذين يعلمهم هذه هي "النيرمانا كايا" أي: الجسد الذي يظهر فيه، البوذا هو التوزيع الكثير البركة للدين، وهو روح الكنيسة، ومعنى التعاليم التي تركها لنا في كلامه المقدس، وهو الشريعة هذه هي "الدهرماكايا" أي: جسد القانون الرائع إلى أقصى حدود الروعة، رفض بوذا الطقوس الهندوسية المتعلقة بتكريم الآلهة، وعبادتها، وإقامة التماثيل، والمعابد لتعظيمها. إلا أن أتباع بوذا فيما بعد أقاموا المعابد، والتماثيل،

والصور الأنيقة له، وبالغوا في تكريم المعلم السيد، اعتبروه معلمًا للآلهة، كما للبشرية، وسيدًا خالدًا، ومحركًا للكون، ومؤسسًا لمملكة الحقيقة. واعتبر البوذيون أن صاحب الشريعة عاش قبل أن يصبح المستنير خمسمائة وثلاثين نوعًا من الحياة، عاش إلهًا اثنتين وأربعين مرة، وملكًا خمسة وثمانين مرة وأميرًا أربعة وعشرين مرة، وعالمًا اثنتين وعشرين مرة، كما عاش لصًا مرتين، وعبدًا مرة واحدة، ومقامرًا مرة واحدة، وعاش عدة مرات في أجسام أسد فغزال، فجود فنسر فثعبان، وكان مميزًا في كل الحيوانات السابقة، وكان أحكم أبناء الجنس الحيواني الذي وُلد فيه. ومن الحكايات التي يحكيها البوذيون واحدة تتحدث عن بوذا عندما كان يعيش في صورة طائر؛ إذ كان له سلطة على جميع طيور الغابة، وذات صباح فوجئت الطيور بأكوام من التراب، والغبار تتساقط من فروع الشجرة التي كانت تتحرك، ويحتك بعضها بالبعض الآخر، وأخذ الدخان يتصاعد، وبدأ الرعب يسيطر على كل الطيور، وفكر بوذا الطائر لا شك أن الفروع إذا استمرت في احتكاكها فلا بد أن يؤدي الاحتكاك إلى حصول الشرر، وإذا وُجد الشرر فسيتطاير، وتشتعل النيران، فتحرق الأوراق الجافة المتطايرة. وإذا اشتعلت النيران في الأوراق فسرعان ما تحترق الشجرة العظيمة نفسها، فكر عندئذ وقال إذا أردنا الحياة علينا أن نبتعد عن المكان وأن نرحل على الفور وراح الطائر بوذا يغرد لتسمعه بقية الطيور، وهو يغني الأغنية التالية: "إن الشجرة بنت الأرض، وهي التي نعتمد عليها نحن أبناء الهواء، هذه هي الشجرة نفسها بدأت تشتعل بالنار فاهربي أيتها الطيور بعيدًا في السماوات، فموطننا هو

نفسه بدأ يسبب لنا الأخطار والموت، وأنصتت الطيور إلى صوت بوذا، والبعض منها أخذ بالنصيحة وطار مع بوذا إلى البعيد. أما التي لم تسمع للنصيحة بقيت في أماكنها، وقالت: إن بوذا يرى التماسيح دائمًا في قطرة ماء، ولم تمضِ لحظاتٌ حتى اشتعلت النار، واحترقت الشجرة، وعجزت الطيور عن الهرب فوقعت في اللهيب. ويُقارن البوذيون بين هذه القصة، وحكاية خروج البوذا من قصر أبيه الملك، وبحثه عن الخلاص الذي وجده بعد أن أمضى سبع سنوات من الزهد، والنسك، والتأمل. تقديس العقيدة: تحظى العقيدة البوذية عند أصحابها بنفس القداسة التي يحظى بها واضعها، ويطلق عليها اسم النظام، أو عجلة الشريعة، قام بوذا بدفع هذه العجلة أكثر من أربعين عامًا مع جماعة من أتباعه الذين اختارهم، ونظم أمورهم، وأشرف إلى إعدادهم ليكونوا الدعاة المخلصين له ولعقيدته، قام "أوبالي" أحد الرهبان بعد أن تمت مراسيم حرق جثة بوذا، وذكّر إخوته الرهبان بما كان يقوله المعلم السيد عن العقيدة. قال: اعتاد معلمنا أن يقول للإخوة: أيها الرهبان بعد دخولي في "النيرفانا" يجب أن تحترموا الشريعة، وتطيعوها، وأن تنظروا إلى الشريعة كمعلم لكم، تشبه الشريعة النور الذي يلمع في الظلمات يرشد إلى الطريق، وهي تشبه أيضًا جوهرة نفيسة يجب عليكم ألا تتراجعوا أمام أي عذاب بغية امتلاكها، ويجب أن تكونوا مستعدين لتحمل كل تضحية حتى التضحية بحياتكم، أطيعوا الشريعة التي

كشفتها لكم بتدقيق وبضبط كلي، احترموا الحقيقة، كأنها على الإطلاق مشابهة لي. الواضح: أن تعاليم بوذا الواردة في هذه المقاطع تؤكد على ضرورةِ احترامِ الشريعة وطاعتها، والتعامل معها كجوهرة ثمينة، ولأنها كالنور الذي يرشد في الظلمات، كما أن بوذا يوازن بين الشريعة وبين نفسه ويجعلها شبيهة به، وبذلك يكون لها من القداسة ما له، إن الشريعة في نظر البوذي هي الحقيقة الخالدة، إنها البوذا بنفسه وهي حاضرة في كل مكان، ولا تتغير وهي جدًّا رائعة، وسنعرض فيما بعد لأهم ما جاء في الشريعة البوذية في شتى مسائل الوجود، والآلهة، والأخلاق، والتنظيم الاجتماعي الفقهي القانوني -إن شاء الله تعالى. يعرف بوذا في إحدى خطبه بعقيدته، وبالصفات الثمانية التي ميزتها عن غيرها من العقائد التي عرفت من قبل، يقول: تشبه عقيدتي المحيط؛ لأنها تملك الصفات الثمانية التي يملكها المحيط. 1 - كلاهما المحيط والعقيدة يصبحان تدريجيًا أكثر فأكثر عمقًا. 2 - هما يحتفظان بجورهما عند كل التغيرات. 3 - هما يلفظان الجثث على رمل الشاطئ. 4 - كما أن الأنهار الكبيرة عندما تصب في المحيط تفقد أسماءها، وتصير جزءً من هذا المحيط كذلك البشر من كل الطوائف عندما ينتمون إلى الكنيسة ينكرون أصلهم ويصيرون إخوة وأولادًا "للساياكيموني". 5 - المحيط هو الهدف الذي تجري بسرعة إليه كل الأنهار، وأمطر الغيوم، ومع هذا فهو لا يفيض، ولا يجف أبدًا، كذلك تضم الشريعة الملايين من البشر، ومع هذا فهي لا تزيد ولا تنقص.

6 - وكما أن المحيط الكبير له طعم واحد هو الملوحة؛ كذلك عقيدتي لها عطر واحد هو الخلاص. 7 - كلاهما؛ أي المحيط والشريعة مملوءان بالأحجار الكريمة واللآلئ والجواهر. 8 - وهما المحيط والشريعة يعتبران مأوى لكل الكائنات. ويضيف البوذا عقيدتي تشبه الماء الذي تطهر كل شيء بدون تمييز، عقيدتي تشبه النار التي تحرق، وتأكل كل الأشياء الموجودة بين السماء، والأرض كبيرة كانت أم صغيرة، عقيدتي تشبه السماء؛ لأن فيها مكانًا واسعًا جدًّا يفوق قدر الكفاية لاستقبال الجميع من الرجال والسناء، ومن الصبيان والبنات، ومن الأقوياء، والضعفاء، هذه بعض الأوصاف المهمة التي أطلقها البوذا على شريعته، والتي يُستنتج منها سعي البوذا لنشر عقيدته، وجعلها تعم كل البشر، وكل الكائنات، وجعل هدفها الجمع بين جميع فئات الناس في بوتقةٍ واحدة، وتحت مظلة الشريعة الصالحة التي تزود أتباعها بما يؤمن لهم السعادة، والخلود، والخلاص من كل الآلام والعذابات. تقديس الكنيسة أو الرهبانية البوذية: اهتم بوذا بتأسيس الرهبانيات التي تجمع المريدين، والأتباع في كل المناطق التي انتشر فيها سيطه من خلال المبشرين، اقتنع منذ بداية تلقيه الإشراق الروحي وتعرفه على الحقيقة الخالدة استحالة نشرها بمفرده؛ إذ يستحيل عليه الاستجابة إلى كل الذين يريدون الاستماع إلى الحقيقة، وتقبل التكريس، والطقس الديني

فاختار من بين تلاميذه مبشرين مملوءين بالرحمة، والشفقة لتعليم الناس ما فيه خيرهم وصلاحهم. قام هؤلاء بالمهمة، وتوزعوا في أرجاء الهند يدعون الناس إلى العقيدة الوسطى التي بشر بها بوذا، أول بعثة للمبشرين الذين أطلقهم البوذا، زودهم بتعاليم الشريعة، ونبههم إلى أن أكثر الناس على عيونهم غشاوة من الغبار، فإذا لم يبشروا بالعقيدة؛ فلن يتمكنوا من الوصول إلى الخلاص، وطلب منهم -أي: من الرهبان أن يعلموا حياة القداسة لمن يستحقها من الناس، وحذرهم من وقوع الشريعة والقانون الكنسي في أيادي من لا يستحقونها؛ لأنها عندئذ تسقط، وتصبح محتقرة، ومكروهة لأن هؤلاء يجعلونها أضحوكةً وسخريةً ويعدمونها. أمسك البوذا في حياته زمام الأمور في الكنيسة، تقيد الرهبان بالتبشير أثناء تجواله في الطرقات وجمع الصدقات، لكنهم كانوا يجتمعون مجددًا في فصل الأمطار وينضمون إلى معلمهم بوذا ليستمعوا إلى نصائحه، وإرشاداته، ومواعظه. أو رهبانية بوذية أُقيمت في بستان "الخيزران" في "ميروفانا" قدمه الملك "بندي سارا" بالقرب من ميدينة "رادجا ريهي" عاصمة مملكة "ماجيتها" تلاه الدير الذي بناه التاجر الثري "انسا بنديكا" في مدينة "سرفيستي" وهكذا حتى عمت الأديرة كل شمالي البلاد الهندية. قبل بوذا دخول النساء لسلك الرهبنة بعد تردد، كانت "ياسودا هارا" زوجة بوذا قد توسلت إلى زوجها بوذا ثلاث مرات لتُقبل في الكنيسة لكن طلبها لم يُستجاب، لكن عندما تدخلت "برادجا باتيماها" الأم المرضعة، والمربية لبوذا بعض موت أمه مصحوبة بكثير من النساء المتحمسات للحقيقة لم يستطع المقاومة،

وقبلهن راهبات في كنيسته بعد هجرهن الخدمة المنزلية ليعتنقن حياة التسكع والتيه حسب مقتضيات العقيدة. نظم بوذا الكنيسة ووحد أراء وأفكار الرهبان حول الحقائق النبيلة التي بشر بها، ووحد الزي أو اللون الأصفر وعرفهم على الطقوس الواجب تنفيذها اجتماعاتهم وقداسيسهم التي تقام أيام السبت وفي كل الأديرة كما أصدر أوامره للرهبان بتلاوة "البراسيموكوشا" وهو طقس مغفرة الخطايا، ويُقام مرتين في الشهر. إذا وقع الخلاف والشقاق بين الرهبان، وانقسموا إلى أحزاب، كان البوذا يسرع إلى فك الخلافات بطريقة الديمقراطية هذا ما حصل بشأن النزاع الذي وقع بين رهبان دير مدينة "كوسامبي" حيث انقسموا إلى حزبين، طلب بوذا إجراء تحقيق حول النزاع وأجراء محاكمة، ومنع الكنيسة من اتخاذ إجراءات، وأحكام دون القيام بالتحقيقات اللازمة، وأمر أن يكون الاتفاق بالنص المكتوب، والفكر معًا ليكتسب شرعيته لقد أعد البوذا الرهبان، والرسل المبشرين بالشريعة إعدادًا جيدًا، وزودهم بالحقيقة التي تلقاها عن طريق الإشراك، وكان لهم القدوة في كل ما كان يتوجب عليهم القيام به، كثيرة هي المواعظ، والإرشادات التي قدمها رسله في المناطق. كما أن البوذا كان يمتحن الرهبان قبل أن يرسلهم في بعثة تبشيرية؛ كي يتأكد من قدرتهم على نشر الحقيقة بصورة سليمة، كلم الرهبان، ووعظهم، وأرشدهم إلى الطريقة الصحيحة الواجب اتباعها لنشر العقيدة بصورة سليمة ومنظمة، قال لهم: عندما أموت، ولا أعُد قادرًا على مكالمتكم، وعلى بناء أفكاركم بأحاديث دينية، وعلى أن لا أكون قدوة صالحة لكم اختاروا من بينكم رجالًا من عائلات

صالحة ومثقفين يبشروا بالحقيقة عوضًا عني، وعلى هؤلاء الرجال ارتداء أثواب "التاساغاتا" والدخول إلى مقرِّهِ، والجلوس على منبره. أثواب "التاساغاتا" هي الحلم، والرحمة، والسماحة، والتساهل، والرفق، والمغفرة والصفح، والتغاضي بكل سناها، وجلالها، وعظمتها وجزالتها، وإعجازها، وعلوها وبصبر جميل، وبطول روح طيبة، وثبات مكين، وبتجلد مستمر، وباحتمال قوي وبأناة لطيفة، ومقر "التاساغاتا" هو الإحسان والمحبة لكل الكائنات. ومنبر البوذا هو الفهم الصحيح للقانون في معناه المجرد، وكذلك في تطبيقاته الخاصة به، ويجب على الواعظ عرض الحقيقة بفكر شجاع، وبرباطة جأش حيث لا يمل ولا يفشل، ويجب عليه امتلاك قوة الإقناع، والاقتناع التي يكون جذرها في الفضيلة، وهي أمانة مدققة، ولازمة إلى ما يرغبه، ويمني نفسه به، ويدعو إليه وينذره. يجب على الواعظ أن ينضبط في ملكه، ودائرة عمله واختصاصه، وأن يكون صلبًا وقوي العزيمة في مهنته، وشغله، ومشاريعه، ويجب أن لا يكون متملقًا، ومداريًا، ومصانعًا ومطنبًا في مدح نفسه، ومدح الآخرين، ويجب أن لا يكون مفتتنًا بنفسه، ومحاولًا افتتان الآخرين، ويجب أن لا يكون مزهوًا ومعجبًا بنفسه، ومتباهيًا ومدعيًا ومحبًّا للجاه ولوعًا بالافتخار؛ مما يجعله يبحث عن مرافقة الكبار، ويجب عليه عدم عقد أية صداقة مع أشخاص خفيفي العقل مستهترين طائشين تافهين وغير أخلاقيين، وإذا دخلت التجربة عليه أن يفكر دائمًا بالبوذا فينتصر، يجب على الواعظ ألا يُحمل على مخاصمة الآخرين ومقاتلتهم. وألا يقدم على لوم، أو معاتبة، أو ذم المبشرين الآخرين.

ويجب عليه عدم الاغتياب والتسلب، والقدح، والطعن بغيره، وعدم الانتقاص من كرامة الآخرين، ويجب عليه عدم بث، ونشر، وإذاعة، وإفشاء كلمات لاذعة، وقاسية، وجافة وحادة، ويجب عليه عدم تسمية التلاميذ الآخرين بأسمائهم؛ بغية اغتيابهم والطعن بهم، وتوبيخ سلوكهم، يجب عليه الصعود إلى المنبر بجبة نظيفة، وفي ملابس مناسبة تحت هذه الجبة، وبفكر محرر من كل لوم وتوبيخ، وأن يكون بسلام مع العالم بأكمله، يجب عليه أن لا يلتذ أبدًا بمناقشات خصامية وقتالية، وألا يتدخل بمجادلات دينية؛ ليظهر تفوق مواهبه، وعلو كعبه، وسمو رتبته، وعظمة شرفه وتقدمه على غيره، لكن واجبه يقضي بأن يبقى وديعًا ودمسًا ولين الجانب وهادئًا، ويجب أن لا يسكن في قلبه أي شعور حاقد، ومشاحن وعدائي، وأن لا يغض النظر أبدًا، وأن لا يبعد جانبًا الترتيبات الإحسانية تجاه كل الكائنات، ويجب أن يكون هدفه الوحيد إيصال كل الكائنات إلى نعمة البوذا. على الواعظ الإقبال بنشاط وحماس على مهمته بحيث يجعله الداساغاتا ينظر إلى جسم الشريعة المقدسة في مجدها المتصاعد فيصبح محترمًا وموقرًا ومكرمًا كأحد هؤلاء الذين باركهم "التاساغاتا"، يبارك "التاساغاتا" الواعظ، والذين يستمعون إليه باحترام، والذين يتقبلون العقيدة بفرح، كل الذين يتقبلون الحقيقة ينالون الذكاء الكامل حقًّا هي كبيرة قوية العقيدة، فقراءة آية واحدة منها، وحفظ عبارة واحدة من الشريعة الصالحة ترسخ الإيمان في الحقيقة بأيِّ شخص كان، وتجعله يدخل في طريق هذه الحقيقة التي تقود إلى الخلاص من الشر، يجب على الواعظ أن يكون مملوءًا بالحيوية، وبالأمل الوهاج، ويجب أن لا يسأم، ولا يتعب، ولا يفقد الأمر أبدًا من نجاحهم النهائي.

يجب أن يكون الواعظ شبيهًا برجل محتاج إلى الماء، فيحفر بئرًا في أرض قاحلة وطالما يرى الرمل أبيض وجافًّا؛ يعلم أن الماء لا يزال على مسافةٍ كبيرةٍ، ولكن إذا لم يتقاعس أبدًا، ولم يترك عمله كشيء ميئوس منه، يجب أن ينشغل برفع الرمل الجاف بطريقة تمكنه من حفر الأرض إلى عمق أكبر، وإذا وجب تكرار الحفر إلى الأعمق؛ فإن الماء يصبح أكثر برودة، وأكثر صفاءً، وأفضل، ويحيي قوى الرجل الحافر ويجددها، وعندما يمضي عليه بعض الوقت من تكراره الحفر. يرى أن الرمل أصبح رطبًا فيدل ذلك على أن الماء أصبح قريبًا في أيديكم. ولكم أيها الناس والعائلات الكريمة والمثقفين قد وُضع النذر للتبشير بكلمات التاساغات ويضع المبارك مجددًا في أيديكم ويثق بكم ويأمركم بنشر شريعة الحقيقية الصالحة، تقبلوا شريعة الحقيقة الصالحة احتفظوا بها اقرءوها وراجعوا قراءتها تعمقوا بها أعلنوها بشروا بها كل الإخوة في كل الزوايا المسكونة اجمعوا حولكم سامعين متشوقين لسماع كلمات الشريعة اللطيفة، والمعزية، حثوا غير المؤمنين ليتقبلوا الحقيقة، واغمروهم بالطيبات، وبالفرح، واجعلوهم أشداء، وابنوهم وارفعوهم إلى الأعلى، وإلى أعلى الأعلى حتى يروا الحقيقة وجهًا لوجه في كل تألقها، ومجدها الذين لا نهاية لهما. وهذا النذر كما ورد في الإنجيل للتلاميذ دوى في المسكونة، ورجع يتردد كصدى من كل "البودهيز تفاوات". البودهيز تفاوات أي: الأشخاص الذين يصلون إلى مرحلة ما قبل الاستنارة، اللاحقين الذين سيأتون للتبشير بشريعة الحقيقة الصالحة، وينصح بوذا الدعاة بضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وطريقتهم في التخاطب، فيقول: هنالك أنواع مختلفة من الجماعات يا أنتد، وأنتد هذا تلميذ بوذا المقرب، وشقيقه من أبيه،

لازمه كل فترة التبشير، وحضر موته، وجمع الرهبان بعد موت الأستاذ. في جماعات النبلاء، والبراهمة، وأرباب البيوت والرهبان، والجماعات كائنات أخرى من عاداتي عندما أدخل على إحدى الجماعات، وقبل جلوسي آخذ لونًا شبيهًا بلون الحاضرين لسماعي، وصوتًا شبيهًا بصوتهم، وأستعمل لغتهم، وأحدثهم بحديث ديني، معلمًا إياهم، وموحيًا في نفوسهم القوة، والانتعاش، ومالئًا قلوبهم بالفرح. ففي كلام بوذا هنا إشارة واضحة على احترام قدرات الناس على الفهم وعلى أهمية مسايرة جلساءه بأن يكون كأيِّ فردٍ منهم، بذلك، ومن هذا القبيل استعمل بوذا الأسلوب القصصي، والأمثال في ترويج أفكاره ونشرها؛ لأنها أقرب إلى فهم الناس إضافة إلى الصور الرمزية، والعبارة السهلة في خطابه الديني. كما أن البوذا كان شديد الحرص على إعداد رسله وإمدادهم بكل أدوات الإقناع ليضمن نجاحهم في نشر الدعوة حتى إنه كان يمتحنهم قبل إرسالهم في بعثات تبشيرية، كما حرص بوذا على تأسيس كنيسته، وتقديم يد العون لشد أزرها، وتوحيد كلمة رهبانها أينما كانت، إلا أن الأمر لم يدم طويلًا بعد موته، أول مجمع كنسي للبوذيين عقد في مدينة "رادجا اريها" بغية عرض عقائد المقبوض بوذا الظاهرة وتصنيفها في مجموعات، ومقابلة الكتابات المقدسة بعضها مع بعض للتأكد من عدم وقود أي نقص فيها أو أي خطأ يتخللها، والعمل على إقرار قانون كنسي يُتخذ كنبع تعليمي لتعليم وإرشاد الأجيال الآتية. عندما احتشد أتباع بوذا سألوا "كاسياما" وكان أعلم تلاميذ بوذا أن يقرأ عليهم آراء المقبوض الإلهيات فقرأها عليهم، وسألوا "أوباري" وكان أعلمهم بالشريعة أن يتلو عليهم النظام، ثم سألوا "أنندا" أن يروي لهم حكايات بوذا،

الأسس الفكرية للعقيدة البوذية.

وأمثاله، ومواعظه فرواها وحُفظت أقوال هؤلاء الرهبان في الصدور، وتناقلتها الأجيال حتى عهد الملك "أسوكا" حيث دونت، وكان ذلك في حدود العام 242 قبل الميلاد، وأهم المدونات تلك هي التي عُثر عليها في جزيرة بالي بإندونيسا. الأسس الفكرية للعقيدة البوذية الحقيقة: الحقيقة هي الهدف الأقصى الذي يسعى البوذي إليه، لأن الحقيقة هي جوهر الحياة وتستمر وتدوم بعد موت الجسد، الحقيقة خالدة كما يقول بوذا وتواصل حياتها حتى بعد اختفاء السماوات والأرض، وآمن بوذا بوحدة الحقيقة وتشابهها في كل الأوقات وفي كل الأمكنة، كما أن الحقيقة غير قابلة للهندسة والتركيب والتنظيم، لأن الحقيقة واحدة، وتبقى على ما هي عليه بشكل دائم وغير قابلة للتغيير والتقلب، إنها مغايرة للجهالات والضلالات؛ لأن الضلالات تستطيع أخذ كل الأشكال التي تعجب الناس الذين اختاروها، لهذا السبب؛ فإن التأمل بهذه الأشكال هو شهي ولذيذ ومفرح، لكن هذه الأشكال تبقى مترجرجة، وغير ثابتة، وتحمل في داخلها عناصر التفكك، والتفتت، والتحلل. ويؤكد البوذا أن العالم وُجد لأجل الحقيقة وعُمر لأجلها، غير أن تدخلات الفكر وتركيباته الخاطئة هي التي غيرت طبيعة الحالة الحقيقية للأشياء، وأحدثت الضلالات والجهل، والذين يقعون في شباك الضلال، والجهل تعمر الأنانية، والفجور في قلوبهم وتتولد الرغبات، والشهوات في نفوسهم، وينساقون ساعة إذن إلى البؤس، والألم

وتشبه الأوهام، والضلالات، والأكاذيب سفن كبيرة مزينة إلا أن السوس قد نخر خشبها ومن ركبها معرض للمخاطر، والتهلكة، لذلك يعتبر امتلاك الأوهام والضلالات هو الموت والخطيئة هي طريق الضياع. أما الحقيقة فإنها أقوى من قوة الموت، هي حاضرة في كل مكان، هي خالدة ومجيدة، ومجدها عظيم، ثم إن الحقيقة تهدي إلى طريق الاستقامة، والخلاص، وهي الطريقة النبيلة ذات الشعب الثمانية، وهي أيضًا طريق مستقيمة وواضحة ويجدها بسهولة من يحبها، وسعداء هم الذين يسيرون على طريق الحقيقة. البوذا هو الذي كشف الحقيقة، وأظهرها، وبين الطريق إليها، وأسس مملكتها وأدار عجلتها، وحقيقة الحقيقة التي أعلنها البوذا لا يمكن حصرها في مكانٍ ما، مهما كان هذا المكان بعيدًا في لانهائيته إنها لا متناهية، ولا يوجد أبدًا مكان للحقيقة في الإحساس، ولا في ملذاته، ولا في آلامه، صحيح أن الإحساس هو الخطوة الأولى إلى الحقيقة، لكن لا يوجد أبدًا مكان فيه للحقيقة مهما كانت قدرة الإحساس على السطوع من الوجه اللامع من الجمال، ومن صنوف مباهج الحياة. نظرة لأهمية الإحساس من حيث هو الخطوة الأولى في الحقيقة، والمدخل إلى عالمها؛ فإن البوذا علم الناس كيفية الاستعمال الصحيح للإحساس، والممارسة الصحيحة، والصالحة للعقل، وعلم بوذا الصلاح، وغير على هذا الوجه المخلوقات العاقلة إلى كائنات إنسانية صالحة طيبة، ووجدت الحقيقة مكانًا تقدر أن تقيم فيه وهو الروح الإنسانية. يخالف بوذا أصحاب الاتجاهات العقلانية، ويؤكد بأنه لا يوجد أبدًا مكان للحقيقة في العقلانية إذ العقلانية سيف ذو حدين، يستعمل العقل لمقاصد

سامية، ومحبة، ويستعمل لمقاصد فاسدة مبغضة، وكما الحس كذلك العقل، العقلانية هي السطح الذي تقيم عليه الحقيقة، وبدون العقل لا يمكن الوصول إلى أية حقيقة، لكن لا يوجد أي مكان للحقيقة في العقلانية مع أنها الأداة الضرورية لترويض أشياء العالم. الحقيقة في نظر البوذي هو البوذا نفسه، ولهذا نفسه وجبت عندهم عبادة بوذا إنها جوهره إنها المعيار الوحيد للتميز بين العقائد الصحيحة والعقائد الخاطئة، والحقيقة والبوذا كلاهما لا يستطيع أي لسان التعبير عنهما إلا أن الحقيقة ليست اختيارية أو صفقة أعمال، لكن يمكن البحث عنها، ومن بحث عنها بصدق معتمدًا الطرائق والشعاب التي علمها بوذا يجدها لا محالة، لكن كيف يكون امتلاك الحقيقة؟ لا يمكن امتلاك الحقيقة ما لم يتعلم المرء التمييز بين الأنا والحقيقة، الأنا هي سبب الأنانية ومنبع الخطيئة لا تقتصر الحقيقة بأية أنا الحقيقة الجامعة وتقود إلى العدالة والمساواة، إن الاستراحة في الحقيقة تستلزم الانقطاع عن الملذات وإزالة الأنا هي شرط الاستنارة، ومحو الأنا هو "النيرفانا" والتطهر من الخطايا، وتقديس الحياة هما الطريقة للوصول إلى الحقيقة. تحرير النفس من الأنا الأنانية المسكينة، وعدم الرغبة في أذية الآخرين، والطهارة تجعلها جوهرة صافية تعكس نور الحقيقة، واللجوء إلى جماعة الباحثين عن الحقيقة والمجهدين أنفسهم للعيش ضمن الحقيقة يساعد في بلوغ الحقيقة بشر بوذا بالطريقة الوسطى المغايرة لنوعين متطرفين، وأعلن في خطبة بنارس، والتي تعرف أيضًا بخطبة غابة الغزلان الطريق العامة للطريق الوسطى التي يجب أن تحل محل الطريقين المتطرفين.

يقول: هنالك طريقان متطرفان على الرجل الذي ينبذ العالم تحاشيهما، فمن جهة عادة إشباع شهواته هذه الطريق تافهة وباطلة وبدون ثواب، ولا تتناسب إلا مع الأرواح المتجهة نحو العالم، ومن جهة أخرى فإن إماتة الذات هي تطليق مرهق ومضني وبدون فائدة وباطل، حب اللذات الجسدية الشهواية يضعف الإنسان، إشباع الشهوات تجعل المخلوق عبدًا لأهواء نفسه الباطلة، البحث عن اللذة يتلف الإنسان ويذله ويدني منزلته، إن سد حاجات ضرورات الوجود ليس شغف، والمحافظة على جسدنا ليبقى في صحة جيدة هو واجب، وبدون هذا لا نستطيع صيانة قنديل الحكمة، هذه هي الطريق الوسطى أيها الرهبان التي تبعد جانبًا الطريقين المتطرفين. الآلام: وجود الألم كان الحافز الأول لبوذا؛ ليبدأ سفرته التأملية، وأول مباشرة له مع الحياة والعالم الخارجي أطلعته على ثلاثة مظاهر، أو نماذج للألم هي، الأمل الناتج بسبب المرض، والألم الحاصل بسبب الشيخوخة. وأخيرًا الألم الذي يتركه حدث الموت في نفوس أقارب أصدقاء المتوفى، وبعد تأملات عميقة في الوجود الإنساني والكوني، وجد أن سبب الألم، وأصله يكمن في التغير الذي يثقل على الإنسان، ويقلق وجوده، وأطلق في عظة "بنارس" الحقيقة الشريعة المتعلقة بالآلام، قال: والآن أيها الرهبان هاكم الحقيقة الشريعة المتعلقة بالآلام، الولادة ألم الهرم، ألم المرض ألم، وجودك مع من لا تحبه ألم، كل رغبة غير محققة ألم، وبالاختصار، فكل الحالات التي يضع التعلق الجسد فيها ألم. وحول الحقيقة المتعلقة بأصل الألم يقول حقًّا هي الشهوة الجامحة التي تسبب التجديد في الوجود، والمصحوبة بالفرح الشهواني؛ فهي تبحث عن إشباعها مرة هنا ومرة هناك، هي شهوة إشباع الأهواء الفاسدة، وشهوة الحياة المستقبلية، وشهوة السعادة في هذه الحياة.

أما الحقيقة المتعلقة بإخماد الألم: فهي تتألف من إطفاء العطش المتجه نحو أهواء النفس الرديئة، وميول القلب الشريرة، وإخفاء هذا العطش، وهي الرفض القاطع لهذه الشهوة، والتحرر منها، وعدم التأسيس، والبناء عليها، وطريقة محو الألم تكون بسبب الطريق ذات الشعب الثمانية، وهي النظرات الصائبة، والكلمات الصائبة والسلوك الصائب، وطريقة الحياة الصائبة، والجهد الصائب، والأفكار الصائبة، والرؤية الصائبة. يستدل من الحقائق التي كشفها البوذا المتعلقة بأصل الألم، وطريقة إخماده ذات الشعب الثمانية، أن الألم أمر حقيقي مرتبطٌ بوجود الإنسان، وانتقاله من حالٍ الولادة إلى حال الهرم، ثم الموت، جميعها أمور حتمية لا يخرج أي إنسان من دائرتها، إلا أن سعي الإنسان إلى التغلب على قدره، والارتباط الجسدية هي التي تحدث الأمل لأن ارتباطات الجسد، وإشباع شهواته الآنية، والمستقبلة هي التي ترمي الإنسان في آتون العذاب والحزن، وإن إطفاء الشهوات، أي: شهوات التعلق هي المدخل إلى محو الألم، وبلوغ السلام النفسي لذلك يغلب الجانب الخلقي على مجمل الفكر الديني البوذي؛ إذ أن الشعب الثمانية لمحو الألم التي ذكرها تركز على المسائل السلوكية بشكل أساسي. من هنا الحكم العام السائد على فلسفة البوذية بأنها عملية خلقية تهتم بالفعل الإنساني أكثر من اهتمامها بالنواحي الماورائية الإلهية ويؤكد هذه النظرة بوذا نفسه في قوله: إذا تعلم كل العالم الحقيقة، نكون قد زرعنا بذور الطيبة، واللطف والوداد، والعطف والتساهل، والتسامح، ويصبح حصاد الأعمال الصالحة مدرارًا وأكثر وفرة، لعل الهدف الأساسي للدعوة البوذية هو بناء الإنسان المحب، والمتسامح والمتساهل؛ لأن حصاد هذه الأعمال هو الفرح والسلام، وهذا الإنسان الفائق هو في الوقت نفسه الإنسان الذي

تخلص من أناه وأنانيته بالأعمال الطيبة، والجودة واللطف، والعطف، والتساهل المستمر، نتوصل إلى طريق الخلود، وبالمحبة، والرحمة نصلح أنفسنا، ونجعلها تصل إلى الكمال. قول البوذا هذا يعني: أن بلوغ الكمال والخلود وكلاهما يكون خاليًا من الألم يكون بتطبيق القواعد الأخلاقية السليمة والحقيقية لذلك فإن الإنسان المحب يجد طريق الخلاص، وهو يشبه المحارب القوي الشهم الحازم، ويشبه أيضًا المحارب الحاذق الماهر المُدرب، ويشبه كذلك بطلًا منازلًا مجاهدًا قويًّا، وحكيمًا في أداء مهمته. ويعظ بوذا الرهبان ويدعوهم إلى ترك الأنا، وهي المسببة للألم، فيقول لهم: ولكن بما أنه يوجد أعمال؛ ولأن هذه الأعمال تدوم أعطوا كل عنايتكم للأعمال إن المقصد الأسمى للإنسان هو وضع حد للألم، ولن يكون له ذلك ما لم يعرف بذر الألم أي أصله، وهو الأطماع، والأهواء، والميول، والعطش إلى الحياة، ولا بد له أيضًا من معرفة الطريق المقدس ذي الشعب الثمانية السابق ذكرها لإزالة الألم، وعندما يعرف الإنسان الشريف جذر الألم، والطريق إلى إزالته، ويسير عليه رافضًا كل الأهواء والميول الشريرة، وهادمًا فكر الكلمة أنا أكون، وتاركًا الجهل، ومتوصلًا إلى الاستنارة يكون قد وضع حدًّا نهائيًّا لكل ألم في هذه الحياة. ومن ثم ستكون لنا وقفة -إن شاء الله تعالى- مع الأخلاق البوذية، هذا وإن الهدف المباشر لأخلاق البوذية هو بناء إنسان يكون سيد نفسه، وصالحًا، وطاهر القلب أما الهدف الأقصى، فهو تهيئة الإنسان لبلوغ حالة الفكر الهادئ الذي تخلص من فكرة الأنا، وليدخل في سلام الخلود.

ومن العناصر الرئيسة في الديانة البوذية: التأمل والحكمة: التأمل والحكمة عنصران أساسيان من عناصر، أو شعاب الطريقة البوذية، وهما النتيجة الطبيعية للسلوك الحق المعادلة واضحة العمل الصحيح يلازمه الفكر الصحيح، والموقف الصحيح، ثم إن الفكر والعمل معًا يرتبطان بوجود الحق. خاطب بوذا الرهبان في أيامه الأخيرة قائلًا: أيها الرهبان كونوا ملآ بالإيمان، ومتواضعي القلوب، وبعيدين عن الخطيئة، ومتلهفين، ونهمين للتعلم، وأقوياء ونشيطين، وأصحاب مروءة، وذوي عزم، وفعالين في تفكيركم، ومملوءين بالحكمة؛ على ذلك يكون الهدف من السلوك البوذي إحداث الفراغ النفس، وانصرافها إلى التفكر للامتلاء بالإيمان، والحكمة بأكثر من موضع من الإنجيل. يعلن بوذا أنه أخذ على عاتقه تأسيس مملكة الحقيقة، ويشير إلى أن الحقيقة سكنت قلبه وحصل على "النيرفانا" بعد أن أطفأ جذوة الأنا؛ فصار جسده عفيفًا طاهرًا وفكره محررًا من كل شهوة، لكن مع هذه التأملات التي يجب أن يلتزم بها الإنسان ليدخل روحه إلى الفردوس. أجاب البوذا عن هذا السؤال بقوله هناك خمسة تأملات هي التأمل بالمحبة والتأمل بالشفقة، والتأمل بالفرح، والتأمل بالنجاسة، والتأمل بطمأنينة الفكر، وصفائه، وهدوئه، والتأمل الخامس وهو الذي يتوج كل التأملات السابقة، ويرتفع فيه الإنسان عن كل أنواع التعلق إذا كانت التأملات الأربعة السابقة له تجعل الإنسان في حال الطمأنينة، والفرح، والشفقة والمحبة؛ فإن التأمل الخامس يجعله يرتفع، ويتجاوز

كل الانفعالات، وهي حالة صوفية ذاهلة لكل شيء وفوق كل عاطفة حتى العواطف النبيلة. كما أن التأملات الخمسة من حيث مضمونها تشكل محتوى الطريق التي تؤدي إلى الحكمة السامية؛ إذ أن بلوغ الحكمة يتطلب قدرات فائقة للطبيعة البشرية، والمميزات الأساسية للحكمة البوذية تتلخص في التالي، إن الحياة كلها ألم وهي إلى فناء، أي: أن الكل زائل، ولا يدوم، ولا يمكن لأي شيء أن يبقى على حاله وهو عرضة للتدفق المستمر من الأخطاء السائدة عند العالم، إنهم يتصورون الأشياء ثابتة أو على الأقل يتصور الإنسان أن فيه عنصرًا روحيًّا دائمًا يطلق عليه اسم الأنا، أو الذات، أو الفكر، وفكرة الأنا الشخصية هي التي تدعوهم إلى أنواع التعلقات، وإلى محاربة بعضهم البعض للدفاع عن هذه الأنا المتوهمة أنها خالدة. وقد عارض بوذا هذه الفكرة، كما أنه رفض قول الهندوسية: بأن الروح أو الأنا الفردية تتحد بالأنا الكونية، وأعلن أن الأرواح البشرية تتشكل من التحام زمني مؤقت، وعابر لخمس مجموعات من العوامل تُسمى الخامدات أولاها جسدية مادية، والباقية غير جسدية، وغير مادية. هذا؛ ويبقى عن البوذية كلام يرتبط بالفهم البوذي للإنسان و"النيرفانا" وانتشار هذه البوذية في أكثر من بلد بخلاف الهند كالصين واليابان. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله صحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 الديانة البوذية (3).

الدرس: 9 الديانة البوذية (3).

عقيدة البوذية وفلسفتها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (الديانة البوذية (3)) عقيدة البوذية وفلسفتها الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، أما بعد: فننتقل إلى عقيدة البوذية وفلسفتها؛ لبيان هذه العقيدة ومعالمها: يعتقد بوذا ككل المذاهب الهندية في مبدأ التناسخ، وأهم ما تعمل له البوذية هو -كما سبق- التخلص من تكرار المولد، والوصول إلى "النيرفانا" والخطاب الأول الذي ألقاه بوذا على رفاقه في بنارس عقب أن تلقى الإشراق يحوي أهم عناصر الفلسفة البوذية. ونحن ننقل نصه فيما يلي من كتاب البوذيين المقدس: "أيها الرهبان هذه هي الحقيقة المقدسة عن الألم المولد، ألم الحرام، ألم المرض، ألم الموت، ألم الاجتماع بغير المألوف، ألم الافتراق عن المألوف، ألم عدم ظفر الرجل بما يهوى ألم، أيها الرهبان هذه هي الحقيقة المقدسة عن مصدر الألم الظمأ، والشهوة، والهوى، والرغبة في التلذذ، وفي التكوين في القوة ذلك الهوى، وتلك الشهوة تجر من مولد إلى مولد، ومن ألم إلى ألم". ويسوق بوذا سلسلة قضايا تؤدي إلى هذه الحقيقة هي: "أن الهوى أصل الألم، أي: يقول: إذا وجدت الشهوة، والهوى وجد التحديد، والتخصيص، وإذا وجد التحدي، د والتخصيص وجد الجهل، وإذا وجد الجهل وجد الخطأ وإذا وجد الخطأ وجد الحزن؛ فالحزن نتيجة للهوى والشهوات، أيها الرهبان هذه هي الحقيقة المقدسة عن إعدام الألم، إعدام الشهوة والهوى والظمأ، والرغبة إعدامًا باتًّا". أيها الرهبان، هذه هي الحقيقة المقدسة عن سبيل إعدام الألم سلوك الطريق المثمن ذي الثماني شعب الاعتقاد الصحيح العزم، الصحيح القول الصحيح العمل، الصحيح العيش، الصحيح الجهد، الصحيح الفكر، الصحيح التأمل، الصحيح، ونستطيع من هذا الخطاب الذي يعد فاتحة تبشير بوذا أن نستخلص ما يسميه البوذيون الحقائق الأربعة، وهي:

الحقيقة الأولى: الألم موجود، فالولادة والمرض، والموت، ومتاعب الحياة من فراق أحبة، أو لقاء أعداء كلها تأتي بالألم. الحقيقة الثانية: لهذا الألم سبب، وعلة الألم هي الشهوات والرغبات؛ لأنها التي تنمي فينا الرغبة في اللذة، والتملك، والشوق إلى عالم المستقبل. الحقيقة الثالثة: هذا السبب قابل للزوال، ويبطل الحزن متى بطلت الشهوة ما انطفأ الظمأ للأشياء. الحقيقة الرابعة: الوسيلة لزواله موجودة، ولإبطال الألم طريق واحد هو إتباع الشعب الثماني التي سبق ذكرها، والتي يصوغها بعض الكتاب في عبارات أخرى الآراء السليمة، الشعور الصائب، القول الحق، السلوك الحسن، الحياة الفضلى، السعي المشكور، الذكرى الصالحة، التأمل الصحيح، وهناك قيودٌ عشرةٌ تحول دون بلوغِ الإنسانية درجة النجاة والسلام، وتلك القيود هي: 1 - الوهم الخادع في وجود النفس. 2 - الشك في بوذا وتعاليمه. 3 - الاعتقاد في تأثير الطقوس والتقاليد الدينية. 4 - الشهوة. 5 - الكراهية. 6 - الغرور. 7 - الرغبة في البقاء المادي. 8 - الكبرياء.

9 - الاعتداد بالبر الذاتي. 10 - الجهل. ومن الممكن تحطيم هذه القيود لمن يؤمن بالحقائق الأربعة، ويعمل في ضوء هديها، وتتحطم هذه القيود شيئًا فشيئًا على درجات أربع: 1 - فمجرد الإيمان بالحقائق الأربعة يحطم القيود الثلاثة الأولى؛ لأن الإيمان بها هو اتباع لأفكار بوذا، وذلك يستلزم عدم الشك فيه، وعدم الاعتقاد في الطقوس والتقاليد الدينية "الهندوكية وغيرها" واتباع بوذا في فكرته عن التناسخ، وأن الإنسان حلقة في سلسلة متتابعة، وليس له وجود مستقل. 2 - وعندما يؤمن الإنسان بالحقيقة الثانية، وهي أن علة الألم هي الرغبات والشهوات تخف حدة الشهوة والكراهية، والغرور من نفسه. 3 - إذا اتبع الحقيقة الثالثة، وتأكد أنه لا بد للقضاء على الألم من القضاء على الشهوة تحطمت قيود الشهوة، والكراهية، والغرور تحطيمًا نهائيًّا. 4 - فإذا اتبع الحقيقة الرابعة، واتبع الشعب الثماني، وتخلق بها تهدمت باقي القيود العشرة، وبذلك يصل الإنسان إلى الهدف السامي الذي يطلبه وهو "النيرفانا" أو النجاة. وهكذا ترى البوذية أن الكون أزلي مستمر ليس له مبدأ ولا نهاية، وترى أن المولد الفردي هو منشأ الآلام التي تملأ حياة الفرد، وليس هذا المولد إلا نتيجة للشهوات، والرغبات، والعواطف، والميول الفردية المتقدمة لفرد قد سبق هذا الفرد، فتجددت حياة هذه النفس لتلاقي جزاء ما خضعت للشهوات والرغائب من قبل، ثم تكون للنفس في دورها الجديد شهوات أخرى ورغائب فتجدد مرة

أخرى لنفس السبب، وهكذا إلى ما لانهاية فالشهوات والعواطف هي سبب هذا التسلسل الذي سيمتد إلى ما لا نهاية، ولا تنتهي السلسلة المشؤمة حتى تعم بذورها إلى الشهوات والرغبات والعواطف والميول؛ فيتجدد الميلاد، والهرم، والموت، وسائر أوجاع الحياة وحسراتها. وما بعثت البوذاوات في الكون إلا لإعدام بذور الآلام والحسرات. قال بوذا: لولا ثلاثة في الدنيا لما ظهر في الكون الكامل المقدس الأعلى بوذا ولا الشريعة، ولا أشرق في الكون التعليم الذي يعرضه الكامل، وما هذا الثالوث إلا المولد والهرم والموت، وما تبشير بوذا إلا الدعوة إلى النجاة من الآلام، والحسرات باجتثاث شأفتها، وقلع أصولها. وأهم شيء في التعليم البوذي هو الحقائق الأربع التي سبق ذكرها فمن آمن بها، واتبعها كتبت له النجاة، والسعادة، ومن لم يعلمها، ولم يؤمن بها ظل في شقائه وآلامه يموت ويحي، ثم يهرب ويهلك، ويولد من جديد، ولا تنقطع هذه السلسلة حتى يعرف هذه الحقائق ويتبعها. وقد كشفت الأسرار لبوذا، فعرف هذه الحقائق، وآمن بها، واتبعها؛ ولذلك يقول: لقد أحرصت علم الحقائق الأربع المقدسة، وأحرصت فهمها بانجلاء تام، فصرت على يقينٍ بأني قد ظفرت بالبوذية الكبرى وقد عرفت أنه قد ضمنت لي النجاة بروحي ومولدي هذا آخر مولد، وليس لي بعد هذا من مولد مستألف. وإتمام للفلسفة البوذية نذكر الوصايا العشر التي تنسب إلى بوذا وهي: 1 - يجب ألا تقضي على حياة. 2 - يجب ألا تأخذ ما يعطى إليك.

3 - يجب ألا تقول ما هو غير صحيح. 4 - يجب ألا تستعمل شرابًا مسكرًا. 5 - يجب ألا تباشر علاقة جنسية محرمة. 6 - يجب ألا تأكل في الليل طعامًا نضج في غير أوانه. 7 - يجب ألا تكلل راسك بالزهر، وألا تستعمل العطور. 8 - يجب ألا تقتني المقاعد، والمساند الفخمة. 9 - يجب ألا تحضر حفلة رقصٍ أو غناء. 10 - يجب ألا تقتني ذهبًا أو فضة. هذه فلسفة البوذية ومعتقداتها، وأذكر شيئًا عن هذه المعتقدات بشيء من التفصيل فأقول الله في التفكير البوذي. يقول العلامة "رادها كريشنان" الذي كان نائب رئيس الجمهورية الهندية سنة ألف وتسعمائة وخمسون: إن بوذا لا يقر العقائد، ولا يؤسس مذاهب فلسفية، ولا يزعم أنه جاء إلى الأرض بحكمة خصوصية ملكها من الأزل، بل يعلن بكل جلاء أنه كسب هذه الحكمة بجهوده الجبارة، فيما سبق له من الحياة على الأرض دهورًا وأحقابًا؛ لتعدد المواليد، وهو يرشد أتباعه إلى نظام يضمن الرقي الأخلاقي، ولا يدعوهم إلى دين كسائر الأديان؛ إنه يري أتباعه سبيلًا، ولا يقر عقيدة؛ لأنه يرى أن قبول عقيدة يصد عن البحث وعن الحق فكثيرًا ما ترفض الحقائق؛ لأنها تخالف عقيدة يتمسك بها الذين جاءت لهم هذه الحقائق. فبوذا يؤسس دعوته على حصوله على المعرفة، أو بعبارة أخرى على تجربته الروحية التي لا يمكن بيانها بالألفاظ فدعوته حكاية عن تجربته وعن الطريق المؤدي إليها، وهو

يقول: إن الحق لا يعرف بالنظريات بل بالسير في طريقه، وعلى هذا لم يعنَ بوذا بالحديث عن الإله، ولم يشغل نفسه بالكلام عنه إثباتًا أو إنكارًا، وتحاشا كل ما يتصل بالبحوث اللاهوتية وما وراء الطبيعة، أو عن القضايا الدقيقة في الكون؛ إذ كان يرى أن خلاص الإنسان متوقف عليه هو لا على الإله. ويرى أن الإنسان صانع مصيره، ومن كلماته في ذلك كونوا لأنفسكم جزائر قائمة لنفسها، وكونوا لأنفسكم موائل وكهوفًا، ولا تعتصموا بملاذ خارجي ولا تحتموا بغير أنفسكم، وكان ينهى أصحابه، وزواره أن يخوضوا في هذه الأبحاث، ويوبخهم على سؤالهم عن قضايا دقيقة مجردة، ويأمرهم بالخوض في أعمالهم، ودواعيها وميولهم، وعواطفها، وعواملها، وقد سأله أحد مريديه مرة، هل الذات موجودة، فسكت فسأله هل الذات ليست موجودة؛ فظل ساكتًا فسأله، هل هذا الكون دائمًا أم غير دائم. وأخيرًا قال بوذا لهذا المريد: هل قلت لك: جئني أعلمك عن الذات، وعن الكون لا لم أقل: هذا أيها المريدون لا تفكروا، كما يفكر الناس، بل فكروا هكذا هذا ألم هذا مصدر الألم هذا إعدام الألم، هذا سبيل إعدام الألم، ولكن بوذا اتجه أحيانًا إلى جانب الإنكار أكثر من اتجاهه إلى جانب الإثبات فقد وقف في إحدى خطبه يسخر ممن يقولون بوجود الإله. وكان مما قاله في ذلك: إن المشايخ الذين يتكلمون عن الله، وهم لم يروه وجهًا لوجه كالعاشق الذي يذوب كمدًا، وهو لا يعرف من هي حبيبته، أو كالذي يبني السلم، وهو لا يدري أين يوجد القصر، أو كالذي يريد أن يعبر نهرا فينادي الشاطئ الآخر ليقدم له. وسنعود إلى هذا التفكير بالنقد فيما بعد إن شاء الله.

ومن أجل إهمال الإله أو الاتجاه لنكرانه أحيانًا اتجه براهمة براهمة عصره إلى أن يصموه بوصمة الإلحاد، والإيمان بإله اتجاه نفسي قوي لا يقل عن قوة الغرائز في البشر، وإهمال هذا الاتجاه يحدث ارتباكًا واضطرابًا؛ ومن أجل هذا نجد أتباع بوذا من بعده يفكرون في الإله، ويعملون على الوصول إليه أو التعرف عليه، ولما كان بوذا ترك هذا المجال خاليًا، فقد لعبت بهم الأهواء فاتجه بعضهم إلى اعتقاد أن بوذا ليس إنسانًا محضًا، بل إن روح الله قد حلت به. وهذه العقيدة تشبه عقيدة الحلول التي يعتنقها بعض المسيحيين في السيد المسيح فيقولون: إن شخصيته ثنائية لاهوتية وناسوتية، وأن الشخصية اللاهوتية حلت بالناسوت، وتسربت هذه العقيدة أيضًا إلى مدعي التشيع فقالوا بها بما يتعلق بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بل ذهب بعض البوذيين إلى القول: بأن بوذا كائن لاهوتي هبط إلى هذا العالم؛ لينقذه مما فيه من شرور. امتزاج البوذية بالهندوكية: بقي موضوع خطير يتصل بالإله عند بوذا؛ فاتجاهات البوذية الخلقية واللاعقائدية سببت سرعة انتشار البوذية في الهند لسهولة هذه الاتجاهات، ولعدم تعارضها مع آلهة الهندوس، وعلى هذا كان كثير من الهنود يتبعون البوذية في أخلاقها، ويظلون مع ذلك على ولائهم لآلهة الهندوس، ومن هنا بدأت البوذية تختلط في مظاهرها بالهندوسية، وبدأ البوذيون الذين يقوم مذهبهم على عدم الاعتراف بالإله يعترفون بآلهة الهندوكية، ويتقربون إليها لذلك لم تكن مظاهر البوذية خالصة لها، بل كانت خليطًا منها. ومن الهندوسية. ومن هنا أخذت البوذية تتلاشى من الهند شيئًا فشيئًا، ويندمج أتباعها في تقاليد الهندوسية وطقوسها وآلهتها، ووضع البوذيون الذين قالوا: إن بوذا كان إلهي

تمثال بوذا بين آلهة الهندوس ولم يعارض الهندوس؛ لأن العقل الهندي كما قلنا من قبل لا يضيره أن يضم إلهًا جديدًا إلى ما يعترف به من آلهة وبمرور الزمن ذهب تمثال بوذا إلى آلهة كثيرة، وذهب أتباع البوذية بين الهندوس فلم يعد للبوذية شأن في شبه القارة الهندية، وبجوار تمثال بوذا انتعش آلهة آخرون في البلدان الأخرى التي دخلتها البوذية، فظهر في اليابان تمثال الإله "شنتو" وفي الصين ظهر تمثال الإله "تاوسي". البوذية وفلسفة اليوجا: إن عقيدة بوذا في آلهة الهندوس ليس إلا عودًا إلى تفكير الجنان يوجا الذي يرى في كل الديانات، وفي كل الفلسفات حق، ولكن هذا الحق ليس سوى ذرة من الحق الأعظم الكامل، فهذا المذهب لا يعترض على دين، أو فلسفة، ويرى أن أي دينٍ، أو فلسفة ليس هو كل شيء، وليس هو كل الحق، ومعتنق هذا التفكير لا ينتمي إلى دينٍ أو مذهب؛ لأنه يرى أتباع كل الديانات المختلفة إخوة له مهما اختلفوا؛ فجنان يوجا مذهب يتسع لمعتقدات الجميع، ويأبى أن يتقيد بقيود أي منها. اليوجا خدعة ضد الدين والوطن: ويجب أن نقرر بشدة أن إثارة هذا المذهب والدعاية له ترمي إلى محاربة الإسلام بطري غير مباشر وقد رأيت هذه المحاولات في عدة بلاد فالإسلام هو القوة التي قهرت المنصرين المسيحيين والبوذيين؛ فإذا صرفوا الناس عنه بطريق، أو بآخر ولو باسم الجنان يوجا التي تتسع لكل المعتقدات، ولا تتقيد بقيود، أي: منها إن هذا كسب له عظيم، وبعد أن يصرف المسلم عن الإسلام بهذه الحيلة البارعة يمكن نقله إلى التشكيك فجذبه إلى دائرة أخرى؛ فليحذر المسلم اليوجا، ومداخلها ودعاتها.

وقد نشرت جريدة الأخبار القاهرية الصادرة في السادس عشر من شهر سبع سنة ألف تسعمائة وخمس وسبعين من الميلاد خبرًا عن إنشاء مكتب بالقاهرة باسم تدريبات اليوجا، وكان المكتب بخلف هذه التدريبات يباشر نشاطًا دينيًّا لتمنيع الأديان، والانتقاص من القيم الروحية التي تتضمنها، كما ثبت أنه يمول من جهات صهيونية، ولهذا أصدرت، وزارة الداخلية قرارًا بإغلاق هذا المكتب، وترحيل الأجانب الذين يعملون فيه. ومن العقائد البوذية إلى تعاليم البوذية هل البوذية دين أو فلسفة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على فهمنا لمعنى الدين، ومعنى الفلسفة إذا كان المقصود بالدين الإيمان بقوة علوية محيطة بنا، ومتصرفة في أقدارنا، وقبول طائفة من المعتقدات على أنها حقائق كشفت لنا؛ فإن بوذا بمقتضى هذا لم يكن صاحب دين، فقد رأيناه لا يتكلم عن الله، بل ربما سخر ممن تكلموا عنه، غير أن أتباع بوذا بعده رفعوه إلى درجة الآلهة، وقبلوا كلماته على أنها حقائق لا يتطرق إليها شك. وهم بهذا يرفعون فلسفة بوذا إلى مستوى الدين، ويرون أنه لم يتكلم عن الله؛ لأنه هو الله فالبوذية بناءً على رأي بوذا فلسفة، ولكنها في رأي البوذيين دين، ونحن نتفق مع بوذا، ونرى أنه لم يكن نبيًّا، ولا صاحب دين ولم يتلقَّ وحيًا، إنما هو باحث فيلسوف مفكر عاش على الأرض، وفكر فيما حوله من الأشياء، ورأى ما ينزل بهم من متاعب، وانتفع في تفكيره بما سبقه من فلسفات، وأفكار، واهتدى إلى نتائج بعضها من نتائج من سبقوه.

من تعاليم البوذية.

ويقول مولانا أبو المكارم: أزاد الذي كان وزيرًا للمعارف بالهند ما يلي عن ذلك الموضوع: يبدو لي أن وضع بوذا في صفوف الفلاسفة أسهل من وضعه في صف الأنبياء؛ وذلك لأنه لم يتعرض في مباحثه لله، بل حاول حل مسألة الحياة، وانتهى منها دون التحرش بالله وبوجوده، إنه قد قطع علاقة له مع الحياة الدينية في الهند التي كانت تدين بآلهة، وإلهات لا تعد، ولا تحصى. إنه بدأ بحثه وفرغ منه دون أن يلجأ للاعتقاد بالله، وإن الأساس الذي بنا عليه بحثه أساس فلسفي، فقال: إن هدف الجهد الإنساني يجب أن يكون الوصول إلى حل مسألة الحياة، وذلك من المستطاع دون الاستعانة بوجود فوق العقل أجل أسرع أتباعه بعد وفاته إلى تحويل تعاليمه إلى مذهب ديني، ولما وجدوا أنه ترك المكان الذي يحتله الله في الأديان فارغًا عمدوا إلى بوذا نفسه، فحملوه ورفعوه إلى عرش الإله الفارغ، إلا أن بوذا ليس بمسئول عما فعله أتباعه. وبعض المفكرين الغربيين يرون البوذية دينًا؛ لأنها ترسم الطريق للتخلص من الذنوب؛ لأن فيها جانبًا روحيًّا، ولأن معتنقيها كانوا يمتازون بحماسة قوية لا تتوافر إلا مع الأديان. من تعاليم البوذية لا عقائد بلا عمل: هذا الموضوع يرتبط بالموضوع السابق إذا كنا آنفا قلنا: إن بوذا ليس نبيًّا، لكنه فيلسوف فإننا هنا ننقل عن العلامة الهندي رادها "كريشنان" أن بوذا لم يكن نبيًّا؛ لأنه لم يقرر عقائد، ولم يكن كذلك فيلسوفًا؛ لأنه لم يؤسس مذاهب فلسفية، إنما أسس دعوته بناءً على تجربته الروحية التي لا يمكن بيانها بألفاظ. فدعوته حكاية عن هذه التجربة، وعن الطريق المؤدي إليها، وبوذا إن الحق لا يعرف بالنظريات، بل يعرف بالسير المتواصل في طريقه، وفي ذلك يقول أيضًا:

إن عملي ملكي عملي ميراثي، وعملي هو الرحم الذي يحملني وعملي هو الجنس الذي أنتمي إليه، وعملي هو الملجأ الذي التجئ به. فأساس النظام الذي يضعه بوذا العمل لا العقيدة؛ فقد كان يحاول خلق عادة لا إقرار عقيدة، وعلى هذا ليس في تعاليمه إلا القليل الذي يصح أن يصف بالعقيدة، كما أنه لم يأمر بعبادات، ولا رياضيات تقشفية، وكل إلحاحه كان على التدريب الأخلاقي، ومن التعاليم البوذية الجانب الأخلاقي. أخلاق الجماعة البوذية: هناك صلة بين البوذية والجينية في مسألة الأخلاق؛ فالجينية لهم فرقتان فرقة خاصة، وهم الرهبان المنقطعون للتبتل وعامة، وهم أتباع الجينية من غير الرهبان، أما في البوذية فلم تكن هناك طائفة خاصة بالأسس والرهبان، وكان أتباع بوذا جماعة واحدة يتعاون أفرادها على الوعظ والإرشاد يلتزمون حياة شعارها ضبط النفس من الشهوات، وليست هناك شعائر يتبعها من يريد الالتحاق بالبوذية، وعلى الراغب في الالتحاق بها أن يتنازل عن ماله وعقاره، ويحمل مخلاته للسؤال، وينضم إلى الجماعة ويتخلق بأخلاقهم. ولعل من الممكن أن نقول: إن فكرة التخلص من الأموال لدخول البوذية قد تسربت إلى المسيحية، حيث يروي متى، ومرقص، ولوقا عن عيسى: أنه قال لشاب غني أراد أن يدخل المسيحية بِعْ أملاكك، وأعطي ثمنها للفقراء، وتعال اتبعني، فلم يقبل الشاب، فقال عيسى: يعسر أن يدخل غني ملكوت الله". وليس ضبط النفس، وقهر الشهوات بدرجة واحدة بين أتباع بوذا، بل كانوا يتفاوتون في ذلك تبعًا لمقدرتهم الخاصة، ولاحترام الحياة إنسانية كانت، أو حيوانية.

من أهم الأخلاق البوذية فليس لبوذي أن يقتل حيوانًا للهو كالصيد، أو في جد كذبحه للأكل، بل عليه أن يرفق بالحيوان، ويعده أخاه في الخلق، ولا يراه خلقًا أدنى منه، فالهدوء الروحي، والحب لكل نسمة هو ما أرشد له بوذا، والمحبة الشاملة أهم، وأفضل من الأعمال الحسنة لدى الجماعة البوذية. وقد قال بوذا في ذلك: الحسنات على اختلاف أنواعها لا تبلغ سدس فضل المحبة التي تحرر القلب من شوائب الشر؛ لأن مثل هذه المحبة يتضمن سائر الحسنات، إن المحبة تشرق نورًا وبهاءً، ترون الأمة تحيط بوليدها حتى في الأخطار التي تهدد حياتها، كذلك يجب على كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق لسائر الخلق. ومن التعاليم البوذية ما يرتبط بالفلسفة في جانب الثروة، فلسفة الثروة عند بوذا: تكلمنا آنفا عن رأي بوذا فيما يتعلق بالمال والعقار، وذكرنا أنه حث من يريد دخول النظام أن يتنازل عن أمواله وعقاره، ثم يحمل مخلاته، ويلتحق بالجماعة، وذلك هو رأي بوذا تجاه الثروة، ولكنه أورد مزيدًا من الشرح الذي يظهر أن هذا الاتجاه هو الغالب؛ لأن الثروة في أكثر الأحيان تستعبد صاحبها، وتجذب نفسه، وتصير هدفًا لذاتها. أما إذا لم تشغف النفس بالثروة، ولم يكن الإنسان عبدًا لها لو تكن هدفًا لذاتها، وإنما تجمع لتنفق في الوجوه الصحيحة؛ فإن الثروة حينذاك لا تصير نقمة، ولا شرًّا، بل تصبح نعمة، وبركة للإنسان، ومثلها الحياة، والسلطان، ومما يتصل بالثروة رأيه في العمل والبطالة، فقد كان واضحًا من سياسة الكشكول والسؤال أن بوذا يتجه للبطالة؛ ولذلك سأله أحد الجينيين مرة هل أنت تدعو إلى ترك الأعمال، وهجر الأشغال؟ فأجابه إني أدعو إلى ترك كل عمل قبيح يجر إلى الشرور، ولكني بجنب هذا أدعو إلى القيام بكل ما هو حسن للجسد واللسان، والفكر، وكذلك أدعو إلى الإقبال على كل عمل يؤدي إلى الخير والسعادة، ولكن سلوك بوذا على كل حال كان يناقض حب العمل.

ومن التعاليم البوذية إلغاء الطبقات: تحدثنا من قبل عن نظام الطبقات في الهندوسية، ولعل من أهم المبادئ التي نادى بها بوذا هي إلغاء هذا النظام، ومن أقواله في ذلك: اعلم أنه كما تفقد الأنهار الكبيرة أسمائها عندما تصب في البحر، كذلك تبطل الطبقات أربع عندما يدخل الشخص في النظام، ويقبل الشريعة إن ما يدعو إليه بوذا هو الرهبنة، وفي الرهبنة يتساوى سائر البشر، ولكن يؤخذ على هذا الاتجاه أنه جعل إلغاء نظام الطبقات متوقفًا على دخول البوذية، فلم يدعو للمساواة في حد ذاتها. أما الإسلام: فهتف بالمساواة مبدأ عاما بين البشر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فالآية تنادي الناس، ولا تنادي المؤمنين فقط، وهي تتكلم عن مبدأ الخلق أن الناس ينحدرون من أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، فلا معنى للتفاوت والطبقية. وقد سبق أن قلنا: إن البوذية؛ لأنها لم تتكلم عن الله سرعان ما انمحت وذابت في الهندوسية في الهند، وبالتالي سرعان ما ضاعت المساواة إذ ربطها بوذا بدخول البوذية. ومن التعاليم البوذية المرأة والبوذية: يقول علامة "رادها كريشنان" النائب الأسبق لرئيس الجمهورية الهندية في بحثه سالف الذكر: إن المرأة الهندية في عصر بوذا لم تكن منعزلة ولكننا مع ذلك نجد بوذا يتردد كثيرًا في قبولها؛ لتكون من أتباع دينه، وقد سأله مرة أحد خاصته، وهو ابن عمه "أنندا" كيف نعامل النساء أيها السيد؟ فأجاب لا تنظر إليهن، ولكن إذا اضطررنا إلى النظر إليهن لا تخاطبهن، ولكن إذا خاطبننا إذًا كن على حذر تام منهن.

لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم.

وكان "أنندا" من أنصار المرأة، وكان ابن عم بوذا وصفيه، فما زال يلح على بوذا حتى قبل ضم النساء إلى جماعته، وأتباعه، على أنه على الرغم من ذلك كان يرى في هذا خطر على المجتمع البوذي، وقد قال لـ"أنندا" مرة: لو لم نضم المرأة لدام النظام الخالص طويلًا، أما الآن بعد دخول المرأة بيننا فلا أراه يدوم طويلًا. وقد أُثِرَ عن بوذا قوله: للنظام من بعدي أن يغير من سننه ما يراه مضرًّا لمقاصده وحياته، ويرى العلامة "رادها كريشنان": أن بوذا عنى بهذه الجملة لأتباعه طرد النساء إذا رأوا منهن خطرًا على الدعوة. لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم هذا؛ ونذكر لمحة تاريخية عن البوذية، والكلام عن تاريخ البوذية يشمل اتجاهين أحدهما دراسة البوذية من ناحية تطورها الفكري والفلسفي والثاني دراسة البوذية من ناحية انتشارها، وما صادفته من انكماش وانبساط، وعوامل ذلك، وفيما يلي حديثنا عن كل من هذين الاتجاهين: أ- تطور البوذية الفكري والفلسفي: صورنا فيما سبق البوذية في حياة مؤسسها فشهدنها نظاما أخلاقيا واتجاهًا تربويًّا، ولكنها أخذت تتطور من قرن إلى قرن، فدخلتها مسائل عن الإلهيات والكون كان بوذا قد نهى عنها، وحذر منها مريديه، ولكنهم بعده بحثوا فيها، وأدرجوها في التعليم نفسه، فأصبحت البوذية مذهبًا فكريًّا ومباحث عقلية، وبعدت البوذية الجديدة بذلك عن القديمة. لقد كانت البوذية القديمة تزكية وتربية، فأصبحت البوذية الحديثة فكرًا وفلسفة، وقد قسمها العلماء حسب الطابع العام إلى البوذية القديمة والبوذية الجديدة،

فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية، وميزتها سذاجة المنطق، وإثارة العاطفة، وطابعها الحض على الخضوع، لقوانين النظام والاهتمام بهدي شارعها، وكأنها هي التي دعا إليها بوذا نفسه، وأتبعها مريدوه وأتباعه الملازمون له. أما البوذية الجديدة فهي عبارة عن تعاليم بوذا مختلطة بآراءَ دقيقةٍ في الكون، وأفكار مجردة عن الحياة، والنجاة مؤسسة على نظريات فلسفية وقياسات عقلية قد سمحت بها قرائح المتأخرين من الشراح، والزعماء والغالب عليها صبغة الفلسفة، وقد ارتبط التغير الفلسفي البوذي بانتشار البوذية، ودخولها أقطار كثيرة؛ فإن أتباعها هنا، وهناك أكثروا فيها القياس والتأويل حسب عقولهم، وثقافاتهم حتى بعدت عن أصلها الساذج البسيط وسنسوق فيما يلي اتجاه الفرق الفلسفية الجديدة، ويلاحظ أن أكثرها أتخذ الاعتراف بالإله أساسًا لفلسفته. فرقة تقول بوحدانية الله، وأنه أوجد أولًا عددًا محدودًا من الأرواح، ثم ترك الإنشاء، والتعمير مكتفيًا بما وضعه في العالم من قوانين، كالبذور تسير سيرها الطبيعي بلا نهاية، وهذه الأرواح هي التي تخلق الخير والشر، فرقة ترى أنه أودع هذه الأرواح التي أرسلها للعالم قوى تستطيع منها: أن تعرف الخير من الشر من أجل ذلك لا يرسل الله رسلًا اكتفاء بذلك. وفرقة ترى: أن الله يفرغ الكمالات الإنسانية في كل زمنٍ على إنسان يتجرد لعبادته ويبتعد عن إرضاء الشهوات الحيوانية وهذا الإنسان المختار يحل محل الإله في إظهار الرضا عن بعض الناس، أو الغضب عليهم تبعا لما يأتونه من الأعمال، ويعرفه الناس، ويلتفون حوله، وتبالغ فرقة أخرى في تعبير المعنى السابق. تقول: إن الله يحل في أية صورة يختارها من صور أفراد الإنسان حلول تطهير، وتكميل لا حلول استقرار، كاللام في البلاد التبت.

وتتكلم كل الفرق عن التناسخ وارتباطه بالكرما، ولكن بعض الفرق ترى تناسخ النوع الإنساني مقصور عليه، والتناسخ الحيواني مقصور عليه، فلا تنتقل روح من إنسان إلى حيوان، ولا العكس، وتزيد فرقة أخرى في تضييق دائرة التناسخ، فترى أن روح العالم تنتقل إلى صانع وهكذا. ب- انتشار البوذية: انتشرت البوذية في عهد بوذا انتشارًا واسعًا بين الطبقات العليا، والطبقات الدنيا. أما طبقة الملوك والجنود: فقد دخلت البوذية تخلصا من سلطان البراهمة الذين أثاروا سخط جميع الطبقات الأخرى باستبدادهم وتعسفهم، أما الطبقات الدنيا: فقد دفعت بنفسها إلى البوذية؛ لتتخلص مما عانته في رحاب الهندوسية من اضطهاد واحتقار، ولكن البوذية بدأت تنكمش بعد بوذا. وقد سبق أن ذكرنا: أن من أهم أسباب انكماشها أنها لم تعنى بالكلام عن الإله بعبارة أخرى تركت فراغًا كبيرًا في نفوس أتباعها، وبمرور الزمن ملأ أتباعها هذا الفراغ بآلهة الهندوس، أو بعابدة بوذا نفسه، أو واتخاذه إلهًا، ويتصل بهذا أيضًا أن بوذا لم يبنِ معابد، ولم يأمر أتباعه بممارسة أي لونٍ من ألوان العبادة؛ بسبب هذا لجأ أتباع بوذا إلى معابد الهندوس فوضعوا فيها تمثال بوذا. وأصبح كل ما زاد هو إله جديد أضيف إلى آلهة الهندوس المتعددة. والعقل الهندي يرحب بالمزيد من الآلهة، وهكذا أخذت البوذية تتلاشى في الهندوسية، وأخذت الهندوسية تمتصها، وتمتص أتباعها يومًا بعد يوم وكان سبب ضعف البوذية في الهند -بالإضافة إلى ما سبق-: أن البوذية اهتمت بإصلاح الباطل، أي: إصلاح الأخلاق، فحاربت الشهوة، والغور والكبرياء، وألزمت بالشعب

الثماني من رأي سليم، وشعور صائب، وسلوك حسن إلى آخره. ولكن الهندوسية قنعت بأشياء ظاهرية كالغسل في الأنهار المقدسة، والأخذ بالطقوس، والقرابين، ومعالجة الظاهر، ومعالجة الظاهر أيسر وأسهل من معالجة الأمور الباطنية؛ ولهذا تخلى البوذيون يومًا بعد يوم عن صراعهم مع نفوسهم، واكتفوا بقربان يقدمونه، أو مظهر يظهرون به. كما ترى الهندوسية مما ساعد على ذلك تأصل نظام الطبقات الذي رفضته البوذية، واحتواء الهندوسية على تقاليد القوم وعاداتهم مما جرهم إليها يوما بعد يوم. هذا ما آلت إليه حال البوذية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، ففي داخل الهند كانت البوذية تضعف، وتنكمش، ولم تكن البوذية قد عرفت بعد طريقها خارج الهند، وجاء الملك العظيم أسوكا، والبوذية على وشك أن تنهار، فاعتنقها، وبعث فيها الحياة مرة أخرى، ودفع بها إلى الخارج والمؤرخون يعدونه للبوذية شبيهًا بالقديس بولس القسطنطين الأكبر بالنسبة للمسيحية. فتعالى بنا نقص طرفًا من حديث هذا الملك العظيم أعني عندهم. أسوكا وانتشار البوذية: كان الإسكندر المقدوني قد استولى على السند في زحفه نحو الشرق ولكنه لم يتقدم نحو نهر كينج، ولم يسيطر على باقي الهند؛ لأن المقدونيين رفضوا أن يسيروا معه في هذا العالم المجهول، وألَّفَ المقدونيون مملكةً صغيرة في هذا الركن من الهند في سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين قبل الميلاد تمكن الأمير "شاندرا غوبتا" الذي ينحدر لأسرة موريا أن يجمع حوله قبائل عديدة من منطقة التلال، وأن يستولي على المملكة الإغريقية بالإنجاب، ويزيل عن الهند آثار الحكم الإغريقي وجاء ابنه بعده فبسط رقعة مملكته، فلما جاء حفيده أسوكا، وجد نفسه حاكمًا

على الأقاليم الممتدة من أفغانستان إلى مدراس، وصار أسوكا من ستة مائتين وأربع وستين إلى مائتين وسبع وثلاثين قبل الميلاد في مطلع حياته سيرة أبيه وجده في محاولة التوسع عن طريق الحرب، وبينما كان أسوكا في قمة انتصاراته الحربية أحس باشمئزاز من هول الحروب وقسوتها، فتخلى عن الحرب، وكره النصر عن طريقها، وزهدت نفسه فيها تمام، وتبنَّى مذهب البوذية. ثم أعلن أن فتوحه ستكون منذ ذلك الحين في ميادين الدين وروي الأساطير أن هذا التحول كان بسبب ما ناله من حيرة وبسبب تأنيب ضميره لقتله إخوته، وعددهم تسعة وعشرون، أو حرقه زوجاته، وجواريه وكن خمسمائة، ودام حكم أسوكا ثمانية وعشرين عامًا تعتبر أزهى فترة في تاريخ البشرية المضطرب؛ فقد قام في الهند بحركة عظيمة للخير والثراء حفر الآبار وزرع الأشجار، وأسس المستشفيات، والحدائق العامة والبساتين التي تربى فيها الأعشاب الطبية. واهتم بأهالي الهند الأصليين، واتخذ العدة لتعليم النساء، وخصص هبات الخيرية هائلة لهيئات التعليم البوذية، واتجه أسوكا إلى خارج الهند، فأرسل البعوث الدينية إلى كشمير، وسيلان، والإمبراطورية اليونانية، وجبال هيمالايا، وفارس والإسكندرية، وهكذا انتقلت البوذية من مذهب ضمن المذاهب الدينية الهندية إلى دين عالمي، وسرعان ما لبى أهل سيلان دعوة أسوكا، فاعتنقوا الدين الجديد. ولعل مما سبب ذلك ما كان بين حاكمها، وبين أسوكا من روابط الصداقة

ويروى أن أهل الجزيرة أرسلوا بعثة إلى الهند لتعلم البوذية، وأن أسوكا أرسل مع إحدى بعثاته إلى سيلان فسيلة لشجرة المعرفة التي نال بوذا تحت ظلالها المعرفة، والبصيرة، وغرست هذه الفسيلة، ففي سيلان وبمرور الزمن أصبحت دوحة عظيمة، ولا تزال باقية إلى الآن، وهي أقدم شجرة على الأرض، وأقام أسوكا المسلات في عدة أمكنة حيث دون عليها تعاليم البوذية، وأنذر من يميلون للعصيان، ووعد البررة بالهبات والخيرات، وتنازل أسوكا عن ممتلكاته، ولم يستبقِ إلا ثمانية أشياء ضئيلة هي أرضية ثلاثة صفراء، ونطاق يشدها به، وإبرة لترقيع الأرضيات ومجموعة خيوط للترقيع، وموسى لحلق شعره، وغربال لتصفية الماء قبل شربه حتى لا يبلع نفسًا. وندب أسوكا رجالًا يتجولون في البلاد يرغبون الناس في النسك والورع ويعلمونهم مكارم الأخلاق، وحثهم أن يكونوا قدوة للناس ليسهل على الناس الاقتداء بهم فيجارونه في سيرتهم الرشيدة، وصبرهم على الشدائد، وعهد إليهم كذلك النظر في الأعمال الخيرية، وإدارة شئونها ليزيد نفعها، وخولهم بعض السلطة؛ فكان لهم مطلق سراح المسجونين إذا اقتنعوا ببراءتهم. وكانوا يراقبون الناس ليتحققوا أنهم يلتزمون سبل السلام، ويحترمون القانون، ويراعون حق الفقراء والأكابر، ومات أسوكا، وقد انتشرت البوذية في الهند، وفي البلاد المجاورة لها، ولكن البوذية في الهند عادت بعد قليل تصارع الهندوسية، كما فعلت من قبل، ولم تستطع البوذية أن تثبت في هذا الصراع؛ فالهندوسية كانت أثبت، وأكثر صلة باتجاهات السكان وميولهم، فاضمحلت البوذية أمامها، وأخذت تنحدر حتى انحصرت على الهند تقريبا.

أما في البلاد المجاورة فإن البوذية سارت بنجاح، وانسابت في اتجاهات متعددة في شرقي أسيا حتى أصبح أتباعها حوالي خمسمائة مليون نسمة ينتشرون في بورما، وتايلاند، والصين، واليابان، وإندونيسيا، ونيبال والتبت وسيلان. والبوذية القديمة: أي: العميقة الصلة ببوذية بوذا، والتي يتجلى فيها الطابع الأخلاقي والتربوي تسمى المذهب الجنوبي، وهي تنتشر في بورما وتايلاند وسيلان وكتبها المقدسة مكتوبة باللغة البالية وهي لغة هندية قديمة. أما البوذية الجديدة فهي التي اختلطت بالآراء والنظريات الفلسفية وتسمى المذهب الشمالي وتنتشر في الصين، واليابان، والتبت ونيبال وإندونيسيا، وكتبها المقدسة مكتوبة باللغة "السنكسريتية" وأتباعها أكثر من أتباع المذهب الجنوبي، والبوذية في الصين بوجه خاص لها طابع يجعلها بعيدة عن البوذية الحقيقية، فقد سبقها الصينيون بثقافتهم وحياتهم، فجعلوا آلهتها ثلاثة وثلاثين على نحو ما كانوا يعملون قبل البوذية، وأقاموا لها المعابد الجذابة التي تزينها الفنون الجميلة. ومما سبب إقبال الصينيون على البوذية أنها دخلت بلادهم بعد أن أصبح بوذا إلهًا، وأصبح تمثاله وثنًا يُعْبَد، تقدم له القرابين، وتقام له الصلوات، لقد كان لهم مع آلهتهم الأولى مظاهر للتقديس، ليست بعيدة عن هذه المظاهر؛ مما سبب إقبالهم على البوذية، كذلك أنه دين إنقاذ، وطهر يمنح ب"النيرفانا" اللذة، والسعادة في الحياة، وبعد الموت، ويحث على الرحمة ويغري بالخير، ويقضي على الشهوات الظالمة، ويبعد الشرور. مراحل انتشار البوذية: ولنسر خطوة خطوة مع التاريخ نسجل انتشار البوذية الذي سبق أن أشرنا إليه معتمدين على مرجع هام خاص لهذه الدراسة. إن التاريخ الإجمالي للبوذية يقرر أن هذه الديانة واصلت سيرها طوال خمسة وعشرين قرنًا، وفي خلال هذه الفترة الطويلة تطورت البوذية سواء من ناحية العقيدة، أو التطبيق أو الأدب، أو المؤسسات المرتبطة بها كالمعابد والمعاهد، وقد

اقتحمت البوذية حوالي ثلاثين قطرًا في أسيا وكان تأثيرها عظيمًا في آداب هذه الأقطار، وفي اتجاهاتهم الدينية، ومنذ القرن التاسع عشر اتصل الفكر البوذي ببعض دول أوروبا؛ فأصبح للفكر البوذي أثره في الفلسفة الغربية، والأدب الأوروبي، والموسيقى وغيرها من فنون ثقافية ذلك مجمل القول نحو تمدد البوذية، وانتشارها، ولكن إعطاء تفاصيل عن هذا الانتشار يكاد يكون أمرًا متعذرًا لقلة المادة الدقيقة عنها. ومن الممكن على كل حال لو قسمنا عمر البوذية إلى خمس مراحل كل مرحلة خمس قرون لنعطي أبرز التطورات عن البوذية في كل من هذه المراحل شهدت الفترة الأولى من مطلع البوذية حتى القرن الأول الميلادي تحولًا كبيرًا في العقيدة البوذية فيما يتصل ببوذا فقد كان في أول هذه الفترة يعد معلمًا، ورجلًا عظيمًا، ورائدًا عالميًّا، ثم أصبح مع مرور السنين رجلًا مقدسًا فمعبودًا فإلهًا، ولم يكن ذلك التطور الواسع باتفاق الجميع، ولذلك عقدت عدة مؤتمرات للتوفيق؛ ولكنها لم تستطع تقنع الجماهير لترك مكان الإله شاغرًا كما أراده بوذا أن يكون فظل الخلاف قائمًا. وفي خلال هذه الفترة ظهر الإمبراطور أسوكا الذي دفع بالبوذية خارج حدود الهند كما سبق القول، وبدأت البوذية تبني المعابد، وتضع فيها الآلهة، كما بدأت تقيم الجمعيات التي ترعى الحياة الاجتماعية، وتشرف على شئون الدين، وبخاصة في الهند، وسيلان. وفي الفترة الثانية أي: من القرن الأول حتى القرن الخامس الميلادي أخذت البوذية تنتشر تجاه الشرق إلى بنغال تجاه الجنوب الشرقي إلى كمبوديا، وفيتنام، تجاه الشمال الغربي إلى كشمير. في القرن الثالث اتخذت طريقها تجاه الشرق إلى الصين

أواسط أسيا، وكان دخولها إلى الصين بطريق البحر أيضًا، ومن الصين اتجهت إلى الشمال الشرقي ودخلت كوريا، وكان لنشاط الحجاج الصينيين الذين زاروا الهند وسيلان وجاوا بين سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين، وسنة أربعمائة وأربعة عشر ميلادية أثر كبير في نشر البوذية في هذه البقعة. كانت البوذية في هذه البقاع تتعاون تعاونًا كاملًا مع النظام الملكي الذي كان مسيطرا خلال هذه القرون على هذه الأقطار، وبواسطة الارتباط بين الدين والسياسة انتشرت البوذية، وكثر تابعوها، وشهدت هذه المدة تقدما واضحا في الثقافة البوذية التي أخذت تقيم المعاهد، وتنشر تراثها على أتباعها. وفي المدة التالية أي: من القرن السادس إلى العاشر الميلادي استمرت البوذية في التقدم، والانتشار، وبخاصة من كوريا والصين إلى اليابان، ومن الهند إلى نيبال، ثم إلى التبت، وزادت مواكب الحجاج في هذه الفترة، وكثر نشاطهم، وتنقلهم إلى البلاد التي دخلتها البوذية. يلاحظ في هذه الفترة أن الارتباط بين القصور الملكية الحاكمة وبين البوذية لم يكن دائمًا وطيدًا، وكان انتشار البوذية، أو تقلصها يتوقف على قوة الارتباط وضعفه، وتعد هذه الفترة من أزهى فترات البوذية من الناحية الثقافية، فقد اتضح تأثير البوذية على الآداب، والفنون في جميع البلدان التي دخلتها. وفي المدة التالية أي من القرن الحادي عشر إلى الخامس عشر ضعفت البوذية واختفى كثير من آثارها؛ وذلك لعودة النشاط الهندوسي في الهند ولظهر والإسلام في الهند وفي سواها من الأقطار التي كانت تتربع فيهلا البوذية، ولكن البوذية اتجهت بنشاطها في هذه الفترة فارة من الإسلام تجاه لاوس، ومنغوليا، وسيام، وبورما، وكان النشاط الثقافي البوذي عظيم الأثر خلال هذه الفترة في بورما، وكمبوديا، وسيلان، واليابان.

أما الفترة الأخيرة: أي: من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين فتعتبر فترة دقيقة في تاريخ البوذية؛ إذ وقفت البوذية وجهًا لوجه أمام تحدي الفكر الغربي الذي حملة الاستعمار إلى تلك البقاع، فقد أدخل الاستعمار الغربي إلى هذه البلاد اتجاهاته الفكرية، وإصلاحاته التربوية وفلسفاته في مختلف الشئون، لم تجد البوذية بُدًّا من أن تتعاون طوائفها المختلفة لتقف في وجه هذا الزحف الفكري، وهكذا التقت الفرق البوذية أو قربت بعضها من بعض لتقوى على النضال في معركتها مع المسيحية الغربية، والفلسفات الأوروبية. وقد تبنت البوذية كثيرًا من الاتجاهات الغربية، كما تشربت المسيحية بعض الأفكار البوذية، وتبدلت المطبوعات بين المشرفين على هاتين الفلسفتين، وتطور التعليم في المعابد، فاقترب من كليات الغرب والجامعات، وتم التعاون في الخدمات الاجتماعية بين البوذيين والغربيين وفي نهاية هذه الفترة اصطدمت البوذية بالشيوعية، وأصبح الحكم في كثير من الأقطار التي تنتشر بها البوذية في أيدي حكومات شيوعية، ولم يتضح بعد مصير البوذية في ظل الظروف الجديدة. وأخيرًا الكتب المقدسة لدى البوذية: يجدر بنا عند الكلام عن الكتب البوذية المقدسة أن نقرر أن البوذيين لا يدعون أنها منزلة، وإنما ينسبونها إلى بوذا، وهي عندهم بمثابة كتب الحديث عند المسلمين، وقد حفظ أتباع بوذا عنه أحاديثه وخطبه، وأمثاله ولكن بعد وفاة بوذا ظهر الخلاف بين أتباعه، كما ظهر الاختلاق لبعض أحاديث، ونسبتها إليه، فعقد أتباعه مجلسًا كبيرًا في "رجا جرها" سنة أربعمائة وثلاث وثمانين قبل الميلاد؛ ليزيلوا أسباب الخلاف وليقربوا، أي: ليوحدوا الأتباع عن طريق تحديد ما قاله بوذا وأتباعه.

ولما احتشد القوم سألوا "كاسي أبا" أعلم مريدي بوذا أن يقرأ عليه آراء المبارك عما وراء الطبيعة فقرأها عليهم، فتلقوها، ورووها عنه، وسألوا "أوبالي"، وكان من أسن المريدين الأحياء أن يتلوا عليهم شريعة النظام فقرأها عليهم فتلقوها عنه، ثم سألوا "أنندا" أحب المريدين عند بوذا أن يلقي عليهم ما سمعه من بوذا من حكايات، وأمثال، ومواعظ؛ ففعل وتلقوها وروها عنه. وظلت هذه الروايات محفوظة في الصدور يتلقاها جيل عن جيل حتى عهد الملك أسوكا مائتين اثنين وأربعين قبل الميلاد وفي ذلك الحين كان قد ظهر فيها شيء من التحريف والاختلاق في الرواية فخاف الزعماء الشيوخ على ضياع هذا التراث فاجتمعوا، واستقر رأيهم على كتابة هذه المجموعات الثلاث فكتبوها، ويظهر أنهم وضعوا كل مجموعة في سلة خاصة ليعلقوها بعيدًا عن الضرر، ومبالغة في تخليصها؛ ولذلك سميت هذه المجموعات بالسلال الثلاث، أو "البتيكات"، وتحوي السلة الأولى العقائد؛ لذلك سميت سلة العقائد، وتحوي السلة الثانية الشريعة؛ ولذلك سميت سلة الشريعة، وتحوي السلة الثالثة الحكايات؛ ولذلك سميت سلة الحكايات. وهذه السلال الثلاث يقال لها: القانون البالي، وهي تشمل البوذية القديمة بدون تحريف أو بتحريف قليل، وهي لهذا أهم الكتب المقدسة للبوذية، وسميت هذه الروايات القانون البالي نسبة إلى اللغة البالية التي دونت بها هذه الروايات، هذا والله أعلم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 الديانة البوذية (4).

الدرس: 10 الديانة البوذية (4).

نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الديانة البوذية (4)) نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فلنتحدث عن نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية: إن المتتبع لتاريخ بوذا والبوذية يلاحظ أن بوذا نادى بتعاليم أخلاقية من أجل نشر دعوته، تتمثل في الدعوة إلى المحبة، والتسامح، والتعامل بالحسنى، والتصدق على الفقراء، وترك الغِنَى، والترف، وحمل النفس على التقشف والخشونة، وفيها تحذير من النساء والمال، وفيها ترغيب في البعد عن الزواج، وقال بوذا: من أجل أن ينتصر الإنسان علة نفسه، وعلى شهواته؛ فلا بد، وأن يتقيد بالأمور الآتية: الاتجاه الصحيح المستقيم الخالي من سلطان الشهوة واللذة، وذلك عند الإقدام على أيِّ عملٍ، وألا يتأثر التفكير الصحيح بالأهواء لابد من الاعتقاد المستقيم الذي يصحبه ارتياح، واطمئنان إلى ما يقوم به، ولابد أيضًا من مطابقة اللسان لما في القلب ومطابقة السلوك للقلب واللسان وأن الحياة الصحيحة هي التي يكون قوامها هجر اللذات، والرجائل عنده في الأصل ترجع إلى الاستسلام للملاذ، والشهوات، وسوء النية في طلب الأشياء، والغباء، وعدم إدراك الأمور على وجْهِهَا الصحيح. ومن وصاياه: لا تقضي على حياة حي، ولا تسرق، ولا تغضب، ولا تكذب، ولا تتناول مسكرًا، ولا تزني، ولا تأكل طعامًا نضج في غير أوانِهِ، ولا ترقص، ولا تحضر مرقصًا، ولا حفل غناء، ولا تتخذ طيبًا، ولا تقتني شرابًا وفيرًا، ولا تأخذ ذهبًا ولا فضة.

وقد عبر البوذيون عن بلوغ النفس الكمال الأسمى، ودرجة السعادة عندما تتلخص من التناسخ بـ"النيرفانا" عندما تتخلص من التناسخ بـ"النيرفانا" وهي تعني الخلاص من أسر المعاناة، والرغبة، واكتساب صفاء الدين، والروح تحرر من أسر العبودية، واللذة، وانبثاق نور المعرفة عن طريق تعذيب النفس ومقاومة النزعات مع بذلِ الجهد، والتأمل، والتركيز الفكري والروحي، وهو هدف البوذية الأسمى من خلال هذه الأخلاق التي أرستها البوذية نجد صلةً واضحةً بينها، وبين الرهبنةِ، فلتكُنْ هذه الإطلالة السريعة بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- حول الرهبنة البوذية، ونشأتها، وتأثر النصرانية بها. التعريف بالرهبنة البوذية وبيانها والغرض منها: الرهبنة في اللغة العربية، تعني: طريقة الرهبان في الزهد، والعزلة، والرهبانية منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف، وهي من رهبنة النصارى، وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها حتى غن منهم من كان يخفي نفسه، ويضع سلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهى المسلمين عنها والرهبانية مصدر الراهب والرهبنة فعلنه أو فعلل على تقدير أصلية النون وزيادتها. والرهبنة في قاموس المصطلحات البوذية هي البار باشا وهي أيضًا من كلمتين بار، أي: الزهد والاعتزال وباشا، أي: المطلق، أو التام فيكون المعنى الزهد المطلق، أو الاعتزال التام، والمراد به هو الاعتزال عن البيوت والمساكن، والاعتزال عن أسلوب حياة أهلها إلى أسلوب الرهباني هو التنسك، والتبتل.

وقد عرفها بعض علماء البوذية بأنها هي الامتناع عن جميع الرذائل والانعزال التام عن الحياة المدنية، أو بتعبير آخر هي الاعتزال عن العالم كله، ويعنى بذلك: الاعتزال عن النهج الذي يعيش فيه أهل العالم، وهذا هو المعنى المنصوص عليه في كتاب: "تريبيتاكا" في جميع استعمالاته لهذه الكلمة، وحيث يتضمن كل ما يتعلق بالرهبنة من نظامها، وأدبها وطقوسها، وما أشبه ذلك. فالرهبنة البوذية: هي الاعتزال الكلي عن جميع شئون الحياة المدنية، أي: شئون البوذيين المدنيين الساكني البيوت؛ لأن البوذية تقسم أهلها إلى طائفتين المدنيين، وهو ساكنو المنازل، والبيوت، والرهبان، وهم المتنازلون عن البيوت، والأموال، والشهوات، واللذات لممارسة حياة الرهبانية. ومن هنا يتضح لنا: أن الغرض الحقيقي من الرهبنة البوذية هو إعدام الألم والتسامي بالروح، أو الوصول إلى "النيرفانا" أي: السعادة في هذه الحياة فقد اعتقد البوذيون فيما زعموا: أن الوصول إلى السعادة لا يتم إلا بانخراطهم في سلك الرهبنة؛ وذلك لأن الحياة المدنية، أو المنزلية على حد تعبيرهم لها عقبات، ولها موانع كثيرة قد تحول دون الوصول إلى السعادة في هذه الحياة. أما الرهبانية: فتتيح لهم فرصة أكبر للوصول إلى السعادة؛ لأنها تحررت عن جميع القيود، والعقبات، وتحررت عن الشهوات واللذات، وعن نعيم الدنيا وزخارفها، وقد ذهب بوذا إلى أن الرهبانية أسلوبٌ جليلٌ من أساليب الحياة لما فيها من تضحية شاقة لا يصلح لها كل إنسان، ولا يقدر عليها كل إنسان، ولا يصل إلى غايتها كل من سلك سبيلها، كما زعم أنها أسمى وظيفة للبشر، وأن أصحابها هم في أَسْمَى مَرَاتِبِ الناس.

فقد أكد بوذا في كثير من كلامه خطورة الحياة المدنية، فمثلها مرة بالبحر الواسع المخيف، ومرة أخرى بالغابة المليئة بالحيوانات المفترسة والمدقق في كلام بوذا السابق؛ يلاحظ: أنه يقصد تخويف أتباعه من الحياة المدنية؛ ليلتحقوا معه بالرهبانية، وليبلغوا الهدف المزعوم بـ"النيرفانا" أي: السعادة في حياتهم الراهنة من أجل هذا تنادي البوذية بنظام الرهبنة، وتفرض على الرجال البوذيين أن يدخلوا فيها مرة في حياتهم. أما نساؤهم فرهبانيتهن على سبيل الاختيار لا على سبيل الإلزام. ثانيا: تاريخ نشأة الرهبنة في البوذية: يرجع تاريخ نشأة الرهبنة في البوذية إلى العصر البوذي الأول، أي: في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد، وذلك عندما انتشرت في ذلك العصر مظاهر الرهبانية، وذلك بظهور عدد من النساك، والرهبان من البراهمة، والجينيين، واليوجيين وغيرهم، وكان هؤلاء ينقطعون إلى الغابات والكهوف متنسكين، ومبتعدين عن العالم؛ فبعضهم يستغرق في التأمل والتفكير في أسرار الحياة، وفك غوامضها، وبعضهم يتدرب على جميع أنواع التعب والمشقة؛ زاعمين أن ذلك تنقية للروح، وتحريرًا لها من القيود الجسمانية ومعوقاتها. وكان كثير منهم ينتقلون من قريةٍ إلى قرية؛ لاستجداء الطعام يتجولون في القرى، والأرياف لنشر مبادئهم، وأفكارهم، وكانت الطبيعة والأجواء قد أملت عليهم ظاهرة التحمل، والصبر على المتاعب والمشاق، وكان من بين هؤلاء النساك الأمير "سيدهارتا" مؤسس البوذية. فقد اتخذ الرهبانية شريعة له في الحياة منذ خروجه من القصر حتى آخر حياته، وتروي القصة البوذية: أن بوذا قد اتخذ حياة الزهد التقشف والنسك منذ

مغادرته القصر، ولم يخرج منها حتى نالته الوفاة، وقد طبق تلاميذه وأتباعه هذا النظام تمام بتمام حتى انتهى الأمر بإنشاء المعابد، والأديرة الفاخرة للرهبان، وانتشرت هنا وهناك في ربوع الهند وغيرها. ومن هنا يمكن القول: بأن الزهد والعزلة هما من الدعائم الأولى للحياة الديرية في البوذية؛ لأنهما مهدَا في أول الأمر لنوع من حياة الرهبانية الانفرادية، ويتمثل ذلك في رهبانية بوذا وحوارييه، ثم تحولت بعد ذلك إلى حياة ديرية اجتماعية بعد انتشار المعابد والأديرة، ولما كثرت أتباع البوذية في الهند، وغيرها وضعت لهم القوانين، والنظم والتقاليد في الرهبنة تدريجا على أيدي الرهبان البوذيين أنفسهم. ولم يضع بوذا في حياته صورة، أو شكلًا معينًا للبوذية، كما هو معروف الآن بل تم ذلك بعد وفاته على أيدي الرهبان الأوائل، ثم الذين بعدهم، وهلم جرا، حيث أدخلوا عليها تعديلات، وإضافات كثيرة حسب أهوائهم ومصالحهم، كما هو شأن سائر القوانين، والنظم الوضعية، وعبر مرور الزمن، وكثرت التعديلات، ودونت النظم الرهبانية في البوذية، وأصبح قانون الرهبانية يحكم به الرهبان البوذيون فيما بينهم. ثالثًا: هل هناك صلة بين النصرانية والبوذية في النظام الرهباني؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: لم تكن الرهبنة أصلًا من الأصول التي جاء بها المسيح عيسى -عليه السلام- إنما هي بدعة استحدثها النصارى متأثرين بنزعات فلسفية، ومذاهب أخلاقية المنادية بالنسك والعابدة، والتي ظهرت قبل المسيحية، ومنه البوذية، ولا يخفى علة كل باحث في الأديان أن هناك صلة وثيقة بين البوذية، والنصرانية في النظام الرهباني؛ وذلك لوجود ملامح متشابهة بين الرهبانيتين؛ مما يؤكد أن النصرانية قد اقتبست

رهبانيتها من البوذية التي سبقتها بما يقرب من خمسة قرون. ومن الأدلة على ذلك: أ- أن الرهبة النصرانية نشأت أول ما نشأت في مصر في خلال القرن الثالث الميلادي، ثم نقلها الرهبان الأقباط إلى فرنسا وإيطاليا، وغيرها من الدول، كما أن أولى الأديرة التي عرفتها المسيحية، كانت في مصر وخاصة في الإسكندرية التي كانت تمثل المركز الحضاري والتجاري للرومان آنذاك؛ ونظرًا لتبادل المصالح التجارية كثر توافد تجار لهند وسفرائها على على الإسكندرية، وتردد عليها كثير من البوذيين والجينيين، وهم في طريقهم إلى الروم. وبتعبير آخر أن الإسكندرية كانت علة علم تام ومعرفة كاملة بأديان الهند وفرقها ونحلها وإن النصارى في الإسكندرية قد اتخذوا معظم خصائصها وملامحها البارزة واتخذوها رمزًا للتقدس والمهابة، وبالغوا في الرياضات البدنية والرهبانية والعزلة؛ فالنصرانية في الإمبراطورية الرومانية قد تأثرت وحدانيتها إلى حَدٍّ بعيدٍ بالديانة البوذية التي خرجت من موطنها الأصلي الهند في ذلك الوقت، وانتشر معتنقوها في العالم الروماني عن طريق القوافل التجارية وغيرها. ب- إن الدارس لهذا النظام يلاحظ أن النصرانية اتفقت مع البوذية في كثير من المبادئ والتعاليم والرهبانية لأن ظهور الكنائس النصرانية، وسلطانها ونظامها في البداية شبيهة بالبوذية إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ولعل انتشارَ الأديرة البوذية في أنحاء العالم بعد بوذا بقرون، وفي الشرق الأوسط بالذات أيام الإغريق قد أعطى المسيحية فكرة إنشاء الكنائس على منوالها. ج- ومن الأوجه المتشابهة أيضًا بين الديانتين في الرهبنة وجود المفاسد والانحرافات في كل من الأديرة البوذية والنصرانية وهو أمر معروف لدى الباحثين

في تاريخ الأديان؛ لأن الكبت العنيف الذي تفرضه الرهبانية لا يمكن تنفيذه، ويؤدي في النهاية إلى نتيجة عكسية وانحرافات ومفاسد. د- ومن الأوجه المشابهة أيضًا عبادة الرهبان، والقديسين، فالبوذيون يعبدون بوذا، ويعبدون جميع الرهبان القديسين، ويعتبرونهم واحدًا من الثالوث المقدس كذلك النصارى، فقد غلو في نبيهم عيسى -عليه السلام- فجعلوه شريك الله -سبحانه وتعالى- وجزءً منه وإلها آخر معه غلو في قديسيهم، وصالحيهم فعبدوهم من دون الله، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم} (التوبة:31). وبالموازنة بين الأقوال المنسوبة إلى بوذا والأقوال المنسوبة إلى المسيح في الإنجيل أو الأناجيل المحرفة نجد بينهما تشابها كبيرًا، وهذه بعض النصوص من الكتاب البوذي تري "بيتاكا" وبعض الأناجيل المسيحية. أ- في تري "بيتاكا" أوصى بوذا أتباعه بأن يطرحوا الدنيا جانبًا، ويتنازلوا عن بيوتهم، وأموالهم، وأهاليهم، ويؤثروا الفقر، والعيش على التسول، وفي الإنجيل ماتا الإصحاح التاسع الفقرة السادسة إلى الثانية والعشرين اشترط المسيح على من يريد دخول الدعوة أن يتنازل عن أملاكه، ويؤثر الفقر ليدخل في ملكوت الله، وقال للشاب الغني لما سأله عن العمل الصالح الذي به الحياة الأبدية: إن أردت أن تكون كاملًا؛ فاذهب، وبِعْ أملاكك، وأعطي الفقراء؛ فيكون لك كنز في السماء، وتعالى اتبعني. ب- وفي إنجيل مرقص الإصحاح العاشر الفقرة الثامنة والعشرون إلى الثلاثين قول بطرس أحد حوارييه: "ها نحن قد تركنا كل شيء، واتبعناك قال يسوع: "الحق أقول لكم ما من أحد ترك لأجلي، ولأجل الإنجيل بيتًا، أو إخوة، أو

أخوات، أو أمًّا أو أبًا، أو أولادًا أو حقولًا، إلا وينال مائة، وضعف الآن في هذا الزمان، وفي الزمان الآتي الحياة الأبدية قس على هذا الكثير والكثير من أوجه التشابه بين نصوص الكتاب البوذي المسمى تري "بيتاكا" والأناجيل المسيحية. ج- يقول صاحب كتاب معالم تاريخ الإنسانية كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية؛ حيث أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات ورجال اعتزلوا الجهود العامة والتجارة في العالم؛ ليعيشوا عيشةَ التقشُّفِ والتأمل، وهكذا قامت عملية التأثير، والتأثر بين السابق واللاحق. أ- خصائص الرهبان في البوذية: للرهبان البوذيين خصائص كثيرة يختصون بها دون غيرهم من المدنيين، وتعتبر هذه الخصائص من أهم الشروط في الرهبانية، وفيما يلي بيان لأهم هذه الخصائص: 1 - لبس أو ارتداء الزي الأصفر، وهو عبارة عن قطعتين من القماش المصبوغ باللون الأصفر يتخذون أحداهما إزارًا، والأخرى رداءً على شكل لباس الإحرام، ويضعون فوقها بعض الرقع دلالة على الزهد، والفقر والمهانة، ولا يلبسون غير هذا اللباس طوال مدة رهبانيتهم، والبوذيون يقدسون هذا اللباس إلى حدٍّ بعيد، ويعتبرونه شعارًا مقدسًا في ديانتهم وفي القديم كان هذا اللباس عبارة عن الخرق الملتقطة من المزابل، أو أكفان الموتى. 2 - حلق الرأس والحفاء بمعنى أنهم يحلقون كل شعورهم في الرأس والوجه، وأنهم لا يمشون منتعلين، بل يمشون حفاة ابتداء ببوذا الذي كان يتجول في المدن والقرى بدون نعل إلا أن بوذا أجازه فيما بعد للمرضى فقط.

3 - التسول وترك العمل: وهو أيضًا من ضمن الخصائص التي يمتاز بها الرهبان في البوذية عن غيرهم، ويعتبرونه الطريق الوحيد في حصولهم على الطعام اليومي، والتسول عادة قديمة للرهبان في الهند قد اتخذه بوذا طريقًا لمعيشته طيلة حياتِهِ الرهبانية، وحتى في زيارتِهِ لوالدِهِ، فقد تسول، وجمع طعامه اليومي استجداء من الناس، وهذه العادة عادة فاسدة تشجع الناس على الكسل، والبطالة، وترك العمل، والتمسك بالفقر. 4 - الصوم الدائم: ومعناه الاقتصار في اليوم والليلة على أكلةٍ واحدةٍ في وقت الضحى، وهذا نظام عام لجميع الرهبان في المعابد، والأديرة سواء كانوا من الشيوخ، أو المبتدئين، وللرهبان السائحين في الغابات، والأرياف أسلوب مناسب لهم، وهو الجوع والامتناع عن الطعام حتى إذا ما شعر احدهم بمفارقة الحياة أكل ورق الشجر، وهذا مخالف لتناول الطيبات من الرزق، والتي أحلها الله لكل إنسان. 5 - الصمت الدائم وهو عدم الكلام إلا عند الضرورة وهو من صفات المدح عندهم ووسيلة لجلب العطايا والمال والمنصب والجاه والثناء انه رمز للسكينة ونور من أنوار "النيرفانا" أي: السعادة. 6 - التبتل: وهو من خصائص الرهبان البوذيين، ومعناه: الانقطاع عن الزواج وهو من أهم شروط الرهبنة بعد شروط التجرد الكامل عن الدنيا، وشرط المجاهدة المتواصلة، وشرط الرياضة للنفس، والبدن؛ وذلك لأن الزواج في زعمهم ملذة من ملذات الدنيا الدنيئة التي يجب عليهم الابتعاد عنها. 7 - السكن في الأديرة والخضوع للشيخ، أو الراهب الكبير، فعلى كل راهب ألا يسكن المنازل، ولا يبيت فيها، ولكن يجب عليه أن يلازم السكنى في الأديرة.

الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية.

الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية وأنتقل إلى الكلام عن الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية: للرهبنة البوذية آداب ونظم يلتزم بها الرهبان في حياتهم ويعرف مدى زهدهم وتنسكهم بقدر ما يحافظون عليها ويتبعونها وقد نسب بعضها إلى بوذا نفسه وبعضها إلى أتباعه من بعده الذين أدخلوا عليه إضافات وتعديلات كثيرة حتى بلغت مجموعة هذه الآداب، والنظم مائتين وسبع وعشرين فقرة، وفيما يلي عرض لأهم النظم، والآداب في الرهبنة وفقًا لما ورد في كتابهم "تريبيتاكا". 1 - المحافظة بدقة على الوصايا البوذية العشر، وخلاصتها الكف عن القتل والكف عن الزنا، والكف عن السرقة، والكف عن الكذب، والكف عن شرب الخمر، والكف عن الطعام في الليل، والكف عن الغناء والرقص، والكف عن الزينة بجميع أنواعها، والكف عن اتخاذ الفراش، والمقعد المرتفعين والمحشوين بالقطن، أو نحوه، والكف عن قبول الهدايا من الذهب والفضة. 2 - على الرهبان أن يلتزموا بالنظام والآداب الأخرى للرهبنة، وأهمها عدم الزواج، والابتعاد عن الخلوة بالراهبات، وكذلك الابتعاد عن التوسط بين الرجال والنساء وبين الزوج والزوجة، ومن آداب الرهبان المبتدئين: أ- ألا يخطر ببالهم خواطر النساء والشهوة، وإذا توالت عليهم هذه الخواطر فعليهم اللجوء إلى إكثار الخلوة، وعدم مخالطة الناس مع دوام المراقبة.

ب- التجرد التام عن الملكية، أو عن تخزين الأشياء، والتجرد عن الاحتراف بأي حرفة كانت. ج- الانفراد والعزلة والسكون والصمت وعفة اللسان وعدم المزاح والهزل او ما شابه ذلك من أمور أخرى. د- إظهار الفقر والتواضع، وعدم الافتخار والتكبر، والابتعاد عن المنصب والجاه والثناء، وعن حب الرئاسة، أو حب الظهور. هـ- إظهار التسامح، ومسالمة الجميع، ومحبة الغرباء، والكف عن القذف والنميمة، وعن السعي في سبيل التفرقة بين الرهبان. وتعليم الناس السلام والمحبة وإنشاء المشافي، والملاجئ للفقراء والمساكين، والجد في منع الحروب، والتسامح تجاه جميع الأديان في العالم باعتبارها أوجه ناقصة لحقيقة واحدة متمثلًا قول بوذا لتلاميذه الرهبان: نَزِّهُوا قلوبكم من كل خصام في الأديان والمذاهب، ولا تتركوا المحبة، بل أحبوا الخلق كلهم، وليكن قصدكم الوحيد هو دعوة الناس إلى النيرفانا أي السعادة. ذ- الابتعاد عن الأماكن التي فيها مظنة لتهمة الناس، وهذه الأماكن هي بيت البغايا، وبيت الأرامل والثيبات، ودير الراهبات، ومحلات الخمر، وأماكن القمار، وأماكن الرقص، والغناء. ح- السياحة مرة على الأقل خلال فترة الترهب، وهي عبارة عن الخروج إلى البراري، أو الأرياف، أو الغابات البعيدة عن مجتمع الناس، ولا يصطحبون معهم في هذه الحالة زادًا، ولا طعامًا، ولا ماء؛ ومن هنا يدعون كثير من الخوارق، وللسياحة عندهم حالتان حالة عامة، وحالة خاصة فالسياحة العامة هي آنفة الذكر.

أما السياحة الخاصة: فهي سياحة بعض الرهبان الذين يختارون التجول في الأرض طوال مدة رهبانيتهم؛ فيسيحون من قرية لإلى قرية ومن مدينة إلى مدينة معتمدين على كرم الناس من أهلها، ولا يتوقفون عن سياحتهم إلا في فصل الأمطار. ط- الكف عن الخروج، والتجول في فصل الأمطار، هو ثلاثة أشهر معروفة عندهم، فلا يخرجون من الأديرة، والمعابد إلا في حالة الاضطرار. ي- الخروج للتسول كل صباح؛ لأن فيه إظهار المحبة، والرحمة لسائر الحيوانات على حدِّ زعمِهِم، وللتسول عندهم آداب كثيرة منها ألا يأخذ المتسول إلا ما يعطى له، وألا يطمع في استكثار، وألا يتكلم عن التسول وألا ينظر إلى المعطي، ولكن ينظر إلى كشكولته عند قبول الطعام، وألا يتسول بطلب، أو إلحاح، أو إغراء، وألا يتكبرَ في رهبانيتِهِ بأن يظهر للناس أنه متزمت متشدد في الرهبنة ليخصوه بالعطاء. ك- ومن آدابهم في الطعام ألا يأكلوا أكثر من مرةٍ واحدةٍ في اليوم؛ امتثالًا لقول بوذا المشهور: "اجلسوا للطعام جلسة واحدة، وألا يقصدوا من الطعام التلذذ، أو تقوية الجسد، أو تجميله، أو ما شابه ذلك لما في ذلك من إثارة للشهوات، وألا يأكلوا الطعام من لحم الإنسان، أو الفيل، أو الحية أو الكلب، أو الأسد، أو الدب، أو النمر، ويأكل غير ذلك من اللحوم الأسماك. ل- الالتزام بمبدأ آنسه، أي: عدم الإساءة والإيذاء لأي كائن، احترام كل شيء حي، وذلك بإظهار المحبة، والشفقة للناس، والحيوان جميعًا. م- ومن آداب الرهبان الهامة أيضًا أنهم لا يحيون المدنيين بأيِّ تحيةٍ مهما كانت مرتبتهم، ولو كانوا من الأقرباء بل على المدنيين أن يحيوهم تحية تقديسية،

وصفتها ضم الأصابع على الصدر، أو الوجه مع انحناء الرأس، أو السجود، وهي تحية معروفة لدى البوذيين يقدمونها لرهبانهم كلما قابلوهم، ولو كانوا صغارًا أو أبناء لهم. ن- التوبة الرهبانية: وهي عبارة عن اعتراف الراهب، وإقراره علنًا أمام شيخ المعبد، أو أعضائه من الرهبان بما ارتكبه من مخالفة للنظام، وشيخ المعبد هو الذي يتولى تطبيق العقاب عليه، ويتمثل في الرئيس العام للرهبان. كنا قد ذكرنا في العنوان العريض النظم والآداب في الرهبنة: فذكرنا منها الرقم الأول المحافظة بدقة على الوصايا البوذية العشر. والثاني: الالتزام بالآداب والنظام والرهبنة، والتي تجولنا فيها هذه الجولة. ونذكر الثالث المتمثل في الرياضة الروحية، وهي جزء في العمل الرهباني، وبها تتم الغاية المنشودة على حسب زعمهم، وتتمثل في التأمل الذاتي الذي يصل بالإنسان إلى الفناء أو الفراغ، وهو نهاية مطاف البوذيين. الرابع: الاجتماع لذكر التراتيل الدينية يوميًّا حيث يجلسون على هيئة صفوف بأن يقابل كل صف الصف الذي يقابله من الجهات الأربع، ويذكرون التراتيل على صوت واحد بأن يبدأ بها رئيسهم، ثم ينطقون بها وراءه، ويرفعون أصواتهم، ويتمايلون يمينًا وشمالًا، هذا يذكرني بحضرات الصوفية. وهناك اجتماع ديني أسبوعي في المعبد حيث يجتمع فيه المدنيون رجالا ونساءً ويقدمون فيه الأطعمة والحاجات اللازمة للرهبان، ثم يشتركون معهم في طقوس الصلوات، والتراتيل، ويستمعون أحيانًا إلى الخطب والمواعظ من بعض مشايخ الرهبان.

ومن أوجه التشابه والتأثير والتأثر في النظام الرهباني البوذية والنصرانية هو ما يلاحظه الناظر في خصائص وآداب الرهبان في المسيحية، وأهمه: 1 - أن يختبر الراهب لمدة ثلاث سنوات. 2 - أن يحلق شعر رأسه. 3 - أن يصلى عليه صلاة الجنازة؛ لأنه فقد الدنيا، وودعها، فكأنه مات؛ ولذلك يصلى عليه. 4 - الطاعة المطلقة للآباء، والرؤساء. 5 - تلاوة المزامير كلها يوميا بتأمل وتسبيح. 6 - تقديم ذبيحة التذلل. 7 - تلاوة أربعين إصحاحًا من الكتاب المقدس يوميًّا. 8 - تلاوة صلاة التسبيحة اليومية. 9 - الإكثار من الصوم. 10 - حضور صلوات مجمع الرهبان. 11 - قراءة أقوال أباء الرهبنة ومعلميها. 12 - الليل بالنسبة للراهب فكر وتجريب للقلب. 13 - النهار للصلوات، وإعداد الطعام. زِيُّ الرهبان: كما لا حظنا أن للرهبان في البوذية زيًّا خاصًّا، كذلك الحال في المسيحية رغم اختلاف اللون إلا أن القاسم المشترك في الهدف منه؛ حيث إنه فيهما أي: في البوذية والمسيحية

يكون شعارًا للراهب يذكره بما عقد عليه النية، وما عاش من أجله، فهو أيقونة، والأيقونة مصطلح يوناني معناه صورة مدشنة بالمايرون؛ فهو أيقونة صامتة للرهباينة حقًّا، فقد كان أنطونيوس مؤسس الرهبنة يلبس قميصًا من جلد الغنم، فوقه مسح من الكتان، وكان يلبس قلنسوة، أي: لغطاء رأسه من الوبر، وكان يمسك بيديه عكازًا، وظل هذا تقليدًا يورث من السابق للاحق، ويشترط في الزي أن يتفق مع الهدف منه؛ بحيث يكون خشنًا، لا تنعم فيه ويتكون من: 1 - ثوب: ويفضل أن يكون من الكتان؛ ليذكرهم بالكفن، والموت، أو من شعر الماعز. 2 - الزنار أو الإسكين، وعليه ثلاثة صلبان، وهو رمز لموت أعضاء الراهب وعفته. 3 - القلنسوة: وهي تصنع من شريط قماش أسود عليه صليبان باللون الأبيض، يضعها الراهب ابتداء من هامة رأسه؛ ليحفظ الصليب أفكاره من الشر. 4 - هو غطاء للرأس، وهو يذكر الراهب بالطفولة، وبساطتها. 5 - الشال، أو الشملة لتغطية الرقبة. 6 - القاصرية، ويلبسها الراهب أثناء عمله اليدوي. 7 - المراقعة، أي: الثوب المرقع، والرهبان الأتقياء يلبسونه على الدوام. 8 - قميص الجلد: وهو من جلد الماعز يوضع على رقبة الراهب؛ للوقاية من صقيع الشتاء. 9 - الحذاء: ولا يلبس إلا عند الخروج من القلابة أثناء السفر، أو الانتقال من مكان إلى آخر، والقلابة عبارة مكان تعبد الراهب في صومعته، وهي حجرتان

موقف الإسلام من الرهبنة.

داخل بعضهما الأولى مخصصة للصلاة والنوم، والثانية والثانية للاستخدام اليومي، ولهما باب واحد، وإذا وصل عدد القلابة إلى مائة فتسمى إسكيني، كذا نقلًا عن كتاب الرهبنة. 10 - العكاز: وهو رمز للسلاح الروحي الذي به فلق موسى البحر، وأما الإسكين الكبير وهو الذي يعطى للراهب بعد أن تتأكد فضائله، أو تقواه مع ملاحظة أن الزي في العصر الحالي يخضع للمتغيرات الزمنية، والمكانية إلا مع هذا هو إشعار للرهبنة، ومذكر بها سواءً في الديانة البوذية، أو النصرانية. وقد ذكر الإمام محمد أبو زهرة في كتابه (مقارنات الأديان): الديانات القديمة ذكر أكثر من ستة وأربعين مقابلة تأثرت بها المسيحية المحرفة من البوذية؛ مما يؤكد عملية التأثير، والتأثر بين السابق واللاحق. موقف الإسلام من الرهبنة ونختم هذا المبحث بموقف الإسلام من الرهبنة حيث نضع رهبنة بوذا والنصارى في ميزان العقل والدين؛ فالمسلمات العقلية والدينية عما فيصل التفرقة بين الحق والباطل، ونحتكم إليها لبيان وجه الحق. والرهبنة وهل هي دواء لداء، كما أريد منها، أم أصبحت داءً لا دواء له إلا بالإصغاء إلى ما تمليه تلك المسلمات العقلية، والدينية اللذين يسلط نورهما على نظام الرهبنة في الفكرين البوذي والنصراني؟ فالدواء سيتوجه إليهما معًا، ولكل من يسلك مسلكهما ويصاب بدائهما حتى وإن كان من المتصوفة المسلمين وعلى من شاكلتهم. وبحول الله تبارك وتعالى نشرع في المطلوب ببيان موقف الإسلام من الفكر الرهباني في البوذية والنصرانية. أسس ومبادئ الرهبنة في ميزان الدين والعقل: أولًا: التبتل في ميزان الدين والعقل: جعل بوذا التبتل هو الحل الأمثل لحتمية الألم الذي يأتي عن طريق الميلاد، فلو لم يولد لما كنا نشيخ، أو نموت، وعلة الميلاد هي الرغبة؛ فقتل هذه الرغبة لا يتأتى إلا بالتبتل حيث لا ميلاد؛ ومن ثم لا ألم، والتبتل يريح من هذا الوجود الذي ليس إلا وهمًا عظيمًا، وضلالًا مبينًا؛ وبالتالي يتخلص الإنسان من وهم الوجود، وألم الرغبة. وكذلك جعل الفكر المسيحي التبتل ضروريًّا للحياة الروحية، فعدم الزواج أهم أسس الرهبنة في المسيحية، فهي عندهم الكبح الاختياري لغريزة من غرائز

الأحياء الأرضية في سبيل التسامي إلى ما هو غير أرضي والمسيح هو الذي غرس زهرة البتولية، فالبتولية هي هبة من الله؛ لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات من استطاع أن يقبل فليقبل" متى الإصحاح التاسع عشر الفقرة العاشرة إلى الثاني عشر. بما أن التبتل أساس للرهبنة في الفكرين البوذي والنصراني؛ لزم علينا أن نضعه في ميزان الإسلام، فنكون مستمدين العون من الله، التبتل في اللغة مصدر تبتل بمعنى انقطع للعبادة، وأخلص فيها، وهو مأخوذ من مادة بتل التي تدل على إبانة الشيء من غيره، والبتل القطع بتله يبتله، ويبتله بتلًا، وبتله فانبتل، وتبتل أبانه من غيره، والبتول، والبتيل، والبتيلة من النخو الفسيلة المنقطعة عن أمها المستغنية عنها، وتبتل إلى الله انقطع وأخلص. وفي التنزيل: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8). ومعناه: أخلص له إخلاصًا، وانقطع له انقطاعًا؛ لأن حقيقة الانقطاع إلى الله إنما تقع بإخلاص العبادة له، والتبتل الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى وكذلك التبتيل، يقال للعابد: إذا ترك كل شيء، أو اقبل على العبادة، والبتول من النساء المنقطعة عن الرجال لا إرب لها فيهم وبها سميت مريم البتول، وفي الاصطلاح يراد بالتبتل أحد أمرين: 1 - الانقطاع إلى الله في العابدة، وإخلاص النية انقطاعًا يختص به، وإلى هذا أشار الله في القرآن الكريم، بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91) وفي قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}. 2 - التبتل الانقطاع عن النكاح، والأول مأمور به شرعًا، والثاني منهي عنه قطعًا، والتبتل يجمع أمرين اتصالًا وانفصالًا لا يصح إلا بهما، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات قلبه إلى ما

سوى الله؛ خوفًا منه، أو رغبة فيه، أو مبالاة به، أو فكرًا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله -جل وعلا- والاتصال لا يصلح إلا بعد هذا الانفصال، وهو اتصال القلب لله، وإقباله عليه هذا هو مفهوم التبتل في الفكر الإسلامي وهو يتفق في بعض معناه مع الفكرين البوذي والنصراني وهو الانقطاع إلى الله. ولكن تميز الفكر الإسلامي بأن جعل المعنى الأول الانقطاع إلى الله مأمور به، والمعنى الثاني الانقطاع عن الزواج منهيًّا عنه، بل غلوا في الدين هذا فيما يتعلق بمفهوم التبتل. أما فيما يتعلق بجوهره وغايته، وحيث نرى الفكرين البوذي والنصراني قد جعل عدم الزواج هو جوهر التبتل، وأساسه؛ بحيث إذا تزوج الفرد لا يعد متبتلًا لتعارض الزواج مع التبتل الذي هو جوهر الرهبنة؛ وبالتالي جعلوا جوهر التبتل، وغايته هي الكبح الاختياري لغريزة من غرائز الأحياء الأرضية في سبيل التسامي إلى ما هو غير أرضي، فعدم الزواج هو الأساس للانخراط في سلك الرهبنة، ولو تزوج وأراد سلوكها؛ فعليه أن يترك الرجل أو المرأة أسرته وأهله، وينقطع للعبادة بكافة صورها، بينما نجد الأمر في الإسلام يختلفُ اختلافًا تميز عن ذلك تمامًا؛ حيث إن جوهر التبتل ووسائله ليست في العزوف عن احتياجات البشرية التي أودعها الخالق فينا. فالمقصود الاسمي ألا يشغل الإنسان عن الله وعبادته مع ممارسته كل الاحتياجات الفطرية وفق شرع الله تعالى، وهنا يكون متبتلًا إلى الله، وهو مع خلق الله، ومن هنا جاءت وسطية الإسلام، وتقديم الدواء في هذا المقام حيث كان الإسلام حكيمًا في دوائه، فلم يجنح للمادية المغرقة، ولا إلى الروحية المفرطة.

ومن هنا فقد حرم الإسلام الزنا، وهو مظهر من مظاهر المادية الجامحة فقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32) بل إنه أمر بغض البصر، وتوجه بهذا الأمر للجنسين، حيث حتى لا يحدث طغيان مادي جنسي في مثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 30، 31). وقد شدد الإسلام في تحريم جريمة الزنا، وعده فاحشة وإثمًا كبيرًا، ونفر من مقدماته؛ لأنها لا تقل حرمة عنه، وتوعد عليه بالعذاب الأليم، هذا من جانب، ومن جانب آخر شرع ضمانات وقائية كافية، تحول بين أتباعه، وبين الوقوع في الزنا حيث أباح، وشرع الزواج، وجعله وسيلة القيام بمهمة الخلافة، والعمارة في الكون، وهو بذلك يسير في ركاب الحق، والفطرة السليمة. والعقول الراجحة التي أجمعت على أن الزواج في واقعه ما هو إلا تنظيم لفطرة أودعت في الإنسان، كما أودعت في غيره من أنواع الحيوان، ولولا الزواج الذي هو تنظيم لفطرة مشتركة بين الإنسان والحيوان؛ لتساوى الإنسان مع غيره من أنواع الحيوان في سبيل إشباع هذه الفطرة عن طريق الفوضى؛ وعندئذٍ لا يكون الإنسان ذلك المخلوق الذي سوَّاهُ الله ونفخ فيه من روحه، وفضَّلَهُ على كثير ممن

خلق تفضيلًا؛ ومن ثم لا نعرف دينًا من الرسالات السماوية، إلا وكان للزواج فيه المكان الأول مما يستدعي العناية، والرعاية والاحترام، ولذلك لا نعرف أمة من الأمم التي تعرف قيمة الحياة، إلا وكان الزواج لديها آخذ تلك المنزلة، والعناية والاهتمام، وليس ذلك فقط لأن الزواج أصل الأسرة، بل لأنه مما تدعو إليه الفطرة، وتقضي به الطبيعة البشرية، ومتطلباتها حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1). ويقول -جل وعلا-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام: 165) كذا قال ربنا: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61). حتى الأنبياء وعباد الرحمن وهم الذين لم يشغلهم أحد عن الله تمشوا مع الفطرة وحصولها فقال الله عنهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (الرعد: 38) وحكى القرآن عن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74). فقد سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجًا وأعقابًا يسرون بمكانتهم، وتقر بهم أعينهم، وكأنهم قالوا: هب لنا منهم سرورًا وفرحًا، فمحبة الولد، والذرية لا يتأتى إلا عن طريق الزواج، وقد تمناها سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، وخليل الرحمن الأواه الحليم، دون أن يعوقه ذلك عن التبتل إلى الله، والانقطاع للعابدة حيث تضرع إلى الله أن يهبه ذرية صالحة قال تعالى عنه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 100، 101) فلم يذم، بل استجاب الله له فوهب له من الصالحين؛ ليعينه على الدعوة والطاعة، ويؤنسه في الغربة.

وهذا سيدنا زكريا وهو من أنبياء بني إسرائيل طلب الذرية {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38) وأيضًا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (مريم: 5 - 7). فلو كان هذا الطلب يشغله عن الله ما طلبه، بل طلبه وأجابه ولاه، وأثنى عليه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 89، 90). فلم يشغلهم الزواج عن الله -عز وجل- حتى الصديقة مريم بنت عمران رزقت بغلام زكي: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (مريم: 19) فالزواج نعمة من نعم الله ينتظم بها علاقة كل من الرجل والمرأة تجاه الآخر؛ لأن غريزة الجنس في الإنسان من أقوى وأعتى غرائزه. والرجل والمرأة يميل أحدهما إلى الآخر دائمًا وأبدًا، وقد ركب فيهما ما لا يعد ولا يحصى من أسباب الجذب، والانجذاب الطبيعي، وأشرب في قلوبهما حب الجنس للآخر، والولع به، والاندفاع لإرواء هذه الغريزة قوة لا تقهر إلا بالزواج، وكل إنسان طبيعي سوي ينطوي على وازع جنسي حبيس، وشهوة قوة فعالة، فبدلًا من كبحها، كما هو الحال في الرهبانية المصادمة، للفطر السوية، وسنن الأنبياء بدلًا من ذلك يتزوج الفرد دون أن يعوقه ذلك عن طريق الله، والتبتل إليه، ودون أن يشعر المتزوج أنه أقل مرتبة ممن لم يتزوج، كما هو الحال

في الفكر الكنسي الذي ينظر إلى الزواج أنه غير الأمثل؛ ومن ثم حرموه على رجال الدين، وعلى الرهبان والعباد. بل إن التعاليم النصرانية توجب على من يريد الاشتراك في بعض الحفلات المقدسة، وبعض الأعمال الدينية أن يمتنع عن كل اتصال جنسي قبل حلول موعدها بيوم أو أكثر، فلا يجوز مثلًا لأحد الزوجين أن يشترك في أي عيد من أعياد الكنيسة، إذا كان في الليلة السابقة؛ لهذا العيد قد اتصل بزوجته، وكأنهما قد اقترفا إثمًا عظيمًا سلبهما من التدرج الأخلاقي بينما يرى الإسلام أن اتصال الرجل بزوجته هو من أماثل الأعمال وأفضلها لما يترتب عليه من كسر حدة الشهوة، ويكون ذلك في الحلال. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 الديانة البوذية (5).

الدرس: 11 الديانة البوذية (5).

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الديانة البوذية (5)) حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فحدَّثتُك عن نشأة الرهبنة في البوذية وأصولها، وانتقالها إلى المسيحية، وآدابها ونظمها ونحو هذا، ثم أردفت الكلام عن وجهة نظر الإسلام في الرهبنة والرد عليها، وأن الإسلام حرمها ومنعها، وعدَّها بدعة من البدع التي اخترعها النصارى ومن سبقهم {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27). ولما كان قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) من الآيات التي يمكن أن تُفهم خطأ بمعنى الرهبنة، فقد بينا الفرق بين التبتُّل الصحيح بمعنى الانقطاع إلى الله -عز وجل- في العبادة وإخلاص العبادة له، وبين الرهبنة المرفوضة أو التبتل المذموم بالعزوف عن الزواج، الذي جعله الله -عز وجل- آية وجعله نعمة، وجعله سبب عمران الكون، وسنة الأنبياء والمرسلين، ودأب الصالحين. وأرى لزامًا علي أن أبين حكم الإسلام ووجهة نظره في معالم الرهبنة، من حيث العزوف عن الزواج، والدعوة إلى الفقر، والتسول، وما إلى ذلك من مظاهر، نبين فيها حكم العقل، وحكم الشرع في هذه المسألة التي قد يظنها الناس أنها من حسنات البوذية، ومن حسنات النصرانية، ومن سلك ملكهما وصار على ضربهما. حدثتك أن الزواج نعمة من نعم الله -عز وجل- وأن اتصال الرجل بزوجته هو من أماثل الأعمال وأفضلها في الإسلام؛ لما يترتب عليها من كسر حدة الشهوة في الحلال، ولذلك جاء في الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأتِ أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه))، أخرجه مسلم، وهكذا يعترف الإسلام بأمر الفترة عن طريق الوضع السوي لكل من الرجل والمرأة في إطار يرتضيه رب العالمين دون أن يعتبر إفضاء كل منهما للآخر داخل هذا الإطار، نافيًا من التدرج حتى في شخص الأنبياء دون أن يمنعهم ذلك من أهلية التلقي عن الله، والوحي إليهم، واصطفائهم، والإسلام يرفع هذا الحرج فيقول الله في القرآن: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223)، كما يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر)) قالوا: نعم. فقال: ((كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر))، وقال -عليه الصلاة والسلام: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)). ويؤكد الرسول -عليه الصلاة والسلام- على أن الزواج من سنن المرسلين فيقول -عليه الصلاة والسلام: ((أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر، والسواك، والنكاح))، فالنكاح وآثاره من إنجاب الذُّرية من سنن الأنبياء، وهم المصطفون الأخيار، الذين لم تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله، ومن هنا جاء التحذير من

الانشغال بالأولاد عن الله -عز وجل- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9)، فالخسران حصل لهم بسبب الانشغال لا بسبب آخر، فالواقع يشهد أن وجود الأولاد قد يُحصل به الإنسان درجات من الرقي الأخلاقي في حالتي الحياة والموت، فإذا عاشت الذرية فلعل منهم من يُجاهد في سبيل الله ويحصل الشهادة، وإذا مات كان فرطًا لأبويه ينتفع به أبواه أو ينتفع هو بأبويه، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وقد دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- لخادمه أنس -رضي الله عنه- استجابة لطلب أمه فدعا له قائلًا: ((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيت)). ومعلوم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما دعا له بخير، وحتى يوم القيامة ينعم الله على عباده فيقول: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 23، 24)، وقوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21). ولم يكتفِ الإسلام وهو يقدم الدواء لهذا الداء ببيان مفهوم التبتل الصحيح ووسائله وجوهره، وكون الزواج من سنن المرسلين، وتمني الذرية شيء مغروس في الفطرة، ولم يكتفِ بذلك، بل عمد إلى النهي عن التبتل صراحة، وعدَّه غلوًّا في الدين يتنافى مع وسطية الإسلام، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها -أي: عدوها قليلة- فقالوا: أين نحن من النبي -عليه الصلاة والسلام-

وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أما أنا أصوم ولا أفطر، قال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)). فالإسلام راعى الفطرة في بناء التكاليف عليها، حيث لا تكون مصطدمة معها، أو مهملة لمقتضياتها المادية والروحية، ومن ثم لم يقبل النبي -عليه الصلاة والسلام- أي سلوك شاذٍّ عنها، فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: رد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. بينما يرى الفكر الكنسي أن الذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله هم أعلى مرتبة، حيث يقول متَّى: لأنه يوجد خصيان وُلِدوا كذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، من استطاع أن يقبل فليقبل. أرأيت إلى انتكاسة الفطرة كيف تكون، بينما الإسلام يُعلن رفضه للرهبانية صراحة، فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أيضًا قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان من ترك النساء، بعث إليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((يا عثمان إني لم أُمر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟))، قال: لا يا رسول الله. قال: ((إن من سنتي أن أصلي وأ نام، وأ صوم وأطعم، وأنكح، وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان إن لأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا))، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء، وذكرك في

الأرض))، الحديث. كما قال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: ((تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى)). وهكذا يرفض الإسلام الرهبانية رفضًا قاطعًا بطرق عدة منها: الأمر المباشر بالزواج، ومنها النهي الصريح عن التبتل والرهبانية، ومنها تصحيح مفهومها، وأنها تعني في الإسلام الجهاد والضرب في نحور الأعداء، ومنها اعتبار من أرادوا أن يسلكوها مُغالين في الدين كحديث الرهط، وحديث عثمان بن مظعون سالفَي الذكر، فهذه مواقف فردية معدودة من بعض الصحابة تشير إلى الاتجاه إلى سبيل الغلو والتشدد في الدين، ولكن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان لهم بالمرصاد، فردهم عن هذا السبيل، قوَّم هذا العوج، وصحح نظرتهم فاستجابوا للفطرة التي جاء بها الإسلام لأنها الأصل {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30)، أي: ما ينبغي أن تُبدل تلك الفطرة أو تغير؛ لأنها بمعنى الإسلام عند عامة أهل العلم والسلف وأهل التأويل، فمصادمة ذلك إنما هو انحراف عن الصراط المستقيم؛ حيث انعقد الإجماع في كل الشرائع السماوية والأخلاقية السوية على أن الزواج هو الوضع السوي لكلٍّ من الرجل والمرأة. فالزواج في الهندوسية رباط مقدس، وهو إلتزامي للجميع، حتى إن الرجل عندما يصبح أرملًا يتخلى عن رئاسة الأسرة لتنتقل إلى ابنه المتزوج، والسبب في ذلك يرجع للاعتقاد بأن الأعزب لا يستطيع أن يقوم بتقديم القرابين للأسلاف، كما يعتقد الهندوس أن سعادة الفرد في الآخرة سوف تتوقف على تسلسل أعقابه من الذكور، وعلى ما يقدمه هؤلاء للأرواح من صلوات وأدعية وأضحية، وقرابين في مختلف المناسبات والأعياد.

فالعزوبة تعرض روح الأعزب وأروح سلفه للشقاء، ومن ثَمَّ فهو جرم كبير يقترفه الأعزب في حق نفسه وآبائه؛ ولذا فإن الزواج يُعدُّ عندهم أحد الفروض العينية الواجبة على الفرد، ولم يكن محارمًا على الرجل أن يقترن بأي امرأة من ذوي قرباه ما عدا المحرمات، وكان على الأرملة أن تقترن بعد وفاة زوجها بأخيه أو أحد أقاربه. والبرهمية تلتقي مع اليهودية من حيث محاربة الفردية ووجوب الزواج، وهما يعتبران الأعزب القادر على الزواج ولا يتزوج مخربًا في بناء الله يعمل على إطفاء نوره، وعليه فالأعزب فاسد ضار. وإذا كان الأمر كذلك فإن القائلين بالرهبانية خالفوا العقل والنقل؛ حيث خالفوا التوراة التي جاء فيها قول الرب لأدم وحواء: وقال لهم: "أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض" سفر التكوين، الإصحاح الأول الفقرة التاسعة والعشرون، وجاء فيها أيضًا: "ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي"، سفر التكوين الإصحاح الثالث الفقرة الحادية والعشرون. وأيضًا: "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا" سفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة الخامسة والعشرون. وأيضًا: "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" سفر التكوين، الإصحاح الرابع الفقرة الأولى. وقد خالفوا الإنجيل أيضًا، حيث ورد فيه ما يفيد أن الزواج مبارك من حيث ثبت المسيح رباط الزيجة وباركه بحضور العرس في قانا الجليل، وقانا الجليل: اسم عبري معناه مكان القصب، وهو في الجليل بمكان عالٍ بالنسبة إلى كفر ناحوم، ويقال بأنها تقع بالقرب من صيدى ويقول بعضهم: إنها تقع شمال شرقي الناصرة بأربعة أميال، كذا في قاموس الكتاب المقدس.

والنص يقول: "وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك، ودُعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس" يوحنا الإصحاح الأول الفقرة الأولى والثانية. أما مخالفة الرهبانية للعقل والواقع، فلنترك الواقع الاجتماعي لمن شددوا على أنفسهم بتحريم ما أحل الله له، يتكلم حيث أدت إلى مفاسد وانحرافات في سلوك الرهبان أنفسهم، داخل جدران الأديرة التي عجَّت بألوان الرذيلة التي مارسوها في الأماكن المقدسة وخارجها. راجع كتاب (الجنس في الكنيسة)، وكتاب (فضائح الكنائس)، فلا تقع عينك إلا على ما يشين، ويلطخ الحياة الرهبانية من الفضائح الشنيعة، والدعارة التي لا تضارعها دعارة مواخير الفساد. كتاب العلمانية سفر الحوالي. حيث انتشر اللواط بين رهبان المعبد في قصة الحضارة لوول ديورانت، وكذلك انتشر الاغتصاب على يد الرهبان، وراح النصارى يدافعون عن هذه الجرائم ويتحدثون عنها باسم الإيمان والرجاء والمحبة، أي إيمان؟! لقد حرم الرهبان والراهبات على أنفسهم الزواج لأن لا ينشغلوا عن الله فانحرفوا عنه بالكلية، وأدَّى غلوهم في دينهم إلى العكس تمامًا، فبدلًا من أن تصبح هذه الأديرة أماكن طاهرة إذا بها تصبح مواخير الفسق والدعارة للمترهبنين والمترهبنات، وأما الفرد العادي فقد ضعفت ثقته بالدين وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، كيف لا؟ وهو يرى خصيان الملكوت ومثال الطهر يغرقون في الفجور، فأيهما يتفق مع العقل والواقع، أمصادمة الغريزة والفطرة والعقل والنقل؟ أم السير في الإطار الصحيح بالزواج؟ فالمسيح لم ينه عنه! ولم تتح له فرصة الزواج، بل إنه حضر وبارك العرس كما ذكر يوحنا، كما أن وضع

المسيح وكونه آية للناس فعدم زواجه خصوصية من خصوصياته ولم يأمر بالاقتضاء به فيها، وكذلك الحال بالنسبة لسيدنا يحيى حيث كان حصورًا حسب بشارة الملائكة به {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 39)، والحصور: الذي لا يأتي النساء، إما من العِنَّة والاجتهاد في إزالة الشهوة، والثاني أظهر في الآية؛ لأنه بذلك يستحق الرجل الحمد. ومن ثمََّ التبتل ليس من فطرة الإنسان ولم يأمر به أي نبي من الأنبياء، ومنهم أنبياء بني إسرائيل موسى وعيسى وسليمان وغيرهم، ومن قبلهم سيدنا إبراهيم، وسيدنا يعقوب فهو من سنن المرسلين، من آدم إلى مسك الختام سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، فالتبتل لم يشهد له الواقع الديني والتاريخي والاجتماعي، فهو شذوذ عن القانون العام للأديان، وخروج عن القصد الحسن والسير المعتدل عن الصراط المستقيم، ومن ثَمَّ فشل التبتل في تحقيق المقصود به، وهو الانقطاع إلى الله؛ فأدَّى إلى الانقطاع عن الله؛ هذا لمخالفتهم السنة الإلهية القائلة {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49). وإذا كان مستند القائلين بالرهبنة والتبتل هو الهرب من المرأة؛ لأنها أصل الشر والخطيئة، فلماذا أوجبوا الرهبنة عليها هي الأخرى، وممن ستهرب هي الأخرى، إن هذا التناقض ليدل على الضلال الفكري والسلوك؛ لأنه ماذا بعد الحق إلا الضلال، بينما يرى الإسلام أن المرأة مخلوق مكرم كالرجل، وأن الوسوسة والأكل من الشجرة منسوب إلى آدم وحواء معًا، وعتاب الله توجَّه لهما معًا، حيث يقول سبحانه في القرآن الكريم المعصوم من التحريف، والمهيمن على ما سبقه

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 21 - 23). فليست المرأة في الإسلام أصل الشر، بل هي كالرجل في التدرج في مدارج الكمال الأخلاقي أو العكس {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، فمدار الأمر أمام الله على أساس عمل الخير أو الشر، لا على أساس ذكر أو أنثى؛ بل قد عاب القرآن على من إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم، فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58، 59). بل إن الإسلام يباهي بنماذج من النساء صرن مضرب المثل في الطاعة، وضرب بهن المثل للمؤمنين حيث قال رب العالمين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ

الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم: 11 - 12). ويؤكد تلك الحقيقة المرتكزة على العمل لا غير قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). ومن ثم لم تكن المرأة أصل الشر والخطيئة لذاتها، بل إذا انحرفت كانت سببًا في الخطيئة لانحرافها لا لشيء آخر {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم: 10)، لكن عند عدم الانحراف يتنافس كل من الرجل والمرأة في مرضات رب العالمين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. الأمر الذي يؤكَِّد أن زعم القائلين بأن المرأة هي أصل الشر والخطيئة، وبالتالي لزم الأمر منها بالتبتل، فيكشفه لنا وول ديورانت الذي يفسر عداوة الرهبان للمرأة بأنه يرجع إلى ضعفهم أمام مفاتن المرأة؛ حيث يقول: "وكانت الفضيلة تبدو لبعض الرهبان بأنها صراع نفساني بين المرأة والمسيح، ولم يكن تشهيرهم بالنساء إلا جهودًا يبذلونها لإماتة شعورهم بمفاتنهن، كما كانت أحلامهم الصالحة التقية في بعض الأحيان يرطبها ضباب الشهوة" ثم يستطرد قائلًا "ولقد استخف الرهبان وهم يقسمون بأن يبقوا عذابًا بقوة الغريزة الجنسية التي يستثيرها مرارًا وتكرارًا ما يشاهدونه من مناظر، وأمثلة من غير رجال الدين". ومن هنا أصبح الرهبان تحت تأثير وحكم الغريزة التي تحاول الظهور كلما أمكنها ذلك، فغدت غرائزهم أقوى من إيمانهم، حتى إن رئيس الدير إفشام لم يكن أحد بمنجاة من فجوره. وكانت قصائد الحب متداولة بين الرهبان، وكانت

التماثيل المقامة في بعض الكنائس الكبرى والنقوش المحفورة في أثاثها، بل الرسوم المصورة في بعض الكتب المقدسة نفسها تُمثل عبث الرهبان والراهبات، تمثل خنازير في ثياب الرهبان، وأثواب الدير بارزة فوق أعضاء التذكير المنتصبة، والراهبات يعشن مع الشياطين. ولكن رجال الدين في هذه الأيام رأوا من الخير إزالة الكثرة الغالبة من هذه الرسوم، ثم يعتذر ول ديورانت عن هذا الفجور قائلًا "وقامت طائفة متتابعة من المصلحين الدينيين ببذل ما في وسعها من الجهد، لكي تعيد الرهبان ورؤساء الأديرة إلى المُثل العليا التي جاء بها المسيح". قصة الحضارة، المجلد الثامن، الجزء السادس عشر، الصفحة مائة وواحد وثمانين. وأنَّى لهم ذلك، وهم يسيرون ضد فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وهم يبغونها عوجًا بتبديلها، والله غالب على أمره، فإذا أراد الفكر الرهباني أن يرد جماح غلو الرهبان والراهبات إلى المثل العليا حقًّا فليصغوا إلى ما جاء به الإسلام الذي يعترف بالإنسان، وكونه كلًّا ولا يتجزأ، فيأخذه بمنهج الوسط فلا إفراط ولا تفريط، فلا يحرم الرغبة ولكنه ينظمها، ويسعى دائمًا إلى التوازن بين أهداف الحياة، وضرورات ونوازع الفرد، فهو يوازن بين مطالب جسده وروحه؛ لأنهما جزآن من كيان واحد، وعليه فإن التدين الحق في الإسلام ليس هو التخلص من الرغبات والشهوات، وليس هو التقشف بالكف عن اللذات، وليس هو في تحريم ما أحل الله، فالتبتل بهذا المعنى في الفكرين البوذي والنصراني، يصطدم مع منهج الله في الحياة.

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر.

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر ثانيًا: الفقر كأساس للرهبنة في ميزان الدين والعقل، جعل الفكر البوذي والنصراني الفقر أساسًا وشرطًا جوهريًّا للانخراط في الرهبنة، كما أشرنا إلى ذلك أثناء الكلام على أسس الرهبنة، وكان هذا الاتجاه ردَّ فعل للتطرف المادي للبرهمية واليهودية، فجاء الفكر البوذي ليرد على التطرف البرهمي، فنادى بالفقر وعدم التملك، والنظرة التشاؤمية للحياة، وجاء الفكر النصراني ليردَّ على التطرف المادي الجشع لليهود، فنادى بأن مرور جَمَل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. فبينما نجد هذا الغلو نرى عظمة الإسلام الذي يحتم على الإنسان أن يعمر الحياة في ظل المنهج الإلهي القائم على استخلافه في الأرض، والمرتكز على الوسطية؛ لذا أنكر المادية المفرطة فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (الإسراء: 18)، بين للمادين والذين نظروا للحياة الدنيا واطمأنوا بها: أن الدنيا لا تستحق أن يلهث الإنسان وراءها فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24)، كما قال تعالى أيضًا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف: 45)، وقال جل وعلا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ

الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14). ولم يكتفِ الإسلام بذلك، بل قص علينا العديد من مواقف الماديين وكيف كانت عاقبتهم الوخيمة، مثل: النمود، وفرعون، وقارون، وقصة سبأ صاحب الجنتين، وغيرهم كثير، كيف جنى عليهم ترفهم وماديتهم، وفي هذا الإطار جاءت هذه الحقيقة لكبح جماح الغنى المطغي والمادية في أعتى صورها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر: 15 - 17). وبجانب الإنكار على المادية الجامحة، ولئلا تتحير البشرية وتتخبط في ظلمات الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير، أنكر الإسلام أيضًا وبنفس القوة على الروحية الجارفة؛ لأنها تبديد للطاقات البناءة، وتخريب للحياة، وكفر بنعم الله، وفي هذا الإطار جاءت نصوص كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27)، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة: 87)، وما ذلك إلا لأن الإنسان جبل على حب المال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20). فالوسطية هي التي تعصم الإنسان من الوقوع بين فكَّي الفقر المنسي أو الغنى المطغي، وهذا ما ركز عليه الإسلام حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 9، 10)، هذا لأن الإسلام لا يخاصم

الغنى بل يعده فضل الله على عباده، ولا يخاصم الجمال والزينة، بل يستحبها للناس ويؤثرها للمؤمنين خاصة؛ لأن المؤمن يُقبل على الدنيا ليأخذ منها زاده المادي ويقبل على الدين ليأخذ منه زاده الروحي، يحرص على إيمانه بربه أبدًا، ويحرص كذلك على نصيبه من الحق الكريم من دنيا الناس، وما ذلك إلا لأن المال دعامة الاقتصاد وبه تكون التنمية، وعليه تدور النظم والسياسات الاقتصادية في العام، فالإسلام يعترف به وبحرية التملك ما دام من حلال، وينفق في حلال بوسطية حيث يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء: 29). وفي هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نرى هذا الدعاء الجميل العظيم: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)). ومن أدعية القرآن الجامعة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)، يرددها المؤمن لينال خيري الدنيا والآخرة. وبالتالي، فالدعوة إلى عدم التملك والفقر كأساس للتعبد والانقطاع إلى الله يتنافى مع الواقع الديني على مر العصور؛ حيث يؤدي إلى تعطيل القوى، وعدم الأخذ بطرف الغنى الحلال، مع أن سيدنا آدم مأمور أن يسلكها فقد جاء في سفر التكوين: "بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها" سفر التكوين الإصحاح الثالث الفقرة التاسعة عشرة.

فهي دعوى للحصول على لقمة العيش بعرق الجبين، وتحصيل المال من وجه حلال؛ هربًا من الفقر، وفي سفر الأمثال نهيٌ عن الكسل لعدم الوقع في دائرة الفقر حيث يقول السفر: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا، التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط، وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها، إلى متى تنام أيها الكسلان؟! ". والنصارى يؤمنون بالعهد القديم، ويعتبرونه مصدرًا للتشريع؛ لأن المسيح ما جاء لينقض الناموس، وموسى -عليه السلام- الذي يؤمن به النصارى عمل أجيرًا، واستناد النصارى على قول الإنجيل ناسبًا ذلك للمسيح: "إذا أردت أن تكون كاملًا بِعْ ما تملك وتعالَ اتبعني"، فعلى فرض صحة نسبتها للمسيح فهي حالة خاصة لعلاج هذا النوع الذي استشرى فيه داء حب المال وطغيانه. ومثلها قول متَّى في إنجيله عن المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون؛ لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك"، متَّى، الإصاح السادس، الفقرة التاسعة عشر إلى الثانية والعشرين. فيراد بمثل هذه النصوص وغيرها كبح جماح طغيان المال، وذلك له نظير في الإسلام مثل قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46)، فلا يُفهم من ذلك الدعوة إلى الرهبنة والفقر، والعزوف عن الدنيا أو المال؛ حيث إن الله تعالى قد سمى المال خيرًا في مواضع من كتابه العزيز حيث قال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (البقرة: 180) وأراد به المال، وقال: {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: 82)، وقال ممتنًّا

على عباده: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح: 12)، وقال سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)). وحذر من الفقر وقال: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا))، وهو ثناء على المال شريطة ألا ينشغل الإنسان به عن ربه، كما قال -عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24)، وسيدنا سليمان -وهم يؤمنون به- طلب الملك والمال، وحازه ولم يشغله عن ربه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص: 35)، سيدنا يوسف -عليه السلام- قال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55). أما الرهبان فقد خالفوا الفطرة والعقل والنقل، وغالطوا أنفسهم حيث قال الحق: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20). نتيجة هذه المصادمة وذلك الانحراف تحولوا إلى آكلين أموال الناس بالباطل، اتخذوها وسيلة تُدرُّ عليهم المال الوفير، وقد صور الحق -تبارك وتعالى- ذلك فقال عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34)، وقد انحطت أخلاقهم واستحوذ عليهم الجشع وحب والمال، ومن ثم تحولت الكنيسة والرهبان إلى الطرف الناتج عن كثرة المال، وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان السخاء الشعبي مصدرًا لما ينغمس فيه الرهبان

أحيانًا من ترف، فإن ما قام به الرهبان من إصلاح اقتصادي لأوربا في العصور الوسطى ليشهدوا بأنهم كانوا ولا يزالون بوجه عام مُلاكًا وزراعًا أذكياء. وهكذا انصرف ذكاؤهم وتفكيرهم إلى المال وطرق جمعه، حتى ولو بالإلحاف في السؤال كما يقول ول ديورانت: "كان بعض الرهبان يغادرون الأديرة باختيارهم، ويضايقون الناس بإلحافهم في السؤال، ولا يتقيدون بقيود الأديرة، وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان الأغنياء الأقوياء؛ هدفًا لسخرية الشعب وتشهير الأدباء، ومن الأديرة ما اشتهر بطعامه الشهي وخمره، وفسدت أخلاقهم لزيادة ثرائهم كرد فعل للحرام الذي تكلفوه. ومن ثم فالرهبنة قائمة على العنت والمشقة وتكليف النفس البشرية فوق طاقاتها، والغلو في تهذيبها إلى حد التضييق والتعذيب، هذا التفريط الذي أعقبه إفراط. أما في الإسلام فمن منهجه: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا))، يوازن الإنسان بين الدنيا والآخرة، فيبيح حرية التملك، وتحقيق العزة الاقتصادية، ويحارب الفقر، وفي ذات الوقت يأمر بالزكاة والزهد في المال، بمعنى عدم الإلحاح في طلب متع الدنيا، وحصر الهدف في الحصول عليها لذاتها، وكأنها غايات لا وسائل، والإسلام بدعوته للزهد يحول دون المادية وطغيانها افتنان القلب بها؛ لتحقيق الكرامة والثقة بالله، دون أن يحرم الاستمتاع بمتع الدنيا الحلال، يقول تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32). هذا هو معنى الزهد في الإسلام، ليؤكد التوازن، والفكر الزهدي في الإسلام غير الرهبنة، إن الرهبانية شيء خاص للقائلين بها، وأما الإسلام ففيه التوازن الذي حرمه الفكر

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد.

الرهباني فضلَّ وأضل، وأصبح أصحابه من أصحاب الغنى المطغي عن طريق الأملاك الإقطاعية والأوقاف والعشور، عشر ما تُغله الأرض الزراعية، والإقطاعيات، وما يمتلكه الإنسان من مال والضرائب، والهبات، والعطايا، والعمل المجني، والسُّخْرة، كلها باسم الدين. وهكذا بدأ الفقر في الرهبنة بشيء صغير ثم اتسعت دائرته، وتطاير شرره، فتحول من دواء لطغيان المال إلى داء لاقتناء المال، وكنزه، بل واستخدامه ضد مراد رب العالمين، لمحاربة عباده الصالحين الكادحين الموحدين، فهل يحب المسيح عيسى بن مريم ذلك، يقول صاحب كتاب (مهجة الفؤاد في تفسير أناجيل الآحاد): "وبما أن كثيرين قديمًا كانوا يعذبون أجسادهم بعذابات أليمة وشديدة على طرق متعددة، لا حبًّا بالمسيح، بل اتباعًا لتصوراتهم الضالة، ورغبة في اكتساب المجد العالمي، كما يفعل الآن كثيرون من نُسَّاك بلاد الهند، وصدق الله حين يقول عن هذه الأكثرية أيضًا في آية الرهبنة: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27). حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد ثالثًا: إهانة الجسد، ومواصلة تعذيبه كأساس للرهبانية في ميزان الدين والعقل، لقد رضي الخالق -وهو أعلم بمن خلق- للبشرية أن تمارس حياتها الطبيعية، وأن تتمتع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من المأكل والمشرب والملبس، وهذه سنة الله من لدن آدم -عليه السلام، بخلاف الفكر البوذي والنصراني، الذي يتنافس في إهانة الجسد وتعذيبه بزعم التقرب إلى الله، كما أسلفنا أثناء عرض أسس الرهبنة، وجاء الإسلام يعطي كل ذي كل حقٍّ حقَّه، وكان من شعاره: ((إن لبدنك عليك حقًّا))، وحديث الرهط، والذين كان يريد أحدهم أن يعذب جسده بمواصلة الصوم فنهاه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة.

وقد أوضح النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الاعتناء بالجسم من مظاهر التقرب إلى الله -عز وجل- في مثل: الوضوء قبل الصلاة، والغسل يوم الجمعة، وفي حب الله -عز وجل- للمتطهرين بإزالة الوسخ والأذى الذي لحقهم، وهكذا هدي الإسلام في العناية بالجسم والمبالغة في طهارته؛ ولأن فطرة الإنسان جُبلت على النظافة، وقد أمر الإسلام بستر العورة، وأخذ الزينة، وفي ذلك قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26)، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31). وهكذا جمع الإسلام بين خير الأمرين: أخذ بالحظ المعتدل من الدنيا والأجر العظيم في الآخرة. أما الفكر الرهباني فيتصادم مع العقل والواقع، وينحرف عن الوسطية في الوقت الذي يأتي بالأعاجيب في تعذيب وإهمال الجسد تفريطًا في حقه، وجاء الآخرون من بعدهم مما لا يرضى به المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- إفراطًا فأهلكوا الجسد والروح. حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة رابعًا: الاعتزال والعزلة كأساس للرهبنة في الميزان: يزعم الفكر الرهباني في البوذية والنصرانية أن العزلة واعتزال الحياة الاجتماعية شرط للانقطاع إلى الله، وأساس للتقرب إليه، والناظر بعين الحق يتضح له أن النصوص الدينية والمسلمات العقلية لا تؤيد ذلك؛ حيث إن سيدنا آدم لم يعتزل الخلق ولا أمر أبناءه بذلك؛ بل شارك في معترك الحياة العامة، وقال الله له في التوراة: "بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها"، وكأن العمل لا يتوقف حتى ينتهي عمر الإنسان، ثم تستنهض التوراة همم الكسالى، وتضرب

لهم مثلًا بالنملة قائلة: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا، إلى متى تنام أيها الكسلان؟! ". بل تحدد التوراة مهمة آدم، وهي عمارة الكون حينما تقول: "فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل في الأرض التي أخذ منها". وعلى ذلك سار المسيح، فكثيرًا ما ضرب الأمثال لهم، ومنها مثل الزرع، سيدنا موسى اشتغل برعي الغنم شأن كثير من الأنبياء، وفي الإسلام احتلَّ العمل، ومشاركة الناس المكان اللائق بأهميته في تيسير حركة المجتمع؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا في توازن ووسطية، حتى في يوم الجمعة الذي هو عيد المسلمين الأسبوعي يقول الله -عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 9، 10). وفي المقابل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9). فالعبادات في الإسلام لا تتعارض مع مصالح الدنيا ما دام الإنسان آخذًا بالوسطية، كما أن الإسلام فيه دعوة، ووُصفت أمة الإسلام بالخير، والخير فيه دعوة وأمر بمعروف ونهي عن النكر {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)، وهذا لا يتحقق بالعزلة ((والذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))، ومن ثم فالتدين الحق ليس باعتزال الخلق والتخلي عن الدنيا وشئونها كما في البوذية والنصرانية.

حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته.

وأين الانقطاع بالعزلة إلى الله والرهبان والراهبات لم ينعزلوا لله، بل للكيد للإسلام والمسلمين، والطعن في دينه، وتلك الحركة الاستشراقية والتنصيرية خير شاهد على ذلك، فالرهبان هم طلائع المستشرقين والمنصرين، فالعزلة عند السابقين تخريب للبيوت والأسر وتشتيتها، لقد اتهم جمهور الرومان الدين المسيحي بالعمل على تشتيت الأسر وخراب البيوت؛ حيث كان الواحد منهم يهجر عائلته وأرضه، ومن ثم كان سخط الجموع الوثنية الرومانية أشدّ من سخط الأباطرة أنفسهم. والعزلة عند المعاصرين تلبيس على الغير؛ لإدارة رحى الحرب على الإسلام والمسلمين بحجة التمكين لدين المسيح، فأخذوا في العمل وشيدوا المصانع في الأديرة، وأقاموا مزارع، وأسسوا مشروعات، واشترطوا على من يريد الانخراط في سلك الرهبنة، أن يكون حاصلًا على مؤهل متوسط على الأقل حتى يكون عارف بدوره المنوط به أداؤه. ورأينا الآن من الرهبان ممن هم أطباء ومهندسون ومدرسون وغيرهم، ألا يدل ذلك على مدى التناقض شأن الباطل دائمًا، فماذا بعد الحق إلا الضلال. حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته خامسًا: الطاعة المطلقة لجل الدين، واعتقاد عصمته، وعبادة الرهبان في الميزان. لقد قرر الإسلام حقيقة جوهرية وهي أن العصمة واجبة للأنبياء والرسل، فلهم حق الطاعة؛ لأنهم يوحى إليهم من عند الله، لكن زعم السلطان الرسولي المعطى للإنسان التابع للنبي أيُّ نبي في أيَّة أمة لا حظ له في الواقع الديني، وبالتالي فإن صكوك الغفران أبطلها الإسلام بقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135)، وبقوله: {فَأُلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70)، فالله وحده لا غير هو الغفار؛ وبالتالي فالأساس الذي اعتقده

الناس في الرهبان، وأنهم معصومون أو أعطوا سلطانًا رسولي زعم باطل، فالكل سواء أمام الله، فالإسلام لم يعترف بما يسمى رجل دين بمعناه اللاهوتي، أو بوجود سلطة كهنوتية ذات طقوس خاصة ولا بوساطة كهنوتية على النحو الذي يُعرف في الفكر البوذي والنصراني، بل العبد يلجأ إلى الله مباشرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186). وقد أبطل القرآن اتخاذ الغير ربًّا فقال تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31)، وهكذا أخرجتهم الرهبنة عن عبادة الله إلى عبادة غيره، فأوقعتهم في الوثنية التي جاءت الرسالات الإلهية لمحاربتها، مما يدل دلالة واضحة على أن الرهبانية لم تكن أصلًا من أصول أي دين حق بمفهومها البوذي والنصراني، وإنما هم المبتدعون لها، دون أن يراعوها حق رعايتها، ففسق أكثرهم عن الحق، ولذا نختم بقول الله عز وجل: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27). يقول الإمام القرطبي في (تفسيره): {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (الحديد: 27)، أي من قبل أنفسهم، وفيها قراءتان إحداهما بفتح الراء وهي الخوف، والثانية بضمها وهي منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح، والتعلق بالكهوف والصوامع، ذلك أن

ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي نفر قليل، فترهبنوا وتبتلوا، فإن الضحاك قال: "إن ملوكًا بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم ما كان بقي على منهاج عيسى فقتلوه، فقال قوم بقوا بعده: نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع". وقوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27) أي: ما فرضناها عليهم، معناه: لم نكتب عليهم شيئًا البتة، ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (الحديد: 27) بدلًا من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وقيل: إلا ابتغاء الاستثناء منقطع، والتقدير: ما كتبناها عليهم، لكن ابتدعوها هم ابتغاء رضوان الله. فقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27) أي: فما قاموا بها حق القيام، وهذا خصوص؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهيب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34). وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}، قال: "كانت ملوك بعد عيسى بدَّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا، فطائفة قالت: ابنوا لنا اسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا، وطائفة قالت: ابنوا لنا دورًا في الفيافي ونحتفر الآبار، ونحترث

البقول، فلا تروننا، وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منه، ففعلوا فمضوا ألئك على منهاج عيسى، وخالف قوم من بعدهم ممن قد غيَّر الكتاب فقالوا: نسيح، ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ي قول: ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُم ْ} يعني: الذين ابتدعوها أولًا، ورعوها، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، يعني المتأخرين فلما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يبق منهم إلا قليل جاءوا من الكهوف والصوامع، والغيران، فآمنوا بمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم". وبمثل هذا قال الإمام ابن كثير في الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}، قال: أي ابتدعها أمة النصارى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله: {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك، وإنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهو ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله، ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه بما زعموا أنه قربة، يقربهم إلى الله عز وجل. إلى آخر ما قال. وكذا قال الألوسي والفخر الرازي، وآخرون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 الديانة الجينية.

الدرس: 12 الديانة الجينية.

تمهيد للديانة الجينية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (الديانة الجينية) تمهيد للديانة الجينية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فنأتي إلى ثالث أديان الهند الكبرى، وهي الديانة الجينية، من حيث التأسيس والنشأة وأهم عقائدها، فنشرع في بيان هذا إن شاء الله تبارك وتعالى، فنمهد له فنقول: في القرن السادس قبل الميلاد يُعتبر هذا القرن من أجدر عصور التاريخ بالملاحظة، ففي كل مكان به كانت عقول الناس تُظهر جُرأة جديدة، وفي كل مكانٍ كان الناسُ يستيقظون مما ران عليهم من تقاليد الأباطرة والكهان، والقرابين، ويسألون أشد الأسئلة تعمقًا ونفاذًا، وكأنما الجنس البشري قد بلغ مرحلة الرشد بعد طفولة دامت عشرين ألف سنة. ففي هذا القرن ظهر بالهند مهاير معلم الجينية، وظهر هوتامة مؤسس البوذية، ظهر في الصين كونفشيوس المربي العظيم، وفي إيران ظهر زرادتشت، وبين بني إسرائيل قام أشعياء، وغيرهم من المعلمين، وفي بلاد الإغريق ارتفع صوت فيثاغورس، وفي مدينة إفسس تجلى هيراقليتوس يواصل تأملاته وأبحاثه الفكرية في طبيعة الأشياء، وهكذا هبت موجة فكرية تجاوبت أصداؤها في كل مكان. ومن بين ألوان النشاط الفكري التي انبثقت في القرن السادس قبل الميلاد كان كما قلنا ظهور مهاوير وبوذى بالهند. ويُلاحظ على أفكار هذين المعلمين، بل على أفكار جميع المصلحين والفلاسفة الهنود أنها دارت في الفلك الهندي ولم تتجاوزه، فالجميع يرون أن الحياة الدنيا تعاسة، والعيش فيها ويل، والتغير والزوال أساس الحسرات وأصل الآلام، والجميع يقولون بتكرار المولد وبالزهد وسيلة للنجاة، وإذا شذ أي مفكر هندي عن هذا الإطار ضاع صوته دون غناء، ويقول الفيلسوف الهندي عبد السلام الرمبوري عن فرقة الصنواكيين: إنهم شرذمة خالفوا كيان تربتهم فأكلتهم.

تأسيس ونشأة الديانة الجينية.

ومن أجل هذا التشابه اختلط أمر الجينية مثلًا على غستاف لوبون فعدها نوع من البوذية، ومن أجل هذا أيضًا لم تستطع البوذية الصمود في معركتها ضد الهنودسية، حول موضوع الطبقات وغادرت البوذية وطنها ثمنًا لهذا الخلاف، ودخل نظام الطبقات إلى البوذية بشكل عملي، وإن أنكرته نظريًّا. أما الجينية فقد اضطرت بعد فشل مقاومتها إلى العودة لقبول نظام الطبقات بشكل ما، فقررت الاعتراف بالبراهمة ورسمت إجلالهم، وبذلك استطاعت البقاء في الهند. تأسيس ونشأة الديانة الجينية وضع البراهمة نظام الطبقات -كما قلنا في حديثنا عن الهندوسية، وخص البراهمة أنفسهم بكثير من الامتيازات التي ذكرنا بعضها عند الكلام عن نظام الطبقات، وفي ظل هذا النظام استبدَّ البراهمة وظهر عسفهم وطغيانهم أحيانًا، وضجَّ الناس من استبداد البراهمة وجورهم، وتمنوا ظهور قائد روحي جديد يخلصهم من ظلم البراهمة وطغيانهم، وكانت طائفة الكشتريا أكثر الطوائف إحساسًا بهذا الظلم لشدة ما بين الطائفتين من تنافس كنتيجة لقرب المسافة بينهما. ويمكننا هنا أن نشير إلى أسطورة وردت في مهاب هرتا تدل على مدى ما بين الطائفتين من أضغان، وتتصل هذه الأسطورة بالأميرة ديوياني التي سبق أن تحدثنا عنها عند التعريف الذي أوردناه بمهاب هرتا، وموجز الأسطورة أن ديوياني -وهي من طبقة البراهمة- خرجت في نزهة في فصل القيظ مع سيرمستها بنت ملك أسورا ومعها بعض الأتراب، ووصلنا ببحيرة فخلعن ملابسهن ونزلن للاستحمام، فهبت عاصفة حملت ملابسهن وخلطتها بعضها ببعض، وخرجن من البحيرة فأخطأت سيرمستها بنت الملك ولبست ملابس ديوياني البرهمية فقالت لها ديوياني: ألا تعلمين أيتها الجاهلة أن كسوة بنت الشيخ أكبر من أن

ترتديها بنت التلميذ، هل أنت بلهاء إلى هذا الحد؟! فغضبت سيرمستها وأجابت: أنا بنت ملك يذكره الناس شاكرين أياديه، وأنت بنت رجل يعيش على الإحسان، عشيرتي عشيرة البر، وعيشرتك عشيرة الاستعطاف والتسول. وأخرجت كل منهما ما في جعبتها من الحقد، ولم يقنع البراهمة بعد ذلك إلا بعقوبة قاسية تقع على بنت الملك، واختارت ديوياني العقوبة التي ترضيها، وهي أن تصبح بنت الملك خادمة لها في المنزل الذي ستتزوج فيه. وهكذا كان هناك سخط من كل الطبقات ضد استبداد البراهمة، وكان الكشتريا أكثر الطوائف سخطًا، ثم كان لقوتهم المسئولين عن مقاومة طغيان البراهمة وجبروتهم، وكذا دب في نفوس أبناء الكشتريا إحساسًا بضرورة الثورة، وقوي هذا الإحساس على مر الزمن حتى جاء القرن السادس فإذا بالإحساس يصبح واقعًا، فهبت ثورتان كبيرتان في وجه الهندوسية يقود مهاوير إحدى هاتين الثورتين، ويقود غوتاما ثانيتهما، وكما تحدثنا عن البوذية التي قادها غوتاما الذي لقب البوذا، فنحن الآن مع مهاوير الذي تزعم الجينية. مهاوير زعيم الجينية، ماذا عنه وعن بيته وولاته ونشأته؟ بيت مهاوير وولادته ونشأته: ينحدر مهاوير من أسرة من طبقة الكشتريا التي تسيطر على أمور السياسة والحرب، وكانت أسرته تقيم في بيسارة وهي بالقرب من المدينة المسماه الآن بتنا بولاية بي هارب، وكان أبوه سيد هارتا عضوًا في المجلس الذي يحكم المدينة، أو قطاع المحاربين فيها، وتزوج سيد هراتا من بنت رئيس هذا المجلس واسمها تيريسالا، وارتقت مكانت وسيد هراتا حتى وصفته بعض الروايات بأنه كان أمير المدينة، أو ملكها، وكان مهاوير الابن الثاني لوالديه؛ ولذلك آلت الإمارة إلى أخيه عقب وفاة الأب.

وكان مولد مهاوير سنة خمسمائة وتسع وتسعين قبل الميلاد، وفي اليوم الثاني عشر لولادته اجتمع أعضاء الأسرة في حفل كبير، ودعيت عمت الطفل لتختار له اسمًا كالعادة غير أن والديه ذكرا أن الأسرة نعمت بالرخاء والخير منذ حملت به أمه، واقترح لذلك أن يسمى ورد هاماتا، أي: الزيادة؛ ولكن أتباعه يدعونه مهاوير مدعين أنه الاسم الذي اختارته له الآلهة، ومعناه: البطل العظيم، ويدعى كذلك جينى، أي: القاهر والتغلب، وبهذا الوصف سميت الفرقة كلها، وسميت به الديانة الجينية؛ لأن مؤسسيها عُرفوا بقهر شهواتهم والتغلب على رغباتهم المادية. ونشأ مهاوير في بيته المجيد وسط الرخاء وطيب العيش، وكانت أسرته تستقبل من حين لآخر وفود الرهبان، وجماعات النساك؛ حيث يجدون في دار الأمير إقامة طيبة وحسن ترحيب، وكان مهاوير منذ نعومة أظفاره يحب مجالستهم ويستمع إلى حكمهم، وإرشاداتهم، وتأثر مهاوير بهم وبفلسفاتهم؛ فعزف عن المتع والملاذ الدنيوية، ومال إلى الرهبانية والتبتل والزهد، ولكن الظروف لم تكن تسمح له بالتعمق في الرهبنة، والخوض في الزهد؛ نظرًا لمكانة أسرته التي كانت ترعى شئون السياسة والنضال، وتعيش في الترف والبزخ، ودفعته حياة أسرته إلى الزواج، فتزوج بفتاة اسمها ياسودا وولدت له بنتًا اسمها أبوجا، وظل مهاوير طيلة حياة والديه يكبت إحساسه وشوقه للرهبنة، ويعيش في الظاهر كما يعيش أبناء طائفته، وينطوي باطنة على رغبة في الزهد والصفاء، فلما توفي والداه أتيحت له الفرصة ليعلن ما أخفى، وكان أخوه الأمير قد تولى الإمارة فطلب منه مهاوير أن يأذن له في الرهبنة، ولكن الأمير خشي أن يظن الناس أن تصرف مهاوي كان نتيجة لقسوة أخيه عليه، أو تقصيره في مطالبه، فطلب الأمير من مهاوير أن يؤجل ذلك عامًا فاستجاب له مهاوير.

وفي الموعد المحدد عقد اجتماع كبير تحت شجرة أشوكا، اشترك فيه أفراد الأسرة وأهالي البلدة، وأعلن مهاوير فيه رغبته في التخلي عن الملك والألقاب ومتاع الدنيا ليخلو للزهد والتبتل، وكان هذا مطلع حياته الروحية الصريحة، فخلع ملابسه الفاخرة ونزع حليه وحلق رأسه، وبدأ حياتًا جديدة وكانت سنه آنذاك ثلاثين عامًا. ترهب مهاوير ودعوته: صام مهاوير يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافيًا وفي زيِّ الزهاد والنساك، ولجأ إلى الزهد والجوع والتقشف، وغرق في التفكير، واهتم بالرياضة الصعبة القاسية، والتأملات النفسية العميقة، وبعد ثلاثة عشر شهرًا من ترهبه، خلع ملابسه دون حياء، إذ كان قد قتل في نفسه عواطف الجوع والإحساس والحياء، وكان أحيانًا يعتكف في المقابر، ولكن أكثر وقته كان يمضيه متجولًا في طول البلاد وعرضها، وكان يغرق في المراقبة إلى حد لا يشعر فيه بالحزن أو السرور، ولا بالألم أو الراحة، وكان يعيش على الصدقات الطفيفة التي تقدم إليه. ويرى الجينية أن مهاوير ولد مزودًا بثلاث منها، فلما وصل بتأملاته وتقشفه حصل على الدرجة الرابعة، واستمر مهاوير يصارع المادة ويزيد في تبتله؛ فراح يجوب البلاد دون راحة، وحرص كل الحرص على أن لا يقتل حيًّا، وكان يراقب نفسه مراقبة دقيقة في صمت تام، وبعد اثني عشر عامًا أصبح كما يقول عنه أتباعه: سيره مستقيمًا كسير الحياة، لا يبالي بالعراقيل كالعاصفة، وكان قلبه نقيًّا كماء البركة في الشتاء لا يلوثه شيء كورق اللوتس مشاعره محمية كأعضاء

السلحفاة، وحيدًا فريدًا كقرن الخرتيت، حرًّا كالطير، جسورًا كالفيل، قويًّا كالثور، مهيبًا كالأسد، ثابتًا كالجمل، عميقًا كالبحر، وديعًا كالقمر، بهيًّا كالشمس، طاهرًا كالإبريز. ووصل مهاوير إلى حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله، وأفنى كل اتجاه مادي، فحصل من درجات العلم على الدرجة الخامسة، وهي درجة العلم المطلق، ونيل البصيرة أو النجاة، وبعد سنة أخرى من الصراع والتأملات فاز بدرجة المرشد، أو ترسانكارة؛ وبهذا بدأ مهاوير مرحلة جديدة هي الدعوة لعقيدته. وقد اتجه أول الأمر إلى أسرته وعشيرته فاستجابوا له، ثم استجاب له أهل مدينته، وأخذت دعوته تنتشر بين الملوك والقواد الذين رأوا في هذه الدعوة ما يعبر عن خواطرهم في الثورة على البراهمة وسار في دعوته بنجاح حتى بلغ الثانية والسبعين، فنزل مدينة بنابوني في ولاية بتنا فألقى على الناس خمسة وخمسين خطبة وأجاب عن ستة وثلاثين سؤالًا غير مسئولة، ولما تمت خطبه حان أجله فقضى نحبه سنة خمس وسبعين وعشرين قبل الميلاد. في خلوة وحيدًا فتحرر من قيود الحياة وتسلسل الولادة والشيخوخة والموت، وترك تراثًا ضخمًا من الوصايا والحكم والفلسفات جديرة بالتقدير. جينا الرابع والعشرون: ويرى الجينيون أن الجينية مذهب قديم جدًّا وأنه قد تم نضجه على يد أربع وعشرين من الجينين، وكان جينى الأول اسمه رساب ها وقد ظهر منذ أمد بعيد ولا يحفظ التاريخ عنه شيئًا، ولا ترتبط به إلا بعض الأساطير، وتتابع

أهم عقائد الجينية.

الجيناوات الواحد بعد الآخر حتى ظهر الجيناواني الآخران في العصور التاريخية، أما أولهما وهو جين الثالث والعشرون فاسمه بارسوناث، وقد ولد في القرن التاسع قبل الميلاد ومات في القرن الثامن، وقد أسس نظامًا رهبانيًّا شدد فيه بضرورة الرياضيات الشاقة المتعبة، وجعل أتباعه قسمين: خاصة، وعامة، فالخاصة هم الرهبان المتبتلون الذين التزموا الرياضة الشاقة والحرمان، وتركوا الأهل والمسكن، وأخذوا يجوبون الأقطار ويطوفون في القرى والأمصار، وهذا القسم هو عمود النظام، والعامة هم الذين يؤيدون النظام بأموالهم ويمدون الرهبان بحاجاتهم مع بعد عن الفواحش وانشغال بالمكاسب من غير عنف ولا إضرار بأحد، مقتدين بالرهبان ما وسعهم ذلك. وجاء مهاوير وهو جينى الرابع والعشرون فاعتنق مبادئ بارسواناث، وزاد عليها من فكرة وتجاربه وإلهامه، وعلا شأنه واشتهرت الطريقة باسمه، وعرف النظام بلقبه، فلا تعرف الجينية إلا منسوبة إليه. هذه هي الجينية من حيث التأسيس والنشأة. أهم عقائد الجينية ما هي أهم عقائد الجينية؟: يقول أحد الفلاسفة الهنود الذي هو يدعى مولانا محمد عبد السلام الرمبوري عن الجينية: هي حركة عقلية متحرر، متحررة من سلطان الويدات، مطبوعة بطابع الذهن الهندوسي العام، أسس بنيانها على الخوف من تكرار المولد، والخوف من الحياة اتقاء شائماتها، منشؤها الزهد في خير الحياة، فزعًا من أضرارها، عمادها الرياضة الشاقة، والمراقبات المتعبة، ومعولها الجمود للملذات والمؤلمات، وسبيلها والتقشف والتشدد في العيش، وطريقها الرهبانية، ولكن غير رهبانية البرهمية، وقد داوى الجينيون الميول والعواطف بإفنائها وواصلوا في ذلك إلى إخماد شعلة الحياة بأيديهم، وافتقدوا النجاة في وجود من غير فعلية، وسرور من غير انبعاث، ذلك موجز القول في عقائد الجينية، وسنعطي فيما يلي من دراسات بعض التفاصيل لعقائد الجينية.

الجينية والإله: سبق أن ذكرنا أن الجينية كانت نوع من المقاومة للهندوسية، وثورة على سلطان البراهمة، ومن هنا لم يعترف مهاوير بالآلهة، فالاعتراف بالآلهة قد يخلق من جديد طبقة براهمة أو كهنة يكونون سلطة بين الناس والآلهة. وكرر أنه لا يوجد روح أكبر أو إله أعظم لهذا الكون، ومن هنا سمي هذا الدين دين إلحاد، واتجهت الدينية أن الاعتقاد بأن كل موجود إنسانًا كان أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا يترك من جسم وروح، وبأن كل روح من هذه الأرواح خالدة مستقلة يجري عليها التناسخ التي اتفق فيه الجينية مع الهندوسية. هذا هو أساس الفكر الجينية تجاه الإله، غير أن الجينية دين مسالم مبالغ كل المبالغة في البعد عن العنف، حتى إنه يكره قتل الهوام، والحشرات الصغيرة. وعدم العنف عهد من العهود الأربعة التي وضعها بارسوناث، وهو جينى الثالث والعشرون، وبسبب هذه المسألة اعترف الجينيون بآلهة الهندوس فيما عدى الثالوث برهما، ووشنوا، وسيفا، وكانوا في بادئ الأمر -كما يظهر من كتبهم- يعترفون بالآلهة الهندوس للهندوس، ويحترمونها للمجاملة والمسالمة، ولكنهم عادوا فأجلوها لذاتها، وإن لم يصلوا في إجلالها إلى درجة الهندوس بطبيعة الحال، غير أن العقل البشري يميل إلى الاعتراف بإله، ويحتاج الإلحاد إلى أدلة أكثر من الأدلة التي يحتاجها إثبات الآلهة، ومن هنا وجد فراغ كبير في الجينية، بسبب عدم اعتراف مهاوير بإله يكمل به صورة الدين الذي دعا إليه، وكان من نتيجة ذلك أن اعتبره أتباعه إلهًا، بل عدوا الجيناوات الأربعة والعشرين آلهة لهم، ولعلهم بذلك كانوا متأثرين بالفكر الهندي الذي يميل في الأكثر إلى تعدد الآلهة.

والجينية تتفق مع الإسلام في جزء يسير تتعلق بروح الإنسان؛ ذلك هو خلود الروح خلودًا أبديًّا، وخضوعها للثواب أو العقاب لما يرتكبه صاحبها، وإن اختلف الإسلام مع الجينية في طريقة الثواب والعقاب. وعدم الاعتراف بالإله استتبع عند الجينيين اتجاهات مهمة سلبية تتعلق بالعقائد، فهم لا يقولون بالصلاة ولا بتقديم القرابين، ولا يعترفون بالطبقات، ولا بما تدعيه الطبقة العليا في النظام الهندوسي وهي طبقة البراهمة من امتيازات ومزايا، ولكن خلق المسالمة الذي دفع الجينيين إلى الاعتراف بآلهة الهندوس -كما ذكرنا آنفًا- دعاهم هنا إلى الاعتراف بالبراهمة وأن من الواجب احترامهم المطلق، وليس معنى هذا وجود طبقة براهمة في الجينية؛ بل المقصود احترام براهمة الهندوس، كطائفة لهم مكانتها في الدين الهندوسي. أما الطبقات في الجينية فلم تتعدََّ ما وضعه برسواناث من تقسيم الجينيين إلى خاصة وهم الرهبان، وعامة وهم من يؤيدون النظام من غير الرهبان، ولم تجعل الجينية للرهبان امتيازات كما فعلت الهندوسية، بل إن الجينية جعلت الرهبنة مشقة وتضحية وتكليفً ا. من عقائد الجينية الكرما والتناسخ: وقد سبق أن شرحنا الكرما والتناسخ عند الهندوس، وقد قلنا: إن أديان الهند تسير غالبًا في فلك الهندوسية، ومن هنا قالت الجينية بالكرما والتناسخ؛ ولكن الجينية لم تعتقد ما اعتقده الهندوس من أن الكرما أمر اعتباري يحقق قانون الجزاء الذي يُحمِّل الإنسان تبعة أعماله، ويجزيه عليه عن طريق تناسخ الأرواح، بل قالت الجينية: بأن الكرما كائن مادي يخالط الروح كأنه يمسك بتلابيبها أو يحيط بها كما تحيط الشرنقة بالفراشة، ولا سبيل لتحرير الروح

من رقة هذا الكائن إلا شدة التقشف والحرمان من الملذات في كل مرحلة من مراحل الحياة، فهذه وحدها هي وسيلة تحرير الروح, وحياتها حياة أبدية حرة، وفي ذلك تقول النصوص الجينية المقدسة: كما تتحد الحرارة بالحديد، وكما يمتزج الماء باللبن، كذلك يتحد الكرما بالروح؛ وبذلك تصير الروح أسيرة في يد الكرما. وللوصول إلى تخليص الروح من الكرما يظل الإنسان يولد ويموت حتى تطهر نفسه وتنتهي رغباته، وإذ ذاك تقف دائرة عمله، ومعها حياته المادية فيبقى روحًا خالدًا في نعيم خالد، وخلود الروح في النعيم بعد تخلصها من المادة يسمى عند الجينيين النجاة، وهو ما يُعادل الانطلاق في الهندوسية، والنرفانا في البوذية. الحسنة والسيئة في الديانة الجينية: الحسنة عند الجينيين هي فعل الخيرات، كإطعام المساكين ومساعدة المحتاجين، وبخاصة فيما تصل بالرهبان الجينيين، وقسم الجينيون الحسنات تسعة أقسام، وذكروا أن الحسنات تجزى باثنين وأربعين طريقًا، منها ما هو في حياة الإنسان الحالية: كالبركة والغنى والصحة، ومنها ما هو في حياة القادمة. وأما السيئة: فهي ارتكاب الأعمال الخبيثة والفواحش، وقسموها ثمانية عشر نوعًا: منها الكذب والسرقة، والفسق، والفجور، والخيانة، والجشع، وما إلى ذلك، وأشد أنواع الجنايات وأفظعها لدى الجينيين هو الاعتداء على الحياة والعنف والتشدد. ووضعوا كفارات خاصة لكل نوع من السيئات، منها الفقر والتناسخ في أشخاص تعساء، أو في قوالب الحيوانات والجمادات.

وتختلف الحسنات والسيئات باختلاف طبقتي الجينية اللتين سبق أن تحدثنا عنهما، وهما طبقتا الخاصة والعامة على ما يشبه في الفكر الإسلامي الأثر القائل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فما يجوز للعامة لا يجوز صدوره من الخاصة، ويطلب من العامة الخلق الحسن، وعمل الحسنات، ويكافئون عليها بما يضمن حياة أو حيوات طيبة، أما النجاة فالسبيل إليها شاق عسير، وهي من خصائص الخاصة. النجاة وسبل الوصول إليها: النجاة هي غاية الكون، وهي التطهر من أوساخ العواطف والشهوات الحيوانية، والتخلص من قيود الحياة، ومن تكرار المولد والموت، وهي التمسك بالخير، والتخلي عن ارتكاب الشر، والنجاة طور من الوجود، يختلف عن أطوار الحياة الدنيا الفانية، وهي الفوز بالسرور الخالد الذي لا يشوبه ألم ولا حزن ولا هم، ولا تكون للأرواح الناجية مطامع خاصة ولا أهداف تستميلها، والشخص الناجي ليس بذي جسم مادي، وليس بطويل ولا قصير، ولا لون له، يحيط بكل شيء، مطلق من جميع القيود، يكون دائمًا في سرور وطمأنينة واستقرار ونعيم مقيم، مكانه فوق الخلاء الكوني، وليس للنجاة نهاية، فهي أبدية سرمدية ولا تحصل النجاة إلا بعد عبور المرحلة البشرية بما فيها من عوائق ومتاعب، ولا نجاة بالمعنى الحقيقي إلا للبشر كما قال مهاوير في وصفه للحياة والنجاة، ولا توصف النجاة بوصف نعلمه، ولا بحال نعقله. والسبيل إلى النجاة شاق عسير كما قلنا من قبل، ولا يطمع فيها إلا الخاصة من الرهبان، وللوصول للنجاة يتحتم على الناسك ألا يوقع أذى بإنسان أو حيوان، وعليه أن يدرك أن احترام الحياة أقدس ما عني به مهاوير، وعلى هذا يحرم عليه قتل

الحيوان، وبالتالي أكل اللحوم، ولعل لهذا صلة بصوم المسيحيين عما فيه روح، فأغلب الظن أن صوم المسيحيين على هذا الوجه انحدر لهم من الفكر الجيني، ويبالغ الرهبان في الحيطة والحفاظ على ما فيه روح فيمسك بعضهم بمكنسة ينظف بها طريقه أو مجلسه؛ خشية أن يطأ حشرة فيها روح فيؤذيها أو يقلتها، ويضع بعضهم غشاء على وجهه يتنفس خلاله حتى لا يستنشق أي كائن حي وهو يلتقط أنفاسه. ولا بد للنجاة كذلك من قهر جميع المشاعر والعواطف والحاجات، ومؤدى هذا أن لا يحس الراهب بحب أو كره، ولا بسرور أو حزن، ولا بحر أو برد، ولا بخوف أو حياء، ولا بجوع أو عطش، ولا بخير أو شر، والجيني بذلك يصل إلى حالة من الجمود والخمود والذهول، فلا يشعر بما حوله، ودليل ذلك أن يتعرى فلا يحس بحياء، وينتف شعره فلا يتألم، لأنه لو أحس بما في الحياة من خير وشر أو نظم متفق عليها، فمعنى هذا أنه لا يزال متعلقًا بها، خاضعًا لمقاييسها، وهذا يبعده عن النجاة. ولما كان أبرز ما في هذا التنظيم هو العري والجوع حتى الموت؛ سميت الجينية دين العري، ودين الانتحار. العري والانتحار في الجينية: وعلى فكرة العري يقول أحد علماء الجينية في محاضرة له عنها: يعيش الرهبان الجينيون عراة؛ لأن الجينية تقول: ما دام المرء يرى في العري ما نراه نحن فإنه لا ينال النجاة؛ فليس لأحد أن ينال نجاة ما دام يتذكر العار، فعلى المرء أن ينسى ذلك بتاتًا ليتمكن من اجتياز بحر الحياة الزاخر، فطالما تذكر الإنسان أنه يوجد خير أو شر، حسن أو قبح، فمعناه أنه لا يزال متعلقًا بالدنيا وبما فيها، فلا يفوز بمشكا -أي: النجاة-.

ويبين هذا خير بيان الحكاية المعروفة عن طرد آدم وحواء من الجنة، فقد كانا يعيشان فيها عاريين بطهر كامل لا يعرفان همًّا ولا غمًّا، خيرًا ولا شرًّا، حتى أراد عدوهما الشيطان أن يحرمهما مما كانا فيه من البهجة والسرور والسعادة، فحملهما على أن يأكلا من شجرة العلم بالخير والشر، فأُخرجا من الجنة، فالذي حرمهما من الجنة هو علمهما بالخير والشر وبأنهما عاريان، هذا هو رأي الجينيين ونحن نرى أن خروجهما كان لعصيان آدم لأمر ربه {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121)، كما كان قدرًا مسبقًا بأن ينزل آدم إلى الأرض ليكون خليفة فيها، وما حياته في الجنة إلا فترة تشريف أو تكليف. ويرى الجينيون أن الشعور بالحياء يتضمن تصور الإثم، وعلى العكس من ذلك فعدم الشعور بالحياء معناه عدم تصور الإثم، وذلك زيادة في النقاء، فعلى كل ناسك يريد أن يحيى حياة بريئة من الإثم أن يعيش عاريًا، ويتخذ من الهواء والسماء لباسًا له. أما الانتحار فقد كان نتيجة للتخلي عن كل عمل، وترك كل ما يغذي الجسم؛ لعدم الإحساس بالجوع، ولقطع الروابط بالحياة، وللتدليل على أن الراهب أو الراهبة لم يبق له اهتمام بهذا الجسد الفاني، فهو يجيعه، وينتف شعره، ويعرضه لظواهر الطبيعة القاسية حتى الموت. وقد انتشر الانتحار بالجوع بين رهبان الجينيين قديمًا، ويعتبر الانتحار غاية أو جائزة لا تُتاح إلا لخاصة الرهبان الذين اتبعوا النظام الجيني. وإتاحة الفرصة للانتحار معناها قطع الأعمال التي هي مظنة إلحاق الضرر بأي كائن ذي روح، ولا يكون ذلك إلا بعد قضاء اثني عشر عامًا، أو ثلاثة عشر عامًا داخل الناموس الصارم المرسوم للرهبان الجينيين، أليس تناقضًا عجيبًا أن

يحرص الجينيون بالغ الحرص على الحياة لكل حشرة وكل دابة، ثم يجعلون انتحار الرهبان جوعًا قربة من القربات مهما قيل من الأسباب، فإني أراه إيذاءً للإنسان وقضاء على حياته، مع أن الجينية لا تُلحق الأذى بأحد ولا تقر القضاء على الحياة، ويظل تساؤلنا هذا قائمًا، مع تذكرنا أنهم يعملون ذلك رغبة في الخلود أو النجاة أو نتيجة للخمود والجمود. ولنعد للعامة من الجينيين هؤلاء لا يلزمهم أن يقوموا بكل هذه المناسك والسبل، ولكن عليهم أن يقوموا ببعضها في حدود طاقتهم، فعليهم ألا يوقعوا الأذى بإنسان أو حيوان، وعليهم ألا يقتلوا النفس وألا يأكلوا اللحم، وأن يقهروا رغباتهم؛ ولكن ليست لا إلى درجة الجمود والخمود والذبول التي يتبعها الرهبان. فلسفة الجينية من كتبهم المقدسة: المصادر المقدمة لدى الجينيين هي خطب مهاوير ووصاياه، ثم الخطب والوصايا المنسوبة للمريدين والعرفاء والرهبان والنساك الجينيين، وقد انتقل هذا التراث المقدس من جيل إلى جيل، عن طريق المشافهة ثم خيف ضياع هذا التراث أو ضياع بعضه أو اختلاطه بغيره، فاتجهت النية إلى جمعه وكتابته، واجتمع لذلك زعماء الجينية في القرن الرابع قبل الميلاد في مدينة بطلي بترا، وتدارسوا هذا الأمر وجمع بعض هذا التراث في عدة أسفار؛ ولكنهم اختلفوا بعضهم على بعض في بعض المصادر، كما لم ينجحوا في جمع الناس حول ما اتفقوا عليه؛ ولذلك تأجلت كتابة القانون الجيني حتى سنة سبع وخمسين ميلاديا، فدونوا آنذاك ما استطاعوا الحصول عليه بعد أن فُقد كثير من هذا التراث بوافاة الحفاظ والعارفين.

وفي القرن الخامس الميلادي عقدوا مجلسًا آخر بمدينة ولابهي حيث تقرر الرأي الأخير حول التراث الجيني المقدس. أما لغة هذا التراث فكانت اللغة المسماة أردها مجدا، فلما انتجهت النية إلى حفظه وتدوينه اختيرت اللغة السنسكريتية وكانت لغة أردها مجدا هي لغة هذا التراث قبل الميلاد، أما اللغة السنسكريتية فقد حلَّت محالها في القرون الميلادية الأولى. وسنختار من هذا التراث المقدس بعض نماذج تشرح لنا أهم اتهجاهات الفلسفة الجينية. اليواقيت الثلاثة: يقول الجينيون: إن الحياة الدنيا تعاسة مستمرة وشقاء متصل، نعيمها زائل، والعيش فيها باطل، نطمح فيها إلى الخير فننال شرًّا، ونبتغي السعادة فتصيبنا الشقاوة حتى نموت. ولم تنتهِ حسراتنا ثم نحيا حياة قد كسبتها أيدينا، خيرها تهلكة فكيف بشرها؟! وتدوم عجلة الموت والحياة، فيا لنا من خاسرين، ولا دواء إلا بأن ننزع، ونزهد في الحياة وترفها، ولكن هناك شيئًا يجعلنا نتمسك بالحياة، ويزين لنا باطلها، ما هو؟ إنه الغواية التي تخلق العقائد الفاسدة والأخلاق السيئة، والجهل المشين، وهذه تكسو الروح بالظلام، ويتراكم الظلام فتعمى الروح وتسير على غير هدى، تحب الحياة وشهواتها، وتسير في طريق الضلال، وتظل الروح على هذا الوضع بين الموت والولادة حتى ينبثق النور، إما من أعماق الروح بطريق الصدفة أو الإلهام، وإما بقيادة العرفاء والمبشرين وهدايتهم، وليس هذا النور إلا السبيل المثلث، أو اليواقيت الثلاثة التي من اتبعها وصل إلى بر السلامة. وهذه اليواقيت هي:

1 - الياقوتة الأولى: الاعتقاد الصحيح، وهو رأس النجاة، ويقصدون به الاعتقاد بالقادة الجينيين الأربعة والعشرين، فإن ذلك هو المنهج المعبد، والصراط السوي، ولا يكون الاعتقاد الصحيح إلا إذا تخلصت النفس من أدران الذنوب اللاصقة بها، والتي تحول دون وصول الروح إلى هذا الاعتقاد. 2 - الياقوتة الثانية: العلم الصحيح، ويُقصد به معرفة الكون، من ناحيته المادية والروحية، والتفريق بين هذه وتلك، وتختلف درجة المعرفة باختلاف درجة البصيرة وصفاء الروح، ويستطيع الشخص الذي يفصل أثر المادة عن قوته الروحية وإشراقها، أن يرى الكون في صورته الحقيقية، وتتكشف لديه الحقائق، وترتفع عنه الحُجب الكثيفة فيميز الحق من الباطل، والظن من اليقين، ولا تشتبه عليه الأمور، ولا يكون العلم الصحيح إلا بعد الاعتقاد الصحيح. 3 - الياقوتة الثالثة: الخلق الصحيح، ويُقصد به التخلق بالأخلاق الجينية من التحلي بالحسنات، والتخلي عن السيئات، وعدم القتل، وعدم الكذب، وعدم السرقة، والتمسك بالعفة، والزهد في الملكية. واليواقيت الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض، وإذا اكتملت في إنسان فإنه يجد لذة لا تعدلها لذة، وسعادة ليس مثلها سعادة. المبادئ الأساسية لطهارة الروح: وضع الجينيون سبعة أصول رئيسة لتطهير الروح، وتعتبر هذه الأصول أمهات المبادئ الجينية، وهي: 1 - أخذ العهود والمواثيق مع القادة والرهبان، بأن يتمسك المريد بالخلق الحميد، ويقلع على الخلق السيئ.

2 - الثاني: التقوى، وهي المحافظة على الورع، والاحتياط في الأقوال والأعمال، وفي جميع الحركات والسكنات، وتجنب الأذى والضرر لأي كائن حي، مهما كان حقيرًا. 3 - الثالث: التقليل من الحركات البدنية ومن الكلام، ومن التفكير في الأمور الدنيوية الجسمانية، حتى لا تضيع الأوقات والأنفاس الثمينة في صغار الأمور. 4 - الرابع: التحلي بعشر خصال، هي أمهات الفضائل، ووسائل الكمال، وهي: العفو، والصدق، والاستقامة، والتواضع، والنظافة، وضبط النفس، والتقشف الظاهري والباطني، والزهد، واعتزال النساء، والإيثار. 5 - التفكير في الحقائق الأساسية عن الكون وعن النفس، وبعض أمور الكون، وأمور النفس، يتوصل لها بالحواس الخمسة المادية، وبعضها لا يتوصل إليها، إلا بمنظار الذهن، ومن هنا لزم استعمال الحواس المادية واستعمال الفكر كذلك. 6 - السيطرة على متاعب الحياة وهمومها التي تنشأ من الأعراض الجسمانية أو المادية كمشاعر الجوع والعطش والبرودة والحرارة، وسائر أنواع الشهوات المادية، وعليه أن يضرب حصنًا متينًا حوله للتخلص من هذه الأعراض والحواس والتأثر بها. 7 - القناعة الكاملة، والطمأنينة والخلق الحسن، والطهارة الظاهرية والباطنية. وتدعي الجينية أن هذه المبادئ تطلق الإنسان من الوثاق الذي يشده بالحياة، ويسلب عنه الراحلة الذهنية والطمأنينة القلبية، وإذا اتصف أحد بهذه الصفات السبع فإنها تُخرجه من الظلمات التي تحيط به بسبب هموم الدنيا، ومشاكلها العديدة حتى تصير روحه حرة طليقة تنساب في سماء المعرفة والنور العلوي،

وتحيط بالعلوم الربانية والكشف الباطني فتكون في سرور دائم ولذة معنوية مطلقة، وهذه الطريقة الجينية للنجاة. درجات العلم في الفلسفة الجينية: تقسم الفلسفة الجينية العلم خمسة أقسام حسب مصادره، وتكثر الفلسفة الجينية من التفريعات لكل قسم، ولنكتفي هنا بإيراد الأقسام الخمسة الرئيسة: 1 - الإدراك بطريق الحواس، أو بطريق الذهن، ويشتمل هذا الإدراك على طريق القياس والاستقراء المبنيين على المشاهدة كما يشتمل على الفهم والحفظ والإحساس، ويستلزم هذا العلم حضور الأشياء المعلومة للحواس أولًا حتى يتم إدراكها. 2 - الثاني: العلم عن طريق الوثائق المقدسة، ويعرف هذا القسم بالعلم غير المباشر لتوسط المستندات والوثائق، بين من يعلم، وما يُعْلم، وتدعي الجينية أن كتبهم المقدسة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة. 3 - الثالث: العلم بالوجدان المحدود، وهو إدراك ذي الصورة من الأشياء الموجودة بطريق الروح، فالمدرك هنا موجود بل يمكن أن يرى، ولكن لبعده مثلًا لا تراه العين، وتراه الروح في هذه المرحلة من مراحل العلم، وللوصول إلى هذه المرحلة لا بد من تطهير الروح من الأدران والأوساخ، والسمو بها عن الوساوس والأوهام. 4 - الرابع: العلم بالوجدان المحيط، وهو إدراك بطريق الروح لما ليست له صورة الآن، فهو إدراك يتخطى مسافات الأزمنة والأمكنة، يعلم ما في السماء وما في

الأرض من ظاهر وباطن، وما كان فيهما، وهي مرحلة أعلى طبعًا من سابقتها وتستلزم مزيدًا من الطهر والصفاء. 5 - الخامس: العلم بمخبآت الضمائر والتصورات في السرائر، فهو علم بما لم يوجد إلا من حيث أنه خاطر في الذهن، وهو أرقى درجات العلم، ولا يتم إلا للذين هجروا الأهل والوطن، وطهروا أنفسهم بالرياضة الشاقة. هذه المعلومات مستقاة من مراجع متعددة بعد جهد واسع في التنقيح والتنظيم، وأهمها دراسات الأستاذ مولانا محمد عبد السلام الرمبوري عن فلسفة الهند القديمة، والأستاذ محي الدين الألوائي، عن الفلسفة الجينية، ودراسات أخرى نقلًا عن أديان الهند الكبرى (الهندوسية - الجينية - البوذية) للدكتور أحمد شلبي. 3 - وفي الأخير ونحن نتحدث عن الجينية كما بينا بفضل الله تعالى التأسيس والنشأة وأهم العقائد والفلسفة، نذكر لمحة تاريخية عن الجينية. كانت الجينية فرقة واحدة طيلة حياة مهاوير، ولم يحدث بها إلا خلافات غير عميقة الجذور سرعان ما كانت تلتأم، وبعد وفاة مهاوير حدث انقسام خطير شطر الجينية إلى فرقتين تسمى إحداهما: ديجا مبرا أي: أصحاب الزي السماوي، أي: الذين اتخذوا السماء كساء لهم، والمقصود بهم هم العراة، والثانية: تسمى سويترا مبرا، أي: أصحاب الزي الأبيض، وعن هاتين الفرقتين حدثت فرق أخرى كثيرة غير مهمة، ويلاحظ أن تعدد الفرق لم يمس الفلسفة الأصيلة للجينية أو العقائد الرئيسة التي سبق أن تحدثنا عنها، وإنما اتصل بأمور ونقاط غير مهمة، وتحدث عن تفاصيل الأساطير وممارسة التقشف، ففرقة ديجا مبرا ترى أن مهاوير حملت به أمه تراسالا من بادئ الأمر لا أنه استل جنينًا من رحم دوناندا البرهمية ثم ألقي به في رحم تراسالا كما تعتقد فرقة سويتا نبرا. وتنفي فرقة ديجا مبرا عن مهاوير ما تراه غير لائق به، فتقول: إنه لم يتزوج قط، وإنه هجر البيت والدنيا منذ مطلع حياته غير مبال بعواطف والديه، ويعتقدون أن العرفاء الكاملين لا يقتاتون بشيء ويقولون: إن من يملك شيئًا من متع الدنيا ولو كان ثوبًا واحدًا يستر به عورته لا ينجو، ويرون أن النساء لا حظ

لهن في النجاة ما دمن في قوالب النساء، أي: إلا إذا دخلت أرواحن في قوالب أخرى في حياة من الحيوات المتكررة، ويعتقدون أن التراث الديني المقدس للجينية قد ضاع كله، وأما ما تتلوه فرقة سيتا مبرا فموضوع ومختلق. أما فرقة سويتا مبرا ففرقة معتدلة ترى أن مهاوير وإن كان ميالًا من وقت أن بدأ شعوره إلى هجر الدنيا وقطع العلائق إلا أنه لم يفعل ذلك في حيات والديه احترامًا لإحساسهما، ويروون عنه قوله في ذلك: ولا يليق بي وأنا الابن البار أن أنتف شعري وأقبل على حياة التقشف والحرمان، تاركًا البيت والأسرة احترامًا لعواطف والدي، وهم يبيحون الطعام للعرفاء، ويرون إمكان النجاة للنساء. وهناك افتراق حدث للجينيين بسبب مجاعة شديدة نزلت بموطنها الذي كانوا يتجمعون فيه في بلاد مكدا، فلجأ عدد كبير منهم إلى الهجرة؛ طلبًا للعيش، وتخفيفًا للعبء عن سكان المنطقة، وذهب هؤلاء إلى الجنوب بزعامة بدرا باهو، وأقام الآخرون تحت رقابة أستولا بدرا. وقد سبق أن ذكرنا أن الجينية فرقتان: خاصة وهم الرهبان المنقطعون للتبتل، وعامة وهم الذين يؤيدون النظام الجيني، ويساعدون الرهبان ماديًّا، ويباشرون حياة العمل، مع تخلقهم ما استطاعوا بأخلاق الفكر الجيني، وقد كان لهؤلاء وألئك نصيب في تاريخ الجينية. ومن أهم ما قالت به الجينية مما حبب هذا الدين للحكام والملوك، أن الجينية مع أنها لم توقع أذى بذي روح توجب أن يطيع الشعب حاكمه، وتقضي بذبح من يعصي الملك أو يتمرد عليه؛ ولعل هذا هو الذي جعل الملوك، والرجاوات يُقبلون على الجينية يعتنقونها ويؤيدونها سواء في وادي الأندوس أو في الدكن. وفي ابتداء العصور الوسطى حصلت الجينية رعاية من كثير من السلاطين، وأصبح للرهبان الجينيين نفوذ كبير في بلاط كثير من الملوك والحكام، لا سيما في بلاط الملك سيدراج، والملك كمار بلا، وبعد سقوط إمبراطورية ليجا نكر بقي في الجنوب حكام صغار من الجينيين إلى أن ظهرت سلطة الإنجليز، وفي عهد الحكم الإسلامي نالوا كذلك الاحترام والتقدير، واستخدمهم الملوك المسلمون في

بلاطهم وفي كثير من الأعمال، وجاء الإمبراطور الشهير أكبر سنة 1556 إلى 1605 ميلادية الذي أدار ظهره للإسلام، واتجه إلى خلق دين جديد مزيج من جميع الأديان، وبخاصة أديان الهند الأصلية، فاحتضن الجينية وخلع على المعلم الجيني هيرا وجيا لقب معلم الدنيا، ومنع ذبح الحيوانات، أيام أعياد الجينيين في المناطق التي يوجد بها أتباع لهذه الطائفة. والجينيون من طبقة العامة أي: الطبقة التي تباشر الأعمال وتساعد الرهبان، يكثر أن يُعرضوا عن الزراعة؛ خوفًا مما تستلزمه من قتل بعض الديدان وإلحاق الضرر بما فيه روح، ويتجه هؤلاء غالبًا إلى التجارة وإقراض النقود وأعمال البنوك، مما يقل فيه الاعتداء على ذوي الأرواح، وقد ضمنت لهم هذه الأعمال نصيبًا كبيرًا من الثراء والرقي الاقتصادي حتى أصبح معظمهم من أغنى الأغنياء، وأنجح الناس في التجارة والمعاملات المالية، وقد مكنهم ثراؤهم من أن يلعبوا دورًا هامًّا في خدمة الثقافة الهندية والتراث العلمي والفني على العموم. وللجينييين أيادٍ واضح بصفة خاصة في خدمة فن المعمار، فقد برعوا في النحت وإقامة التماثيل، وتشييد العمائر والمعابد ببراعة فائقة. وقد نحتوا الكهف العظيم المسمى هاتي كنبا في منطقة أوريسا في القرن الثاني قبل المسيح، والكهوف الجينية كثيرة ومنتشرة في مختلف أنحاء الهند، والجينيون مولعون بتعمير المعابد، والمعبد ضروري للمجتمع الجيني كما أن تعميره فرض ديني لديهم. وعن معابد الجينيين يقول غستاف لوبون: ولا تجد ديانة تعتد بالمعابد اعتداد الجينية، ولا تجد ديانة شادت من المعابد الكبيرة الفخمة أعظم مما شادته الجينية، فالحق أن معابد الجينية في كهجورا وجبل آبوا هي عجائب فن البناء في الهند،

والحق أنه يخيل إلى الناظر في أروقتها شبه المظلمة، اهتزاز قوم من الخلائق الغريبة المنقوشة على الحجر يشعون حياة ويكتنفون أحد الجيناوات البادي هادئًا رزينًا متربعًا في جلوسه على العموم، وهو في حالة عرض كامل. ويبلغ تعداد الجينيين إلى نهايات القرن العشرين حوالي المليون، وكلهم في الهند، فالجينية كالهندوسية لم تخرج من الهند، ومستواهم الاجتماعي والثقافي راقٍ في الغالب، وعنايتهم بالثقافة لا تقل عن عنايتهم بالمال والفنون، فتلك لمحة تاريخية عن الجينية من بدايتها إلى نهايتها وما آلت إليه. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله، وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية.

الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية.

من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية) من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فلا زلت أحدثك عن أديان الهند الكبرى؛ الهندوسية، البوذية، الجينية، وحديثي عن هذه الديانات لا يجعلني أغفل من عُرفوا باسم السيخ، من السيخ؟ وما هي معتقداتهم؟: المعنى الحرفي للفظة السيخ هو المتعلم أو التلميذ، ومؤسس هذه الديانة هو نناناك؛ لذلك كان يطلق على الجماعة التي اعتنقت أفكاره اسم نناك بانتيز أي: المتحدون مع نناك قبل أن يطلق عليه اسم السيخ، ولد المعلم نناك عام ألف ربع مائة وتسع وستون ميلادية في قرية تلفاندي، تلفاندي القريبة من مدينة لاهور، وأمضى طفولته وجانبًا من شبابه في هذه القرية، ولم يتركها إلا بعد أن تزوج وأنجب ولدين، ينحدر والداه من عشيرة أرستقراطية لكنها ليست غنية. انتقل ناناك إلى سلطان بور، ليشغل وظيفة حكومية في مجلس النواب، وبقيت أسرته مع عائلته في مسقط رأسه، ويصف كتاب (شواهد الميلاد) الذي يخبر عن حياة ناناك طريقة عيش الموظف الحكومي في سلطان بور، التي اتسمت بالجدية والمواظبة على العمل، وكيف أنه كان يقضي الليل في الصلاة والتأمل. وفي سلطان بور تعرف ناناك على شاب مسلم اسمه ماردانا وعُقدت بينهما أواصر الصداقة، ألفا معًا ولفترة طويلة ثنائيا منسجمًا للتبشير الديني. وفي أواخر عام ألف خمسمائة ميلادية ترك ناناك سلطان بور؛ ليعيش حياة الزهاد المتجولين، وانطلق يبشر بديانة الجديدة التي توصل إليها بعد تجربة روحية مميزة، والتجربة الروحية حصلت له عندما كان يستحم ذات يوم في نهر وسط غابة؛ إذ اختفى بين الأشجار وانتقل إلى عالم آخر مَثُلَ فيه أمام الحضرة الإلهية، قدم الله في أثناء هذا اللقاء إلى ناناك كوبًا من الماء وخاطبه قائلًا: أنا معك، لقد جعلتك سعيدًا، وسأمنح السعادة كل من يتبعك، اذهب وبشر باسمي، ودع

الآخرين يقلدونك، إياك أن تلوث نفسك بالماء، بل مارس الصلاة، وفعل الخير والتأمل. لقد قدمت إليك هذه الكأس لعطفي عليك، عندئذٍ تلفظ ناناك بالصلاة أصبحت فيما بعد الدعاء الصباحي للسيخ، قال فيها: هناك إله واحد اسمه الحق والخالق، وهو أزلي وغير مولود، وموجود بذاته، وعظيم، ورحيم، وسوف يبقى إلى الأبد. ترك ناناك الغابة بعد ثلاثة أيام من اختفائه فيها، وانطلق يبشر برسالته يرافقه صديقه مردانا الذي آمن بالدعوة، وجاب الصديقان، وجاء الهند للتبشير لكن النجاح لم يحالفهما إلا في بلاد البنجاب، وكثر الأتباع والتلاميذ السيخ في هذه المقاطعة، ويظهر من التلميحات الواردة في كتابة السيخ أن ناناك شهد غزوات إمبراطور المغول باببير، وأن تجواله للتبشير توقف في أثناء هذه الغزوات، ويبدو أن أحدهم تبرع له بقطعة أرض على ضفاف نهر رافي، فشيد عليها قريته المعروفة باسم كارتر بور، أمضى الغورو المعلم الأول ناناك بقية أيامه في القرية التي شيدها، ومات فيها عام ثمانية وثلاثين وخمسمائة وألف من الميلاد، بعد أن عيَّن مكانه خليفة من تلاميذه واسمه أنفادا، وجعله الغورو المعلم الثاني. كتب السيخ المقدسة جُمعت الكتابات المقدسة عند السيخ في مجموعتين: المجموعة الأولى ويطلق عليها اسم آدي غرانت، ولها وضع شرعي لا خلاف عليه عند جميع الأتباع، والمعنى الحرفي للكلمة هو المجلد الأول، وجُمعت هذه المجموعة ما بين عامين ألف وستمائة وثلاثة وألف وستمائة وأربعة من الميلاد أي: بعد حوالي خمسة وستين سنة من وفاة ناناك، وقام بجمعها المعلم الروحي أرجان.

ولآدي غارانت أهمية كبيرة في الحياة اليومية للسيخ المؤمنين ويطلق عليها اسم آخر هو غورو غارانت صاحب، وهذه المجموعة مكتوبة بلغة سانت بهاشا، التي تمتزج فيها اللغتان الهندوسية والبنجابية، وهي لغة استعملت على نطاق واسع في شمالي البلاد الهندية في أواخر العصر الوسيط، لكنها اليوم لا تُستعمل إلا في مقاطعة البنجاب، والمجموعة تتضم أقوال ووصايا الغور الأول أي: المعلم الأول ناناك، مع إضافات للمعلمين الآخرين مثل: رامداس، عمار داس، وتاج بهادورو، وجويند سانغ، وبسبب الفراغ في قيادة السيخ بعد المعلم جويند سانغ إحتلت آند غراند منزلة مرموقة، خصوصًا في القرن الثامن عشر الميلادي. أما المجموعة الثانية: ويُطلق عليها اسم داسام غرانت، وهو المجلد الثاني الرديف للأول، تمَّ جمعه في القرن الثامن عشر، ويتضمن أعمالًا متنوعة تنسب إلى جويند سانغ إضافة إلى مجموعة من الحكايات الهندوسية، وأخبار عن حيل النساء وأهمية هذا المجلد تكمن في احتوائه على نماذج من المُثل العليا التي سادت في القرن الثامن عشر، وعلى أخبار تعرف بالوضعية التاريخية للسيخ في هذه الفترة. عقيدة السيخ: إن أثر الدين الإسلامي على ديانة السيخ يظهر بجلاء في شكل ومضمون الشهادة، التي أطلقها ناناك بعد مُثوله في الحضرة الإلهية؛ لذلك وصفت العقيدة بأنها خليط من الهندوسية والإسلام، وهو كان بدأ دعوته بالشعار ليس هناك هندوسي ولا مسلم.

في مطلع المجلد الأول: آدي غارانت يبحث ناناك مسالة وحدانية الله، فيفسر وحدانية الله تفسيرًا واحدًا أي: أن الله شخصي وواحد، وهو خالق مفارق، ومتعالٍ، ويستخدم عدة من مصطلحات للتعبير عن الله منها: نيرنيكر أي: الذي لا شكل له، ومنها أكال أي: الأزلي، وألخ أي: ما لا وصف له، ويركز ناناك على الصفة الأخيرة ويوضحها توضيحًا يقرب من التفسير الإسلامي لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)؛ إذ إ ن الموجود الذي له أوصاف يكون محدودًا وملابسًا للمادة، وهو أمر منكر ولا يصح قوله على الله. والسؤال الذي يطرح على ناناك هو التالي: مادام الله لا يمكن وصفه، وبالتالي لا يمكن رؤيته؛ كيف إذًا يمكن معرفته؟ تقدم ناناك بجوابين على هذا السؤال في الجواب الأول يقول: إن المرء لا يستطيع أن يعرف ربه؛ لأن الله فوق قدرة الفهم البشري ويستحيل على الفاني أن يعرف الخالد، لا يدرك الشبيه إلا الشبيه به. أما الجواب الثاني: فهو أن معرفة الله بتمامه وإن كانت مستحيلة يبقى أن الإنسان يعرف هو حسب طاقته، وقد أعطى الإنسان وحيًا يمكنه فهمه، ويتجلى هذا الوحي في الخلق، وبما أن الخلق تعبير صريح عن الوحي الإلهي أصبح الله حاضرًا في كل مكان؛ حيث اتجهتم فثم وجه الله. سارب فياباك: وهو موجود في مخلوقاته، وبإمكان الإنسان المنتبه روحيًّا أن يرى الخالق في كل مكان، وفي كل مخلوقاته، وقلب الإنسان هو مهبط الوحي الإلهي، ويحتاج الإنسان إلى قوة البصر والبصيرة؛ ليدرك الخالق، وتجلي الله في المخلوق يشكل نقطة الاتصال بين الله والإنسان، وما تحصل هذا الاتصال وفُهم تجلي لله على حقيقته ببصيرة نافذة أمكن الخلاص الذي يُعتبر الفحوى الأهم لتعاليم ناناك،

انتقد ناناك المسلمين والهندوس لإكثارهم من الطقوس والممارسات الدينية التي لا طائل منها سوى إلهاء الناس عن الوصول لله، ويلوم الهندوس على مبالغتهم في ممارسة الطقوس النسوكية، والحج، وتعظيم الأصنام مع أن الله لا يُعبر عنه بصخر، أو خشب، وآمن السيخ بفكرة الله الواحد الخالق، وأطلقوا عليه الاسم الحق تهربًا من تسميته الله، أو راما، أو فيشنا، أو غيرها. وأهم صفة أعطوها له هي صفة العطف، وسموه بالعطوف هيرا؛ لأن العطف هو أهم صفة له وللموجودات، واعتقدوا بأن الإنسان هو سيد المخلوقات التي اعتبرت مسخرات له، والإنسان هو الأقرب إلى الله من جميع المخلوقات، كما أن الفرصة متاحة للإنسان لكي يندمج مع الله، ويحصل له بذلك الخلاص النهائي، والسعادة الحقيقية الفائقة. يؤمن السيخ بالخلاص والاندماج: آمن السيخ بعقيدة التناسخ على طريقة الهندوس؛ إذ اعتبروا التناسخ نوعًا من العقاب أو عذاب الموت بعد الموت، والتناسخ ضرورة لعقاب أولئك الذين تعلقوا بالعالم وعبدوا موجوداته، بنتيجة ضلالهم وأوهامهم، حتى استعبدتهم وسجنتهم داخل دورة تناسخ لا بداية لها ولا نهاية من الميلاد والموت. إن العدو الأساسي للإنسان بنظر السيخ هو المايا، المايا وتعني: اللا واقع أو اللا وجود أو العدم والوهم، وأراد ناناك من المايا لا واقعية القيم والمثل التي يكوِّنها البشر من مباشرتهم وتعاملهم مع الواقع، وهو تعامل مبني على الوهم والخيال، وبعيد كل البعد عن الحقيقة، ويعتقد الناس وهمًَا أن القيم التي يستمدونها من

تعاملهم مع الواقع خيرة ومرغوبة، مع أنها وهم وخداع، ومتى فهم الإنسان حقيقة القيم ومواطن الوهم والخداع فيها؛ يكون قد تقدم خطوته الأساسية على طريق الخلاص من المايا، ومن التعلقات الفارغة والفاسدة بموجودات العالم، ويتحتم عليه الدخول في عذابات الولادات والموت المتكرر، وبخروج الإنسان من ضلاله ومن عبودية العالم يسلك الطريق الصحيح إلى الفرح الأزلي برؤية السعيدة، والقرب من الله. أما الضال الذي لا يندم على ضلاله محكوم عليه بالانفصال، والبعد عن الله، وتعمى بصيرته عن إدراك تجليات الله في مخلوقاته، ويصعب عليه الضال فهم توضيح الغورو المرشد أو المعلم، الذي يعتبر صوت الله لتجليات الله في المخلوق. أما السيخ التلميذ الذي يتفهم كلام الغورو المرشد عن الحقيقة الإلهية، ويستوعب النظام الإلهي للكون ماديًّا ونفسيًّا يكون قد سلك طريق الخلاص في الانسجام مع الله، وطريق الخلاص يُلزم بنظام للعبادة يحتاج إلى لمثابرة في تطبيقه حتى يحصل الخلاص النهائي، وتطبيق نظام العبادة لا يحتاج إلى معابد وجوامع وصلاة وحج. إن البيت الوحيد الذي يمكن قبوله للعبادة هو القلب البشري الذي ينطق فيه المعلم الروحي الغورو بالكلمة الإلهية. ويوضح الباحث جيفري بارنرتر المصطلح الذي يستخدم في الغالب عن النظام الذي يعلمه المعلم ناناك، المصطلح هو نامسيمرام، والمعنى الحرفي للكلمة هو تذكر الاسم الإلهي، وقد كان التكرار الآلي لكلمة معينة أو لمقطع من كلمة مقدسة يعني: ممارسة وحدده للعبادة، لكن المعنى الذي يُضيفه ناناك إلى المصطلح يتجاوز ذلك.

فهناك أولًا إصرار على الجانب الباطني المطلق للنظام، ثم التوسع في الكلمة الواحدة؛ لتصبح نظرية متطورة عن التأمل، وحتى هذا التأمل لا يكفي وصفًا للممارسة، فالمثل الأعلى هو التعرض الكامل لكيان المرء أمام الاسم الإلهي، والتطابق الشامل لكل ما يكونه المرء ويعمله مع النظام الإلهي الذي يجد التعبير عنه في الاسم الإلهي. والتدرج في التأمل والعمل يدفع بالروح إلى الاتحاد الصوفي بالله، وهذا الاتحاد يحرر الروح من أغلال التناسخ، ويؤدي بها إلى العتاق الكامل، ويشعرها بفرح وسعادة الاندماج في الله. إن التركيز الشيخ على الجانب التأملي الباطني، أو ما يمكن التعبير عنه بالتأمل الصوفي لم يبعدهم عن الجانب العملي والسلوك الأخلاقي المميز الذي يساعد على عملية تصفية القلب وتنقيته، فعلى التلميذ -أي: السيخ- أن يعيش في الفضيلة ويطيع معلميه الغورو، وينتبه إلى إيضاحاتهم وعليه أن يكون وفيًّا لزوجته، ومحبًّا لأولاده وعليه أن يبتعد عن الجدال والخصام وسلوك طريق المسالمة. ومن النصائح التي شدَّد عليها المعلم أمارداس تلك التي تقول: "إذا عاملك أحد بسوء فتحمل ذلك، وإذا تحملت السوء ثلاث مرات فالله نفسه سيحارب عنك في المرة الرابعة". إلا ان المسالمة التي دعا إليها أمارداس معلم السيخ من سنة ألف وخمسمائة واثنين وخمسين إلى سنة ألف وخمسمائة وأربع وسبعين من الميلاد تحولت إلى دعوة وتأهب دائم للقتال في أيام الغورو العاشر غوفنيد سينغ، قام هذا الغورو بتأليف أناشيد وتراتيل قتالية غايتها إلهاب حماس السيخ للانفصال عن المسلمين، وإقامة كيان سياسي خاص بهم، وأقام طقسًا مميزًا ومشهورًا سماه معمودية السيف، وادَّعي بأنه توصل إلى إقامة هذا الطقس بروح إلهي، ويقوم

البوذية الصينية.

هذا الطقس على تغطيس سيف في شرب محلي، والذين يتناولون من هذا الشراب يشكلون جماعة الأطهار الأنقياء، ويكتسب الواحد منهم اسم سينغ أي: الأسد، ويطلق شعره ويحمل خنجرًا ويرتدي ثيابًا مميزًا، ويقسم على مقاتلة المسلمين والهندوس على السواء، وتحولت بذلك عقيدة السيخ إلى حركة سياسية. إلا أن الغورو غوفيند سيند قتل على يد مسلم، وكان قد فقد ابنيه في الحرب. قبل ذلك ومن يومها أصبح الغارانت الكتاب المقدس عند السيخ هو الغورو، ويعامل على هذا الأساس فيكسى بحلة ثمينة، ويوضع كل صباح على عرش منخفض في معبد أميرتيسار الذهبي، وينقل كل مساء إلى سرير ذهبي في غرفة معزولة، هذا مع العلم أن المعلم ناناك وسائر المعلمين التسعة الذين خلفوه كانوا ضد تحويل العبادة إلى طقوس جامدة تبعد عن الله. البوذية الصينية أتكلم عن البوذية الصينية، ظلت الكونفشوسية والطاوية العقيدتين القوميتين للشعب الصيني إلى ما بعد وفاة كونفشيوس المتوفى سنة أربعمائة وتسع وسبعين قبل الميلاد بحوالي خمسمائة عام، إلا أن كل واحدة من هاتين العقيدتين خضعت لعمليات تقوية أو إضعاف تبعًا للتغيرات السياسية في البلاد، ومع النصف الثاني من القرن الأول الميلادي شقت البوذية طريقها نحو الصين، وتداخلت الديانات الثلاث في الصين حتى شكلت كلًّا معقدًا، ويعتقد الصينيون ويصرون على أن هذه الديانات الثلاثة تشكل أسرة دينية واحدة، والسؤال المحير هو: هل الصيني كونفشيوسي أو طاوي أو بوذي؟ وصعوبة الإجابة عن هذا السؤال ترجع إلى أن

الصيني لا يجد أي حرج في اعتناق واحدة من هذه الديانات، ثم يأخذ في حالات عدة بحلول عقيدة أخرى مما يعني: أن الصيني غير متعصب لواحدة من الديانات الثلاثة المعترف بها في بلاده. تاريخ البوذية في الصين: من الناحية التاريخية لا نعرف بدقة متى دخلت البوذية إلى الصين، لكن الثابت أن البوذية عُرفت في الصين حوالي عام خمس وستين ميلادية؛ إذ سجل وجود جماعة بوذية في بلاط أحد أمراء أسرة هان، ثم ظهر في نهاية القرن الأول الميلادي جماعة بوذية في العاصمة يويك. كيفية دخول البوذية إلى الصين: بالرغم من الحاجز الهائل للهامالايا والصحارى اللامتناهية لآسيا الوسطى، فقد كشفت بعثات التنقيب خاصة بعثات بيليو وأورين شتين في أوائل هذا القرن أن البوذية دخلت عن طريق البر وليس عن طريق البحر، كما كان يعتقد؛ إذ كان للبلاد الواقعة على طريق الحرير أثر بالغ في المد البوذي، فالحوض المعروف بحوض تاريم الصحراوي محاصر شمالًا وجنوبًا بطرق مهمة لمرور القوافل التجارية التي تقوم بمبادلة البضائع عند سفوح بامير، منطقة مشتركة بين طاجكستان وأفغانستان ببضائع العالم الإغريقي والروماني، وقد اكتشف الحاج الصيني هاوان تسانغ في القرن السابع طريق الحرير، وعبره ذهابًا وإيابًا، وأخبر عن مناسك كبرى في كشفار ووش وكوتشا في الشمال، ويرفانت وخطان في الجنوب، وأثبتت الحفريلات أقوال هاوان تاسانغ؛ إذ عثر في تلك المناطق على تماثيل وكتابات بوذية من ذلك العهد.

وقد شكلت تركستان جسرًا ثقافيًّا بين الهند والصين، وفي مراكزها العلمية تم ترجمت مؤلفات البوذية السنسكريتية إلى اللغة الصينية، وتذكر الروايات أن المترجم كومارا جيفا المتوفى سنة أربعمائة وثلاث عشر من الميلاد من كوتشا احتجز في الصين، وطلب إليه إدارة مركز الترجمة من السينسكريتية الذي ضم في أيامه ثمانمائة ناسخ، وفي عام خمسمائة وست وعشرين ميلادية وصل إلى كانتون من الطريق البحرية الطوباوي وزيزا راما، الذي يعتبره الصينيون بطريارق البوذية الثامن والعشرين. وفي القرن الثامن الميلادي دخلت الصين مرورًا بالتبت البوذية التنترية، ثم في القرن الحادي وصل إلى معبد أوتان شاي الصيني قادمًا من الهند فقيه الكنيسة التيبيتية، والمصلح التنتري أسيكا للتبشير بالبوذية، لقد حصل التبشير بالبوذية منذ عهد أوسرت هان إلا أن انتشارها الفعلي حصل بفضل حماية الملوك التيتريين ملوك الصين الشمالية من القرن الثالث حتى القرن السادس الميلادي، وحوالي عام ثلاثمائة وخمس وثلاثين من الميلاد بدأ الصينيون يعتقدون البوذية، ويؤسسون الرهبانيات التي سنها بوذا، ثم أكملت البوذية انتشارها في عهد سلالة تانغ من سنة ستمائة وثماني عشر إلى سنة تسعمائة وسبع من الميلاد، ولم تستطع الحركة الكونفشوسية على أيام الإمبراطور أورتوسونغ عام ثمانمائة وأربع وأربعين من الميلاد المناهضة للديانات الدخيلة من القضاء على البوذية، مع أنها استطاعت أن تمحو ديانات أخرى كالمانوية، والزرادشتية، وتطمس أثارها نهائيًّا في الصين. وعندما ارتقى تيشين توسونغ عرش إمبراطورية عام ألف وتسعة عشر من الميلاد أطلق الحرية للبوذية والطاوية، وفي عهده ظهرت أول طبعة من الشريعة الصينية،

وكانت تضم كتابات من القانون السنسكريتي الهندي، والقانون البالي، ثم ازدهرت البوذية في الصين في عهد الحكم المنغولي للصين؛ إذ أن جنكيز خان سنة ألف مائة واثنين وستين إلى ألف ومائة وسبعة وعشرين استعان بالمثقفين البوذيين؛ لتعليم القبائل البربرية. أما سلالة المينغ التي أعقبت الحكم المنغولي فقد قامت بحملة ضد البوذية، وشجعت الكونفشوسية وقوتها، فاستمرت البوذية ضعيفة إلى أن عاد الاحتلال الياباني للصين، وأطلقها من جديد لمواجهة حملات التبشير بالمسيحية الوافدة من الدول الكبرى. تعاليم البوذية الصينية: هناك ظاهرة ملتفتة للنظر في المعابد والهياكل البوذية في الصين؛ إذ يرى دائمًا تمثال بوذا يحيط به من اليسار تمثال لاوتسي مؤسس الديانة الطاوية، ومن اليمين تمثال كونفشيوس مؤسس الديانة الكونفشوسية، ولهذه الظاهرة دلالة على الصعيد العقائدي، وقد ظهر في القرن الحادي عشر كتاب بعنوان (أساس الدين) لراهب بوذي يطرح في البداية السؤال التالي: لماذا التصادم بين بوذا ولاوتسي وكنفشيوس، وثلاثة بشروا بال ع قيدة نفسها، يجب إذا إحترامهم، دخلت البوذية إلى الصين لتأتلف وتتأقلم مع تراث ديني عريق تشكل الطاوية والكونفشوسية أهم رموزه المنظمة، فدين سكان الصين البدائيين لم يكن يختلف بوجه عام عن دين عبدة الطبيعة وموقماته الخوف من الطبيعة، وعبادة الأرواح الكامنة في مظاهره، وكانت الأرض والسماء في هذا الدين البدائي مرطبتتين إحداهما بالثانية؛ لأنهما وجهان لوحدو كونية عظيمة، ولأنهما شطران من نظام عالمي شامل يُدعى الطاو أي: الطريقة السماوية، وكل ما في

العالم من الأجزاء تسير وفق هذا النظام الطبيعي، وعبد الصينيون البدائيون السماء، واعتبروها الإله الأكبر، والمنظم للعلاقات بين الأبناء والآباء، والأزواج والزواجات، والأقنان وسادتهم والسادة والإمبراطور. اعتبر الصينيون أن نظام السموات ومسلك البشر الأخلاقي عمليتان متشابهتان؛ لأنهما شطران من النظام الشامل، أو الطاو، وكان الصينيون يقدمون في كل يوم قربانًا بسيطًا من الطعام لأسلافهم من الموتى، ويرسلون الدعوات إلى أرواحهم لاعتقادهم أن الأسلاف يعيشون بعد الموت في مملكة غير واضحة وغير محدودة، واعتقدوا أيضًا أن الأسلاف في مقدورهم إسعاد رزيتهم أو أن يشقوها. وهكذا عظم الصينيون موتاهم وخلدوا ذكراهم، لأن في تخليد الأموات تعظيمًا للطرق القديمة التي كانوا يسيرون عليها، ويغلقون الباب في وجه البدع ويضمنون الاستقرار والسلام في أرجاء الإمبراطورية. وفعلت الديانية الكونفشوسية فعلها في المجتمع الصيني، فوسعت مجال العقائد الشعبية وضيقت نطاقها في وقت واحد، وحل كونفشيوس بفضل مراسيم الإمبراطورية المؤيدة لتعاليمه منزلة مرموقة في نفوس العامة، وأصبح في المنزلة الثانية بعد السماء نفسها، وأقاموا له الهياكل وقدموا له القرابين، إلا أن التعاليم كونفشيوس لم تكن تتضمن أية إشارة للخلود، والسماء لم تعد في المنزلة الأولى السامية، إلى أن نظام العالم أو الطاو حلَّ محلها في السمو والقداسة، ولذلك لم يحظ دين كونفشيوس بالتأييد الكامل من الشعب الصيني؛ لأن تعاليمه لا تترك مجالًا واسعًا لخيال الناس، ولا تشجع الأساطير والخرافات التي تثير البهجة والسرور والاطمئنان في نفوس العامة. فالشعب الصيني كغيره من الشعوب يزين الحقائق الواقعية الثقيلة والمؤلمة بخوارق طبيعية، ويلجأ الأفراد إلى الأرواح المحيطة بهم يستمدون منها العون والقوة.

لأجل ذلك كانت نفوس الصينيين ترفض النزعة العقلية التي سادت العقائد الكونفشوسية، وتميل إلى عقائد مريحة تفتح لهم أبوابًا سحرية إلى عوالم واسعة من السلوى والغبطة. أما الطاوية فقد أصبحت ولألف عام عقيدة الصينيين والأباطرة والطاوية على ما فيها من غموض قدمت نفسها كطريقة للحياة تهدف إلى تأمين السلام الشخصي، وما أن جاء القرن الثاني بعد الميلاد حتى ادَّعى أتباع اللاهوتسي مؤسس الطاوية بأنه اكتشف أكثير الحياة الذي يهب شاربه الخلود، وشاع هذا الأكثير بصورة شراب أودى بحياة عدد من الأباطرة الذين أدمنوا شرابه، وحوالي عام مائة وثمان وأربعين ميلادية أوهم أحد معلمو الطاوية الناس بأنه يشفيهم من الأمراض مقابل خمس حفنات من الأرز، وخيل لبعض الناس أن سحر هذا الرجل قد شفاهم من أمراضهم. أما الذين لم ينفع معهم السحر قيل لهم: إن سبب الفشل يعود إلى ضعف إيمانهم، وأقبل الناس على اعتناق الطاوية، وشيدوا للاوتس الهياكل والمعابد، وحكوا عنه القصص الخرافية، وقالوا بأنه ولد ولادة عجائبية، وحملت به أمه حملًا سماويًّا، وأنه ولد كهلًا كامل العقل، وكافحت باعة الطاوية لمزاحمة الكونفشوسيين في فرض الضرائب والتنعم بها إلى أن جاءت البوذية بطروحاتها التي جزيت الصيني، وأشعرته بالاطمئنان، والغبطة، ووعدته بالسلام الخالد. البوذية التي دخلت الصين في القرن الأول الميلادي لم تكن البوذية النقية التي بشَّر بها المغبوط البوذا، وأدار عجلتها وسن نظامها التقشفي والنسكي، بل كانت ديانة فرح وبهجة دغدغت عواطف سكان الصين البسطاء، كما أن الديانة

الجديدة الوافدة حملت معها رهطًا من الآلهة الذين لا يمتازون كثيرًا عن البشر، أمثال أمبتبها حاكم الجنة، وكوانين إله الرحمة، وأضافت إلى الآلهة الصين عددًا من اللاواهان والأرباط، وهم ثمانية عشر قديسًا من أتباع بوذا الأولين الحاضرين دومًا؛ لتقديم المساعدة لبني البشر، ولتخليصهم من عذاباتهم وآلامهم، واستقرت البوذية في الصين وتلقفها الصينيون البسطاء، وحضنوها إلى جانب الطاوية وأقام رهبانها في الوزارات والهياكل إلى جانب رهبان الطاوية في هياكلها على كايشان جبلها المقدس، ثم سرعان ما تشعبت البوذية في الصين إلى عدة طوائف بسبب تداخلها مع المعتقدات الطاوية، والكونفشوسية، وأبرز هذه الطوائف أو المدارس مدرسة البلاد النقية التي يؤمن أتباعها بأمتبها البوذا المفضل بالولادة الثانية في نعيم هذا الإله. وتعتبر هذه المدرسة من أقدم المدارس البوذية في الصين؛ إذ أن النص الذي يحتوي على نص ذاك النعيم، ورواية أمبتبها تُرجمت إلى اللغة الصينية في أوائل القرن الثاني الميلادي. ومدرسة التأمل أسسها في القرن السادس الراهب البوذي الكبير بوذيذا راما، الذي عُرف عنه أنه عندما وصل إلى لويانغ بقي فيها تسع سنوات يتأمل مسمرًا عينيه إلى جدار، وتضيف الرواية أن هذا الراهب، وهو في هذه الحالة -حالة التأمل- خاف أن تنطبق أهداب عينيه فقصها ورماها أرضًا، فنبتت بعد حين، وصارت أول شجرة شاي تحرم أوراقها المغلية الرهبان من الاستسلام إلى التعب خلال تأملاتهم. ومن أهم تعاليمه أن الوحي لا يهبط، والإشراق لا يتم بالمعرفة، بل بالتأمل، ولذلك دعت هذه المدرسة بمدرسة التأمل، ثم مدرسة الأسرى وهي مدرسة

متأخرة في الظهور؛ إذ تأسست في بداية القرن الثامن بتأثير المدرسة التنترية، وتميزت بإدخالها الكثير من القصص الخرافية الصينية، وأكثرت من المناسبات الاحتفالية التي لقيت ترحيبًا من الصينيين. يصف ويلد يوراند الصيني بقوله "لم يعرف التاريخ نفسًا أشد دينونة من نفسه" فأكثر ما يهتم به الصيني أن يعيش بخير في هذه الحياة الدنيا، إذا صلى فإنه لا يطلب في صلاته أن ينال نعيم الجنة، بل يطلب الخير لنفسه في هذا العالم الأرضي، وربما لهذا السبب لم تتمكن الديانات السماوية من الانتشار في البلاد الصينية؛ ففي الصين حاليًا حوالي خمسة عشرة مليونًا مسلمًا معظمهم من أصول غير صينية، وفي الصين أيضًا مليون مسيحي مع أن النصاطرة غزو البلاد وبشروا بالمسيحية منذ أكثر من ألف سنة في عهد إمبراطور ناي دوزونج حوالي عام ستمائة وست وثلاثين من الميلاد، وكان رجاؤهم أن تعم المسيحية جميع أرجاء بلد الصين ونسبة معتنقي المسيحية في الصين واحد في المائة فقط. وديانة الصيني خليط من الطاوية والكونفشوسية والبوذية، وليس عنده أيُّ موقف من هذه الديانات الثلاثة، ولذلك لم تعرف الصين حروبًا دينية في أي وقت من تاريخها على غرار ما كان يحصل في الشرق الأوسط، وأوروبا وأمريكا، فالصيني عملي ومتسامح، ويعتقد ببساطة متناهية أنه ربما كان رجال الدين لأي دين انتسبوا على حق، وربما كان هناك جنة وخير للإنسان أن يقبل بكل ما تقوله الديانات، ولا ضير عنده في استدعاء رجال دين من كل الطوائف، واستئجارهم ليقيموا احتفلات تأبينية عن روحه، وليتلو الصلوات ويتمتموا بالأدعية على قبره،

والمعروف عن الصيني أنه لا يهتم كثيرًا بالآلهة ما دامت حياته هانئة صافية، ويدعوها لمساعدته في أوقات الشدة، وإذا لم تتحسن أحواله كان للآلهة بالسباب والرجم والتحقير، ومن الأمثلة الشعبية الشائعة: ليس من صانعي التماثيل والصور من يعبد الآلهة فهم يعرفون من أي مادة تصنع، وهم يضعون الحلي والأشياء الثمينة في قبورهم كوضع سيف إذا كان الميت رجلًا، أو مرآة إذا كان الميت امرأة. كما أنهم كانوا يقومون بالصلوات أمام صور أسلافهم كل يوم، وإذا كان الميت من السادة الإقطاعيين كان يدفنون عبيدهم معه ليدافعوا عنه في الحياة الثانية. وعن عبادة الأسلاف سوف تنشأ أولى الديانات اليابانية الشنتو، وبعد دخول البوذية عن طريق كوريا إلى البلاد حوالي عام خمسمائة واثنين وعشرين من الميلاد طورت ديانة الشنتو، ونظمت في القرن السابع عشر بقرار صادر عن إرادة العليا ونشأته إلى جانب ديانة الشنتو مدرسة الزن على يد مؤسسها نيشيرين، عاش من سنة ألف مائتين واثنين وعشرين إلى ألف مائتين اثنين وثمانين من الميلاد. ومن البوذية في الصين إلى البوذية في اليابان، حيث دخلت البوذية اليابان عن طريق كوريا الصينية، ففي عام خمسمائة واثنين وعشرين ميلادية أرسل ملك باكش هدية رمزية إلى إمبراطور اليابان يحملها جماعة من المبشرين البوذيين، وكانت الهدية عبارة عن صور ونصوص بوذية، وسرعان ما توسعت البوذية في صفوف الشعب الياباني على أيام الإمبراطور سيكو سنة خمسمائة وثلاث وتسعين إلى سنة ستمائة وتسع وعشرين من الميلاد، وانتصار البوذية وانتشارها السريع في اليابان يرجع إلى سببين أساسين هما:

حاجات الشعب الدينية والحاجات السياسية والقومية، لم تكن بوذية بوذا هي التي دخلت الصين بصورتها القادمة المليئة بخطوط التشاؤم والتبرم بالحياة، والدعوة إلى الموت للخلاص من العذاب والألم والشيخوخة؛ إذ أن البوذية تحولت تحت السماء اليابان إلى عقيدة قوامها آلهة أوفياء، ومحافل دينية تبعث على الغبطة والسرور، وتعرف اليابانيون على آلهة بوذية المركبة الكبرى الماهايانا الوديعة من أمثال أميذا، وكوانون، واعترفوا بوجود بوذيين منتظرين يخلصون البشرية من عذاباتها، وأخذوا بفكرة خلود الروح الإنسانية الفردية، هذا بالإضافة إلى وجه المهايانا المشرق بصورته الرقيقة الوديعة بكل ما تحمله تعاليمه من فضائل سامية، ودعوة إلى الانصياع التام لإحكام السلطة والدولة، وأقبلت قوى الشعب الياباني على اعتناق البوذية بصورتها الجميلة لما تحمله من عزاء وأمل يجعلهم يعيشون بهدوء، ورغم مصاعب الحياة وقساوة الطبيعية اليابانية، وأصبحت البوذية تمثل العروة الوثقى التي تجمع الشعب في وحدة سياسية وقومية. وهذا الأخير " الوحدة " لاقى الارتياح من قبل القادة والزعماء، فأغدقوا عطفهم على البوذية، وساعدوا في انتشارها، ومن أبرز الأباطرة الذين ساعدوا على انتشار البوذية الإمبراطور سويقوا الذي حكم البلاد تسعة وعشرين عام من سنة خمسمائة واثنين وتسعين من الميلاد إلى سنة ستمائة وواحد وعشرين من الميلاد. ومن إنجازاته المهمة: إدخال الأخلاق البوذية في صلب القوانين القومية والمدنية، وتذكر الروايات أنه في العصر الكايووتي مال الأباطرة إلى الورع حتى إن البعض منهم تنازل طوعًا عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهبانًا بوذيين. وانقسمت البوذية في اليابان كما في الصين إلى عدة مدارس أو طوائف مستقلة تأخذ باسم المدينة التي نشأت فيها إبان كونها عاصمة اليابان، وأهم هذه المدارس

ثلاث: مدرسة نارا من سنة سبعمائة وعشرة إلى سبعمائة وأربع وتسعين من الميلاد، ومدرسة إيانكيو كيوتو حاليًا من سنة سبعمائة وأربع وتسعين إلى ألف ومائة واثنين وتسعين من الميلاد، ومدرسة كما كورا من سنة ألف مائة واثنين وتسعين إلى ألف وستمائة وثلاث من الميلاد. أما طوائف مدرسة نارا: فكانت متأثرة بمدرس ليوتوسونغ الصينية المعروفة باسم مدرسة النظام، ومدرسة هيانكيوتو أسسها الراهبان دينفيو دايشي وكوبو دايش، أسس الراهب الأول طائفة سانداي، وأسس الثاني طائفة شوفونشو، وتأثرت هاتان الطائفتان بمدرسة ميتوسونغ الصينية، وأدخلت العناصر السحرية والباطنية المأخوذة عن التنتيرية البوذية. وأهم طوائف مدرسة كاماكورا في طائفة ذن التي أسسها نايوان إيزي سنة ألف ومائة وواحد وأربعين إلى ألف ومائتين وخمسة عشر من الميلاد. وفي نفس الوقت ظهرت طائفتان تبشران بالألوذا أميتبها، أميدا باليابانية، وتقولان: أن ليس فقط بإتمام الأعمال الخيرة والتعود على التقشف والنسك يمكن وصول إلى فردوس أميتبها، بل بالعشق الصوفي الذي يرتفع ويرفع صاحبه إلى درجة الألوهية، ويؤدي به إلى الخلاص النهائي وأسس مدرسته الأولى واسمها مدرسة البلاد النقية، الراهب هنن سنة ألف ومائة وثلاث وثلاثين إلى ألف ومائتين واثني عشر من الميلاد، وأسس تلميذه شونين طائفة المدرسة الحقيقية للبلاد النقية، ويُعرف أتباع هاتين الطائفتين بالآمديين نسبة إلى آميدا، وهم الأكثرية البوذية في اليابان المعاصرة، وقد دلت الإحصاءات الرسمية التي أجريت في عام ألف وتسعمائة وثلاثين من الميلاد على وجود ما لا يقل عن أربعين مليون بوذي في اليابان، والبوذية اليوم هي الدين

الوطني الياباني، بعد أن طعمت ببعض أفكار الشنتاوية، وخاصة فيما يتعلق بتمجيد الإمبراطور والأقداميين والأمة. لقد استطاعت البوذية التي دخلت مسالمة إلى الجزر اليابانية أن تلبس معتقداتها الأصيلة حلة جديدة متميزة، وغنية بالأساطير، كما أنها أخلت مكانًا في لاهوتها، وفي عداد آلهتها لمذهب شنتو وآلهتها، ودمجت بوذا بأماتيير سو، وتركت مكان في معابدها للشنتو. كان هذا عن انتشار البوذية كدين هندي في الصين واليابان، وأعود إلى دراسة مقارنة بين أديان الهند، قلنا: فيما سبق إن أديان الهند تسير في فلك واحد، وإن الهندوسية هي الدين الأم، وتتشعب منها أديان أخرى، ثم تعود إليها غالبًا في صورة أو أخرى. وهكذا تلتقي أديان الهند في الاعتقاد بالكارما، وإن اختلفت هذه الأديان في تفسيرها وتلتقي تبعًا لذلك في القول بالتناسخ، وفي محاولة التخلص من تكرار المولد بقتل الرغبات والحرمان، وأديان الهند تتجه للتشعب، وتسعى كلها إلى الانطلاق أو النجاة النيرفانا، وليست مدلولات هذه بعيدة الاختلاف، ويصف بويش الارتباط بين أفكار بوذا وبين سواها من الأفكار الهندية بقوله: إن جوتاما لم يكن له أي علم ولا بصيرة بالتاريخ، ولم يكن لدي هـ شعور واضح عن مغامرة الحياة الفسيحة الكثيرة الجوانب في انطلاقها في أرجاء الزمان والفضاء، كا ن ذهنه محصورا في دائرة فكرات عصره وقومه، وقد جمدت عقولهم حول فكرات التكرار الدائم المتواصل. وأبرز ألوان الخلاف بين أديان الهند يتضح في مسألة الطبقات: فقد قررتها الهندوسية ووضعت حدودًا حاسمة تفصل كلًّا منها عن الأخرى ولم تقل بها الجينية أو البوذية، ولكن أيًّا منهما لم تستطع أن تتخلص من النظام الطبقي في الحياة العملية.

أديان الهند في الميزان.

ومن أوجه الخلاف كذلك: مسألة الألوهية ففي الهندوسية مجموعة كبيرة من الآلهة، وأنكرت الجينية الإله، ورفضت البوذية الحديثة عنه، ولكن هذه الهوة لم يطل عمرها، فسرعان ما أله الجينيون مهاوير، والبوذيون بوذا، واختلطت التماثيل والآلهة؛ إذ وجد الجينيون أن التدليل على عدم الإله أصعب من التدليل على وجوده، ومما يتصل بالإله ما تقوله الجينية من عدم الاعتراف بوحدة الوجود، ومن أنها ترى أن كل روح وحدة مستقلة خالدة، وليس مصيرها أن تندمج في روح عام؛ بل ستبقى مستقلة خالدة، وهي بذلك تخالف الهندوسية. ولا تعترف البوذية بسلطان الكهنة ولا بقانون لويدا، وتختلف البوذية عن الجينية في أن الأولى تسعى لإنقاذ المجموع، والثانية لإنقاذ الفرد، ومن الواضح أن أديان الهند فيما يتعلق بالإله وعلاقته بالكون والإنسان تختلف عن الأديان السماوية، فهذه ترى أن الكون والبشر وكل شيء مخلوق لله، وهناك حد فاصل بين الخالق والمخلوق، فليس الإنسان جزءًا من الله، وليس الكون جزءًا من الله، وهناك حد فاصل كذلك بين الإنسان والإنسان. أديان الهند في الميزان وأختم بأديان الهند في الميزان: أسطورة الكارما، الكارما أو قانون الجزاء وما يترتب عليه من تناسخ للأرواح، أو تكرار للمولد أهم المبادئ التي تعد محورًا للفكر الهندي، ولا يكاد العقل يقبل مثل هذه الأسطورة، وقد سبق أن أوردنا تردد بوذا في الخوض فيها. وقوله في ذلك هل تكلم ميت قط، والعقل يقره أنه لا بد من جزاء لما يرتكبه الإنسان من أخطاء، ولكن الإسلام اتخذ طريقًا رائعًا حيال هذا الموضوع، فجعل الجزاء يتم أحيانًا في الدنيا وأحيانًا في الأخر، وكان القرآن الكريم مرشدًا للمسلمين إلى هذا الفكر قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)،

كما قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} (الحشر: 6)، وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} (النساء: 9)، كذا قال ربنا: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (القارعة: 6 - 9) ولكن الفكر الهندي اتجه اتجاهًا خاصًّا لا يمكن التدليل عليه، ولا فهمه، وبخاصة بعد أن اضطر الفكر الهندي إلى تقرير أن الروح في الحياة الجارية مقطوعة تمامًا عنها في حياتها السابقة، فلا تعرف عنها شيئًا، ومعنى هذا أن الروح تنعم أو تشقى دون أن تعرف أسباب النعيم أو الشقاء. خرافة القول بالتناسخ: ومما يؤخذ على الكهانة سواء في ذلك كهانة الوثنيين، أو أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعليم الصور، والتماثيل، والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة إنها تجعل المتدين قطعة من المعبد، لا تتم على انفرادها، ولا تتم لها الديانة أو الشفاعة بمعزل عنه، والتناسخ يخلق وضعًا أعمق من ذلك في عدم الاعتراف باستقلال الشخصية، ما دام الإنسان حلقة من سلسلة مر بحلقاتها الكائن الحي، ونرى أن التناسخ يعارض بوضوح نظام الطبقات الدقيق الذي تقول به الهندوسية، فنظام الطبقات يحافظ على العرق والدم، والتناسخ ينقل الروح من طبقة إلى طبقة، بل من إنسان إلى حيوان أحيانًا، وبذلك اضطر بعضهم إلى القول بأن التناسخ يتم في حدود الصفة التي عليها الإنسان، فأرواح البراهمة تُنقل إلى البراهمة وأرواح العبيد تنقل إلى عبيد، وهكذا ولكن ذلك يُفقد التناسخ قيمته، فالمقصود من التناسخ هو تحقيق الجزاء نظير خير أو شر ارتكبته الروح في حياة السابقة، ولا يتم ذلك ما دام العبد سيبقى عبد، والسيد سيبقى سيدًا.

والتناسخ يعارض كل الدراسات العلمية وعلم الأجناس، حيث تقرر أن الولد بعض أبويه، واستمرار لهما إنه يماثلهما جسمًا ويماثلهما روحًا ومواهب، فهو يرث عن ذويه لون الجسم والعيون والشعر، ويرث القامة والصحة والمرض، ويرث المواهب والأخلاق غالبًا، ولذلك فالتناسخ شذوذ عن الفكر العلمي والطبيعي، وإذا كان التناسخ للجزاء، فماذا يقول الفكر الهندي عن الطفل الذي يموت عقب الولادة؟ إن الروح به لم تستمتع، ولم تعاقب، فليست ولادته إذًا وبعث روح شخص آخر به إلا عبثًا والتناسخ لا يفسر لنا الزيادة المطردة في التعداد، والهبوط الواسع أحيانًا في أثناء الحروب. من أين تجيء الأرواح الجديدة، وإلى أين تذهب أرواح القتلى في الحروب حيث يكون المواليد أقل من الموتى، والقول بالتناسخ تفكيك للأسرة، وتصوير لها على أنها أشتات من الناس لا روابط بينها، فكل فرد من أفرادها منحدر من فرد لا نعرفه، وعلى ما في هذا من الارتباك الاجتماعي فهو أيضًا يُخالف الملاحظ غالبًا من تقارب حظوظ أفراد الأسرة الواحدة، مما يدل على صلاتها الأسرية لا على أنها أشتات كما يرى مبدأ التناسخ. كذا اضطراب الفكر الهندي فيما يتعلق بالإله: فيما يتعلق بالإله نجد الفكر الهندي يتراوح بين التعدد وبين الإنكار أو الإهمال، والعجيب أن موقف الجينيين والبوذيين من الاعتراف بإله كان رد فعل لسوء تصرف لطبقة من البراهمة واستبدادهم، فخاف الجينيون والبوذيون أن تتكون عندهم طبقة لاهوتية كالبراهمة إن قالوا بالإله؛ فأنكروه، أو أهملوا الكلام عنه لهذا الغرض، وذلك موقف لا يرتضى، وقد ترتب على إنكارهم الإله، أو إهمالهم الكلام عنهم أن أله الجينيون مهاوير، وأله البوذيون بوذا، كما سبق القول، وامتلأت معابدهم بالآلهة.

وانحدر الفكر الهندي إلى عبادة الأوثان، ويعتبر علماء الأديان أن الوثنية نتيجة حتمية لإنكار الإله، فكل دين ينبني على إنكار الإله ينتهي بالفشل، وسبب ذلك أن الناس مفطورون على الإيمان بالآلهة، وهم دائمًا يفكرون فيمن خلق السموات والأرض، ومن يحيي ويميت، فإذا خلت عقيدة من الإله بادر أتباعها، فابتكروا الإله على النحو الذي يتفق مع ثقافتهم، ومستواهم العقلي والعلمي، وكذا ننكر عليهم إنكار العبادات وأسطورة النيرفانا والنجاة، والتشاؤم، وما في البوذية من مفاسد، وتردد البوذية في قبول المرأة، وموافقة الأب ضرورة قبول الابن، والاستجزاء والمهانة، كل هذه إذا من الأشياء التي ينبغي أن ننكرها. وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 الديانة المانوية (1).

الدرس: 14 الديانة المانوية (1).

من هو " مانو "؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الديانة المانوية (1)) من هو " مانو "؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فها أنا ذا أحدثك هذه المرة إن شاء الله تعالى عن المانوية؛ من هو مانو، حياته مبادئه، ومعتقدات المانوية، والأخلاق المانوية أيضًا. فأقول -وبالله التوفيق-: ظهرت عقيدة المانوية على يد ماني بن فاتك الحكيم، وذلك بعد اضمحلال المسيحية؛ أي: بعد ظهور دين سماوي صحيح تعرض للتحريف وداخلته الأهواء البشرية، وتنازعته الأغراض الدنيوية فكان ماني أو مانو يقول بنبوة المسيح -عليه السلام، ولكنه أدخل مع هذا القول تلك النزعة التي كثيرًا ما تُصيب عُبَّاد القديم، فعاد إلى مجوسية الفرس القديمة، واقتبس منها القول بأن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم. ثم اختلفت المانوية في مرجع الخير والشر ومدى ارتباطهما بالنور والظلام فقال أكثرهم: إن سبب الامتزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور، فبعثت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليه ملك من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة، فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية، فخالط الدخان النسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة. فمن أجناس النور وما فيه من مضرة وشر وفساد، فمن أجناس الظلمة فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكًا من ملائكته، فخلق العالم على هذه الهيئة؛ لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة، وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب؛

لاستصفاء أجناس النور من أجزاء الظلمة، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر يستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد، والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع؛ لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها، وكذلك جميع أجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، ويبطل الامتزاج، وتنحل التراكيب، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والميعاد. ومما يعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر، ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلئ فيسير بدرًا، ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر، وتدفع الشمس إلى نور فوقها، فيسري ذلك في العالم إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد، لا تقدر الشمس والقمر على استصفائة؛ فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض ويدع الملك الذي يجذب السموات، فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نار حتى يضرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تطرم حتى يتحلل ما فيها من النور، وتكون مدة الاضطرام ألفًا وأربعمائة مائة وثمانيًا وستين سنة، إلى آخر هذه التدخلات العقلية البشرية التي تُنزل العقيدة الصحيحة من عليائها إلى فلسفة لا تصلح إلا لزمانها، وقد لا تصلح معه إلا زمنًا يسيرًا، ومع بعض العقول السازجة الضعيفة مما يدل على صحة اتجاهنا الذي يؤكد رجعية هذه المعتقدات، وتخلفها بعد نقاء الوحي وسموه.

بعد هذه المقدمة التمهيدية والفكرة السريعة حول الديانة المانوية نشرع في ترجمة ماني وحياته وذكر مبادئه إن شاء الله تعالى. حياة ماني في شبابه والعمل الدعوي الأول: عاش في حوالي عام مائتين بعد الميلاد أمير فرسي اسمه فتقن، كان من أصل أشكانك عاش في مدينة همزان عاصمة إقليم مديا، وكان متزوجًا من سيدة حملت اسم مريم وهي تسمية يهودية مسيحية، وكانت مريم تنتمي إلى أسرة كمسريكان، وهي أسرة إمارة من أسر الدولة الفرثية، كما أنها كانت فرعًا فروع الأسرة الأشكانية الحاكمة للإمبراطورية الفرثية، وهي الأسرة التي قُدر لها أن تشغل دورًا بارزًا في تاريخ أرمينيا، وعليه فإن الدم الملكي الأشكاني الذي أسهم به الأبوان قد سرى في عروق الابن الذي كتب لمريم أن تلده، وغادر فتق همزان واتخذ مقرًّا له في طيسيفونسلوقية، وهي العاصمة الإمبراطورية الفخمة، وغالبًا ما تنقل الإقطاعيون الكبار وتناوبوا السكنى بين مقراتهم الريفية والقصور الفخمة في العاصمة. هذا؛ ويبدو أن انتقال فتق من موطنه إقليم مديا كان بصورة دائمة، ومن الواضح أن اهتماماته قد تركزت على الدين بشكل مطلق، فقد كان مثل العديد من أترابه باحثًا عن الله، ويخبرنا أحد المصادر العربية أنه عندما كان في بيت الأصنام، وكان فتق يحضر كما يحضر سائر الناس، فلما كان في يوم من الأيام هتف به من هيكل بيت الأصنام هاتف: يا فتق لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا ولا تنكح بشرًا، تكرر ذلك دفعات في ثلاثة أيام، فلما رأى فتق ذلك لحق بقوم كانوا في نواحي دسميسان معروفين بالمغتسبة، كما ذكره صاحب (الفهرس النبيل).

هذا ولا نعرف نوع الهيكل الذي يصفه النص العربي، ويسميه بيت الأصنام، فمن المحتمل أن هذه التسمية تتطابق مع بيت بتركي، وهي عبارة سريانية وردت في حكاية جيريانوس، وأطلقت على المعابد الوثنية في سوريا، أو لعلها تتطابق مع عبارة بوتخانا، وهي عبارة تطلق في الفارسية الجديدة على المعبد البوذي بيت بوذا، هذا وليس من المستبعد أيضًا أن المقصود هو المعبد البوذي؛ لأنه من المحتمل كثيرًا أنه كان هناك مقر إرسالية إرشادية بوذية في بلاد الرافدين، منذ أيام الامبراطور أزوكا، ومهما يكن الأمر؛ فقد حملت مريم بعد فترة وجيزة من حادثة بيت الأصنام بولد سمته ماني. هذا؛ ويمكن تحديد تاريخ ميلاد ماني على أنه حدث في الرابع عشر من نيسان لعام ستة عشر ومائتين للميلاد، وبالطبع نجد أن الاسطورة المانوية قد زخرفت هذا الحدث بكل أنواع البشائر الإعجازية الرائعة، فمن المفترض مثلًا أن أم ماني قد علمت عن طريق الرؤى والإلهامات لما قدر لابنها من مواهب وعظمة مقبلة، زد على هذا أنها رأته يُصعد به إلى السماء ثم يهبط منها، هذه المسألة الأخيرة هي الناحية التي تستبق قيام التقاليد الغريبة المتعلقة بصعود ماني إلى السماء. ونظرًا لتنوع الروايات حول تحديد مكان ولاية ماني، بات من المحال الوصول إلى نتيجة حاسمة، وتبعًا لروايته هو كما حفظها لنا الإمام البينوني في كتابه (الآثار الباقية)، فإنه ولد في قرية تدعى مردونوس من نهر قوسا الأعلى، من بلاد بابل الشمالية، وأكد ماني هذه الرواية وقال: بأن مولده حدث بالفعل في بلاد بابل، وذلك في قصيدة الشهيرة وصفبها ذاته فقال: إنني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل.

أما الفهرس وهو مصدر عربي، فيروي: ثم إن أباه أنفذ فحمله إلى الموضع الذي كان فيه، فربي معه، وعلى ملته، وبمعنى آخر أبقى فتق ولده إلى جانبه وعلمه دينه، ماذا كان هذا الدين استنادًا إلى الظروف لا بد أنه دين المختسلة لا غير، وتتوافق عبارة المختسلة العربية مع تسميتين وردتا لدى الكاتب السورياني فيودورباكونيه، وهما منقضى وحلي، وهواري، وتعنياني على التوالي الذين يُطهرون أنفسهم بحلل بيضاء، وفي حين يتطابق التعبير الأول مع عبارة المختسلة العربية، فإن التعبير الثاني ينسجم تمامًا مع عبارة سيفيد جامغان، وهو لقب أطلق على طائفة فارسية ظهرت فيما بعد، ومهما يكن الحال يلاحظ أن العديد من طوائف الكهنوت قد استخدمت الأرضية البيضاء مثل: البرهميين، والمندعيين، والمجوس، والكهنة السوريان في دورا وربوس، وعليه يصعب أن تلفت هذه التسمية انتباهنا أكثر، ومع ذلك ومن الأوضح تطابق المعنى والجوهر بين الذين يمارسون الغسل، والذين يطهرون أنفسهم. وهذا يستلزم ضمنيًّا وجود طائفة معمدانية، وتروى الكتابات القبطية المانوية كيف أن أحد الحواريين سأل ماني عن الكائنات السماوية التي بقدسها أهل الفطرة، فأجابه ماني مشيرًا إلى حياته الأولى والحياة الثانية، وبلا شك إلى الحياة الثالثة أيضًا. ومن المؤكد أن هذه التعاريف موجودة بدقة في الأدب المندعي القديم، والمعني بها الكائنات البدائية السلمية الثلاثة، وعليه يقودنا تصريح ماني مباشرة إلى المندعية، وبفضل التوائم الذي يميز كل من المثيولوجيا المندعية، والمانوية، ومظهرهما الغنطوسي العام، وطقوسهما الدينية، والعديد من تعابيريهما المتخصصة، ويمكننا أن نفترض بكل ثقة أن فتق قد انضم إلى طائفة المندعيين في بلاد بابل الجنوبية، وأن ماني نشأ وترعرع في وسط هذه الطائفة المعمدانية، وتواجهنا هنا بعض العقبات.

لقد فرض على فتق الإلتزام ببعض مظاهر الزهد والتقشف، وهي الامتناع عن تناول اللحوم، وعن شرب الخمر، وعن مباشرة النساء، والمندعية كما هو معلوم ليست من حيث المبدأ عقيدة تقشف، ولكن يلاحظ ان الكتابات المندعية تُردد في أماكن مختلفة مواعظ ضد الجشع والسكر والشبق، وهناك تحذير خاص ضد استهلاك الخمر الذي يؤدي إلى الفسوق؛ لذلك من الواضح أنه كان لدى المندعية نزعة شديدة نحو الأخذ بمنهج حياتي متقشف وعفيف، وفي هذا الوسط وضمن هذه الظروف ترعرع ماني، ولذلك فإن استنتاجنا هو الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه البحث الحديث، والذي يقول: نشأ ماني في جنوبي بلاد بابل في وسط طائفة غنطوسية معمدانية، هي بلا شك الطائفة المندعية، وهناك تلقى بوضوح مؤثرات كانت حاسمة بالنسبة لمستقبله. ولما تم لماني اثنتي عشرة سنة أتاه الوحي للمرة الأولى، يذكرنا هذا بيسوع البالغ من العمر اثني عشر عامًا في الهيكل، وكان هذا سنة مائتين وثمانية وعشرين، ومائتين وتسع وعشرين ويروي الفارس بأن الوحي أتاه من ملك جنان النور، والمقصود بملك جنان النور في المصطلح العربي المانوي هو الله رب الأرباب، وقام كائن سماوي بنقل الوحي إلى ماني، وهو ملاك يسميه النص العربي التم، وهي عبارة مأخوذة من الكلمة السريانية توما أي: التوأم وتتوافق هذه العبارة مع كلمة سايسا، سايس القبطية الواردة في المدونات المانوية المصرية، وكان محتوى رسالة الرسول السماوي لماني: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات، ولم يأن لك أن تظهر لحداثة سنك، وبناء على ذلك هجر ماني الطائفة المعمدانية، التي كان قد التحق بها ولازمها حتى تيك الساعة، تمشيًا مع إرادة والده.

هذا؛ ويروي سيودوربا كونية بأن تلك الطائفة المذكورة آنفًا لم تكن قادرة على التساؤل معه، لذلك تخلصت منه، وأطلقت عبارة توأم على القرين السماوي للنبي، فمن خلال نزوله من السماء جرى تكليفه بتبليغ رسالة النبوة، ولقد كان نهج التفكير هذا إيراني المنشأ، ومعروفًا في الأنطوسية بشكل عام، وهو سيشغل فيما بعد دورًا هامًّا في الأفكار الإسلامية، وتذكر نصوص القبطية أنه تم منح ماني المعرفة الكاملة عند تبليغه بنبوته، وتروي عنه قوله في هذه السنة نفسها عندما كان الملك أردشير على وشك التتويج، نزل الفارقليط الحي، وكلمني للمرة الأولى، وأباح لي معرفة السر المحجوب عن عصور وأجيال بني البشر. السر العميق والعالي سر النور والظلام سر الصراع والحرب الماحقة كل هذا أباحه لي، وتبع هذا على نفس المنوال ذكر جميع النقاط الأساسية للعقيدة المانوية التي يُفترض أن ماني تلقاها في فترة الوحي بسببها. وينهي ماني روايته بقوله: "وهكذا أباح الفارقليط لي وعلمني كل ما كان وما سيكون"، وبناءً على ما سبق جاء اسم الرسول السماوي هنا الفاراقليط الحي، وتذكر المصادر العربية أن ماني قد وصف نفسه بالفاراقليط الذي بشر به عيسى في الإنجيل. هذا، ولا يمكن الطعن بهذا الادعاء بناءً على ما تقدم، بيد أنه كيف يمكن القول عندئذ أن ما يسمى بالتوأم الذي يأتي ماني، هو ذات ماني العليا تمامًا؛ لأن الفاراقليط الحي الذي هو روح القدس هو كالتوأم نفسه، فيقول يوديوس في الفصل الرابع والعشرين: ادعى ماني أنه شيء واحد مع توأمه روح القدس، وفي جميع الأحوال حتى وإن كان ماني قد خاض غمار تجربة طبيعته المشتركة مع حامل الإلهام السماوي، عندما كان في الثانية عشر من عمره، فإن الوقت لم يكن حان بعدُ بالنسبة له؛ ليظهر بوضوح بين الناس، وبقي ماني يعيش في عزلة تامة، وذلك تنفيذًا لأوامر

الرسول السماوي، واستنادًا إلى التطورات اللاحقة يمكن الحكم أنه أمضى فترة الإعداد هذه في دراسة الآداب المقدسة، التي كانت آنذاك متداولة في حضارة بلاد الرافدين، وفي التأمل في جميع ما درسه. ولا بد أن هذا التأمل وهذه القراءة قد أنضجت قناعته، ومهما يكن الحال تم الآن إكمال المرحلة إعداده وتطوره الديني، وهي المرحلة التي يُمكن أن نسميها المرحلة المندعية، وأخيرًا وصل التفويض المنتظر لبثِّ الرسالة إلى العالم، وصل إلى ماني في سنة مائتين وأربعين ومائتين وواحد وأربعين من الميلاد، فيومها قال الملك له: "عليك السلام ماني مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو بحقك، وتبشر ببشرى الحق من قبله، وتحتمل في ذلك كل جهد"، وهكذا فإن رسالة الملاك هي التي عينت ماني رسولًا، وتتناوب عبارة المبعوث في الإغريقية، أبو تولوس مع اصطلاح رسول؛ لتشير إلى عبارة نبي، والنبي هو الإنسان الذي يكلف بالنبوة من قبل الله إما في السماء أو على شكل وحي رباني، دائمًا بشكل مكتوب في الشرق الأوسط، وبعد تكليفه يبشر برسالته للناس على شكل عقيدة، وتمشيًا مع نصيحة الملاك أعلن ماني عن نبوته إلى والده، وإلى أعضاء آخرين بارزين في أسرته، وضمن إيمانهم به، وتحولهم إلى عقيدته. ونستخلص من هذا الخبر أن والد ماني قد احتفظ بالصلة مع أنسبائه وأقربائه، وكان هذا ضروريًّا لأن ماني كان قادرًا منذ البداية اعتمادًا على تلك الوسيلة على نيل الدعم الفعال، ومع ذلك فإن نشاط ماني الاجتماعي العام لم تكن بدايته في بلاد الرافدين كما هو متوقع، بل في الهند، ويخبرنا هو عن ذلك بقوله في نص جاء باللغة القبطية: "بدأت التبشير في

السني الأخيرة بحكم الملك أردشير، فقد أبحرت إلى بلد الهنود، وبشرت بينهم بأمل الحياة، واخترت هناك نخبة جيده. لقد ذهب ماني إلى الهند بسفينته كما ذهب الرسول توماس من قبل، وهو حين فعل ذلك كان كما هو مرجح مطلع على حكاية هذا الرسول، ولربما هي أوحت له القيام برحلته، ومن المحتمل أن رحلته لم تذهب به أبعد من إقليمي مكران وطوران الفارسيين، إضافة إلى المناطق الشمالية الغربية من الهند، وقندهار أي: إلى المناطق المتألفة منها باكستان، فقد كانت الأقاليم الشمالية الغربية واقعة منذ ذلك الحين أي: في حوالي سنة مائة وثلاثين قبل الميلاد تحت النفوذ الفارسي الشديد، بشكل أدق من النفوذ الفرثي، ففي هذه المناطق ربما كان ماني قادرًا على الأقل من الأوساط العليا على جعل نفسه مفهومًا بالتعبير عما كان يريده بلغته الفرثية الأم. ومع أن هذه المناطق لانتشار المسيحية إلى حكم الأسرة المعروفة باسم الأسرة السيزية، فإن عددًا من الأمراء الفرثيين كانوا يحكمون هناك منذ أمد بعيد، وكان من بينهم الملك هندوفار الوارد ذكره في أعمال القديس توماس ويعتبر أنشياكا الرجل الأوسع شهرة بين أفراد الأسرة السيزية الهندية، فهو معروف في التاريخ على أنه كان المحامي الأعظم عن البوذية. ومن المحقق أن البوذية كانت قوية في الأجزاء الشمالية الغربية من الهند، مع أقاليم فارس الشرقية، وذلك منذ أزمان سحيقة، ونتيجة لهذا لا بد أن لماني قد احتكَّ عن قرب بعالم هذا الدين الذي كان ما يزال آنذاك مليئًا بالنشاط والحيوية التبشيرية، ولقد كان للبوذية أعمق الآثار عليه، ويمكن رؤية ذلك بوضوح، وبشكل خاص في تنظيمه لكنيسته، وفي الأساليب التي اعتمدها للتبشير لعقيدته بين العامة من

الناس، ويبدو أن نائب الملك المسمى كوشان شاه لم يكن في ذلك التاريخ سوى أخ لشابور ولي العهد؛ نظرًا لأن اسمه كان فيروز. ولم يقدر لنشاط ماني في الهند أن يدوم طويلًا، ولم يكن عليه أن يمكث هناك فترة تزيد عن السنة، فقد جاء في روايته قوله في "السنة التي توفي فيها الملك أردشير وأصبح ابنه شابور ملكًا وخليفة له أبحرت من بلاد الهنود إلى بلاد الفرس، وسافرت من بلاد فارس إلى بلاد بابل، إلى ميسان وخوز ستان"، وهكذا عاد ماني إلى بلاد فارس بسفينة أيضًا؛ ليعبر كما يبدو إلى إقليم ميسان، هذا ولربما أمكن تثبيت تاريخ الحادثة الغريبة التالية التي وقعت لماني، كما ورد ذكرها في أسطورة المانوية أثناء هذه الرحلة، فقد جاء "وفضلًا عن ذلك كان لشابور ملك الملوك أخ يسمى مهرشاه كان أميرًا على إقليم مايسان، وكان عدوًّا شديدًا لرسول النور الرائع، وكان قد غرس بستان جميلًا جدًّا وكبيرًا للغاية، إلى حد أنه لم يكن له شبيه، وعرف رسول النور آنئذ أن وقت الخلاص قد دنى، وعليهم بعث فقام أمام مهرشاة الذي كان جالسًا وهو شديد الغبطه وسط وليمة قد أقامها في بستانه، ثم إن الرسول نطق ثم تكلم مهرشاه مخاطبًا الرسول بقوله هل يمكن أن يكون في الفردوس الذي يتغنى به بستانًا كبستاني هذا؟ فسمع الرسول كلام الكفر هذا، فأراه بقوته الخارقة جنان النور مع جميع الأرباب والآلهة، ونسيم الحياة الأبدية، وبستان فيه جميع أنواع الغراس وأشياء أخرى تستحق أن تذكر، كان يمكن رؤيتها هناك، ثم سقط مهرشاة على الأرض مغشيًّا عليه لمدة ساعات ثلاث، وبقي في صميم فؤاده ما كان قد رآه، ثم وضع الرسول يده على رأسه، فثاب إلى نفسه واسترد وعيه من جديد، ولذلك خر عندما أفاق على قدمي الرسول، وأمسك بيده اليمنى، وتكلم الرسول كما يلي.

النشاط التبشيري لماني.

النشاط التبشيري لماني انتقل ماني بعد هذه الحادثة إلى إقليم آشور سيتان أي: بلاد بابل الحقيقية، وانتقل من هناك إلى إقليم ميديا وفيرثيا، ونجح أثناء إقامته في تيسيفون في إقامة علاقات مع الملك العظيم شابور، وجرى استقباله من قبل الملك الجليل، وحظي بثلاث مقابلات متتالية معه، وحصل على هذه المقابلات بوساطة فيروز أخو الملك الذي كان ماني قد هداه إلى دينه الجديد أيضًا، وتبعًا لسيرة ماني كما رواه صاحب (الفهارس) جرت المقابلة الأولى في يوم الأحد، أول يوم من نيسان عندما كانت الشمس في برج الحمل، وتقرر هذا الرواية أن هذا قد حصل خلال أيام تتويج شابور، ويشكك بعض العلماء في أيامنا هذه في هذه المسألة، بينما يؤيدها آخرون ويواجهنا هنا سؤال هو هل كان ماني مشهورًا بما فيه الكفاية للحصول على مثل هذه المقابلة؟ والجواب: هو بالإيجاب على أغلب الظن، لأنه لو كان لماني مؤيد قوي في شخصيته أخ الملك لا يبدو هناك أي مسوغ للشك بالإيجاب، وكان برفقة ماني في مقابلته الأولى للملك أبوه واثنان من تلاميذه هما شمعون وزكوا، وكلاهما اثنان سوريانيان، وقدم للملك بهذه المناسبة كتابه الأول الشابور قان أي: كتاب شابور، والذي هو بالمناسبة كتابه الوحيد الذي كتبه بالفارسية الوسيطة. وتذكر مصادر المانوية أن شابور قد تأثر بعمق برسالة ماني، ووافق على السماح له بنشر تعاليمه بكل حرية، وفي كل مكان من الإمبراطورية، ويقول ماني نفسه: "إن الملك العظيم قد بعث بتوجيهاته للسلطات

المحلية في كل مكان؛ لتقديم حمايتها للدين الجديد"، ويقص علينا في سيرته قائلًا "مثلت أمام الملك شابور، واستقبلني بحفاوة كبيرة، ووافق على أن أتجول في بلاده، وأن أبشر برسالة الحياة، وأمضيت كذلك أعوامنا معه بين حاشيته". وبروي ذكرياته عن مقابلته الأخيرة الحاسمة مع الملك العظيم قائلًا "كان الملك شابور قلقًا عليَّ فكتب رسائل توصية ودفاع عني إلى جميع أشخاص البارزين بالعبارات التالية: ساعدوه ودافعوا عنه، حيث لا يخالفه أحد أو يعتدي عليه". وقد أكد صحة هذا القول لسكندر ليكوبولوس وهو من فلاسفة أفلاطونية المحدثة، فأوضح في الرد على المانوية أن ماني قد عاش في أيام الإمبراطور فليبيان، ورافق الإمبراطور الفارسي شابور في حملته، ثم قال بعبارة واحدة: "وقاتل إلى جانبه"، وهكذا نعلم أن مؤسس الدين قد أمضى عددًا من السنوات بين أتباع الإمبراطور، ويدل معنى كلمة كوموشونج التي استخدمها الاسكندر أن ماني قد انتسب لأسرة الملك، وكان واحدًا من الأتباع الملكيين، ولهذا دلالاته، وعلاقاته بالنظام الإقطاعي، ويعني الوجود رباط خاص للطاعة والإخلاص بين ماني وشابور، وبهذه الأهلية ذهب ماني مع سيده المرتبط به، ورافقه ضمن أتباعه في حملته العسكرية، وحققت الحملة لشابور نجاحات عسكرية وسياسية باهرة، وبدا الأمر في عام مائتين وستين من الميلاد كما لو أن شابور سيعيد تأسيس الحكم ال أخميني في آسيا الصغرى. ويفسر هذا كيف أن كرتير كزموبوذان الديانة الزرا د شتية في بلاطه قد حصل على سلطات مطلقة من الملك العظيم، كما سجلها في نقوشه؛ ليعيد من جديد تأسيس الدين الإيراني مع هياكل ناره في الأقاليم المحتلة لآسيا الصغرى؛ حيث كان قد سبق لطبق استقراطية إقطاعية إيرانية الاستقرار هناك منذ عدة قرون،

ونعم فيها الرهبان المجوس بموقع سلطوي قوي، وذلك وفق ما رواه الجغرافي استرابوه، ولا يمكن تفسير هذه الإجراءات الدينية السياسية أكثر من أنها تدل على تصميم من جانب شابور على أن يضم إلى الأبد بعض أقاليم آسيا الصغرى إلى إمبراطوريته، خاصة البقاع التي كانت خاضعة للنفوذ الإيراني منذ سنة خمسمائة وخمسين قبل الميلاد. ومن ناحية أخرى ليس هناك دليل مقنع على أن ما دار في خلده هو إدخال أو تقديم ديانة إيرانية محددة كزرادشتية مثلًا؛ ذلك أن عبادة النار التي بعثها كرتير كانت هي الطريق السحيقة القدم لعبادة الأرباب الذين يرد ذكرهم في جميع أشكال الممارسة الدينية الفارسية. بما أن كرتير وفق روايته الشخصية قد أشرف بنفسه على تجديد هياكل النار، فمن الواضح أيضًا أنه كان مع الجنود الفرس خلال زحفهم، وبالنتيجة كان كل من ماني وكرتير اللذين أصبحا متعاديين فيما بعد في حاشية الملك العظيم، ومن العدل أن نفترض أن شابور لم يكن قد اتخذ بعدُ أي قرار لتقديم اعتراف رسمي لأي دين من الأديان. كان يمكن أن يقع اختياره عليه في مثل تلك الظروف، وإذا كان لا بد من إيجاد حل لهذه المعضلة، فإن المانوية كان أمامها الكثير كيما تعتمد، لكن وجود كل من كرتير وماني في حاشية شابور يوحي بأن الملك الساساتني قد رغب في إبقاء كل من البديلين تحت تصرفه، وكما سنرى إن دين ماني هو مزيج توفيقي من المسيحية والعقيدة الإيرانية مع مرتكزات من عقيدة بلاد الرافدين القديمة، وفق الشكل الذي اكتسبته من العقيدة المحمدانية الغنطوسية. وأصبحت المسيحية والعقيدة الإيرانية معتادتين على نوع التقوي الرافدي، لأن التقاليد المحلية مارست نفوذًا قويًّا بالرغم من أنه كان جامدًا في معظم الأحيان،

ولهذا السبب كانت المانوية في وضع مناسب أكثر إشراقًا من أي دين آخر بين العالمين الدينيين المتنافسين، الروحيين العظيمين، والمعني بهذا عالم اللاهوت المسيحي والإيراني؛ كي يندمجا في كيان توحيدي أعلا يوضع تحت تصرف السكان الأصليين لبلاد النهرين بدرجة متساوية، هؤلاء السكان ذوي النتاج الغنطوسي المنبعث من عقائد البابلية الآشورية التلقيدية الموروثة، ولا شك أن هذا كله قد أنبأ عن توفر إمكانات فرص هامة، ولقد امتلك ماني ناصريين حاميين قويين جدًّا في بلاط الملك العظيم تمثلا في أخويه شابور فيروز ومهرشتان؛ إذ كان قد كسبهما إلى دينه وحولهما إليه، هذا من جانب. ومن جانب مقابل كان لعدوه كرتير أصدقاء أقوياء جدًّا في ظل حكم خلفاء شابور، وذلك على الرغم من أننا لا نعرف من الذي أيده خلال فترة حكم شابور، هذا، وبإمكاننا أن نستخلص اعتمادًا على ما نعرفه عن الفئات والتجمعات التي ازدهر نشاطها في البلاط أن كلًّا من طائفة الرهبان المجوس ورهبان الديانة الزرادشتية وقائدهم كرتير لم يكونوا في عوز للقوة، فقد توفرت تحت تصرفهم كيفما رغبوا، ومهما يكن الحال فقد قوي الوضع القائم، وتمتنُّ خلال الثلاثين سنة التي حكم فيها شابور؛ علمًا بأن الأمور بدت كما لو أن الفرص كلها كانت مهيَّأة أمام المانوية لتصبح الديانية الرسمية للإمبراطورية الساسانية، غير أنها لم تصبح الديانة الرسمية كما طمح ماني وتمنى، ولا نعرف الاعتبارات التي عاقت شابور عن الإقدام على اتخاذ خطوة كهذه، لكننا نستطيع بكل ثقة أن نقدر حق القدر قوة التقاليد المحافظة التي ورثها من أسلافه كهنة معابد النار الزرادشتية في إصطخر، ففي نقشه الكبير يبزغ شابور من وسط الوصايا والتقاليد الموضوعة للطقوس المحيطة بأسرته، كأمير زرادشتي تقليدي أي: زرادشتي بالمعنى التوفيقي المقبول للكلمة في أيامه. لقد كان هذا هو موقفه الرسمي، ومن الجائز لنا أن نفترض أن ميوله الذاتية، ومشاركاته الوجدانية كانت مع ماني، فبدون ذلك يصعب تفسير مواقفه المتعاونة معه، وتيسير الحماية والخدمات له، ومع ذلك فقد كان هذا هو الوقت الذي شهد

إدخال العلمانية التي كانت ستؤدي بشكل تدريجي إلى الاندماج بين طائفتي الكهنة المتنازعتين في الإمبراطورية، وكان هذا الاندماج هو العامل الحاسم في تأسيس الديانة الزرادشتية الرسمية، وكان طائفة الكهنوت هما المجوسية ومقرها الرئيسي في شيز في ميديا الدنيا لمجيلان المساوي للعراق العجمي، حاضرته همزان، والهرباد في إقليم فارس، وقد أحرزت طائفة كهنة المجوس المكان القيادي، وأحدثت في الفترة الساسانية لممارسة أفرادها دور محاكم التفتيش ضد المسيحية والمانوية والبوذية، وبقية الأقليات الدينية الأخرى، وجلب تأسيس الديانة الزرادشتية معه بشكل فعال ادَّعى عدد من الكتابات الدينية المقدسة، والتشاريع مثل الأوفستاك أو الأوفيستا. هذا؛ وليس هناك أدنى شك في أن ممثلي العقيدة الإيرانية القديمة قد ابتغوا من وراء إقامة العقيدة الرسمية وإيجاد الشريعة فرض التوقف على نشاط العقائد الجديدة، أي: على المسيحية والمانوية، ولا شك أن تدوين التراث الديني المقدس القديم، وإظهاره يدلان بالفعل على ثورة هائلة في الحياة الدينية والثقافية من ميلاد إيران، وتصنيف الأوفستا يقدمه كرتير المنافس متعمد لكتب ماني العقائدية، وعليه كانت الزرادشتية في حوالي منتصف القرن الثالث من الميلاد في موقف الدفاع عن كيانها، وتعزيز مواقعها، أما بالنسبة لماني فقد طوَّر الآن من جانبه تشريع منظمًا بشكل رائع، أعده بحذر وعناية، وامتدت نشاطاته التبشيرية وفق خطة مفصلة نحو الشرق والغرب، وتولى بنفسه القيام برحلات جديدة إلى أجزاء مختلفة من الإمبراطورية حين قال: أمضيت عدة سنوات في فارس، بلاد الفرثيين شمالًا حتى أديابيين، وفي الأقاليم المجاورة لإمبراطورية الرومان.

وكانت أقاليم الحدود التي ذكرها هي مقاطعة بيت أربائل وهو موقع كان المكان الرئيسي فيه مدينة نصيبين، وهكذا جاب ماني ديار الإمبراطورية في جميع الاتجاهات مؤسسًا جماعات جديدة من الأتباع حيثما رحل، لكن ماني لم ينشط وحده في الدعوة إلى الهداية لدينه، فقد أرسل أتباعه شرقًا وغربًا أيضًا، ويصف لنا نص فارسي وثيق اثنين من هذه المشاريق، فنعرف أن ماني كان في جزء من طيسيفون عندما نظم هذه الرحلات التبشيرية. وبناءً عليه بعث مولانا ثلاثة من الكتب الإنجيل ونصين آخرين، بعثهم إلى أدى، وأمرهم بقوله لا تذهب بها بعيدًا، بل ابق حيث أنت مثل تاجر يفتح مخزنًا، وعمل أدى بنشاط عظيم في هذه المناطق، وأسس عددًا من الأديرة، واختار العديد من الصفوة والسماعين، وكتب الكتب، وجعل من الحكمة سلاحًا، وتصدى للعقائد بهذه الكتب، وأوجد الخلاص بكل طريقة، وقهر العقائد وكبلها وتوغل حتى وصل إلى الإسكندرية؛ حيث أنجز العديد من أعمال الهداية، والمعجزات في تلك البلدان، وتقدمت عقيدة الرسول إلى داخل إمبراطورية الرومان. وهكذا كان ماني قادرًا على تحقيق القبول لدينه في مصر، وهو ما يزال حيًّا، وكانت نجاحات مشاريعه الشرقية ذات أهمية بارزة أيضًا، ونُظمت هذه المشاريع من إقليم حلوان الذي تحمل حاضرته نفس الاسم، وتقع على الطريق الرئيسة الممتد ما بين طيسيفون وهمزان، ونقل في النص المقتبس آنفًا أيضًا عندما كان رسول النور في المدينة الإقليمية حلوان دعا نفسه مرآمون أي: المعلم أي: الذي يعرف اللغة الفرثية قراءة وكتابة، والذي كان أيضًا مطلعًا على ما أرسله مع أخوي الأمير أرطبان، وكان كاتبين ماهرين برسم وتزيين الكتب أرسلهما إلى أبرشهار وخاطبهما قائلًا "بورك هذا الدين وليتقدم هناك بقوة بوساطة المعلم والمستمعين والتبشير".

وتظهر أسطورة تدور حول ما وقع لمارأموا عندما قاومه رب حدود خراسان، وهي أنه وصل بالفعل إلى خراسان ذلك الإقليم الشرقي الكبير، ومارس هناك نشاطات التبشيرية، وبما أن اللغة الفرثية كانت هي اللغة الدارجة؛ فمن الطبيعي أنه كان على مارآموا أن يتقن هذه اللغة قراءة وكتابة. وقد عرف إقليم أبروشهار فيما بعد باسم نيشابور، وقد كشف علماء الآثار الروس هناك عن مدونات فرثية. وهذا دليل على الموقف المهيمن الذي احتفظت به هذه اللغة مع كتابتها في هذا الإقليم الكبير، ولقد أدى تضمن البعثة التبشيرية على أمير فرثا باسم أرطبان إلى فرضيات بعيدة المدى، وإلى الشكوك في أن ماني قد وجه نشاطًا سياسيًّا مباشرًا ضد الحكم الساساني في إقليم خراسان الذي هو الوطن الأم للفرثيين، لكننا نستدرك من جانب أول ما نعرفه عن الملك الساساني شابور، وحسن تصرفه تجاه ماني ورعايته له؛ فنجد جميع الافتراضات من جانب القبائل الضعيفة لا يمكن الدفاع عنها. وواضح من ناحية ثانية أن أصل ماني الفرثي قد وفر له فرصة ملائمة بشكل خاص في خرسان في إقليم أجداد الفرثيين القدماء، وأصبح إقليم خراسان الآن مركزًا هامًّا، ومنطلقًا للديانة المانوية للتوجه نحو الشرق الأقصى، وبدأ مشروع التبشير الثالث بقيادة أدى أيضًا، لكن برفق أرزاخيا في هذه المرة، وذلك بالتوجه سنة مائتين واحد وستين ومائتين واثنين وستين نحو مدينة كليكا بيتسلوك في إقليم بيت جلمائي، شرقي الدجلة، واعتمادًا على المدونات الشهداء المسيحين نستخلص أن هذه البعثة كانت ناجحة أيضًا إلى درجة أن ذكرى نشاط المانوية استمرت حية بعد قرن من الزمن تقريبًا.

وتزودنا كتابات المسيحية المعروفة باسم أعمال الأرشيلي على الرغم من أنها تعج بالكراهية والبغضاء، ومشوهة إلى حد ما بصورة حية عن نشاط ماني الخاص؛ حيث كان يشاهد بين الناس مرتديا سروالًا عريضًا وواسعًا لونه أصفر يميل نحو الاخضرار، وعباءة خضراء، أو زرقاء سماوية، وبيده عصا طويلة من الأبنوس، ويحمل تحت إبط يده اليسرى كتابًا بابليًّا. إن هذه التجهيزات والثياب هي بلا تبرير موضحة في صورتي مرسومتين على جانبي الشكل النصف دائري، بارز في هيكل مثرافيدورا وهي الأصول المثيولوجية، لمثيولوجية مثرى، وعليه فنحن هنا أمام المظهر التقليدي الموروث لكهنة مثرى، وعليه عندما رأته الأعمال مرتديًا هذا الزي دعته كاهنًا لمثرى، وهناك كتابة عامة نقشت على عملة معدنية جاءت من شيرزين في جنوب بلاد بابل، نقشت بالمندعية، ومن المحتمل أن قراءتها كما يلي "ماني المعين من قبل مثرى" وهذه إشارة ثانية للصلة بين ماني ومثرى، هذا من جانب ومن جانب آخر نجد مما نستخرجه من معلومات من رسائل ماني، أن ذلك يعطيه مظهرًا آخر مختلف تمامًا ففي هذه الرسائل قدم ماني نفسه، وعرفها في كل مراسلة على أنه رسول ياسوع المسيح. ويوضح هذا أن ماني أخذ في وقت ما فصاعدًا في إظهار نفسه ممثلًا للمسيح بشكل رئيسي، الأيام الأخيرة ونعرف أكثر قليلًا عن حياة ماني، خلال هذا الجزء الأكثر نشاطًا من حياته الدينية، ولا تصبح المعلومات أكثر تفصيلًا إلا قبيل نهاية أيام، فقد توفي شابور في منتصف شهر نيسان من عام مائتين وثلاث وسبعين من الميلاد، وخلفه على العرش ولده هرمز الأول، وفي الحال قدم ماني ولاءه وطاعته له، واتخذ الملك الجديد موقفًا نحو ماني ودينه كان فيه من التأييد والحماية والرعاية نفس القدر الذي كان فيه موقف أبيه، فجدد له كتاب التوصية الذي كان أبوه قد أصدره، وحصل ماني أيضًا على إذن خاص بالتقدم نحو بلاد بابل، ولم حكم هرمز

سوى عام؛ فقد توفي الملك العظيم في الوقت الذي كان ماني فيه في بابل، وخلفه على العرش اخوه بهران الأول الذي قدر لحكمه أن يستمر من عام مائتين وأربع وسبعين إلى عام مائتين وسبع وسبعين ميلادية. وأخذت ماني رحلته إلى الحوض الأسفل لنهر دجلى، وقد زار الطوائف المانوية التي كانت قائمة على طرفي النهر، ووصل إلى مدينة هرمز أردشير في إقليم خوزيستان، وكانت نيته أن يخرق إقليم مملكة كوشان بحاضرتيها كابل وقندهار، ويبدو انه شعر بخطر يتهدد حياته، ولهذا حاول الوصول إلى تلك الأقاليم حينما كان قادرًا على الاعتماد عن الحماية والتأييد منذ أيام أعماله التبشيرية الأولى، وفي هذه المرحلة بالذات وصله اعتراض على زيارته لأراضي مملكة كوشان، وتظهر هذه التطورات في المقام الأول مدى معرفة الموظفين الملكيين، واطلاعهم الجيد على تحركات ومشاريع سفر الشخصيات السامية، وفي المقام الثاني أن ماني أحرز منصبًا عاليًا بما فيه الكفاية لخضوعه إلى رقابة شديدة من قبل السلطات العليا. وذلك تقليدًا لعادة أخمينية ونمط في الرقابة قديم، ويصف لنا نص قبطي الأسابيع الأخيرة من حياة ماني فيقول: عندما تلقى ماني الاعتراض الملكي رجع لتوه يكتنفه الغضب والأسف، فغادر هرمز هاردشير إلى ميسان، وتوجه من ميسان إلى أرض دجلة، ومن هناك ركب النهر إلى طيسيفون، وعندما كان على ضفاف النيل يتابع رحلته حذر أتباعه وأنذرهم بقرب موعد نيله الشهادة، وذلك بقوله "انظروا إلي واملئوا عيونكم مني يا أولادي ففي قريب سيرحل جسدي عنكم"، وهكذا عاد ماني إلى بلاد الرافدين وتوجه بسفينته شمالًا عبر نهر دجلة حتى مدينة طيسفون، وانضم إليه بعد قليل أمير من المرتبة الثانية اسمه بات، كان ماني نفسه

قد حوله على يديه إلى دينه الجديد، ونواجه هذا الاسم فيما بعد حوالي ثلاثمائة وخمسين من الميلاد، وهو ينتمي إلى إقطاعية أرمينية، ويتزعم عشيرة صهراواني، ولعل مرافق ماني كان جد لها، ولعله كان في الواقع ملكًا فرثيًّا صغيرًا. وإذا صح أن الأمير المستجيب للدين المانوي كان من أرمينيا، فسيزودنا هذا الأمر بتأكيد جديد حول ارتباطات المانوية مع مناطق إيران الشمالية الغربية، وأصدر بهرام الأول الملك العظيم الجديد أوامره إلى بات كي ما يحضر مع ماني، لكن يبدو أن شجاعته خانته ولهذا تحتم على ماني أن يقوم وحده بهذه الرحلة المصيرية الأخيرة، وأخذ طريق الرحلة التي سلكها ماني قبل وصوله شكل قوس عريض. ووصل إلى بيلافاد المدينة السكنية الضخمة، ويبدو أن وصوله قد أحدث إثارة عظيمة، كما تؤكد النصوص القبطية على أن الكهنة المجوس قد قاموا بالخطوة الأولى عن طريق قائدهم، ربما بتقديم شكوى، أو ربما بشكل عريضة اتهام رفعوها إلى الملك، وكان على عريضة اتهام سواء أكانت مكتوبة أو شفوية لتمر عبر سلسلة من القنوات المتنوعة، وذلك تقيدًا بنظام قواعد موضوعة وثابتة. هي شكوى ضد ماني والذي التقى مع الملك وجرت بينهما مقابلة كانت ساخنة، ومناظرة كانت كبيرة، وانتهت الجلسة الصاخبة بتذكير ماني بهرام بأعمال الرعاية والإحسان، التي نالها من كل من شابور وهرمز، وختم مقالته قائلًا "افعل بيما تراه" وبناءً على ذلك أمر الملك بتقييد ماني بالأغلال، فوضعت ثلاث سلاسل حول يديه، وثلاث أخرى حول عقبيه، وواحدة حول رقبته، وربط الأغلال، وأخذ إلى السجن.

إن هذا النوع القاسي من التكبيل بالقيود معروف من سجلات الشهداء المسيحيين، ولقد أمضى في تلك الحالة الأيام الممتدة ما بين التاسع عشر من شهر كانون الثاني والرابع عشر من شهر شوبار من عام مائتين وست وسبعين ميلادية، أو حسبما يذكر تقريري آخر من الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني إلى السادس والعشرين من شهر شوباط مائتين وسبع وسبعين، وفق قاعدة شرقية قديمة كان ماني قادرًا خلال هذه الأيام الستة والعشرين أن يرى حوارييه، ويتكلم معهم، ولما شعر ماني باقتراب نهايته أعطى أتباعه المقربين توجيهاته خاسة ومناسبة، وقد قام مارآموا الذي كان حاضرًا لدى إعطاء ماني لتوجيهاته هذه بنقلها إلى صلب الديانة المانوية، فيما بعد. ثم خارت قوة ماني الذي كان في الستين من عمره، ولم يعد بإمكان جسده الذي أضعفه الصيام، وأضناه الكبت أن يتابع تحمل الأغلال الثقيلة؛ فانهار في اليوم الرابع من شهر شهريفر، ومات فصعد من جسده في الساعة الحادية عشر إلى مساكن جلالته في عليين، وحضر ذلك راهب مانوي اسمه عازاي، واثنان من الصديقين، وانتشر خبر موت ماني بسرعة متناهية في أرجاء مدينة بيت لابات، وتجمع الناس في جماعات كبيرة، وأمر الملك العظيم بغرس مشعل محترق في جسد ماني؛ ليتيقن فيما إذا كان زعيم الديانة البغيضة ميت بالفعل، ثم مزقت جثته، وقطع رأسه، وعلق فوق باب بيت لابات، ثم قام فيما بعد الأتباع المخلصون له بدفن البقايا الفانية في طيسفون. وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 الديانة المانوية (2).

الدرس: 15 الديانة المانوية (2).

إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الديانة المانوية (2)) إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فتعال بنا الآن نتحدث عن تعاليم ماني ومبادئه والوصول إلى القول بالاثنينية، أو القول بإله الخير وإله الشر؛ فنجد في تعاليم ماني هذه المبادئ؛ إرسال الإنسان الأول وهزيمته، عودة الإنسان الأول، استعادة ذرات النور، أسطورة إغواء الحكام الأراكنة، المقاييس المضادة للمادة، الروح بمثابة مركز للفداء، الإيمان بالآخرة، الفلك. فنقول حول إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته: يجعل أوغستين في إحدى المناقشات التي دارت مع المانويين، فاوست ينطق بالكلمات التالية: إنني أبشر أن هناك عنصرين رئيسين هما: الرب والمادة فأعزو كل ما هو شرير إلى المادة، كما أعزوا إلى الرب كل قوة خيرة، كما هو لائق به، ويتصرف فاوست هنا بمثابة تلميذ مخلص لماني؛ لأن عقيدة العنصرين الأسايين الرب والمادة قد قامت في محور نظام ماني الديني، ويمكن لهاتين المادتين الأبديتين اللتين لم تخضعا لأية عملية خلق أن تستمرا باسم النور والظلام، أو الحقيقة والكذب، وبالتالي يمكن اعتبار المفاهيم المجردة لحقيقة النور على أنها كائن هو الرب، في حين أن الكذب والظلام أي: المادة لم يلتقيا بشكل مطابق في تسمية مجردة فحسب، بل يمكن تجسيدهما على أنهما أمير الظلام، ومع ذلك فهو لا يعني أن المانويين قد اعترفوا بوجود إلهين، فيقول فاوست بخصوص ذلك: "لم يكن هناك أبدًا اسمان لإلهين في تفسيراتنا، فنحن نتعرف بوجود عنصرين رئيسن نسمي أحدهما الرب والآخر المادة، أو كما أقول عادة وبشكل مألوف الشيطان، يساوي هذا الرفض لمنح

العنصر الشرير أي: المادة اسم الرب بالطبع ازدواجية ذات نوعية تامة" كما أشار إلى ذلك فرندناند كريستيان بور منذ مائة وخمسين سنة مضت. واعترافه بأن العنصر الخير أسمى من الشر، وهو مسئول عن حجب المنطق. ومن الواضح تمامًا كما أكد بور أن ماني قد اتخذ الثانوية الإيرانية القديمة نقطة انطلاق، وقد قامت هذه على أساس فكرة الصراع المستمر بين قوتين رئيستين هما: هرمزد أو أهورامزدا، وأهرومان، أو أهرامينو أي: الشر، وكان هذان العنصران الرئيسان توأمين أو قرينين، وكان عليهما أن يختارا بين الخير والشر، وذلك في البدايات الأولى للزمن؛ حيث اختار أهموزد الخير؛ بينما اختار أهرومان الشر. وطبعًا تبدو فكرة مثل هذه التوائم السماوية موحية بمساواة الأصلية في المنزلة، كما أن هذا لا يفتقر إلى المساواة؛ إذ يجب إدراك حدود التفسير الواسع المتنوع القائم بوحدة الوجود، الكامن وراء غاثا لدى زرابشت، والذي تم وفقه إيجاد هرموزد، وأهرامان بوساطة مخلوق سماوي بدائي، هو زروان الذي كان إلهًا زمانيًا مكانيًا أنوثويًا، وأيد الرهبان الماجوس الماديون هذه العقيدة الزروانية بقوة فريدة أيام ماني حينما كانت مسيطرة في العهود الأخمينية، وكان هذا أيضًا الحد الفاصل للدين الإيراني الذي تصادمت معه الديانة المسيحية في أرمينيا، وبلاد الرافدين الشمالية، فقد كان كهان الكنيسة ينتقدون الزروانية، وذلك عندما هاجموا تعاليم المجوس. لقد عالجت الماسيولوجيا الزروانية الرئيسة مولد التوائم السماوية بدقة، وقالت: إن زوران أراد أن يكون له ابن، فقدم الأضاحي لفترة طويلة من الزمن؛ لتحقيق هذا الهدف، ثم استولت الشكوك فيما إذا كان بالفعل سيخلف ذرية له، وأدى هذا إلى حمله بأهرامان الشرير الذي أنجبه في البداية، وكان أسودًا وكريهًا، ثم ولد التوأم الثاني أهرامزد، وكان جميلًا وطيبًا، وبما أن أهرامان قد خلق أولًا،

فقد كان باستطاعته أن يكون بحقوق البكورة في الإرث كله، وتلقى الكثير من قوة أبيه زروان على نصف مجالات هذا العالم، وأصبح ملكًا هناك أي: شاه، وأصبح من ناحية أخرى أهرامزد حاكمًا مطلقًا أي: فاستكس شاه، ومنح من جانبه نفوذًا وسيطرة على النصف الثاني من العالم، ولذلك فإن الانتصار على توأمه سيكون في النهاية انتصارًا له. وإلى هذا الحد نجد أن وجهة النظر الازدواجية الموجودة في تطور الزروانية، والداعية إلى وحدة الوجود تخفف من غلواء الثانوية المتزمتة، بجعل أهرامان شاه فقط، وبجعل أهرامزد فاتكس شاه، هذا من ناحية، وتقضي من ناحية أخرى بأن يكون الانتصار النهائي لأهرامزد، وعليه قُدر من قبل أن يكون أهرامزد المنتصر في النزاع بين حاكمي العالم، وأنه صاحب الأفضلية منذ البداية. وليس هناك من شك أن أهرامان قد اعتبر ربًّا حقيقيًا في هذا النظام الديني، وليس مجرد شيطان فقط، وكان الكتاب الإغريق قد أعلنوا مرارًا أن أهرامان لم يكن ربًّا، بل شيطانًا، ومع ذلك فإن المجادلات المسيحية تؤكد أنه قد نظر إليه بمثابة رب، وبجل، واعتبر ربًّا قادرًا في غضبه، كما أن المسراوية التي كان قد تحقق أمر ارتباطها مع الزروانية منذ وقت طويل قد أكدت ذلك، وكرثت له المذابح، وقد كتب عليها إلى الرب أهرامان، وقدمت الأضاحي على هذه المذابح إليه باعتباره ربًّا. وبالنتيجة يمكن القول أن ماني قد وسع نزعة كانت موجودة من قبل في الدين الإيراني، وكثفها؛ لأن المانوية قد مقتت بشدة الجدل القائل: إن قوتي الخير والشر كانتا أختين،

وتقول صيغة الاعتراف المانوية لو كنا قد قلنا: إن أهرامزد وأهرامان كانا أخوين أحدهما أكبر من الآخر، إذن أعلن توبتي الآن، وآمل بالمغفرة من الذنوب، وكان النور العنصر الهام للمخلوق الأسمى؛ حيث سيطر عليه، واعتقد أنه مادة المخلوق السماوي أو بشكل أدق مادة يمكن فهمها، وهي مختلفة كليًّا عن العقل أو المادة، وله النور في الوقت ذاته، صفة التجلي؛ فقد كان الرب أبو النور المبارك، وحيث كان عرابًا فقد سيطر على مملكة النور، وبينما كانت هذه المملكة في الوقت ذاته مؤلفة من نور الأرض وضوء الفضاء، فهي مندمجة تمامًا ومتطابقة بشكل جوهري مع الإله الأسمى. لقد كانا متطابقين، لأن مملكة النور بأملكها هي في الوقت نفسه جسد الله، وعلاوة على ذلك تم التأكيد على أن مملكة النور هذه لم تكن إيداعًا سماويًّا، بل كانت موجودة منذ الأزل كتعبير صادق مع وجود الله الكائن الدائم الوجود، فلو كانت نشأة ذرة واحدة في مملكة النور من الفيض أو الإبداع؛ لما تم منح عاصفة الديمومة ودعا ماني جسد الله الممكن فهمه باسم المنازل، أو الحدود الخمسة، وهي الإدراك، والعقل، والتروي، والرأي، والنية. واعتبرت نشاطات العقل هذه على أنها تشكل جوهره وثماره، وأن مصطلح الدار موجود في البحوث التأملية اليهودية الأولى وفي النصوص المندعية، ونصب الإله على عشره في مملكة النور، وأحاط نوره به، كما أحاطت قوته وحكمته به أيضًا، وقد مثلت هذه السمات الثلاثة ثلاث صفات مختلفة له، وشكلت معه مجموعة رباعية وُجدت مرارًا في التراتيل المانوية، كما ظهرت أيضًا في مصدر عربي الفهرس، وشكلت السمات الثلاثة لطبيعة الله فيض وجوده، فيض تمَّ إعلانه في مفهوم الله.

ووصفت هذه الوحدة الأخيرة الكاملة إلى جانب السمات الثلاثة كوجود فردي، وهي طريقة خاصة للحساب ظهرت مرارًا بمثابة مبدأ خاص في النظام الديني الإيراني الهندي، كان ممكنًا بواسطتها إضافة مجموع الأجزاء كجزء قائم بذاته إلى بقية الأجزاء، أو حتى مواجهتها ككمية مستقلة تمامًا، كما أنه ظهر بمثابة مبدأ كان له أصل هندي آلي، وسيتضح فيما بعد إن شاء الله أن هذا المبدأ قد شغل دورًا أساسيًّا في المانوية، وهكذا كان لله أربعة جوانب، كما كان ذلك في تعليم ماني، وقد سمته صيغة الشجب الإغريقية رب العظمة في الوجوه الأربعة، وهكذا نجد أن هذا المفهوم للكائن الأسمى الإله ذا وجوه أربعة، وقد اتصل بالطريقة الأكثر احتمالًا وقربًا من الصورة الزروانية لله؛ لأن زروان كان بالفعل كائنًا إلاهيًّا ذا أربعة وجوه، كما أن الارتباط التاريخي هنا هو حقيقة ثابتة بين المانوية والزروانية. ومن الجلي أن هذه الصلة أكثر وضوحًا بالطبع في النفوس الإيرانية المتوسطة، حيث يظهر الله في اللسان الفارسي المتوسط اللغة الصدغية باسم زروان، وتتخذ المجموعة الرباعية المظهر التالي: الفارسية المتوسطة زروان، الله، وفي الصدغية زروا، والزروانية زروان أو زمان، في الفارسية المتوسطة روشن، النور، وفي الصدغية ليوسوك، وفي الزروانية النور. في الفارسية المتوسطة زور القوة، وفي الصدغية زروا، في الزروانية القوة، في الفارسية المتوسطة وهي الحكمة، وفي الصدغية يرب كاي، وفي الزروانية الحكمة، أو اكسرات. وكانت مملكة النور مترامية الأطراف غير محدودة على ثلاث جهات إلى الشمال وإلى الشرق وإلى الغرب، وقد تلاقت مع الظلام في الجنوب، وكان نطاق سلطة الإله العظمة، كما دعاه ماني عندئذٍ، محدودًا في هذه المرحلة. وكان نطاق سلطان إله العظمة، كما دعاه ماني عندئذٍ محدودًا في هذه المرحلة،

ولقد ساد السلام والانسجام المطلقان في مملكة النور، كما تم وصف جمال الإله المكلل بالورود بأقوال جزلة، ووقف أمامه اثنا عشر فصلًا جميعها مغطاة بالورود أيضًا، وقد غطته بالمزيد من الورود والأزهار، ودعيت هذه الفصول باسم أبنائه، وقد جرت توزيعهم بأن قام ثلاثة أرباب منهم في منطقة سماوية محددة، وذلك ضمن مخطط ذي مجموعات ثلاثية أربع تتوافق من جديد مع النموذج الرباعي، وتم دفع ريح لطيفة واهبة للرخاء عبر المناطق السماوية؛ حيث جرى الرحيق باستمرار من خلالها، وتباينت حالة مملكة الظلام تباينًا تامًّا وحادًّا مع تناسق ووئام مملكة النور؛ حيث سار سكان عالم المادة، ودفع بعضهم بعضًا إلى هنا وهناك، وكانوا دائمًا يركضون باستمرار، وأدت حركة الدوران وعدم استقرار هذه فيما مضى إلى ديمومة عدو الظلام نحو الحافة القصوى للملكة؛ حيث ارتكز الظلام على النور عندما لمح الشيطان وأعوانه مملكة النور، استبد بهم شوق عنيف إلى هذه المملكة السامية الرائعة، لهذا أوقفوا نزعاته، وتشاور بعضهم مع بعض حول كيفية التسرب إلى وسط النور، ومن ثم الاندماج به، وأعدوا أنفسهم وسلحوها استعدادًا للهجوم، وانقضوا من أسفل على مملكة النور، فأصبحت بذلك محاطة بالتهديد والاضطراب الخطير. وتحتم الآن على ملك النور وإلهه أن يخرج عن صمته المهيب، وركوده الذاتي عن فيض وجوده؛ لكي يدافع عن نفسه وعن مملكته، حيث يجب عليه أن ينتقل من وجود التأمل إلى وجود العمل. وكان بور قد لفت الانتباه إلى الأصل الإيراني لموضوع النزاع المثيولوجي الذي سيظهر بشكل أكثر وضوحًا في الكتابات البهلوية، كما أن الفقرات المناسبة الموجودة هناك ذات ملامح زروانية صرفة،

فقد تمَّ صدور إلههم الأسمى، واشتقاقهم من زروان الخنسي الذي مارس أثناء عملية الخلق دور الأب والأم، وواصلت الكتابات قولها: إن أهرامان الذي جاب عالم الظلام وصل في إحدى المرات إلى النور ولمحه. عند هذا خلق عالم النور من الأسفل بصحبة الجماعات المسلحة من شياطين الظلام التي استدعاها، ومع ذلك فإن موضوع النزاع نفسه كان أقدم بكثير من تاريخ تدوينه في هذيه المصدرين، فقد روى المؤرخ الكلاسيكي بلوتاخ أثناء اقتباسه من مذكرات الكاتب شيوبو مبوس كيف هاجم أهرامان مع شياطينه العالم العلوي، وكيف اختلط بذلك الخير مع الشر وفق وجهة النظر الزرواني، التي شهد بصحتها كتاب (الحكمة)، المكتوب باللغة الإيرانية الوسيطة، وهي تقول: إن العالم كان على شكل بيضة، وذكر بلتاخ هذا أيضًا. ومن ناحية أخرى كان الإله الكائن الأسمى نقيًّا، ولذلك لم يكن أهلًا للصراع والنزاع، إذن ماذا كان عليه أن يعمل ليحبط قوة الشر، لقد استدعى أم الحياة، ويلاحظ هنا أن ماني لم يستخدم قط تعابير مثل يخلق، بل استخدم دائمًا فعل يستدعي، مثلما جرى استخدام كلمة "قرا" باللغة السريانية، ومثلما استخدم المدعيون الاسم نفسه بهذا المعنى الخاص، ثم إن تسمية أم الحياة تذكر بحقيقة الحياة الأولى والحياة الثانية، وعلى الأرجح الحياة الثالثة، وهي تسميات ظهرت مرتبطة مع الطهارة، وهي الحركة الغنطوسية التي انبسقت عنها المانوية نفسها. ويتطلب التشبيه بشكل موائم أن يكون هناك أب للحياة، وعوضًا عن ذلك هنالك إله العظمة، جرى ذكره بمثابة كائن أسمى في النصوص المتبقية للتقاليد السريانية، وهنا لا يمكن فقط تخمين الصلات في الخلفية مع المفاهيم الرافدية التي

شغلت الحياة فيها دورًا رئيسًا، بل أيضًا مع التقاليد الإيرانية حيث توجد بعض الإشارات الغامضة إلى الحياة الأولى، وذلك في المواعظ المسجوعة العائدة لزرادشت، وتتطابق أم الحياة في النظام الزرواني عند مستوى ديني صرف مع الإله الأنثوي القائم إلى جانب زروان، والمسمى على الأرجح باسم أكسوا شيزخ الذي يبدو من المحتمل أن الآلهة العظيمة أناهيد تحتجب وراءه، وبعدما تم استدعاؤهم من الحياة إلى الوجود استدعت بدورها الإنسان الأول المعروف باللغة السريانية باسم نشا قدا مايا، وهي عبارة تعني حرفيًّا الإنسان القديم الذي كان من ناحية أخرى هو أهارموزد في التقاليد الإيرانية أي: ابن زروان، الأب ذو الوجوه الأربعة، إن نظرة لهذه الثالوث إله العظمة أم الحياة الإنسان القديم تظهره للوهلة الأولى أنه تمثيل للأب، والأم، والابن، ولا تظهر هذه المجموعة فقط في الدين الشرق أوسطي بشكل هام، بل تظهر في أغنية اللؤلؤة السريانية بشكل محدد؛ حيث يصور لابنه المخلص على أنه شباب أو الأمير الشاب، وكان هذا هو النموذج المخلص المانوي في مظهره الرمزي للشباب، كما أن النصوص المكتوبة باللغة الإيرانية البسيطة قد تحدثت عن الابن الحنون، أو استخدمت الكلمة الفارسية كومارا، وهي كلمة دخيلة من اللغة السنسكريتية تعني: الشاب المراهق، وهي تعني في الدين الهندوسي: الشباب أو إله الحرب، الشاب المسمى شندرا. وقد ألحت إحدى القصائد الموجودة بين المزامير القبطية إلحاحًا خاصًّا على مهمة المخلص باعتبار كونه محاربًا شجاعًا، ورأته بشكل رئيسي في ضوء المنتصر الذي انتصر على قوى الظلام بسبب جلده وجرائته، ومع ذلك استلزم وجوده وجود

سمة أخرى له، وهي سمة المعاناة؛ لأن مخلص الإنسان الأول لم يحقق انتصاراه إلى بعد هزيمة ظاهرية فقط. لقد ارتدى الإنسان الأول درعه وشرع بالقتال مع قوى المادة والظلام والشر، وتكون درعه من خمسة من عناصره النورانية لم يشكل مجموعها درعه فحسب، بل شكل أيضًا جوهره وذاته الحقيقة وروحه، ولذلك يمكن وصفها بشكل رمزي على أنها أبناؤه الخمسة، وقد بذل الجهد خلال عملية انتقاء مجموعة متنوعة من الرموز والتعبير عن علاقة كانت في الحقيقة صعبة ومستحيلة فعلًا، ولا يمكن تحديدها داخل إطار صيغة منطقية. عرفت العناصر النورانية باللغة السريانية باسم زيواني، وهي الهواء والريح والضوء والنار، وهزم الشيطان أمير الظلام، وحشوده أمام الإنسان الأول، وسلبوه درعه، أو وفق ما ذكرته رواية رمزية أخرى التهمت الشياطين أبناءه الخمسة، ومع ذلك كانت هذه الهزيمة مقدمة لانتصار، فقد اعتبرت طوعية إذا جاز التعبير؛ إذ نزل الإنسان الأول بمحض إرادته الحرة إلى عالم الظلام والمادة، وسمح بتبديل عناصره النورانية، وكانت نيته أن يصبح بذلك سمًّا قاتلًا للمادة، لقد التهم الظلام العناصر النورانية، وقدم لنفسه بفعله هذا مادة ذات اختلاف جوهري كانت لا تطاق كما أنها لم تفتقر إلى التشابية الأخرى، وحصل هنا كما يحصل مع القائد الذي يضحي بطليعة الجيش ويقدمها لقمة سائغة لعدو متقدم؛ لكي ينقذ الجزء الأساسي من جنوده، أو باستعارة عبارة ريفية مثل: الراعي الذي يتخلى للذئب عن شاة من قطيعه؛ كي لا يخسر القطيع كله. وبالطريقة نفسها ضحى الإنسان الأول بروحه لشياطين الظلام، وسمح لها أن تلتهم أبناءه الخمسة، ومع هذا فقد كان ما حدث ضربة مروعة، فكثيرًا ما اتخذت

المزامير والتراتيب المانوية موضوعًا لها الحالة المخيفة التي وجد الإنسان الأول نفسه فيها، فقد وقع في هوة عميقة كانت أعمق بكثير من هوة المادة؛ إذ سلب من درعه النورانية وصعقته الضربة، وأحاطت به الحيوانات المفترسة، والشياطين المخيفة، وقيدته، وباتت مستعدة لأن تلتهمه، وصحى الإنسان الأول من غيبوبته، وأطلق دعاءً تكرر سبع مرات، وعندها استدعى إله العظمة مخلوقًا ثانيًا إلى حيز الوجود إنه صديق النور الذي استدعى البناء العظيم الذي استدعى الروح الحية. وتقدمت الروح الحية نحو حدود الظلام مع أبنائها الخمسة الذين استدعتهم، وأطلقت من ذلك المكان صيحة مدوية إلى الإنسان الأول المحتجز تحت الأرض، والذي أجاب بدوره بهتاف مدوٍّ، واعتبرت هذه الدعوة وهذه الاستجابة على أنهما شخصيات سماويتان مقدستان، وتعرف دعوة واستجابة، أو بشكل أدق ما تم استدعاؤه، وما تم إجابته باللغة الإيرانية الوسيطة، وفي اللغة السريانية قريا وأنيا، وهما ستتحدان وتصعدان إلى أم الحياة، وإلى الروح الحية. كان الحوار الذي تطور بين الدعوة والاستجابة ذا أهمية كبيرة، لأنه أرسى أساس الحالة التي تتكرر مرارًا، وفي كل مرة تجد روحًا على الأرض ذاتها في ضيق، فتطلق صيحة تنشد فيها الخلاص، تتلقى هتاف الحرية. ولقد حفظ الكاتب السرياني فيدور بار كونيه للأجيال أقوال ماني حول هذا، وما زال بالإمكان فهم نبرات صوته في المقطوعة الشعرية الصغير حيث يقول: "ثم صرخت صوت الحية بصوت عال، وكان صوت الروح الحية كالسيف الحاد، وقد كشف عن شكل الإنسان الأول، وقال مخاطبًا إياه، السلام عليك أيها الممتاز بين الأشرار، يا أيها اللامع وسط الظلام، رب قائم وسط وحوش

الغضب لا يعرف شيئًا عن عظمته، وأجابه الإنسان الأول بعد ذلك مباشرة وقال: تعالى مع السلام، وأحضر أسباب الطمأنينة والسلام، وتكلم معه قائلًا كيف هي الأحوال مع آبائنا أو آلهتنا أبناء النور في مساكنهم". لقد حددت تحية الروح الحية التباين بين وضع الحال للإنسان الأول وبين أصل الحقيقي وقدره، وأن أول سؤال يدل على قلق الإنسان الأول قد خص به أقرباءه أبناء النور، يعني: هل كانت تضحياته عديمة الجدوى، أم تم إنقاذه. عودة الإنسان الأول القديم: مادة الروح الحية التي كانت بصحبة أم الحياة يدها اليمنى الإنسان الأول، حيث أمسك بها، وتم انتشاله من أعماق عالم الظلام، وارتفع عاليًا وعاليًا مع أم الحياة والروح الحية، وحلق مثل النور المنتصر المبنثق من الظلام حتى تمت إعادته إلى جنة النعيم مسكنه السماوي؛ حيث كان ينتظره أنسباؤه، كما أنه يوجد وصف آخر في تعليم المانوية يتعلق بهذه العودة، فقد جرى وصف هذه العودة في أحد المزامير المكتوبة كما يلي: كان ابنًا للأب الأول، وكان أميرًا ابنًا لملك، لقد سلم نفسه للأعداء، وتخلى عن ملكه جميعًا، ووضعه في القيود، وحزنت من أجله جميع المعاقل والممالك، وتوجه بالدعاء إلى الأم الحية، فتوسلت من أجله إلى رب الخليقة، إنه الابن الوسيم والبريء، فلماذا فعلت به الشياطين هكذا؟ ولسوء الحظ هنالك سقط في النص عند هذه النقطة، حيث كان من المفروض أن يكون هناك وصفًا لإنقاذ الإنسان الأول، ويستمر النص في نصحه له؛ ليجمع عناصره النورانية المبعثرة قائلًا: أجمع أطرافك، فلقد أعد الجمال السرمدي مطيته عن مظهر نوراني، ليبدأ زحفه، وأمسكته الأم وقبلته قائلة: ها قد عدت أيها الابن المنفي، أسرع واعبر إلى النور، فلطفك وعظمتك متلهفان إلى لقياها.

ومن الواضح أن الوضع متطابق هنا مع الوضع الذي شاهدناه في أغنية اللؤلؤة، غير أن بهجة العودة تمت ممارستها هنا، وذلك عندما يتحد الابن الشاب مع أمه، كما أن الأثر العاطفي الجياش والنبيل بشكل غير اعتيادي أخاذ بهذا التصوير. فالشاب الذي يشرع بالكفاح بشجاعة هو بطل فتى متوقد يرتدي درعًا متلألئًا، والهزيمة الفجائية ومرارتها، والضربة المميتة تنبه المفزع عندما يدرك حالته المخيفة وصيحة النجدة اليائسة والرعب في موطنه إزاء مصيره البشع والمشئوم، ثم وصول المنقذ والحوار القصير الرشيق بين المنقذ والمنقذ، والمشهد الحي للعودة عندما تعانقه الأم وتقبله، والابن الوحيد الذي اعتقدت أنه رحل إلى الأبد. كل ذلك سلسلة كاملة من الأحاسيس الملونة، والمسيرة بواسطة هذه المشاهد المتغيرة بشكل مثير، وتأثير المشهد الأخير مثير بشكل لا يمكن وصف وقعه على مستمعي المذمور، ويمكن تخيل ذلك إذا فهمت الطريقة التي تم من خلالها نيل إعجاب قلوب المؤمنين بهذه الأغاني المانوية. ويعتبر موضوع الأم الإنسان الأول وتخليصه الموضوع الرئيسي في المسيولوجيا المانوية؛ فالإنسان الأول هو المخلص، وهو بنفسه بحاجة إلى افتدا، ء فتلك هي العقيدة القنطوسية للمخلص المفتدي، وأما بالنسبة لمظهر الإيجاب والافتداء للمخلص، فإن النصوص المانوية المكتوبة باللغة الإيرانية الوسيطة تستخدم عبارة واهمان، وزلوخ، وعبارة مانوا هميت وزروخ في الفارسية الوسيطة، ويشير كل منهما إلى نئوس العظيم، وهو مفهوم متأصل في الدين الإيراني القديم، ووجه نظر متطابقة مع وجهة نظر ماني، وموجودة إلى حد ما في غسا الزرادشتية. وهو دليل يشير بالفعل إلى أن النظرية تعود للعهود الإيرانية الهندية؛ لأنها تتكرر في كتابات أوبانشاد الهندية بمثابة عنصر في خط أتمان براهمان في التفكير

المسيولوجي، ويبرز مفهوم نئوس العظيم في مجموع الفصول القبطية، ونتيجة لقهر قوى الظلام لذرات النور فقد نشأت حالة من الامتزاج مع الظلام بعد القتال، وهذا ثانية مصطلح من المصطلحات الإيرانية القديمة، وكلمة قومجشن تعني الامتزاج في النصوص الزرادشتية المكتوبة باللغة الإيرانية الوسيطة، وهي تعني حالة من الحالات عندما يتداخل فيها الخير والشر بعضهما في بعض. وهكذا تسميها النصوص المانوية المكتوبة باللغة الإيرانية الوسيطة قومجشن أو أمجشن وبالطبع إن مفهوم المزج بين النور والظلام بين الفضاء المفهوم والمادة تُشكل أيضًا جزءًا من التراث الإيراني القديم للمانوية، ومن المؤكد أن فكرة وجود إله قاسى من المعاناة قد كانت عنصرًا من عناصر الدين الشعبي الإيراني، وذلك باعتماد هذه التسمية لتلك التطورات التي لا يمكن عزوها إلى الزرادشتية. هذا؛ ويمكن إيجاد آثار ضعيفة لهذه الفكرة على نحو غير مميز في أرمينيا على حافة الحضارة الإيرانية، فقد وُجدت عقيدة شعبية تمحورت حول شخصية اسمها أرتوازد وهذا اسم إيراني صرف، وهو رمز مثبت للمعاناة، ويجب أن يضاف إلى هذا حقيقة أن الحقيقة الشعبية ليست متطابقة مع الدين، ومع ذلك فمن المحتمل أن الحكايات الشعبية الأرمينية القديمة تردد بالفعل المعتقدات المسيولوجية في هذه الحالة الخاصة. وعلى النقيض إن الشكل العاطفي القوي الذي اتخذه موضوع الإله المتألم في المانوية، يمكن عزوه لوضوح لتأثير عقيدة تموز الرافضية، التي ستتم الإشارة إليه ثانية في وقت لاحق إن شاء الله. غير أن هذا لا يدعو إلى إنكار أن بعض الأفكار من نوع مشابه كانت موجودة في الدين الإيراني. كان هذا عن فكرة الإنسان الأول القديم وهزيمته في أسطورة المانوية.

استرداد ذرات النور.

استرداد ذرات النور ويأتي الكلام عن العقيدة الثانية أو المبدأ الثاني استرداد ذرات النور: وصل الآن سير التقدم الكوني إلى المرحلة التي تم عندها إنقاذ الإنسان الأول، وكانت عناصر النور ما تزال في مخاضات الظلام، وبالتالي فقد استمرت نفسه وروحه مكبلتين ومشوهتي، ن وقد تطلبتا أن يتم تحريرهما وإعادتهما إلى عالم النور، ونفذت الروح الحية هذه المهمة وقد دعيت هذه الروح في التعاليم الإيرانية باسم مهريازد أحيانًا أي: الإله مسرا. هذا؛ وقد أعطته بعض المصادر الإغريقية اسم خالق الكوني المادي، وهي تسمية موائمة تمامًا بالنظر إلى حقيقة أنه كان بالتعبير الدقيق خالق الكون المرئي؛ لأنه عاقب شياطين الظلام الذين يدعون باسم أركون وسلخ جلودهم، وصنع المساء منها؛ بينما صنع الجبال من عظامهم والأرض من برازهم، وتشكل الكون من عشر سماوات وثمانية أفلاك ورفع واحد من أبناء الروح الحية السموات عالية، وكان اسمه حامل التألق، وهو صافد زيوا في السريانية. وقام ابن آخر بتثبيت الأفلاك الثمانية على كتفه وهو سيكالا وأطلس باللغة اللاتينية، وبدأت الروح الحية مهمة التحرير؛ حيث طهرت الذرات النورانية التي لم تكن قد تلوثت، وصنعت الشمس والقمر منها، أو فلكي النور كما دُعي عادة، وحول الذرات التي كانت قد تلوثت بشكل جزئي، وحولت ذرات التي كانت قد تلوثت بشكل جزئي إلى نجوم. وتم اشتقاق هذه الأفكار من علم هيئة الإيراني مسيولوجي كان مألوفًا لفترة طويلة، وبسبب أن الكواكب كانت قاسية، فقد كانت خمسة أيام من الأسبوع قاسية، ولم يكن لطيفًا من بينها سوى يومي الأحد والاثنين.

وبقيت هناك تلك الذرات التي كانت قد عانت المزيد من مواجتها مع الظلام، واستلزم أمر إعادتها وجود إجراء معقد، وشرع إله العظمة بخلق فيض جديد كانت أهم شخصياته الرسول الثالث، واسمه أسقادا باللغة السريانية، وتعني: الرسول، ويسمى أحيانًا باسم مسرا في التعاليم الإيرانية. وكان الرسول الثالث أبًا لعذارى الاثنتين عشرة للنور، واللواتي احتللن أمكنتهن على أنهن الاثنتا عشرة علامة لمنازل دائرة البروج، وتم اختراع قطعة ألهية أصيلة، وهي عبارة عن عجلة كونية ضخمة جدًّا، كأنها كوكب وتشبه ناعورة الماء، وحددت ذرات نوره للشمس والقمر، وبذخت ذرات النور المتقدة كعامود من نور يعرف باسم عامود المجد، وذلك في النصف الأول من الشهر، واتجه نحو القمر الذي أصبح بدرًا بعدما امتلأ وتضخم بذرات النور، وتم ترشيد ذرات النور خلال النصف الثاني من الشهر من القمر إلى الشمس، ومن هناك إلى جنة نور. ويقوم وراء هذا كله حسب المعايير العلمية الحديثة مفاهيم ساذجة جدًّا، وهي الأفكار الإيرانية الهندية القديمة المتعلقة بتطهير الروح الإنسانية بوساطة هذا الصعود إلى الكواكب القمرية والشمسية، كما أن فكرة عامود النور الممتد من الأرض إلى السماء، والمؤلف من ذرات متصاعدة من النور هو مجرد فكرة قديمة عن طريق المجرة درب التبانة، المتشكل من أرواح الموتى المتصاعدة باستمرار نحو سماء النجوم الثابتة، وقد سيطر هذا التفسير المسيولوجي على العقائد في العصور القديمة بشكل عام، وبالنسبة لماني فإنه في هذه الحالة قد تبنى سلسلة من الأفكار، كانت عامة ومتداولة في العصور القديمة، ومتأصلة في إيران والشرق الأوسط.

أسطورة إغواء الأراكنة.

أسطورة إغواء الأراكنة ثالثًا: أسطورة إغواء الأراكنة؛ أي: الحكام كان ما يسمى بأسطورة إغواء الأراكنة عنصرًا أسطوريًّا آخر لم يستطع أن يخفق في الظهور بشكل كبير إلى رجال الكنيسة المسيحيين بشكل خاص؛ لأنه قص كيف أبحر الرسول الثالث في مركبه الضوئي أي: القمر عبر قبة السماء، وأظهر نفسه للقوى الشياطنية المقيدة؛ حيث أظهر للأركانة الذكور جمال أنوثته المتألق على شكل عذراء النور في الإيرانية الوسيطة كانيا غراشن، وتجلى إلى الأراكنة الإناث في هيئة شاب عار متألق، ولهذا يعرض هذا الإله على شكل خنثى، وحقق نشاط الرسول الهدف المطلوب؛ فقد قذف الأركنة الذكور في أثناء إثارتهم الجنسية العنيفة بذرات النور على شكل نطف سقطت على الأرض؛ حيث سمح التراب للنباتات أن تنبعث عند ذلك مع نتيجة أن هذه النباتات استمرت تحتوي على نسبة كبيرة من الضوء هذه نقطة ينبغي ملاحظتها. وأما الشياطين المؤنثة، والتي كانت حاملة من قبل فقد ولدت ذريتها قبل حلول الأوان، عندما رأت جمال الرسول، وبما أنه تم قذف هذه الشياطين إلى الأرض، فإنها قد التهمت براعم الأشجار، ومن ثم تمثلت ذرات الضوء التي كانت موجودة في ذلك المكان. وخلاصة الأمر: هي أن الفكرة تستهدف أن تقول أن ذرات النور التي كانت ما تزال موجودة في المادة، قد تم توزيعها إلى بعض الحدود بين عالم الخضار، وبين ذرية القوى الشيطانية إلى حد ما أيضًا إن نظرة إلى عالم أسطورة الواقع وراء إغواء الأراكنة ستساعد على فهم هذا الموضوع قبل التعمق في دراسة نظام ماني العقائدي، ويسمى الرسول الثالث

باسم: نارياس يزدا في الفارسية وفي النصوص المكتوبة باللغة الإيرانية الوسيطة، بينما يسمى باسم لا ريسا يزد في الفارسية الوسيطة، وتلك هي الأشكال الغربية الإيرانية الوسيطة الأصيلة لأفذت نارسيه التي يرد ذكرها في الكتب البهلوية على أنها نيروسمعا. وهنالك جزء في المدونات المتبقية للكاتب فيدورا باركونية التي تعالج قضايا الإله نرسيس، عندما أعطى هارموزد النساء للأتقياء، فهربن وذهبن إلى الشيطان أي: أهرامان، وعندما أحدث أهرامزن السلام والسعادة القويمين أعطى الشيطان أي: أهرامان السعادة للنساء أيضًا، ومع ذلك فإنما ترك الشيطان أهرامان النساء يشتهين ما أردن خشي أهرامزد من أن الجماع مع الصالحين سيكون كما اشتهينه، ولذلك خلق الإله نرسيس، وهو عبارة عن شاب في الخامسة عشر من عمره، وهو العمر المثالي حسب المفاهيم الإيرانية، ووضع عاريًا تمامًا على ظهر الشيطان أهرامان، حيث تشهده النسوة، ويشتهينه، وتنشده من الشيطان، وقد رفعت النسوة أيديهن إلى الشيطان أهرامان، وقلن يا أبانا الشيطان أعطنا هبة من الإله نرسيس. وستتم دراسة هذا المظهر المسيولوجي لهذه الأسطورة عندما تتم دراسة وجهة نظر ماني حول مسائل الجنس، ومن المناسب في هذه المرحلة أن نوجد موافقات ممكنة مع المسيولوجية المانوية، أن الإله نرسيس المعتبر هنا على أنه إله مذكر وليس خنثى، يتم عرضه بواسطة إله على مرأى من المخلوقات المؤنثة التي تعتبر مخلوقات شريرة، تناقد الصالحين، وبينما يعتبر أهرومزد حامي الصالحين، وأهرامان حاميًا للنساء يتم إظهار نرسيس عاريًا للنساء؛ لإثارة شهوتهن، إذ تتغلب عليهن الرغبة بمضاجعته والاتصال به. إن نقاط التباين هنا واضحة بقدر وضوح نقاط التوافق تمامًا، ولسنا بحاجة إلى أن نؤكدها، وقد ثبت بالمقارنة مع نص موائم من البنداهشن أنه من الممكن إعادة تركيب المسيولوجية الإيرانية الأصيلة، وأن نقرر أنها كانت زروانية، والشيء المجهول حتى الآن هو فيما إذا

كان ماني نفسه قد غير التفاصيل في المسيولوجية الزروانية، وتبنى تفاصيل أخرى، أو فيما إذا وجدت من قبل ترجمة متطابقة مع النمط المانوي في الزروانية، وعلى أية حال من الممكن إعادة موضوع إغواء الأراكنة إلى ذلك المصدر بالذات أي: إلى العقيدة الزروانية التي التقينا بها مرارًا من قبل. هذا؛ وإن حقيقة أن المسيولوجية المانوية حين افترضت وجود صلة غريبة من ذرات النور والنطف قد احتاجت إلى موجب ليس مفاجئًا، فقد ارتكز ماني نفسه هنا على آراء معاصرة أيضًا، فقد كانت مدارس الطب الإغريقية القديمة تعتقد أن النطف الصادرة عن الحبل الشوكي قد تشكلت من سيلان ملتهب، وقامت خلف مثل هذا التأمل الطبي فكرة مسيولوجية ظهرت في الثقافة الإيرانية الهندية، وكان الأساس في جميع هذه النظريات هو أن النار هي العنصر الأسمى في الجسم الإنساني، وبما أن الإنسان هو عالم صغير يمثل الكوني الكلي فقد افترض أنه مركب من النار والهواء، والماء والتراب، وكانت الروح زفيرًا ملتهبًا، واعتبرت النطف على أنها نوع ملتهب من المواد. واعتقد أيضًا أن الشمس والقمر والنجوم هي نوع ملتهب من المادة، ومن هنا أتت ذاتية الإنسان العليا، وهي ستعود إلى هنا. هذا، وليس من السهل القول فيما إذا كان ماني قد اقتبس هذه الآراء من مصادر إيرانية أو مصادر هلنستية، فمن المحتمل أن مثل هذه النظريات كانت مألوفة تمامًا بالنسبة إلى أتباع مذهب الغلطوسية في حران، وهم الذين أعطوا مقدارًا وفيرًا من الوقت للنظرية والتطبيق الطبي، ويمكن التسليم على أنها كانت زائعة في بلاد الرافدين عمومًا، وقد حققت تصديقًا وقبولًا على أيدي الأطباء الهنود والإيرانيين، فقد كان ماني ابن زمانه في مثل هذه المسائل مثله في غيره دائمًا، يعايش الواقع، ويبني دينه على النظريات والأساطير والأوهام، وما كان موجودًا في واقعه وفي الحضارات، والديانات من حوله؛ ليوجد دينًا يتفق مع الواقع يسيره الواقع، والحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة، ونعوذ بالله من الكفر، ومن الخذلان.

المقاييس المضادة للمادة.

المقاييس المضادة للمادة ونواصل مع تعاليم ماني فيما يعرف باسم المقاييس المضادة للمادة، والروح بمثابة مركز للفداء، والإيمان بالآخرة، والفلك. لقد تطورت المادة في الشخص ذي الشهوة الجسدة خطة تأمرية استهدفت الاحتفاظ بذرة النور التي بقيت بها حتى الآن، وقضت هذه الخطة بتركيز جزء كبير من النور في خلقة الفرد، وذلك كقوة موازية للخلق السماوي، ولتنفيذ ذلك جرى اختيار شيطان مذكر اسمه أشقلون، وشيطانة مؤنثة اسمها نمارا إيد وكيما يتم تمثل ذرات النور التي كانت قد سقطت على الأرض، والتي كانت موجودة في إجهاضات الحكام ابتلع أشقلون جميع الحيوانات المخيفة التي كانت مذكرة في حين قدمت الحيوانات المخيفة المؤنثة لنا ما رأينا. وبعد هذا جمع أشقلون نامرائيل فأنجب آدم وحواء أول المخلوقات البشرية، هكذا نشأ الجنس البشري بما لا شك فيه من مزيج مقزز للنفس من أعمال أكل لحوم البشر، والممارسات الجنسية، وكان جسد الإنسان بمثابة مظهر حيواني صرف للحكام، وكانت شهوته شهوة جنسية مسيرة له؛ تمشيًا مع خطة المادة للإنجاب والولادة، فهذا هو ميراث الإنسان من أصله الحيواني، لكن عالم النور لم يكن قادرًا ولا راغبًا بترك الإنسان تحت رحمة عالم الشر، فتجمع في آدم الجزء الأكبر من النور المحتجز والمتبقى، وذلك هو السبب في أنه أصبح الموضوع الأول لجهد الفداء من قبل عالم النور. وجرى بذل الجهد حسب النمط نفسه لافتداء الإنسان الأول، فقد خلق آدم أعمى وأطرش، وغير مدرك تمامًا لوميض النور في داخله، وذلك استجابة لتحريض المادة، وكانت تحيط به ضحية من ضحايا الشياطين، فقد كان غارقًا في ثبات عميق، وظل كذلك حتى اقترب المخلص منه، ويتم وصف المخلص الذي

هو إظهار وتمثيل للرسول الثالث بشكل متنوع، فهو يسمى حينًا باسم الله، أو أهرامزد، أو الإنسان الأول، أو يسوع النور المتألق، أو يسوع المتألق أحيانًا أخرى، وبالطبع إن اسمي أهرامزد ويسوع ينتميان كل على حدة إلى التقاليد الإيرانية والسريانية، ومن المؤكد أنه ابن الله والتجاسيد المعقول للمخلص داخل إطار النظام، فهو إما نئوس، أو واهمان من واهمين، وكان هدفه أن يجدد في آدم نئوسه الخاص به، أو روحه الخاصة به، كما يقال في اللغة الشائعة، فقد أيقظ بدعوته آدم من ثبات الموت، وهزه وفتح عينيه، وأعاد الحياة إليه، وحرره من الشياطين التي تلبثته بتعويذة، وأراه روح النور المحتجزة، والمتألمة في كل مادة، وأظهر له أصله المزدوج، كيف أن جسده قد اشتق من قوى الشر وروحه، أو نفسه أي: ذاته الروحانية من عالم النور السماوي، وعلمه المعرفة الفدائية، والمعرفة الروحية، ومعرفة ما كان وما هو كائن، وما سيكون، والعبارة الأخيرة هي صيغة هندية إيرانية نشهدها في الأدب الهندي القديم، وتتكرر في التعاليم الزرادشتية. وأما بالنسبة للبقية، فيحمل وصف السابق حتى مع التفاصيل الطابع نفسه، وكما هو مبين في إيقاظ آدم النفس في الأدب المندعي، وتقول رواية سيدور برقونية: ثم التفت آدم نحو نفسه وأدرك ذاته ثم قال: الويل لمن كون جسدي، ولمن قيد روحي وللمتمردين الذين استعبدوني، ويظهر تعبير المتمردين في الأدب المندعي أيضًا بمثابة تعبير عن قوى الشر المعادية لعالم النور؛ حتى إنه تم تبنيه في لغة القرآن وتعابيره. فهناك سلسلة من المشاهد المتوازنة مثل دعوة الروح الحية التي أيقظت الإنسان الأول، وإيقاظ آدم من قبل ابن الله يسوع، أو أهرامزد، أو النور الساطع، والنصح الذي أسداه المخلص لكل روح إنسانية مقيدة بأغلال المادة، كما أن

إيقاظ الإنسان الأول قد حدث عند المستوى الكوني الأعظم، وحدث إيقاظ الفرد عند المستوى الكوني الأصغر، وكان بين المستويين المستوى الذي تم فيه إيقاظ آدم، والذي اتحدت فيه جميع الأرواح البشرية في جهد موحد. وتشكل المعركة والهزيمة والثبات العميق والإيقاظ والحوار وعودة الإنسان الأول، والنفس البشرية بعضها مع بعض سلسلة من الإجراءات تتبع بعضهًا بعضًا كمشاهد في مسرحية طقوسية، ولقد كانت مسرحية مثلت لآلاف السنين في بلاد الرافدين، وكانت وصفًا لفقدان الإله تموز، ولبعثه من الموت؛ حيث انطلق مثل محارب توجه نحو بلد معاد، انطلق هكذا نحو الموت، وسقط في قبضته، وبقي في جوف الأرض غارقًا في ثباته العيمق، تحيط به البهائم المتوحشة والشاطين، وذهبت محبوبته عشطار إلى الميدان لتيقظه فأيقظته بدعاء، وبحوار جرى بينهما، ثم انتشلته وحررته من سلطان عالم الموت، وهكذا عاد منتصرًا إلى عالم الحياة. لقد مارست هذه الطقوس القديمة نفوذها على وصف عملية الفداء ليس في المانوية فحسب، بل في المسيحية السريانية أيضًا، كما أن الأديان التي اتخذت لنفسها مكانًا في بلاد الرافدين لم تستطع كليًّا أن تُفلت من تأثير هذه الحضارة الطبيعية المجيدة، وبقدر ما يعني الأمر ماني نجد أن دراما تموز قد زودته بنقطة البداية بمسيولوجيتها الرمزية لعملية الفداء، وليس أكثر من ذلك فقد أخذ تفسيره لعملية الفداء من تأمل لاهوتي هندي إيراني. زود هذه الرؤية الشرقية القديمة للحوادث التي تصل الأوجى بعملية الفداء، بدلالة فلسفية أكثر عمقًا. أما فيما يتعلق بالتفاصيل فغالبًا ما نجد أنه من الصعب الحكم في أي من الصور والرموز المسيولوجية قد صدر عن بلاد الرافدين، وأيها في التحرير النهائي قد نشأ في دنيا المعتقدات الهندية الإيرانية، ويكفي أن نسوق بعض الأمثلة لتوضيح هذه النقطة:

ومن ذلك أن الإنسان عندما سلب من حريته أصبح، وكأنه في السجن، وكان محاطًا بالخوف الشديد، كما كان مخمورًا بنوبة التضليل مثلما يفعل المخدر، وكان أيضًا مبهورًا من المعاناة، وكأنه في هاوية الظلام قد قهرته ضربة الفسوق، وكأنها لدغة أفعى، وتظهر جميع هذه الاستعارات الكلامية من جديد في المانوية، وهي متجمعة ومتغلغلة بشكل جلي في العقائد الرافدية خاصة في عقيدة تموز، وباسطاعتها بسهولة أكبر أن تربح الجولة لصالحها، وعليه لم يكن ماني مبدعًا لها؛ فقد وجدت من زمن طويل قبله، ولربما نالت رموزها العرفانية قبل قرون مضت. وتقع المصطلحات التالية مثل: ظلام، وسجن، وسمالة، وإيقاظ مع مصطلحات أخرى مألوفة تحت عنوان المصطلحات الغنطوسية؛ لأنه بالنسبة للقدم، ولأصل التقوى الأنطوسية ليست هذه التعابير بدون أهمية؛ حيث تظهر هذه المصطلحات في السبيل الأخير للتطبيق الفني الصرف في محيط هندي الإيراني ومن ناحية أخرى، نجد أن الأهم من ذلك هو أن العقيدة الهندية الإيرانية تعرض على العالم المادي وجهة نظر تفرض استخدام لهذه اللغة الغنطوسية، وبالفعل إن الدين الهندي الإيراني يظهر كما هو معترف به على أنه واحد صارد عن عدة ينابيع، وأنه يهدف نحو تحقيق مفهوم عالمي متشائم؛ لاحتقار وازدراء الوجود المادي، ويتشوق إلى الآخرة والزهد الناشئين عن ذلك، وفيه حافز عميق لهجر العالم، وتصبح هذه النزعة الهندية النموذجية الطريق نحو الفداء، وتسمى باسم طريق المعرفة؛ لأنها ترتكز على التوضيح الفدائي، وهي أن الروح الفردية متطابقة مع العظيم أوبرهمة، وهذا الذي يحدوا بنا إلى العقيدة التي تأتي بعد الروح بمثابة مركز للفداء، وما بعدها من عقائد. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 16 الديانة المانوية (3).

الدرس: 16 الديانة المانوية (3).

الروح بمثابة مركز للفداء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (الديانة المانوية (3)) الروح بمثابة مركز للفداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فها أنا ذا أمضي قدمًا في الكلام عن الديانة المانوية، من بعد الكلام عن حياة "مانو". وبدأنا الكلام عن مبادئه، ونواصل القول في مبادئه وتعاليمه. وبقي لنا الكلام عن الروح بمثابة مركز للفداء وما بعدها: إن الشيء النموذجي الذي يعتبر ميزة خاصة في الدين الهندي الإيراني هو أنه يجب على هذا التمذهب جعل الروح مركزًا للعملية الفدائية، ويروي كتاب (القفالايا القبطي) الفصول المؤلف من مائة وإحدى وأربعين فصلًا، والذي يعالج صعود الروح بعد الموت، ما يلي: تشاهد الروح مخلصها ومنقذها حالما تكون قد غادرت الجسد، وتصعد مع صورة سيدها والملائكة الثلاثة الذين معها، وتمثل بنفسها أمام قاضي الحق وتتسلم النصر. ولنتحدث بشكل أكثر دقة: إن النص السابق مزيج من نصين متزامنين شاملين بشكل متبادل، وحسبما قال أحدهم: إن الروح تحقق النصر عند صعودها على أيدي شكل مؤلف من ثمانية، وبرفقته ثلاثة ملائكة، ومع ذلك يؤكد مقطع آخر من (القفالايا): أن الإله الخامس هو رمز النور الذي يظهر نفسه في الهيئة ذاتها التي يظهر بها الرسول لكل روح تغادر الجسد ومعها الملائكة الثلاثة العظام المتألقين، ويحمل الأول من بين هؤلاء الملائكة جائزة الانتصار في يده كما يحمل الملاك الثاني نداء النور، ويحمل الملاك الثالث التاج والإكليل، وتاج النور، هؤلاء هم ملائكة النور الثلاثة الذين يأتون مع الشخصية النورانية هذه، ويظهرون أنفسهم للفرد المختار وللمريدين. إن الشخصية النورانية -المسماة في المثال الأخير باسم الإله الخامس- هي إظهار نؤوس. كما جرى تجلية في الرسول، وهذا إذًا هو الأسلوب الذي تم به تخيل كيف يعمل المخلص الذي خلق اللحم في شخصية يسوع وماني ورسل الله الآخرين، كما يظهر ملائكة المرافقة الثلاثة من جديد في

الإيمان بالآخرة.

روايات أخرى، وتستحق الاهتمام كل من مواهبها المبينة مع جائزة الانتصار والتاج والإكليل، وتاج النور. وتعني جائزة الانتصار: أن تخليص الروح من الجسد يعتبر انتصارًا للمخلوق الجديد على المخلوق القديم، كما يمكن فهم الصراع ضد القديم إما في إطار معنى الصراع المادي، أو في إطار معنى المحاكمة، ويترك القرار في الحالة الثانية للقاضي وهي دعوى مسوغة دخلت أمام هيئة المحكمة؛ دفاعًا عن الروح الميتة. وهذه مصطلحات رمزية تم اشتقاقها من إجراء قانوني سائد في الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى إن رداء النور والرموز الباقية تشير تمامًا إلى أصل ثقافي هندي إيراني، وتصف المزامير المانوية المكتوبة في الإيرانية المتوسطة كيف تقوم القاعة والعرش والإكليل والتاج والرداء بالاستعداد لروح الإنسان الصالح بعد موته، ويوضح هذا مفاهيم آلية قديمة تؤمن بالآخرة، كما أن الأفكار ذاتها المتعلقة بالقاعة السماوية والرداء والتاج، وقد تحقق البحث الحديث من وجود وصف مطابق تمامًا في الأدب الإيراني القديم. الإيمان بالآخرة وننتقل إلى الكلام عن الإيمان بالآخرة: إن الإيمان الهندي بالآخرة ما كان له أن يكون إيمانًا هنديًّا حقيقيًّا لو لم تخصص نصيبًا للمخلوقات المؤنثة الجميلة التي يلتقي الصالحون بها في السماء، كما أن جرسة التراتيل المانوية ترينا أنها لم تهمل عزاري الجنة، ويجب أن نعيد إلى الذاكرة أيضًا أنه التقى في المانوية الإنسان الصالح مع ذاته السامية على شكل عذراء إلهية رائعة، رافقته في طريقه إلى الجنة. ونقرأ هذا في قطعة صدغية مكتوبة، وتواصل هذه القطعة شرحها قائلةً: إنه سيقترب من الإنسان الصالح إثر موته ما لا يقل عن ثمانين ملكًا من الجنس الآخر، مزينين بالورود، ويحضونه على التقدم نحو جنة النور ليتذوق السعادة هناك.

إن أشد اللحظات تأثيرًا في جميع المعتقدات الإيرانية المتعلقة بالآخرة هي تلك التي يصادف فيها الإنسان الصالح المتوفى ذاته السامية على شكل فتاة جميلة في الربيع الخامس عشر من عمرها تخبره أنها هي روحه، ويتضح هنا تمامًا أن المفهوم والرمز المانويين هنا مقتبسان من الإيمان الإيراني القديم المتعلق بالآخرة. ودعيت الفتاة السماوية التي تجسد أعمال الإنسان على الأرض، والتي تأثرت صفاتها ومظهرها بهذه الأعمال في النصوص الزرادشتية، باسم "كيونوسين" أي: سلوك الميت، كما تم تقديم الذات السامية في بقايا النصوص بما يعني سلوكها الخاص، هذا وإن التفاصيل فيها دلالات أيضًا. ويشغل الرداء الممنوح للروح الصاعدة حسب الرأي المانوي دورًا هامًّا في النصوص الزرادشتية المكتوبة بالإيرانية المتوسطة، وفي النصوص الغمطوسية ذات المنشأ الإيراني، وهذا صحيح بشكل خاص بخصوص نشيد اللؤلؤة، وبناء عليه يوجد هنا رمز آخر اقتبسته المانوية من الغمطوسية الإيرانية، ودُعيت أعمال الإنسان الصالحة في اللاهوت الإيراني الهندي باسم "كنز في السماء". ويفسح هذا بدوره المجال للذات العليا؛ ليتم تسميتها باسم "خازن" وبرؤية أن الرداء الفخم هو مجرد رمز آخر لتلك الأعمال، وتُستخدم أغنية اللؤلؤة أحيانًا وصف الخزنة عند التحدث عن حراسها، وتعرف المانوية بعض الصديقين باسم "كنوز الأم المجيدة"؛ لأن أعمالهم هي الإشراف على الأعمال الصالحة، وخدمت أعمال تقويم بعض الآراء الشائعة العائدة للمصطلحات الغمطوسية والمانوية في تقديم المظاهر الرئيسة للإيمان المانوي بالآخرة بقدر ما يتعلق الأمر بأرواح الصالحين، وأما فيما يتعلق بأرواح الآخرين فقد كانت عقيدة ماني عقيدة تقمص.

ولربما جاء هذا كمسألة استيعاب للبوذية، مع أنه يجب عدم استثناء تأثير الفيفا غروسية المحدثة، ومن الغريب أن التقمص قد دُعِي في النصوص القطبية بعبارة هي في الإغريقية تعني "إعادة الصياغة أو التشكيل" ومن المحتمل أن هنالك وراء هذا الاستخدام للكلمة أفكارًا إيرانيةً هندية قديمة حول كون الإنسان نَتاجًا لصانع الحداد سماوي، يوجب على كل روح أن تملأ بالعزيمة، تصبح فولاذية خلال النار، حتى تكون مهيأة لاجتياز عملية الانبعاث الروحي داخل الأوتون المشتعل، وتعالج الحكايات الإيرانية القديمة حول إله البرق الموضوع نفسه. ولم يكن الإيمان المانوي بالآخرة حسبما تعلق بالفرد وأثَّر به متطابقًا مع المستقبل المعد للعالم بصورة عامة، والتفسير الذي يجب تتبعه حول هذه المسألة، هو أن ذرات النور الخالد لم يتم وقفها على الأرواح البشرية، بل كما تم الذكر من أنه كمية الضوء التي ضلت والتي لم تعد قد تم توزيعها في كل مكان من الطبيعة في النباتات والأشجار والفواكه، وفي المخلوقات الحيوانية والإنسانية أيضًا، وربطت المانوية هذه الروح الحية على الدوام مع معاناة وآلام يسوع، وهو يسوع عنصره أدنى من يسوع المتألق الذي سُلِب في عالم المادة، والممتزج مع العالم المادي. كما اعتبرت الأشجار التي احتوت وفق النظرة المانوية على جزء كبير من النور صليبًا للمسيح، ويقول "فاوست": إن يسوع الذي هو حياة الإنسان ومخلصه معلق على كل شجرة، وإن آلام المسيح وصلبه ليس سوى قضية خاصة، أي: لحظة فردية في المسرحية الكونية للمعاناة والفداء، صداها والمعبر عنها هو يسوعُ الأدنى، وجرى التعبير عن هذا بالطريقة التالية: إننا نلاحظ في كل مكان سر يسوع المربوط إلى صليبه، حيث تظهر جروح المعاناة التي تتألم أرواحنا منها.

وهكذا جرى تفسير منحى العالم على أنه منسجم مع المراحل المختلفة لمعاناة إله كان هو في الوقت نفسه مخلصه، كما كانت قصة إنقاذه للجنس البشري حكاية لفداء هذا الإله؛ لأن الإله واحد مع جميع أرواح البشر. إن عملية التحرير بطيئة، ولم تصل إلى تحقيق هدفها تمامًا، هذا الهدف الذي سيكون إعادة الجمع المتناسق لجميع ذرات النور، وإعادة اتحادها في عالم النور، لكن قبل أن يتحقق هذا ستكون نهاية العالم قد حلت، وستقوم مجموعة من الآلام الشديدة بنشر ذلك الحدث، وهي من نوع مشابه تمامًا لتلك الآلام المميزة للتأملات الرؤوية للديانتين اليهودية المتأخرة والمسيحة، ولإيران والشرق الأوسط، وإن مثل هذه المادة الوفيرة قد أخذها "ماني" مباشرةً مما يسمى باسم صفر الرؤيا لوقا 21، متى 24، مرقص 13. ويمكن بوضوح استخلاص جزء من المواد من الأسفار الإيرانية، مثلًا: تتحدث قطعة تركية مانوية عن أيام الآخرة، عندما سيظهر مصر المزيف الذي يكون الثورُ مطيتَه، والحرب علامته، وتؤكد مختلف التقاليد الموروثة أن مِصر كان له بالفعل ثور يركبه، ويشير هذا المقطع إلى أن الإله مصر المزيف كان له مصر مزيف، وهو بمثابة نظيره الأخروي. ومن المحتمل أن الحدث المتعلق بمصر المزيف قد كان جزءًا مما يسمى بـ"اسم الحرب العظيمة" وهي الدرامة الرؤوية الأخيرة التي ظهرت إلى حيز الوجود بشكل خاص في المواعظ القبطية، وكانت عبارة "الحرب العظيمة" اسمًا قد اقتبسه ماني من المصطلحات الإيرانية، وهي العبارة نفسها التي استخدمت في الأوصاف الرؤوية الزروانية، وتم التنبئ بنتيجة هذه المواجهة الحاسمة على أنها انتصار لمعبد الصلاح، أي: جميع الصالحين، كما ستجتمع جماعة المصلحين المتبعثرة من جديد، وسيتم تجديد المعبد، وإنقاذ الكتب المقدسة

المعرضة للخطر، وإتمام انتصار المانوية، وسيأتي الجيل الجديد، ويحوز بقوة على ممتلكاته، وسيحضر الملك العظيم، ويتولى السلطة، وسيقدم الجيل الجديد له الطاعة، وستقوم القيامة إثر ذلك، وذلك عندما ستجتمع الأرواح أمام العرش، وسيتم فصل الخير عن الشر، والغنم عن الماعز، إذ تستخدم النصوص المانوية بعض الأوصاف الاستعارية بالعهد الجديد، والمحافظ عليها. ويعكس كل من الجزئين المتبقيين من "الشابورقان" والمواعظ القبطية وجهة نظر "ماني" حول هذا الموضوع، وتظهران أن "ماني" كان منسجمًا إلى درجة كبيرة مع مفاهيم مسيحية حقيقية. هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى فإن لقب الملك العظيم مأخوذ من الهامات "هيستات": "الرؤيا الإيرانية". وهي سلسلة من النبوءات كان منتشرةً في الشرق الأوسط في القرون التي انصرمت قبل ميلاد المسيح. واستطردت العقيدة تقول: إن يسوع سيحكم في الأرض فترةً قصيرةً من الزمن، ثم إن المسيح سيُترك مع النخبة والألهة الكونية الحارسة للعالم، وسيعود معهم إلى مملكة النور، حيث تحصل في النهاية عملية التطهير، وسيتم جمع ذرات النور تلك التي ما يزال إنقاذها ممكنًا؛ لتشكل نصبًا نهائيًّا. إن كلمة "أندنس" هي العبارة المستخدمَة في النصوص القبطية حيث سيتم رفع هذا النصب إلى السماء مثل عامود ضوء كوني، وسيتم بعد هذا مباشرةً إلغاء القبة السماوية ذاتها، وسيُقذف الملعونون والشياطون وعالم الظلام بعضهم مع بعض على شكل كتلة بشعة "بلوث"، وسيتم إغراق هذه الكتلة في أعماق أخدود ذي امتداد كوني سيتم عندئذٍ بصخرة عظيمة.

أنهى "ماني" وصفه لسير العالم بهذه الرؤى الكونية الفخمة، ووصل بالتالي إلى نهاية الطور الثالث، فقد اشتمل الطور الأول على وضع الكون قبل مزج الظلام والنور، واهتم الطور الثاني بفترة ذلك الاختلاط، ودل الطور الثالث على فصل العناصر المختلطة. وتعتبر هذه العقيدة ذات الشعب الثلاثة مع المبدأين الاثنين عقيدة المانوية الرئيسة. ويظهر التقسيم الثلاثي للزمن في النصوص الزرادشتية البهلوية، حيث تحتوي على صيغ ما هو كائن وما كان وما سيكون، لكن هذا النمط أقدم من ذلك بكثير، وموجود في السجلات الهندية، وهو من أصل هندي إيراني. وبتتبع نهاية الكون كما تم تخيلها يمكن الافتراض أن سَيْر العالم سيكون بعودة الأشياء إلى الحالة التي كانت قائمةً قبل خلق النور والظلام، وكأنما كان هذا إرجاعًا حقيقيًّا بالفعل، إنما على الرغم من التكلم بهذا الخصوص عن إرجاع الطبيعتين، يبقى هنالك اختلاف؛ لأن قوة المادة والظلام لن تكون قادرة بعدئذٍ على تجديد الهجوم على عالم النور، وسيواصل كل من مبدئه النور والظلام وجودًا منفصلًا، ومع ذلك فإن الآراء تتباين حول كمالية عالم النور، فقد صرحت المدرسة الأولى: أن إله النور كان قادرًا على استعادة جميع ذرات النور المفقودة، بينما ردت الثانية، وقد كانت أكثر تشاؤمًا بقولها: إنه قد تم فقدان جزء من النور إلى الأبد، وكان لذلك الجزء جزءًا لاحقًا ليوم الحساب؛ ليشارك الاحتجاز الأبدي للظلام مع المادة، ويقينًا أن عقيدة النهاية المزدوجة التي أعلنت المدرسة الثانية عنها تقترب من التشابية والرموز التي استخدمها "ماني". هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى من المحتمل أنه لم يتكمل بوضوع كافٍ حول هذه النقطة الخاصة.

علم التنجيم.

علم التنجيم وأخيرًا علم التنجيم: أقر "ماني" التعاليم التنجيمية مثلما أقرها العديد من معاصريه، علاوةً على أنه نشأ في بلاد الرافدين، وهي بلاد تبجيل النجوم، وتم إظهار آرائه بطرق متعددة، وكانت قانونًا لأتباعه، كما اعتبر "ماني" الشمس والقمر كائنين طيبين كانا بالفعل الأداتين الرئيستين لاستعادة ذرات النور، فقد اعتبر بقية الكواكب ومنازل البروج على أنها قوى شريرة وخبيثة. هذا؛ وقد تبنى المدعيون المنحى ذاته باستمرار، عدا عن أنهم اعتبروا الشمس والقمر بمثابة جزء من بقية الكواكب، وأشاروا لهذا السبب إلى السبعة والاثني عشر، على أنها القوى المدمرة للوجود، وكان موقف الزروانية حول هذه النقطة أكثر أرجحةً، إذ شغلت الآراء التنجيمية والتأملات دورًا هامًّا فيها، كما كان التنجيم وتبجيل النجوم عاملًا ثابتًا في الثقافة "الهلنستية" المتأخرة. ولهذه الأسباب مجتمعة ليس من السهل تميز المصدر الرئيسي لـ"ماني" ومن ناحية أخرى يمكن أن يكون هنالك شك خفيف في أن الغنطوسيين الحرانيين الذين وَجدت العقيدة التنجيمية البابلية القديمة ملاذًا في بلدتهم، قد أدلَوْا بدلوهم وأسهموا بعض المساهمة، وهنالك العديد من الأمثلة في تعاليم "ماني" تم تدوينها في (القفالايا) أي: الفصول التي تعالج علامات منازل البروج، وتهتم أُولى هذه الإشارات بتوزيع الاثنى عشر منزلًا بين عوالم الظلام الخمسة، ومن ناحية ثانية فإن المخلوقات الخاصة بمنازل البروج لا توجد داخل هذه الكواكب، ولكنها مسحوبة ومربوطة بالكرة السماوية أو الدولاب.

وهكذا علينا أن ندرك أنها مسحوبة من عوالم الظلام الخمسة، ومربوطة بالكرة السماوية، وأنه قد خصص مخلوقون لكل عالم. ويقول "ماني" نفسه: إن هناك مخلوقين لكل عالَم من العوالم خاصين بمنازل البروج، ومع ذلك بما أن هنالك اثني عشر برجًا، وخمسة عوالم، فعلى التنسيق أن يتبع هذا النمط: 1 - القوس والجوزاء ينتميان لعالم الدخان. 2 - الحمل والأسد ينتميان لعالم النار. 3 - الثور والدلو والميزان تنتمي لعالم الريح. 4 - السرطان والعذراء والحوت تنتمي لعالم الماء. 5 - الجدي والعقرب ينتميان لعالم الظلام. هؤلاء هم حكام الشر الاثنا عشر: (القفالايا) الفصل التاسع والستون. ورَسَمَ "ستغومان" المتخصص في علم تنجيم العصور القديمة الأبراج المذكورة وَفق الترتيب السابق بشكل دائري، متوخيًا من هذا أن يوضح المعنى، وسيبدو أنه قد نجح عندما قال: من الواضح أن هذه لعبة بالمظاهر القطرية والثلاثية والتربيعية والسداسية، كما أن التصنيف متناسق، وقد أظهر "ستغومان" ذلك في الرسم التوضحي. وهاكم هي نتائج التتابع للمظاهر التي نحن بصددها. 1 - دخان، قوس + جوزاء قطري. 2 - نار، أسد + حمل ثلاثي. 3 - ريح، ميزان + دلو + ثور = ثلاثي.

4 - ماء، حوت + عذارء + ثور سداسي + قطري. واعتبر التنجيم المعاصر أن القطري والرباعي من بين هذه المظاهر سلبيين، بينما اعتبر الثلاثي والسداسي إيجابيين، ويقع بالتالي الثلاثي الإيجابي وراء القطري السلبي، ثم تأتي الدائرة السلبية التي تتبع بدورها بالثلاثي والسداسي الإيجابيين، والتناثر ناشئ عن التفاوت بين الرقمين: اثنا عشر وخمسة، ويُلحق بترتيب موائم بالقطر السلبي والسداسي الإيجابي، إذ أن الأخير متقابل مع الأول السلبي، وتؤكد هذه النزعة المعاكسة للمظاهر المختلفة تشديد "ماني" على ما يتعلق بالأبراج، حيث يقول: إنها جميعًا متعادية ومتخاصمة بعضها مع بعض. واستخدم "ماني" في المقطع الثاني من مقاطع (القفالايا) الفصل الثامن والستون نظامًا انقسم العالم بموجبه إلى أربعة أقسام، انقسم كل منها إلى مثلثين متجاورين، وتم توزيع الإشارات الخاصة بدائرة البروج حسب هذا التقسيم الثلاثي كالتالي: المثلث الأول: الحمل والأسد والقوس غرب شمال. المثلث الثاني: الثور والعذراء والجدي غرب جنوب. المثلث الثالث: الجوزاء والميزان والجدي شرق شمال. المثلث الرابع: السرطان والعقرب والحوت شرق جنوب. ولحق ذلك هنا قطعة أعطى "ماني" فيها ملاحظة حول مختلف التكهنات المشئومة، لكن الغريب هنا أنه تم تحويل النظام الفضائي إلى نظام زمني، فالثلاثيات المشار

إلى توزيعها المشئوم في دائرة البروج يصبح تأثيرها نافذَ المفعول لبعض الفترات الزمنية، ومن المحتمل أن هذا يحوي الخير للعالم أجمع. وهناك قوائم في الآداب التنجيمية تقوم بخلط الإشارات المتعلقة بدائرة البروج مع التكهنات بحصول كارثة ما. ويبدو أن "ماني" قد تبنى قائمة من هذا القبيل بالنسبة للمثلثات، وأضاف نظامًا زمنيًّا إلى النظام الفضائي، ليس منطقيًّا تمامًا. ويتم إظهار الغموض الذي ظهر في تنجيم "ماني" في تقسيمه الزمن إلى فترات أيضًا، فقد حرف المخطط إلى حد ما، ومع ذلك فإن "هنر" الذي عرض المسائل بشكل صحيح، قد صرح بدقة تامة قائلًا: لا توجد دعوى لإنقاذ "ماني" لهذا التحريف الثانوي، فقد قرره بالنسبة لعلم عصره وللفكر العلمي بشكل عام، ولم تكن لديه أية رغبة ليكون رجل علم، بل مجرد كاهن. وحاول "ماني" إقامة صلة بين ديانته والديانة المسيحية كما فعل ذلك في حال كل من الديانة البوذية والزرادشتية، ويجب التأكيد أنه كان لديه في كلتا الحالتين عينة خاصة في عقله من هاتين العقيدتين، فقد اعتبر الديانة البوذية هي بوذية "مهايانا": بوذية القرن الأول الميلادي، والديانة الزرادشتية هي ديانة الماجوس "الميديين" التي عنت الزروانية، وكانت الديانة المسيحية هي الديانة الغمطوسية الخاصة في الشكل الذي أيده "ابن زي صان" و"مرقون". وعنى عرض رسالته من قبل المسيحة للغرب ما عانته البوذية للشرق، فقد قامت الإمبراطورية الإيرانية بين هذين الإقليمين التبشريين؛ لأن النظرة الزرادشتية كانت محددة ومقررة بالنسبة لنظامه العقائدي.

ومع ذلك يجب الانتباه إلى وجود خلاف بين هذه الأشكال الثلاثة، فبينما تظهر عناصر المسيحية والبوذية العائدة للدين نفسها على أنها قصصات يمكن فرزها بسهولة، ودون ضرر بالنظام، لا يمكن مباشرة العمل ذاته فيما يتعلق بالعناصر الإيرانية؛ لأنها أجزاء أساسية بالفعل، فبإزالتها لا يبقى أي شيء عملي من إطار آراء "ماني" وعقائده، فكما سبق أن رأينا أن التركيب الأساسي للمانوية هو تركيب إيراني وليس إيرانيًّا صرفًا، بل زروانيًّا وذلك من وجهة نظر غمطوسية، فقد اعتبر "ماني" كلًّا من زرادشت وبوذا ويسوع أسلافًا له، كما جاء ذلك في كتاب (الآثار الباقية) للبيروني. ومع ذلك، فإن زرادشت وحده هو مَن يستطيع بالفعل شغل هذا المنصب من بين هؤلاء السلف من حيث كونه ممثلًا لوجهة النظر الإيرانية، بينما يعطي الآخران انبطاعًا أنه قد تم انتقاؤهما لأسباب تكتيكية، وهناك أيضًا سمة خاصة تربط "ماني" بزرادشت الذي لم تكن شخصيته التاريخية معروفة لديه على الإطلاق، وهي روحنة دين، فتلك كانت نقطة الابتعاد عنه في النزعة، وأفكاره التجريدية المحولة إلى آلهة، وتبقى أيضًا معلقة بشكل دائم بين المجرد والمحسوس، هذا ومن المحتمل أيضًا أن نرى مفتاحًا لخليفة "ماني" في هذه الحالة لندع جانب المندعية، حيث وجدت هذه النزعة ذاتها، فإنه من الثابت أن الغمطوسية الإيرانية اليهودية في إيران الغربية الشمالية، وفي بلاد الرافدين الشمالية، قد استخدمت عددًا وطرائق من التعبير وجدت فقط في المندعية والمانوية. هذا وأن تسمية الإله باسم إله العظمة، وصيغة الأطوار الثلاثة التي تتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل تستحق ذكرًا خاصًّا في هذا المجال. هكذا نكون قد أتينا على العقيدة المانوية.

التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني.

التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني ومما يتصل بهذه العقيدة ما يُعرف بالتنظيم اللاهوتي. التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني، فماذا يراد بهذا؟ التنظيم اللاهوتي: اتسمت الديانة البوذية بأنها ديانة رهبانية، ذلك أن جوهر الجماعات البوذية يشكَّل من مجموعة الرهبان، فبوذا والعقيدة والرهبان هم الثالوث القائم عليه كل شيء، بينما الأعضاء العلمانيون هم عنصر مؤيد فقط وموجود في المقام الأول لتقديم الحكمة والمؤازرة للرهبان، وتختلف المتطلبات الموكولة للرهبان بشكل جوهري عن الأوامر المفروضة على العلمانيين أن يطيعوها، إنها مسألة ذات نمطين للدين إلى درجة ما، وهذا هو السبب الذي حدا بالجهد المبذول من أجل دراسة التطور الديني إلى تصنيف الديانة البوذية إلى ديانة مزدوجة، كما جرى تطبيق التعريف ذاته على المانوية. ويجب التسليم على أية حال بأن التنظيم متطابق، وليس من المستبعد أن يكون "ماني" قد قلد الديانة البوذية عن قصد في مظهرها التنظيمي. وقد يكون من الأفضل أيضًا أن نتحدث عن تنظيم مزدوج بدلًا من أن نتكلم عن ديانة مزدوجة؛ لأن الديانة تبقى كما هي على الرغم من أن أتباعها مقسمون إلى مجموعات، وخاضعون بالنتيجة لأنظمة منفصلة تمامًا، ذلك أنه كما فصل بوذا أتباعه إلى رهبان وعلمانين، كذلك وزع "ماني" أتباعه إلى مجتبين وسماعين. ولعله من الأفضل أن نقول: إنه وزعهم إلى صديقين وسماعيين؛ لأنه جرى استخدام كل من هاتين التسميتين في اللغتين اللتين اعتمدهما مؤسس الديانة، ففي السريانية نجد عبارتي: صديقين وشاموئين، وأردوان وناشيغان في الفارسية

المتوسطة، أما في الغرب المسيحي فاستخدمت عبارتا المجتبين والسماعين منفردتين، أو مع الإشارة إلى المصطلحين المسيحيين. وتقيدت كل طائفة من طائفتي المؤمنين بطرق حياتية مختلفة تمامًا كما كانت المتطلبات التي أُوكلت إلى كل منهما مختلفة أيضًا. يمكن تلخيص جميع علوم الأخلاق المانوية الموصوفة للمستيجبين لمبادئ "ماني" في التواقيع الثلاثة المشهورة التي يذكرها "أوقسطين" في الفصل العاشر من كتابه، وقد أشارت هذه التواقيع إلى صنف كامل حيث تضمنت كلمة الحواس الخمس، بينما تضمنت كلمة "ماووس" السلوك كله، وكلمة "سنس" جميع تعابير الإثارة الجنسية، وتضمن التوقيع الأول على نظافة الفكرة والكلمة والامتناع قبل كل شيء عن التفوه بأي شيء يمكن أن يبدو على أنه تعبير فيه تجديف على الله بالنسبة للتعاليم المانوية. احتفظت هذه الوصية في الوقت نفسه بالخير دون تحديد لكل ما يمكن التمتع به عن طريق الفم، وكانت الرغبة هي الامتناع عن أي شيء يمكن أن يقوي شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ عن الشيطان فقد كانت هذه الوصية واجبة بشكل خاص بصدر تناوله، ولهذا السبب تم إعداد المانوية لكي يعيشوا على الفواكه من الحقول والبساتين، وخاصة ثمار البطيخ التي كانت شاهدة على عصرهم في عالم النور، بسبب لونها ونكهتها، كما تم أيضًا استحسان تناول الزيت، وأما بالنسبة للشراب فقد كانت عصير الفواكه هو الاختيار الأول، وفَرْض اجتناب تناول المقادير الكبيرة من الماء؛ لأنه مادة جسدية. وجرى إعداد التوقيع الثاني ليحرم في المقام الأول أي عمل يمكن أن يضر بحياة النبات أو الحيوان، فلم يسمح للمانويين القيام باجتثاث أي نبات أو قتل أي

حيوان، وعلاوة على ذلك اشتمل هذا التوقيع على حَظْر أي تصرف يعيق انتصار النور إلى الحد الذي لم يكن قد شكل جزءًا من الحذرين الآخرين. وهنالك حقيقة بارزة وهي أن أولئك الذين أذنبوا في حق هذه الوصية قد تكبدوا عقابًا متناسبًا مع عملهم الإجرامي وفق وجهة النظر المانوية، فالإنسان الذي حصد الحقل المزروع سيولد من جديد مثل سنبلة القمح، وأما ذاك الذي قتل فأرًا فسيكون فأرًا في الحياة الآخرة. وهكذا. وأخيرًا فرض التوقيع الثالث على المانويين امتناعًا تامًّا عن المعاشرة الجنسية بما في ذلك التخلي عن الزواج، فقد عدت الإشارة الجنسية شيئًا شريرًا؛ لأنها شهوة جسدية، واعتبر الإنجاب أسوأَ بكثير؛ لأنه أخَّر إعادة تجميع ذرات النور، ولم يتمكن سوى المجتبون من تنفيذ هذه الوصايا بسبب تذمته، كما أشير من قبل كان المجتبون هم الوحيدون الذين تم تسمتيهم باسم الصديقين، قد أوقفوا أنفسهم على حياة موجهة نحو فداء أرواحهم فقط، وعملوا على إعادة توحيد ذرات النور مع عالم النور، ومن ناحية أخرى أوكل إلى السماعين تولي القيام بجميع أنواع الأعمال المحظورة على المجتبين، وهي التي كان في الواقع من المتعذر اجتنابها؛ بُغيةً المحافظة على الحياة، وبالتالي كان من نصيب السماعين تزويد المجتبين بجميع أنواع التغذية الضرورية، وتَرافق تناول هذه الأطعمة مع إعلان دقيق للبراءة من قبل المجتبين. ويقرر الفصل العاشر من كتاب (أعمال الأراكنة) الصيغة المتلوة من قبل أحدهم لدى استهلاك الخبز، حيث كان يقول: لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن، بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي، فأنا أتناولك دونما إثم. ثم يخاطب إثر ذلك السماعي الذي أحضر الخبز إليه بقوله: لقد صليت من أجلك، ومن ثم يغادر.

وتسم الملاحظة الأخيرة المجتبين بسمة الكذب على الأقل، ومن المحتمل أن هذه الملاحظة يمكن نسبتها إلى النقد المسيحي من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى أن الشيء الممكن تصوره هو أن إعلان المجتبين بالبراءة كان ممزوجًا مع الالتماس بمصلحة السماعين، وهي نقطة طمسها عن عمْد مؤلف كتاب (أعمال الأركانة). ومن الواضح أن السماعين المانويين قد عاشوا حياة عائلية عادية كما تؤكد المصادر، ويبدو أنه لم يتم تحريم حتى تناول اللحم بالنسبة لهم، ومع ذلك قد تم التقيد بصوم يوم خاص من أيام الأسبوع هو يوم الأحد، كما فرض عليهم الامتناع كليًّا عن العِشرة الجنسية في ذلك اليوم، ومن الملاحظ أنه لم يسمح للمانويين بالزواج بحسب، بل سمح لهم بالاحتفاظ بالخليلات، إذ كان هذا الأمر أكثر قبولًا لديهم، وهو أمر واضح. من قصة نصيرهم السابق وعدوهم اللاحق "أوغسطين" الذي احتفظ بخليلة خاصة به خلال ارتباطه بالمانوية، ثم تركها في وضع حرج قبيل فترة قصيرة من اعتناقه الديانة المسيحية، وذلك بعدما أغرته وريثة شابة وغنية بالزواج منها، وكان على المجتبين أن يصوموا يومين في الأسبوع وهما يوما الأحد والاثنين؛ لأنهما اليومان المقدسان بين أيام الأسبوع، يضاف إلى هذا أنه وجبت فترات أكثر امتدادًا للصوم المستمر، خاصةً خلال شهر كامل قبل العيد الديني الأكبر في العام، وهو عيد الوليمة المقدسة. ومن المحتمل أن شهر الصيام هذا قد تقدم كنمط لصوم شهر رمضان المذكور في القرآن. ومن الطبيعي أن نجد أن المطالب الأخلاقية الصارمة قد جلبت معها العديد من الآثام، وجعلت بالتالي ممارسة الاعتراف والتوبة قانونًا هامًّا، وهذا أمر تبرهن النصوص على صحته تمامًا، ولقد رأينا واستحوذنا على عدد من الصيغ

الاعترافية، وكان قانون الاعتراف والتوبة هذا ذا أهمية بالغة في الحياة الدينية للمانويين؛ لأنه ساعد في المحافظة على نظام كهنوتي صارم، وجرى تقسيم المجتبين إلى أربعة طبقات، وهي في المصطلحات الإيرانية الوسيطة: "همو ساغ" أو القاضي، و"سباساغ": أو الأسقف، و"ماهستال": أو الكاهن، و"أردوان": أو المجتبى. وشكل "النياشغان" مع السماعين الدرجات الخمس للمؤمنين، وكان للقاضي اثنتا عشرة درجةً في الكنيسة المانوية، كما كان هناك اثنان وسبعون أسقفًا، ثلاثمائة وستون كاهنًا، وبالطبع نجد أن الشخصيتن الأولتين قد أُخِذتَا من العهد الجديد، وكان جميع أعضاء الكنيسة المانوية تحت إشراف خليفة "ماني" وكان يُعرف باسم "اشغوث" وباسم "سردار" في اللغة الفارسية، وباسم "سارات" في اللغة الفارسية الوسيطة. وارتدى المجتبون مع ممثلي الدرجات العالية أثوابًا بيضاءَ مع أغطية رأسية، بينما يحتفظ السماعون بلباسهم العادي. التعميد المانوي: تعرضت قلة من سمات المانوية لتفصح دقيق أكثر من الوجود المحتمل للطقوس المقدسة، وخاصة طقوس التعميد والعشاء الرباني، وكان "بور" قد أشار إلى صعوبة التوصل إلى أي استنتاجات بخصوص هذه المسألة، وتفحص بدقة الدليل المتوفر في ذلك الحين، وقد أكد في بداية دراسته على أن التباين كان شديدًا بين المجتبين والسماعين إلى حد يمكن افتراض أن الشروط الخاصة كانت موضوعة تحدد الدخول إلى دائرة المجتبين. ويمكن أن نفترض أن الارتقاء قد أخذ شكلًا طقسيًّا تعميديًّا.

ويمكن استخلاص هذا من كتابات القديس "أوغسطين" خاصةً كتابه (بي ميرسيلس) في الفصل الخامس والثلاثين، حين توجه بسؤال للمانويين ليس أكثر من تمثل لطريقة التعبير المسيحية، وأن ما قصده المانويون كان ما يتعلق بالمؤمنين الذين وُلِدوا من جديد بواسطة التعميد، فقد كان إنجاب الأطفال بين المانوية عملًا غيرَ موائم، ومع ذلك لم يكن من المألوف بينهم تحقيق الدخول بين المولودين من جديد بوساطة طَقس تعميدي. يقول "بور"ك سيكون من الأكثر موائمةً أن نتذكر مقطعًا آخرَ من كتاب "أوغسطين" حيث ناقش المادة التي تطابقت فيه الممارسات والأساليب المانوية مع الممارسات والأساليب التي أخذ بها المسيحيون. وهنا لو أن "أوغسطين" استهشد بالتعميد كطقس مسيحي منتشر بين المانوية، فليس هناك من داع إلى الافتراض أنه كان مطلعًا على أي انحراف بالنسبة لتطبيق التعميد على الاستخدام المسيحي. وكذلك يتحدث المانوي السعيد في جدله مع "أوغسطين" في واحد من كتبه عن التعميد والعشاء الرباني كطقوس معروفة لدى المسحيين والمانويين على حد سواء. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يبدو مقطع آخر من كتاب "أوغسطين" نفسه يوحي أنه لم يوجد بالفعل أي تعميد، إذ من المؤكد أنه لم يكن هناك قبول للمستجيبين -أي: السماعين- في الجماعة المانوية عن طريق التعميد. ويمكن أن يؤدي هذا التعليق إلى استنتاج أن التعميد ببساطة لم يكن جزءًا من الطقوس المانوية على الإطلاق، والأكثر احتمالًا هو أن "بور" محق في الاعتقاد أنه لم يكن التعميد هو المعنى الذي حدد مفهوم السماعين، بل الاختلاف الجوهري في تنفيذهم أو عدم تنفيذهم للوصايا هم والمجتبون كل على حدة. ومهما يكن من أمر يبدو أن التعميد قد وجد

لكن أهميتها كانت أقل بروزًا منها بين المسحيين، ولم يعتبر عملًا لزِم القيام به في مرحلة ما من الزمن من قِبل كل واحد من السماعين. وهنالك أيضًا حالة خاصة أخرى؛ لأنه من المحتمل أن التعميد لم يكن بالماء بين المانويين كمعنى "أوغسطين" عن هذا بوضوح في الفصل السادس والأربعين من كتابه، حيث يعلق "بور" قائلًا: الذي يمكن بساطة تطبيق الأخير على السماعين فقط، وصرح "أوغسطين" بالطريقة نفسها، كما يلاحظ "بور" تمامًا أن هذه المقاطع التي تتحدث عن الرفض المانوي للتعميم على أنه تطهير بالماء تترك باب الاحتمال مفتوحًا على أن هذا الطقس كان له معناه لدى المانويين بشكل وأسلوب مختلفين، وقَبْل "بور" كان قد جرى لفت الانتباه إلى ملاحظة كتبها أسقف "هريبوس" جاء فيها: أن المانويين قد عُمدوا بالزيت، وذلك حسبما جاء في "أعمال توماس" التي قدروها كثيرًا. ويبدو أنه قد تم التأكيد على هذه الإشارة بذكر المسح بالزيت في هذه الأعمال فيما يتعلق بالتعميد، وذلك دون التحدث عن التطهر بالماء حسب الرواية الإغريقية لهذه الأعمال، ويصل "بور" إلى الاستنتاج التالي: لم تتعرض المانوية للنقد من قبل المسحيين؛ لأنهم افتقروا إلى التعميد، بل على العكس كان عندهم أمرًا مستلزمًا ضمنيًّا أن هذا التعميد لم يكن تطهرًا بالماء، وإنما من المؤكد أن تكون من المسح بالزيت ومسح الأيدي.

وهكذا دل التعميد المقدس على أنه طقس ديني أولي حيث جرى بوساطته التأكيد للذين تم قبولهم من بين المجتبين، على أنهم حُرروا من الآثام، وهو الشرط اللازم لنيل عضوية جماعة الكمال هذه، أي: جماعة الصديقين. وهكذا تؤكد النصوص القبطية التي جرى نشرها منذ عام 1930 حول المسألة برمتها رأي "بور" بل إنها توسعه وتصصحه إلى حد ما في الوقت ذاته، كان التعميد بالماء مرفوضًا على وجه التحديد، كما أن "بوخ" شديد الشكوك تجاه قبول وجود طقوس مقدسة بين المانويين، ويتبنى موقفًا سلبيًّا واضحًا إزاء المقاطع التي جرى الاستشهاد بها من قبل. ومع ذلك فإنه يعجز عن التعبير عن موقف تجاه سلسلة الآراء المادية في المزامير القبطية، حيث توجد إشارات إلى طقوس معينة مماثلة للتعميد، فعلى سبيل المثال: يعبر المتعمد في كتاب (المزامير) عن رغبته ليتم غسله بمناسبة عيد الوليمة المقدسة بقطرة ندى من بهجة "ماني" ويجري التوسل إلى يسوع؛ ليغسل المتعبد بمياهه المقدسة، ويصرخ المتعبد قائلًا: انظر، كاد الوقت يمضي، هلا أستطيع العودة إلى موطني؟ وتظهر الرغبة مرارًا وتكرارًا في أن يصبح المتعبد أهلًا للدخول في غرفة النور الزفافية، ويمضي المزمور ذاته قائلًا: طهرني بمياهك يا خطيبي السماوي يا مخلصي. وعند لحظة الموت سيظهر القاضي نفسه للروح بوجه مليء بالسعادة وسيغسلها ويطهرها بندى مفيد. وقيل في مكان آخر: إن الروح سيتم تطهيرها بندى عامود المجد؛ حتى يمكن قبولها من قبل المخلص. وتعطي هذه النصوص الانطباع أنه سيتم تطهير الروح الصاعدة بعد الموت إلى غرفة النور الزفافية لمياه المخلص المقدسة، وتستخدم كلمة "مور" أي: الماء وهي

توصف أيضًا على أنها تعني الندى المفيد، ويحصل طقس التطهير هذا بالارتباط مع صعود المخلص، ولهذا السبب إن صعود الروح والتطهير بالماء المقدس والدخول إلى غرفة النور الزفافية، تشكل نظامًا من علاقات متبادلة معقدة، وهذا يعني أن شعيرة التطهير هذه ذات فكرة "مثيولوجية" قد ماثلت الشعيرة التي حدثت عند موت أحد المجتبين، ويعيد هذا إلى الذكرة ما يسمى بـ"الموت الجماعي" لدى المندعين، وهو عبارة عن تعميد يُقام في جماعة المصلين الممدعين للرجل الميت، ويتطابق مع القداس الأخير. ومن المحقق أن توارد هذه الأفكار وتعاطفها مع ما هنالك من صلة عضوية بين صعود الروح وتعميد التطهير والدخول إلى الغرفة الزفافية، موجود في الديانة المسيحية والغنطوسية والمندعية والمانوية، وهي تظهِر حشدًا للمفاهيم التي كانت قائمة قبل الديانة المسيحية، والتي تظهر بوضوح كبير داخل الديانة المسيحية ذاتها لدى السريان، وخاصة في الكنيسة النسطورية، وتشير حقيقة وجود هذه المفاهيم في النصوص المانوية بشكل أكيد إلى وجود طقوس تعميدية متطابقة، وذلك على الرغم من أن السمة الغامضة للإشارة تجعل من الصعب تكوين صورة دقيقة للطقوس كل على حدة. وينبغي التذكر أن "الكاثريين" في العصور الوسطى لم يمارسوا سوى تعميد الموت أو التطهير المسمى بمسح الأيدي، وكما لوحظ من قبل يقدم "بور" حجة مقنعة للاعتقاد بأن التعميد كان عملًا تكرسيًّا للمجتبين، وذلك أنه جرى تفسير الأدلة بشكل خاطئ، أو كان هناك نوعان للتعميد كان أحدهما للقبول في المجتبين، وهو المساوي للتعميد المسيحي، والآخر تعميد الموت أو التطهير، وهو المساوي لتلقي مسح شديد بالزيت، والذي لم يكن إذا تكلمنا عن الطقوس سوى شعيرة

تعمدية عند باب الموت، وتتم الإشارة في فصل مترجم من (القفالايا) وهو الفصل المائة والرابع والستون -الذي لم ينشر حتى الآن- إلى قداس من النوع الذي يزود به المريض وهو يلفظ أنفاسه، وهو وضع متناسب تمامًا مع تعميد الموت أو التطهير؛ لأن الفكرة هي أن الروح تزود بزاد لرحلتها إلى الآخرة، وهي فكرة شائعة على وجه العموم، وقد ظهرت دائمًا إلى حيز الوجود وبشكل فعال في نظام رمزي عرفاني على سبيل المثال في أغنية اللؤلؤة وأغاني مسكتة المندعية. ومن وجهة نظر طقوسية صرفة من الممكن أيضًا اعتبار طقس مسح الأيدي المانوي الذي أصبح المترهبون بواسطته أبناءً للكنيسة بمثابة بديل للتعميد، ولهذا السبب يمكن التخيل تمامًا أن المانويين مثلوا وأكملوا تكريس المجتبى بدون أيدي بالزيت فقط، ولم يعرفوا بالتالي إلا شكلًا واحدًا للتعميد أو التطيهر، هو ذلك التعميد الذي كان يتم قبل الموت. وفي النهاية ينبغي التبيان أنه لا يمكن إجراء تقويم مفصل إلى أن تتوفر نصوص جديدة، وذلك على الرغم من أن المادة الموجودة تشير بالفعل إلى وجود نوع من أنواع الطقوس التعمدية. الوليمة المقدسة، والعشاء الرباني: إذا كانت الشكوك الجديدة قد حامت حول التعميد بين المانويين، فإنها لا يمكن أيضًا أن توجد فيما يتعلق بالوجبة العقائدية، ومع ذلك إذا كان لهذه الوجبة أية أهمية مقدسة بالفعل، تبقى نقطة حولها شكوك كبيرة.

ومن الضروري أن نقول شيئًا ما في البداية عن العيد الذي جرت فيه هذه الوجبة التي عُرفت باسم الوليمة المقدسة، وهي التي جرى الاحتفالُ بها في نهاية الشهر الثاني عشر، أو نهاية شهر الصوم المانوي، وكان محور هذا العيد هو تذكّر وفاة "ماني" مؤسس الدين، والذي كان حاضرًا بشكل خفي، حيث تمت في مناسبة الاحتفال إقامة سرير من نوع مجلس القاضي، وهذا ما تعنية كلمة "بيوئا" الإغريقية، وكان مرفوعًا بخمس درجات، وتمت تغطية السرير بالسجاد حتى أصبح مركزَ استقطاب اهتمام جميع الحضور. ويلاحظ في هذا المقام أن المكان فارغ. الذي يرمز إلى وجود المعلم المتوفى يجد مكانه الموائم في الديانة البوذية، حيث عبرت المنصة الفارغة عن صعود بوذا إلى سماء الآلهة الثلاثة والثلاثين، ولا شك أن المانويين قد تبنوا تطوير هذا العيد عن البوذيين. وقال "أوغسطين": إن مجتمع المانوي قد احتفل بهذا العيد معتبرًا إياه بمثابة عيد رئيسي له، وذلك بدلًا من الاحتفال بعيد الفصح، وذكر من قبل الاستشهاد بالمقاطع الواردة، حيث ناقشت مسألة العشاء الرباني بين المانوية، كما أن الافتراءات التي ساقها "أوغسطين" كانت حاسمةً تمامًا من حيث تأكيدها في أنه كان هناك عشاء رباني مقدس، وتم التأكيد أخيرًا في كتاب (أعمال الأراكنة) بعدما جرى تأكيد وجود البراءة على أن المجتبى قد أكل الخبز الممنوح له بعد رحيل السماء، وصلى بعدما فرَغ من وجبته، ورشَّ رأسه بزيت الزيتون، وهو يردد بقصد التعويذ العجيب من الأسماء التي كانت مجهولة بالنسبة للسماعين، فليس من المدهش أن "أوغسطين" لم يكن قادرًا كسَمَّاع على تقديم أية تفاصيل بخصوص العشاء الرباني، وذلك عند رؤيته أنه قد جرى إحصاء السماعين، ومنعهم من حضور هذا العشاء المقدس.

ويمكن الافتراء بجميع هذه الأمثلة أنهم على الأرجح اهتموا فقط بالوجبة اليومية للمجتبين، والتي تشابهت مع القربان المسيحي المقدس، وبما أن هذه الوجبة قد خدمت في تطهير ذارت النور المحتجزة في النباتات بما في ذلك الخبز، يمكن القول بشكل موائم: أن هذا الطقس قد تضمن بدقة جميع العناصر الموائمة للقربان المقدسة، وبالنتيجة حصل العشاء الرباني المانوي بالطريقة نفسها لتحرير النور، أما بالنسبة للوجبة الطقوسية التي جرت بشكل معلن خلال الوليمة المقدسة، فهي تعني أنه لا بد وقد تم ربطها بسِمة مقدسة محددة، كما أن "الممانات" المانوية هي برهان على حدث من هذا النوع. وتعكس إحدى "الممانات" التي نشرها "لاكوك" مع تفسير بشكل واضح مشهدًا من المناسبة، وفيها: تتم مشاهدة السرير المذكور آنفًا في المنتصف يحيط به من اليمين واليسار المجتبون الجالسون في عدة نصوص، ويمكن أن نشاهد بسهولة ثمار البطيخ بين الفاكهة الموضوعة على حامل ثلاثي أمام السرير، والسرير مغطى بالسجاد، وفي الساحة المواجهة هناك طاولة مليئة بالخبز المصنوع من القمح، وأحد الكهنة راكع أمامها وهو يحمل كتابًا بيديه، وقد افترض أنه كان يشغل دور قائد الصلاة أو الترتيل، كما أن الشخصية الرئيسة هي شخصية الراهب الكبير، وكان جالسًا إلى يسار الحامل الثلاثي المملوء بالفاكهة، رافعًا يده اليسرى، مباركًا. وهكذا يوجد هنا بالفعل تصوير للوليمة المقدسة والعشاء الرباني، ومن المحتمل تصور العشاء الرباني على أنه نظير طقوسي لموضوع آدم "المثيولوجي" بعد استيقاظه حينما أطعمه يسوع من شجرة الحياة، أو حسب عبارة "فيدور برقونية": أيقظه وتركه يأكل من شجرة الحياة.

لقد تم التبيان من قبل أنه تم أيضًا اعتبار عناصر العشاء الرباني في الديانة المسيحية السريانية بمثابة فاكهة من شجرة الحياة، وبناء عليه يبدو أن هناك مسوغًا كافٍ لاعتبار هذه السمة "المثيولوجية" على أنها تلميح للقربان المقدس. وبالمناسبة جرى تمجيد كل من المسيح و"ماني" في الديانة المانوية على أساس اعتبار أنهما شجرة الحياة، وذلك مثلما جرى اعتبار المخلص في الديانة المندعية على أنه شجرة الحياة، وإذا ما قيل: بأن يسوع قد أيقظ آدم ثم أعطاه؛ ليأكل من فاكهة شجرة الحياة، أو بمعنى آخر: تركه يتناول الطعام من العشاء الرباني، لما وجب التغاضي عن أن التصريف السببي لأُقيم من قول، وهو فعل يقف، ربما اشتمل على إشارة طقوسية؛ لأن كلمة أيقظ أو ينقذ في لغة عبادة المندعين والغموطسيين المسيحيين المرقونيين تقابلها في الإغريقية "أرمو بوريل" وقد عنت ما عنته كلمة "يعمد" في اللغة الآرامية. زِدْ على هذا أن من المهم تبعًا للتقاليد المندعية قيام "هابيل زيوا" بتعميد أو تطهير آدم المخلوق الأول، حيث مسحه بالزيت ومنحه السرين المقدسين: بهتا، ومنبوها، وهابيل زيوا، أو هابيل المتألق في هذا المثال هو نظير تام لعيسو زيوا، أي: يسوع المتألق، كما أن سلوكه يتطابق تمامًا مع سلوك يسوع المتألق إزاءَ آدم في التقاليد المانوية، ولذلك يمكن الافتراض أن "سيودور بار قونية" يزودنا بإشارة لا تتناول الاحتفال المانوي بالعشاء الرباني فحسب، بل التعميد الذي كان منتشرًا بين المانوية كذلك. بهذا نكون قد أتينا على العقائد المانوية والتعاليم والأخلاق المانوية أيضًا. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 الديانة المانوية (4).

الدرس: 17 الديانة المانوية (4).

شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الديانة المانوية (4)) شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فنشير بإشارات مجملة سريعة -إن شاء الله تعالى- إلى الشريعة التي جاء بها "ماني" والفرائض التي فرضها. فرض "ماني" على أصحابه عشر فرائض على السماعين، ويتبعها ثلاثة خواتيم، وصيام سبعة أيام أبدًا في كل شهر، فالفرائض: هي الإيمان بالعظائم الأربع: الله ونوره وقوته وحكمته، فالله -جل اسمه- ملَك جِنان النور، ونوره الشمس والقمر، وقوته الأملاك الخمسة؛ وهي: النسيم والريح والنور والماء والنار، وحكمته الدين المقدس، وهو على خمسة معاني: المعلمين، وأبناء الحلم المستمعين، وأبناء العلم القسيسين، وأبناء العقل الصديقين، وأبناء الغيب السماعين، وأبناء الفِطنة. والفرائض العشر: ترك عبادة الأصنام، وترك الكذب، وترك البخل، وترك القتل، وترك الزنا، وترك السرقة، وتعليم العلم والسحر، والقيام بهِمتين، وهو الشك في الدين، والاسترخاء والتواني في العمل، وفَرْض صلوات أربع أو سبع، وهو أن يقوم الرجل فيمسح بالماء الجاري أو غيره، ويستقبل النير الأعظم قائمًا، ثم يسجد ويقول في سجوده: مبارك هادينا "الفرقريط" رسول النور، ومبارك ملائكته الحفظة، ومسبح جنوده، ومسبح جنود النيرون يقول هذا وهو يسجد، ويقوم ولا يلبس في سجوده، ويكون منتصبًا ثم يقول في السجدة الثانية: مسبح أنت أيها النير "ماني" هادينا، أصل الضياء وغصن الحياء. الشجرة العظيمة التي هي شِفاء كلها، ويقول في السجدة الثالثة: أسجد وأسبح بقلب طاهر ولسان صادق لله العظيم، أبي الأنوار عنصرهم، مسبح مبارك أنت وعظمتك كلها، وعالموك المباركون الذين دعوتهم تسبحك مسبح جنودك،

وأبرارك، وكلمتك، وعظمتك، ورضوانك، من أجل أنك أنت الإله الذي كله حق وحياة وبِر. ثم يقول في الرابعة: أسبح وأسجد للآلهة كلهم، والملائكة المضيئين كلهم، وللأنوار كلهم، وللجنود كلهم، والذين كانوا من الإله العظيم. ثم يقول في الخامسة: أسجد وأسبح للجنود الكبراء، وللآلهة النيرين الذين بحكمتهم طاعًا وأخرجوا الظلم وقمعوها. ويقول في السادسة: أسجد وأسبح لأَبي العظمة العظيم المنير، الذي جاء من العالمَيْن. وعلى هذا إلى السجدة الثانية عشرة، فإذا فرغ من الصلوات العشر ابتدأ في صلاة أخرى، وله فيها تسبيح لا حاجة بنا إلى ذكره. فأما الصلاة الأولى فعند الزوال، والصلاة الثانية بين الزوال وغروب الشمس، ثم صلاة المغرب بعد غروب الشمس، ثم صلاة العتمة بعد المغرب بثلاث ساعات، ويفعل في كل صلاة وسجدة مثلما فعل في الصلاة الأولى، وهي صلاة البشير. فأما الصوم فإذا نزلت الشمس القوس وصار القمر نورًا كله، يُصام يومين لا يُفطر بينهما، فإذا أهل الهلال صاموا يومين لا يُفطر بينهما، ثم من بعد ذلك يُصام إذا صار نورًا يومين في الجدي، ثم إذا أهل الهلال ونزلت الشمس الدلو، ومضى من الشهر ثمانية أيام، يُصام حينئذٍ ثلاثين يومًا، يفطر كل يوم عند غروب الشمس. والأحد يعظمها عامةُ المانوية، والاثنين يعظمها خواصهم، كذا أوجب عليهم "ماني".

وأما قول المانوية في الميعاد: قال "ماني": إذا حضرت وفاة الصديق أرسل إليه الإنسان القديم إلهًا نيرًا بصورة الحكيم الهادي ومعه ثلاثة آلهة، ومعهم الركوة واللباس والعصابة والتاج، وإكليل النور، وتأتي معهم البكر الشبيهة بنسمة ذلك الصديق، ويظهر له شيطان الحرص والشهوة والشياطين، فإذا رآهم الصديق استغاث بالآلهة التي على صورة الحكيم. والآلهة الثلاثة سيقربون منه، فإذا رأتهم الشياطين ولت هاربة، وأخذوا ذلك الصديق وألبسوه التاج والإكليل واللباس وأعطوه الركوة بيده، وعرجوا به في عمود السبح إلى فلك القمر وإلى الإنسان القديم وإلى النهنهة أم الأحياء، إلى ما كان عليه أولًا في جنان النور، ثم يبقى ذلك الجسد مُلقًى فتُجتذب منه الشمس والقمر والآلهة النيرون القوى التي هي الماء والنار والنسيم، فيرتفع إلى الشمس، فيصير إلهًا، ويُقذف باقي الجسد الذي هي ظلمة كلها إلى جهنم. فأما الإنسان المحارب القابل للدين والبِر الحافظ لهما وللصديقين، فإذا حضرت وفاته حضر أولئك الآلهة الذين ذكرتهم، وحضرت الشياطين، واستغاث بما كان يعمل من البر، وحِفظ الدين والصديقين، فيخلصونه من الشياطين، فلا يزال في العالم شبه الإنسان الذي يرى في منامه الأهوال، ويغوص في الوحل والطين، فلا يزال كذلك إلى أن يتخلص نوره وروحه، ويلحق بملحق الصديقين، ويلبس لباسًا بعد المدة الطويلة من تردده، فأما الإنسان الأثيم المستعلي عليه الحرص والشهوة، فإذا حضرت وفاته حضرته الشياطين، فأخذوه وعذبوه وأروه الأهوال، فيحضر أولئك الآلهة ومعهم ذلك اللباس، فيظن الإنسان الأثيم أنهم قد جاءوا لخلاصه، وإنما حضروا لتوبيخه،

الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ.

وتذكيره أفعاله، وإلزامه الحجة في ترك إعانته الصديقين، ثم لا يزال يتردد في العالم في العذاب إلى وقت العاقبة، فيُضحى به في جهنم. قال "ماني": فهذه الثلاث طرق يُقسم فيها نسمات الناس، أحدها: إلى الجنان وهم الصديقون، والثاني: إلى العالم والأهوال وهم حَفظة الدين، ومعينو الصديقين، والثالث: إلى جهنم وهو الإنسان الأثيم. كيف حال المعاد بعد فناء العالم، وصفة الجنة والجحيم؟ قال "ماني": ثم إن الإنسان القديم يأتي من عالم الجدي، والبشير من المشرق، والبناء الكبير من اليمن، وروح الحياة من عالم المغرب، فيقفون على البنيان العظيم الذي هو الجنة الجديدة وطيفين بتلك الجحيم، فينظرون إليها، ثم يأتي الصديقون من الجنان إلى ذلك النور، فيجلسون فيه، ثم يتعجلون إلى مجمع الآلهة، فيقومون حول تلك الجحيم، فينظرون إلى عملة الإثم يتقلبون ويترددون ويتضورون في تلك الجحيم، وليست تلك الجحيم قادرة على الإضرار بالصديقين، فإذا نظر أولئك الآثمون إلى الصديقين يسألونهم ويتضرعون إليهم، فلا يجيبونهم إلا بما لا منفعةَ لهم فيه من التوبيخ، فيزداد الأئمة ندامةً وهمًّا وغمًّا، فهذه صورتهم أبد الأبد. الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ وأنتقل إلى الكتب المقدسة عند المانوية: أسماء كتب "ماني": لـ"ماني" سبع كتب؛ أحدها فارسي، وستة سوري بلغة سوريا، وذلك كتاب (سفر الأسرار) ويحتوي على أبواب: باب ذكر الديصانيين، باب شهادة "يستاسف" على الحبيب، باب شهادة يوسف على نفسه ليعقوب، باب ابن

الأرملة وهو عند "ماني" المسيح المصلوب الذي صلبه اليهود، باب شهادة عيسى على نفسه في يهودا، باب ابتداء شهادة اليمين بعد غلبه، باب الأرواح السبعة، باب القول في الأرواح الأربعة الزوال، باب الضحكة، باب شهادة آدم على عيسى، باب الثقات عن الدين، باب قول الديصانيين في النفس والجسد، باب الرد على الديصانيين في نفس الحياة، باب الخنادق الثلاثة، باب حفظ العالم، باب الأيام الثلاثة، باب الأنبياء باب القيامة. كتاب (سفر الجبابرة)، كتاب (فرائص السماعين)، كتاب (فرائض المجتبين)، كتاب (الشابرقان) ويحتوي على باب انحلال السماعين، باب انحلال المجتبين، باب انحلال الخطاة. كتاب (سفر الأحياء)، كتاب (فرقماطيا). أسماء الرسائل التي لـ"ماني" والأئمة بعده: "رسالة الأصلين"، "رسالة الكبراء"، "رسالة هند العظيمة"، "رسالة هيئ البر"، "رسالة قضاء العدل"، "رسالة كسكر"، "رسالة فتق العظيمة"، "رسالة أرمينيا"، "رسالة أمونيا الكافر"، "رسالة طيسفون في الورقة"، "رسالة الكلمات العشر"، "رسالة المعلم في الوصلات"، "رسالة رحمان في خاتم الفم"، "رسالة خبراهات في التعزية"، "رسالة أمهاسم الطيسفونية"، "رسالة يحيى في العتق"، "رسالة طيسفون إلى السماعين"، "رسالة فافي"، "رسالة الهدي الصغيرة"، "رسالة سيس ذات الوجهين"، "رسالة بابل الكبيرة"، "رسالة سيس وفتق في الصور"، "رسالة الجنة"، "رسالة سيس في الزمان"، "رسالة سعيوس في العشر"، "رسالة سيس في الرهون"، "رسالة التدوير"، "رسالة آب التلميذ"، "رسالة آبا في الحكم"، "رسالة ميساء في النهار"، "رسالة الهول"، "رسالة آبا في الطيب"، "رسالة عبد يسوع في العصابات"، "رسالة الوصالات"، "رسالة شاير وساكني"، "رسالة آبا في

الزكاوات"، "رسالة حدابا في الحمامة"، "رسالة أفكوريا في الزمان"، "رسالة زاكو في الزمان"، "رسالة سهراب في العشر". "رسالة الكرح والعراب"، "رسالة سهراب في الفرس"، "رسالة أبراحيا"، "رسالة أبي يسام المهندس"، "رسالة أبراحيا الكافر"، "رسالة المعمودية"، "رسالة يحيا في الدراهم"، "رسالة أفعاندي في الأعشار الأربعة"، "رسالة أفعندي في السعدي الأول"، "رسالة سوء في ذكر الوسائل"، "رسالة يوحنا في تدبير الصدقة"، "رسالة السماعين في الصوم والنذر"، "رسالة السماعين في النار الكبرى"، "رسالة الأهواز في ذكر الملك"، "رسالة السماعين في تعبير يزدان بخض"، "رسالة مينق الفارسية الأولى"، "رسالة مينق الثانية"، "رسالة العشر والصدقات"، "رسالة أردشير ومنيق"، "رسالة سلم عنصرا"، "رسالة حطا"، "رسالة خبر هات في الملك"، "رسالة أبراحيا في الأصحاء والمرضى"، "رسالة أردد في الدواب"، "رسالة أجا في الخفاف"، "رسالة الحملان النيرة"، "رسالة مانا في التصليب"، "رسالة مهر السماء"، "رسالة فيروز وراسيل"، رسالة عبد بال في سفر الأسرار"، "رسالة سمعون وراميل"، "رسالة عبد مال في الكسوة". وهكذا نلاحظ أن أمثال هذه المذاهب تستشعر في نفسها الضعف، وتتوقع الانهيار في كل مكان وزمان، ولذا تحاول الاعتماد على كثير من الأتباع المخلصين الذين يقومون لها بالدعوة دائمًا، وأهم من هذا كله أن صاحب هذا المذهب يحاول تثبيت مذهبه بتأليف الكتب العديدة والرسائل المتنوعة التي تساعد على توضيح تعاليم الأستاذ في نفوس أتباعه، وفي أذهان بقية الناس، وقد فعل هذا إخوان الصفا، حيث ألفوا رسائلَ متعددةً، كل منها تمثل جانبًا من مذهبهم الباطني، وكل منها تغوص في التأويل الباطني أعمق من الذي سبقتها، وهذا شيء طبيعي بالنسبة لهذه المذاهب الضالة.

منهج الدخول في الدين: من رأي "ماني" أنه ينبغي للذي يريد الدخول في الدين أن يمتحن نفسه، فإن وجدها قادرةً على قمع الشهوة والحرص، وتَرْك أكل اللحمان، وشرب الخمر والتناكح، وترك أذية الماء والنار والسحر والرياء، فليدخل في الدين، وإن لم يلمس من نفسه القدرة على هذا جميعه فلا يدخل في الدين، وإذا كان يحب الدين ولم يقدر على قمع الشهوة والحرص، فليغتنم حفظ الدين والصديقين، وليكن له بإزاء أفعاله القبيحة أوقات يتجرد فيها للعمل والبر والتهجد، والمسألة والتضرع؛ لأن ذلك يقنعه في عاجله وآجله، وتكون صورته الصورة الثانية في المعاد. هذا؛ ومما يُذكر عن المانوية أيضًا مسألة التناسخ: حيث ظهرت بدعة التناسخ في خيال بعض الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم، وبإبطال البعث بعد الموت، وقالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد المختلفة، والصور المتعددة، كأن تُنقل روح الإنسان إلى حيوان أو روح الحيوان إلى إنسان!! كما زعموا أن من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر، وينطبق هذا عندهم على الثواب. وقد ذهبت المانوية أيضًا إلى اعتقاد التناسخ، مستندين إلى تعاليم "ماني" الذي يرى أن الأرواح التي تفارق الأجسام نوعان: أرواح الصديقين، وأرواح أهل الضلالة، أرواح الصديقين إذا فارقت أجسادها سرت في عمود الصبح إلى النور الكائن فوق الفلك، وتبقى في ذلك العالم على سرور لا ينقطع، أما أرواح أهل الخطايا والضلال فإنها إذا فارقت أجسادها، وأرادت اللحوق بالنور الأعلى

حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم.

رُدت منعكسةً إلى السفر، وبذلك تتناسخ في أجسام الحيوانات إلى أن تصفو من شوائب الظلمة، ثم تلتحق بالنور العالي. والسبب في انتشار عقيدة التناسخ في العالم اليوناني القديم هو "الأورفيا" التي كانت تمثل الجانب الخفي في الحياة العقلية لدى اليونانيين، وكذلك وردت هذه العقيدة عن "الفيثاغورية" و"الأفلاطونية المحدثة"، لقد كانت فكرة الخطيئة الأولى ذات تأثير بالغ الخطورة على الفكر الإنساني، فالإنسان الأول قد طُرد من الجنة بعد اقترافه الخطيئة، والبدن هو الذي دنس هذا الإنسان بعد أن كان موجودًا عقليًّا محضًا قبل ظهوره على الأرض، وقبل اتصاله بهذا البدن، فاتصال النفس بالبدن هو ثمرة الخطيئة، حيث إن سلوك النفس صار أقربَ إلى الشر منه إلى الخير، وكذلك ذهب بعض اليهود إلى التناسخ، زاعمين أنه وُجد في كتاب "دانيال" أن الله تعالى مسخ "بوختنصر" في سبع صور من صور البهائم والسباع، وعذبه فيها كلها، ثم بعثه في آخرها موحدًا. ومما يؤسَف له أن ظهرت هذه البدعة لدى بعض غلاة فرق الإسلام، مثل البيانية والجناحية والخطابية والرواندية من الروافض الحلولية، وفلاسفة الصوفية، فكلهم قالوا بتناسخ روح الإله في الأئمة بزعمهم!! حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم هذا؛ وقد اختلفت المانوية في الإمامة بعد "ماني": يزعم المانوية: أن "ماني" ارتفع إلى جنان النور، لكنه أقام قبل ارتفاعه "سَيْس" الإمام بعده، فكان يقيم دين الله وطهارته إلى أن توفي، وكان الأئمة يتناولون الدين واحدًا عن واحد، لا اختلاف بينهم. وظلوا على هذا الوفاق إلى أن ظهرت خارجة منهم يُعرفون بـ"الدينابورية" فطعنوا على إمامهم، وأعلنوا امتناعهم عن طاعته، وكان معلومًا بينهم أن الإمامة لا تتم إلا "ببابل" فلا يصح أن يكون إمام

في غيرها، وقد قالت "الدينابورية" بخلاف ذلك، ولم يزالوا عليه وعلى غيره من الخلاف الذي لا فائدة في ذكره. وظل الحال على ذلك إلى أن أفضت الرئاسة الكلية إلى "مُهر"، في ملك الوليد بن عبد الملك في زمن ولاية خالد بن عبد الله القسري بالعراق، وانضم إليه رجل يقال له: "زاد هرمز" فمكث عندهم مدةً، ثم فارقهم، مع أنه كان صاحب دنيا عريضة، لكنه تركها خارجًا إلى "الصديقوت" وزاعمًا أنه يرى أمورًا ينكرها، وقد أراد اللحوق بـ"الدينابورية" وهم وراء نهر "بَلْخ" ولما أتى المدائنَ كان بها كاتب للحجاج بن يوسف ذو مال كثير، كانت بينهما صداقة فشرح له حاله والسبب الذي أخرجه من الجملة، وأنه أراد خُراسان؛ لكي ينضم إلى "الدينابورية" فقال له الكاتب: أنا خراسانك، وأنا أبني لك البيع، وأقيم لك ما تحتاج إليه، فأقام عنده، وأنشأ يبني له البيع، وقد كتب "زاد هرمز" إلى "الدينابورية" مستدعيًا منهم رئيسًا يقيمه، لكنهم ردوا عليه: بأنه لا يجوز أن تكون الرئاسة إلا في وسط المُلك "ببابل"، فسأل عمن يصلح لذلك، فلم يجد سواه، فلما حضرته الوفاة سألوه أن يجعل لهم رئيسًا، فقال: هذا "مِقلاص" عقد عرفتم مكانه وأنا أرضاه، وأثق بتدبيري لكم. ولما مضى "زاد هرمز" أجمعوا أمرهم على تقديم "مِقلاص". وبذلك سارت المانوية فرقتين: المهرية، والمقلاصية، وقد خالف "مقلاص" والجماعة إلى أشياء من الدين، منها في أصلات، إلى أن قدم أبو هلال الديحوري من إفريقيا، وقد انتهت إليه الرئاسة المانوية، وكان هذا في زمن أبي جعفر المنصور، فدعا المقالصة إلى ترك ما رسمه لهم "مقلاص" في الوصالات، فأجابوه إلى ذلك، وقد ظهر من المقالصة رجل يُدعى "بزرمهر" فاستمال جماعة منهم وأحدث أشياءَ أُخر، فلم يزل أمره على ذلك، إلى أن انتهت الرئاسة إلى

أبي سعيد رحا، فردهم إلى رد المهرية في الوصالات، وذلك هو الذي لم يزل الدين عليه في الوصالات. وقد ظلوا على هذا الحال إلى أن ظهر في خلافة المأمون رجل منهم يُدعى "يزدن دخت" فخالف في الأمور ومالت إليه فئة منهم. وهناك أمور نقمتها المقالصة على المهرية، منها أنهم زعموا أن خالد القسري حمل مهرًا على بغل وختمه بخاتم فضة، وخلع عليه ثياب ووشي، وكان رئيس المقالصة في أيام المأمون والمعتصم أبو علي سعيد، ثم خلفه بعدُ كاتب ناصر بن هرمز السمرقندي، وكان من عادتهم أن يرخصوا لأهل المذهب والداخلين فيه أشياء محظورة في الدين، وكانوا يخالطون السلاطين ويواكلونهم، كما كان من رؤسائهم أبو الحسن الدمشقي، وقُتِل "ماني" في مملكة مهران بن سابور، ولما قتله صلبه نصفين، النصف الواحد على باب والآخر على باب آخر من مدينة "جندسابور". تنقل المانوية في البلاد: كانت المانوية من أول الأديان المدعاة التي دخلت بلاد ما وراء النهر، ويرجع السبب في هذا إلى أن "ماني" لما قتله كسرى وصلبه، وحرَّم على أهل مملكته الجدل في الدين، أخذ يقتل أصحاب "ماني" في أي موضع وجدهم، فاستمروا في الفرار منه إلى أن عبروا نهر "بلخ" ودخلوا في مملكة خان، فكانوا عنده، وخان بلسانهم -أي: بلغتهم- لقب يلقبون به ملوك الترك. وحين نزل المانوية بما وراء النهر إلى اندثر أمر الفرس وقوي أمر العرب، فعادوا إلى هذه البلاد خصوصًا في فتنة الفرس.

وفي عصر بني أمية كان خالد بن عبد الله القسري يعني بهم، إلا أن الرئاسة ما كانت تعقد إلا "ببابل" في تلك الديار، وكثيرًا ما كان الرئيس يمضي إلى حيث يأمن من البلاد، وقد انجلوا آخر ما انجلوا في أيام المقتدر، فإنهم لحقوا بخراسان؛ خوفًا على أنفسهم، ومن تبقى منهم ستر أمره مع تنقلهم في تلك البلاد. وقد اجتمع منهم بسمرقند نحو خمسمائة رجل فاشتهر أمرهم، فأرسل إليهم ملك الصين وأراد صاحب خراسان أن يقتلهم، فأرسل إليه ملك الصين يقول: إن في بلادي من المسلمين أضعاف ما في بلادك من أهل ديني، ويحلف له إن قتل واحدًا منهم قتل الجماعة به، وأخربَ المساجدَ، وترك الأرصاد على المسلمين في سائر البلاد، فقتلهم، ولهذا كَف عنهم صاحب خراسان، وأخذ منهم الجزية. وبعد هذه الأحداث قلوا في المواضع الإسلامية، لكن بقيت فلول منهم في مدينة "السند" أيام معز الدولة نحو ثلاثمائة. ومن رؤساء المانوية في الدولة العباسية، من هؤلاء الجعد بن درهم، وهو الذي يُنسب إليه مروان بن محمد فيقال: مروان الجعدي، وكان مؤدبًا له ولده، فاستطاع أن يقذفه في الزندقة، وقد تولى قتل الجعد هشام بن عبد الملك في خلافته، وذلك بعد أن طال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري، وكان أهل الجعد قد رفعوا قصةً إلى هشام يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد، فقال هشام: أهو حي بعد؟ وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى جاعلًا إياه بدلًا من الأضحية، بعد أن قال ذلك على المنبر بأمر هشام، وقد كان خالد يُرمى بالزندقة، وكانت أمه نصرانيةً. هذا، وقد كان بعض المتكلمين متهمين بهذه الزندقة من أمثال ابن طالوت، وأبي شاكر، وبشار بن بُرد، وسلم الخاسر، والبرامكة، إلا محمد بن خالد. أعاذنا الله تعالى، وقانا شر هذه المذاهب الضالة، والديانات الكافرة الفاسدة، ونسأل الله الهدايةَ إلى الحق، وأن يهدينا جميعًا سواءَ السبيل. وبذا انتهى هذا الفيلم الهندي أو الفيلم الأمريكي، لست أدري!! لكن الحمد الله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمةً، ونعوذ بالله أن عافانا من تلك العفانة. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة وبركاته.

الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1).

الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1).

أديان الفرس.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الديانة الزرادشتية (1)) أديان الفرس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فسنتحدث -إن شاء الله عز وجل- عن الزرادشتية. وبما أن المنهج يتناول الأديان الوضعية التي يدين بها معظم بلاد جنوب شرق أسيا وشرق أسيا، فتأتي هذه الديانة -التي هي من ديانات الفرس القديمة- في تلك المنطقة. يمهد للحديث عن الزرادشتية تحت عنوان: أديان الفرس: والفرس من الأمم ذات الحضارات العريقة والموغلة في القدم، وقد اهتم بدراسة آثار الفرس العديد من العلماء المتخصصين في العلوم المختلفة؛ لما لهم من سبق حضاري قديم تمثل في إقامة إمبراطورية تقاسمت السيطرة على العالم مع الدولة الرومانية بقسميها الشرقي والغربي، وقد قامت الحضارة الفارسية على دعائم عديدة حيث حازت على نظام سياسي وإداري كامل، نشط فيها العلماء والمفكرون في عدد من الاتجاهات، وقد تم فتح بلاد فارس ودخلت في الإسلام في عصر أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصارت جزءا من الخلافة الإسلامية، وقد اهتم علماء الأديان بدراسة أديان الفرس القديمة بعدما وجدوا أنفسهم أمام دين متكامل الجوانب، شامل للعقيدة والشريعة والسلوك الأمر الذي يعطي لهذا الاهتمام ضرورة معينة من أجل المعرفة. ومن خلال دراستنا سنتناول القضايا التالية: تعريف مصادر أديان الفرس، التعريف بزرادشت، التعريف بجوانب الدين كما وضحتها المصادر، مناقشة آراء العلماء واتجاهاتهم في نشأة الدين عند الفرس وتطوره؛ وذلك كله في إيجاز وتركيز مع المحافظة على إعطاء صورة متكاملة عن أديان الفرس منذ الزمن القديم على النحو التالي: أولًا: مصادر أديان الفرس: برغم أن أديان الفرس ذات تاريخ قديم فإن كتبها المقدسة التي توضح الدين وتفصل جوانبه لم تعرف إلا على يدي زرادشت، فلقد أحياها وشرحها ودعا الناس إليها ولذلك نجدها لا تعرف إلا به، ووصل الأمر ببعض العلماء أن جعلوه مؤسس الدين الفارسي، وبدؤوا بحثهم في أديان الفرس من زمن هذا الحكيم الكبير، والمصادر الدينية عند الفرس مجموعة من الكتب يضمها كتاب واحد يعرف بالفستا، وهو الكتاب الرئيس للدين الفارسي ومعناه في العربية النص الأصلي ويطلق عليه العرب اسم الأبستاق، وقد ظل هذا

الكتاب يتداول شفويا طيلة قرون عديدة باللغة الفهلوية القديمة، والكتاب في الجملة يؤرخ للفرس ودينهم وأدبهم بلا ترتيب زمني، ويشتمل الكتاب الموجود في العصر الحديث على ثلاثة أقسام أو فصول هي: القسم الأول: أوامر الشريعة: ويتناول حديث الإله أهورامزدا إلى زرادشت حيث يعلمه أوامر الشريعة تفصيلا، كما يتناول قصة خلق العالم وتكوينه ويبين بعض النظم الاجتماعية، ويسمى هذا القسم الفنديداد. القسم الثاني: الطقوس الدينية: ويتناول توضيح الطقوس الدينية، وهي عبارة عن تراتيل وصلوات خاصة برجال الدين الفارسي، وتلاوة هذا القسم لا تحتاج إلى جمهور يسمعها ويعرف هذا القسم بالفسبرد القسم الثالث: تمجيد الملائكة والأخلاق: ويتناول تمجيد الملائكة ويتحدث عنهم كآلهة صغار، كما يتناول بيان الصلوات وشعائرهم الدينية، وهذا القسم له اهتمام خاص لدرجة أن البعض يعتبره الجزء الذي لم يحرف من الفستا، ويعرف هذا القسم بالفاستا، وقد دارت حول الفستا أساطير كثيرة نقلها بعض العلماء على أنها حقائق مسلمة، من هذه الروايات أنه كتب في اثني عشر ألف مجلد من جلود البقر والثيران والماعز، وأنه كتب حفرا على الجلد ونقشا بالذهب وأنه حفظ في حوافظ كبار رجال الدين الفارسي مع كتابته على النحو المذكور.

الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور.

والذي يجعلنا نلحق هذه المعلومات بالأساطير شبه الإجماع عند علماء الأديان على أن الفستا لم تدون طيلة عدة قرون، كما أن التسليم بهذه الروايات يؤدي إلى عدم ضياعها وتحريفها، بينما المعروف أن أكثر من ثلاثة أرباعها قد فقد. إن أي كتاب ينال هذا الاهتمام حفظا وتدوينا كفيل باستمراره مع الزمن، وبخاصة أنه وجد بين دولة تقدسه وأمة تدين به لكن الثابت عدم استمراره، مما يؤكد أن الروايات المذكورة مبالغ فيها وبعيدة عن الواقع. وقد اهتم علماء الدين الفارسي بشرح الفستا وإحاطته بالحواشي التي تشرحه وتفصله وتبين شرح شرحه، وذلك واضح من (الزند) وهو كتاب يشرح الفستا وقد ألف بعد الفستا بمدة طويلة و (البازند) وهو شرح لـ (الزند) و (الإياردة) وهو شرح لـ (البازند) وهذه الشروح كتبت باللغة الفهلوية لغة الفرس القديمة وترجمها العلماء في العصر الحديث إلى عدد من اللغات الحية مع ترجمة الفستا، والعلماء المحدثون يرون أن أهم ما يوضح العقيدة الدينية للفرس هو كتاب التراتيل المعروف باسم الياسنا وهو القسم الثالث من الفستا، ويرون أنه يتضمن العناصر القديمة للزرادشتية ويحتوي على أقوال زرادشت، لهذا نجد العلماء يهتمون بدراسة هذا القسم وتحليله أكثر من غيره. الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور من هو زرادشت؟ اختلف علماء الدين في حقيقة شخصية زرادشت فمنهم من يرى أنها شخصية أسطورية لا وجود لها في الحقيقة، وقد صنعها الكهنة ورجال الدين الفارسي في خيال الناس وثنايا الكتب؛ من أجل تدعيم عملهم وتحقيق مكاسب لهم

ولذويهم، وعلى هذا الرأي فكل ما روي على لسان زرادشت اختلاق وتأليف سواء أكان منبعه دينا قديما أم وضعا بشريا محددا، والقائلون بهذا لا يجدون دليلا حقيقيا على ما ذهبوا إليه وكل ما يستدلون به ما يروى عن نشأة زرادشت وحياته، حيث يرون تشابها بين ذلك وبين أحداث تعرض لها رسل الله من أمثال إبراهيم وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مما يدل على محاولة إلباس زرادشت ثوب الرسل. وهذا الرأي لا يصح التسليم به لقيامه على الفرض المجرد من الدليل بينما الموضوع له أهميته، التي لابد لها من البراهين القوية والأدلة الساطعة، وأيضا فإن المكتشفات العلمية الحديثة تؤكد بطلان هذا الرأي، ومن العلماء من يرى أن زرادشت شخصية حقيقية وأنه كان رسولا مبعوثا، ويزعمون أنه هو إبراهيم -عليه السلام- الذي ورد ذكره في الكتب السماوية التوراة والقرآن الكريم، ويستدل هذا البعض بما ورد في سيرة زرادشت من أحداث تشبه بعض معجزات إبراهيم -عليه السلام- وبعض الأحداث التي حدثت معه مثل نجاة إبراهيم -عليه السلام- من النار بعد أن ألقي فيها، ومثل تأمله -عليه السلام- في الكواكب والنجوم ومثل دعوته إلى الإيمان بالواحد الخالق لكل هذه الظواهر ولجميع المخلوقات. وهذه الأدلة لا تثبت مدعاها؛ لأن التشابه بين شخصين أو أكثر في بعض الأحداث أمر ممكن، كما أن من أحداث سيرة زرادشت ما يشبه بعض ما حدث مع موسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مثل البشريات والإرهاصات العديدة التي جاءت لأمه أثناء مولده، ومثل نجاته بصورة معجزة من محاولات قتله المتكررة ومثل انتصاره على السحرة وإعجازه، ومثل هذا

التشابه جائز من غير أن يكون الشخصان شخصا واحدا، كما أن في إثبات هذه المعلومات شكا يجعل المرء يقف أمامها كأخبار لا دليل عليها. ومن الحقائق الدينية أن الرسالة الإلهية تحتاج إلى برهان إلهي يؤكدها، وقد حدد القرآن الكريم أسماء خمسة وعشرين رسولا ليس منهم زرادشت، وأيضا فإن الأدلة الثابتة تؤكد أن زرادشت ليس هو إبراهيم -عليه السلام- لأن إبراهيم -عليه السلام- نشأ في بلدة أور ببلاد الكردان بينما زرادشت ولد بأذربيجان، ولأن إبراهيم -عليه السلام- رحل إلى مكة بينما زرادشت لم يرحل إلى بلاد الحجاز ولم تكن له بها صلة، ولأن إبراهيم تزوج من سارة وهاجر بينما زرادشت تزوج من امرأة واحدة هي هافوين، ولأن إبراهيم -عليه السلام- ظهر في القرن السابع عشر قبل الميلاد بينما ظهر زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وكل هذا يؤكد أن زرادشت شخصية حقيقية وليس هو سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وليس هو من الرسل الآخرين، فلقد عرفوا جميعا بأسمائهم وحقيقتهم وإذا ثبت هذا فمن يكون زرادشت. نقول: ولد زرادشت في مدينة أذربيجان الواقعة غربي بحر قزوين في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ويروى أن أباه كان يرعى ماشيته ذات يوم إذ تراءى له شبحان نورانيان اقتربا منه وقدما له غصنا مقدسا، وأمراه أن يحمل الغصن ويقدمه لزوجته لأنه يحمل في كيانه الطفل الروحاني فصدع أبوه بالأمر فحملت زوجته ليلتها به، وبعد خمسة شهور من الحمل أتت لأمه البشارات المتتالية، وعندما ولد لم يبك كسائر الأطفال وإنما قهقه بصوت عال اهتزت له أركان

البيت وهربت الأرواح الشريرة، وارتعد كبير السحرة فرقا لأنه يعلم أن هذا الوليد سيقضي على السحرة والكهان ويخرجهم من البلاد. وقد تعرض زرادشت لمحاولات متعددة من السحرة لقتله بأن ألقي في طريق قطيع كبير من الماشية لتدوسه، لكن بقرة أسرعت نحو الطفل ووقفت فوقه تحرسه حتى مر القطيع، وألقي في وكر الذئاب لتأكله أو ليموت جوعا لكن الذئاب تسمرت وأقبلت عنزتان ودخلتا الوكر معه لترضعاه، ولما بلغ زرادشت السابعة من عمره أرسله أبوه إلى حكماء الفرس يتعلم منهم ويتلقى الحكمة، واستمرت هذه الفترة ثمانية أعوام تزوج خلالها وعشق مهنة خدمة المرضى وعلاجهم. ولم تكن مصاحبة آلام الناس وأحزانهم النهاية في نشاط زرادشت، بل إنها كانت البداية حيث أخذ يتساءل ويبحث عن مصدر الشرور والمتاعب، ويعجب من عدم سيطرة الخير على كل شيء وقرر هجر زوجته والانقطاع للتأمل والبحث فوق جبل سابلان، وذات يوم أدرك من تأمله في الليل والنهار أن العالم يضم الخير والشر كما يضم الليل والنهار، وهكذا في صورة مستمرة من غير طغيان أحدهما على الآخر، ومع اكتشافه لهذه الحقيقة سأل نفسه لماذا خلق الخير والشر معا ولم يدم به التساؤل طويلا، فلقد أتاه كبير الملائكة وقاده إلى الله تعالى أهورامزدا إله النور الأعظم الذي يحيط به ضياء عظيم، حيث تلقى كلمات الحق والحقيقة وتعلم أسرار الوحي المقدسة واستمع إلى أمر النبوة، ونزل زرادشت من الجبل حاملا رسالة الله للإيرانيين ومعه كتاب الوحي، لكنه قوبل بالإعراض والصدود من قومه ومن عشيرته الأقربين. وقضى في دعوته عشر سنوات متحملا الأهوال صابرا على الأذى محتسبا ذلك عند أهورامزدا، الذي ظل يؤيده ويقوي عزيمته ويثبت عقيدته بالوحي المتوالي

ويقال: إن الله كلمه شفاهة وظهر له كبار الملائكة، وبعد أن جاوز عمره الأربعين آمن أخوه بدعوته وأخبره بأنه يدعو بأفكار صعبة لا يفهمها إلا المتعلمون والخاصة، فبدأ زرادشت لساعته يدعو المتعلمين والخاصة مبتدئا بالملك قشتاسب والملكة والأمراء المقيمين في بلخ، وعقد الملك مناظرة بين حاشيته وبين زرادشت حتى تبين له صدق الدعوة فآمن به واتبعه. لكن الكهنة دبروا مؤامرة كاذبة لزرادشت أدت بالملك أن يسجنه بتهمة السحر والشعوذة، وحدث أن جواد الملك أصيب بمرض غريب أدى إلى تقلص قوائمه الأربعة ودخوله في بطنه ولم يعد يظهر منها سوى الأطراف، وجمع الملك أشهر الأطباء لعلاج الجواد لكنهم عجزوا وأصيبوا بالحيرة أمام هذا المرض العجيب، وبلغ الخبر زرادشت وهو في السجن فأرسل إلى الملك وأخبره أنه يمكنه علاج الجواد فجيء به على الفور، فلما حضر طلب من الملك شروطا تتحقق إذا أبرأ الجواد فقبل الملك ونفذ الشروط بالفعل، فآمن به حينما برأت ساقه الأمامية اليمنى وآمن ابنه حينما برأت ساقه الأمامية اليسرى، وآمنت الملكة مع شفاء الساق الثالثة، وحاكم الملك المتآمرين على زرادشت بعد شفاء الساق الرابعة. ومضت الأيام والخوارق تظهر لزرادشت حتى تم له النصر وانتشرت دعوته في إيران بمساعدة الدولة، وعلى رأسها الملك والأمراء، وبعدها اتجه زرادشت بدعوته إلى مملكة توران التي رفضت الدعوة واشتبكوا في حرب مع الإيرانيين، وحاصروا مدينة بلخ واستولوا عليها وأقبلوا على زرادشت وهو يصلي في المعبد وطعنوه في ظهره فسقط صريعا ومعه عدد كبير من الكهنة، وكان ذلك في سنة ثمانمائة وثلاث وخمسين قبل الميلاد تقريبا وعمره سبعة وسبعون عاما.

ولكن هل يعتبر زرادشت رسولا من الله تعالى لقومه على نحو ما سمعنا في قصته؟ هنا يختلف علماء الأديان حيث يذهب البعض إلى التسليم بسائر ما رويناه في نشأته، ويروي ما فيها من إرهاصات ومعجزات، وقيام زرادشت بدعوة قومه إلى توحيد الإله المسمى أهورا مزدا دليلا على رسالته ونبوته، ويمثل هذا الاتجاه الأستاذ حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت الحكيم بين قدامى الإيرانيين) حيث يقول: "إن هذا الرجل إذا قيس بمقياس التاريخ وجب أن يعد في صف كبار الأنبياء الذين ظهروا في شتى البيئات والعصور، وأرشدوا الناس إلى طريق الحق والخير لما عرف عنه من دقة استقامة وشدة إخلاصه لربه وتفرغه لتقديسه، وقوة إيمانه برسالته وشدة تحمسه في نشر دعوته". والكاتب يبين أهم الأسباب الدافعة إلى القول بنبوة زرادشت، ويوجزها في المعجزة ونزول الوحي والدعوة إلى الإيمان بإله واحد هو أهورمزدا أي أنا خالق الكون، يقول الشهرستاني: "ودين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث. ومن أقوال زرادشت: النور والظلمة أصلان متضادان وهما مبدأ موجودات العالم وحصلت التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة، لكن الخير والشر إنما حصلت لامتزاج النور والظلمة والباري هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة".

ويشير الشهرستاني إلى ما ينسب إلى زرادشت من معجزات ومنها دخول قوائم فرس كشتاسب في بطن الفرس، وإطلاق زرادشت لها بعد أن عجز الأطباء، ومنها أنه مر على أعمى فوصف لقومه حشيشة عصروا ماءها في عين الأعمى فبرئ لتوه، وعلى هذا الاتجاه صار الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله) وقد سلم به ابن حزم بدون قطع وهو يعتبر أهل فارس أهل كتاب بصورة عامة، ويستدل على هذا بأخذ الجزية منهم وهم المجوس. هذا؛ وهناك فريق آخر يرى أن زرادشت لم يكن رسولا مبعوثا من الله، وأن دعوته عبارة عن محاولة تطوير المجوسية القديمة، وتنقيتها من بعض تعاليمها التي بان فسادها بسبب الرقي العقلي، أو بسبب الاتصال بأصحاب الديانات الأخرى. يستدل أصحاب هذا الاتجاه بأن ما روي عن حياة زرادشت من معجزات وخوارق هي فعل الكهنة ومن الأساطير التي روجها العامة، كما أن دعوة زرادشت يشوبها الشرك وتعدد الآلهة لأنها تقدس الناس وتدعو لعبادتهم، كما أنها تنظر إلى أهورا مزدا أو أميرمن على اعتبار أنهما إلهان اثنان. وبالنظر في هذين الاتجاهين نلمح ضعف الرأي الثاني، حيث لا دليل معه حول ما يزعمه من أسطورية نشأة زرادشت، كما أن الشرك وتعدد الآلهة وعبادة النار وجدت في المجوسية وهي ليست دعوة زرادشت. إن المجوسية لون من ألوان الشرك ظهر منذ فجر التاريخ وقد انتشرت في ممالك فارس القديمة، وتمكنت من أن تحرف دعوة زرادشت بعد وفاته، والذي ننبه عليه هنا هو أن المجوسية ليست هي الزرادشتية هذا من جهة، ومن جهة ثالثة لا نؤيد الرأي الأول على إطلاقه لضياع أغلب كتب الزرادشتية، كما أن البعض الباقي

يداخله شك كبير في إثبات صحة نسبته لصاحبه كما لا ننكره على إطلاقه أيضا؛ لأن إرسال الرسل في سائر الأمم أمر مقرر شرعا عند أصحاب الرسالات، ومن الجائز أن يكون زرادشت واحدا من هؤلاء الرسل. إن الدعوة الإلهية تتضمن بشكل رئيسي الدعوة إلى الله الواحد الأحد المتصف بكل كمال يليق به الخالق لكل شيء، وتتضمن القيام بعبادات ونسك لهذا الإله، كما تشتمل على الأخلاق الفاضلة والتعريف باليوم الآخر بما فيه من حساب. إن أي دعوة تتضمن هذا هي دعوة رسول مرسل، فإن كان الرسول قد ذكر في الكتب السماوية نؤمن برسالته ونصدق بدعوته، وإن لم يرد ذكره في الكتب السماوية فإننا نتوقف مكتفين بالتسليم المجمل في قضية الإيمان بالمرسلين، وقد قال تعالى عن أنبيائه ورسله: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فلعل زرادشت هذا ممن لم يقصصه الله عز وجل علينا، وعلى الجملة فإن الأولى هو التوقف في القطع برسالة زرادشت مع الاكتفاء بدراسة تعاليمه، كما وردت عند العلماء والإحاطة بما ذكر في هذا المجال. كان هذا عن زرادشت واختلاف الناس حوله؛ فماذا عن الزرادشتية؟ نقول: عرف الفارسيون منذ القديم وقبل زرادشت بزمن سحيق الدين، ولكنه كان دينا قائما على تقديس الطبيعة واتخاذ مظاهرها آلهة يعبدونها، وكانت تصوراتهم الدينية لا تزيد عن الأمل في نماء الزرع ووفرة الخير والبركة، وقد ألهوا من بين ما ألهوا التماثيل والأصنام ووظفوا لخدمتهم الرهبان والكهنة، الذين أصبحوا طبقة مميزة عن سائر الإيرانيين جعلتهم يزعمون للناس وساطتهم الحتمية لمن يتقرب للآلهة.

وهكذا كانت فكرة قدامى الإيرانيين عن الدين وهم قدامى المجوس الذين اتبعوا المجوسية، وجعلوها دينا لهم وهم الذين كانوا قبل زرادشت، والمعلومات عن هذه الفترة تعتمد على الظن في أغلبها لعدم تدوينها وحفظها بطريقة ما، وجاء زرادشت وظهرت الكتب المقدسة مفصلة جوانب دين عرف بدين الفرس أو بالزرادشتية، نسبة لهذا الحكيم الذي له الفضل الأكبر في نشره بين الإيرانيين، يقول "جيمس هنري برستد": "الزرادشتية من أنبل الديانات التي ظهرت في العالم القديم حيث دعت كل إنسان، وأهابت به أن يختار أحد الطريقين إما أن يملأ قلبه بالخير والنور أو ينغمس في الشر والظلمة؛ ليلاقي جزاءه ويحاسب على ما آتاه". فما أركان هذه الديانة إذا؟ تتحدث الفستا وشروحها عن جوانب الدين الفارسي كما دعا إليه زرادشت بالتفصيل، وتحدد أهم معالمه وهي كما يلي: 1 - الإيمان بالإله الواحد: تدعو الزرادشتية إلى الإيمان بإله واحد قديم أزلي مجرد من الشهوات لم يولد ولن يموت، وأقوى الناس يشعرون بضعفهم أمامه ولا يقدر على إدراك حقيقته عقل بشري، ومن أجل أن يتمكن الناس من تصور هذه القوة الغيبية فقد رمز لهذا الإله برمزين ماديين مشاهدين هما الشمس والنار، فالشمس في السماء تمثل روح الإله في صورة يستطيع الإنسان إدراكها لما امتازت به من صفات؛ كالإشراق وبعث الدفء والسمو عن نزعات الشر ومجاله، والنار في الأرض

هي العنصر الذي يمثل للناس قوة الله العليا فهي قوة مطهرة نقية نافعة. ويسمى هذا الإله أهورا مزدا ومعنى هذا الاسم أنا الله الخالق. ومما يدل على هذه العقيدة من نصوصهم قول زرادشت: "إلى أي أرض أفر إلى أي اتجاه يكون المهرب إلى النبلاء والسادة وهم يقاطعونني، أم إلى الناس وهم غير راضين عني أم إلى حكام الأرض الخونة، كيف أبلغ رضاك يا أهورا مزدا أجأر إليك لتكون لي عونا يعطيه صديق لصديقه، وعلمني بالحق كيف أحظى بالفكر الخير". وهذا النص يشير فيه زرادشت إلى ربه القادر حيث يتوجه إليه بالشكوى ويطلب منه العون، وقد أورد الشهرستاني مساءلات جرت بين زرادشت وبين الإله أهورا مزدا، تبين أن دين الفرس قائم على أن الله واحد. قال زرادشت: "ما الشيء الذي كان ويكون وهو الآن موجود؟ قال الإله: أنا والدين والكلام أما الدين فعامل أهورا مزاد، وأما الكلام فكلام". وصارت بقية الأسئلة والأجوبة حول حكمة خلق الكون وعن أصل الخلق وعن الرسالات السابقة وعن ملائكة الوحي. ويبدو أن المراد بالفكر الخير في كلام زرادشت يعني أحد هؤلاء الملائكة العظام، وتبدو وحدانية الله عند الزرادشتيين من العهد الذي يجب أن يأخذه الزرادشتي على نفسه وفيه يقول: "لن أقدم على سلب أو نهب أو تخريب أو تدمير ولن آخذ بالثأر وأقر أني أعبد الإله الواحد أهورا مزدا، وأني أعتنق دين زرادشت وأقر أني سألتزم التفكير في الخير والكلام الطيب والعمل الصالح، ومن المسلم أن الله الواحد الخالق قد أوجد عديدا من القوى المخلوقة وفق حكمة معينة، ومنها قوة الخير وقوة الشر". وإليهما ترمز الزرادشتية بالنور والظلمة النور رمز الخير ويطلقون عليه اسم شترا والظلمة رمز الشر ويطلقون عليه اسم أهرمان.

وتؤكد النصوص أن هاتين القوتين عنصران أساسيان في قوام الحياة، أوجدهما الإله الخالق لينشط كل منهما من مجال خاص به، كما جاء في الياسنا الثلاثين ما يلي: "في البداية الروحان اللذان هما توأمان أحدهما الخير والآخر الشر في التفكير وفي الكلمة وفي الفعل، وبين هذين العاقل يحسن الاختيار وليس كذلك الأحمق، وعندما يرتد أحد الروحين على الآخر يعلمان أساس الحياة لا الحياة، وفي النهاية تكون أسوأ الأحوال للأنذال ولكن للأخيار الفكر الخير من هذين الروحين يختار الشر لعمل السيئات، ولكن الروح القدس يكون بجانب العدالة ويعمل آنئذ كل ما من شأنه أن يرضي الله الحكيم بالأعمال الخيرة". وهذا النص صريح في أن قوة الخير وقوة الشر ليست محددة في شيء مادي معين، لكن يرمز لهما بشيء معين وأنهما من خلق الله وأمجاده، وبعد وفاة زرادشت دخل التغيير والتحريف في هذه العقيدة الموحدة، فظهر من قال بأن هناك إلهين هما إله النور وإله الظلمة، ثم قدست النار وعبدت وأقيمت لها المعابد والبيوت، وأصبحت الديانة الفارسية بعد هذا التحريف تعرف بالمجوسية، ذاك الاسم القديم الذي عرفت به أديان الفرس قديما، وأشهر المحرفين في الزرادشتية ماني ومزدك وديسطاي ومرقيون، وقد عرف الشهرستاني معتقداتهم بالتفصيل وسوف نجملها بعد الانتهاء من الزرادشتية إن شاء الله تعالى. 2 - الإيمان باليوم الآخر: تدعو الديانة الزرادشتية إلى الإيمان بالآخرة حيث يحاسب الإنسان على ما عمل قبل الموت؛ لينال جزاءه العادل في الجنة أو في النار، وتبين الزرادشتية منزلة النبي فيها في الآخرة فتذكر أن بيده تقرير المصير لأخطاء الناس،

ومن الياسنا الفقرة الرابعة والأربعين نقرأ: "حقا إنه هو النبي المرسل الذي توضع لروحه الساحرة كل خطايا البشر، ومع ذلك فدأبه كصديق تحيا به عوالم الحياة من جديد". ويلاحظ أن النص وهو يثبت هذه المنزلة لزرادشت لم يوضح سببها وهل تكون في منزلة الشفاعة أو في صورة أخرى، المهم أن عقيدة الفرس تدعو إلى الإيمان باليوم الآخر. ويلاحظ كذلك أن للمتزوجين منزلة أعلى من العزاب وأن من له بيت وأسرة أفضل في الآخرة ممن لا أسرة له، وتعتبر أكبر الكوارث التي تحل بالرجل أن لا تكون له ذرية، ويذكرون أن أول سؤال يحاسب عليه الميت يدور في هذه المسألة، ولا يفترق تصور العقيدة الزرادشتية لما يحدث في اليوم الآخر عن التصور الإسلامي إلا في مسائل قليلة، فعقيدة الفرس أن الميت يحاسب عقب موته وعندهم أن الموتى يبعثون من رقادهم حينما تقوم الساعة، ويحشرون في مكان للحساب، وعندهم أن الجنة والنار منازل عديدة، ويختلفون عن التصور الإسلامي في أن الشقاء والسعادة في الآخرة تلحق الروح فقط، وفي أن الجنة تقع في أقصى شرقي جبال البرزخ حيث يتخيلون الجبل عاليا إلى مستوى النجوم، وعلى الجملة فإن العقيدة الزرادشتية تؤمن بالآخرة وما فيها. الأمر الثالث: يتعلق بالعبادات، يقوم الزرادشتي بعبادات معينة يؤديها للإله أهورا مزدا، وأهم العبادات مجموعة من الأدعية يتلوها وهو يناجي الإله أو الملائكة أو الأرواح الهائمة، ودور العبادة تعرف بالهيكل حيث تقام الصلوات فيها خمس مرات في اليوم،

والهيكل على صورة دائرة في وسطه تقاد النار التي يتجه إليها الناس في صلواتهم التي يؤدونها في أوقات مرتبطة بحركة الشمس، كالشروق والزوال والغروب، والصلاة عبارة عن أقوال معينة يرددها المصلي وهو متجه إلى النار في ثبات. والأقوال هي: "أرجو منك أيها الرب الخالق المطلق القدير أن تغفر لي ما ارتكبت من سيئات وما دار بخلدي من تفكير سيئ، وما صدر عني من قول أو عمل غير صالح. إلهي أرجو منك أن تباعد بيني وبين خطاياي حتى أحشد يوم الدين مع الأطهار الأخيار". وفي مجوسية الفرس المتأخرة نلحظ تقديسا وتعظيما للنار، فلا ينبغي للنار أن تطفأ ولا يوقع عليها ماء ولا تصلها أشعة الشمس والبيت الطيب هو الذي توقد فيه نار ولا يخلو معبد منها، وكانت المعابد تسمى بها وتعرف باسم هيكل النار، ورجال الدين الفارسي يسمون بالموابذة وعملهم الوعظ والتدريس والتعليم، ولهم منزلة كبيرة في المجتمع ولهم معاونون يعرفون بالموابذة، وهو معينون لإقامة الشعائر في المعابد وحراسة النار والمحافظة عليها. وهذا نص ننقل ترجمته الحرفية من الياسنا الفقرة الرابعة والأربعين، يوضح جوانب العقيدة الزرادشتية وهو على صورة حوار بين زرادشت وأهورا مزدا: "عن هذا أسألك يا أهورا مزدا فأين لي الجواب من كان عند الخلق أول أب للحق؟ من رسم للشمس والنجوم طريقها إذا لم تكن أنت فمن قرر نماء وشحوب القمر؟ أريد أن أعرف هذا أيها الواحد الحكيم عن هذا أسألك فأين لي الجواب؟ من أقر الأرض تحت والسماء من فوق بسحابها لا تتحرك ومن أسرج للريح جيادها عن هذا أسألك فأين الجواب؟ أي صناع خلق الضياء والظلام أي صناع خلق النوم واليقظة؟ من خلق الصبح والضحى والأمسية عن هذا أسألك

فأين لي الجواب؟ من شرع العبادة مقدسة مع الملكوت. ويتحتم على المرء أن يسترشد بالدين وبالعبادة وهي جميعا تجعل العابد في هناء عن هذا أسألك فأين الجواب؟ هل سأصل بعونك إلى هدفي هل سأحظى ثوابا من الحق الآلهة الزائفة؟ هل هي آلهة حقا؟ ". وهذا النص يبين عقيدة الزرادشتيين في الإله والعبادة والثواب بصورة مجملة. رابعا: الشريعة والأخلاق: تهتم الديانة الزرادشتية بالشرائع والأخلاق وبخاصة في الشروح التي تعلقت بالفستا، ومن أهم هذه النظم العمل والإنتاج والإنتاج الزراعي وتربية الماشية، كما تحث على النظام والنظافة وصيانة النفس والوطن، كما تدعو إلى مجموعة من فضائل أخلاقية التي أساسها الفكر الطيب والكلم الطيب والعمل الطيب، وفي نصوص الفستا دلالات واضحة على الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتحلى بها من يدخل في دين زرادشت. هذه أهم أركان الدين الفارسي كما جاءت في مصادره المقدسة. ومما تشعب عن ديانة زرادشت الديانه المانوية والمزداكية مأخوذة عن ماني ومزدك، حيث ظهر ماني ومزدك في بلاد فارس وقد نادى كل منهما بدعوة خاصة دينية في إطار الزرادشتية إيجابا أو سلبا، وتعد هاتان الدعوتان أكبر الحركات التحريفية في الدين الفارسي إذ أبعدتاه عن كل مضمون صحيح، أو عن أي التقاء مع بعض المبادئ المسلمة في الأديان الصادقة، وكان لهذين الرجلين آثار واضحة نظرا لصلتهما بالسلطة ورجال الحكم، الأمر الذي ساعدهما على فرض آرائهما بالقوة والعنف، ويلاحظ أن هذين الرجلين ظهرا بعد ظهور

عيسى -عليه السلام- ولذلك كان اختراعهما للدين عبارة عن مزج للفكر البشري، وإدخاله في ثنايا فكر ديني صحيح. يقول الشهرستاني: "إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا قويين حساسين دراكين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان وفي الخير متحاذيان تحاذي الظل للشخص أو تحاذي الشخص والظل، وفي رأي ماني أن ما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور وما فيه من مضرة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة، وهذان القديمان النور والظلمة يمتزجان ويفترقان وفق فلسفة معينة عند ماني". ويرجع سبب الامتزاج إلى أن الظلمة قد تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور قد بدا فمازجته فرأى ملك النور ذلك فبعث خمسة أجناس نورانية امتزجت بخمسة ظلامية، وبذلك خالط الدخان الهواء والحريق النار والنور والظلام والسموم الريح والضباب الماء، ولما ظهر هذا الامتزاج لملك النور خلق العالم كله على هيئة الامتزاج مستعدا لتخلص كل عنصر من غيره، وبذلك يحدث الخلاص التام في يوم القيامة والميعاد. وحديث ماني عن ملك النور وملك الظلمة يعتبرهما إلهين؛ لأن كلا منهما محيط بعالمه ظاهر وباطن قديم لا أول له ولا آخر له ولا نهاية له، وقد تضمنت دعوة ماني تكاليف معينة كتأدية أربع صلوات في اليوم وإخراج العشر من الأموال، وترك القتل والعدوان والبعد عن السرقة والزنا وهجر عبادة الأوثان والكذب والسحر، كما تتضمن الدعوة إلى الحق والتمسك بالأخلاق الفاضلة، ويعترف ماني برسالة عدد من الرسل منهم عيسى -عليه السلام- وينكر رسالة موسى -عليه السلام.

ولماني تصور معين لقيام الآخرة التي يحاسب فيها الناس على أعمالهم، حيث ترتفع الأعمال النورانية إلى فلك القمر فيكبر شيئا فشيئا وتتغير صوره تبعا لذلك، فإذا بلغ منتهاه يصل للشمس التي توصله بدورها إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال الأمر كذلك حتى لا يبقى نور في الأرض فيسيطر الملك الذي يجذب السموات فيسقط الأعلى على الأدنى، وتأتي النار على كل شيء هذا عن أفكار ماني. أما مزدك فلقد ظهر زمن الملك قباث قبيل ظهور الإسلام، وكان يقول بالنور والظلمة كأصلين قديمين كما قال ماني، إلا أنه يفترق عنه في أن النور يفعل بالقصد والظلمة تفعل بالصدفة والنور عالم حساس والظلام جاهل أعمى، وأن المزج بالاتفاق والخلاص بالصدفة. ويدعو مزدك إلى الطاعة وترك الكراهية والقتال، كما دعا مزدك إلى شيوعية عامة في المال والنساء حتى لا توجد كراهية بين الناس، ولذلك اعتبر مزدك من أقدم الشيوعيين في العالم، وقد كلف مزدك أتباعه بعبادات معينة وصور الآلهة المعبودة بصورة جسمية، حيث جعله قاعدا على كرسيه العلوي يعاونه أربع قوى من ورائهم سبعة آخرون وهكذا. آراء العلماء في دين الفرس: اتخذ العلماء مواقف متعددة في تفسير نشأة الزرادشتية وتطورها؛ فمن قائل بالتطور الديني على أساس أن عقائد الفرس بدأت بالخرافات والأساطير وتأليه الظواهر المحسوسة، مع تعدد الآلهة، وأنها استمرت في التطور حتى عرفت التوحيد الخالص في المراحل الراقية، ومن قائل بأن الرسالات الإلهية ظهرت في بلاد الفرس، وأنها هي التي علمت الناس هناك وحدانية الله تعالى وهكذا.

إن الحقائق العلمية تؤيد القول بوجود رسالات صحيحة في الفرس على الأساس الذي بيناه من قبل؛ وهو إرسال الرسل إلى جميع الأمم، ولأن العقول البشرية لا تصل وحدها إلى التوحيد الخالص بحقائقه التي يأتي بها الرسل. وأيضا فإن التطور يقتضي الترقي المستمر نحو الأفضل، بينما في أديان الفرس تذهب إلى الأسفل والأدنى، إذ نرى أن دعوة من جاءوا بعد زرادشت كانت انحدارا وانتكاسا، حيث دعا ماني ومزدك وغيرهما إلى تعدد الآلهة بعدما دعا زرادشت إلى التوحيد، ومع ترجيحنا هذا فإن القول بأن زرادشت هو الرسول المبعوث لا نعلق عليه نفيا أو إثباتا؛ حيث لا تنهض الأدلة مثبتة أو نافية، وكل ما يمكن القول به أن النبوة قبل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليست ممنوعة، لكن الإيمان برسول معين يتوقف على ورود ذكره في القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي قص أخبار بعض الرسل وأشار إلى وجود رسل لم يرد لهم ذكر، ولذلك لزم التسليم بإمكانية إرسال رسول لكل أمة من غير تعيين شخصه ما لم يرد له ذكر في القرآن الكريم. وفاة زرادشت: بعد حياة حافلة بالعطاء كما يعتقد الزرادشتيون وكما ذكر كثير من الباحثين حانت منية زرادشت، وأتاه الموت بعد عمر يقرب من سبع وسبعين سنة مات زرادشت. يقول صاحب كتاب (الأسفار المقدسة): "وقد قضى زرادشت نحبه حوالي سنة خمسمائة وثلاث وثمانين قبل الميلاد على أرجح الأقوال، وهو في نحو السابعة والسبعين من عمره في أحد الهياكل المقدسة في بلخ، ومات قتيلا وهو يقوم على خدمة النار في أثناء غارة التورانيين على بلاد إيران، فقد وصلوا إلى بلخ بينما كان زرادشت وثمانون من كبار الكهنة يقدمون الوقود للنار في هيكل هذه المدينة،

فهجم عليهم الأعداء وطعنوهم بسيوفهم فخر الجميع صرعى وسالت دماؤهم، فلطخت جدران وموقد النار وامتدت للنار المقدسة نفسها فأخمدتها". وعلى هذا فقد مات زرادشت بعد عمر بلغ سبعة وسبعين عامًا، وهو أمام الموقد أو أمام موقد النار التي قدسها وعبدها الزرادشتيون فيما بعد، ولكنه إذا كان زرادشت قد مات فإن شرعته ما زالت حية وقائمة ولها مصادرها المقدسة، ولئن كنت قد تحدثت عن أهم تلك المصادر في ديانة الزرادشتية -ألا وهي الفستا- فينبغي أن نذكر بقية المصادر المقدسة للزرادشتية والتي منها: أسفار الأبستان والجانات والسنا والعسبرد والفنديراد والستات والخرداستا وشروح الأبستان وأسفار أخرى. وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2).

الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2).

أهم المصادر المقدسة للزرادشتية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (الديانة الزرادشتية (2)) أهم المصادر المقدسة للزرادشتية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فتحدثت عن زر ادتش، والزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور. وها أنا ذا أحدثك عن أهم المصادر المقدسة للزرادشتية. والمصدر الأساسي للزرادشتية الفستا، أما بقية المصادر فتسمى أسفار ال أبستان، ومنها الجانات والسن االفسبرد والفنديارد والس ِّ تات أو الس َّ تات والخردستة، وتأتي ثالثا شروح أبستان، ورابعا أسفار أخرى، ونذكر ذلك بشيء من التوضيح. فنقول عن المصدر الأساسي للزرادشتية الفستا أو الأستاق، وهو الكتاب المقدس لدى الزرادشتيين: أتى به زرادشت ليكون مرجعا لأتباعه، يرجعون إليه لمعرفة عقائدهم وأحكام شريعتهم. وكلمة أستاق مشتقة من كلمة أستا، وهي كلمة فارسية قديمة، معناها سند أو أساس أو معين أو النص الكامل، لكن أنسب ترجمة لكلمة أستا أنها تعني المتن، لذلك قال صاحب كتاب (معجم ديانات وأساطير العالم): "الأستاق هو المتن"، فكلمة الأستاق تعني المتن أو الأصل، وهو النص الذي يرجع إليه الزرادشتيون، ليأخذوا منه عقيدتهم وشريعتهم، وكان الأستاق يشتمل على واحد وعشرين سفرا، وكانت مجموعة الفصول التي تشتمل عليها هذه الأسفار ألف فصل، يحوي تفصيلا لعقائد الديانة الزرادشتية وعبادتها وشرائعها وتاريخها، وما اجتازته من مراحل تاريخية وتاريخ زرادشت، وقد فقدت جميع نسخ الأستاق بعد غزو الإسكندر لفارس، سنة ثلاثمائة وثلاثين قبل الميلاد، وفقدت معها تفاسيره والمؤلفات التي تشتمل على شيء من أجزائه.

فالأستاق من المصادر الهامة للزرادشتية، إلا أنه لم يحفظ كما كان أولا، ولكنها دخلت عليه عوامل التحريف والتغيير، بعد حرق الإسكندر الأكبر لكتب الزرادشتية، حين غارت على بلاد إيران، مما جعل الزرادشتية فيما بعد يزيدون فيه وينقصون، وها هنا دخل التحريف، وظلت بعد ذلك نصوص الأستاق أو بعضها، في حوافظ الموابذة أي كبار رجال الدين عند الفرس، يتناقلونها ويتناقلها الناس عنهم مشافهة، وفي النصف الأخير من القرن الأول الميلادي، شرع فيلوجيسيس الأول ويسمى بلاش الأول ملك فارس من الأسرة البرتيدة، في تدوين ما بقي من حوافظ الناس من الأستاق، وأكمل عمله هذا في القرن الثالث الميلادي الملك أردشير مؤسس الدولة الساسانية، وبلغ ما تم تدوينه في هذين العهدين واحدا وعشرين سفرا، تشتمل على ثلاثمائة وثمانية وأربعين فصلا من فصول الأستاق، التي كانت تبلغ ألف فصل، أي أنه قد فقد منه نحو الثلثين، هذا إلى ما اعتور الفصول المدونة، من نقص وزيادة وتحريف وتغيير عن أصولها. وهكذا لما دون الأستاق أكثر من مرة، زيد فيه ونقص منه، فدخله التحريف والتغيير، حتى لقد قال بعض الباحثين في معرض كلامه عن الأستاق الحالي: ويكاد يكون من المتفق عليه، أنه لم يبق من أقسام الأستاق الواحد والعشرين الأصلية، إلا جزء واحد هو الكاناها، فهو القسم الوحيد الباقي، ويعتبر في الوقت نفسه، أقدم ما وصل إلينا من نصوص الأستاق القديمة، ولذا قال أحد الباحثين أيضا: إن الأستاق الذي يرجع إليه حاليا، ما هو إلا ملخص للكتاب الذي دون في أيام زرادشت، وعلى هذا فإن الأستاق الحالي، ما هو إلا شذرات من الأستاق المفقود، بعد زيادة فيه ونقص منه، نتيجة للعوامل التي طرأت عليه.

الثاني: أسفار الأستاق. الأستاق الحالي الكتاب المقدس لدى الزرادشتية، يحوي أسفارا وهي: أ- الجاثات: جمع جاثة وهي التراتيل التي يتفق العلماء، على نسبتها إلى زرادشت نفسه، دون غيرها من الأناشيد التي يحتويها كتاب الأستا، وهي أقدم أجزاء الأبستاق وأكثرها قداسة، ويسوق الباحثون عدة أدلة، على أنها أقدم ما ألف من فصول الأستاق جميعا، ومن هذه الأدلة أنها هي وحدها، التي كتبت في الأصل باللغة أو اللهجة المبيرية، وهي لهجة المنطقة التي ولد فيها زرادشت، فكانت بإذن أول لغة استخدمها في حديثه وتأليفه، ولذلك فالجاثات هي الترانيم التي نطق بها زرادشت، والتي صورت جزءا من عقيدته، ولذلك فهي سفر هام من أسفار الأستاق. ب- البستا: من الأسفار الهامة سفر البستا، لأنه يعد من أقدم النصوص في الأستاق، بل هي نفس ما قد ألفه وألقته شفاه زرادشت من تعاليم، وهي تلي سفر الجاثات، والبستا تعني العبادة والتسبيح، وهذا السفر يصور لنا بعض أمور العقيدة الزرادشتية، وبعض الأدعية والتراتيل، التي توجه إلى أهورا مازدا وإلى بعض الملائكة، وفيما يلي بعض نصوص من البستا: "النجدة لهذا الإنسان، النجدة له مهما يكن أمره، ليتفضل علي الخالق الأكبر والحاكم الأعظم، الرب الحي القوتان الأبديتان، نعم إني أتوسل إليك يا أهورا، أن تحمي حمى الهداية، وأن تتفضل علي بها، أنت يا من يبعث في النفوس التقوى، التي لها من العظمة ما لها، فهي النعمة المقدسة وهي حياة العقول الصالحة، إني أتصورك أيها المعطي

الأكبر مازدا جميلا، حينما أشاهد أنك القوة العليا، ذات الأثر الفعال في تطور الحياة، وحينما أرى أنك تكافئ الناس على الأعمال والأقوال، لقد كتب الشر عقابا على الشر، وجعلت السعادة جزاء وفاقا لمن يفعل الخير، وذلك بفضلك العظيم الذي يظهر أثره، حينما تتبدل الخليقة التبدل النهائي"، وهكذا من خلال هذا النص، يبدو تضرع زرادشت لإلهه أهورا مازدا وسؤاله. ج- الفسبرد: ويشتمل على أدعية وصلوات مكملة لما في البستا، وتراتيل في مناسبات خاصة، ويبلغ عدد فصوله ثلاثة وعشرون أو سبعة وعشرون فصلا، وقيل يتكون من أربعة وعشرين فصلا، تتعلق بالطقوس الدينية، وهذا السفر من الأسفار الهامة أيضا في الأستاق، حتى إنه يشتمل على بعض الصلوات، التي يتوجه بها الزرادشتيون إلى الإله أهورا مازدا. د- الغنريارد: والغنريارد تعني القانون المضاد للشياطين، ويشبه سفر اللاويين في التوراة، فإنه يوضح التعاليم التي يخضع لها رجال الكهنوت من الزرادشتيين، ويتضمن وجهة النظر الزرادشتية في الموت والزواج وغيره من المشكلات الاجتماعية، ويتكون من اثنين وعشرين فصلا، يتحدث أولهما عما خلق أرمزد، من الأراضي المباركة واحدة بعد الأخرى، وعما أوجد الجريونوس من الأرواح الخبيثة الشريرة، معارضا بذلك أرمزد، ومما يتعرض له هذا السفر، الأمور المتعلقة بالنجاسة والغسل والطهارة، ونظافة الموتى وتطهير جثثهم، والتوبة وتطهير الملابس والبدن، وغير ذلك كثير،

ومن ثم يعد أهم مرجع، للوقوف على محتويات الديانة الزرادشتية وتفاصيل شرائعها، وهو سفر يحوي أمورا كثيرة من أمور الشريعة، وبعض أسس التعامل بين الناس في مجالات كثيرة. هـ- البثتات: أي الترنيمات أو المزامير، وهي إحدى وعشرون ترنيمة منظومة، تتلى في برج الملائكة المكرمين، والكائنات الروحية التي يسمى كل منها أباشسينات أو إزد، ويشرف كل منها على يوم من أيام الشهر الثلاثين، ويطلق عليه اسمه، وكان لكل كائن روحي، من هؤلاء ترنيمة تتلى باسمه، لأنه لم يبق من هذه الترنيمات إلا واحدة وعشرون، فالظاهر أن تسعا منها فقدت، أي أن ما بقي منها هو نحو فاني الأصل، أي أن ما يحويه هو واحد وعشرون ترنيمة حاليا، وعلى هذا فداخل هذا السفر الحذف، ولا ريب بعد ذلك أن يدخله التحريف والتغيير، في الباقي الذي لم يحذف، وقد كانت البستات نظما ثم شرحت كثيرا، وتداخلت شروحها في المتن الأصلي، فاختلط نظمها بالشرح فاضطربت أوزانها، وهذا أيضا مما يؤكد لنا، تحريف الأستاق عامة وتحريف سفر البستات خاصة. والخردة أمستا: أي الأستاق الصغير، وهو سفر جامع لأدعية وصلوات يتلوها عامة الشعب، وقد دونها في عصر متأخر الكاهن الزرادشتي أذريباز مهر سبند، في عهد أردشير الثاني، ويتكون معظم هذا السفر من مختارات من الأستاق كله، أما الباقي فهو توسلات أو أدعية كتبت بلغة البازند، ويشتمل الخردة على أربعة أجزاء هي: أ- الأوعية الخمسة أجكيش، وهي أوعية تخاطب بها الشمس والقمر وغيرهما.

ب- الكاتاها الخمس. ج- أدعية الأيام الثلاثين سيروزة الصغرى منها والكبرى. د- أدعية أربعة تتلى طلبا للبركة أفرينيكان. ونجد بالخردة آدابا وفروضا دينية، كالدعاء والصلاة والطاعة. شروح الأستاق: ترجع شروح الأستاق وشروح شروحه، إلى ثلاث مجموعات، يطلق عليها الزند والبازند والإياردة، وقد فقد معظم الشروح، ولم يصل إلينا منها إلا القليل.

أما الزند فهو الشرح المباشر للأستاق، وقد دون باللغة الفهلوية، وهي الفارسية في مراحلها المتوسطة، وبعض المتزمتين من الزرادشتيين، كانوا يتمسكون بالأبستان وحده ولا يعترفون بالزند، ويعتبرون من يعول عليه خارجا على أصول الشريعة، إلا أن الذي عليه كثير من الباحثين، ويعترف به الزرادشتيون اليوم وخاصة البارتون في الهند، هو أن الزند شرح للأستاق، حتى يكاد يتساوى معه، يقول صاحب كتاب (مروج الذهب): "وذلك أن الفرس حين آتاهم زرادشت به، أي بكتابهم المعروف الأفستا باللغة الأولى، وعمل له التفسير وهو الزند، وكان الزند بالتأويل غير المنزل، وكان من أورد في شريعتهم شيئا غير المنزل الذي هو الأفستا، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند، قالوا هذا زندي. وأما البازند فهو تفسير للزند، أي شرح لشرح الأستاق، وقد كتب باللغة الفهلوية، في مراحلها التالية للفتح الإسلامي، حوالي القرن الثاني والثالث الهجريين، أي حوالي السابع والثامن الميلادي على الراجح.

أما الإياردة بكسر الهمزة وفتح الراء وكسرها وفتح الدال، فهي شرح للبازند، أي شرح لشرح الشرح أو تفسير لتفسير التفسير"، يقول العلامة المسعودي في كتابه (مروج الذهب): "ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت، تفسيرا لتفسير التفسير، وسموا هذا التفسير إياردة". رابعا: أسفار أخرى: هذا؛ وقد أضاف المتأخرون من الزرادشتيين، إلى كتبهم المقدسة أسفارا أخرى، منها بتدهاش وسفر الأردارديارف، ونجد في هذه الأسفار المتأخرة، بعض مسائل مكملة للتعاليم الزرادشتية، ومن هنا فإن الزرادشتيين أضافوا أسفارا أخرى، غير المصدر الأساسي الأول وهو الأستاق، حكى فيه علماؤهم بعض أمور العقيدة والشريعة، بل بعض الأمور التي حدثت لهم وشئون البلاد، ونظرا لأن كاتبها من الكهنة الزرادشتيين، فقد أصبح من المصادر، التي يرجع إليها أيضا لمعرفة أمور عقيدتهم. وبعد هذه النظرة حول أهم مصادر الزرادشتية، نذكر ما قاله جيمس هنري برستد في كتابه (انتصار الحضارة) ترجمة الدكتور أحمد فخري عن الزرادشتية يقول: "وكانت هذه الديانة، من أنبل الديانات التي ظهرت في العالم، دعت هذه الديانة كل إنسان، وأهابت به أن يختار أحد الطريقين، إما أن يملأ قلبه بالخير والنور، أو ينغمس في الشر والظلمة، وسواء اتخذ الإنسان هذا السبيل أو ذاك، فإنه سيلاقي جزاءه ويحاسب على ما أتاه، وكانت هذه العقيدة أقدم ديانة ظهرت في أسيا، تقول بالحساب بعد البعث، ولم تكن دعوة زرادشت إلا سموا بالعقائد القديمة، التي كانت منتشرة بين أهله، ورفعا لآلهتهم القديمة إلى المثل الأعلى، ولهذا أبقى زرادشت على احترام الآريين للنار وعبادتهم لها، على أنها رمز ظاهر للخير والنور، كما احتفظ أيضا بفكرة الكهنة مشعلي النار". ولما لم يستطع زرادشت، أن يؤثر في قومه بدعوته الجديدة، هجر الميليين وذهب إلى الفرس يدعو إلى دينه الجديد، ولعله لم يجد في السنوات الأولى، إلا القليل من الاستجابة إليه، إذ تتضح آماله ومخاوفه في تلك المجموعة الصغيرة من التراتيل التي تركها، وهي على الأرجح، كل ما وصل إلينا من أقوال ذلك النبي، فنحن نعرف شدة شغف الآريين بتربية الخيول، ولهذا لا ندهش عندما نقرأ، أن زرادشت استطاع أخيرا، أن يجعل أحد الملوك الأقوياء، يؤمن به عندما شفى جوادا كسيحا كان الملك يعتز به، وقبل أن تحين ساعة هذا النبي، كانت عقيدته الجديدة قد لاقت نجاحا كبيرا وثبت قدمها، ولم يحل عام خمسمائة قبل الميلاد، حتى كانت الزرادشتية هي الديانة الأولى بين الإيرانيين، كما قبلها أباطرة الفرس أيضا، وليس من المستبعد أن يكون الملك دارا شيد مقبرة هذا النبي، ولسنا نعرف من أقوال زرادشت، غير التراتيل التي ذكرناها آنفا، وإلى جانبها بعض تعاليمه، التي احتفظت بها بعض المؤلفات، التي جمعت في العهد المسيحي المبكر، بعد وفاة هذا النبي بعدة قرون، ويجمع هذه التراتيل كتاب الأبستا، الذي يمكننا أن نسميه إنجيل الفرس. ويتحدث الأستاذ ميل فيقول: "نشر متحف جيمي سنة 1924، قائلا عن الأفستا: إذا حاول الإنسان قراءة الأفستا، فإنه يدرك لأول وهلة أن قراءتها مستحيلة، ذلك لأن الفصل فيها لا يتلاءم ليكون وحده، ولا يتسق أي جزء مع جزء آخر، فهي أجزاء مفككة يتلو بعضها بعضا، يصدق عليها القول: أنها مجموعة جمل مفككة لا ينظمها عقد واحد، ولا يستطيع المترجم أن ينهض بترجمة الجاثات على وجه سليم وكامل، ويذهب بعض الباحثين، إلى أن العمل القيم في الأفستا، هو تخليص النصوص الموثوق فيها من غيرها، ثم تنسيق هذه النصوص، تنسيقا يحقق الوحدة فيها". والزرادشتية عقيدة البارسس ولا يزالون يعتنقونها إلى اليوم، وكتابه المقدس هو زندا فستا، والكلمة مركبة من كلمتين، زندا ومعناها شرح وفستا

ومعناها النص الأصلي، ومن ثم فمعنى الكتاب النص والشرح، وكتاب البارسس المقدس يتضمن التاريخ الأدبي لأمة، في مدة طويلة من الزمن، مثلهم في ذلك مثل كتاب اليهود المقدس أي العهد القديم، ومن المعروف أن هذا الكتاب المقدس، ظل قرونا طويلة يعتمد على الرواية الشفوية قبل التدوين، وعلى ذلك فالوصول إلى النص الأصلي، أمر لا يمكن القطع به وإن جاز ترجيحه، يضاف إلى ذلك أنه غير مرتب ترتيبا زمنيا. وفي الترجمة الإنجليزية التي قام بها الأستاذ شبيجل، لتروج بين جماعة البارسس بالهند، الذين يعرفون الإنجليزية، نجد الفنديداد هي الفصل الأول، وفيه أهورا مازدا يتحدث إلى زرادشت، ويمنحه أوامر الشريعة تفصيلا، ولكن لا يظن أحد أن هذا منقول عن النبي نفسه، إنما هو من وضع كاهن بعد موته بقرون، وأنه خلا من تعاليمه، ويأتي بعد الفنديداد الفسبرد والياسنا، وهذان للطقوس الدينية وهما تراتيل وكتاب صلوات، وخاصان برجال الدين فحسب دون غيرهم من العلمانيين، وتلاوة نصوصها لا تحتاج إلى جمهور لسماعها، وتنتظم الياسنا الجاثات، التي ينظر إليها الآن على أنها أجزاء الأفستا الوحيدة، التي هي في الواقع من عمل زرادشت، ويتلو هذه خردة أفستا أو الأفستا الصغيرة، التي تتضمن الياشات، وهي تتضمن تمجيد ملائكة أو آلهة صغار، كما تتضمن صلوات خاصة، وبعض المقطوعات عن الشعائر. هذا؛ والأفستا المتأخرة ليست باللهجة القديمة، بينما هي بلهجة العصر الأكميني، ولما قامت الدولة الساسانية، ترتب على ذلك إحياء الديانة الزرادشتية في القرن الثالث المسيحي، قام رجال الدين من المجوس بترجمة النصوص الدينية

الزرادشتية القديمة إلى اللهجة البهلوية، فصاحب هذه الترجمة تشويه للنصوص الأصلية، وإضافات كثيرة من شروحهم لهذه النصوص، ومن ثم فلا يمكن الزعم أن هذه الترجمة البهلوية، تمثل تعاليم زرادشت تمثيلا صادقا، وتطور العقيدة على يديه. والمصدر الذي يراه الباحثون المحدثون، هاما في تصوير العقيدة الزرادشتية، هو الياسنا، والياسنا تتضمن خمس مجموعات من التراتيل تسمى الجاثات، وعدد التراتيل سبع عشرة، ويذهب الباحثون إلى أن الجاثات، تتضمن العناصر القديمة للديانة الزرادشتية، التي يضمها كتاب الزندا فستا، ويقولون: إنها احتفظت ببعض أقوال زرادشت، وعلى ذلك فهي من خير المصادر لعقيدته، ويقولون: إنها منظومة بلغة قديمة جدا، وأوزان النظم فيها يختلف بعضها عن بعض، وأن طابع التأنق يبدو فيها، ويمثلونها بالمزامير في أنها تضمنت بعض المعلومات عن حياة الشخصيات. وتحدث جيمس هنري برستد في (انتصار الحضارة) عن العقيدة الزرادشتية، فقال عن عناصر تكوينها: "تأمل زرادشت الصراع المستمر بين الخير والشر، هذا الصراع الذي كان يراه حوله أينما سار، والذي رآه ممثلا في ديانة الشعب الميدي، وفي عقائدهم وفي آلهتهم، وبدا له أن هذا الصراع قائم بين، مجموعة من قوى الخير ومجموعة من قوى الشر، واعتقد أن الخير ليس إلا كائنا إلهيا، أطلق عليه اسم مازدا، الذي كان اسما لأحد الآلهة القدامى، أو أهورا مازدا ومعناها رب الحكمة، الذي رأى فيه أنه هو الله، وكان يحيط بأهورا مازدا جماعة من الأعوان يشبهون الملائكة، وكان أعظمهم مكانة هو النور فيدعى مثرا، ويقف ضد أهورا مازدا وأعوانه جماعة شريرة قوية، أطلقوا عليها اسم أهرمن، وهو الذي

أخذه اليهود ثم المسيحيون من بعدهم، وعرفوه تحت اسم الشيطان، وهكذا نشأت عقيدة زرادشت، من الصراع القائم في الحياة عينها، ولذا أصبحت قوة هائلة". والناظر إلى هذا القول، يظهر له بوضوح أن الزرادشتية، عقيدة جاء بها صاحبها من النظر إلى الحياة، التي أوحت له بعناصرها، ولكن هذا النظر إلى هذه العقيدة، تدحضه النصوص التي تصور زرادشت على أنه نبي، وهي النصوص التي يرجحون أصالتها، وقد ورد في الجاثات قوله: "إلى أي أرض أفر وإلى أي اتجاه يكون المهرب، إلى النبلاء والسادة وإن يقاطعونني، أم إلى الناس وهم غير راضين عني، أم إلى حكام الأرض الخونة، كيف أبلغ رضاك يا أهورا مازدا، أنا أعرف لماذا لا يصيبني النجاح، لأن عندي قطيعا صغيرا، ولذلك فعندي ناس قليلون، أجأر إليك أن ترعاه يا أهورا، مانحا إياي عونا يعطيه صديق لصديق، وعلمني بالحق كيف أحظى بالفكر الخير". فهو في هذا النص يشكو، ولا يوجه شكواه إلا لربه، ونجده في نص آخر يشير إلى نفسه، بما يفهم منه أنه نبي ينزل عليه الوحي، فقال: "عرفت أنك الإله الواحد يا مازدا أهورا، عندما جاء إلي الفكر الخير، وسألني: من أنت ومن لك، وبأي آية تعين أيام الحساب بيني وبينك؟ فعندئذ قلت له: أولا أنا زرادشت، المبغض الحقيقي بأقصى ما لدي من قوة للرجل الفاسد، والسند القوي للصالح، وبذلك أنال الأشياء الآجلة في المملكة غير المتناهية، بثنائي وترتيلي لك يا مازدا، عرفت أنك الواحد الإله مازدا أهورا، عندما جاء إلي الفكر الخير، بهذا السؤال: لأي الأشياء ستتجه عزائمك؟ عنده أجبته: في كل تقديم تبجيل لنارك، وكلما كانت في قوة فتأملت في الحق، فأرني إذا الحق الذي أناديه".

والذين يذهبون إلى أن العقيدة هي من صنع زرادشت، يقولون: إن أهورا مازدا ليس من ابتداع زرادشت، لأن هذا الاسم كان موجودا من قبل باختلاف يسير في الحروف، كما ثبت ذلك بالنقوش الآشورية، التي هي أبعد في القدم من زرادشت، ومعناه في النقوش الله الواحد الحكيم، أما الفكر الخير والحق، فربما كانا إلهين من الآلهة الصغرى، ولكن المتأمل في النص يتضح له بجلاء، أنهما تابعان لأهورا مازدا أي الإله، ويبدو أن الفكر الخير ملك، وأن الحق صفة من صفات أهورا مازدا، ولا يطعن في هذا الرأي، الإشارة إلى النار المقدسة، لأنها تبدو في النص على أنها رمز، أما تقديسها فمن رواسب الشعائر القديمة، التي انتقلت إلى العقيدة، وتقديس النار يرجع إلى أيام، أن كانت القبائل الشمالية القديمة في حالة بداوة، وتنتقل من مكان إلى مكان تقيم فيه النيران، التي تبعث فيهم أعز مطلب وهو الدفء، في جو قاس شديد البرودة، فكانت لديهم مقدسة. على أن هذا الرأي الذي ننصره، لا يستقيم دائما مع النصوص الموثوق بها وهي الجاثات، التي هي أناشيد موجهة إلى أهورا مازدا، ذلك لأنها نصوص قديمة تدين في وجودها، إلى الرواية الشفوية أولا، فترتب على ذلك شيء من الاضطراب، ومن هنا نجد ما يوهم التعارض، ومن الخير أن نذكر على سبيل المثال، نصا من ترجمة الدكتور مولتن، الذي ترجم الجاثات إلى الإنجليزية بعضها نثرا وبعضها شعرا، جاء في الجاثة الخمسين ما يأتي: "أرجو أن يعلمني خالق الحكمة شرائعه، عن طريق الفكر الخير، حتى يجد لساني لها منفذا، فمن أجلك سأسرج أسرع الجياد المطهمة الممتلئة القوية، في إنجاز التسبيح لك، حتى تأتي إلى هنا يا مازدا، الحق والفكر الخير وتكون مستعدا لعوني، وبأشعار عرفت بحمية التقوى، سأمثل أمامك بيدين مبسوطتين أمامك، أنت أيها الحق بصلاة المؤمن، وأمامك بجهد الفكر الخير، وبهذه الصلوات أقدم

فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين.

وأسبح لك يا مازدا والحق بأعمالي الفكر الخير، ولو كنت سيد مصيري كما أريد إذا، ليتجه التفكير نحو حماية العقلاء بنفس السبيل، تلك الأعمال التي سأصل إليها، وتلك التي تمت من قبل، وتلك أيها الفكر الخير، التي هي ثمينة في العين أشعة الشمس، وانبثاق الأيام الوضاحة، هي جميعا تسبح لك أيها الحق أهورا مازدا، سأعلن نفسي مادحا لك مازدا، وأظل أيها الحق كذلك ما دامت في قوة وقدرة، وأرجو أن يتم خالق العالم بالفكر الخير تحقيقا، وكل ما هو استجابة تامة لإرادته". ففي هذا النص يبدو ظاهره، أن الحق والفكر الخير صفتان لأهورا مازدا، كما في العبارة الثانية، وذوا كيان مستقل عن أهورا مازدا في غيرها، ولكن المتأمل في النص يلاحظ فيه اضطرابا، ذلك لأن الفكر الخير في النص، يقوم بتعليم الحكمة، وبجهده في التعليم يكون السعي إلى أهورا مازدا، وشخصية على هذا الوجه المستقلة، وليست صفة لأهورا مازدا، فكيف إذا يكون صفة، اللهم إلا إذا كانت الرواية الشفوية، حرفت النص فشوهته، على أنه يمكن التماس تفسير، أن الفكر الخير في كل حالة شخصية مستقلة، بتقدير أنه ممثل لأهورا مازدا، وهذا يؤيد الرأي القائل، باستقلال شخصيته ويزيل اللبس والغموض. فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين فكرة الحساب والشفاعة: فنجد في الياسنا الرابعة والأربعين نصا، ننقله عن ترجمة الدكتور مولتن، يقول: "عن هذا أسألك فأبلغني يقينا، وقل على التحقيق أيها الإله المقدس، كيف أقوم بعبادة تليق بك أيها الملك المعبود، علمني أيها الواحد الحكيم كما يعلم السماوي الأرضي، كصديق حدثني كصديق، أو يأتي الحق الرءوف بعونه في حينه، ومع

الفكر الخير السماوي، تنزل إلينا الحماية بقدرته الرحيمة، قل لي على التحقيق وأبلغني يقينا، فأنا أتوسل أيها الملك المقدس، عندما تنبلج أسمى الحياة عند مدخل مملكتك، هل من مقدرات الحكمة السماوية، إعطاء كل امرئ حقه، حقا إنه هو النبي المرسل، الذي توضع لروحه الساهرة كل خطايا البشر، ومع ذلك فدأبه كصديق، تحيا عوالم الحياة من جديد"، وهنا نجد الزرادشتية تعترف بيوم الحساب، إلا أنها تجعل في يدي نبيها، تقرير المصير لأخطاء البشر، وغير واضح إن كان هذا يتأتى عن طريق الشفاعة، فهو حق مقرر لنبي الزرادشتية كما يعلنه هذا النص. ويخط ئ بولكيه في تشبيه هذه العقيدة بالعقيدة الإسلامية عن الشفاعة، التي تجعل مصير خطيئة الإنسان في يد الله، وهو سبحانه الذي يقرر الحكم فيها أولا وأخيرا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالشفاعة في الإسلام مقصورة على المسلمين وحدهم، لا على البشر كافة كما هي في النص الزرادشتي، هذه الفكرة الدينية فكرة الشفاعة، لا تنسب إلا لرسول، وهذه الرسالة تقررها الياسنا الحادية والثلاثون، في قولها: "العبادة للحق ولمازدا، أو لأي من الآلهة يكون هناك، القدر والواجب يحثانني أيها الفكر الخير، فالتمس لي كل قوة الله حربا على الفساد حتى ينال النصر". وبهذا تبدو الديانة سماوية وبشرية في آن واحد، سماوية بشر بها نبي هو زرادشت، وبشرية لما نالها من التحريف، الذي شوه بعض معالمها وأساء إليها، لأنها ظلت قرونا طويلة، تنتقل من جيل إلى جيل بالرواية الشفوية، حتى دونت آخر الأمر، بعد أن عمل فيها الخيال وما ألف الناس، حقا إن هذه العقيدة وجدت لها نصيرا، في أوائل القرن الثالث الميلادي، بعد أن قامت الدولة الساسانية في إيران،

تلك الدولة التي رأت في انتصارها لهذا الدين، ما يدعم ويثبت كيانها، ولكن هذه العقيدة على الرغم من فوزها بهذا النصير، عاشت بين أيدي المجوسية، وهؤلاء إلى جانب ما نال العقيدة، من تشويه أثناء روايتها الشفوية، أضافوا إليها شروحا أتت بما يعرف بالزندا فاستا، وهذه الشروح تأثرت بوجه من الوجوه بالفكر اليوناني، الذي انتقل إلى فارس بصور مختلفة، منها هجرة بعض الإغريق إلى هذه البلاد، ثم تطورت هذه العقيدة بعد ذلك بتأثير الحكم الإسلامي، الذي بسط سلطانه على إيران منذ القرن السابع الميلادي، ونتج عن ذلك كتب دينية، ذات اتجاه يصور هذا التأثير الإسلامي. ومهما يكن من أمر فإن العقيدة الزرادشتية، تعيش الآن في الهند بين طائفة تعرف بالبارسيس، والمعروف أن كهنة هذه الطائفة، غير ميالين إلى الاجتهاد في عقيدتهم، الأمر الذي يترتب عليه عاجلا أو آجلا، إلى إجبارهم إلى الأخذ بمعالم الحضارة الحديثة، وتنسيق الأفكار الدينية مع العقل الحديث، أو إلى ترك المثقفين لهذه العقيدة، والانحياز إلى عقيدة أخرى، تتلاءم مع تطورهم العقلي. ونضيف قائلين: ولذا ففي الزرادشتية المتأخرة الإله الواحد، ليس متفردا في قدرته، وإنما قبالته كمصدر للخير يقف له مناوئا مصدر الشر، وعلى هذه الساحة المستعرة، كان القتال بين هاتين القوتين النور والنار والشر والظلام، وكلاهما مازدا وأهرمان يقف بجنوده المؤلفة من الملائكة أو من الشياطين، وهذا يعد حزب الإله وهذا يعد حزب الشيطان، ومن ثم آلت الزرادشتية إلى الثنائية، أو ما يعرف بالثنوية، حيث إله الخير والشر أو إله النور والظلام، كما حرصت الديانة الزرادشتية. على أن يوقد في كل هيكل من هياكلها شعلة من النار، وأن تظل هذه الشعلة متوهجة مضيئة، يتعاهدها الموابذة كبار رجال الدين، والهرابذة وهم صغار

رجال الدين، فيقومون لها خمس مرات في اليوم، وقودا من خشب ومشتملا على أعشاب ومواد عطرية، فيمتلئ الهيكل بعرفها الطيب وريحها الزكي، وترتل حولها الأدعية وتقام لها الصلوات، فانتهى الأمر في الزرادشتية، إلى تقديس وعبادة النار، والاعتقاد بأنها ابنة الإله أهورا مازدا، ولذلك فلا يمكن أن يخلو بيت من بيوت الزرادشتيين الآن، من موقد النار رمز الإله وابنة الإله في آن واحد، وكان يشارك النار في التقديس، ثلاثة عناصر أخرى من عناصر أرضية، وهي التراب والهواء والماء، وإن كانت في مستوى أقل من مستوى النار. ورغم هذا يقول الزرادشتيون: إنهم يقدسون النار ولا يعبدونها، ومن أجل ذلك تحملوا تلك المهمة، وحافظوا على إشعال النار وإحراقها في المعابد، وكانوا يأتون الهيكل خمس مرات في اليوم، ليقدموا للنار وقودا من خشب الصندل وغيره، ولكن ما ورد في أدعيتهم وتراتيلهم، من خلال نظراتهم إلى النار يكذب هذا الادعاء، ويترتب القول بأن الزرادشتيين يتوجهون بالعبادة للنار، وقد بالغ الزرادشتيون في تقديس نار الهيكل، فأوجبوا على رجل الدين أن يتلثم عند اقترابه من النار، خشية أن يصل زفيره إليها فيلوثها، وكان عليه أن يتذكر حين يدنو منه هذه القوة الأرضية، أن هذا النور الفياض إنما يرمز إلى الإله أهورا مازدا، وهكذا قدس الزرادشتيون النار والشمس، وبقية العناصر الأربعة: التراب والهواء والماء، وقدسوا كذلك الثور والكلب. يقول صاحب كتاب (الديانة الزرادشتية): "إن احترام النور يحتل مكانا قدسيا مرموقا في الديانة الزرادشتية، لاعتقادهم أن الإله أهورا مازدا قد خلق النور والإنسان في آن احد، وقدسوا كذلك الكلب، فالكلب في الديانة الزرادشتية له أكرم منزلة، أما عن بقية المقدسات، فالزرادشتيون ينظرون إلى الماء والتراب والهواء والنار نظرة تقديس".

يقول صاحب كتاب (زرادشت الحكيم): "وتكاد الطقوس والتعاليم الدينية الزرادشتية، تدور على محور واحد هو تقديس النار"، وفي موضع آخر يقول: "في جميع أنحاء إيران تقاد النيران، التي نظروا إليها نظرة قدسية خاصة، الأولى نار العظمة الربانية، التي كانت بهيكل كابول، والثانية نار الأبطال، وكانت تشعل في هيكل على جبل أزنون، على سواحل جزيرة أورمية على مقربة من مسقط رأس زرادشت، والثالثة نار العمال، وكانت تشعل على جبل يوتنت بخراسان، فالنار أصبحت مقدسة عند كل زرادشتي، بل توجهوا إليها بالعبادة والتضرع في صلواتهم". أما عن تقديس بقية العناصر، فلم يقف الزرادشتيون عند تقديس الشمس والنار، بل إنهم كانوا يقدسون سائر العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء، ولأمر ما لم تدفن جثة الميت في التراب، ولم تحرق في النار، ولم يذر رمادها في الهواء، كما يفعل بعض أرباب الديانات الأخرى قبل الهندوسية، ولكن الزرادشتيين نظرا لاعتقادهم نجاسة الميت، فإنهم لا يضعونه في العناصر المقدسة، ولا يجعلونه يمسك خشبة، أن ينجس الميت في اعتقادهم هذه العناصر الطاهرة. ورغم كل هذا يزعم الزرادشتيون أنهم موحدون، لا يعبدون ولا يقدسون إلا إلها واحدا، وكان أول عهد يأخذه الزرادشتي على نفسه، كما جاء في الأفستا المقدسة: "لن أقدم على سلب أو نهب ولا تخريب أو تدمير، ولن آخذ بالثأر، وأقر أني أعبد الإله الواحد أهورا مازدا، وأني أعتقد دين زرادشت، وأقر أني سألتزم التفكير في الخير والكلام الطيب والعمل الصالح". وهكذا انتهت عقيدة الزرادشتيين، إلى عبادة المخلوقات مع الإله أهورا مازدا، ووصفه بصفات النقص، وتقديس بعض أمور الطبيعة، من نار وماء وتراب وهواء

وشمس، وأشياء أخرى مثل الثور والكلب، كما ينظر الزرادشتيون نظرة تقديس إلى العناصر الأربعة، وبهذا توجد سمة اعتقاد بأشياء طيبة وأخرى خبيثة، ويؤمن الزرادشتيون أيضا بالملائكة والشياطين، ففي الزرادشتية يوجد فضائل سبع تمثل الملائكة السبع الخيرة، هذه الفضائل هي: العقل الخير والنور والحكمة والخير والتقوى والخلود والأمر الصالح، وهناك جماعة الأرواح المقدسة، التي تتألف من ستة ملائكة ذكور وست ملائكة من الإناث، وتبيح الزرادشتية أن تتولى النساء وظائف الكهنوت، ويوجد في الزرادشتية ملائكة كثيرة. وأما بالنسبة للشياطين؛ فالشيطان في الزرادشتية يدعى بأهرمان وله جنود كثيرون، فهو إله الشر الذي يقف ضد أهورا مازدا، وهو يستنهض عددا من الكائنات الشريرة، فراحوا يتهيئون للانقضاض على كل عمل طيب يصدر عن أهورا مازدا، فبعد خلق الكون كما يعتقد الزرادشتيون، حاول أهرمان إفساد نظام الكون، فاقتحم قبة السماء فشدها، وشتت النجوم وأفسد ماء البحر وجفف الينابيع وسم النبات، وبث الأفاعي في الصحارى وعاث في الأرض فسادا. وهكذا يعتقد الزرادشتيون نفاذ قدرة أهرمان الشيطان، على إفساد الكون وعلى إلحاق الضرر، وقتما شاء بالمخلوقات وكما شاء، وعن عدد هؤلاء الشياطين كثر، يبلغ كما ذكر أحد الباحثين تسعة آلاف ومائة وتسع وتسعون شيطانا أسودا يساعدون روح الشر، ولكن هذه العقيدة وهذا العدد مخالف للمعتقد الصحيح، إذ إن الشيطان ليس له القدرة على ما زعمه الزرادشتيون، من إفساد نظام الكون الذي ينسبونه لأهرمان، فليس للشيطان سبيل على تشويه السماء، أو تشتيت النجوم أو إفساد ماء البحر، إلى غير ذلك من أمور الكون، وما هو إلا مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.

هذا؛ ويمكن القول بأن العبادات عند الزرادشتية كل ما يتوجه به المرء إلى إلهه ومعبوده يطلق عليه جانب العبادات، ومن أهم العبادات في الزرادشتية، عبادة النار وتقديسها، ويسمونها أتار، وتحاول كل أسرة أن تبقي نار بيتها متقدة أبدا، كما عبد الزرادشتيون الشمس وقدموا لها الصلوات؛ لأنها تمثل أهورا مازدا إله النور، فهم يتوجهون بالعبادة والدعاء إلى النار في تراتيلهم وصلواتهم، ويقولون: أيتها النار يا بنة أهورا مازدا. وقد فرض زرادشت على أتباعه خمس صلوات في اليوم والليلة، وكان واحدة منها عند بزوغ الشمس، وواحدة عند الظهر، وواحدة عند غروب الشمس، والصلاة عنده دعاء، يوجه إلى أهورا مازدا في شتى المناسبات، وخلاصته ترجمة دعائه المأثور: "أرجو منك أيها الرب الخالق المطلق القدير، أن تغفر لي ما ارتكبت من سيئات، وما دار بخلدي من تفكير سيئ، وما صدر عني من قول أو عمل غير صالح، إلهي إنني أرجو منك أن تباعد بيني وبين الخطايا، حتى أحشر يوم الدين مع الأطهار الأخيار". وهكذا فإن من أهم أمور العبادة، الدعاء والتضرعات للنار المقدسة وعبادتها، وكذلك عبادة الصلوات الخمس، التي يقيمونها ويؤدونها أمام هيكل وموقد النار. وليس في الزرادشتية صوم؛ لأنهم يعتقدون أن الصوم إرهاق للجسد، وتعطيل لعمل العقل، والزرادشتية دين كفاح نفس وعمل روحي ونظام دنيوي، لا يتطلب إلا عمل العقل، وعمل العقل مع صحة البدن، لهذا حرمت الزرادشتية الصوم، وعلى هذا فإن الصوم ممنوع عندهم، لأنه يتنافى في اعتقادهم مع المبادئ، التي دعت إليها الزرادشتية، من إنماء النسل والمحافظة على قوة البدن، وعلى مجابهة قوى الشر ومحاولة سحقها، ولا يستطيع أن يفعل ذلك ويقوم به إلا الرجال الأقوياء، والصوم كما يظنون يخالف ويضاد هذا.

كذلك تدعو الزرادشتية إلى التصوف وإعانة الفقراء والمعدومين، تقول صاحبة كتاب (الدين في الهند والصين وإيران) عن تعاليم زرادشت: "إنها تحث الإنسان أن يؤدي الصدقة العملية، فإن من يعاون الفقير البائس، يسهم في إقامة دولة أهورا مازدا". وعندهم شرائع تحث على الزواج، والتوالد توالد الكائن البشري، من أجل نشر الديانة الزرادشتية، وتوطيد وترسيخ دعائم المملكة الدينية الإلهية، والانتصار للقضايا الخيرة. وأما أعياد الزرادشتيين، فعندهم عيد النيروز 21 مارس أول أيام الربيع، وعيد كهنبار الذي يحتفل به في السنة ست مرات، وواجشت وهو احتفال يقام قبل مراسم كهنبار، ويوزدي ويسمى دار طلب المدين، وعيد آخر يسمى عيد السفك، وربما لهم أعياد أخر. وأما الأخلاق عند الزرادشتية، فقد بات واضحا أن الزرادشتية، دعت إلى أخلاق فاضلة ونهت عن أخلاق سيئة، بل شددت النكير على مرتكبها، وأول ما تنادي به الزرادشتية من أخلاق الفكر الطيب والقول الطيب والعمل الطيب، ولذلك أصبحت هذه الثلاث علامة على الزرادشتية، حتى أصبح يعرف كل من يدين بهذا الدين، إذا تكلم بدت من فلتات لسانه هذه الكلمات الثلاث، الاعتقاد الصادق والكلم الطيب والعمل الصالح، هي أمهات الفضائل الجوهرية في الديانة الزرادشتية، كما نهت عن الأخلاق السيئة، التي تتناقض مع الفكر الطيب والقول الصالح والعمل الخير، ونهت عن الكبر وعن مصادقة الأشرار وعن الانغماس في الشهوات والملذات، وغير ذلك من الأخلاق السيئة، فيما يتوافق في اسمه وظاهره مع الإسلام الحنيف، الذي دعا إلى كل فضيلة ونهى عن كل رذيلة. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله صحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير.

الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير.

عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير) عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: بعد أن حدثتك عن زرادشت والزرادشتية؛ من حيث التأسيس والنشأة والتطور، ومن حيث المصادر والعقائد؛ ها أنا ذا أعقد مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية؛ في الله والنفس والمصير. ونذكر عقيدة زرادشت في الله - عز جل، ثم نقارنها بعقائد المانوية. وخلاصة ما جاء به زرادشت من جديد في الديانة، أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد، موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه، وليست المجوسية كلها من تعاليم زرادشت، أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية، فقد سبقه الفرس إلى عقائدهم، في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير، وحملها على محمل جديد من التفسير والتعبير. فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن، مولودان لإله قديم يسمى زروان ويكنى به عن الزمان، وأنه اعتلج في جوفه وليدان، فنذر السيادة على الأرض والسماء لأسبقهما إلى الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده، حتى شق له مخرجا من الوجود، قبل هرمز الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء، وعز على أبيهما أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة، ينتهي بعد تسعة آلاف سنة، ويعود الحكم بعده لإله الخير خالد بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء على إله الشر، وتبديل غياهب الظلام. وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام، كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة، وأهرمن غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه، راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق على نفسه من العاقبة، وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذا يعتصم به، ويضمن فيه البقاء، فثار وثارت معه

خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء، وران هذا البلاء على الكون، حتى كانت معركة زرادشت، فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين، بل آذن بتحول النصر من صف إلى صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، ينجم على رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت، فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكث أهرمن على عقبيه مخلدا في أسفل سافلين، لا فكاك له أبد الأبيد، من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان. وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة، على انتقال فكرة الإلهية طبقة فطبقة، من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه، فإن هرمز مأخوذ من أهورا بمعنى السيد، ومازدا بمعنى الحكيم، وأهرمن مأخوذ من أنجرو بمعنى السيئ وماينوش بمعنى الفكر والروح، والمعنيان معا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد، ثم أصبحت كلمة أور مزدا مرادفة لروح القدس، وكلمة أهرمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد. وقيل في مجمل الأساطير المجوسية: إن أهرمان إنما هو فكرة سيئة، خطرت على بال زروان فكان منها إله الظلام. ويخيل إلينا أن زرادشت، كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس، إلى مقام أعلى من ذلك المقام في التنزيه، وأن يسقط بأهرمن من منزلة الند إلى منزلة المارد المطرود، لولا أن وجود أهرمن كان لازما، لبقاء الكهانة الفارسية، في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة، وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار، فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز: إنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير، لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن، ويجعلون

انتصاره عقوبة للناس على تركهم للخيرات وحبهم للشرور. ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة، فتهدأ وساوسهم إلى حين. على أن زرادشت، قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطا، بين العقيدة الوثنية الأولى والعقيدة الإلهية الحديثة، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية، أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب، فالله في مذهب زرادشت، موصوف بأشرف صفات الكمال، التي يترقى إليها عقل بشري، يدين على حسب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود، فالخير عند زرادشت غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى، وما زال أهرمن يهبط في مراتب القدرة والكفاية على هذا المذهب، حتى عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه، ولا محيص له في النهاية من الخذلان. وفي الزند فستا يقول زرادشت: " إنه سأل هرمز: يا هرمز الرحيم صانع العالم المشهود، يا أيها القدس الأقدس، أي شيء هو أقوى القوى جميعا في الملك والملكوت؟ فقال هرمز: إنه هو اسمي، الذي يتجلى في أرواح عليين، فهو أقوى القوى في عالم الملكوت، فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم، فقال له: إنه هو السر المسئول، وأما الأسماء الأخرى فأولها هو واهب الأنعام، وثانيها هو المكين، وثالثها هو الكامل، ورابعها هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغني، والاسم الحادي عشر هو المغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر

هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو مزدا أو العليم بكل شيء". وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان، وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة، لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال: "إن الخلائق العلوية كلها، كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال أهرمن، أو يلبسها الجسد لتقدر على حربه والصمود في ميدانه، لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد، فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع". ويتخيل زرادشت هرمز أو أورمزد أو أهورا مازدا أو يزدان، على اختلاف اللهجات في نطقه، ومستويا على عرش النور، محفوظا بستة من الملائكة الأبرار، تدل أسماؤهم على أنهم صفات إلهية، كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات الذوات، بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله، وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله، وتفيض أقوال زرادشت كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه، للتبشير بالدين الصحيح والقضاء على عبادة الأوثان، ومن أمثلة هذا اليقين قوله: "أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين"، وإن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل، كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير، آخر حجة لله على الناس، وإن زرادشت هو هذه الحجة، التي أبرزها الله إلى حيز الوجود، لتهدي من ضل وتذكر من غفل، وتستصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضى ألف عام، برز إلى حيز الوجود خليفة له من سلالته،

ولكن الأرواح التي تحف بالعرش، هي التي تحمل بذرته إلى رحم عذراء، تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس، في عين صافية مدخرة في ناحية الأرض ليومها الموعود. ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه، ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه، فيناديه: "ربي هب لي عونك، كما يعين الصديق أخلص صديق، ويسأله ربي ألا تنبئني عن جزاء الأخيار، أيجزون يا ربي بالحسنة قبل يوم المعاد، أو يسأله من أقر الأرض فاستقرت، ورفع السماء فلا تسقط، ومن خلق الماء والزرع، ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء"، ولا يبعد أن يكون من أصحاب الطبائع، التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها، أصواتا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب، كما روي عن سقراط وأمثاله من الموهوبين والملهمين. ورواية الخليقة في مذهب زرادشت، أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار، فبدأ بخلق السماء ثم خلق الماء ثم خلق الأرض ثم خلق النبات ثم خلق الحيوان ثم خلق الإنسان، وأصل الإنسان رجل يسمى كيمورث، قتل في فتنة الخير والشر، فنبت من دمه ذكر يسمى ميشا وأنثى تسمى ميشانة، فتزاوجا وتناسلا، وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين. ويفرق المجوس بين الخلائق جريا على مذهبهم، في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام، فالأحياء النافعة من خلق أرمز، كالثور والكلب والطير البريء، والأحياء الضارة من خلق أهرمن، كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام، والناس محاسبون على ما يعملون، فكل ما صنعوه من خير أو شر، فهو مكتوب في سجل محفوظ، وتوزن أعمالهم بعد

موتهم، فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلى السماء، ومن رجحت عنده أعمال الشر هبط إلى الهاوية، ومن تعادلت عنده الكفتان، ذهب إلى مكان لا عذاب فيه ولا نعيم إلى أن تقوم القيامة، ويتطهر العالم كله بالنار المقدسة، فيرتفعون جميعا إلى حضرة هرمز في نعيم مقيم. وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمى قنطرة شنفاد، تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء، بعد خروجها من أجسادها، فيلقاها هناك فشنود ملك العدل ومترا رب النور، وينصبان لها الميزان، ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات، ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم، ونعيم المجوس من جنس الحسنات، التي تجزى بذلك النعيم، لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة، ولا يصدفون عن المتاع المباح، فمن عاش في الدنيا عيشة راضية، وكسب رزقه بالعمل الصالح، وأنشأ أبناءه نشأة حسنة، فجزاؤه في النعيم، رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء، ويسقى من لبن بقرة مقدسة، درها غذاء الخلود، ومن كسب رزقه من السحت والحرام، فجزاؤه في الجحيم، عيشة ضنكا وألما كألم الجوع والعري، والذل والاغتراب عن الأحباب. وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب زرادشت، ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية، التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضع، ويفترق عنها في مواضع أخرى، وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه (الملل والنحل)، فقال في فصل مطول عن المجوس وأصحاب الاثنينية والمانوية وسائر فرقهم المجوسية: "كانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل، راجعة إلى صنفين، أحدهما الصابئة والثانية الحنفاء، فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى،

ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا، يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب، يماثلنا في المادة والصورة، قالوا {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (المؤمنون: 34). والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة، إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجاته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية، فيلتقي الوحي بطرف الروحانية، ويلقى إلى نوع الإنسانية بطرف البشرية، وذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (فصلت: 6)، قال جل ذكره: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 93). ثم لما لم يتطرق للصابئة، الاقتصار على الروحانيات البحتة، والتقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها، فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص، التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن الإنسان شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام، وكان إبراهيم مكلفا بكسر المذهبين على الفرقتين، وتقرير الحنيفية السمحة السهلة. ثم قال عن الثنوية: إنهم أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، ويسمون أحدهما النور والثاني الظلمة، وبالفارسية يزدان أهرمان، ولهم في ذلك تفصيل مذهب، ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين، أحدهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية سبب خلاص النور من الظلمة،

وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادا، إلا أن المجوس الأصليين زعموا أن الأصلين، لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة. ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها، أمن النور حدثت، والنور لا يحدث شرا جزئيا، فكيف يحدث أصل الشر، أم شيء آخر، ولا شيء يشترك مع النور في الإحداث والقدم، وبهذا يظهر تخبط المجوس، وهؤلاء يقولون: المبدأ الأول في الأشخاص كيومورث، وربما يقولون: زروان الكبير، والنبي الآخر زرادشت، والكيموثرية يقولون: كيومورث هو آدم -عليه السلام، وقد ورد في تاريخ الهند والعجم كيومورث آدم، ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ. ثم قال عن الكيومثرية: إنهم أثبتوا أصلين، يزدان وأهرمن، وقالوا: يزدان أزلي قديم، وأهرمن محدث مخلوق، قالوا: إن يزدان فكر في نفسه، أنه لو كان لي منازع كيف يكون، وهذه الفكرة رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلام من هذه الفكرة وسمي أهرمن، وكان مطبوعا على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على النور وخالفه طبيعة وقولا، وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة، ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا، على أن يكون العالم السفلي خالصا لأهرمن، وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا: سبعة آلاف سنة، ثم يخلي العالم ويسلمه إلى النور، والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح، أبادهم وأهلكهم. ثم بدأ برجل يقال له: كيمورث وحيوان يقال له: ثور؛ فقتلهما، فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس، وخرج من أصل ريباس رجل يسمى ميشا، وامرأة اسمها ميشانة، وهما أبوا البشر، ونبت من مسقط الثور الأنعام وسائر الحيوانات، وزعموا أن النور خير الناس وهم أرواح بلا أجساد، بين أن يرفعهم

عن مواضع أهرمن، وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربوا أهرمن، فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن، على أن يكون لهم النصر من عند النور، والظفرة بجنود أهرمن وحسن العاقبة، وعند الظفر به وإهلاك جنوده يكون الغاية، فذاك سبب الامتزاج وذاك سبب الخلاص. إلى أن قال عن الزرادشتية: زعموا أن الله -عز وجل- خلق في وقت ما، في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقا روحانيا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة، أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحف به سبعين من الملائكة المكرمين، وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض، وبني آدم غير متحرك ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زرادشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف بأسمويتدور، ثم مازج شبح زرادشت بلبن بقرة، فشربه أبو زرادشت فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه، فقصدها الشيطان وغيرها، فسمعت أمه نداء من السماء، فيه دلالات على برئها فبرئت. ثم لما ولد زرادشت ضحك ضحكة تبينها من حضر، واحتالوا على زرادشت حتى وضعوه، بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب، وكان ينتهض كل واحد منهم بحمايته من جنسه، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فبعثه الله نبيا ورسولا إلى الخلق، فدعا كشتاسف الملك فأجابه إلى دينه، وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث، وقال: النور والظلمة أصلان متضادان، وكذلك يزدان وأهرمن وهما مبدأ موجودات العالم، وحصل التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا

شريك له ولا ضد ولا ند، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة، كما قالت الزروانية. لكن الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث، إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم تميزها لما كان وجود للعالم، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر، ثم يتخلص الخير إلى عالم والشر إلى عالم، وذلك هو سبب الخلاص، والباري تعالى هو مزجها وخلطها، وربما جعل النور أصلا، وقال: إن وجوده حقيقي، وأما الظلمة فتبع كالظل بالنسبة إلى الشخص، فإنه يرى أنه موجود وليس بموجود حقيقة، فأبدع النور وحصل الظلام تبعا، لأن من ضرورة الوجود التضاد، فوجوده ضروري واقع في الخلق، لا بالقصد الأول كما ذكرنا في الشخص والظل. وله كتاب قد صنفه وقيل: أنزل ذلك عليه وهو (زندستا)، يقسم العالم قسمين ميتا وكيتي يعني الروحاني والجسماني والروح والشخص، وكما قسم الخلق إلى عالمين، يقول: إن ما في العالم ينقسم إلى قسمين أخشش وكنس، ويريد به التقدير والفعل، وكل واحد مقدر على الثاني، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان، فيقسمها ثلاثة أقسام: منش وكنس وكنش، يعني بذلك الاعتقاد والقول والعمل، وبالثلاثة يتم التكليف. ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية، بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة، بل بقيت هذه المذاهب تتجدد، إلى ما بعد شيوع المسيحية بعدة قرون، وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية". انتشر مذهب مترا في العالم الغربي، بعد حملات بومبي الآسيوية، وتدفق الأسيويين من جنده إلى حواضر سوريا وأسيا الصغرى، وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، ويقول: "إن الشمس تشع عليهم، قبسا

من نورها وهالة من بركاتها، فيرمزون بعروشهم على الأرض، إلى عرش الله في عليين"، وشاع هذا المذهب بعض الشيوع في القرن الثاني قبل الميلاد، قصر وأتباعه على الذكور دون الإناث، وجعل لهم درجات سبعا، يرتقونها إلى مقام العارفين الواصلين، رمزا إلى الدرجات التي تصعد عليها الروح بعد الموت، من سماء إلى سماء، حتى تستقر في نهاية المرتقى عند حظيرة الأبرار، ويحتفل بالمريد كلما انتقل من درجة إلى درجة، في وليمة يتناول فيها الخبز المقدس، ويسمح بالماء الطهور، ولا يطلع قبل الدرجة الرابعة على أسرار المحراب، بل يقتصر في العلم بتلك الأسرار على التقليد، ثم يترقى في معرفة السر الأعظم، إلى أن يعرف كلمة الله الخالقة في مقام العارفين الواصلين. وأصل مترا قديم في الديانة الآرية، يدين به الهنود كما يدين به الفارسيون، وقد هبط في الديانة الزرادشتية، إلى مرتبة الملك الموكل بهداية الصالحين، ولكنهم جعلوه في الديانة المترية إله الشمس، ورب الكون وخالق الإنسان وقاهر أهرمن، بعد جلاد طويل، ولا يسبقه في الوجود شيء غير الأبد أو الزمان، أبو الأرباب عندهم وأبو كل موجود. ويمثلون مترا حين تجسد على الأرض، مولودا من صخرة نائية في مكان منفرد، لم يعلم بمولده أحد غير طائفة من الرعاة، ألهموا معرفته فتقدموا إليه بالهدايا والقرابين، ومضى بعد مولده فستر عريه بورق من شجرة التين، وتغذى بثمرها حتى جاوز سن الرضاع، وكان أهرمن يحاربه ويتعقبه بالكيد، ويحبط كل عمل له من أعمال الخير والفلاح، فأرسل مترا على الأرض طوفانا أغرقها، ولم ينج معه إلا رجل واحد، حمل آله وأنعامه في زورق صغير، وجدد على الأرض بعد ذلك حياة الإنسان والحيوان، ثم طهر الأرض بالنار وتناول مع ملائكة الخير

طعام الوداع وصعد إلى السماء، حيث هو مقيم يتولى الأبرار بالهداية، ويعينهم على النجاة من حبائل الشيطان. وكان أتباعه يفردون لعبادته يوم الشمس أو يوم الأحد، ويحتفلون بمولده في الخامس والعشرين من ديسمبر، لأنه موعد انتقال الشمس وتطاول ساعات النهار، ويقيمون له عيدا سنويا في اليوم السادس عشر، من الشهر السابع في تقويم الفرس القديم، وقد كان المسيحيون الأولون يقابلون ذلك، بعد ظهور المسيحية وانتشارها، بتمجيد السيد المسيح في الأيام التي كان عباد مترا ينصرفون فيها إلى تمجيد هذا الإله الشمسي القديم. أما المانوية: فهي مذهب ماني بن فاتك، الذي يرجح أنه ولد في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد، ومذهبه يخالف مذاهب المجوس الأقدمين في زعمه أن آدم من خلق الشيطان لا من خلق الله، وأن الشيطان أودعه كل ما استطاع أن يختلسه من نور السماء، ليكفل له البقاء، فلما بصر به الملائكة ولمحوا فيه قبس النور، ذهبوا يستخلصونه من قبضة الشيطان، ليرتفعوا به إلى العالم الذي هم فيه، ولا يزالون يعملون في استخلاصه، حتى يرجع إلى السماء آخر قبس من الضياء المسروق، فيتجلى الله في سمائه ومن حوله تلك الأرواح النورانية، ويتخلى الملائكة الذين يحملون الدنيا عن حملهم، فتتساقط كسفا وتلتهمها النيران، تطهيرا لها من بقايا الرجس والمكيدة، ويتم الانفصال يومئذ بين عالم النور وعالم الظلام. قال الشهرستاني عن صاحب هذا المذهب: "إنه أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية، ويقول بنبوة المسيح -عليه السلام- ولا يقول بنبوة موسى -عليه السلام. حكا محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم، أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الحيز متحاذيان تحاذي الشخص والظل. ثم ذكر أمثلة من اختلاف بين جوهر النور وجوهر الظلمة، فقال: إن جوهر النور حسن فاضل كريم صاف نقي الريح حسن المظهر، وإن جوهر الظلمة قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر، وإن أجناس النور خمسة، أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي النار والنور والريح والماء وروحها النسيم، وإن أجناس الظلمة أربعة منها أبدان والخامس روحها، والأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان". وقد أصاب الشهرستاني حين قال: "إن هذه الثنوية، هي ألزم سمات المذاهب المجوسية، لأنها تتراءى في كل مذهب منها بلا استثناء، وهي كذلك أبقى ما بقي منها في مجال التفكير، ومجال الاعتقاد على السواء، لأننا نرى منها ملامح واضحة، في مباحث التفرقة بين العقل والمادة، ولاسيما مباحث حكماء اليونان". وأما عند المانوية الذين هم أصحاب ماني بن فتك الحكيم، الذي ظهر في زمن شابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن شابور، وذلك بعد عيسى -عليه السلام، أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح -عليه السلام- ولا يقول بنبوة موسى -عليه السلام، فحكا محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين،

عقائد المانوية والزرادشتية في النفس.

أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الحيز متحاذيان تحاذي الشخص والظل. وإنما يتبين جواهرهما وأفعالهما في هذا الجدول: النور الجوهر، جوهره حسن فاضل كريم صاف نقي طيب الريح حسن المنظر. الظلمة الجوهر جوهرها قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر. النفس: نفس خيرة كريمة حكيمة نافعة عالمة النفس. النفس: نفسها شريرة لئيمة سفيهة ضارة جاهلة. الفعل: فعله الخير والصلاح والنفع والسرور والترتيب والنظام والاتفاق. الفعل: فعلها الشر والفساد والضر والغم والتشويش والتبتير والاختلاف. الحيز: جهة فوق وأكثرهم على أنهم ارتفعوا من ناحية ال شمال، وزعم بعضهم أنه بجنب الظلمة. الحيز: جهة تحت وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب، وزعم بعضهم أنها بجنب النور. أجناسها خمسة: أربعة منها أبدان، والخامس روحها، فالأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان، وهي تدعى الهامة وهي تتحرك في هذه الأبدان. الصفات: حية طاهرة خيرة زكية، وقال بعضهم: كون النور لم يزل على مثال هذا العالم، له أرض وجو، وأرض النور لم تزل لطيفة على غير صورة هذه الأرض، بل هي على صورة جرم الشمس، وشعاعها كشعاع الشمس ورائحتها الطيبة أطيب رائحة، وألوانها ألوان قوس قزح، قال بعضهم: ولا شيء إلا الجسم، والأجسام على ثلاثة أنواع، أرض النور وهي خمسة، وهناك جسم آخر ألطف منه، وهو الجو وهو نفس النور، وجسم آخر وهو ألف منه، وهو النسيم وهو روح النور، قال: ولم يزل يولد ملائكة وآلهة وأولياء، ليس على سبيل المناكحة، بل كما تتولد الحكمة من حكيم، والنطق الطيب من الناطق، وملك ذلك العالم وروحه، ويجمع عالمه الخير والحمد والنور. الصفات: خبيثة شريرة بخسة دنسة، قال بعضهم: كون الظلمة لم يزل على مثال هذا العالم، لها أرض وجو، فأرض الظلمة لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض، بل هي أكثف وأصلب، ورائحتها كريهة أنتن الروائح وألوانها لون السواد، قال بعضهم: ولا شيء إلا الجسم، والأجسام على ثلاثة أنواع، أرض الظلمة وشيء آخر أظلم منه، وهو السموم، قال: ولم تزل تولد الظلمة شياطين أراكنة وعفاريت، لا على سبيل المناكحة، بل كما تتولد الحشرات من العفونات، قال: وملك ذلك العالم وهو روحه، يجمع عالمه الشر والذميمة والظلمة. ثم اختلفت المانوية، في المزاج وسببه والخلاص وسببه، قال بعضهم: إن النور والظلام، امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالقصد والاختيار، قال أكثرهم: إن سبب المزاج، أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت إلى الروح فرأت النور، فبعث الأبدان على ممازجة النور، فأجابتها لإسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور، وجه إليه ملكا من ملائكته في خمسة أجزاء من أجناسها، فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية، فخالط الدخان النسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار والنور الظلمة والسموم الريح والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور، وما فيه من مضرة وفساد وشر فمن أجناس الظلمة، إلى آخر هذه الأساطير، التي اعتقدها هذا المانوي في القديم أو في خلق العالم، أو في الذات الإلهية، حيث إنه يرى أن العالم مركب من شيئين نور وظلمة، وهما قديمان لم يزالا ولا يزالان. وأحالوا حدوث شيء من الصنعة والتركيب، إلا من أصل قديم، وقالوا: لم نر إلا حساسين قويين دراكين سميعين بصيرين، وهما مختلفان في النفس والصورة، ومتضادان في الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضل حسن مختص بالصفاء والنقاء، وطيب الريح وحسن المنظر، ونفسه خيرة كريمة نفاعة، وكل خير وصلاح وسرور من فعلها، ليس فيها شيء من الشر ولا من الضرر، وجوهر الظلمة على ضد ذلك من النقص والكدورة ونتن الريح وقبح المنظر، ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة ضارة، وكل شر وضرر وغم وفساد فمنها يكون. وزعموا أنهما لم يزالا متباينين، ثم امتزجا من بعد، وزعموا أن عالميهما غير متناهيين من كل جهاتهما، إلا من جهة تلاقيهما، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إن النور لم يزل فوق الظلمة وهي تحته على الاستواء. فهكذا زعم ماني، أن مبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة، كل واحد منهما منفصل من الآخر، فالنور هو العظيم الأول ليس بالعدد، وهو الإله ملك جنان النور، وله خمسة أعضاء الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أخر روحانية وهي الحب والإيمان والوفاء والمروءة والحكمة، وزعم أنه بصفاته هذه أزلي، ومعه شيئان أزليان أحدهما الجو والآخر الأرض، قال ماني: "وأعضاء الجو خمسة: الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وأعضاء الأرض النسيم والريح والنور والماء والنار. والكون الآخر وهو الظلمة أعضاؤها خمسة: الضباب والحريق والسموم والسم والظلمة. قال ماني: وذلك الكون النير مجاور للكون المظلم لا حاجز بينهما، والنور يلقي الظلمة بصفحته، ولا نهاية للنور من علوه ولا يمنته ولا يسرته، ولا نهاية للظلمة في الصف ولا في اليمنة واليسرة"، إلى آخر ذلك الهراء. عقائد المانوية والزرادشتية في النفس أما عن مسألة النفس أو الإنسان: قال ماني: "فلما شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة، فخالط الدخان النسيم، فمنها هذا النسيم الممزوج، فما فيه من اللذة والترويح عن الأنفس وحياة الحيوان فمن النسيم، وما فيه من الهلاك والإيذاء فمن الدخان، وخالط الحريق النار فمنها هذه النار، فما فيها من الإحراق والهلاك والفساد فمن الحريق، وما فيها من الإضاءة والإنارة فمن النار، خالط النور الظلمة فمنها هذه الأجسام الكثيفة، مثل الذهب

والفضة وأشباه ذلك، فما فيها من الصفاء والحسن والنظافة والمنفعة فمن ال نور، وما فيها من الدرن والكدر والغلظة والقساوة فمن الظلمة، خالط السموم الريح فمنها هذه الريح، فما فيها من المنفعة واللذة فمن الريح، وما فيها من الكرب والتعويل والضرر فمن السموم، وخالط الضباب الماء فمنها هذه الماء، فما فيه من الصفاء والعذوبة والملاءمة للأنفس فمن الماء، وما فيه من التغريق والتخنيق والإهلاك والثقل والفساد فمن الضباب". وقال ماني: "وأمر ملك عالم النور، بعض ملائكته بخلق هذا العالم، وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجة، لتخلص تلك الأجزاء النورية من الأجزاء الظلمية". وأما ابتداء التناسل على مذهب ماني قال: "ثم إن أحد أولئك الأراكنة والنجوم والزجر والحرص والشهوة والإثم تناكحوا، فحدث من تناكحهم الإنسان الأول الذي هو آدم، والذي تولى ذلك أركونان ذكر وأنثى، ثم حدث تناكح آخر فحدث منه المرأة الحسناء التي هي حواء، فلما رأى الملائكة الخمسة، نور الله وطيبه الذي استلبه الحرص وأسره في ذينك المولودين، سألوا البشير وأم الحياة والإنسان القديم وروح الحياة، أن يرسلوا إلى ذلك المولود القديم من يطلقه ويخلصه، ويوضح له العلم والبر ويخلصه من الشياطين، قال: فأرسلوا عيسى ومعه إله، فعمدوا إلى الأركونين فحبسوهم واستنقذوا المولودين". قال: "فعمد عيسى فكلم المولود الذي هو آدم، وأوضح له الجنان والآلهة، وجهنم والشياطين والأرض والسماء والشمس والقمر، وخوفه من حواء وأراه زجرها، ومنعه منها وخوفه أن يدنو إليها ففعل، ثم إن الأركون عاد إلى ابنته التي هي حواء، فنكحها بالشبق الذي فيه، فأولدها ولدا أشوه الصورة أشقر واسمه قاين الرجل الأشقر، ثم إن ذلك الولد نكح أمه، فأولدها ولدا أبيض

عقائد المانوية والزرادشتية في المصير.

سماه هابيل الرجل الأبيض، ثم رجع قاين فنكح أمه فأولدها جاريتين، سمى إحداهما حكيمة الدهر والأخرى ابنة الحرص، فاتخذ ابنة الحرص قاين زوجة، ودفع حكيمة الدهر إلى هابيل فاتخذها امرأة له". وهكذا مضت مسألة التسلسل أو التناسل على نحو تلك الأساطير التي قال بها المانوية أو الثنوية. عقائد المانوية والزرادشتية في المصير وأما مسألة المصير عندهم: فمن بدعة ماني في المصير أو في المعاد، أنه إذا حضرت وفاة الصديق، أرسل إليه الإنسان القديم، إلها نيرا بصورة الحكيم الهادي ومعه ثلاثة آلهة، ومعهم الركوة واللباس والعصاب والتاج وإكليل النور، ثم أظله شيطان الحرص والشهوة والشياطين، فإذا شاهدهم الصديق استغاث بالآلهة، التي على صورة الحكيم والآلهة الثلاثة، فيقربون منه وحين تراهم الشياطين تولي هاربة، وتأخذ الآلهة ذلك الصديق، وتلبسه التاج والإكليل واللباس وتعطيه الركوة بيده، وبعد هذا يعرجون به في عامود السبح إلى فلك القمر، وإلى الإنسان القديم وإلى النهنهة أم الأحياء، إلى ما كان عليه أولا في جنان النور، ويبقى هذا الجسد ملقى، فتجتذب منه الشمس والقمر والآلهة النيرون، القوى التي هي النسيم والماء والنار، فيرتفع إلى الشمس ويصير إلها، ثم يقذف باقي جسده التي هي ظلمة إلى جهنم. وإذا حضرت وفاة الإنسان المحارب، القابل للدين والبر، الحافظ لهما وللصديقين، حضر أولئك الآلهة الذين ذكرتهم وحضرت الشياطين، واستغاث بما كان يعمل من البر وحفظ الدين والصديقين، فيهبون لتخليصه من الشياطين، فلا يزال العالم شبه الإنسان، الذي يرى في منامه الأهوال ويغوص في الوحل والطين، وهكذا إلى أن يتخلص نوره وروحه لاحقا، بملحق الصديقين ولابسا لباسهم بعد

مدة طويلة من تردده. وإذا حضرت وفاة الإنسان الأثيم، المستعلي عليه الحرص والشهوة، حضرته الشياطين فأخذوه وعذبوه وأروه الأهوال، وهنا يحضر أولئك الآلهة ومعهم ذلك اللباس، فيظن ذلك الإنسان الأثيم أنهم قد جاءوا لخلاصه، والواقع أنهم حضروا لتوبيخه وتذكيره أفعاله، وإلزامه الحجة في ترك إعانته الصديقين، ولا يزال يتردد في العالم في العذاب إلى وقت العاقبة فيلقى في جهنم. وبذلك يكون هناك ثلاثة طرق، لتقسيم نسمات الناس؛ أحدها إلى الجنان وهم الصديقون، والثاني إلى العالم والأهوال ومحافظة الدين ومعين الصديقين، والثالث إلى جهنم وهو الإنسان الأثيم. ومن تعاليم المانوية في أمر المعاد أيضا: أن الإنسان القديم يأتي من عالم الجدي، والبشير من المشرق، والبناء الكبير من اليمن، وروح الحياة من عالم المغرب، فيقفون على البنيان العظيم، الذي هو الجنة الجديدة مطيفين بتلك الجحيم، وهنا ينظرون إليها، وبعد ذلك يأتي الصديقون من الجنان إلى ذلك النور، فيجلسون فيه ويتعجلون إلى مجمع الآلهة، فيقومون حول تلك الجحيم، ويقع نظرهم على عملة الإثم، متقلبين ومترددين ومتضورين في تلك الجحيم، وإن تلك الجحيم لا قدرة لها على الإضرار بالصديقين، فإذا نظر أولئك الآثمون إلى الصديقين، يسألونهم ويتضرعون إليهم فلا يجيبونهم، إلا بما لا منفعة لهم فيه من التوبيخ، وبذلك يزداد الأثمة ندامة وغما وهما، وهذه صورتهم أبد الأبد وهو أيضا جزاؤهم. لعلنا بذلك نكون إن شاء الله تعالى، قد ذكرنا المقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية، في الله والنفس والمصير، وإن كان كل ما قالته المانوية أو الزرادشتية، لا يعدو إلا أن يكون تخريفا وتحريفا، وأنه من الضلال بمكان ومن الشرك والكفر بمكان، ونحن نحمد الله جل وعلا على نعمة الإسلام، كما نحمده سبحانه وتعالى على نعمة التوحيد، وعلى نعمة وضوح هذا الدين وسهولته، نحمده سبحانه وتعالى على نعمة القرآن ويسريته، وعلى نعمة السنة وعظمتها وبيانها وتفصيلها وشموليتها، ونحمد الله جل وعلا على أن جعلنا من أهل السنة

والجماعة، لا من أهل الفرقة ولا الضلالة، فلم يجعلنا من أولئك الفلاسفة ولا الملاحدة ولا الخوارج ولا المرجئة ولا الرافضة ولا المعتزلة، ولا غيرهم من فرق الضلالة وأهل النار والعياذ بالله، الحمد لله على هذه النعم العظيمة. الحمد لله على نعمة الإسلام ومنة الإيمان ونعمة القرآن والسنة، وأننا من أهل السنة والجماعة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله أولا وآخرا، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات على كل خير حبانا به، والحمد لله على كل حال، على كل شر ألم بنا أو بالأمة، أو بما كنا نتحدث عنه من عقائد وفلسفات وضلالات، ارتبطت بهذه الديانات الوضعية، التي بذكرها نعرف ما نحن فيه من عظمة هذا الدين، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، كم كانت النفس تتألم وتتحسر وهي تقرأ مثل هذا وتنقله، لكن لا بد من العلم بالشيء، فمن لم يعرف أمور الجاهلية وقع فيها، وما عرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية ومثل هذه المعلومات عن هذه الديانات الوضعية، لهي جديرة بأن تعرف الإنسان بعظمة هذا الدين، وتزيده إيمانا على إيمانه، وتجعله يشكر الرحمن كما يلهم النفس، أن هداه للإيمان وأن عرفه الإسلام، والحمد لله رب العالمين. الله نسأل كما هدانا للإسلام من غير أن نسأله أن يثبتنا على الإسلام حتى نلقاه، ونحن نسأله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، أن يحسن خاتمتنا أجمعين، وأن يقر أعيننا بنصرة هذا الدين، والحفاظ على المسجد الأقصى، وتطهيره من الأسر من أيدي أبناء القردة وإخوان الخنازير، حسبنا الله ونعم الوكيل. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله صحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، أستغفر الله لكل كلام قلته نقلا دون اعتقاد، الحمد لله رب العالمين أن ناقل الكفر يس بكافر، فالحمد لله على نعمة الإيمان، ونعوذ بالله من الكفر والخذلان، وفقني الله وإياك أيها الطالب طالب العلم، لما يحبه الله ويرضاه، وثبتنا وإياك على الحق حتى نلقاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1