الأدب وفنونه - دراسة ونقد

عز الدين إسماعيل

المقدمات

المقدمات مقدمة الطبعة الثامنة ... مقدمة الطبعة الثامنة: كنت عند كل مرة يعاد فيها طبع هذا الكتاب أفكر في إحداث بعض التغيير فيه وإضافة بعض الإضافات، ولكنني كنت دائمًا أتروَّى في إحداث أي تغيير يخرج بالكتاب عن وجهه الأول الذي أُلِّف من أجله، ويحتمل أن يفقد -نتيجة لذلك- وظيفته التي أدتها تلك الطبعات السابقة, وهي أن يكون الكتاب أداة توصيل للعناصر الأساسية للفكر الأدبي، بطريقة يتقبلها كل من تمس حاجته لاستيعاب هذه العناصر. إن هذا الكتاب قد أريد له ومنه أن يمس أكبر قدر من القضايا التي تطرحها نظرية الأدب والأنواع الأدبية، بالقدر الذي يكفي لتعرفها وتمثلها في إطارها النظري، ثم من خلال بعض التطبيقات العملية، ومن ثَمَّ ينال كل قضية نصيب محدود من الدراسة، ولكنه يمس أركانها الأساسية، ومحاور التفكير المختلفة فيها. وأضرب لهذا مثلا بقضية الأسلوب، فهي تناقش في هذا الكتاب في إطار نظرية الأدب؛ ليعرف الدارس موقعها من هذه النظرية، وعلاقتها بغيرها من القضايا الأخرى، في حين أن نظرية الأسلوب والأسلوبية تمثل الآن -أو تحاول أن تمثل- علمًا قائمًا بذاته. وحين شرعت في إعداد هذه الطبعة الجديدة لم تكن هناك مندوحة عن المراجعة والضبط واستكمال بعض أوجه النقص التي ظهرت في الطبعات السابقة. وهكذا صار النص في هذه الطبعة أكثر انضباطًا، وأضيفت هوامش كثيرة برزت الحاجة إلى إضافتها، ثم أجري تعديل لما كان يسمى في الطبعات السابقة ملحقًا للكتاب، فقد قام مقامه في هذه الطبعة الفصل الرابع، حيث تضمن دراسات تطبيقية في فن السيرة الأدبية، وفن المقال، وفن الخاطرة، فأضيفت بذلك إلى أسماء شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد فريد أبو حديد وعزيز أباظة من أعلام أدبنا الحديث أسماء: العقاد في مجال الترجمة الذاتية، وزكي نجيب محمود في مجال المقال، وأحمد أمين في مجال الخاطرة. وعلى هذا النحو تكون هذه الطبعة الجديدة، بما اشتملت عليه من تنقيح وإضافات، أكثر وفاء -فيما نرجو- بغرض الكتاب، وأرجو أن تلقى من القارئ القبول الذي لقيته أخواتها السابقات. وبالله التوفيق عز الدين إسماعيل

افتتاح

افتتاح: مشروع هذا الكتاب -كما يبدو من عنوانه- قد يوحي بالتفكك وانفصال أجزائه واستقلالها، ولكن الحقيقة أن هناك وحدة فكرية عامة تشمل جميع الفصول؛ ذلك أن كل فكرة كبيرة أو جزئية وردت في أي فصل من الفصول كانت تراعى، وقد تجد أصداء لها، في الفصول الأخرى، حقًّا إن كثيرًا من الأجزاء كان التعويل فيه على المفهومات النقدية الأوروبية، وهنا تكون المسئولية على صاحب النص المنقول. وتنحصر مسئوليتي في هذه الحالة في أمانة النقل والتعبير. ومذهبي في هذا النقل أنه حينما تختلف الآراء حول مسألة من المسائل فإنني أعرض تلك الآراء العرض الذي يوحي أن صاحب الرأي نفسه هو الذي يتكلم، فإذا انتقلت إلى الرأي المعارض أحسستَ نفس الإحساس. وهذه عندي خطة مثلى في العرض تتجنب التحيز والتحامل. ويأتي رأيي الخاص غالبًا بعد أن أوفِّي الآخرين حقهم من هذا العرض. والضرورة التي دفعت إلى تأليف هذا الكتاب -وهي توضح الوحدة التي تربط أجزاءه- هي حاجتنا الماسة إلى قراءة النظريات الخاصة بالأدب وفنونه المختلفة وشرحها, حتى إذا ما فرغنا من هذه النظريات كنا في حاجة إلى الدراسة التطبيقية العملية. وليس في اللغة العربية -وقل أن يوجد في اللغات الأخرى- كتاب يجمع هذين الجانبين: النظري والعملي, ولكي تتم الفائدة من تقديم تلك النظريات أخذنا نماذج من الشعر والقصة والمسرحية ودرسناها دراسة نقدية على أساس من الجانب النظري. وقد كان طبيعيًّا أن نكتفي في كثير من الحالات بعرض الخطوط العامة دون الدخول في التفصيلات والجزئيات، وذلك اعتبارًا لطبيعة الكتاب، ويبقى بعد ذلك أن كل فصل من فصوله يصلح وحده لكتاب مستقل، فكتاب عن نظرية الأدب، وآخر عن نظرية النقد الأدبي، وثالث عن نظرية الشعر، وهلم.. مشروع نرجو أن نوفق لإنجازه. وكثيرون لهم فضل مباشر أو غير مباشر على هذا الكتاب، ولكن ربما كان الفضل الأكبر لقسم اللغة العربية بكلية الآداب "جامعة عين شمس" فقد أتاح لي التدريس فيه فرصة مناقشة كثير من مسائله مع الطلاب وتمحيصها طوال السنوات الأربع الماضية. وبعد, فأرجو أن أكون بهذا الكتاب قد وضعت لبنة صغيرة نافعة في بناء نهضتنا الفكرية، وأدبنا الحديث. عز الدين إسماعيل

الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي الفصل الأول: نظرية الأدب تعريف الأدب ... الفصل الأول: نظرية الأدب "إني أعرف إذا لم أسأل، فإذا ما سئلت لم أعرف" سانت أوغسطين1 1- تعريف الأدب: من حق القارئ أن يتوقع مني هنا أن أبدأ حديثي إليه عن الأدب بأن أقدم إليه تعريفًا لهذا الأدب, وليس هذا حقا فحسب بل هو منطقي كذلك، إذ ينبغي أن نبدأ دائمًا بتحديد ألفاظنا، بأن نعرف الأشياء التي سنتحدث عنها قبل أن نمضي في هذا الحديث. وليس من الصعب أن أسوق هنا طائفة كبيرة من التعريفات التي يعرف بها الأدب، ولكن ينبغي أن نذكر أنه من الأفضل أن نبدأ حديثنا عن الأدب دون تعريف له، إذ يكفي غرضنا هنا أن تترسب في نفس القارئ بعض الحقائق الخاصة بهذا اللون من النشاط، التي تتصل اتصالًا مباشرًا بجوهر الأدب. وكل إنسان له حظ من الثقافة يعرف، بصورة أو بأخرى، ما الأدب، وكل ما في الأمر أن ما يعرفه هذا قد يختلف عما يعرفه ذاك، أو يفترق عنه قليلًا أو كثيرًا. ولكن المؤكد أنهم جميعًا يستخدمون كلمة "أدب" استخدامًا متقاربًا -إن لم يكن موحدًا- حين يطلقونها على شيء يقرءونه أو يستمعون إليه. ولكن هل الأدب حقا هو ذلك الشيء الذي يقرؤه الناس أو يستمعون إليه؟ إن تاريخ كلمة "أدب" في اللغة العربية لا يدل على ارتباط بهذا المعنى. معنى كلمة أدب: وكلمة "أدب" Literature في الإنجليزية، وLitterature كذلك في الفرنسية مأخوذة من2Litera، وهي بذلك توحي بالأدب المكتوب أو المطبوع, ولكن ينبغي أن يشمل تعريف الأدب ذلك الأدب الملفوظ كذلك؛ ولهذا كان للفظة "فن الكلمة Wort-kunst" الألمانية، ولفظة Slavesnost الروسية، ميزتهما على نظيرتيهما الإنجليزية والفرنسية3

_ 1 Saint Augustine "534-430 م": فيلسوف كاثوليكي حاول التوفيق بين الفكر الأفلاطوني والعقيدة النصرانية. 2 كلمة لاتينية. 3 انظر: Rene Wellek & Austen Warren Warren: Theory of Literature A. W. Bain & Co. london 1949, p. 11.

وإذا قلنا: إن الأدب هو فن الكلمة، سواء الكلمة المقروءة والكلمة المسموعة, كان علينا أن نعود لنتساءل: هل يتمثل الأدب فيما نقرأ مكتوبًا من شعر مثلا؟ وعندئذ تكون الكتابة في ذاتها، أي: الحروف المنقوشة بالحبر على الورق؛ جزءًا من القصيدة؟ طبيعي أن هذا لا يمكن الأخذ به؛ لأن الشعر مستقل تمامًا عن هذه الحروف المكتوبة، وعن نوع الحبر الذي كتبت به، وليست الكتابة في الواقع إلا نوعًا من التسجيل لهذا الشعر، يضمن وجوده وبقاءه في مكان ما؛ ولذلك يمكن أن يوجد الشعر غير مكتوب حين يتمثل في الذاكرة. وكذلك ليس الأدب ما تنطق به من شعر مثلا؛ لأن قراءتنا لهذا الشعر ستتأثر بصوتنا في من حيث معدنه، وبمقدرتنا على إخراج الحروف إخراجًا سليمًا, وعندئذ هل تكون هذه الأصوات التي تخرج من أفواهنا هي الشعر؟ طبيعي أنها ليست كذلك؛ لأنها أشياء متغيرة. ومن هنا كانت القطعة الأدبية الواحدة تختلف على لسان القارئ نفسه من وقت إلى آخر، متأثرة بحالته الخاصة؛ ولذلك فالصوت الذي يؤدى فيه العمل الأدبي حين يقرأ يضيف إليه عناصر ليست في العمل الأدبي، ولكن القول بأن العمل الأدبي حشد من الأصوات يبدو غير كاف تمامًا، كما لا يكفي القول بأنه تلك الحروف المنقوشة بالحبر على الورق. فن الكلمة: وعلى هذا فعبارة "فن الكلمة" لا تكفي للدلالة على الأدب إذا كان المقصود بها الكلمة، سواء المكتوبة والمنطوق بها، فإذا لم يتمثل الأدب فيما هو مكتوب أو منطوق به, ففيم إذًا يتمثل؟ هنا يأتي القول بأن العمل الأدبي ليس شيئًا خارج العملية العقلية التي نزاولها في القراءة أو في الاستماع إلى قصيدة مثلا. ومعنى هذا أن الأدب يتمثل في نفوسنا، في نشاطنا النفسي الذي نبذله حين نقرأ الكلمة أو نستمع إليها, ولكن هذا الحل النفسي بدوره غير كافٍ. صحيح -بطبيعة الحال- أن القصيدة لا يمكن أن تعرف إلا من خلال الخبرات الفردية، ولكن القصيدة ذاتها ليست هي نفس هذه الخبرات، فكل مزاولة فردية لقصيدة من القصائد تحتوي على شيء خاص وفردي صرف، فهي تتلون بلون حالتنا واستعدادنا الفردي، والثقافة، وشخصية كل قارئ، والجو الحضاري العام في فترة من الزمن، والمفاهيم الدينية والفلسفية والفنية الصرف لدى كل قارئ, كل ذلك يضيف شيئًا مفاجئًا جديدًا لكل مرة من مرات قراءة القصيدة، فقراءتان في زمنين مختلفين للفرد نفسه يمكن أن تختلفا اختلافًا واضحًا، سواء لأنه قد نما عقليا، أو لأن الظروف الوقتية أضعفته، كالتعب أو القلق أو التشتت الذهني. وهكذا نجد أن كل مزاولة للقصيدة تترك شيئًا أو تضيف شيئًا فرديًّا, ولن تتسع المزاولة حتى تشمل القصيدة، فحتى القارئ الممتاز

نفسه، سيكشف في القصيدة الواحدة في كل مرة من مرات قراءتها تفاصيل جديدة لم يعاينها خلال قراءاته السابقة. ولا حاجة بنا إلى الإشارة إلى مبلغ الضحالة والاختلاط في قراءة قارئ أقل دربة أو غير مدرب. فالقول: إن نشاط القارئ العقلي هو القصيدة ذاتها، أو العلم الأدبي ذاته، يؤدي إلى نتيجة غير معقولة، هي أن القصيدة لا توجد ما لم يمارسها إنسان، وأنها تخلق من جديد في كل ممارسة، فلن تكون هناك إذن "كوميديا إلهية"1 واحدة، بل كوميديات إلهية بعدد ما يوجد، وما وجد، وما سيوجد من قراء. وبذلك ننتهي إلى الشك والفوضى التامة، ونصل إلى العبارة الرديئة القائلة: لا مشاحة في الذوق2. المزاولة النفسية للعمل الأدبي: فالدراسة النفسية إذن -التي تنظر إلى العمل الأدبي متمثلا خلال العملية العقلية، سواء لدى القارئ أو المستمع، وسواء لدى المتحدث أو المؤلف- تثير من المشكلات أكثر مما تساعد على حل المشكلة الأساسية. فكلمة "أدب" إذن لا تعني ما هو مكتوب أو منطوق به، ولا ممارسة ما هو مكتوب أو منطوق به. ولقد تغيرت مفهومات طبيعة الأدب ووظيفته عبر التاريخ, وقد مال البعض في تعريفه للأدب إلى تضييق ميدانه حين نظر إلى بعض الإنتاج الفكري دون بعضه الآخر, وفي الجانب المقابل نجد من يتوسع في معنى الأدب حتى ليدخل في ميدانه الكتابات التشريعية والدينية والطبية, وهذان المفهومان المتطرفان لا يصيبان شيئًا من الحقيقة؛ لأنهما تنقصهما الدقة اللازمة. ويمكن البدء في محاولة تعريف للأدب "إذا نحن نظرنا إلى اعتبارين, فالأدب يتكون من تلك الكتب، وتلك الكتب وحدها، التي لها أولًا وقبل كل شيء -بحكم موضوعها، وطريقة تناول هذا الموضوع- أهمية إنسانية عامة, وهي -بعد ذلك- ينظر إلى عنصر الصورة فيها، والمتعة التي تقدمها الصورة، على أنها جوهرية، فالقطعة الأدبية تختلف -من ناحية- عن بحث متخصص في علم الفلك أو الاقتصاد السياسي أو الفلسفة أو حتى التاريخ؛ لأنها لا تتصل بطبقة خاصة من القراء فقط، بل بالناس من حيث هم ناس، رجالا ونساء. وفي حين نجد موضوع البحث -من ناحية أخرى- يكتفي بأن ينقل المعرفة، إذا بالقطعة الأدبية، سواء أكانت تنقل المعرفة

_ 1 دانتي ليجييري Dante Alighieri "1265-1321 م" كبير شعراء إيطاليا، صاحب ملحمة "الكوميديا الإلهية" Divina commedia "1308-1320 م". 2 انظر المرجع السابق ص146.

كذلك أم لا، من أهدافها المثالية أن تحدث الرضا الفني، وذلك بالطريقة التي تقدم بها موضوعها"1. المتعة والمنفعة في العمل الأدبي: وهذه الخطوة في محاولة فهم ماهية الأدب لم تزد على أن أدخلت عنصرًا جديدًا في البحث هو عنصر "المتعة الفنية" التي يحدثها الأدب. وطبيعي أن هذا العنصر الجديد ليس جزءًا من طبيعة تكوين الأدب، بل هو أثر له، فالمتعة قد تحدث لشخص يتلقى عملا أدبيا ولا تحدث لشخص آخر يتلقى نفس هذا العمل, على أننا كذلك قد نجد المتعة في أشياء ليس لها بالأدب صلة. والغريب أن فلسفة الجمال فيما يتعلق بالفن والأدب كانت في أغلب الأحيان تترك الأدب ذاته لتبحث في آثاره, ويمكن تلخيص هذه الفلسفة ببساطة في مقولتين قال بهما "هوراس"2 منذ أمد بعيد هما: المتعة والمنفعة. وقد كان تاريخ فلسفة الفن تسجيلا للمواقف التي تتوزعها هاتان المقولتان، فمن أديب ينتهي إلى أن الفن متعة، إلى مفكر يخلص إلى أن الفن منفعة, وبإزاء المتعة والمنفعة نجد اللعب والعمل، فالفن لعب في رأي، وهو عمل في رأي آخر. والمحاولة الثالثة، وهي المحاولة التي قام بها عصر النهضة في أوروبا، هي محاولة الجمع بين الخاصتين بحيث لا يمكن أن يقوم فن يوصف بوصف واحد من الوصفين، فالعمل الأدبي يقوم بالمهمتين، ويحدث الأثرين معًا، وبنجاح. وقد قلنا: إن هناك أشياء تمتعنا وهي ليست من الأدب في شيء، وكذلك هناك أشياء نافعة ولا تمتّ إلى الأدب بصلة، فحتى هذان الأثران المعروفان للأدب ليسا إذن أثرين خاصين به. وهنا "ينبغي أن نأخذ بأن متعة الأدب ليست متعة مختارة من بين قائمة بالمتع الممكنة، ولكنها متعة أعلى؛ لأنها متعة لنشاط أرقى، أعني تأملا لا يهدف إلى حيازة شيء. أما المنفعة أو الجدية والتعليم في الأدب، فهي جدية ممتعة، أعني أنها ليست جدية الواجب الذي يجب أن يعمل، أو الدرس الذي يجب أن يحفظ، ولكنها جدية فنية، جدية إدراك حسي ... "3. فإذا ما خصصنا نوعي المتعة والمنفعة اللذين يحدثهما الأدب ويؤثر بهما في التلقي، أمكننا أن نصل إلى الحديث عن الأدب ذاته، إذا ما تساءلنا عن سر المتعة والمنفعة في العمل الأدبي: لماذا كان الأدب ممتعًا ونافعًا؟

_ 1 William Henry Hudson: An Introduction to the study of literature. 2nd ed., p. 10. 2 Horace "65-8 ق. م" شاعر روماني تدور قصائده حول محور الحب والصداقة والفلسفة. 3 Weliek & Warren: Theory of Literature, p. 21.

والحق أن "عنايتنا بالأدب ترجع أولا وقبل كل شيء إلى أهميته الإنسانية العميقة الباقية، فالكتاب العظيم يستمد مباشرة من الحياة، ونحن حين نقرؤه نستكشف بين أنفسنا والحياة علاقات كثيرة وطيدة وجديدة. وفي هذه الحقيقة نجد التفسير النهائي لما له من قوة، فالأدب إبداع جديد حي لما رآه الناس في الحياة، وما خبروه منها، وما فكروا فيه, وأحسوا به إزاء مظاهرها التي لها عندنا جميعًا أهمية مباشرة وباقية، تفوق كل أهمية. وهو بذلك يعد -بصورة أساسية- تعبيرًا عن الحياة وسيلته اللغة, ولكن من المهم أن نفهم منذ البداية أن الأدب يعيش بفضل الحياة التي تتمثل فيه"1. فالمتعة والنفع اللذان نتحدث عنهما في الأدب مصدرهما تلك الأشياء التي نجدها في العمل الأدبي، والتي لها أهمية إنسانية، فبمقدار ما يكون لهذه الأشياء من أهمية يكون إمتاعها ونفعها لنا. وقد قال "هدسن" في العبارة السابقة: إن الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة، وهنا نقول: إن هذه الصلة الوطيدة بين الأدب والحياة هي السر فيما يتضمن من متعة ومنفعة؛ لأننا نحب أن نرى الحياة "منقولة إلينا"، نحب أن نجلس في مكاننا لنشاهد الحياة تمر بنا جزئياتها في سلسلة متصلة الحلقات "وهذه المتعة تتحقق في جلوسنا لقراءة كتاب، وتتمثل بصورة أوضح وأقوى في ذهابنا إلى "السينما"، ومشاهدتنا لأحد "الأفلام" أو إحدى المسرحيات"، ولكن قيمة الكتاب الذي نقرؤه، أو "الفيلم" الذي نشاهده، لا تقف عادة عند مجرد قضاء سويعات في استعراض مشاهد ممتعة من الحياة، بل إننا نمضي بعد الفراغ من القراءة أو المشاهدة لنناقش ما قرأنا وما شاهدنا. وكثيرًا ما نناقش أنفسنا بسبب كتاب قرأناه, وهناك كتب غيرت من منهج حياة قارئيها تغييرًا كاملًا, وهنا يتمثل ما للأدب من نفع، حين يعمق فهمنا للحياة، بل أكثر من هذا حين يوجه حياتنا، فالأدب يستمد من الحياة، ويدفع الحياة ويوجهها. الحياة مادة الأدب: مادة الأدب إذن في أي صورة من صوره هي الحياة، وانتقال هذه المادة إلينا يحدث في نفوسنا المتعة، وقد يشكل حياتنا, ولكن هل هذا حقا هو كل شيء في الأدب، أن ينقل إلينا الحياة؟ لا شك أن الأدب يشتمل على عناصر أخرى, فإذا نحن رجعنا إلى العبارة القائلة إن: "الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة" كان علينا أن نفهم أن الأدب لا ينقل إلينا الحياة حقا كما هي، ولكنه يعبر عنها. وقد يقال: إنه يفسرها2، وقيل أيضًا: إنه ينقدها3, وكل هذه العبارات المختلفة عن علاقة الأدب بالحياة تدل على

_ 1 Hudson: كتابه السابق ص11. 2 و3 أول من قال بذلك الناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد. انظر: b.Ifor Ivans: Literature and Science., George Allen & Unwin, 1954, pp. 99-100.

أنه لا ينقل إلينا الحياة كما هي نقلا حرفيا. قد نقول: إنه ينقل إلينا فهم الأديب للحياة من خلال تجاربه الشخصية, وهنا نكون قد أدخلنا عنصرًا جديدًا يقوم عليه الأدب، فبجانب الحياة لا بد من "فهم" الأديب لها. عناصر العمل الأدبي: هناك إذن عناصر كثيرة تشترك في تكوين العمل الأدبي، فنحن "أولا نجد بطبيعة الحالة العناصر التي تقدمها الحياة ذاتها، تلك التي تمثل المادة الأولية لأي عمل أدبي، سواء أكان قصيدة أم مقالة أم مسرحية أم قصة. ثم هناك العناصر التي يضيفها المؤلف في عملية نقله هذه المادة الأولية إلى هذه الصورة أو تلك من صور الفن الأدبي، وهذه العناصر يمكن أن تقسم تقسيمًا تقريبيًّا إلى أربعة أقسام: أولًا: هناك العنصر "العقلي"، ويتمثل في الفكرة التي يأتي بها الكاتب ليبني منها موضوعه، والتي يعبر عنها في عمله الفني. ثانيًا: هناك العنصر "العاطفي"، وهو الشعور "كائنًا ما كان نوعه" الذي يثيره الموضوع في نفسه، والذي يود بدوره أن يثيره فينا. ثالثًا: هناك عنصر "الخيال" "ويشمل النوع الخفيف الذي نسميه الوهم fancy"، وهو في الحقيقة القدرة على التأمل القوي العميق, وبعمله سرعان ما ينقل إلينا الكاتب قدرة مماثلة على التأمل. وهذه العناصر تجتمع لتقدم للأدب المادة والحياة, ولكن مهما تبلغ المواد التي قدمتها التجربة من الغنى، ومهما يبلغ فكر الكاتب وشعوره وخياله من الجدة، فإن عنصرًا آخر يلزم الكاتب عند الاهتمام بهذه العناصر قبل أن يتمكن من إتمام عمله، فهذه المادة يجب أن تشكل وتهذب وفق مبادئ النظام والتناسق والجمال والتأثير. ومن ثم نجد عنصرًا رابعًا في الأدب هو العنصر "الفني"، أو عنصر "التأليف والأسلوب"1. هذا معناه أن الأدب يقوم على عناصر بعضها بمثابة "المادة" "الحياة والفكر والخيال والعاطفة"، وبعضها يتحقق في عملية "التكوين" أي: في بناء العمل الأدبي من هذه المادة. وهذا في الواقع تعبير آخر -ولكنه ربما كان أكثر دقة- عما يقسم إليه العمل الأدبي من "محتوى" و"صورة". فإذا كان المقصود بالمحتوى الأفكار والعواطف التي يشتمل عليها العمل الأدبي، فإن الصورة عندئذ تشمل كل العناصر الشكلية التي تعبر عن هذا المحتوى، "ولكننا إذا فحصنا هذا التمييز فحصًا أكثر دقة لرأينا أن المحتوى يدل على بعض عناصر الصورة. فمثلًا: الحوادث المسرودة في الرواية تعد أجزاء من المحتوى،

_ 1 Hudson المرجع السابق ص15, 16.

في حين أن الطريقة التي تنسق بها، بحيث تكون عملا قصصيا، تعد جزءًا من الصورة، فإذا هي انفصلت عن طريقة التنسيق هذه فلن يكون لها تأثير فني بأي حال من الأحوال"1. ومهما يكن من أمر دلالة المصطلحات المستخدمة في هذا المجال، فإن هناك صفات خاصة بما سميناه مادة العمل الأدبي، وهي صفات تعد جوهرية، ولا بد من تحققها كيما يعد الأدب أدبًا، وهناك صفات أخرى خاصة بالتكوين. قد نقرأ العمل الأدبي لأغراض كثيرة، ولكننا إذا نظرنا إلى الأدب على أنه قوة حقيقية وجب علينا أن نبحث عن مصدر أسباب الرضا الأساسية، التي تتمثل في صفات: الوضوح، وعمق الفهم، وسمو الروح. ويتحقق الوضوح من خلال إحساس المؤلف بالصورة، فالمؤلف يختار المادة وينظمها وفقًا لغرض خاص. وهو بذلك يركز الاهتمام على الشكل الجوهري للأشياء في العالم المرئي وغير المرئي, وهو بذلك يومئ أيضًا إلى الغرض الذي يوجه التجربة. ومؤلفات كبار الكتاب تهدي إلى السلوك السليم بأوسع معانيه؛ لأنها تكشف لنا عن النظام الدقيق، وعن الحكمة والتوافق بين العناصر المختلفة، التي بدونها تبدو الحياة أجزاء لا معنى لها. وهذا العمل يتضمن توضيحًا واعيًا للتجربة، لا عند المؤلف وحده بل عند القارئ كذلك، وذلك باتحاده مع المؤلف خلال عملية التمثيل2. صفات الأدب المرضي: وهنا يأتي بالضرورة السؤال عن الموضوعات التي تصلح للأدب وتلك التي لا تصلح، والواقع أن الأديب -على الرغم من أنه يختار موضوعه بلا شك- يعمل في ميدان, كل ما يلقاه فيه صالح للعمل الأدبي وهو ميدان الحياة، "فلم يعد من الممكن القول: إن هناك بعض موضوعات تصلح للتناول وبعضًا آخر لا يصلح، وفي خلال نمو الواقعية في الفن القصصي، واستخدام التحليل النفسي للشخصية، اتسع ميدان الأدب اتساعًا عظيمًا"3. ثم يأتي دور الأدب في أن يعمق فهمنا للحياة "بأن يطلعنا لا على عالم الرؤية الخارجي فحسب، بل على العالم الداخلي للفكر والشعور كذلك. إننا نبدأ في فهم كيف يعيش الناس، ومن أجل ماذا يموتون, وكذلك فإننا ننظر في ذلك العالم

_ 1 Wellek & Warren: op. cit,. p. 140. 2 انظر: Nathan Comfort Star: the Dynamics of Literature: Columbia Univ. Press, New York 1945. p22. 3 المرجع السابق ص22.

الغامض، عالم العواطف واللاشعور. وعلاقتنا العاطفية الخاصة بالحقيقة الخارجية تلمس هذه الحقيقة وتوضحها بومضات اللون والضوء والظل. وهذه العلاقة الخارجية لا تكتفي بأن تخلق في الحال علاقة مثالية "غير ذريعية" بين نفوسنا وبين العالم، ولكنها كذلك تجعل من المستطاع قيام علاقة مرنة واضحة بشكل غير عادي بين ظواهر تبدو منفصلة في عقولنا. ويتبع ذلك أنه ينبغي علينا أن نشحذ مداركنا حتى نستطيع فهم ظلال المعنى الدقيقة، وإدراك الطرق التي يستطيع بها الأدب أن يوسع من فهمنا عن طريق الدقة في الكناية والإيحاء"1. فالعمل الأدبي يرتاد بنا الحياة، ويخلق بيننا وبينها علاقات جديدة من الفهم, والمعرفة، وهي الغاية التي تسعى لها الإنسانية في نشاطها الدائب. وعندما نفهم طبيعة التجربة الموضوعية، وطابع الحياة الداخلية فإننا نجد أنفسنا -وقلّ أن يحدث ذلك- في ميدان الروح. وكثيرًا ما يأتي هذا الشعور بالسمو نتيجة مثير عاطفي -له قوة ورهافة غير عادية- يقف وحده غالبًا, سواء أكانت هناك علاقة بسيطة أم لم تكن, بينه وبين مجموعة من القيم الراسخة في السلوك البشري. ولحظة من التفكير تذكرنا بمجموعة من القصائد التي لها من هذه القوة والإثارة ما يجعلنا نشعر بأننا نسمو عند قراءتها. هذه الأسباب الثلاثة لرضائنا عن العمل الأدبي ليست منفصلة, ولكنها تتحد جميعًا لتخرج لنا عملا جميلا محكما2. مشكلة العمل الأدبي: فالعمل الأدبي -فيما يبدو- ليس بسيطًا, إنه يستمد من الحياة، ولكنه ليس مجرد معنى للحياة أو فكرة عنها نتعلمها كما نتعلم الأشياء الأخرى أو كما نتعلم ذلك من الفلسفة مثلا. إنه طاقة هائلة تشع ألوانًا من الإشعاعات على مر الزمن، فلا يخبو لمعانها حتى يتجدد مع الإنسانية المتجددة الدائبة التجدد. وهي طاقة هائلة التأثير، فيكفي أن يقول الأديب كلماته حتى يكون لها من الفعل بالنفوس ومن تحريك الأرواح ما يفوق أثره كل قوة؛ ذلك أن فعلها لا يقتصر على جماعة من الناس في وقت من الأوقات، ولكنه من الممكن أن يمتد إلى كل إنسان في كل زمان وكل مكان. ويوم يطلق الشاعر قصيدته يكون العالم قد كسب قوة هائلة جديدة، ولكنها قوة خالدة باقية. إن خفقة القلب لتدفع إلى الوجود وجودًا، وإن لمحة الروح لتنفذ فتخترق القيود والسدود. وفي الوجود الأكبر تلتقي كل طاقة كونية، تلتقي الطاقة تشعها الذرة، وتلتقي الطاقة تشعها الكلمة.

_ 1 المرجع السابق ص23, 24. 2 المرجع السابق ص24, 25.

فالأدب كائن حي متجدد الحيوية، متجدد الحرارة، وله كيانه وشخصيته، مثلي ومثلك. إنها شخصية ممتلئة بالقوة، ولكنها شخصية أميز ما فيها أنها مرنة، وليست صلبة جامدة. إن النبات والحيوان والإنسان جميعًا تتكيف بحسب البيئة التي توجد فيها، وهذه القدرة على التكيف مرجعها إلى المرونة التي يتمتع بها كيانها وتتمتع بها شخصياتها. وهي كلما اختلفت عليها الأزمنة والأماكن راحت تتكيف مع البيئة الجديدة. ولولا هذه القدرة على التكيف, ولولا هذه المرونة التي تتمتع بها شخصياتها -على تفاوت بينها في أنصبتها من هذه المرونة- لوجدناها تنقرض وتزول، فالشخص لا يعيش إلا بما في شخصيته من مرونة يواجه بها ظروف الحياة فيتكيف معها، ويتغلب بذلك عليها، ويستمر بعد كل محنة في وجوده الحي النابض، وتزداد بذلك شخصيته قوة على قوة. شخصية العمل الأدبي: العمل الأدبي شخصية من هذا النوع، ولكنها شخصية جبارة، إنها شخصية قد كسبت قوتها من آلاف التفاعلات التي مرت بها في حياتها الطويلة. إننا نتفاعل مع أصدقائنا وأقاربنا وتلاميذنا ألوانًا مختلفة من التفاعل بما هم كائنات حية تؤثر وتتأثر, وكذلك تتفاعل مع الأدب. ألسنا نتخذ في كثير من الأحوال من الشعراء الذين مرت عليهم مئات السنين أصدقاء لنا؟ ألسنا نطيل صحبة قصيدة من القصائد ونعتزّ بها؟ إننا نتفاعل بذلك معها كما نتفاعل مع أصدقائنا, نتفاعل معها فتؤثر فينا ونؤثر فيها، ولكننا نمضي جميعًا وتبقى هي محتفظة بحصيلة تلك التفاعلات، ممتعة بما أفادت من تأثرات الألوف من الذين صاحبوها في وقت من الأوقات وتفاعلوا معها. ألا يكون للعمل الأدبي بعد ذلك شخصية جبارة، وطاقة هائلة؟ ولكنها شخصية مرنة، وطاقة متلونة. إنها شخصية مرنة لا تقف منك موقف عناد، ولا تصر على شيء وهي بذلك تمتاز عن الحقائق الصارمة. إنك تقرأ هذه العبارة الحسابية "2+2=4" فلا تستطيع أن تفهم منها إلا فهمًا واحدًا، ولن تخرج منها إلا بحقيقة واحدة، وهي حقيقة خالدة باقية كذلك، ولكنها حقيقة جامدة لا مرونة فيها بل فيها إصرار. ونحن نذعن دائمًا في هذه الحالة للإصرار والبناء, ويوم نريد من "2+2" أن تساوي خمسة مثلا تخذلنا العبارة؛ لأنها تصر على أن تساوي أربعة فقط، ولا يمكن التزحزح عن هذا الإصرار؛ وعندئذ نمضي طائعين أو مكرهين إلى التسليم بهذه الحقيقة التي نضطر جميعًا إلى الاتفاق عليها. إنها حقيقة صارمة جامدة لا حياة فيها، ومن ثم لا نتفاعل معها، فلا تتأثر بها شخصياتنا، ولا تترك شخصياتنا فيها أثرًا. إنها شخصية ذات جانب واحد, إذا أمكن التعبير. ولكن العمل الأدبي شخصية متعددة الجوانب، وهذا هو السر في أنها تستطيع

أن تجتذب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، هذا يتفاعل مع جانب، وذلك مع جانب آخر. إشعاعات كثيرة كما قلنا تلك التي تصدر عن الطاقة الهائلة الكامنة في العمل الأدبي. وكل منا يتلقى من هذه الإشعاعات بمقدار استعداده للتفاعل، وتبادل الفهم والتفاهم. فمن أراد من العمل الأدبي صورة جامدة من الألفاظ فإنه واجد من هذه الصورة، ومن أراد شخصية حية نابضة فإنه واجد هذه الشخصية هذه إشعاعة وتلك إشعاعة، ولكن فرق بين من يتذوق الأدب روحًا، ومن يتذوقه صورة جامدة. هكذا تقوم للعمل الأدبي شخصيته، ويتحدد ما فيه من طاقة وقوة بمقدار ما يستمد من الحياة، وما يوصله إلى نفوس الآخرين من خبرة جديدة وفهم عميق لهذه الحياة. ولكن يبدو أننا نتساهل كثيرًا في هذا التصور؛ لأن كل ما يربطنا في الواقع بالأديب لا يزيد عن ألفاظ, وكأن كل ما حسبناه للعمل الأدبي من قوة هو كامن في الكلمات، فالأدب -كما سبق- تعبير عن الحياة "أداته اللغة", فكأن اللغة هي الظاهرة الأولى التي ينبغي الوقوف عندها عندما نتحدث عن الأدب؛ لأن الأدب لا يمكن أن يتحقق إلا فيها, وحين يفرغ الأديب من أداء كلماته يكون -في الواقع- قد فرغ من أداء عمله الأدبي. وليس هذا في الحقيقة تبسيطًا للموضوع، فقد يبدو أن استخدام اللغة للتعبير أمر غاية في السهولة. ألسنا نستخدم اللغة كل يوم وكل دقيقة في قضاء حاجتنا، وفي التفاهم مع غيرنا؟ فاللغة وسيلة طَيِّعة لقضاء أمورنا وربطنا بالآخرين. ولكن اللغة في العمل الأدبي تختلف عن هذا، ومهما بلغت اللغة من وفرة المفردات التي تستطيع أن تنقل أدق المعاني، وأدق ظلال لهذه المعاني، فإنه تبقى هناك صعوبة تواجه الأديب في استخدامه اللغة في عمله الأدبي. والذين يمارسون الإنتاج منا يلاحظون في يسر أن اللغة لا تكون في كل الأحوال تلك الأداة الطيعة للتعبير عن المعنى أو الفكرة أو الشعور، فهذه الأشياء لا يتم نقلها خلال الألفاظ إلا بعد جهد كبير، ولا نذهب في المثل بعيدًا، فكلنا قد مارس الكتابة العادية، وصادف الصعوبات التي كانت تقتضيه أن يقدم لفظة على لفظة، أو يستبدل بلفظة أخرى، أو يضرب عن التعبير كله ليبدأ من جديد تركيبًا آخر للألفاظ يراه أقرب إلى تكوين الجملة التي تنقل المعنى أقرب ما يكون إلى الدقة، أو أقرب ما يكون إلى ما في نفسه، فإذا أدركنا ذلك كان تقريرنا للصعوبات التي يواجهها الأديب في استخدام اللغة أمرًا بدهيًّا. ولكن حينما نعرف أن الأديب لا يكتفي بمجرد أن يفهمنا شيئًا أو ينقل إلى نفوسنا معنى، ولكنه -إلى جانب ذلك-

يهدف إلى التأثير فينا، عندئذ ندرك الجهد الذي يبذله الأديب لتطويع الألفاظ لأداء مهمته الكبرى، فالمؤلف لا يكتفي بأن يجد اللغة الدالة على ما يرغب في أن يقوله، ولكنه يجب كذلك أن يذهب -أبعد من الدلالة- إلى الإيحاءات الفنية خلال ذبذبات النفس والفكر1. وهذا معناه أن الأديب يختار في عمله الأدبي الكلمات ذات الإيحاء الفني. ولكن ينبغي ألا توقعنا هذه العبارة في الفكرة الخاطئة التي شاعت قديمًا واتخذت في كثير من الحالات أساسًا للحكم على الإنتاج بأنه أدبي أو غير أدبي، وأعني بذلك الفكرة القائلة: إن هناك لغة أدبية، أو -على وجه التحديد- ألفاظًا أدبية وأخرى غير أدبية، فكما أن موضوعات الحياة كلها تصلح للتناول الأدبي -"ومن الخطأ أيضًا بطبيعة الحال أن نقول: إن هناك موضوعات تصلح للأدب وأخرى لا تصلح"2- فكذلك كل ألفاظ اللغة صالح لأن يستخدم في عمل أدبي. كل ما في الأمر أن الأديب يختار للكلمة المكان الذي تكون فيه أصلح كلمة تستخدم، وتكتسب الكلمة "وضعًا" خاصًّا باستخدام الأديب لها في ذلك المكان. وهذا جزء من عملية التطويع التي يتناول بها الأديب اللغة ليخضعها لغرضه، ويستخدمها استخدامًا خاصًّا. ويلاحظ "نيومان" أنه بينما تستخدم الأغلبية من الناس لغة زمانهم "كما يجدونها" فإن العبقري يستخدم اللغة لأغراضه الخاصة، ويشكلها تبعًا لاستعداداته الخاصة. ويعلق "هدسون" بقوله: ومعنى هذا أن اللغة تستقبل دائمًا أثرًا جديدًا خاصًّا على يدي كل كاتب له شخصية قوية التميز"3. فالكلمة قد تكتسب قوتها من الشخصية التي استخدمتها. وكم من عبارات كان لها أثرها في النفوس لم تكن لتحدث هذا الأثر لو لم تصدر عن شخصية بذاتها. إن الأديب ذا الشخصية القوية المؤثرة يخلق للكلمة -باستخدامه إياها- مجالا واسعا، ولا يلبث الكثيرون أن يجدوا أنفسهم واقعين في إسارها. فمن حيوية الشخصية وقوتها تستمد الكلمة، وهي بهذه الحيوية والقوة تؤثر في الآخرين, وتفرض نفسها عليهم.

_ 1 Starr كتابه السابق ص30. 2 انظر المرجع السابق ص22. 3 Hudson كتابه السابق ص36.

فإذا كانت خاصية اللغة التي يستخدمها العالم في شرح نظرية هي نقل الدلالة العامة التي يتحد جميع الناس في كل زمان ومكان في معرفتها حتى لقد يستخدم العالم الرموز الإشارية لنقل هذه الدلالات، وكانت خاصية اللغة التي تستخدم لأغراض الحياة اليومية هي أنها محلية تتخذ وسيلة لقضاء الأمور المعيشية، فإن خاصية اللغة -حين تستخدم استخدامًا أدبيًّا- هي أنها إيحائية، فهي"لا تكتفي بأن تقرر وتعبر عما تقول، ولكنها كذلك تهدف إلى التأثير في اتجاه القارئ وإقناعه، وتغييره تغييرًا تامًّا"1. إمكانية اللغة: إن لكل لغة إمكاناتها، وليس العمل الأدبي إلا بناءً لغويًّا يستغل أكبر قدر ممكن من هذه الإمكانات. ولكن هذا البناء لا تأخذ صورته شكلا طبيعيا، "فهي ليست تخطيطا هندسيا أو شكليا، ولكنها أقرب إلى أن تكون -كما هو الشأن في الموسيقى- تطورًا ناميًا لموضوع. فالأدب إذن -كالموسيقى والمسرحية الممثلة- فن حيوي، بمعنى أنه حركة تحدث نتيجة لقوة"2. معنى هذا أن الأدب يستخدم أداة تعبيرية من نوع خاص، يتحقق فيها إمكانات الموسيقى من جهة، كما أنه يتبع في تكوينه نظاما تشكيليا خاصا بها. ولكن الأدب -بعد كل هذا، أو قبله- ليس موسيقى وليس نحتًا, فالأديب الذي يخيل إليه أنه يستطيع في عمله أن يخلق بناء موسيقيا إنما هو أديب واهم؛ لأن "الموسيقى فن هائل قائم بذاته، وإمكاناته الخاصة تقع نهائيا وراء مدى اللغة المتكلمة"3. وكذلك الأدباء الذين يظنون أنهم يستطيعون أداء مهمة الفن التشكيلي في اللغة قد جرهم سوء الفهم إلى أن يحاكوا الفنانين، سواء باهتمامهم بالتفصيلات التي تقع عليها العين، أو بوصف أعمال من الفن التشكيلي. والحق أن العمل الأدبي من حيث هو بناء لغوي يتضمن إمكانات موسيقية وأخرى تشكيلية، ولكن هذه الإمكانات في اللغة تعدو وسيلة لا غاية. قد يستفيد الأديب من الإيقاع والتجانس الصوتي وغيره من الزخارف الصوتية التي يستطيع تحقيقها في عمله الأدبي، ولكن يوم تصبح هذه الأشياء هي كل مهمته فعندئذ لا يمكن أن يقال: إنه قد أنتج أدبًا؛ لأن الأدب شيء غير الموسيقى. ويستفيد الأديب بلا شك من الصور الحسية

_ 1 Wellek & Warren المرجع نفسه ص12. 2 Starr، نفس المرجع ص18. 3 J. Middleton Murry: The Problem of Style., Oxford Univ. London 1930, p. 87.

التي يلجأ إليها ليحقق المشاعر والمعاني في أشكال ملموسة مؤثرة، كما يحدث في استخدامه للاستعارة مثلا. ولكن أين تقع هذه الصور الحسية التي يكونها الأديب؟ إنها في الحقيقة لا تتمثل إلا في الخيال, فحين يقول أبو تمام في ممدوحه أنه: رقيق حواشي الحلم، لو أن حلمه ... بكفيه ما ماريت في أنه برد ويرسم لنا هذه الصورة الحسية للحلم، فإنه لم يرسم لنا صورة تنهض أمام العين كما هو شأن المصور، ولكنها صورة تتمثل في الخيال. وكذلك لا يمكن أن يقوم العمل الأدبي على حشد من هذه الصور مستقلة، كما لم يمكن أن يقوم على حشد من الزخارف الصوتية. أليس من الأفضل أن نقول: إن العمل الأدبي بناء لغوي يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة؟ ليس هذا بطبيعة الحال تعريفًا للأدب، وإنما هو اقتراح لتعريف "العمل الأدبي"؛ لأن العمل الأدبي هو الشيء القائم الملموس، وهو ما يمكن أن نتناوله بالدرس. أما الأدب ذلك الشيء المجرد، فما أولانا ألا نتعب أنفسنا في محاولة تعريفه. وقد قلنا في سياق الكلام: إن الأديب يستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا، والواقع أن هذا لا بد أن يكون بدهيًّا، على الأقل من حيث إن كل أديب له شخصيته المستقلة، فيتبع ذلك أن تكون له لغته الخاصة، أو لنقل أسلوبه الخاص.

مشكلة الأسلوب

2- مشكلة الأسلوب: وقديمًا قال بوفون1: "إن الأسلوب هو الرجل نفسه"2 وكذلك عرف فلوبير3 الأسلوب بأنه: "طريقة الكاتب الخاصة في رؤية الأشياء"، ويستطيع فلوبير أن يستبدل بالرؤية الشعور أو التفكير فيقول: إن الأسلوب هو طريقة الكاتب الخاصة في التفكير أو الشعور. "والطريقة الخاصة في الشعور والرؤية تفرض طريقة خاصة في استخدام اللغة، فالأسلوب الصادق إذن يجب أن يكون فريدًا إذا كنا نفهم من عبارة "الأسلوب الصادق" تعبيرًا لغويًّا كافيًا كل الكفاية عن طريقة الكاتب في الشعور"4.

_ 1 Comte Georges Louis Leclerc de Buffon "1707-1788 م": كاتب وعالم طبيعة فرنسي. 2 Buffon. Discourse sur le Style: Librairie Haiter, Paris 1920, p. 17. 3 Gustave Flaubert "1821-1880 م" روائي فرنسي, يعده بعض النقاد رائد الواقعية في الأدب الحديث. 4 Murry، كتابه السابق ص15.

معنى هذا أن الأسلوب ليس مجرد طريقة للكتابة يتعلمها من يشاء، ولكنه يرتبط عند كل كاتب بالإلهام الخاص الذي يدفعه إلى الكتابة، والذي يشكل هذه الكتابة، فهو الطريقة التي دفع بها هذا الإلهام ذلك الرجل بالذات إلى الكتابة، فالأسلوب "صفة لغوية" توصل بدقة العواطف أو الأفكار، أو مجموعة من العواطف والأفكار، الخاصة بالمؤلف، وحيث يتغلب الفكر يكون التعبير نثرًا، وحيث تسود العاطفة يكون التعبير إما نثرًا وإما شعرًا. ويكون الأسلوب كاملاً عندما يتم توصيل الفكر أو العاطفة على الوجه الأكمل.. فالأسلوب يعتمد اعتمادًا كليًّا على هذه التوصيل الدقيق، إذا لم يوجد لم يوجد الأسلوب"1. وخلاصة كل هذا أن الأسلوب هو طريقة الكاتب الخاصة في التفكير والشعور، وفي نقل هذا التفكير وهذا الشعور في صورة لغوية خاصة، وأن الأسلوب يكون جيدًا بحسب درجة نجاحه في نقل ذلك إلى الآخرين، ويترتب على ذلك أن تقليد الكتاب في أساليبهم -إذا أمكن ذلك- لا يحدث مطلقًا في عمل إبداعي مبتكر؛ لأن المقلد إنما يعرض عندئذ شخصية أخرى، ولا يمكن في الحالة أن يكون له أسلوبه الخاص. فالكتاب لا يتكررون، وإنما هم أفراد متميزون. وكذلك الأسلوب، خاصية فردية متميزة. وقد كان البحث في طبيعة الأسلوب مشكلة منذ عهد أفلاطون، فالأسلوب من وجهة النظر الأفلاطونية صفة نوعية خاصة، إما قائمة وإما غير قائمة، فهي ليست شيئًا يضاف إلى الكتابة. كما أنها ليست مجرد شكل توضع فيه الكتابة، ولكنها صفة -إن وجدت- تتمثل فيما هو مكتوب. ولكي نفهم وجهة النظر الأفلاطونية2 في الأسلوب يجب أن نكون على أتم المعرفة بمعنى "الكلمة" عند أفلاطون. فالكلمة3 Logos عنده تعني الفكرة ذاتها وحقيقتها الخارجية المتمثلة في صورة كلمة على السواء. فالكلمة معناها الفكرة، وكذلك هي تعني الفكرة حين تعرض في الخارج.

_ 1 نفسه ص71-72. 2 Plato "327-428 ق. م": فيلسوف يوناني، تلميذ سقراط، وأشهر كتبه "الجمهورية The Republic". 3 ومن معانيها -أيضًا- المبدأ العقلاني في الكون، وذلك في الفلسفة اليونانية القديمة.

ونستطيع بسهولة أن نفهم كيف تقبل العقل الإغريقي هذه الفكرة، وكيف بنى عليها أن كل فكرة لا يمكن التعبير عنها تعبيرًا كافيًا إلا بكلمة واحدة، فحيث إن كل كلمة لها ارتباطات تختلف -حتى عن "مرادفها"- اختلافًا بسيطًا، فإنه يتبع ذلك أن استعمال أي كلمة سوى الكلمة التي ترتبط بفكرك ارتباطًا دقيقًا يعد خطأً ونقصًا, فنقص الكلمة معناه تغير في الفكرة. ويترتب على ذلك أن يكون الرباط بين القارئ والفكر فاسدًا, وانتقال الفكرة هكذا إلى القارئ لا ينتج عنه سوى أن يستقبل القارئ ما لم يهدف الكاتب إلى أن ينقله إليه, ويتبع ذلك أن يكون من الخطأ الكلام عن أسلوب "جيد" على الرغم من نقصه. هذا كلام منطقي -كما يقول وستلاند1- لا يمكن أن نختلف فيه من حيث هو فكر مجرد, ويضيف أنه يجب أن نعترف، بوصفنا قراء عمليين، بأن هناك درجات للنجاح تتفاوت بين الكمال والإخفاق، وأن عمل الكاتب يمكن أن يكون قريبًا من التعبير الكامل عن معناه، وأن يكون من القرب بحيث نقدر معناه الذي نتج عن اختيار للألفاظ أو ترتيب لها ليس كاملا كل الكمال, والتجربة ترينا كيف أن هذا كذلك. وينبغي أن نخلص إلى نتيجتنا الخاصة، وهي أن الأسلوب الجيد غير ممكن, وكذلك يمكن الحديث عن أسلوب رديء وأسلوب خاطئ، حيث يؤكد الأفلاطوني المتمسك أنه في هذه الحالة لا يوجد أسلوب2. وخلاصة هذه القضية: أن الأسلوب ينظر إليه من وجهة نظر على أنه خاصة فكرية، ومن وجهة نظر أخرى على أنه خاصة تعبيرية. وحين ينظر إلى الأسلوب على أنه خاصة فكرية يكون التعبير اللغوي ليس شيئًا سوى تحقيق للفكرة في الصورة الحسية المناسبة. فالأفكار وحدها أساس الأسلوب بحسب رأي بوفون وأفلاطون من قبل, وحين ينظر إلى الأسلوب على أنه خاصة تعبيرية لا يكون الفكر بوصفه مادة العمل الفني أساسًا، ولا يكون لمادة العمل الفني أن تحدد الصورة وخصائصها؛ لأنه يحدث أن تكون المادة واحدة، ولكن كاتبًا يخرجها في صورة وآخر في صورة أخرى بينهما تفاوت في الواقع. وهما يختلفان كذلك عن محرر الحوادث الذي يقدم تقريره المشتمل على هذه المادة أيضًا، ولكنه يكون تقريرًا خاليًا من كل وقع, فإن ما يجعل الكتاب تحفة فنية ليس هو حوادث المغامرة الأساسية، ولكنه التعبير عنها، المرصوف رصفًا ممتازًا.

_ 1 Peter Westland. literary Apprecistion., the English universities press. London 1950 pp, 71-5. 2 نفسه ص76.

والفصل في هذا الإشكال من خلال خبرتنا العملية يقضي بأن يكون الأسلوب صفة عقلية متحققة في اللغة، ويتبع هذا أن تكون لغة الأديب شخصية. على أننا نعود فنجد الأديب يستخدم اللغة السائدة في مجتمعه، وهو لكي يوصل فكرته أو شعوره إلى الآخرين مضطر لأن يستخدم هذه "العملة" التي يتعامل بها الناس. فكيف يتسنى لنا أن نقول: إن لغة الأديب لغة شخصية صرف، وهو في الحقيقة يستخدم لغة الآخرين كذلك، أو -على الأقل- ما يفهمه الآخرون من هذه اللغة؟ أما أن الأديب يستخدم اللغة السائدة فهذا لا شك فيه، بدليل أننا لا نجد أديبًا في القرن العشرين يستخدم لغة القرون الوسطى. وأما أن لغة الأديب شخصية فهذا لا شك فيه كذلك, بدليل أننا نجد لكل أديب أسلوبه الخاص الذي نميزه به عن غيره من الأدباء، ويبقى أن يلتقي هذان الطرفان، فيتمثل في الأسلوب العظيم الجانبان الشخصي واللاشخصي. والأدب -بعدُ- إنتاج شخص لأشخاص في مجموعة. وبإزاء كلمتي الشخصي واللاشخصي نجد "الخاص" و"العام" في الأدب. وإذن "فكل عمل أدبي هو خاص وعام معًا، أو لنقل على نحو أفضل من ذلك: إنه فردي وجماعي معًا. فكل عمل أدبي -ككل كائن- له خصائصه الفردية، ولكنه يشارك الأعمال الفنية الأخرى في الصفات العامة"1. وفردية الأسلوب الأدبي أو العمل الأدبي بعامة تأتي من أنه صادر عن فرد, وعموميته تأتي من أنه موجه إلى الجماعة. وهنا نجد أنفسنا أمام مشكلة ذات جانبين هي مشكلة العلاقة بين الأدب والمجتمع. أما الجانب الأول فيبحث فيه عن موقف الأديب من المجتمع، وعن المضمون الاجتماعي لأعماله الأدبية ذاتها، وأخيرًا عن أثر هذا الأدب في المجتمع. وأما الجانب الثاني فتدرس فيه ظاهرة العبقرية المبدعة الخاصة بالأديب، واستقلال هذه العبقرية عن مجتمع بذاته.

_ 1 Wellek & Warren، كتابهما السابق ص7.

العلاقة بين الأديب والمجتمع

3- العلاقة بين الأديب والمجتمع: ونحن نبدأ هنا في شرح ذلك من حيث وقفنا في العنصر السابق، أعني: العلاقة الأسلوبية اللغوية بين الأديب والمجتمع. وقد رأينا أن التزاوج واقع بين طريقة الأديب الخاصة في استخدام اللغة، والطريقة التي تستخدم بها هذه اللغة في المجتمع. "إننا نستطيع أن ندرس طرق التعبير عند فرد من الأفراد، أو جماعة من الجماعات، أو عصر من العصور، فنجد أن الفرد -من حيث إنه يختار المادة التي أعدتها اللغة- يتأثر بالحساسية اللغوية لجماعته وعصره, وهو بمقدار ما يعكس من هذه الحساسية يساعد على توطيد الصور الأسلوبية. ولكن حساسيته الشخصية تقوم كذلك بدور فعال، فهو ذاته يستطيع في هذه الحال أن يؤثر في جماعته التي ستؤثر بدورها في مجالات واسعة، فنحن لا نستطيع أن ننكر أنه وجد أسلوب رومانتيكي مثلا، له خصائص أسلوبية فردية، ولكنه كذلك قد خلق حساسية لغوية جديدة وعامة"1. معنى هذا أن هناك تبادلا في التأثير بين الأدب ومجتمعه في استخدام اللغة, فإذا ما توسعنا قليلا -وهو هنا توسع معقول ومشروع، لما بين اللغة والأدب من علاقة- قلنا: إن هناك تبادلا في التأثير والتأثر بين الأديب ومجتمعه في إنتاجه الأدبي. فالأديب يتأثر بالحياة الخارجة السائدة في بيئته، القائمة في مجتمعه، وهو يستمد أدبه من حياة هذا المجتمع, وهنا تأتي العبارة المأخوذة عن "دي بونا"2، التي تقول: "إن الأدب تعبير عن المجتمع"3. وعندئذ نتساءل مع "ولك" و"وارن": ما معنى هذه الحقيقة التي يسلم بها الناس دون برهان؟ إذا كانت تعني أن الأدب في أي زمان من الأزمان مرآة تنقل أحوال المجتمع نقلًا "صادقًا" فإنها تكون باطلة. إنها حقيقة عادية وقديمة ومبهمة إذا كانت تعني فقط أن الأدب يصور بعض مظاهر الواقع الاجتماعي, وحتى القول: إن الأدب مرآة تنقل الحياة أو تعبر عنها، قول أكثر غموضًا. إن الكاتب لا يملك إلا أن يعبر عن تجربته وفهمه العام للحياة, وإنها لقاعدة تقديرية خاصة أن تقول: إن المؤلف ينبغي أن يعبر عن الحياة في زمنه تعبيرًا كاملًا، وأن يكون "ممثلًا" لعصره ومجتمعه4. فالأديب حين يتأثر بالمجتمع إنما يعكس فهمه هو على هذا المجتمع, والأدب تصوير لهذا الفهم ونقل له. أما أن ينقل الأديب حياة المجتمع أو أن يكون المرآة التي تعكس حياة هذا المجتمع ليتلقاها أو يراها المجتمع ذاته فعبث ليس من الأدب في شيء. فالأديب يتخذ لنفسه دائمًا موقفًا "فكريًّا" من مجتمعه, ومن هنا فقط تأتي الفرصة لأن نقول: إن الأديب يؤثر في مجتمعه, إنه يعيش في مجتمعه، ولكنه لا ينتج أدبه إلا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هذا المجتمع، متخذة موقفا فكريا خاصا به.

_ 1 Marcel Creasot: Le Style et ses Techniques: Press Universitaires de France, 1945, p. 4. 2 Louis de Bonald "1754-1840"، كاتب سياسي فرنسي، دافع عن المبادئ الكاثوليكية والملكية. 3 جي de Bonald السابق ص90. 4 نفسه.

إن هناك عوامل تؤثر تأثيرًا واضحًا في إنتاج الأديب مرجعها إلى المجتمع, ولكن فعل هذه العوامل لا يكون قويا ذا أثر بعيد في العمل الأدبي الأصيل. من ذلك أن الأديب يكتب لجماعة دائمًا، وهو -فضلًا عن أنه يحقق ذاته في الجماعة- يريد أن يؤثر فيهم، وأن يكسب رضاهم, ووسيلته إلى هذا التأثير وهذا الكسب أن يحدثهم فيما يعنيهم. والحد الفاصل هنا بين الأدب العظيم والأدب "التجاري" غاية في الدقة؛ فالأديب العظيم يستطيع أن يؤثر في مجتمعه، وأن يكسب رضاه، دون أن يخضع لإرادة هذا المجتمع، بل ربما استطاع تحقيق ذلك وهو يقف معارضًا للمجتمع، والأديب التجاري وحده هو الذي يتملق الجماهير، ويخضع لها، ويترك إرادته تذوب في إرادتها. الأول هو الذي يؤدي دور الأديب الحق في مجتمعه، حين يتأثر بهذا المجتمع ثم يحاول التأثير فيه, وهو تأثير له خطورته؛ لأن له خطته وهدفه. أما الثاني فلا يمكن أن يكون عامل دفع في مجتمعه؛ لأنه سيترك المجتمع يدور في نطاق ذاته. والمضمون الاجتماعي للعمل الأدبي -بهذا المعنى- لا يستمد في الحقيقة من واقع الحياة في المجتمع، بل من "موقف" الأديب "الفكري" من الحياة في هذا المجتمع. والمضمون في ذاته قيمة, وهو قيمة تتولد عن مواقف الأديب الفكرية من القيم الأخرى السائدة في المجتمع. فالعمل الأدبي ذو المضمون الاجتماعي هو الذي يضيف إلى مجموعة القيم السائدة قيمة جديدة قد تلغيها أو تعدل منها. وهنا يأتي الحديث عن أثر الأدب في المجتمع، فهو بما يقدم إليه من قيم جديدة يساعد على تغييره وتشكيله. وأقرب مثال نسوقه هنا دليلًا على ذلك أن أبطال القصص والمسرحيات -وهي أعمال أدبية- ليست سوى قيم مجسمة، إذا أمكن التعبير. وكثير من الناس قد غيروا -أو على الأقل عدلوا- من اتجاههم في الحياة، وفهمهم إياها، وموقفهم منها، متأثرين بشخصية بذاتها في قصة أو مسرحية. والأفضل هنا أن نقول: متأثرين بقيمة جديدة أو بمضمون. هذا فيما يختص بمشكلات الجانب الأول من العلاقة بين الأدب والمجتمع. أما الجانب الثاني فيناقش في إطار نظرية العبقرية، "فالعبقرية والإلهام ينظر إليهما بوصفهما قوة خفية تدب في الإنسان مستقلة عن جهوده الخاصة. فمثلًا نجد "موزار"1 يؤلف في سن السادسة، ويصير "كيتس"2 شاعرًا عظيمًا في سن العشرين، ويكتب

_ 1 فولفجانج موتسارت Wolfgang Mozart "1756-1791 م": مؤلف موسيقى نمساوي، يعد من أعظم عباقرة الموسيقى في كل العصور. 2 جون كيتس John Keats "1795-1821 م": شاعر إنجليزي، يعد أحد زعماء المدرسة الرومانتيكية.

"هيوم"1 عملًا فلسفيًّا حاسمًا في الثانية والعشرين، فهل العبقري في الحقيقة مبدع أم مجرد منفذ يعبر روح العالم وعقله عن نفسيهما من خلاله؟ "2. فإذا قلنا: إن العبقرية مبدعة أسقطنا -أو استطعنا أن نسقط- أثر البيئة وأثر المجتمع في إنتاج الفنان والأديبح لأن "موزار" في سن السادسة لا يمكن أن يقال: إنه حين ألف أعمالًا موسيقية كان قد اتخذ لنفسه "موقفا فكريا" خاصا من مجتمعه، وإن تأليفه كان متأثرًا بهذا الموقف. وإذا قلنا: إن العبقرية مجرد منفذ ألغينا كيان الأديب وفرديته، وقربنا من القول بالآلية. وليس هنا مجال التوسع في شرح هذه المسائل3، ولكن الذي يهمنا هو أن نكون على وعي بموقف الأديب من المجتمع، فالأديب له فرديته ولا شك, ولكنها الفردية المتحققة بوجود المجموعة وفيها. وهو كذلك له عبقريته المبدعة، ولكن ما يبدعه لا تكون له قيمة إلا بما يحدث من أثر في المجموعة. فالأدب إذن -في عبارة موجزة- قيمة إنسانية اجتماعية.

_ 1 دايفيد هيوم David Hume "1711-1776 م": فيلسوف إسكتلندي، قال: إن الاختيار مصدر المعرفة كلها. 2 Joyce cary: What does Art create., ed, in "Literature and Life", London 1951, 2nd vol. p. 35. 3 للتوسع في ذلك راجع كتابنا "الأسس الجمالية في النقد العربي" دار الفكر العربي، ط8 سنة2001, وكذلك كتابنا "التفسير النفسي للأدب" ط4 دار غريب.

مناهج دراسة الأدب

4- مناهج دراسة الأدب: ومن الممكن النظر إلى التاريخ كله، والعوامل البيئية كلها، على أنها تشكل العمل الفني. ومعظم دارسي الأدب يحاولون أن يعزلوا مجموعة خاصة من ألوان النشاط والإبداع البشري، ويعزون إليها وحدها الأثر الحاسم في العمل الأدبي؛ ومن ثَمَّ تنظر مجموعة من الدارسين إلى الأدب على أنه -بصفة أساسية- نتاج مبدع فرد، وينتهون من ذلك إلى أن الأدب ينبغي أن يفحص -بصفة أساسية- من خلال الترجمة لحياة المؤلف، ودراسة نفسيته. ومجموعة ثانية تبحث عن العوامل الأساسية الحاسمة للإبداع الأدبي في حياة الإنسان العامة, تبحث عنها في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومجموعة أخرى تبحث عن التفسير السببي للأدب بصفة خاصة في نتاج جمعي آخر للعقل البشري، كتاريخ الأفكار وتاريخ الديانة والفنون الأخرى.

وأخيرًا، هناك مجموعة من الدارسين تحاول شرح الأدب في ضوء نظرية "روح العصر1 Zeitgeist". ويبدو أن الرجوع بالأدب إلى أن يكون أثرًا لسبب واحد من هذه الأسباب أو غيرها خطأ ظاهر. وقد قامت نظرية "تين2 Taine" في تفسير الأدب على اعتبار: 1- الجنس. 2- البيئة. 3- العصر. أما الجنس فلم تكن دراسة "تين" له دراسة حاسمة، أما العصر فقد دخل في مفهوم البيئة, ويبقى تأثر الأدب بالبيئة. ومن الممكن أن يرتبط الأدب بالأوضاع الاقتصادية المادية، والسياسية, والاجتماعية، ولكن بطريق غير مباشر. وطبيعي أن هناك علاقات بين كل ألوان النشاط البشري, فمثلا نستطيع أن نجد علاقة بين طرق الإنتاج والأدب، من حيث إن النظام الاقتصادي له من القوة ما يتحكم به في أساليب حياة الأسرة، وتقوم الأسرة بدور مهم في الثقافة، في معاني الجنس وفي الحب، وفي كل الأمور العادية والتقليدية في المشاعر الإنسانية3. ولكن هل حقا تؤثر الفلسفة مثلا، أو النظريات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية, هل حقا تؤثر في توجيه الأدب توجيهًا خاصًّا؟ وأين إذن تكون نقطة البداية؟ من أين تنطلق الشرارة الأولى؟ هل تبدأ السياسة فتؤثر في هذه المظاهر الحضارية الأخرى لأمة من الأمم، أم تكون تلك البداية للنظريات الاجتماعية؟ ولماذا -في هذه الحالة- لا نقول: إن الأدب قد يكون هو الموجه الأول الذي يؤثر في اتجاه ألوان النشاط الأخرى؟ من الممكن أن يحاول كاتب من الكتاب أن يبين كيف أن فلسفة معينة لعلم من أعلام الفلسفة قد أثرت في اتجاه الحياة الأدبية في عصر من العصور. وكل ما يمكن أن يقال عن هذا التفاعل بين الفلسفة والأدب يمكن -كذلك- أن يقال عن التفاعل بين

_ 1 انظر Wellek & Warren: كتابهما السابق ص65, 66. 2 هيبوليت أدولف تين Hippolyte Adolphe Taine "1828-1893 م": ناقد فرنسي، حاول أن يطبق المنهج العلمي في النقد الأدبي. 3 انظر المرجع السابق ص107.

الأدب والاجتماع، وبين الأدب وعلم النفس، وبين الأدب والسياسة ... إلخ، فأصحاب هذه الميادين يستطيعون أن يتطوعوا بتقديم التفسيرات المختلفة، المتضاربة أو المتفقة، لاتجاه أدبي سائد في عصر من العصور. وقد قررنا أن الأدب يتأثر بظروف الحياة المختلفة، إلا أنه يبدو من الممكن -مع ذلك- قبول وجهة نظر تجعل من لون خاص من ألوان النشاط البشري "نقطة البداية" لكل ألوان النشاط الأخرى، سواء أكانت نظرية "تين" الذي يرد كل القدرة الإبداعية إلى عامل بيولوجي غامض هو الجنس، أم نظرية "هيجل"1 والهيجليين الذين يعدون "الروح" القوة المحركة الوحيدة في التاريخ، أم نظرية الماركسيين2 الذين يأخذون كل شيء عن طريق الإنتاج3. نحن بذلك نستطيع أن ننفي ما شاع خطأ من أن الأدب يتأثر بالبيئة والثقافة ونظام الحكم، أو بأي لون آخر من ألوان النشاط البشري؛ لأن هذه الأشياء ذاتها قد تتأثر بالأدب بنفس المعنى، ولكن من الأفضل أن نعد كل ألوان النشاط صورًا تعبيرية إنسانية مختلفة لجو عام أو طابع أو روح عام، "فليس الأدب سوى مسرب من المسارب الكثيرة التي يصب فيها عصر من العصور نشاطه، ففي حركاته السياسية، وفي فكره الديني، وفي نظره الفلسفي، وفي فنه، نجد نفس النشاط وقد اتخذ صورًا أخرى من التعبير"4. وسأستعرض فيما يلي أمثلة من التاريخ نرى من خلالها كيف كان "المذهب الأدبي" تعبيرًا فنيًّا، مباشرًا أو غير مباشر، عن روح الحياة السائدة في فترة بعينها. المذاهب الأدبية: في القرن السابع عشر، وفي إيطاليا، يبدأ العصر "الكلاسيكي"5 بالنزعة "الإنسانية". وقد كانت هذه النزعة حركة عقلية امتدت إلى الحياة الاجتماعية، وكان ممثلو هذه النزعة يعيشون في بلاط الأمراء وأعوانهم، وكان لهم تأثير كبير في كل عناصر المجتمع. وسرعان ما امتد هذا اللون الحضاري إلى فرنسا في بلاط الأمراء, وتمثل بخاصة في بلاط "مارجريت دي نافار"6. وقد كان هذا الاتجاه اجتماعيا، ولم

_ 1 جورج فلهلم فريدريك هيجل George Wilhelm Friedrich Hegel "1770-1831م": فيلسوف ألماني، صاحب المنطق الجدلي الهيجلي. 2 كارل ماركس Karl Marx "1818-1883 م": فيلسوف اجتماعي، ألماني الأصل، أشهرآثاره: "رأس المال Das Kapital". 3 المرجع السابق والصفحة. 4 Hudson: An Introduction to the Study of Literature. 5 الكلاسيكي "Classic"، والكلاسيكية "Classicism". 6 Marguerite de Navarre "1492-1549 م": شقيقة الملك فرنسوا ملك فرنسا، وهي أرملة شارل الرابع. تزوجت في عام 1527 من ملك نافاز. وقفت إلى جانب دعاة الإصلاح الديني، وهي شاعرة وكاتبة. لها مجموعة قصصية بعنوان: "L'heptameron".

تكن له أول الأمر علاقة مباشرة بالأدب. وهو وإن كان حقا لم ينتج أدبًا من الطراز الأول، فإنه لولا هذه الحركة لما كان من الممكن أن تكتب الأعمال الفنية الكلاسيكية الرائعة. وفي القرن الثامن عشر نجد نزعة فلسفية واضحة تمتد لا لتجرف الأدب في تيارها، بل تتعدى ذلك إلى البحوث الذوقية الجمالية الصرف. ومنذ أواخر هذا القرن، وفي القرن التاسع عشر، تظهر "الرومانتيكية"1 وتنتشر، وكان بعض النقاد يصفها بأنها "مرض العصر" وهو مرض لم يتأثر به الأدب وحده، بل كان طابعًا عامًّا للعصر كله. وعلى الإجمال, من الممكن الكلام عن الأدب الكلاسيكي بوصفه أدب العقل، والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، واتباع الأصول الفنية القديمة للأدب، وعن الأدب الرومانتيكي بوصفه أدب العاطفة والخيال والتحرر الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من ربقة الأصول الفنية التقليدية للأدب، والأدب الرومانتيكي يمثل "روح" الثورة، والتمرد، والانطلاق, والحرية. وقد استمرت الرومانتيكية تحتل الميدان حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، ففي الربع الثالث من هذا القرن ينشط اتجاه آخر هو الاتجاه "الواقعي". وكما كانت الرومانتيكية رد فعل الكلاسيكية، فكذلك كانت "الواقعية"2 رد فعل الرومانتيكية. والواقعية هي تصوير الحياة على ما هي عليه, ولكن ليس هذا هو التحديد الدقيق للواقعية من حيث هي مذهب أدبي؛ لأن الواقعية في الحقيقة تؤكد بعامة جانبًا خاصًّا من الحياة، هو أقل الجوانب تمدحًا بالنبل الإنساني. وقد فصل "جورج مارلييه" في بحث ألقاه في المؤتمر الدولي لتاريخ الفن الذي عقد في بروكسل سنة 1930 بين الواقعية التي تفهم من حيث هي معاناة حرفية للواقع، والواقعية كما تفهم من حيث هي تصوير لمناظر من الحياة المنحطة3. وقد كانت الواقعية تعبيرًا عن ذلك الروح الجديد الذي سيطر على الحياة في ذلك الوقت، وهو "الروح العلمي"، فقد ترك الواقعيون خيالات الرومانتيكيين وأحلامهم، وراحوا يلتمسون الحقيقة في الواقع الملموس، فليس للواقعيين إيمان بعالم علوي فوق المحسوس، ولكنهم يؤمنون بالحقيقة الواقعة، وهذه الحقيقة يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة.

_ 1 Romanticism. 2 Realism. 3 انظر: Read H, the Meaning Of Art., Faber, London, 1st. ed. 1931, pp. 81-3.

ومن المألوف عند الناس أن ينظروا إلى هذه المذاهب الثلاثة: الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية، على أساس أن بينها صراعًا، والحقيقة أن كل مذهب منها يمثل الحد الأقصى للون فقط من ألوان النشاط الإنساني، فالدوافع البدائية تؤدي بنا إلى الرومانتيكية، وإحساسنا بالحقيقة يؤدي بنا إلى الواقعية، ويؤدي بنا إحساسنا الاجتماعي إلى الكلاسيكية، أي: الفن الذي يحترم فيه الناس القانون والتقاليد. وأحسن الأدب -فيما أعتقد- هو ما حافظ على التوازن بين هذه القوى جميعًا، كما صنع هوميروس1 وتشوسر2 وشكسبير3 ورنسار4 5. غير أن كل مذهب يتطرف في اتجاهه حتى يصل إلى زمن يحس الناس فيه بأنه ليس كافيًا للتعبير، ويمضون يبحثون عن أسلوب جديد. ومن هنا ظهر "المذهب الرمزي" في أعقاب الواقعية. وزعماء الرمزية الأوائل هم "بودلير"6، و"فرلان"7، و"مالارميه"8. وقد كان لهؤلاء الشعراء -برغم اختلافاتهم الواضحة- وجهة نظر واحدة في الحياة؛ ومن ثم كانت "الرمزية9 Symbolism" -رغم أشكالها المختلفة- تتحد في عقيدة واحدة حددت طابع شعرها. كانت حركة القرن التاسع عشر الرمزية في فرنسا حركة صوفية في جوهرها. وقد عارضت -في أسلوب نبيل- الفن العلمي لعصر كان قد فقد كثيرًا من اعتقاده التقليدي في الدين، وأمل في أن يجد بديلا منه في البحث عن الحقيقة. وقد عارض الرمزيون هذه الواقعية العلمية، وكان اعتراضهم "صوفيا" من حيث إنه قام يدعو لعالم مثالي هو -

_ 1 Homer "القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد": شاعر يوناني, صاحب ملحمتي "الإلياذة Ilid, والأوديسة Odyssey". 2 جيوفري تشوسر: Geoffery Chaucer "1340-1400 م": شاعر إنجليزي، ولد في لندن. قلد الشعراء الإيطاليين، وأسهمت أعماله الأدبية في إثراء قواعد اللغة الإنجليزية. ومن أشهر أعماله "قصص كنتربري the Canterbury Tales". 3 William Shakespeare "1564-1616": شاعر إنجليزي، يعد أعظم الشعراء الإنجليز بلا استثناء. وضع عددًا من المسرحيات الشعرية الخالدة. 4 ببير دي رونسار Piarre de Ronsard "1524-1585": يعد أحد مؤسسي مدرسة "Plaiade" التي نادت بالتجديد في الشعر, واستخدام اللغة الفرنسية في كتابة الأعمال الأدبية، مع العمل على تنويع مصادر الإلهام. 5 F. L. Lucas., Literrature and Psychology. Cassel & Company. London 1951. p. 100. 6 شارل بودلير Charles Baudlare "1821-1867 م": شاعر فرنسي، تميز شعره بطابع رمزي. 7 بول فرلان Paul Verlaine "1844-1896 م": شاعر فرنسي، تأثر بأشعار شارل بودلير. تأرجح في كتاباته بين الخير والشر والإيمان والإلحاد. 8 إسطفان مالارميه Stephane Mallarme "1842-1898 م": شاعر فرنسي، يعد مؤسس المدرسة الرمزية وزعيمها. 9 لمعرفة نشأة مدرسة الرمزية وتاريخها انظر: Max Nordau: Degeneration, William Heineman, London 1931, pp. 100 ff.

في حكمهم- أكثر واقعية من عالم الحواس. ويدعى "مالارميه" وأتباعه رمزيين بحق؛ لأنهم حاولوا أن ينقلوا تجربة علوية في لغة الأشياء المرئية؛ ومن ثم فإن كل كلمة تكون رمزًا، وتستخدم لا في غرضها العادي بل لما تثيره من علاقات تتصل بحقيقة فوق الحواس. فالرمزية تؤمن بالعالم من الجمال المثالي، وتعتقد أن هذا العالم يتحقق في الفن، والأشواق التي يجدها العابد خلال الصلاة والتأمل تتحقق للشاعر الرمزي خلال عمله. وقد يكون فهم الرموز صعبًا على الآخرين، ولكنها حين تنكشف لهم تنقل إليهم بهجة علوية لا تتحقق بأي أسلوب آخر. وهكذا خالف الرمزيون الرومانتيكيين من حيث تحاشيهم الموضوعات الشعبية والسياسية. وكذلك كانوا أعداء لوجهة النظر الواقعية أو العلمية؛ لأنها -بطبيعتها- تنكر, أو تحطم العالم المثالي الذي هو مركز لألوان نشاطهم. ويمكن أن يقال -من الناحية السياسية: إن الرمزية كانت رد فعل أرستقراطي لانتشار الأفكار الديمقراطية، فلم يكن الرمزيون يتحدثون إلى وطن أو إلى جيل, ولكن إلى أنفسهم. وقد اهتم الرمزيون بالموسيقى في شعرهم اهتمامًا كبيرًا، وكان تأثرهم عظيمًا بموسيقى "فاجنر"1، فكانوا حين يستمعون إليها يحسون في عظمتها وقوة دفعها شيئًا جديدًا، وقد وجدوا فيها مثيرًا يشبه تمامًا ما أرادوا أن يحدثوه من خلال شعرهم. ومن هنا كانت الموسيقى أساسية عندهم؛ لأن عملها الإثارة والإيحاء, وكان "مالارميه" يرى أن الشعر يجب ألا يعلم فقط بل يوحي ويثير، ألا يسمي الأشياء بل يخلق أجواءها2. وإذا كنا نستطيع أن نميز القرنين السابع عشر والثامن عشر بنزعتهما الكلاسيكية, فإننا لا نستطيع كذلك أن نتحدث عن طابع القرن العشرين مثلا؛ ذلك أنه عصر معقد غاية في التعقيد، والمذاهب فيه تظهر وتختفي بين فترة وأخرى، وقد فقد الناس فيه ثقتهم في العقل "الكلاسيكية" كما فقدوها من بعد في العاطفة "الرومانتيكية"، وراحوا بعد ذلك يبحثون عن أسلوب جديد لإدراك الحقيقة، وقد ظهرت نتيجة لذلك مدارس كثيرة مختلفة ومتعارضة، ولكننا نستطيع أن نلمح عاملًا واحدًا يكمن وراءها ويوجهها هو "اللاشعور". فالروح العام لذلك العصر هو البعد عن العالم الخارجي والفرار منه إلى العالم الداخلي, والأديب في هذه الحالة يترك ذاكرته "اللاشعورية" تعمل وتسجل أفكارها الغريبة، وهو بذلك يحاول نوعًا من الكتابة الآلية التي تقترب -بدرجة تختلف

_ 1 ريتشارد فاجنر Richerd Wanger "1813-1883 م": مؤلف موسيقى ألماني، أدخل الدراما في الأوبرا. 2 المعلومات التي عن الرمزية هنا يرجع فيها إلى: C. M. Bowra: the Herritage of Symbolism., macmillan, London, 1943, pp. 16.

قلة وكثرة- من عمل اللاشعور عنده، أو يمثل ذلك العمل عن طريق تداعي الأفكار، والروائي الفرنسي "مارسيل بروست"1 في روايته "في البحث عن الزمن الضائع" يعطينا مثالا للاتجاه إلى اللاشعور، فإذا كان "بروست" يحاول أن يستجمع الزمن الضائع فليس ذلك إلا أنه يعتقد أن الماضي دائمًا حاضر في مكان ما من اللاشعور، ولا يحتاج إلا لما يثيره ويخرجه إلى السطح. هذا الاتجاه يتبلور في وضوح في المذهب "السيريالي"، فالسيريالية2 تعتمد على آلية نفسية صرف، تهدف إلى التعبير -سواء باللغة أو بالكتابة أو بأي طريقة أخرى- عن العمل الحقيقي للاشعور, فهي إملاء اللاشعور، دون وجود أي رقابة للعقل، وبعيدًا كل اهتمام فني أو أخلاقي3. ويمكن أيضًا تلمس خيوط الاتجاه إلى اللاشعور بتأسيس المذهب "الدادي Dadaism" على يد "تسارا"4 في زيوريخ سنة 1916، ذلك المذهب الذي انتقل إلى فرنسا بواسطة "فيليب سوبر"5. وقد يمكن فهمها بوضوح من الصورة التي عبر بها "سوبر" عن هذا الاتجاه بقوله: "ضع الألفاظ في قبعة، ثم أخرج منها ما يعنّ لك، فبهذا يصنع الشعر الدادي"6. ومن الجدير هنا بالملاحظة أنه في هذه الفترة التي يحاول فيها الأدب ارتياد اللاشعور والتعبير الآلي التلقائي عن مكنونه, في هذه الفترة كانت فلسفة "برجسون"7 الخاصة بالحدس المباشر8 intuition من حيث هو أساس الإبداع الفني، ونظريات "فرويد"9 النفسية التحليلية الخاصة باللاشعور، كانت قد لقيت رواجًا عظيمًا.

_ 1 مارسيل بروست Marcel Proust "1871-1922 م": روائي فرنسي، عني بالتحليلات النفسية لشخوصه الروائية. 2 Sur-realism. 3 Andre Breton; Les Manifestes du Surrealisme., Edition du Sagettaire, Paris 1964, p. 45. 4 ترستان تسارا Tristan Tzara "1896-1963 م": كاتب فرنسي من أصل روماني. 5 فيليب سوبو Philippe Soupault: كاتب فرنسي اشترك في تأسيس مجلة: "الأدب" في باريس سنة 1919، حيث ظهر فيها أول عمل "سريالي"، وهو الحقول المغناطيسية. 6 Laurence Bisson: A short History of Literature, Pelican Book, 1943, p. 145. 7 هنري برجسون Henri Bergson "1859-1941 م": فيلسوف فرنسي، مُنح جائزة "نوبل" في الأدب 1927م. 8 الحدسية "intuitionism": مذهب يقول بأن ثمة حقائق أساسية تعرف بالحدس. 9 سيجمند فرويد sigmund Freud "1856-1939 م": طبيب أمراض عصبية ونفسية، نمساوي الأصل. أسس منهج التحليل النفسي Psychoanalysis.

ومن الملاحظ أن الإنتاج الأدبي في هذه العصور المختلفة لم يكن مقسمًا بالتساوي بين الأنواع الأدبية المختلفة، ففي القرن الثامن عشر غلب النثر. ويذهب "درنكووتر1 Drinkwater" إلى أن تاريخ النشاط الأدبي بين سنة 1914 وسنة 1939 -أي: بين بدايتي الحربين العالميتين- هو إلى حد بعيد، تاريخ القصة، ولا عجب في ذلك عنده، فقد كانت هذه الفترة فترة اضطراب اقتصادي وخلقي وعقلي. وقد تبع ذلك أن المادة التي كان على الكاتب أن يتناولها كانت معقدة إلى حد أنه لكي يضعها في شكل أدبي, كان في حاجة إلى صورة تستطيع تسجيل كل أنواع الأفكار والتجارب, والقصة تفي بذلك الغرض؛ ومن ثم أصبحت القصة أداة الجميع في التعبير، فاحتلت المكان الذي كانت تشغله أدوات التعبير الأخرى، كالمسرحية والمقالة والقصيدة الطويلة. وقد شجع الكاتب في هذا الاختيار معرفته أن المستويات الثقافية العالمية قد خلقت جمهورًا لا يشجعه على قراءة الأدب إلا إطار الفن القصصي. وربما كان الميل إلى القصة كذلك راجعًا إلى أن القصة من بين جميع صور التعبير، تبدو أقل هذه الصور خضوعًا للقواعد والتحديدات، وقد كان هذا العصر عصر التمرد على الأصول، وكراهية هذه الأصول هي التي أدت كذلك إلى حركة التدهور في الشعر2؛ ولذلك نلاحظ أن كثيرًا من الأدباء الذين بدءوا حياتهم شعراء في تلك الفترة من القرن العشرين قد تحولوا إلى كتابة القصة. لقد كانت القصة أطوع في أيديهم لتحليل كثير من مظاهر اللاشعور، ويمكن تلخيص اتجاه الأدب في هذه الفترة بأنه كان -من جانب الأديب- تعبيرًا عن اللاشعور تعبيرًا حرًّا، يجتهد في أن يوصله إلى نفس متلقي فنه عن طريق الحس. وقد حدث تغير كبير في العالم في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. تغيرت مُثُل، واستُحدثت قيم، وتغير وضع الإنسان تغيرًا واضحًا. ويلاحظ "درنكووتر" أن الإنسان في السنوات الأخيرة قد أصبح تحت ضغط الحوادث حيوانًا سياسيًّا، فقد لعبت السياسة دورًا في حياة الفرد، ولكنه يستطيع أن يختار إلى أي حد ينبغي أن يكون مقدار هذا الدور. ففي القرون الماضية لم تكن جماهير الناس تستطيع القيام بأي دور فعال في هذا الميدان، فكانت تظل مبتعدة عن سير الحوادث في عالم السياسة إلى أن تؤثر هذه الحوادث في حياتهم ومصالحهم. وبقيام الديمقراطيات، وانتشار الثقافة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت السياسة هَمَّ كل إنسان. وقد نتج عن ذلك إحساسنا بالتفاعل القوي بين الفرد والجماعة، وكان من أثر ذلك الأدب المعاصر أن

_ 1 جون درنكووتر John Drink Water "1882-1937 م": شاعر وناقد وكاتب مسرحي إنجليزي. 2 راجع: Drink water "John": The Outine Of Literature. George Newnes, London 1950, P. 752.

القصة -وكانت تعتمد بصفة أساسية على الصراع, والعلاقات بين الأفراد- قد تدهورت, وهي حيثما وجدت أصبحت تقبل العبارات الجديدة التي تشير إلى الصراع الجماعي. وبجانب ذلك احتل الكتاب السياسي مكانته، ولا يخلو من الدلالة أن مجلدات "ونستون تشرشل"1 عن تاريخ الحرب كانت أكثر المؤلفات توزيعًا، مع ارتفاع ثمنها ارتفاعًا كبيرًا، ومع أن "تشرشل" ليس كاتبًا محترفًا. وقد أصبح الشعر كذلك سياسيا، فقد مال الشعراء بين الحربين العالميتين ناحية الجناح الأيسر، واعتقدوا -مع المثالية الخاصة بهم- أن هناك أملًا جديدًا يظهر للبشرية في انتصار الشيوعية، وفن المسرح الذي يلاقي أكبر نجاح حين يدرس الأفراد قد تحرك نحو الموضوعات الأعم. وقد حاولت المسرحية التعبيرية2 والمؤلفون المسرحيون التعبيريون أن يصوروا بالرموز القوى الهائلة الفعالة في العالم, وتأثر المسرح الروسي بالوعد بمدينة اقتصادية فاضلة، فقدم المسرحيات والباليهات واللوحات المسرحية التي تعظم من شأن الآلة. وفي كل الأقطار التي وقعت تحت تأثير سياسة الدولة الجماعية -كالفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا- كان على الأديب أن يقبل النظرية التي تذهب إلى أن الغرض من الفن هو خدمة الدولة في ظل نظام الحكم القائم. ويضيف "درنكووتر" أنه من النادر أن تظهر الدعاية الفنية العظيمة. والحق أن روسيا قد أنتجت قدرًا كبيرًا من الأدب منذ الثورة، وبعض هذا الأدب له أهميته، ولكن كثيرًا ما يفسده الإلحاح الساذج على أن جميع أفراد الطبقة العاملة صالحون، وأن كل الآخرين سيئون. وإلى جانب ذلك ينبغي اعتبار "الوجودية"3، وهي من أوضح الاتجاهات الفكرية الحديثة التي أثرت في الأدب، بمظهريها المسيحي الصوفي المتمثل في مؤلفات "كيركجورد"4 الدانمركي "وجابيربيل مارسيل"5 الفرنسي، والمظهر الآخر الإلحادي

_ 1 Sir Winston Churchill "1874-1965 م": سياسي بريطاني، رئيس الوزراء "1940-1945" و"1951-1955" قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية. 2 التعبيرية Expressionism: مذهب في الفن يسعى لا إلى تصوير الحقيقة الموضوعية، بل إلى تصوير المشاعر التي تثيرها الأشياء والأحداث في نفس الفنان. 3 الوجودية Existentialism: فلسفة معاصرة تؤكد حرية الفرد, ومسئولياته. 4 سورين كيركجورد Soren Kierkegaard "1813-1855 م": فيلسوف ولاهوتي دانمركي، يعد مؤسس الفلسفة الوجودية. 5 جابربيل مارسيل Gabriel Marcel "1889-1973 م": فيلسوف وكاتب مسرحي فرنسي. ولد في باريس، وتحدث في كتاباته عن العلاقات الإنسانية، ومفهوم الآخر، وصولًا إلى الله.

عند "جان بول سارتر"1 و"ألبير كامو"2 و"جان أنوي"3 في فرنسا، و"هايدجر"4 و"يسبرون"5 في ألمانيا تمثل نظرية الفردية المطلقة، وقد أنتج معتنقوها -بخاصة في فرنسا- قصصًا ومسرحيات ومقالات على أساس عقيدتها. وقد ذهب "كيركجورد" إلى أن "الحقيقة ذاتية"، وأن ذلك الإنسان الذي صنع تلك الحقيقة الذاتية، وتلك الحقيقة التي يمكن أن تعمل في حياة الإنسان، كلاهما قد وجد نتيجة للاختيار الذي يشكل بصورة مستمرة الحياة الفردية. وقد أعطت ظروف الحرب في بلد مثل فرنسا تحت الاحتلال الألماني, أعطت معنى جديدًا لفلسفة الاختيار هذه، ولكن معتقدات "كيركجورد" الإيجابية التي كانت نشطة في أيامه لم تنشط في القرن العشرين، فالحربان العالميتان، والنتائج السيئة للثورة، قد تركت المثقفين من الناس في الغرب في شك إزاء الله, والتقدم, والتطور, والديمقراطية، ومع ذلك لم يكن الفرد يعتمد عليه في يوم من الأيام اعتمادًا كبيرًا في تقدير المصائر أكثر مما كان في هذا القرن العشرين. وفي حالات الأمم المحتلة كان التقهقر إلى هدوء الحياة الشخصية في ذاته اختيارًا، أي: تعاونًا هادئًا مع الغزاة. وقد كان التمرد معناه الموت أو التعذيب أو -على الأقل- حياة القلق والخطر, وكان لهذا أثره في انهيار كثير من القيم، وكان على الإنسان بعد ذلك أن يختار, وعلى أساس هذا الاختيار يترتب كل شيء في حياته الداخلية والخارجية، يكون له أثره فيما بعد. كل ذلك كان أساسًا طيبًا للصراع المسرحي ولدراسة الشخصية، وهما العنصران التوءم اللذان يصنع منهما الأدب. ومن ثم فإن الوجودية -مهما تكن قيمتها من حيث هي فلسفة- قد أصبحت عاملًا حيويًّا في مجال الكتابة الإبداعية. فالوجودية أكثر من فكرة عقلية، إنها فلسفة ولدت نتيجة للقلق في عصرنا، والفراغ الذي يرجع إلى ضياع عقائدنا وتبعثرها6.

_ 1 جان بول سارتر Jean Paul Sartre "1905-1980": روائي وكاتب مسرحي وفيلسوف فرنسي، يعد زعيم المدرسة الوجودية الفرنسية. 2 ألبير كامو Albert Camus "1913-1960 م": كاتب فرنسي، من رواياته: "الغريب" و"الطاعون", ومن مسرحياته: "كاليجولا"، حصل على جائزة نوبل 1957. 3 جان أنوي Jean Anouilh: كاتب مسرحي فرنسي، من مسرحياته ما أطلق عليه اسم: المسرحيات الوردية، والمسرحيات البراقة، والمسرحيات اللاذعة، والمسرحيات السوداء. 4 مارتن هايدجر Martin Heidegger "1889-1976": فيلسوف ألماني، يعد مؤسس الفلسفة الوجودية. 5 كارل يسبرز Karl Jaspers "1883-1969": فيلسوف وجودي ألماني. 6 في هذا الاستعراض للظروف القائمة رجعنا إلى "درنكووتر" في كتابه السابق ص796-608.

وما يزال القلق والخوف يخيم على العالم بعد المحن القاسية التي مر بها، فليس في الحياة ما يطمئن كثيرًا، إذا كان ما يرجى منه النفع فيها قد ينقلب بين عشية وضحاها أداة للتخريب، وتصبح الإنسانية ضحية لذكائها الخاص، وقد أصبح السؤال عما يجب الحصول عليه حتى نأمن من الخوف أهم الدوافع في الحياة، وإليه توجهت الجهود الطيبة، ومن ثم ظهرت الجدية في الأدب المعاصر. لقد كان الأديب القديم مسليا قبل أن يكون موجهًا، ولكن من منا يقرأ القصة اليوم ليتسلى؟ من ذا الذي يكتب وهدفه الأول الإمتاع؟ إن الكاتب والقارئ اليوم, كلاهما متشبع بالمشكلة المعاصرة، وهي شعورنا القوي بعدم الاطمئنان1. فإذا كان لكل عصر -كما رأينا- روحه وسماته الغالبة، فإن روح هذا العصر وسماته العامة المحركة هي فقدان التوازن، والتحلل، والقلق، والتخبط. وربما كان آخر مذهب أدبي طلع علينا من الغرب وأحدث في العالم كله ضجة حوله هو مذهب "اللامعقول" Absurd. فمنذ أكثر من ربع قرن راجَ هذا المذهب في فرنسا وسرعان ما لفت إليه أنظار المثقفين، بل إن بعض أدبائنا النابهين قد تأثروا به في بعض إنتاجهم الأدبي. ويعبر هذا المذهب عن السخرية المريرة من منطق الحياة التقليدي وعدم الثقة فيه، كما يصور التمزق الروحي الذي أصاب الذات نتيجة لاصطدامها بهذا المنطق. هذه خطوط عامة صورنا بها نظرية الأدب من حيث علاقته بالحياة العامة. وقد حرصنا في بيان هذه العلاقة على أن يقف القارئ على المعالم الكبرى الواضحة في حياة الأدب خلال العصور الحديثة بخاصة حتى وقتنا الحاضر، لما له في ذلك من سبيل إلى توسيع إدراكه لحقيقة ذلك الكائن العظيم: الأدب!

_ 1 انظر: Philo M. Bluk: Directions in Contemporary Literature., Oxford Univ. Press, New York, p. 4.

الفصل الثاني: نظرية النقد

الفصل الثاني: نظرية النقد معنى النقد: لا يكفي لكي نعرف ما النقد أن نقف عند معنى اللفظ وحده، وهو لفظ "النقد"؛ ذلك أن تحديد معنى اللفظ -فضلا عن أنه محير- يضطرنا في أغلب الأحوال إلى دراسات تاريخية نعاصر فيها حياة هذا اللفظ منذ أن استخدم، ونقف فيها على الدلالات المختلفة التي كانت له في كل حالة. وليس سبيلنا في هذا المكان تقصي ذلك التاريخ، ولكن يمكن الكلام بصفة عامة عن النقد بمعنى أنه "الحكم" الأدبي؛ ومن ثم ينظر إلى الناقد -أولا وقبل كل شيء- بوصفه خبيرًا له قدرة خاصة، ودراية بالحكم على قطعة أدبية، أو على عمل مؤلف معين، فيفحص مزاياه وعيوبه، ويصدر حكمًا عليه. ومع ذلك فنحن حينما نتكلم عن فن النقد ندخل في اللفظ أكثر من الفن الذي يسجل الحكم، فتحت هذا اللفظ نفهم مجموع الأدب الذي كتب عن الأدب، سواء كان تحليلا، أو تفسيرا، أو تقويما، أو كل هذه الأشياء مجتمعة، فالشعر والمسرحية والقصة تتناول الحياة تناولا مباشرا، ويتناول النقد الشعر والمسرحية والقصة، وقد يتناول النقدُ النقدَ ذاته. فإذا أمكن تعريف الأدب بأنه تفسير للحياة في صور أدبية مختلفة فإن النقد يمكن أن يعرف بأنه تفسير للتفسير، أي: الصورة الفنية التي خرج فيها الأدب1.

_ 1 Hudson: An Introduction the Study of Literature. p. 349.

أهمية النقد

أهمية النقد: ومن هنا تتراكم المادة النقدية، حتى إننا لنجد الأثر الأدبي الواحد وقد ظهر عنه أضعاف أضعافه من النقد، وكل نقد ينظر إلى ما سبقه مفسرًا له، مؤيدًا له أو معارضًا، حاكمًا عليه آخر الأمر. وهذا من شأنه أن يبتعد بنا عن الأثر الأدبي ذاته وعن قراءته, وهذا عيب يعد للنقد، وهو أنه غالبًا ما يصرفنا عن قراءة الأدب ذاته، فالناقد -بخاصة عندما يكون ذا شخصية- يجعلنا نرى العمل الأدبي لا بعيوننا ولكن بعينه، فنفهم منه ما يفهمه هو، ونخطئ فيه ما يخطئه، ونحكم عليه بحكمه. وهنا يمكن النظر إلى الناقد لا على أنه يفسر لنا العمل الأدبي، ولا على أنه يقربه من نفوسنا، أو يطلعنا على دقائقه، ويكشف لنا عن مكنونه، ولكن على أنه يقف عقبة في سبيل فهمنا الخاص للعمل الأدبي، ومزاولتنا الخاصة له. ولكن ينبغي ألا نذهب في اتهام النقد إلى أبعد من هذا؛ لأن النقد يؤدي إلينا في الحقيقة -وبخاصة في عصرنا الحاضر الذي يتميز بالسرعة، والذي لا نجد فيه الوقت الكافي لقراءة كل ما نريد من قديم وحديث- يؤدي

إلينا خدمة كبيرة عندما يتولى عرض ذلك الأدب علينا، فنحن نتوق لأن نقرأ "المعري" في "رسالة الغفران" وفي "سقط الزند" وفي "اللزوميات"، وغير ذلك من إنتاجه الأدبي، ولكننا لا نجد الوقت لذلك؛ لأن هناك عشرات بل مئات من الأدباء غير المعري نتوق لقراءاتهم. وعندئذ يقوم النقد بمهمته التي لا تنكر، وهي أن يعرض لي المعري في كل مؤلفاته، فأعرف عنه ما لم يكن يتسع قوتي لاستنباطه من أدبه حين أطلع عليه جميعه، وكذلك الأمر مع غيره من الكتاب والأدباء، أستطيع أن أعرف عنهم -عن طريق الدراسات النقدية- شيئًا أفضل من أن أظل جاهلا بهم. أليس من الحق أننا نستفيد من خبرات غيرنا، ومن آرائهم، ومن نظراتهم إلى الأشياء، ومن أحكامهم النقدية؟ أليس حقا كذلك أننا نكون في كثير من الحالات في حاجة إلى خبرات غيرنا، وآرائهم، ونظراتهم؟ وهذا ما يجعل عمل الناقد ضرورة، برغم ما يمكن أن يكون له من سوء الأثر في تحيزنا، أو في اكتفائنا من المعرفة بما كان ينبغي أن نعرف أكثر منه، ولكن يخفف من ذلك أن الناقد الحق شخص مسلح بالمعرفة الواسعة، والقدرة الخاصة على النظر والفهم؛ ومن ثم فإنه يلفتنا في الطريق إلى ما نمر عليه دون أي انتباه، ويمدنا دائمًا بوجهة النظر الجديدة، ولسنا ملزمين دائمًا برأي الناقد، فنحن كثيرًا ما نختلف معه كما نتفق معه، وهذا يدل مرة أخرى على أننا نكسب دائمًا من عمل الناقد، على أي صورة كان موقفنا من نقده ورأيه. وسوف نعود بعد قليل إلى ذلك.

طبيعة النقد

طبيعة النقد: ولكن هل لنا الآن أن نعرف طبيعة عمل الناقد؟ لقد عرفنا في الفصل السابق كيف يرتبط الأدب بالحياة. ولا يجد أحد حرجًا في أن يقول: إن الأدب "يخلق" لنا حياة، فطبيعة العمل الأدبي إذن هي الإبداع، أي: إبداع شيء "لم يكن" من أشياء "كائنة" من قبل، فإلى أي حد تتفق أو تختلف طبيعة النقد مع ذلك؟ يقول هدسون: إن الناقد الذي يقوم بتفسير شخصية كاتب عظيم كما تظهر في نتاجه، وبتفسير هذا النتاج في جوانبه المختلفة بوصفه تعبيرًا عن الرجل نفسه, هذا الناقد يتناول الحياة بحق، تمامًا كما صنع الشاعر أو الكاتب المسرحي الذي كانت كتابته مادة لدراسته. فالكتاب العظيم شيء حي كالعمل العظيم، والعمليات الأدبية لها من الحيوية ما لتلك العمليات التي يتضمنها أي نشاط آخر من جوانب النشاط المختلفة في الحياة. إن النقد الحق يأخذ مادته وإلهامه من الحياة كذلك, وهو كذلك إبداعي، ولكن بطريقته الخاصة1.

_ 1 نفسه ص348, 349.

هذه وجهة نظر تجعل بين طبيعة النقد وطبيعة الأدب شبهًا -إن لم يكن تطابقًا- كبيرًا. ولا يمكن بطبيعة الحال أن ننفي أن هناك "نقدًا إبداعيًّا Creative criticism" كهذا، ولكن هل يكون الإبداع هو طبيعة النقد؟ ففيمَ إذن يختلف عن الأدب؟! أعتقد أن هذا الاختلاف يمكن أن يتضح لنا إذا نحن حاولنا أن نستعين بمعرفة "الغاية" و"الوسيلة" عند كل من الأديب والناقد، وهنا يحضرني مثال طريف قرأته، هو أننا لا نرصد للص لصا آخر وإنما نرصد له الشرطي, فكذلك الأمر فيما يختص بالأدب، فنحن عادة لا نرصد للأديب أديبًا آخر وإنما نرصد له ناقدًا. صحيح أن اللص قد يكون أعرف بأساليب اللص، وصحيح أن الأديب قد يعرف الأديب ولكننا نضمن أداء المهمة بصورة أكثر إرضاء عندما نعهد بها إلى الشرطي أو إلى الناقد. ولسنا -بطبيعة الحال- نقصد بهذا المثل تشبيه الأديب باللص والناقد بالشرطي، وإنما أردنا أن نضع يدنا على الفارق الواضح بين نوعين من العمل, ومهمتين متباينتين، هما مهمة الأديب ومهمة الناقد، فالأديب والناقد شخصان مختلفان، يقومان بمهمتين مختلفتين من حيث الغاية والوسيلة. فإذا كنا نقول: إن عمل الأديب إبداعي creative, فإن طبيعة عمل الناقد recreative. أما مهمة النقد فهي تفسير العمل الأدبي للقارئ لمساعدته على فهمه وتذوقه، وذلك عن طريق فحص طبيعته وعرض ما فيه من قيم1. وهنا يمكن الوقوف للتساؤل عن عملية التفسير هذه ما معناها وكيف تتم، وكذلك عن معنى القيم، ويمكننا الآن أن نختصر الإجابة عن الشطر الأول من التساؤل فنقول: إن التفسير الذي يقوم به الناقد للعمل الأدبي عملية تحليلية تقوم على الدراسة الفنية لطبيعة العمل الأدبي، من حيث مادته والعناصر المكونة له وطريقة بنائه. وهذه العملية التحليلية تمضي من تصور العمل الأدبي في مجمله إلى دراسة الموقف المفرد أو الصورة المفردة، حسب ما هو مستخدم في هذا العمل, وهذه العملية من شأنها أن تطلع القارئ على كل شيء ولا تخفي عنه شيئًا. فالقارئ إذا ترك وحده ليرتاد العمل الأدبي لم يستطع -في أغلب الأحيان- أن يكشف كل جوانبه. قد يرى في الشخصية التي في القصة مثلًا جانبًا بذاته ويغيب عنه

_ 1 David Daiaches: New Literary values, Oliver & Boyd London 1939, p. 7.

جوانب أخرى لا ينبغي إغفالها, وهنا يقال: إن عملية التفسير التي يقوم بها الناقد تكشف للقارئ عن كل ما يمكن أن نسميه إمكانات العمل الأدبي. والذين يضيقون بلفظة الإمكانات يستطيعون أن يستخدموا مكانها لفظة المؤثرات؛ وعندئذ تكون عملية التفسير التي يقوم بها الناقد هي محاولة للكشف عن كل المؤثرات التي يمكن أن يؤثر بها العمل الأدبي. يتضح ذلك إذا نحن لاحظنا ما هو شائع من أن القارئ وحده قد يقرأ العمل الأدبي فلا يتأثر به، أو يتأثر به تأثرًا محدودًا، فإذا قام الناقد بتفسيره له ازداد تأثره به -إيجابًا أو سلبًا فهذا لا يهم هنا- عما قبل، وهذا معناه أن مهمة عملية التفسير التي يقوم بها الناقد هي أن تخلق صلة بين العمل الأدبي والقارئ، وأن تقربه من نفسه. وهذه المهمة لها اعتبارها عندما ننتقل إلى الشطر الثاني من التساؤل وهو الخاص بمعنى القيم. ولكن قبل أن نفحص موضوع القيم نحب أن نشير إلى أن عملية التفسير السابقة -برغم ما رأينا لها من فائدة الكشف عن كل العناصر المكونة للعمل الأدبي والمؤثرة في القارئ- لها صعوبات جمة من جهة، ولها خطورتها -أحيانًا- على القارئ من جهة أخرى. أما الصعوبات فأمر يتعلق بالناقد ذاته، فهو الذي يصادف هذه الصعوبات، وهو لأجل أن يقوم بمهمته هذه محتاج دائمًا إلى منهج يرسم له خطوط المهمة حتى لا يضل أو يفلت من يده شيء، فتحليل العمل الأدبي دون منهج واضح في نفس الناقد لهذا التحليل أمر محفوف بالمخاطر. فإذا تركنا الصعوبات جانبًا اصطدمنا بالخطورة العامة لهذه العملية التفسيرية، وأقل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو أننا نسمح للناقد -حين نترك له هذه المهمة- أن يتدخل تدخلا غريبًا في حياتنا، فهو يربطنا بطريقته في الفهم، ويفرض علينا وضعًا معينًا للعمل الأدبي، يضيق علينا فيه الخناق حتى لا نفلت من يده، فندور في نطاق فهمه الذي ضربه حولنا، ونحن بذلك نفقد كل حريتنا في الفهم والتذوق، ولا نستردها إلا حينما نحاول التمرد على هذا الفهم المفروض. هذه حقيقة, ولكن ينبغي ألا نغالي فيها، فليس كل ناقد قادرًا على أن يقوم بمهمة التفسير هذه على وجهها الأكمل، للصعوبات التي سبقت الإشارة إليها ولغيرها. وهو حين يستطيع ذلك يكون له الحق في أن يقوم بمهمته، ويكون من واجبنا أن نستفيد منه، فهو لا يستعبدنا بفهمه، ولكنه يساعدنا على الفهم. وموقفه في ذلك موقف الأديب ذاته، فأنت تفهم الحياة من خلال تجاربه الخاصة، وهنا أنت تفهم العمل الأدبي من خلال فهم الناقد له, وأنت تستفيد منه إلى أن تصل إلى المرحلة التي تحس فيها

بالحاجة إلى التمرد على فهمه. وفي هذه الحالة الأخيرة ما يزال الناقد يساعدك على اتخاذ موقف خاص بك. ولكننا -برغم ذلك- نحب أن نفهم العمل الأدبي مستقلين، أن نحسن فهمه أو نسيء هذا الفهم، ولكن حريتنا في فهمه مع احتمال الخطأ في هذا الفهم لا يعدلها أن نقيد بفهم الناقد ذاته مهما كان هذا الفهم صائبًا، فأفضل لمتذوق الأدب أن يصيب في فهمه مرة ويخطئ مرة؛ لأنه في صوابه وخطئه ستنكشف له المعالم ويتحدد الطريق. مهما يكن من أمر موقفنا, فإن مهمة الناقد تتضمن عملية تفسير العمل الأدبي، كما تتضمن عرض ما فيه من قيم. ولكي يكشف الناقد عن قيم للعمل الأدبي لا بد أن تكون له معرفة سابقة بهذا النوع من القيم. وهو يبدأ في تكوين فكرته عن هذه القيم منذ أن يواجه ذلك السؤال الأول الذي لا بد لكل ناقد أن يبدأ فيسأله نفسه: ما مهمة الأدب؟ والناقد البصير في تحديده هذه المهمة سيجد أن الأدب لا يمكن فصله عن الحياة، وهو حين يصدر حكمه على العمل الأدبي دون أن يدخل في حسابه هذه العلاقة الوطيدة فلن يكون لحكمه أثره؛ لأن هذا الحكم أيضًا لا بد أن يستمد قيمته -كما يستمد الأدب قيمته- من صلته بالحياة. "فالناقد هو الحلقة التي تربط بين العمل الأدبي والحياة، وواجبه أن يحدد هذه العلاقة، وطبيعة القيمة الأدبية تعتمد على طبيعة العلاقة بين الفن والحياة في مجموعها، ومحاولة إصدار حكم على الأدب قبل الوصول إلى تصور نهائي بشأن هذه العلاقة لا يمكن أن يكون لها نتيجة مفيدة؛ لأن ذلك معناه تحديد القيمة بقاعدة غير محددة1.

_ 1 Daiches: كتابه السابق ص8.

قواعد النقد

قواعد النقد: معنى هذا أن هناك قواعد محددة، أو على الأقل مفهومات محددة، يلزم الناقد أن يأخذ نفسه بها, وهذا صحيح، ولكن الناقد يطبق هذه القواعد أو يستخدم هذه المفهومات بطريقته الخاصة. وقد امتلأ ميدان النقد الأدبي بالمصطلحات الفنية التي ينبغي أن يكون الناقد عارفًا بمعانيها المحددة قبل أن يستخدمها، فهي أدوات فكرية يتعامل الناس بها وينبغي أن تكون واضحة المدلول في أذهان من يستعملونها ومن يتلقونها على السواء. وكثيرًا ما ينشأ سوء الفهم والتفاهم نتيجة لاختلاف المدلولات التي يستخدم من أجلها اللفظ الواحد عند أفراد مختلفين. ونسوق مثالا على ذلك عبارة "الفن من أجل الفن"، فقد شاع بين الكثيرين أن هذه العبارة تقف بمدلولها في موقف معارض للعبارة الأخرى "الفن من أجل الحياة", وعندئذ راحوا يبنون أفكارًا ويصدرون أحكامًا على الأدب الذي يتعرضون لنقده أو الحديث عنه. والواقع أنه لا تعارض هناك؛ لأنه إذا كان

الفن لا يمكن تصوره، ولا يمكن أن يقوم منفصلا عن الحياة، فإن عبارة "من أجل الفن" تتضمن -ولا تعارض- عبارة "من أجل الحياة". فكون الشيء قائمًا من أجل ذاته لا يتعارض مطلقًا مع الفوائد التي تجنى من علاقته بالأشياء الأخرى، كالمثل الذي يسوقه "ديشز1 Daiches" من أن الممرضة التي تقول: إنها تحب التمريض "من أجل التمريض" لا يتنافى معه أن يكون للتمريض الذي تقوم به أثره في حياة الآخرين الذين ترعاهم حتى يصحوا. لا بد إذن أن يفرغ الناقد بادئ ذي بدء من الخبرة الدقيقة بمدلولات الاصطلاحات التي دارت في ميدان النقد حتى لا يضل في استخدامها حين يعتمد عليها -وهو بحكم عمله مضطر إلى الاعتماد على الكثير منها- في مهمته النقدية. بل أكثر من ذلك أن الناقد الحق يلزمه بناء فلسفي واضح حتى يستطيع أن يقوم بمهمة الحكم على العمل الأدبي. إن له منهجه الذي يتبعه -كما سبق أن بيّنّا- في دراسة العمل الأدبي، ولكن مرحلة الحكم على قيمة هذا العمل سترتبط في ذهنه بنظريته في الحياة، فبحسب هذه النظرية يكون حكمه على قيمة ذلك العمل الأدبي. وطبيعي أن يتبادر إلى أذهاننا الآن أن الحكم بالقيمة ينصبّ في العمل الأدبي على ما فيه من فكرة، أو لنقل على ما فيه من موقف من الحياة. وهذا صحيح ولكن ليس كل الصحة؛ لأن الحكم على العمل الأدبي لا يستقل بجانب منه ويترك غيره من الجوانب, والحكم الذي لا يدخل في اعتباره العمل الأدبي كله، بكل عناصره وكل جوانبه، حكم ناقص. فحين نحكم بجودة الفكرة في قصة مثلا، وننسى الإطار الفني القصصي الخاص الذي عرضت فيه هذه الفكرة، يكون حكمنا ناقصًا؛ لأننا قبل كل شيء لسنا بصدد الحكم على فكر مجرد. وكذلك حين يقف الناقد ليصدر حكمه على جزئية من القصيدة أو حتى عند ظاهرة عامة فيها، تتجلى في استخدام الشاعر ألفاظًا بذاتها، أو عند لجوئه إلى صورة خاصة من التركيب اللغوي، أو ما أشبه ذلك من المسائل الجزئية التي تدرس تحت اسم البلاغة, حينذاك لا يكون لحكمه هذا قيمة؛ لأنه لم يربط بين كل هذه الأشياء والدور الحيوي الذي قامت به في إبراز موقف الأديب هنا من الحياة ونظرته إليها.

_ 1 Daiches: كتابه السابق ص8.

مراحل العملية النقدية

مراحل العملية النقدية: فلسفة الناقد الخاصة التي يتخذ منها معيارًا لقيمة العمل الأدبي لا بد أن تكون فلسفة عقلية فنية في وقت معًا, إذا صح هذا التعبير, أعني أن يدخل الناقد في اعتباره -حين يصدر حكمه- كيف تحققت فكرة القصة -مثلا- تحققًا فنيًّا، فهو عندئذ لا يحكم على صورة العمل الأدبي مستقلة، أو على مضمونه منفصلًا عن صورته "فهذا الانفصال أصبح مقطوعًا بأنه غير قائم"، بل يحكم على العمل الأدبي في مجمله، ومن حيث هو كلٌّ متماسك. يتبع هذا أن الفكرة العظيمة ليس حتمًا أن تظهر في عمل أدبي عظيم؛ لأن عظمة العمل الأدبي لا تستمد من فكرته المجردة، ولكنها كامنة في مجموعه, وليس معنى هذا -من جهة أخرى- أن الإطار الفني هو الذي يجعل للعمل الأدبي قيمة، فكثير من القصص التي لم يخطئ كاتبوها في اتباع الأصول الفنية techniques لكتابة القصة يمكن أن يحكم عليها بأنها قليلة القيمة أو لا قيمة لها على الإطلاق, ولم يرفع من قيمتها مجرد اتباع تلك الأصول. فإذا كنا استبعدنا أن تكون قيمة العمل الأدبي في فكرته، أو أن تكون في اتباعه الأصول الفنية، فأين إذن تكمن القيمة؟ الجواب عن ذلك ليس جديدًا؛ لأننا سنقول: إن القيمة في العمل الأدبي كله. وهنا تكون أول مرحلة يجتازها الناقد من مراحل عملية النقد هي أن يجيب عن هذا السؤال: هل هذا الذي قرأته أدب أم ليس أدبًا؟ لأنه عند هذه المرحلة يستطيع أن يعفي نفسه من كل المراحل الأخرى حين يقرر أن الشيء الذي قرأه -أو استمع إليه- ليس أدبًا على الإطلاق. فإذا استقر رأيه أن هذا الذي قرأه أدب وليس تاريخًا أو فلسفة أو رياضة، كان عليه أن يحدد أي نوع من الأنواع الأدبية قرأ، رواية أم ملحمة، قصيدة أم قصة قصيرة، مسرحية أم قصة، وهو في تحديد ذلك يأخذ في الحسبان تلك الأصول الفنية المعروفة لكل نوع، التي على أساسها يمكن التفريق بين نوع وآخر. فإذا انتهى إلى أن يقول عن شيء قرأه: إنه أدب وإنه قصيدة غنائية مثلا، كان عليه بعد ذلك أن يقرر ما إذا كان لهذا الأدب أو لهذه القصيدة الغنائية قيمة أو لا قيمة لها. فكونها أدبًا لا يكفي إذن، ولا يعني أن لها قيمة بالضرورة. ألسنا نتساءل دائمًا: ما قيمة هذا العمل الأدبي؟ وقد نجيب بأنه ليس له قيمة أو ليس له قيمة كبيرة. فالقيمة إذن ليست في كون الشيء أدبًا، وإلا عددنا كل ما قيل من أدب قيمًا، وهذا ما لا يمكن أن يوافقنا عليه أحد. إن لكل عمل فني أصولا موضوعية ينبغي الانتباه إليها، فحقيقة العمل الأدبي من حيث الدوافع إليه ومن حيث مكوناته، حقيقة تخضع للبحث العلمي، ويستطيع علماء النفس أن يساعدوا بدراساتهم التحليلية في الكشف عنها وتحديد سماتها ومعالمها، أما القارئ العادي للأدب فلا يقف ليبحث في شيء من هذا, بل يقف ليواجه العمل الأدبي في صورته الكاملة، فيتمثله كيانًا قائمًا بذاته، تنبثق منه عوامل دفع وجذب كثيرة، تمامًا ككل شخصية. وهو يتمثل ذلك عندما يجد نفسه يقترب من هذا العمل الفني حتى يكاد يحتضنه، أو يبتعد عنه حتى يكاد لا يرى منه شيئًا. ثم هو بعد ذلك يترجم هذا القرب

وهذا البعد إلى لغة الرضاء وعدم الرضاء. أما الناقد فلا يرضى لنفسه أن يقوم بما يمكن أن يقوم به العالم النفسي من تحليلات، ويجعل من هذه التحليلات غايته, وهو كذلك لا يصنع ما يصنعه القارئ حين يصدر حكمه بناء على ما في العمل الأدبي من عوامل جذبته إليه أو نفرته منه، ولكن الناقد بذلك لا يعادي العالم النفسي ولا القارئ العادي، كل ما في الأمر أنه لا يرضى أن يقف عند الغاية التي ينتهي إليها هذا العالم، وهي في مجملها الكشف عن نفسية الشاعر نفسه، وبخاصة حين تعمل، أو حين تبدع، وهو كذلك لا يحب أن يتخذ من ذاته المعيار الذي يحدد الحكم الأخير على العمل الفني، فالناقد تعنيه معرفة خبايا الشاعر. صحيح أن نفس الشاعر هي نقطة البدء، وصحيح أننا لا نرى الأشياء إلا إذا كانت لنا عيون تبصر، ولكن الذي يعني الناقد في المحل الأول هو تلك الأشياء المرئية لا العيون الرائية، هو تلك الأجواء النفسية لا النفس المستبصرة. وكذلك يهتم الناقد أول الأمر بأن يصدر على العمل الأدبي حكمه، ولكنه يتحرك في طريقه إلى هذا الحكم لا من خلال رغباته الخاصة، وغايته الواضحة "فكثيرًا ما تكون طاقة العمل الفني أكبر من ذات الناقد"، بل من خلال بعض الأصول الموضوعية العامة التي تعمل ذاته بكل رغباتها وغاياتها من خلالها. وما دمت قد وصلت إلى هذا التحديد لضرورة توافر بعض الأصول العامة التي يتحرك الناقد خلالها, فينبغي إذن أن أبادر بتحديد هذه الأصول. ونستطيع أن نستنبط من المقدمات السابقة أن الناقد حين يواجه أي عمل شعري مثلا, فإنه يفترض منذ البداية أن هناك شاعرًا، وهو بطبيعة الحال لا يعني بالشاعر هنا ذلك الشخص القادر على تنغيم الكلمات، وتدوير المعاني في صورة لفظية موسيقية -كما يقول صديقنا الشاعر صلاح عبد الصبور في إحدى قصائده- بل يقصد بالشاعر هنا "الإنسان" أولا وقبل كل شيء. وواضح أنه ليس من السهل تحديد معنى "الإنسان" "في بعض الحالات يختلف معنى الإنسان بين الأفراد كما يختلف مستوى الإنسانية من شخص إلى آخر"، ولكننا جميعًا نعرف -معرفة ما- ما الإنسان. وفي هذا الأصل يكفي أن يتمثل لنا الإنسان بأي أشكاله وفي أي مستوياته، وعندئذ يكون الأصل الذي لا نختلف عليه هو تمثل ذلك الإنسان في العمل الشعري، ثم نختلف في تقدير هذا الإنسان من حيث النوعية والمستوى. واختلافنا هذا لا يلغي مطلقًا أن عنصرًا أساسيًّا في العمل الفني قد تحقق، ألا وهو الإنسان، فالإنسان هو الشاعر وهو الرسام وهو الموسيقي وهو كل مبدع لأي لون من ألوان الفن. ولكننا قلنا: إننا لا نريد الإنسان لذاته، ولا نريد أن نتعرف خبايا نفسه؛ لأنها تهمنا بصفة خاصة، ولكننا نريده لكي "يصنع" شيئًا ويصنعه هو بالذات، نريد نفسه وهي

تتحرك بين الأشياء فتكتشف فيها الجوانب الجديدة والعلاقات الجديدة، بل تستكشف حركتها المنظمة المتآلفة، الخافية عن كثير من العيون، وحين تحدث الحركة تقع "الواقعة" لا محالة، فنفس الإنسان في حركتها الدائبة بين الأشياء تقف لتصنع الإطار حول كشفها الذي كشفته، فتبرزه لنا من بين تلك الصور السديمية المختلطة من الحياة. ومرة أخرى قد تختلف حول قيمة هذا الكشف، ولكن هذا الاختلاف لا ينفي الأصل نفسه، وهو أن أي عمل فني لا بد فيه من "الواقعة" التي يبرز لنا من خلالها كشف ذلك الإنسان. ونستطيع هنا -والآن- أن ندرك ما نعنيه عندما نتحدث في بعض الأحيان عما نسميه "التجربة الإنسانية"، فالتجربة الإنسانية -ببساطة- تفاعل بين إنسان وواقعة. ولكن هل يكفي توافر هذين العنصرين أو الأصلين -الإنسان والواقعة- حتى نقنع بأن ما بأيدينا عمل فني؟ من الواضح أن الإنسان -كل إنسان- يمر في اليوم بوقائع عدة تستوقفه فيضع حولها الإطار الذي يحددها، وينظر فيها نظرته الخاصة، ثم يمضي. وعلى هذا النحو تكون تجربة إنسانية قد تحققت، وبهذا المعنى يكون كل إنسان فنانًا. وهو معنى صحيح إلى حد كبير، ولكن يبدو أن إنتاج العمل الفني لا يكفي فيه أن يتفاعل الإنسان مع الأشياء، وأن ينقل إلينا هذه التجربة، فالتجربة الإنسانية العامة تختلف عن التجربة الإنسانية الماثلة في العمل الفني اختلافًا يسيرًا ولكنه خطير. فلا بد في التجربة الفنية من تحديد "الأبعاد"، فلا يكتفي الفنان بكشف العلاقات السطحية الماثلة، بل يضيف إلى ذلك الغوص في الأعماق، والامتداد مع الجذور المتشعبة المتضاربة، والثقافة هي العامل الأول الذي يرتكز عليه الإنسان في تحديد أبعاد كشفه وارتياده. وتحديد الأبعاد هو في الحقيقة تحديد للدلالة التي استكشفها الفنان خلال العلاقات المختلفة بين الأشياء. وقد يوجد الإنسان وتوجد الواقعة وتحدد الأبعاد، ومع ذلك لا يتمثل العمل الفني؛ لأن العمل الفني في ذاته وفي الحقيقة "تعبير" عن كائن جديد هو أكثر الأشياء تحققًا في العمل الفني وإن كنا نؤخر الالتفات إليه. فالقصيدة التي أقرؤها -مثلا- ليست إلا تعبيرًا عن إنسان في موقف ذي أبعاد. وفي التعبير يختار الفنان الصورة التي يعبر بها، فيعبر بالقصيدة أو بالقصة أو بالرسم أو بالموسيقى، ولكنه برغم اختلاف وسائل التعبير يحرص في كل حالة على أن يجمع لك العناصر السابقة "الإنسان والواقعة والأبعاد" متشابكة في إطار واحد معبر. وهو لذلك يتناول هذا الإطار بالتعديل من حيث الشكل ومن حيث التركيب، حتى يكون هو التعبير الأوحد عن كل تلك العناصر، الذي لا ينفصل عنها. وهذا ما نعنيه عادة من عبارة "صدق التعبير".

وعلى هذا تكون الأصول العاملة للعمل الفني هي: الإنسان، والواقعة "الموقف الإنساني"، والأبعاد "الدلالة"، والتعبير، وهي الأصول التي يجب أن نطمئن لتوافرها حتى نقول: إن العمل الذي أمامنا عمل فني. وبعد ذلك نختلف في تقدير قيمة هذا العمل الفني فنضيف إلى هذه العناصر أوصافًا، فنقول مثلا: "الواقعة" الحية، "الإنسان" الناضج، "الأبعاد" المحددة، "التعبير" الصادق، وما أشبه ذلك من الصفات، وعندئذ نرفع من قدر هذا العمل الفني. وقد نضيف أوصافًا من نوع آخر فنقول مثلا: "الواقعة" المبتذلة، و"الإنسان" المتخلف، و"الأبعاد" المهوشة، و"التعبير" المفتعل ... إلخ. وعندئذ نحط من قدر هذا العمل, ولا سبيل بعد إلى تحديد الصفات؛ لأنها هي التي تحمل أحكامنا المختلفة، ولكن من السهل كما رأينا -بل من الضروري- أن نحدد الموصوفات. وقد قلنا: إن الصلة بين الأدب والحياة أمر لازم، ولكن مجرد توافر هذه الصلة لا يكفي حتى يكون هذا الأدب قيمًا. إن العمل الأدبي يكشف لنا عن جانب من جوانب الحياة المتعددة، وهو بذلك يزيد من خبرتنا بها. وفي الوقت الذي يوسع فيه مجال هذه الخبرة إذا هو يعمقها أيضًا. والعمل الأدبي قد يكون وثيق الصلة بالحياة ولكنه يقف منها عند السطح، أو يقف منها عند ما هو مألوف في تجربة الإنسان العادي. وقد يوحي هذا مرة ثانية بأننا نطلب في العمل الأدبي -حتى يكون قيمًا- فكرة أو خبرة جديدة, وعندئذ ترتبط القيمة مرة أخرى بالفكرة أو الخبرة وحدها، وتكون هي العنصر المحدد للقيمة الأدبية. ولكننا نعود لنؤكد أن هذا ليس صحيحًا، فلو كان هدفنا من قراءة العمل الأدبي هو تحصيل قدر جديد من الأفكار الغريبة علينا لكان في قراءة كتب الفلسفة غنى لنا عن كل أدب. فنحن ننشد الجدة والابتكار في العمل الأدبي، في الفكرة والإطار معًا، فالابتكار أساس لقيمة العمل الأدبي. والحق أن كل فكرة تخرج في الإطار الخاص بها، وهي تفرض هذا الإطار على الكاتب منذ بداية تكونها في نفسه؛ فهي لا تكون مستقلة عن الإطار؛ لأنه يتكون معها خطوة خطوة. ومعنى هذا أن الفكرة المبتكرة سترتبط لا محالة بإطار مبتكر. "هذا إذا كانت من الوضوح في ذهن الكاتب بشكل كافٍ" فإذا قلنا: إن القيمة تتحدد في الابتكار كان معنى هذا أننا نقصد الابتكار المتمثل في العمل الأدبي كله. وقد دلت الخبرة على أن أولئك الذين يقلدون في الإطار الفني لا يمكن أن يقدموا أدبًا له قيمة على الإطلاق؛ لأن إطار كل عمل إبداعي أصيل مرتبط بهكل الارتباط كما رأينا. ولا يمكن -تبعًا لذلك- أن نقول: إن الإطار قديم لكن الفكرة جديدة، فيكون الأدب -في هذه الحالة- قيمًا؛ وذلك لأن العمل الأدبي لا يمكن أن يتكون هكذا، فالعمل الأدبي إذن هو العمل الذي يزيد -بأن يوسع ويعمق- من خبرتنا بالحياة. وهذه الخبرة قبل كل شيء خبرة فنية ارتسمت أولًا في وجدان الأديب ثم انتقلت إلى وجداننا.

الأساس النقدي للأدب القديم والحديث

الأساس النقدي للأدب القديم والحديث: وهنا يأتي هذا السؤال: أي الأدبين على هذا الأساس أكثر قيمة، الأدب القديم أم الأدب الحديث؟ إن النشاط المعاصر هو النشاط الوحيد المهم حقا بالنسبة لنا, وأدب الزمن القديم لا قيمة له عندنا إلا لأنه ينير الحياة التي نحياها. فالأدب يكتب أولًا لهؤلاء الأحياء القادرين وحدهم على أن يستخرجوا منه الحد الأقصى من كمية المعنى, والنشاط الأدبي جانب حيوي من جوانب الحياة، فلا يستطيع إنسان أن يحيا حياة ممتلئة دون أن يهتم بكل نوع من أنواع النشاط المعاصر. وكما أن العلم المعاصر يهم العالم أكثر من علم العصور السابقة، وكما أن السياسة المعاصرة تهم السياسي أكثر من سياسة1 Walpole أو أفكار "بت Pitt" الأكبر2، فكذلك الأدب المعاصر، ينبغي أن يكون من الأهمية عند رجل الأدب في المكان الأول3. ومعنى هذا أن الأدب الحديث أكثر قيمة؛ لأنه أكثر صلة -بالنسبة لنا- بالحياة التي نحياها، فقد نشأ فيها، وتبع منها. وقد كان نقاد العرب الأوائل يتورطون في أن يجعلوا للقديم كل القيمة, وكانوا يرفضون كل قيمة لأي عمل أدبي محدث, وقد دعتهم إلى ذلك دواعٍ لا محل لها الآن. ولكن ينبغي ألا نقف نحن الآن عند الرأي المقابل، ونتطرف مثلهم، فننفي القيمة عن كل عمل أدبي قديم، لا لشيء إلا أنه قديم، ونخلع القيمة على كل عمل أدبي حديث أو معاصر، ففي الأدب القديم نماذج رائعة لم تفقدها الأيام قيمتها، وكذلك يفتقد كثير من الأدب المعاصر القيمة الحقيقية، ولكن كثيرين منا يحكمون على الأعمال الأدبية المعاصرة بأنها عديمة القيمة للسبب الذي من أجله كان ينبغي أن تعد كبيرة القيمة، وأعني بذلك عنصر الابتكار الذي تحدثنا عنه. فالابتكار -كما قلنا- يقع في العمل الأدبي، في فكرته وصورته على السواء. ومن هنا تطورت الصور الأدبية؛ لأن الأفكار ذاتها تطورت, وفي هذه المرحلة التي يتم فيها الانتقال من طور أدبي إلى طور آخر، لا يجد الكثيرون في أنفسهم الشجاعة الكافية لتقبل الصور الأدبية الجديدة ومحاولة فهمها وتذوقها، بل يقفون منها موقف التنكر، ويسلبونها كل قيمة, ثم يلوذون -بالضرورة- بالأدب القديم. وصحيح أن الأدب المعاصر لا يخلو من

_ 1 السير روبرت وولبول Sir Robert Walpole "1676-1745 م": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء في المدة من "1721 إلى 1742م". 2 وليم بت William Pitt "1708-1778 م": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء في المدة من "1756 إلى 1761م" ومن "1766 إلى 1768م"، قاد دفة السياسة البريطانية خلال حرب السنوات السبع. 3 نفسه ص16.

صعوبات في محاولة فهمه وتذوقه فضلا عن الحكم عليه، ولكن يجب ألا تصدنا هذه الصعوبات عن تلك المحاولة. وقد نضطر إلى أن نعدل من موقفنا حتى نستطيع التجاوب مع هذا الأدب, ولا بأس بذلك، فعندئذ ستتفتح أمامنا الآفاق، وما كان صعبًا سيغدو -مع حسن النية وجدية المحاولة- سهلًا ميسورًا. وعلى الجملة ينبغي أن نكون معتدلين في محافظتنا وفي نزعتنا إلى التجديد، وأن نكون -تبعًا لذلك- معتدلين في حكمنا على قيمة الأدب القديم, والأدب الحديث. فحين نربط بين قيمة العمل الأدبي والابتكار يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل جديد لا يعني أنه مبتكر, وأنا أستخدم كلمة الجديد هنا بمعنى أنه أنتج حديثًا أو أنه إنتاج معاصر. وكثيرًا ما يصطنع النقد مقياسًا آخر غير الابتكار يقيس به قيمة العمل الأدبي, هو مقياس العمل الخالد. فالأدب الذي يحتفظ بكيانه، ويثبت وجوده في كل الظروف، هو الأدب القيم، أما الأعمال الفنية الموقوتة بزمن معين فإن قيمتها تزول بزوال زمنها، وتموت بموت مقتضياتها؛ ومن ثم تكون الأسباب التي أكسبتها شعبية وقتية هي نفسها التي تعمل ضد استمرار حياتها. وهكذا كان تاريخ كثير من الكتب التي ازدهرت في موسم من المواسم، فالجيل الجديد لم يعرف عنها شيئًا، ولكنَّ هناك كتبًا لها قوة التغلب على كل تغير في المقتضيات والأذواق وحتى الحضارة ذاتها, لماذا؟ لأنها تستطيع أن تتكيف مرة بعد مرة مع ظروف حياتنا العقلية والأخلاقية الدائمة التطور, إن لها رسالة ومعنى يخصنا. وربما كانت هذه الكتب -وفي أحوال كثيرة كانت بلا شك- وقتية بأضيق معاني الكلمة، لكنها لم تعش بسبب وقتيتها بل برغم وقتيتها؛ لأن ما تحمل معها مما لا يتصل ببيئتها وعصرها اللذين ظهرت فيهما هو عقبة في سبيل بقائها وليس مساعدًا على ذلك، ولو أنه كان معينًا على نجاحها الأول. إنها تبقى لأنها -مهما يكن مقدار قربها من المسائل التي لا يمكن أن تكون في طبيعة الأشياء إلا محلية ووقتية- تحتوي على عناصر يظل لها -وقد انقضى أجل تلك الأمور منذ زمن بعيد- القدرة على الإمتاع والتأثير والإلهام1. ولكن هذا المقياس الذي يصطنعه أحيانًا مقياس غير دقيق، سواء حين ينصب على الأعمال الأدبية القديمة أو الحديثة، فلسنا نستطيع -من جهة- أن نقول: إن الأعمال الأدبية التي عاشت منذ وقت مبكر حتى عصرنا هي أكثر ما أنشئ عبر التاريخ

_ 1 Hudson: كتابه السابق ص412-414.

من أدب ذي قيمة، فهناك أعمال قيمة لم تصل إلينا لسبب آخر غير وقتيتها. ولسنا نستطيع -من جهة أخرى- أن نحكم على العمل الأدبي المحدث بأنه يختص بنا وحدنا وبعصرنا وظروفنا ومقتضيات حياتنا الحاضرة، وأنه لا يتضمن عناصر تضمن بقاءه، فإن ما يبدو لنا الآن شديد الحيوية لن يخفق في أن يبدو لعقولنا له صفات العالمية والبقاء1. معنى هذا أن المقياس لن يمكن استخدامه إلا بالنسبة لما اندثر من إنتاج أدبي, وهذه مفارقة غريبة! ولكن إذا حدث أن وقفنا أمام عملين أدبيين، أحدهما قديم والآخر حديث؛ لفحص قيمتهما، فإننا ننحاز لإعطاء القيمة لذلك الأدب الحديث الذي نبت من صميم الحياة التي نحياها نحن، وأفاد من كل المؤثرات التي تتصل بالظروف المحيطة بنا، وتناول الحقائق والمشكلات التي تتصل بنا اتصالا مباشرا، بوصفنا كائنات تعيش في بيئتها وعصرها. هذا الأدب لا بد أن تكون له أهمية بالنسبة لنا, وهي تختلف اختلافًا واضحًا عن الأهمية التي للأدب العظيم في الماضي، وهي -لأسباب كثيرة- أكثر منها عمقًا وقوة. وهناك غير الابتكار والقدرة على البقاء مقاييس أخرى يحدد بها ما للأدب من قيمة. وهذه المقاييس تستمد مباشرة من فلسفة الناقد الخاصة في الحياة والأدب، التي قلنا: إنه من اللازم وضوحها في نفسه قبل إقدامه على أي نقد أو إصدار حكم نقدي على عمل أدبي. ومن كل ذلك يتضح لنا أن مهمة النقد -كما هي مفهومة في العصر الحاضر- مهمة ذات شطرين: الأول تفسيري علمي، يحاول فيه الناقد أن يتمثل في نفسه العمل الأدبي، وأن يربط -أو يتلمس ما يربط- بينه وبين الحياة من جهة، وأن يكشف هذه العلاقات للقارئ فيخلق بينه وبين العمل الأدبي -من جهة أخرى- صلة قوية. والشطر الثاني حكم ذاتي يحدد فيه الناقد ما في العمل الأدبي من قيم بالنسبة لغيره من الأعمال الأدبية الأخرى، قبل أن يقول عبارته التقليدية: هذا جيد، أو هذا رديء. وهذه المهمة ذات شطرين قلّ أن يقوم بها ناقد قديم على الإطلاق؛ لأن النقد القديم له طابع عام غالب عليه، هو أنه نقد حكمي، في حين أن النقد الحديث قد تأثر تأثرًا كبيرًا بالدراسات النفسية التي تشرح طبيعة الخيال والتعبير وعملية الإبداع والشعور

_ 1 نفسه ص41.

والتفكير وما إلى ذلك. ومن هنا كان النقد الحديث إما نقدًا نفسيًّا يقوم به أناس هم قبل كل شيء دارسون لعلم النفس, ويحاولون استخدام نظرياته وتطبيقها في دراسة لون من ألوان النشاط النفسي وهو الإنتاج الفني، وإما نقدًا حكميًّا يقوم به أناس اعتادوا -بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب- الحكم على ما يقرءون بالجودة أو الرداءة. وقد انفصل شطرا مهمة النقد، وأصبح هناك نوعان منه: النقد التفسيري للأدب، والنقد الحكمي, وفيما يلي عرض لهذين المنهجين. أ- النقد التفسيري للأدب: ينظر إلى هذا النقد -في الواقع- لا على أنه فرع من الأدب، بل فرع من العلم، وهو من ثم ينشد الدقة والعدالة العلمية. "وهذا التناول المقصود -كما يقول "مولتون Moulton"- تناول مستقل عن المدح أو الذم، فلا شأن له بالقيمة، نسبية كانت أو مطلقة، ومن ثم فالناقد العلمي كالباحث في أي ميدان من ميادين البحث العلمي، وهو ينظر إليه بكل اطمئنان على أنه زميل له. هذا الناقد يصور ظواهر الأدب كما هي في الواقع، يفحصها ويحاول تنظيم القوانين والمبادئ التي بحسبها تتشكل هذه الظواهر، ويكون لها تأثيراتها"1. وتفسير الأدب على أساس نفسي قائم على نظرية "فرويد" في تحليل النفس، فكل ناقد ينشد القيام بمهمة التفسير يلزمه معرفة هذه النظرية، وقد كان "الرومانتيكيون" في نقدهم -قبل ظهور "فرويد"- ينزعون نزعة تفسيرية قريبة من هذه، فعدوا الشرح هو العمل الأساسي للناقد2. ولكي نستطيع الإفادة من فرويد في تفسير الأدب يجدر بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة عند تحليله النفسي، فنتبين العناصر التي تتألف منها، وتحدد ميدان عمل كل من هذه العناصر. تتكون النفس الإنسانية -بحسب فرويد- من الأنا والذات العليا والـ هي. والأنا3 هو الجانب الظاهر من الشخصية؛ وهو يتأثر بالعوامل اللاشعورية من ناحية، وبعالم الواقع من ناحية أخرى؛ ففي عالم الواقع نجد المجتمع بتقاليده وقوانينه وعلاقاته

_ 1 Hudson: كتابه السابق ص358. 2 Roy, P, Basler: Sex, Symbolism and Psychology in Literature., Rutger's University Press, New Branswick, p. 6. 3 الأنا Ego: الذات العليا Super-ego، الـ هي، أو الـ هذا Id.

وأفراده، ونجد فيه كذلك الأزمنة والأمكنة والأشياء، ومختلف المؤثرات التي ندركها بحواسنا ونتأثر بها تأثرًا يمكننا من استعادتها، ومن التأثر بها في خبرتنا التالية. ويتقدم نمو الأنا مع تقدم نمو الشخص في بيئته المعينة, وكأنما تتميز الأنا عن الطاقة الحيوية الغريزية بعد اتصال هذه بالواقع. وتتصف الأنا بأنها شعورية, ويقصد بهذا أن مكوناتها يمكن الشعور بها أو بآثارها. يضاف إلى ذلك أنها عادة منطقية معقولة، فهي تميل إلى ترتيب النتائج على مقدماتها ترتيبًا منطقيًّا. وهي خلقية كذلك، إذ إنها تميل عادة إلى أن تكون تصرفاتها في حدود المبادئ الأخلاقية التي يقرها عالم الواقع1. وتتصف الأنا فوق هذا بأنها حلقة الاتصال بين الطاقة الغريزية والعالم الخارجي؛ فالأنا هي التي تتصل بعالم الواقع لتحقيق النزعات الغريزية بالصورة التي تراها خلقية معقولة, وفوق كل هذه الصفات فإن الأنا هي التي تتصل اتصالا مباشرا بعالم الواقع. ويلاحظ أن الأنا تغفل في ساعات النوم. والخلاصة: أن الأنا شعورية منطقية خلقية، تتصل مباشرة بعالم الواقع، ثم إنها تغفل في ساعات النوم2. وقد قال الفيلسوف الألماني هارتمان Hartmann في "فلسفة الشعور": "إن التفكير الشعوري يقتصر على النقد والإنكار والمقابلة والتصحيح والتصنيف والقياس والموازنة والربط واستنتاج العام من الخاص وترتيب الحالات الخاصة تبعًا للقاعدة العامة، غير أنه لا يمكن أن يبرع في الإنتاج أو يفتن فيه، إذ يعتمد في ذلك على اللاشعور كل الاعتماد"3. ونتقدم مع فرويد في تحليله للنفس فنجد العنصر الثاني: الذات العليا4. والذات العليا تتكون منذ الطفولة، فالطفل يزن الأمور والأشياء ويقدرها بحسب تقدير والده أو من يعيش معه وبتوجيه منه. وقد يكون الطفل معجبًا بوالده محبًّا له؛ لأنه يجمع بين مظهري القوة والعطف، فيتقمص الطفل شخصية والده تقمصًا يترتب عليه توجيهه لسلوك نفسه وتوجيهه لسلوك غيره. وبعبارة أدق فإن في نفسه جانبًا يمثل عنصر

_ 1 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس ص273، 374، 375، "القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1950". 2 نفسه. 3 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي، منشورات جماعة علم النفس التكاملي، ص17. 4 Super-ego "Super-1".

السلطة الممتصة، وهو الذي يقوم بعملية الزجر والتوبيخ. وهذا العنصر مركب لاشعوري1، وهو لا يفترق عن الضمير المسيحي المألوف، أو إله سقراط المتغلغل في كل شيء2 "God-within". وتتلخص الصفات الأساسية للأنا العليا في أنها الناقد الخلقي الأعلى الذي يشعر الأنا بالخطيئة3. ويتضح من هذا أن الأنا العليا مكلفة بالأنا ورقيبة عليها، وهي بذلك لا دخل لها في عملية الإبداع الفني؛ لأن الأنا -كما رأينا- ليس ميدانها العمل الفني. وأخيرًا، يأتي العنصر الثالث وهو: الـ هي4. فتكوين كل من الأنا والأنا العليا لا يقضي على المنابع الأساسية للدوافع الغريزية، وإنما تظل هذه حية مندفعة للتعبير عن نفسها, ولا يمنعها من التعبير عن نفسها إلا الأنا العليا، وإلى حد ما الأنا. ويرى فرويد أن هذا الجانب يلعب دورًا مهمًّا في حياة الإنسان، ويسميه الـ هي، ومن خصائصها أنها لاشعورية، وأنها لا تتجه وفق المبادئ الخلقية، وإنما تسير على قاعدة تحقيق اللذة والابتعاد عن الألم، ثم إنها لا تتقيد بقيود منطقية، ومن مركباتها النزعات الفطرية الوراثية والمكبوتة، ويقال -بحسب رأي فرويد: إن أهم هذه المركبات هي النزعة الجنسية5. وهنا نستطيع أن نخلص إلى النتيجة التي نريدها، فإذا كان الفن -بحسب رأي هارتمان السابق- هو عمل اللاشعور، وكان اللاشعور هو خاصية الـ هي، وكانت الـ هي لا تتجه وفق المبادئ الخلقية ولا تتقيد بقيود منطقية، وكان من مركباتها النزعات الفطرية الوراثية التي أهمها النزعة الجنسية؛ كان الفن كذلك صدًى في أصله الأصيل لتلك النزعة الجنسية "بمفهومها الواسع عند فرويد"، وعلينا الآن أن نتبين الخطوط أو الحلقات الموصلة بين الطرفين. وقد عزز فرويد نظريته بفهمه الخاص للكبت, وقد نشأ هذا الفهم من دراسته للظاهرة التي تبدو لغوًا من وجهة النظر المعقولة في مثل الرغبة اللاشعورية عند الابنة في

_ 1 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس، ص275, 276. 2 Baster: نفسه ص16. 3 القوصي: أسس علم النفس 77. 4 "ID" IT. 5 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس ص277.

أن تحتل مكان أمها في حب أبيها1، أو الرغبة اللاشعورية عند الابن في أن يحب أمه ويحتل مكان أبيه في ذلك2. وقد منعت هذه الرغبات منذ بداية التاريخ المدون بواسطة أقوى المحرمات الدينية والاجتماعية، وكانت نتيجة ذلك أنه صار ينظر إليها باعتبارها "غير طبيعية". وقد وجد فرويد أن مثل هذه الرغبات تتمثل بوضوح في الأحلام، في الوقت الذي لم يتضح له فيه هذا من سلوك مرضاه الواعي اليقظ عندما حلل هذا السلوك بألفاظ الكبت. ومن هنا فهم أن الدوافع الطبيعية عندما توصف بأنها خطأ، فإنها من الممكن أن تكبت، ولكنها لا تنمحي بل تبقى في اللاشعور حتى وإن لم يعد العقل الواعي يعرفها3. فوظيفة الكبت إذن "هي منع النزعات النفسية من السير في طريقها الطبيعي. وهذا المنع لا يقضي على النزعات النفسية، فهي تظل قوة متحفزة للظهور، ولكنها تبقى مع كل هذا مختفية فيما يسمى اللاشعور"4. وهي تحاول في كل وقت أن تطفو على السطح، وأن تظهر بصورة إيجابية، ولكن الذات العليا "والأنا في بعض الأحيان" ما دامت منتبهة واعية فإنه لا مجال لطفوها وتحققها. فهي إذن لا تظهر في اليقظة وإنما تلتمس الفرصة التي تغفل فيها الأنا والذات العليا، وهي فترة النوم، فتتحقق بصورة ما في الأحلام، سواء أكانت أحلام النوم أم أحلام اليقظة. "وفي اللاشعور تتخذ ثيابًا رمزية ينظر إليها العقل الواعي على أنها كلام فارغ, وهو في الحقيقة لا يعرف أهميتها"5. فالرغبات المكبوتة إذن تجد مجالا للظهور في الأحلام، وهي تظهر على شكل رموز. "ولقد ألقى فحص المحلل النفسي للأحلام وأحلام اليقظة فيضًا من الضوء على العقل عند الفنان. فإن العمل الإبداعي عند فنان ما -كما هو الشأن في حلم اليقظة- هو إلى حد بعيد عملية لاشعورية"6. على أن القول بأن العمل الإبداعي عملية لاشعورية ليس جديدًا علينا الآن، وإنما المهم هو ذلك الربط بين العمل الإبداعي والأحلام. وإذا كنا نحاول الآن أن نجد الحلقة التي تربط العمل الفني بالنوازع الجنسية فإن الأحلام هي تلك الحلقة المنشودة، فهناك نوازع جنسية مكبوتة لسبب أو لآخر, وهي مكبوتة في اللاشعور، فليست تستطيع الظهور إلا في حالات الغفلة التي تصيب الشعور، فتظهر عندئذ، ويفرغ اللاشعور شحنته في شكل رموز لا يقبلها العقل الواعي

_ 1 وتعرف في التحليل النفسي بعقدة ألكترا. 2 وتعرف في التحليل النفسي بعقدة أوديب. 3 Basler., op. cit., p. 15. 4 القوصي: أسس علم النفس 267. 5 Basler: كتابه ص15. 6 Cyril Burt., How the mind works, "2nd edition, London 1945" p. 273.

بصدر رحب، بل ربما عدها لغوًا. وليس ما يتحقق في الأحلام -في الواقع- شيئًا آخر يغاير في طبيعته ما يتحقق في العمل الإبداعي الفني. ويؤكد "جوته" نفسه "أنه كتب أحسن قصصه في أثناء فترة نوم حالمة غريبة يقارنها هو بحالة السائر في أثناء نومه Somnabulist". وإذا نحن بحثنا عن مثل من الكتاب الأحياء فإن بروفيسور "هوسمان" على استعداد لأن يخبرنا عن الطريقة التي كتبت بها أشعاره الخاصة، حيث يقول: إنني أعتقد أن إنتاج الشعر عملية فيها من الانتباه أقل مما فيها من الغفلة اللاإرادية1. وإذا كان الحلم -في الأعم- يشبه حلم اليقظة في كونه سلسلة من أفكار وصور ليس بينها كبير علاقة2, فالعملية الإبداعية كثيرًا ما تتخذ فيها الرموز نفس الصفات. وكما يقول "ودورث": إن الحالم لا يعمل، وإنما هو يلعب لملء الفراغ، وصوره تأتي -على نطاق واسع- عن طريق التداعي الحر، مع وجود الرغبات الشخصية الموجهة3. وكذلك العمل الفني، فيه من صفة اللعب هذه قدر كبير. فالعمل الفني تدفع إليه أسباب هي الأسباب التي تدفع إلى الحلم، ويحقق من الرغبات المكبوتة في الشعور ما يحققه الحلم، وهو يتخذ من الرموز والصور ما ينفس عن هذه الرغبات، ويخلق بين هذه الرموز والصور علاقات بعيدة وغريبة في الوقت نفسه, على الأقل بالنسبة للعقل الواعي. وقديمًا تحدث أرسطو4 عن فكرة التطهير5 "الكاثرسيز"6, ومؤداها أن المسرحيات تعين المتفرجين على أن يتخففوا من مشاعرهم الزائدة، وأن يحققوا رغباتهم المكبوتة. وهذا التخفف وذلك التحقيق هو الذي يحدث في نفس المتفرج المتعة، ويشعره السعادة لا شيء آخر. والذين يعانون الإنتاج الفني يقرون بسهولة أنهم طالما أحسوا بالمتعة أو اللذة أو السعادة بعد أن أتموا إخراج العمل الذي يبدعونه.

_ 1 انظر: المرجع السابق ص275. 2 R.S. Woodworth: Psychology., A Study of Mental Life, "18 th edition", p. 565. 3 المصدر السابق ص568. 4 Aristotle: "384-322 ق. م": فيلسوف يوناني، يعد واحدًا من أعظم الفلاسفة في جميع العصور، ويطلق عليه لقب المعلم الأول. 5 Catharsis: ويحدث ذلك عندما ترتجف النفوس هلعًا، وتذوب شفقة لما هو واقع. 6 راجع في نظرية أرسطو: Butcher: Aristole's Theory of Poetry and Fine Art, 3 rd edition, p. 242. وأيضًا قواعد النقد الأدبي، لأبر كرمبي: ترجمة محمد عوض محمد، "لجنة التأليف والترجمة والنشر 1944" ص107 وما بعدها.

فكأن المتعة تحدث نتيجة لعملية التخفف التي تتحقق في النشاط اللاشعوري الذي يبذله الفنان, ولو أن النشاط المبذول كان من العقل الواعي لما حدثت اللذة؛ لأن للوعي صفة الصرامة والجد، وأيضًا فإنه لا يستطيع -إزاء الرقابة المبثوثة حوله- أن يكون وسيلة للتنفيس عن الرغبات المكبوتة. ومن هذا يتبين لنا أن العمل الفني يتم عند الفنان في حالة شعورية، وأنه يكون أكثر قربًا من أعماق نفسه وطوايا صدره إذا هو تم في حالة لاشعورية. وهو في هذه الحالة يؤدي غرضه بالنسبة للفنان في أنه يخفف عنه القدر الزائد عن احتماله، وأيضًا فإنه ينفس عن النزعات الفطرية والرغبات المكبوتة في اللاشعور، لا في صورة أو صور سافرة، بل في رموز تحمل نفس الدلالة، يؤلف بينها في صورة حرة تلقائية. ولعلنا الآن نستطيع أن نقول مع "بيرت": إنه ليس لنا بعد حاجة إلى التردد في قبول النتيجة المهمة التي انتهى إليها التحليل النفسي، وهو أن أحسن الشعر وأحسن القصص وأبدع الصور، كلها -إلى حد بعيد- إنتاج النشاط اللاشعوري للعقل1. ومن أجل ذلك كان اعتقادنا بأنه من الممكن -إن لم يكن الآن من الواجب- تفسير الأدب على أساس نفسي، وفهمه في هذا الضوء الجديد2. "ومن الطبيعي أن استخدام نظرية فرويد في الأدب قد حُوول في الغالب بغرض تحليل المؤلف. ومع أن التحليل النفسي قد أضاف بالتأكيد كثيرًا، وما زال في إمكانه أن يضيف أكثر في فهم الفنانين بصفتهم شخصيات، فإن أعظم عمل للنظرية الفرويدية يقدم به دارسو الأدب إنتاجًا طيبًا هو في تفسير الأدب ذاته"3. على كل حال نستطيع الآن أن نتكلم عن الأدب باعتباره رمزًا للرغبات المكبوتة في اللاشعور. "ومن الممكن الانتهاء إلى أن العمل الفني إشارة أو رمز يقوم مقام شعور الفنان. وهو بهذا يمكن أن يعد إشارة رمزية بالنسبة للفنان نفسه، الذي يصير -بعد أن يتم العمل الفني- فردًا متذوقًَا مستمتعًا أكثر منه مبدعًا. ولأن الموضوع عندما يتم، ينفصل عن الفنان، فإنه ليست هناك عقبة واحدة تمنع من القول بأنه إذا كان رمزًا بالنسبة للفنان فإنه -من باب أولى- يكون رمزًا بالنسبة لغير الفنان من المتذوقين. والقول بأن العمل الفني رمز لمشاعر الفنان معناه قبول الشعور بوصفه إطارًا يرجع إليه لا عند البحث

_ 1 Cyril Burt: How the Mind Works, p. 279. 2 وقد أنجزنا هذه المحاولة عمليًّا في كتابنا "التفسير النفسي للأدب"، دار المعارف بالقاهرة 1963, ودار غريب للنشر 1982. 3 Basler: Sex, Symbolism and Pspchology in Literature, p. 11.

عن المقدرة على الإبداع الفني فحسب، بل أيضًا عند البحث عن التجربة الفنية سواء بسواء"1. وإذا رجعنا إلى فرويد وجدنا أن لامنطقية اللاشعور تنشئ علاقات جديدة بين الرموز, وهذه العلاقات الجديدة هي التي يجب أن يلتفت إليها عند محاولة تفسير الأدب. فالرمز في ذاته بما هو صورة أو جزء من صورة ليس هو المعنى, وإنما هو الصورة المجسمة للمعنى الكامن في النفس. وأيضًا فإن العلاقات الجديدة بين هذه الرموز ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي صورة للتلوين النفسي. وليس لما يجري في اللاشعور أية علاقة بفكرة الزمن، إذ إنه لا يوجد في تلك المرتبة من مراتب العقل أي توقيت أو زمان. وهكذا يساعد انعدام الزمن في اللاشعور على التكثيف Condensation الذي يمكن عن طريقه أن يلمح اللاشعور الحوادث المتباعدة بعضها عن بعض في الزمن كأنها متجمعة بعضها إلى بعض، إذا كان بينها أي نوع من الترابط أو العلاقة2. وأخيرًا، فإذا كان العمل الفني طريقة للتعبير ونقل التجربة الشعورية إلى الآخرين3 فكيف إذن يتحقق للفنان ذلك إذا كان يستخدم رموزًا لاشعورية لها تلك الصفات السابقة للتعبير عن تجربته الخاصة؟ "الفهم العام يدعو إلى الظن بأن اختلاف البيئة والثقافة والمزاج والتراث الفطري قد يؤدي غالبًا إلى اختلاف في المعاني التي يدلي بها الرمز الواحد عند مختلف الأشخاص"4. ولكن بعض العناصر الرمزية يخرج من نطاق المحلية ليكون له صفة العمومية والإطلاق عند أكثر من فرد، بل أكثر من أمة، وكل ذلك يترك المجال دائمًا أمام الآخرين لفهم الأثر الفني وتذوقه من خلال هذه الرموز. وفيما يلي بعض المحاولات لتطبيق المنهج التفسيري في نقد بعض الشعراء. نحن نعرف أن النقاد القدامى قد عابوا على ذي الرمة مطلع قصيدته: ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كُلى مفرية سرب عابوا عليه هذه الصورة القبيحة أولًا، وعابوا عليه أن يواجه الخليفة بها ثانيًا، وهم في ذلك يعطوننا خير مثال لفكرة التقويم الجمالي والخلقي. وحق أن الكُلى المفرية

_ 1 Milton V. Nahm: Aesthetic Experience and its Presuppositins, p. 322. 2 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي ص43، 44. 3 Cryil Burt: How the Mind Works, p. 279. 4 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي ص49.

منظر غير جميل لا تهفو النفوس إليه أو تتهافت لرؤيته، وحق أن الخلق يأبى على شاعر أن يواجه خليفة المسلمين بهذه الصورة التي تنال من نفسه، ولكن الحكم على فن ذي الرمة من هذين الوجهين، والانتهاء إلى ما قيل من فساد ذوقه وقبح صوره، ظلم كبير للشاعر. وأحسن من كل هذا أن ننسى أن هناك خليفة يمدح، ولنتحامل على أنفسنا فلا ننفر من صور الكلى المفرية، ولنبحث في ذلك القرار البعيد من نفسية ذي الرمة عن دلالة ذلك الرمز، أعني الكلى المفرية التي ينسكب منها الماء. وذو الرمة هو الشاعر الذي عاش في الصحراء وعاش للصحراء، وقد جاب فلواتها ليلًا ونهارًا بمفرده، وسمع فيها عزيف الجن، وعانى فيها ما يعانيه الوحيد في جوف الصحراء. ولعل مما حدث له ذات مرة أن كان في جوف الصحراء وقد اشتدّ به العطش، وعندما هرع إلى قرابه يستسقيه وجد أن خوارزه قد فسدت، وأن الماء قد تسرب منها فلم يبق له ما يسد به رمقه. وقد وصف ذو الرمة نفسه فساد القراب في البيت التالي حيث قال: وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتَبُ وفي تلك الحال من العطش، واللهفة إلى من يزيل عنه هذا العطش، يتذكر ذو الرمة ركبًا قافلا في الصحراء يمده بالماء, فيقول في البيت التالي: استحدث الركب عن أشياعهم خبرًا ... أم راجع القلب من أطرابه طرب؟ وهنا يمكن أن يسأل سائل متسرع: أليست هناك نقلة أو قفزة سريعة بين كلامه عن القراب الذي تلف وبين الركب الذي ينقل إليه الأخبار؟ والواقع أننا نستطيع أن نقفز مع الشاعر نفس القفزة إذا نحن فهمنا السبب الذي جعل الشاعر يلجأ إلى تلك الصورة، صورة القراب الذي سال منه الماء، على أساس ما بينّا. فإذا كان ذو الرمة يستفتح الخليفة بهذه الصورة, فليس ذلك إلا لأن ذا الرمة قد أتى الخليفة وفي نفسه أنه سيقضي له حاجته، وسيغدق عليه من عطاياه. إنه يشكو إليه ضياع زاده في صحراء تلك الحياة وتسربه منه, وهو في وحدته لا يكاد يتماسك أو يجد سندًا له معينًا. فهي إذن شكوى مرة تلك التي أراد إليها الشاعر، وليست -كما زعموا- تهجمًا على الخليفة، وليست فساد ذوق كذلك. وهناك محاولات أخرى نكتفي هنا بأن نشير إليها، هي محاولة الأستاذ عباس محمود العقاد لدراسة شخصية "أبي نواس" وفهم شعره على أساس من التحليل

النفسي, ومحاولة الدكتور محمد كامل حسين لدراسة شخصية "المتنبي" وفهم شعره على أساس نفسي كذلك، ثم محاولة الدكتور محمد النويهي على نفس الأساس لدراسة شخصية "بشار". وكل من يطلع على كتاب "أبو نواس" ومقال "المتنبي" من كتاب "متنوعات" وكتاب "شخصية بشار" يستطيع أن يفهم شخصيات هؤلاء الشعراء فهمًا جديدًا تحت الأضواء التي سلطت عليهم، والتي كان مصدرها نظريات التحليل النفسي، فتحت هذه الأضواء حلل الباحثون شخصيات هؤلاء الشعراء، وهم بتحليلهم إياها استطاعوا أن يفسروا شعرهم، وأن يجعلوا القارئ أكثر فهمًا له. هذا هو المنهج التفسيري العلمي في نقد الأدب. ولكن مهما تكن قيمة النتائج التي ينتهي إليها المنهج العلمي, فإنها نتائج -بعد كل شيء- لا يستطيع دارس الأدب أن يكتفي بها على الدوام. وإذا كان من الممكن الترحيب بهذا المنهج بوصفه أداة للنقد غاية في الأهمية، فإنه لا يمكن قبوله بوصفه بديلا نهائيا من كل المناهج الأخرى1. ولعل القارئ يلاحظ أن المنهج يقف عند مرحلة التفسير التي تمكننا من فهم الأشياء فهمًا أصدق، ولكنه لا يحدثنا عن قيمة هذه الأشياء أو قيمة هذا الذي فهمناه، والسؤال عن قيمة الشيء -بخاصة إذا نظرنا إلى عمل الناقد- سؤال جوهري ينتظر دائمًا الجواب، وهذا لا يبرز إلا في النقد الحكمي. ب- النقد الحكمي: وهو -كما قلنا- الطابع الغالب على النقد القديم. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الناقد كان يشعر بأنه قاضٍ وحكم, ومهمة القاضي تنتهي دائمًا بإصدار الحكم. وأبسط صورة للحكم هي أن يعبر الناقد عن رضاه عن العمل الأدبي أو نفوره منه، فيقول مثلا: إنه جيد أو إنه رديء، وقد يقول: إنه حسن أو إنه قبيح. كل الناس -بطبيعة الحال- يعدون نقادًا على هذا الأساس، فليس هناك من لا يصدر كل يوم حكمًا من هذه الأحكام، ولكن على أشياء أخرى غير الأعمال الأدبية، تصادفنا في حياتنا اليومية العادية. ولكن الوقوف عند هذه المرحلة من الحكم لا يفيد النقد في شيء، والناقد الذي يكتفي بأن يصدر حكمًا على العمل الأدبي لا يفترق عن أي شخص آخر يحكم على طعام بأنه جيد أو رديء؛ ولذلك كان لا بد من "حيثيات" لهذا الحكم، تمامًا كما يصنع

_ 1 Hudson: An introduction to the study of literature, pp. 379-381.

القاضي في المحكمة، فلا بد أن يقول لنا الناقد لماذا حكم بالجودة لهذا والرداءة لذلك. وأكثر من هذا أنه في كثير من الحالات يكون في حاجة لأن يحدد لنا في حكمه "الفرق في الدرجة" بين شيئين, كلاهما جيد. وهنا تكون مهمة الناقد حقا، فوضع المبررات التي جعلته يصدر حكمًا بذاته أمر من الصعوبة بمكان. والقاضي حين يكتب "حيثيات" الحكم في إحدى القضايا إنما يستلهم القوانين الموضوعة له، أو على الأقل روح هذه القوانين. فهل هناك مجموعة مماثلة من القوانين الأدبية التي يلجأ إليها الناقد يستلهمها حيثيات حكمه؟ ومن وضع هذه القوانين؟ ومن أين اشتقت؟ الواقع أن هناك قوانين يستند إليها الناقد في حكمه وفي تعليله لهذا الحكم, وقد سن هذه القوانين كبار النقاد, وهم قد اشتقوها من أعظم الأعمال الأدبية التي أنتجتها العبقريات المبدعة, والنقاد يعملون بمقتضاها، ويتحركون في حدودها، ويوجهون إليها الشعراء. وقد نشعر بشيء من النفور عندما نسمع عبارة القوانين النقدية؛ لأننا نحب في الناقد ألا يكون مجرد منفذ للقوانين التي تفرض من الخارج، كما لا نود أن نحس بطابع الجمود يدخل ميدان الفن الطليق. ولكن من قال: إن قوانين النقد جامدة، وإن عمل الناقد هو أن يطبقها حرفيا؟ الواقع أنه لا مجال هناك مطلقًا للنفور أو الخوف إذا عرفنا أن في طبيعة هذه القوانين من المرونة ما يترك الفرصة واسعة أمام الناقد كيما يتحرك هو شخصيا ويثبت وجوده. إن القاضي نفسه في ساحة القضاء ليصطنع الكثير من المرونة وتكييف القانون الذي سنته الدولة بحسب الحالة التي يعرض لها للفصل فيها، وبحسب ظروفها الخاصة، فما بالنا بالناقد. ثم إننا لا نكاد نجد للنقد قوانين ثابتة، فهناك تغير مستمر فيها, ولكن هذه المسألة لا تخيفنا، فإن عمل الناقد لا ينتهي، وعليه في هذه الحالة أن يبدأ مرة أخرى. ومع ذلك فإن هذه القوانين تتصف بثبات لا تكاد تستمتع به القوانين البشرية, إنها أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة. فالذي يحدث هو أننا لا نغير من قوانين الطبيعة، ولكننا نعدل فيها بحسب اتساع التجربة وعمقها. وإذا نحن قارنا مثلا بين علمي الفلك والطبيعة على يد طاليس1 وأنكسمندر2, وبينهما على يد نيوتن3 وأينشتاين4 لوجدنا الفرق واضحًا بين العالم كما فهم قديمًا والعالم كما فهم حديثًا.

_ 1 طاليس Tnales "640-546 ق. م": فيلسوف يوناني، قال: إن الماء أصل الأشياء كلها. 2 أنكسمندر: فيلسوف يوناني برز في منتصف القرن السادس ق م. 3 السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Neuton "1643-1729": رياضي وفيزيائي إنجليزي، وضع قانون الجاذبية العام، وقانون الحركة. 4 ألبرت أينشتاين Albert Einstein "1879-1955": فيزيائي أمريكي، ألماني المولد، صاحب نظرية النسبية، منح جائزة "نوبل" في الفيزياء عام 1921.

أما فهمنا للأدب فيبدو -نسبيًّا- أنه لم يحدث به تغيير كبير, وما زالت قضية المتعة Delectare موضوع المناقشات عبر العصور المختلفة. فالناقد في حاجة إذن لمعرفة تلك القوانين؛ لينظر في ضوئها إلى العمل الأدبي فيحكم عليه بحسبها، وعندئذ لا يعييه أن يجد التعليل, ولكن ينبغي أن نلتفت إلى أن هذه القوانين وحدها لا تكفي المعرفة بها حتى يستطيع الإنسان أن يعلل لحكمه، بل لا بد له من تجارب كثيرة يختبر فيها مقدرته على الحكم العادل. وهو بعد كل ذلك عرضة لأن يترك جوانب أخرى قيمة في العمل الأدبي الذي حكم عليه. فمن السهل أن نعرف قوانين "القصة القصيرة" مثلا وأن نقيس ما نقرأ من قصص كثيرة على ما عرفناه فنحكم بنجاح الكاتب أو إخفاقه في كتابة هذا النوع الأدبي, ولكن حكمنا بنجاحه أو إخفاقه, وفقًا للقواعد العامة، لا يمكن أن يعد حكمًا نهائيًّا على القصة من حيث قيمتها. وننتهي من هذا إلى أن القواعد التي وضعت للنقد تساعد الناقد -عادة- على أن يتصور ما يقرأ، وأن يحدد مدى اندراجه تحت نوع أدبي بذاته، وتحقق الأصول الفنية لهذا النوع الأدبي. والواقع أن هناك حكمين يصدرهما الناقد: الحكم الأول ينصب على مدى تحقق الأصول الفنية للنوع الأدبي الذي نقرؤه، والحكم عليه بأنه عمل أدبي. وهذا الحكم يستند -عادة- إلى فلسفة الناقد الخاصة في القيم. وكما ذكرت الآن، تحددت للأدب منذ القدم قيمتان لا نكاد نجد أحدًا يخرج عليهما هما: المتعة والمنفعة. وقد نجد ألفاظًا أخرى كثرة تستخدم بديلا من هذين اللفظين، ولكن ليس من الصعب ردهما جميعًا إلى هاتين المقولتين. وكل ناقد يريد أن يكون قد فرغ من تحديد موقفه إزاء هذين النوعين من القيم, وكل من يتبع تاريخ النقد يلاحظ أنه تنقل بينهما. فالنقد الإغريقي كان ينشد من الأدب المنفعة، في حين أن النقد العربي كان ينشد المتعة. والذين يريدون أن يظهروا شيئًا من الحكمة يجمعون للأدب المهمتين، ويحكمون عليه بمدى تحققهما. وهكذا تحددت أمام الناقد قيمتان للأدب: قيمة جمالية وأخرى أخلاقية, فهو أحيانًا يحكم بقيمة العمل الأدبي بمقدار ما تحقق فيه من عناصر الجمال، وبما أحدثه في نفسه من متعة التأمل, وأحيانًا أخرى يحكم بقيمة العمل الأدبي بمقدار ما حقق من هدف أخلاقي. والهدف الأخلاقي هذا شيء يختص بسلوك الفرد والمجموعة بأوسع معاني كلمة السلوك، فيدخل فيها المعنى الديني، والمعنى الخلقي، والمعنى التثقيفي، والمعنى الاجتماعي. وعندئذ نجد ناقدًا يحكم بقيمة العمل

الأدبي؛ لأنه يخدم نزعة دينية خاصة، أو لأنه يدعو إلى مبدأ أخلاقي بذاته، أو لأنه صالح لنقل المعرفة إلى قارئه وتثقيفه، أو لأنه يخدم سياسة خاصة أو مبدأ اجتماعيًّا معينًا. ومن هنا ظهرت الاختلافات الواضحة بين الأحكام النقدية، وصار هذا يرضى عن العمل الأدبي للسبب الذي من أجله لم يرض عنه الآخر, ويأتي ثالث فيرفض حكم هذا وذاك، ويتناول العمل الأدبي على أساس آخر فيحكم عليه حكمًا مخالفًا. وهكذا تختلف الأحكام النقدية بحسب فهم الناقد لمهمة الأدب, واختلافها لا يبغضها إلينا؛ لأننا نستطيع أن ننظر إلى العمل الواحد على أسس كثيرة من الفهم، وهذا وحده لا ضرر منه. وليس غريبًا أن يختلف الناس، بل الغريب ألا يختلفوا. إنهم يختلفون في التقديرات المنطقية والأخلاقية والاقتصادية، ويختلفون على السواء، أو ربما كان اختلافهم أشد في التقديرات الفنية, ولكن يعاب هذا الاختلاف فقط عندما يكون أثرًا من آثار التحيز. والواقع أنه لا يعيب النقد الحكمي مثل التحيز و"النزعة التقريرية" dogmatism فنحن كثيرًا ما نتحيز لفكرة بذاتها فننظر إلى الأشياء من خلالها ولا نرضى أن نعدل منها أو نغير فيها, وكثيرًا ما يرجع التحيز إلى تأثرنا بشخصيات بذاتها لا نلبث أن نجد أحكامنا ترديدًا لأحكامها, وهذا معيب بطبيعة الحال. وأكثر منه عيبًا تحيزنا لأنفسنا، فنحن كثيرًا ما تنقصنا الشجاعة لكي نعدل عن وجهة نظرنا حتى عندما نعرف أنها ليست صحيحة كل الصحة. على أن التحيز غالبًا ما يكون طابع الكبار منا، في الوقت الذي يكون فيه الميل إلى التقرير طابع الشباب1، فالكبار يكون ذوقهم قد تكوّن واستقرّ، ويكون من الصعب عليهم -تبعًا لذلك- أن يقبلوا أي ظاهرة جديدة، بل قد يغضبهم ذلك. والشبان يراجعون الأحكام القديمة، ويحاولون من جديد أن يقوِّموا الأعمال الأدبية، فيتورطون في أحكام لا سند لها ولا تعليل. وهكذا يتورط النقد الحكمي في عيوب لا تقل خطرًا عن عيوب النقد التفسيري. وإذا كان النقد التفسيري لا يحدثنا عن قيمة العمل الأدبي فإن تقرير هذه القيمة في النقد الحكمي -كما رأينا- محفوف بكثير من الخطورة. وكثيرًا ما ينسى الناقد -حين يصدر حكمًا- أننا ننتظر منه تحديدًا لقيمة العمل الأدبي، فإذا به -تحت وقع فكرته الخاصة بغاية الأدب- ينسى أنه محتاج لأن يضع يدنا على "فرق القيمة" في هذا العمل الأدبي

_ 1 انظر: H. J. C Grireson: Criticism and Creation., Chato and Windus, London 1949, p. 29 ff.

حتى عندما يكون موافقًا لفكرته الخاصة، ففي نطاق الفهم الواحد لغاية الأدب يمكن إصدار أكثر من حكم نقدي على أعمال أدبية تمثل هذا الفهم. فإذا كان الناقد يحكم بقيمة الأعمال الأدبية مثلا لأنها تخدم هدفًا أخلاقيًّا معينًا، فينبغي عليه أن يحدد لنا الفرق بين قيمة كل عمل وآخر، فموافقة العمل الأدبي لهدف بذاته لا تعطيه قيمة مطلقة. ويمكننا الآن بالرجوع إلى "مولتون"1 الإشارة إلى ثلاثة جوانب من التعارض بين مناهج النقد الحكمي القديمة، ومناهج النقد العلمي الحديثة: أولًا: يهتم النقد الحكمي اهتمامًا بعيدًا بمسألة درجات القيمة بين الأعمال الأدبية, وهذه المسألة تقع خارج نطاق العلم، فلم يسمع بعالم من علماء طبقات الأرض "الجيولوجيا" يثني على حجر رملي أحمر من حيث هو نموذج لتكون الصخور، أو يلقي عبارات التهكم والسخرية على العصر الثلجي. فالناقد العلمي -كالعالم- لا يعرف شيئًا عن الاختلاف في الدرجة، ولا يعرف سوى الاختلافات في النوع. فهو ينظر إلى المذاهب الأدبية المتعارضة لا من حيث سموها أو انحطاطها، ولكن من حيث مجرد تميزها, وهذا التميز لا يسمح بأي مكان للتفضيل؛ لأنه ليس هناك أساس عام للمقارنة. ومن ثم يمكن ملاحظة الفروق بين كاتب وكاتب وتصنيفها، ولكن دون محاولة لتقدير قيمها الخاصة. ثانيًا: يقوم النقد الحكمي على فكرة أن القوانين التي يقال لها قوانين الأدب تشبه قوانين الأخلاق أو قوانين الدولة, أي: إنها تفرضها قوة خارجية, وإنها تتحكم في الفنان كما تتحكم قوانين الأخلاق وقوانين الدولة في الإنسان "وقد بينا موقف الناقد من هذه القوانين". هذه القوانين لا وجود لها عند الناقد العلمي، فقوانين الأدب عنده كقوانين الطبيعة عند العالم الطبيعي، ليست أحوالا تفرض من الخارج، ولكنها "حقائق في صور قضايا". قوانين الطبيعة هي مجرد تقرير عام للنظام الذي يلاحظ في الواقع بين الظواهر, وقوانين الأدب ينبغي أن تشتقّ بطريقة متشابهة كل المشابهة، فهي تعبر عما هو كائن لا عما يجب أن يكون. وهكذا "لم تكن قوانين مسرح شكسبير قوانين تفرضها قوة خارجية على شكسبير" يكون مسئولا عن طاعتها، ولكنها قوانين التأليف المسرحي المشتقة من تحليل نفس مؤلفاته. ومن ثم فليس عمل الناقد أن يفحص مدى موافقة تأليف شكسبير -أو حاجته لأن يوافق- أفكارًا مجردة على المسرح، أو قواعد وضعت

_ 1 انظر: Hudson: An Introduction to the Study of Literature, p. 353.

مستقلة، ولكن عمله هو مجرد الكشف -بطريق الدراسة المباشرة لمسرحياته- عن المبادئ التي كتبت على أساسها المسرحيات، ثم تلخيص نتائج هذه الدراسة في عبارة عامة. ثالثًا: النقد الحكمي يقوم على فرض أن هناك "مستويات ثابتة" ينشأ الأدب ويقاس بحسبها, وقد اختلفت هذه المستويات اختلافًا كبيرًا عند النقاد المختلفين وفي العصور المختلفة. وهذه الحقيقة تمدنا بسبب لكون النقد في عمومه كان مذمومًا في أغلب الأحيان. ومع ذلك فقد قيل بوجود بعض هذه المستويات, ولا يعرف النقد العلمي مستويات ثابتة، بل ينكر في الحقيقة إمكان قيامها. فالأدب -ككل الظواهر التي تتناولها العلوم- ثمرة التطور، فتاريخه تاريخ تطور دائم؛ ومن ثم فإن البحث عن قاعدة نقدية دائمة مآله الفشل التام؛ لأن النهائية في هذه الحالة تتخذ قاعدة محققة، في حين أن طبيعة الأشياء ذاتها لن توجد فيها هذه النهائية.

الباب الثاني: الفنون الأدبية

الباب الثاني: الفنون الأدبية تمهيد: الأنواع الأدبية ... تمهيد: الأنواع الأدبية لا نريد أن نتكلم هنا عن الصور الأولى التي خرج فيها التعبير الأدبي, ولكننا إذا نظرنا الآن وجدنا أن كلمة "أدب" يندرج تحتها كثير من صور التعبير، كالقصيدة والقصة والمسرحية والمقالة وما أشبه. وهذه الصور المختلفة من التعبير الأدبي تكوّن ما يسمى بالأنواع الأدبية، فالنوع الأدبي صورة خاصة من صور التعبير، لها بواعثها وأصولها وخصائصها ومجالها. وقد رأينا في الفصل الأول ما بين الأدب والحياة من علاقة, فإذا نحن أردنا أن نعرف السبب في تنوع التعبير الأدبي في هذه الأنواع المختلفة، كان علينا أن ندرس البواعث الحيوية التي اقتضت ذلك. ويعتقد "هدسون"1 أنه من الممكن تصنيف الحوافز الكبرى الكامنة خلف الأدب في مجموعات تصنيفًا فيه من الدقة ما يلزم الأغراض العلمية تحت أربعة أغراض: 1- رغبتنا في التعبير الذاتي. 2- اهتمامنا بالناس وأعمالهم. 3- اهتمامنا بعالم الواقع الذي نعيش فيه، وبعالم الخيال الذي ننقله إلى الوجود. 4- حبنا للصورة من حيث هي صورة. فنحن مضطرون اضطرارًا قويًّا لأن ننقل إلى الآخرين أفكارنا ومشاعرنا، ومن هنا وجد الأدب الذي يعبر تعبيرًا مباشرًا عن أفكار الكاتب ومشاعره. ثم إننا نهتم اهتمامًا بالغًا بالرجال والنساء؛ بحياتهم ودوافعهم وعواطفهم وعلاقاتهم، ومن هنا وجد الأدب الذي يعنى بمسرح الأعمال والحياة الإنسانية. ونحن مغرمون بأن نخبر الآخرين بالأشياء التي رأيناها أو تخيلناها، ومن هنا وجد الأدب الوصفي. ونحن نشعر -حيثما تمثل المثير الفني- برضاء خاص في مجرد تشكيل التجربة في صورة جميلة، ومن هنا كان كيان الأدب ذاته من حيث هو فن.

_ 1 Hudson: كتابه السابق ص11, 12.

والإنسان -كما يقال لنا دائمًا- كيان اجتماعي، وكونه كذلك يجعله غير قادر -بحكم واقع تكوين طبيعته- على أن يحتفظ بتجاربه وملاحظاته وأفكاره وعواطفه وخيالاته لنفسه, ولكنه -على العكس- واقع تحت رغبة ملحة في نقلها إلى من حوله، فالصور الأدبية المختلفة ينظر إليها على أنها ليست سوى قنوات كثيرة شقها الإنسان لنفسه للتخفف من مهمته الاجتماعية خلال وسائل تحقق في ذاتها رغبته البعيدة في المزج بين التعبير, والإبداع الفني. وحين نتقدم بهذه الفكرة في تصنيف الحوافز الأدبية قليلًا يمكننا أن نلمس المجالات المختلفة التي ارتبطت بتلك الصور المختلفة من التعبير، فترتب عليها ظهور تلك الأنواع الأدبية. ويخاطر "هدسون" بتصنيفها في خمس مجموعات: 1- التجارب الشخصية للفرد من حيث هو فرد، وهي الأشياء التي تكون جماع حياته الخاصة، الخارجية والداخلية. 2- تجارب الإنسان من حيث هو إنسان، وهي تلك المشكلات العامة الكبيرة، مشكلات الحياة، والموت، والخطيئة، والقدر، والله، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وأمل الجنس الآن وبعد الآن، وما أشبه. وهي تجارب تقع خارج حدود الشخصية في مجملها، وتتصل بالجنس من حيث هو كل. 3- علاقات الفرد بزملائه، أو بالمجتمع العالمي كله، بكل قواه ومشكلاته. 4- عالم الطبيعة الخارجي, وعلاقتنا بهذا. 5- محاولات الإنسان الخاصة للإبداع, والتعبير في نطاق الصور المختلفة للأدب والفن. وهكذا بالنظر إلى الأدب في ضوء هذا التحليل، والاهتمام بطابع الموضوعات وحدها، يمكننا أن نميز بين خمسة أنواع من الإنتاج: 1- أدب التجربة الشخصية الصرف. 2- أدب الحياة العامة للإنسان من حيث هو إنسان. 3- أدب المجتمع في جميع مظاهره. 4- أدب يصور الطبيعة. 5- أدب يصور الأدب, والفن. هناك إذن الأدب الذاتي, ويشمل الأنواع المختلفة من الشعر وشعر التأمل والمراثي والمقالة والدراسة التي تكتب عن هذه الأشياء من وجهة نظر شخصية، ثم أدب النقد

الأدبي والفني. ثم هناك الأدب الذي نجد الكاتب فيه -بدلا من أن يتعمق نفسه- يمضي خارج ذاته إلى عالم الحياة والنشاط الإنساني الخارجي. وهذا يتضمن التاريخ وفن السيرة وشعر "البالاد" والشعر الملحمي والرواية الخيالية، شعرًا ونثرًا، والقصة والمسرحية. ثم هناك أخيرًا الأدب الوصفي، وهو ذاته ليس قسمًا كبيرًا أو مهمًّا؛ لأن الوصف في الأدب يرتبط عادة بحاجات التعبير الذاتي أو القصصي، كما يخضع في أغلب الأمر لها. وينبغي في كل هذا التحليل أن يلاحظ أن هذا التقسيم لا يمكن أن يحدث هكذا بحيث ينفصل الغرض الواحد ويستقلّ استقلالًا تامًّا عن الأغراض الأخرى، فالواقع أن أدب التجربة الشخصية يتداخل في كثير من الحالات في أدب الحياة العامة للإنسان. وكذلك الأمر فيما يختص بالمجالات الأخرى، ولكننا نلجأ إلى هذا التقسيم فقط لغرض عملي تعليمي. ومنذ عهد "لسنج"1 الناقد الألماني المشهور في القرن الثامن عشر ظهرت فكرة التمييز بين الأنواع الفنية على أساس من النظر إلى الأداة التي تستخدم لإنجاز هذا الفن أو ذاك. وقد افترق الأدب عن غيره من الفنون الأخرى من حيث إنه يستخدم اللغة أداة التعبير, فاللغة في الحقيقة هي أداة التعبير في كل الأنواع الأدبية، ولكنها تختلف كذلك في طريقة استخدام هذه الأداة، فالشعر كالقصص، يستخدم الألفاظ أداة له، ولكن الألفاظ في الشعر تستخدم على نحو مختلف. فجوانب اللغة التي لا يهتم بها كاتب القصة إلا قليلا، لها أهميتها الأساسية عند الشاعر، فالشاعر يستخدم المعنى العقلي للألفاظ، ولكنه كذلك يستخدم علاقاتها وإيحاءاتها وأصواتها وإيقاعها والصور الموسيقية وغيرها مما تكونه الألفاظ حين يرتبط بعضها ببعض. ومع ذلك فمن الواضح أن هذا لا يكفي للتمييز بين الشعر والأشكال الأدبية الأخرى؛ لأن القصة كذلك تستخدم جوانب للغة لا يستخدمها كاتب النثر العلمي الصرف، كالصوت والإيقاع "وألوان" الألفاظ، وإن كان يستخدمها بدرجة أقل من الشاعر. فهل يكون الفرق بين الأدب الشعري والأدب النثري مجرد فرق في الدرجة؟ هل المسألة مجرد كون الإيقاع أكثر انتظامًا، وأن الاعتماد على الإيحاءات والعلاقات وموسيقى الألفاظ أعظم فيه مما هي عليه في النثر؟ وإذا كان الأمر كذلك, فأين يمكن أن نضع الخط الفاصل بين هذين النوعين من التعبير الأدبي؟ من الأفكار التي شاعت في وقت من الأوقات خطأ أن هناك موضوعات تسمى موضوعات شعرية, وأخرى تسمى موضوعات نثرية، فيقال عندئذ: إن هذا الموضوع من

_ 1 جوتهولد إفرايم لسنج Gotthold Ephraim Lessing "1729-1781": ناقد وكاتب مسرحي ألماني، ويعد أول مسرحي ذا شأن في تاريخ الأدب الألماني الحديث.

موضوعات الشعر فلا بد أن يكون تناوله تناولًا شعريًّا، وإذا حاول الكاتب -تبعًا لذلك- أن يتناوله تناولًا نثريًّا فإنه يكون عرضة للإخفاق. وكذلك يقال: إن هذا الموضوع هو من موضوعات النثر، فلا بد أن يكون تناوله تناولا نثريا، وإذا حاول الشاعر -تبعًا لذلك- أن يتناوله تناولا شعريا فإنه يكون عرضة للإخفاق، وهذه الفكرة -كما قلت- خاطئة، فليس هناك موضوع مخصص للشعر لا يصلح الشعر إلا فيه، فإن كل موضوع صالح لأن يكون موضوعًا شعريًّا. وقد كانت هذه الفكرة الخاطئة أساسًا للتفريق بين الشعر والنثر على أساس من الموضوع، فيقال: إن الشعر يختلف عن النثر من حيث الموضوعات, وليت هذا كان صحيحًا، فهو يبدو مريحًا من عناء البحث، ولكنه -مع الأسف- لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأنه قائم على أساس فكرة خاطئة. فإذا قلنا: إن كل موضوع صالح للتناول الشعري, كان علينا أن نعيد النظر في الفرق الذي يمكن أن نميز به الشعر عن النثر. وهو حتى الآن لا يمكن أن يكون فرقا في استخدام الإمكانات الفنية للغة أو عدم استخدامها، وكذلك ليس فرقًا في الموضوعات؛ لأننا لا نأخذ بأن هناك موضوعات خاصة بالشعر. فإذا لم يكن الفرق في اللغة المستعملة، ولا في الموضوعات التي يكتب فيها الشعر والنثر، فهل يتوقع بعد ذلك أن يكون هناك فرق بينهما؟ ليس هناك ما يدعو لليأس، ونستطيع أن نبدأ الآن فنسأل أنفسنا: لماذا يكتب الشاعر، حين يكتب، شعرًا ولا يكتب نثرًا؟ بعبارة أخرى أكان يستطيع أن يكتب نثرًا ولكنه عدل عن ذلك واصطنع هذا النوع من التعبير الشعري؟ الواقع أن الشاعر لا يختار بين الشعر والنثر حين يبدأ عمله الفني، ولكنه يجد نفسه مدفوعًا إلى هذا النوع من التعبير. وما الذي يدفعه؟ ونجيب عن ذلك فنقول: إن حالته الوجدانية هي التي تجعله في وضع يكون فيه التعبير الشعري -فضلا عن أنه أفضل أنواع التعبير عن هذه الحالة- هو التعبير الوحيد الكافي، فالشعر، قبل كل شيء، يعتمد على ما عند الشاعر من "بصيرة" شعرية، وعندئذ لا تكون مادة شعرية في ذاتها، مستقلة عن هذه البصيرة، ولكنها تكون كذلك لأنها دخلت في مجال الحالة الشعرية. والعمل الشعري -تبعًا لنظرية عدم الفصل بين الصورة والمحتوى- لا يتحقق فيه الموضوع مستقلًّا عن الصورة، فموضوع القصيدة، أي قصيدة، هو القصيدة ذاتها. ومعنى هذا أن الموضوع المجرد لا يمكن وصفه بشيء، ولكنه يمكن أن يوصف بأنه شعري حين يتحقق في عمل شعري, فمن خلال بصيرة الشاعر تتمثل المعاني الشعرية. وهذه المعاني لا يمكن أن تظهر إلا في صور والصورة دائمًا مظهر للمعنى. ومن هنا تأتي الصورة الشعرية، أو التعبير الأدبي الشعري، مختلفًا في طريقة استخدامه للغة وإمكاناتها نوعًا من الاختلاف عن التعبير

النثري. فالتعبير الأدبي الشعري يختلف عن التعبير النثري باعتبار المصدر الأول, وهو الحالة العقلية، وما يسمى بالحساسية الشعرية. وهكذا نستطيع أيضًا أن نفرق بين الأنواع الأدبية في ضوء تخيلنا لطريقة كل نوع في استخدامه لأداة الأدب: اللغة. وهذا التقسيم إلى شعر ونثر يندرج تحته تقسيم فرعي لكل قسم، فليس الشعر كله نوعًا واحدًا، وكذلك ليس النثر، بل هناك أنواع شعرية وأنواع نثرية. وسندرس هذه الأنواع في الفصول الآتية، بادئين بالأنواع الشعرية, ولكن هذه الأقسام الفرعية لا يمكن الاعتماد كثيرًا في التفريق بينها على طريقة كل منها في استخدام اللغة؛ لأن الطريقة تكاد تكون متشابهة، ولكن التفريق سيكون بجانب ذلك على أساس آخر من النظر إلى الأصول الفنية لكل نوع، وهذا ما سيظهر في حينه.

الفصل الأول: الشعر

الفصل الأول: الشعر قدم فن الشعر ... الفصل الأول: الشعر "إن الشعر لغة خلال لغة" بول فاليري1 قِدَمُ فن الشعر: فن الشعر من أشهر الفنون الأدبية وأكثرها انتشارًا، وربما كان ذلك لقدم عهد البشرية به؛ فالشعر هو الصورة التعبيرية الأدبية الأولى التي ظهرت في حياة الإنسان منذ العصور الأولى، وهذه الأقدمية التي للشعر ترجع إلى أنه كان في تلك العصور ضرورة حيوية بيولوجية. إنه الطريقة الوحيدة التي اهتدى إليها الإنسان -بحكم تكوينه البيولوجي والنفسي- للتعبير، والتنفيس عن انفعالاته، ومنذ ذلك الوقت تحددت لذلك الفن خصائص استطعنا أن نتبينها في وضوح عندما أراد أن يعبر عن أفكاره. ومن هنا ارتبطت "الانفعالات" بالشعر، "والأفكار" بالنثر. ولكن الخطأ في الفهم يأتي عادة من النظر إلى "الانفعالات" و"الأفكار" على أنها أشياء متعارضة أو متناقضة. وهذا من شأنه أن يجرّ إلى أخطاء كثيرة في فهم الشعر والنثر على السواء, وليس هناك تعارض، بل هو مجرد اختلاف.

_ 1 Paul Valery "1871-1945": شاعر فرنسي، يعد واحدًا من أبرز أركان المدرسة الرمزية.

محاولة تعريفه

محاولة تعريفه: وبرغم قدم هذا الفن وانتشاره فإنه ليس من السهل وضع تعريف له, وقد حاول الكثيرون أن يتعرضوا لذلك، وأن يدرسوا طبيعة الشعر، منذ عهد أرسطو حتى الوقت الحاضر، وقد ظهر -نتيجة لذلك- حشد عظيم من التعريفات التي لا تكاد تتفق على شيء حتى تختلف في أشياء. وربما كان ذلك راجعًا إلى اختلاف الأشخاص والعصور التي حُووِلت فيها تلك المحاولات، لا إلى طبيعة الشعر ذاته، فالشعر -كما تقول "مس شتاين"1- هو الشعر.. هو الشعر.. هو الشعر، أي: إن الشعر في ذاته أو طبيعته لم يتغير، ولكن الذي يتغير هو فهم الأفراد والجماعات له في البيئات والعصور المختلفة. فإذا قلنا: إن كل إنسان يعرف ما الشعر لم نكن مغالين؛ لأنه ليس من السهل حتمًا أن يفهم الناس الشعر فهمًا واحدًا. إن للشعر -كالأدب بعامة- طبيعة مرنة تتشكل بحسب رغبة كل إنسان وفهمه.

_ 1 George Whalley: Poetic Process., Routledge & Kegan Paul. London 1953, p. 255.

ونحن حين نتحدث هنا عن الشعر لا نهدف بطبيعة الحال إلى أن نضع تعريفًا له يغني عن غيره من التعريفات، فهذا أمر عسير، فضلًا عن أن تحقيقه لا يجدي كثيرًا. ولكننا سنحاول أن نفهم طبيعة هذا الشعر ونتصور مكانه, ودوره بين الفنون الأخرى. يقص علينا "بول فاليري" هذه القصة فيقول: إن المصور العظيم "ديجا"1 كان مغرمًا بأن يكرر لي شيئًا صادقًا كل الصدق، وبسيطًا كل البساطة، كان "مالارميه"2 قد قاله له ذات مرة، فقد كان من عادة "ديجا" أن ينظم في المناسبات أشعارًا ترك منها نماذج قليلة ممتعة، ولكن كثيرًا ما كان يجد صعوبة كبيرة في كتابة هذا الفن الذي كان بالنسبة له يأتي في المرتبة الثانية بعد فن التصوير.. وذات يوم قال لمالارميه: ما أشق وأصعب مهمتك! إنني لا أستطيع أن أعبر عما أريد التعبير عنه، مع أن عقلي يصطخب بالأفكار, فأجابه "مالارميه": إن الشعر -يا عزيزي ديجا- لا يصنع من الأفكار، ولكنه يصنع من الألفاظ3. هذه القصة الطريفة تدلنا بوضوح على أن الشاعر لا يكفيه أن يحصل قدرًا من الأفكار حتى يستطيع أن يقول الشعر. قد تكون شاعرًا بينك وبين نفسك، ولكن الناس لن يعترفوا لك بذلك إلا عندما تقدم الدليل الملموس على ذلك. وليس لك من وسيلة في هذه الحالة إلا "الألفاظ"؛ فنحن لا نحكم على الشاعر إلا بعد أن نقرأ هذه الألفاظ التي كتبها، وفهم طبيعة الشعر يبدأ من هذه المرحلة، مرحلة استخدام الشاعر للألفاظ.

_ 1 إدجار ديجا Edgar Degas "1834-1917": رسام فرنسي، من أركان المدرسة الانطباعية. 2 أسطفان مالارميه Stephane Mallarme "1842-1898": شاعر فرنسي, يعد مؤسس المدرسة الرمزية وزعيمها. 3 Paul Valery and Abstract thought., "Essay" on Language and Literature. 1 ed., J. L. Hevsi, London, Allen Wingate, p. 85.

طبيعة الشعر

طبيعة الشعر: إن الألفاظ ملك لجميع الناس، وهي تستخدم في كل فن من الفنون الأدبية، ولكن كل فن -كما سبق أن قلنا- يستخدمها بطريقته الخاصة، فاللغة في الشعر الناجح تبدو "تركيبية"، في حين أنها في النثر "تحليلية"؛ ذلك أن "التركيب" عملية يقتضيها العمل الشعري، في حين أن التحليل تقتضيه الكتابة النثرية. ولماذا يقتضي الشعر التركيب, والنثر التحليل؟ إذا نحن رجعنا إلى الفكرة الأولية التي بدأنا بها هذا الفصل عرفنا السبب, فقد قلنا: إن الشعر انفعال والنثر تفكير، وطبيعة الانفعال أنه -بحسب تجربتي على الأقل- ينتقل جملة، ولا يثبت للتحليل إلا في يدي الدارس، أما التفكير المنطقي المنظم فالتحليل ضروري له. وهنا نستطيع بسهولة أن نستخدم تعبيرين آخرين عن نفس الفكرة, هما: أن التجربة الشعرية -من حيث هي وحدة- لا تتكون في النفس

على نحو ما يتكون التفكير المنطقي المنظم، ولا هي تتبع الطريق الذي يسلكه ذلك التفكير حتى يخرج في صورة لفظية. وقد رحنا نقول: إن هذا معنى شعري وذاك منطقي على أساس من اعتبار للتجربة الشعرية عند الشاعر، والفكرة المنطقية عند غير الشاعر، وهو اختلاف جوهري, كما يقول "جاك ماريتان"1. ولكن ينبغي هنا أن ندرك أن اللغة في مجملها ذات طبيعة تحليلية "أغلب اللغات لها هذه الطبيعة، وبعضها -كاللغة العربية- تركيبي"، ولكن تجربة الشاعر وحده. وهنا تأتي المفارقة في عمل الشاعر؛ لأنه يريد إنتاج تركيب معين من خلال اللغة ذات الطبيعة التحليلية، "وإحداث أثر تركيبي من خلال أداة تحليل يمثل نجاحًا للشاعر، والنثر الذي هو طريقة تعبيرية أكثر ميلا إلى التحليل، لا يتمثل فيه مثل هذه المفارقة بنفس الدرجة"2. ولكي يستخدم الشاعر هذه الأداة التي يستخدمها غيره، والتي تتمشى مع أغراضهم أكثر مما تسعفه، فإنه يجد نفسه مضطرا في كثير من الحالات لأن يغير من قيمة هذه العملة، وهذا التغيير يحدث أحيانًا على ألسنة الناس أنفسهم، وأحيانًا أخرى نتيجة للضرورات المفاجئة في التعبير الفني, وقد يحدث هذا التغيير من القلم المتردد في يد المؤلف. وكل هذه التغييرات التي يحدثها الشعر في اللغة يجعل منها شيئًا آخر, إنها تصبح لغة شعرية لا أنها في ذاتها لها هذه الخاصية، ولكن لأنها خضعت للتجربة الشعرية في نفس الشاعر، ومقتضيات التعبير عن هذه التجربة. فإذا نحن اعتبرنا هذا الأساس، تبين لنا الخطأ في محاولة فهم طبيعة الشعر من خلال نظرية في الغاية من الشعر بعامة، تجعل مهمته تربية الشبان وتثقيفهم. والذين يأخذون بذلك يخلطون -كما يقول فاليري- بين الآراء العامة والمتعة المباشرة التي يثيرها العمل الفني. إنهم يفهمون العمل الفني على مرحلتين، فلا يفهمون القصيدة أو يتذوقونها من حيث هي شعر تذوقًا مباشرًا، ولكنهم يترجمونها -إذا صح التعبير- إلى النثر أولا، ثم يفهمونها ويتذوقونها ويحكمون عليها أخيرًا من خلال هذا النثر. فهم يعاملون القصيدة كما لو كانت منقسمة إلى عبارة نثرية مكتفية بذاتها وقائمة وحدها من جهة، وإلى قطعة موسيقية خاصة من جهة أخرى، ثم يمضون فيقسمون العبارة بدورها فتنحل في أيديهم إلى متن صغير "قد يقل في بعض الأحيان إلى أن يصل إلى كلمة

_ 1 Jaques Maritain: Creative thought in Art and Poery. Bollingen seriels., New York 1935. pp. 257-8. 2 David Daiches: Poetry., "ed in: the Enjoyment of the Arts., Philo. Libr. 1944 pp. 178 ff.

واحدة أو عنوان العمل ذاته" وإلى كمية من التوابع، كالمحسنات والصور "التفصيلات الجميلة". أما فيما يختص بموسيقى الشعر, فإنهم يقفون منها بعيدًا، فبعضهم يعتقد أنه شيء لا يمكن إغفاله والتهاون فيه، وهي عند بعضهم موضوع لدراسات تجريدية علمية أحيانًا، وغير مثمرة في العموم. فنقل القصيدة من صورتها "الشعرية" إلى صورة "نثرية" يعد قتلا للشعر فيها. القاعدة العامة التي تقول: إن كل ما يمكن أن يقال في النثر من الأفضل دائمًا قوله1 نثرًا -وهذا ما يؤكد الفارق الجوهري بين الشعر والنثر- هذه القاعدة تؤكد أن تحويل "العملة الشعرية" إلى "عملة نثرية" غير مستطاع إلا على حساب الشعر ذاته. وكلما كانت القصيدة "شعرية" قل إمكان التفكير فيها "نثريا" دون أن تتلف. فتلخيص القصيدة وصياغتها نثرًا يعد جهلا تاما بجوهر الفن, وليست الأفكار التي تظهر أو يوحي بها نص القصيدة هي الشيء الوحيد والرئيسي في الكلام، ولكنها وسائل تشترك بالتساوي مع الأصوات والإيقاع والانسجام والزخارف في أن تثير نوعًا من التوتر أو الهياج، وأن تخلق فينا عالمًا -أو حالة من الوجود- غاية في التآلف. وتقسيم القصيدة إلى فكرة وصورة موسيقية ينظر إليهما على حدة، هو خطأ ظاهر، فموسيقى القصيدة ليست عملا مستقلا عن الشعور الذي تحتويه، أو هي لا تتم في زمن مستقل لا تتمثل فيه "الحالة" بكل حذافيرها، وإنما هي جزء أساسي لمن يريد تذوق الشعر من حيث هو شعر. ومن ثم يرى "فاليري" أنه إذا كان المعنى والصوت "أو إذا كان المحتوى والصورة" يمكن انفصالهما بسهولة، فإن القصيدة تنحل وتفسد؛ ذلك أن أي تجزيء لعناصر العمل الفني المتكاملة، واعتبار بعضها مستقلا عن بعضها الآخر، هو في الحقيقة إفساد لهذا العمل ولقيمته التعبيرية والشعورية على السواء. فإذا انتفى تقسيم العمل الشعري وتفتيته، كان البحث عن فكرة في القصيدة، والحكم عليها بحسب قيمة هذه الفكرة "من وجهة نظر خاصة دائمًا" أمرًا منافيًا لطبيعة الشعر. إن الشعر قد يتضمن الأفكار، ولكن دور هذه الأفكار في الشعر يختلف عنه في النثر، فالفكرة في الكتاب الذي نقرؤه تتحدد في أذهاننا في أشكال متقاربة إن لم يكن في شكل موحد، ولكن الفكرة في القصيدة غير ذلك، فليس هناك معنى حقيقي للنص الذي نقرؤه، ولا سلطان للشاعر ذاته حتى نعود إليه فنعرف منه ذلك المعنى الحقيقي؛ لأنه هو نفسه قد لا يستطيع التحديد. "إنه أراد" أولا، وأخذت عليه هذه الإرادة وجوده

_ 1 T. S. Eliot: Points of View., Faber and Faber, London, p. 52.

كله، ولكنه حين لم يستطع التحرك في الخارج وتنفيذ رغباته، راح يتحرك في داخل نفسه. وتتمثل تلك الإرادة في هذه الحركة الداخلية التي امتدت إلى الخارج في صورة لفظية هي ما سميناه القصيدة. ومن ثم قد "يريد" الشاعر شيئًا ويقول شيئًا آخر, وتكون القصيدة عندئذ كالجهاز الذي يستطيع أن يستخدمه كل فرد بأسلوبه وبحسب طرقه؛ وبذلك يفهم كل منا الفكرة في القصيدة على نحو خاص مختلف إلى حد بعيد1. إن القصيدة في أبسط تصور لها لا تعدو أن تكون مجموعة من الألفاظ مرتبطة ومنسقة على نحو معين، ولكنها حين تتكون على هذا النحو تكون قد اكتسبت شخصية خاصة لها حيويتها ولها فعاليتها. وهذا الارتباط الخاص للألفاظ هو الذي ينشئ العلاقات الجديدة التي تتمثل لنا في صور التعبير المختلفة، التي تظهر دائمًا في الكتابة الشعرية، وأعني بصفة خاصة تكوين "الصورة"، فالألفاظ في ارتباطها تكون في القصيدة مجموعة من الصور التي تنقل إلينا الشعور أو الفكرة.

_ 1 أفكار فاليري السابقة مستقاة من كتابه Variete، وبخاصة الجزء الثالث.

الانفعال والفكرة

الانفعال والفكرة: وهنا يلزمنا العودة مرة أخرى للتفريق الذي بدأنا به هذا الفصل بين "الانفعال" و"الفكرة" من حيث اتصال الانفعال بالشعر والفكرة بالنثر، فالواقع أن الصورة الشعرية قد تنقل إلينا انفعال الشاعر "تجربته الشعورية"، ولكنها كذلك قد تنقل إلينا الفكرة التي "انفعل" بها الشاعر، وليست الصورة التي يكوِّنها خيال الشاعر إلا وسيلة من وسائله في استخدام اللغة على نحو يضمن به انتقال مشاعره "انفعالاته وأفكاره" إلينا على نحو مؤثر. ولما كانت الصورة دائمًا تعتمد على الألفاظ الحسية "معروف أن ألفاظ اللغة إما حسية كلفظ "كتاب" وإما معنوية أو تجريدية كلفظ "إنسانية""، سواء ما يدل منها على الأشياء أو الأوصاف "كما تقول: حلو، بارد، أخضر ... إلخ"، فإنها لذلك كانت أقرب شيء إلى إدراكنا. والصورة كما تكون مجموعة من الألفاظ تكون لفظًا واحدًا, والشاعر -في بحثه وتركيبه للصورة- يستخدم اللفظ المفرد كما يستخدم المجموعة من الألفاظ، وبذلك يمكننا أن نقول: إن القصيدة مجموعة من الصور. وينبغي أن نقف هناك قليلا لندرس بشيء من التحليل "الصورة الشعرية"؛ لأنها في الحقيقة هي أداة الشاعر؛ ولأن لها فلسفة قديمة وأخرى حديثة، ينبغي أن نتبين ما بينهما من فروق؛ لأنه على أساس هذه الفروق يكون النظر إلى الشعر القديم والشعر الحديث، والحكم عليهما.

الصورة القديمة وخصائصها

الصورة القديمة وخصائصها: وأول ما يجدر الالتفات إليه -فيما يختص بالشعر القديم- هو أن الشاعر -وكذلك الناقد- كان ينزع نزعة حسية في فهم الجمال وفي تصويره. هذه النزعة الحسية كانت حرية أن تفرض نفسها على "الصورة الشعرية"، فإذا نحن قرأنا بيت ابن المعتزّ المشهور: وأنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر تمثلت لنا تلك الخاصة الحسية في الصورة، فقد أراد الشاعر أن يصور الهلال فالتمس له من عالم الحس صورة الزورق الذي يسبح في الماء وقد حمِّل بالعنبر. وإذا نحن مضينا في تحليل هذه الصورة وجدنا أن شكل الزورق يشبه تمامًا شكل الهلال، وأن حجمه يساوي حجم الهلال "من بعيد"، وأن لونه "ولا غرابة في أن يكون لون الزورق فضيًّا" يشبه لون الهلال, والهلال في السماء كالزورق في الماء. وبذلك يتساوى الهلال والزورق من حيث الحجم والشكل واللون والواقع، وهي الأمور الحسية التي تعيّن وجوه التشابه. وقديمًا أعجب النقاد والشعراء بهذا البيت، بل أصبح من الأبيات التي يستشهد بها على الصورة الناجحة. وقد كان نجاح ابن المعتز يرجع إلى أنه استطاع أن يجد في تصويره للهلال الشيء الموازي له في عالم الحس، فراح يضعه في جانبه فإذا هما يتطابقان تطابقًا تامًّا، كما يتطابق المثلثان المتساويا الأضلاع والزوايا. وهذا ينتهي بنا إلى استخلاص صفة أخرى غير الحسية، امتازت بها الصورة القديمة، وهي صفة "الحرفية", وأعني بالحرفية أن يصرف الشاعر كل همه في أن يأتي للشيء بالصورة الحسية الموازية له، المتطابقة معه جزئيا وكليا. فعناصر التشابه التي رأيناها في المثل السابق تتطابق التطابق الحرفي الذي لا يترك خاصة حسية في الشيء المراد تصويره إلا جاء له في الصورة بما يساويه ويوازيه. وحتى الآن نكون قد استخلصنا صفتين أساسيتين من صفات الصورة القديمة هما "الحسية" و"الحرفية", والصفة الثالثة من صفاتها أنها "شكلية". وماذا نريد إذن بالشكلية؟ لا شك أن الشاعر لا يصور لمجرد التصوير, وبعبارة أخرى: لا يسخر الشاعر قواه الإبداعية لكي يحكي لنا الشيء كما هو، فالمحاكاة وحدها قد تروقنا كما حدث في بيت ابن المعتز السابق، ولكننا نطلب في الشعر شيئًا آخر هو الشعور، وهو ما افتقدته الصور القديمة. فإذا وقفت لحظة لتسأل ابن المعتز: أي ربط نفسي بين الزورق والهلال في نفسك حتى حرك الهلال فيها صورة الزورق؟ ثم أي "شحنة" شعورية يثيرها الهلال في النفس قد نقلها ذلك الزورق؟ لم تجد أي رابط نفسي، كما لم تجد أي شعور. إن

الهلال يثير في النفس معاني ومشاعر لا حصر لها، يثير فيها مشاعر الطفولة التي تحبو، ويثير فيها معاني الأمل في مستقبل بسام وضيء، ويثير فيها الشعور بتجدد الحياة، وقد يثير فيها الإحساس بالضيعة, وما أشبه، فإذا انتقلت إلى الصورة التي كان من المفروض أنها ستقرب من نفوسنا واحدًا من هذه المشاعر وتحدده لم تجد بين هذه الصورة وأي شعور من تلك المشاعر علاقة، بخاصة حين نتذكر "العنبر" الذي لم يأت به الشاعر في الصورة إلا لأنه أقرب شيء يساوي ويوازي حسيا منطقة السوداء "المضيء" الذي يقرب من اللون البني، والذي يقع في منحنى الهلال. كل هذا يخلص بنا إلى أن الصورة لم تكن لتتجاوز الشكل الخارجي للأشياء، دون تعمق لها من جهة، ودون استغلالها في نقل مشاعر محددة في نفس الشاعر من جهة أخرى. ولعلني لا أغالي إذا قلت: إن الشاعر كثيرًا ما كان يندفع وراء الصور الحسية التي تبدو له غاية في الجمال، ويتغافل عما يمكن أن يكون بين الشعور الذي تثيره، والشعور أو المعنى الذي كان ينبغي عليها أن تنقله إلى القارئ، من علاقة. وأذكر هنا ذلك البيت القديم الذي أراد الشاعر فيه أن يصور فتاة باكية حزينة نادمة فقال: فأمطرت لؤلؤًا من نرجس، وسقت ... وردًا، وعضت على العناب بالبرد فجعل اللؤلؤ موازيًا للدموع، والنرجس مقابلًا للعين، والورد للخدود، أما العناب فلأطراف الأصابع، وأما البرد فللأسنان. وأعتقد أن كل ذواقة يحس ما يمكن أن تثيره هذه الصورة في النفس من ألوان المشاعر، لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يحس بإحساس تلك الفتاة المسكينة الحزينة الباكية النادمة، فالمطر واللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبرد -وهي جميعًا العناصر التي تكونت منها الصورة- لا يمكن أن تكون أداة لنقل مشاعر الحزن والندم، بل لعلها تثير في النفس مشاعر البهجة والارتياح، أي المشاعر المضادة. فالصورة الشعرية القديمة إذن صورة حسية حرفية شكلية، وقد استتبع ذلك صفة أخرى جوهرية هي "الجمود"، فلم يكن في الصورة أي خاصة عضوية أو حركية، بل كانت عناصر جامدة. وكذلك كانت الصورة القديمة "جميلة" دائمًا، ولكنه الجمال الذي يتمثل للحس. وإعجاب الناس بها راجع إلى ذلك الجمال الذي يروع الحواس؛ لأن فهمهم للجمال -كما ذكرت- كان يقف عند هذا المدى.

الصور في الشعر الحديث ودورها

الصور في الشعر الحديث, ودورها: أما الصورة في الشعر الحديث فلها صفات غير ذلك، أو لنقل: إن لها فلسفة جمالية مختلفة، فأبرز ما فيها "الحيوية"، وذلك راجع إلى أنها تتكون تكوّنًا عضويًّا، وليست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة. ثم إن الصورة حديثًا تتخذ أداة تعبيرية ولا يلتفت إليها في ذاتها، فالقارئ لا يقف عند مجرد معناها، بل إن هذا المعنى يثير فيه معنى آخر هو ما سمي "معنى المعنى". بعبارة أخرى: أصبح الشاعر يعبر بالصور الكاملة عن المعنى كما كان يعبر باللفظة, وكما كانت اللفظة أداة تعبيرية فقد أصبحت الصورة ذاتها هي الأداة, وكذلك ارتبطت الصورة دائمًا بموقف من الحياة، ودلت على خبرة الشاعر ونظراته الدقيقة إلى دقائق الأمور. بذلك أصبحت الصورة تنقل مشهدًا حيًّا، كما تلخص خبرة وتجربة إنسانية, وهي إن ظلت حسية "لأن الصورة دائمًا لا مفر من أن تستخدم العناصر الحسية"، ما زالت تختلف في معنى الحسية عن الصورة القديمة، فهي لا تختار العناصر الحسية لأنها تبدو في ذاتها جميلة، فجمال العناصر أو قبحها لا يعني شيئًا بالنسبة للشعر الحديث، إذ المهم أن تكون الصورة في مجملها معبرة, ناقلة للمشاعر الصادقة نقلًا مثيرًا. وأكتفي هنا بأن أقدم نموذجًا للصورة الشعرية الحديثة من قصيدة للشاعرة العراقية "نازك الملائكة" بعنوان "النهر العاشق", وهي قصيدة قيلت وقت فيضان نهر دجلة وإغراقه بغداد. تقول: أين نعدو وهو قد لف يديه حول أكتاف المدينة إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة ساكبًا من شفتيه قبلا طينية غطت مراعينا الحزينة فأنت في هذه الصورة تشاهده موقفًا، ولكنه موقف متحرك -إذا أمكن التعبير- وكذلك تحس بالموقف النفسي الذي اتخذته الشاعرة من هذا الفيضان، فقد تمثلت في النهر محبًّا عاشقًا يطوق المدينة بيديه، وينهال عليها لثمًا، ساكبًا طينته فوق المراعي الحزينة. إن فداحة الخطب قد تحولت في نفس الشاعرة الإنسانة إلى موقف تعاطف مع ذلك النهر الوامق القاسي في الوقت نفسه. إن فيضان دجلة قد تجسم للشاعرة في صورة نفسية حية هي صورة العاشق الذي يطوق عنق محبوبته في "قسوة" و"عنف"، ولكن أثر هذه القسوة وذلك العنف لا يعد شيئًا بجانب القبل التي ينهال بها العاشق على محبوبته، فهي تتحمل قسوته في سبيل قبلته، بل إنها لتحب قسوته من أجل حبها قبلته، وكذلك كان فيضان دجلة عنيفًا قاسيًا، ولكن المراعي الحزينة التي طال انتظارها

له قد فرحت به، وغفرت له قسوته إزاء قبله الطينية التي سكبها في كل مكان منها. وبذلك تنجح الصورة في أن تنقل إلينا شعور الشاعرة، كما تصور لنا موقفها النفسي، ثم هي لا تنقصها الحركة والحياة؛ لأنها مشتقة من الحياة. وقد حققت الصورة هنا في خمسة أسطر, وقد تتحقق في أكثر أو أقل، ولكنها ترتبط دائمًا بما قبلها وما بعدها من صور برباط حيوي، حتى تكون القصيدة مجموعة من الصور الجزئية المترابطة، التي تكون في مجموعها مشهدًا عامًّا متحركًا. وسندرس فيما بعد نموذجًا من الشعر الجديد, ونكتفي هنا في مجال الحديث عن الصورة الشعرية كما تتمثل في الشعر الحديث بأن نقرر أنها "رؤية" ولكنها ليست رؤية حالمة. إنها رؤية واعية تلتقط وتسجل وتختار وتركب وتكون مشهدًا كاملًا, وهذه الظاهرة أكثر ما تكون وضوحًا عند اثنين من الشعراء السودانيين هما تاج السر الحسن، وجيلي عبد الرحمن، وكدت أضم إليهما محيي الدين فارس لولا أن صوره في أغلبها "غائمة" من نوع صور الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل. يقول جيلي في قصيدة بعنوان "مولد": كنا ندور ... كالنحل نخطر، كالزهور على الحصير.. والراية السوداء تصبغ لحية الشيخ الوقور و"الله حي" في الصدور الله نور، فوق نور كنا ندور مدد لأصحاب النذور مدد على طول الدهور كنا ندور وعمامة خضراء، ترقص والطبول ولد الرسول وأشرقت شمس القبول وتفح أصوات الكهول ........ وزغردت بعض النساء ورف في القلب السرور

الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما

الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما: وحتى الآن نكون قد تحدثنا عن مادة العمل الشعري وأدواته، ولكننا لا نستطيع بذلك أن نقول: إننا تحدثنا عن كل خصائص العمل الشعري, والواقع أننا نريد أن نقتصر في الحديث النظري على ما هو جوهري ومشترك في الأعمال الشعرية. فالشعر، كما هو معروف، اسم جنس يندرج تحته أنواع شعرية كثيرة يختلف بعضها عن بعض. وهذا الاختلاف من شأنه أن يجعل لكل نوع صفات خاصة ينبغي أن تتوافر فيه ولا تكون شرطًا في غيره؛ ولذلك نرى أنه مما يكمل نظرية الشعر هنا أن نتعرف -في استعراض سريع- الأنواع الشعرية المختلفة، وما لكل نوع من خصائص مميزة. وطبيعي أن نتساءل هنا عن السبب في أن يتنوع الشعر أنواعًا في حين أنه هو في ذاته ليس إلا طريقة من طرق التعبير التي صاحبت حياة الإنسان. والواقع أن الإنسان في بحث دائم عن طريقة جديدة للتعبير كلما تجددت الحياة وتطورت، وظهرت ألوان حضارية جديدة. ولم يكف الإنسان -ولن يكف- عن البحث عن الطريقة الجديدة دائمًا للتعبير. على أن السعي وراء هذه الطريقة مرتبط بنظرية تنظمه، فالشعر ينظر إليه -بدءًا- على أنه ينقسم قسمين كبيرين تبعًا لموقف الشاعر. فإذا تناول الشاعر المادة الخام لموضوعه تناولا موضوعيا -أي من حيث هي قائمة خارج شخصيته الخاصة ومستقلة عنها- فإن الشعر قد يكون قصصيا أو وصفيا، فإذا تناولها ذاتيا، أي: من حيث هي -بصفة أولية- تجربة شخصية، فإن الشعر يكون غنائيا. والشعر المسرحي يجمع بين هذين المنحيين، فهو موضوعي بالنسبة للشاعر، ولكنه يعرض المادة عرضًا ذاتيًّا من خلال شخصيات خيالية. ولن نتكلم هنا عن الشعر الموضوعي؛ لأننا سنتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بفن المسرحية, فهو -فيما نرى- أنسب مكان لهذا. أما الشعر القصصي فهو أثر من آثار العصور المتقدمة، وقد قل كثيرًا -إن لم نقل: إنه تلاشى- في العصور الحديثة. وربما كان السبب في قلته هذه أن القصص وجد أسلوب النثر أكثر طواعية وملاءمة، وبذلك اضمحل القصص الشعري أمام القصص النثري في العصر الحديث. وقد انقسم العشر القديم قسمين هما: الشعر الملحمي epic poetry. وشعر القصة الشعبية ballad. وأما الشعر الغنائي lyric -وهو يمثل الشعر الذاتي- فهو مرتبط في الأصل بالغناء والموسيقى والعاطفة. ولكن هذا النوع تطور مع التطور الطبيعي للحضارة، ودخل

فيه عنصر التفكير والعقل. وهنا ظهرت أنواع مختلفة للشعر الغنائي، فهناك الأغنية Song، وهي تمثل القسم الغنائي الصرف، ثم هناك أنواع أخرى تعرف بأسمائها في الآداب الأوروبية مثل الـ ode ويمثلها في شعرنا العربي الحديث ما يسمى بالأنشودة، والمرثية elegy، والسونيت Sonnet. ويدل النوع الأول على القصيدة الغنائية ذات الطابع العاطفي القوي، وفيها يظهر تأثر الشاعر, وهي محدودة الطول، بخاصة عندما توجه إلى شخصية معنوية، أو عندما تعبر عن المشاعر الشعبية في مناسبة خاصة مهمة. أما النوع الثاني فيدل على ما يعرف في الشعر العربي بقصيدة الرثاء تقريبًا، وهي القصيدة التي تطفح حزنًا وأسًى. والسونيت قصيدة مركزة، يقصد بها إلى التعبير عن فكرة مفردة أو لحظة شعورية, ولها تكوين خاص، فهي تقع دائمًا في أربعة عشر بيتًا، وهي -من حيث الشكل- تنقسم إلى نوعين: الشكل الإيطالي ويسمى الشكل "البتراركي"، وفيه ينقسم الشعر إلى مجموعتين تنقسم معهما الفكرة في العادة، والشكل الإنجليزي الذي تنقسم فيه القصيدة إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة تتكون من أربعة أبيات، ثم يأتي مقطع ختامي تنمو فيه الفكرة المتصلة بالقصيدة نموًا أكبر، ويسمى هذا الشكل بالشكل "الاسبنسري"1. أما الملحمة فشعر قصصي طويل، وهي بدورها تنقسم إلى نوعين ظهر أحدهما بعد الآخر. أما النوع الأول فهو "الملحمة التاريخية"، "كملحمة الإلياذة" "لهوميروس"، وفيها نجد عنصر الأسطورة، كما نجد التاريخ الواقعي. أما القصة في هذه الملحمة فهي قصة "أخيل"2، وأما الأشخاص الخياليون فيها فينتمون إلى عنصر الأسطورة، وأما التاريخ فقد أثبت البحث عن بعض الحقائق المذكورة في الإلياذة3, ولكن قيمة الإلياذة ليست في أنها تضمنت بعض الحقائق التاريخية، فإنها إلى جانب ذلك قد صورت عادات الإغريق ونظم الحرب والحكم والزواج والعبادات لديهم، وغير ذلك. وكل هذا يعد مادة الملحمة التاريخية، ولكن خلودها بطبيعة الحال يرجع إلى ما فيها من فن. ومن خصائص الملحمة القديمة أنها ألفت لتنشد؛ ولذلك كان المؤلف يبذل جهده لإثارة خيال السامع وتنشيطه. وأما النوع الثاني للملحمة فهو ما يسمى "الملحمة الأدبية"، وتتميز بأنها لا ترتبط بالتاريخ، ومؤلفها لا يستفيد من كتابات سابقيه كما في الإلياذة مثلا، ولكنه يكتبها تحت سيطرة فكرة خاصة به؛ ولذلك كان عنصر الفكرة أساسيا في الملحمة الأدبية. وإذا كانت

_ 1 نسبة إلى الشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر Edmond Spenser "1552-1599". 2 Achile. 3 انظر: Gilbert Murray: The Rise of the Greek Epic., Oxford 1947 p. 183.

الملحمة القديمة ألفت لتنشد فإن الملحمة الأدبية إنما ألفت لتقرأ، فالتأثير فيها صادر عن الفكرة وعن طريقة عرضها، ومن ثم كان مؤلفها حريصًا على تماسك الموضوعات التي يطرقها بحيث تقوى الفكرة. ومثال الملحمة الأدبية ملحمة "الفردوس المفقود" لملتن1. وإذا كانت البطولة في الإلياذة لشخصية خارقة هي شخصية أخيل، فإن البطولة في الفردوس المفقود قد تمثلت في جانب آخر، ربما كان أقوى، هو جانب الفكرة. إنها تمثل بطولة الصراع في ميدان الحياة بين الخير والشر؛ ولذلك كانت شخصية "آدم" فيها أعنف من شخصيات الملاحم السابقة2. ومما يؤسف له أننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن الملحمة في الشعر العربي؛ لأن المحقق -حتى الآن- أن هذا النوع الأدبي لم يوجد ولم توجد فكرته عند شاعر عربي معروف، وإن كان من الواجب أن نلتفت هنا إلى أن السير الشعبية قد تضمنت قدرًا كبيرًا من الشعر، يؤدي -إلى حد بعيد- دور الملحمة "الهوميروسية". وقد ورد على سبيل المثال في قصة عاد الأوسط التي رواها عبيد بن شرية الجرهمي 694 بيتًا من الشعر، في حين يروي وهب بن منبه في كتابه "التيجان" كثيرًا من الشعر على لسان أناس عاصروا تُبّعًا، وكان لهم دور في قصته. وهذا الشعر كله إنما يروي فيه تُبع سيرة حياته كاملة، غزواته وفتوحاته، معاركه وانتصاراته، ممزوجة كلها بتأملاته وآرائه. كما نلمح في هذا الشعر ما يلقي الأضواء على معارف العرب في عصرهم بالنجوم والشعوب والصناعات، نلمح أيضًا عاداتهم وتقاليدهم في السلم والحرب3، وكل هذه الظواهر تمثل الصور التي تمثلت في الملحمة، وكل ما هناك من فارق هو أن مؤلف "الإلياذة" معروف لنا -برغم ما قد يثار أحيانًا حول شخصيته من شكوك- في حين أننا نجهل حتى الآن مؤلف تلك الأشعار العربية، وهو فارق -بعد- ليس جوهريًّا. وأما "البالاد" فقصة أقصر من قصة الملحمة، وهي تحفظ وتنشد "وربما كان الأغلب عليها في الأيام الأولى أن تغنى" في جلسة واحدة. وهي تتناول مغامرة أو

_ 1 جون ملتن John Milton "1608-1674" شاعر إنجليزي يعد أعظم الشعراء الإنجليز بعد شكسبير، وأشهر آثاره ملحمة "الفردوس المفقود" Paradise Lost عام 1667. 2 انظر: C. M. Bowra: From Vergil to Miton., London 194 p. 199. 3 فاروق خورشيد: في الرواية العربية، مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية، نشرته الدار المصرية للطباعة والنشر بالقاهرة، ص179.

واقعة واحدة لقصة شعبية. وكذلك يوحي أصل كلمة ballad بالرقص، ومنها رقص "الباليه ballet" المعروف. ومعنى هذا أن البالاد كانت قصة تنشد أو تغنى في أثناء الرقص وعلى إيقاعه, ولكنها في نماذجها الحديثة قد استقلّت عن الرقص وعن الغناء على السواء، وهي أقرب إلى أن تقوم بمهمة القصة القصيرة حين تتوجه إلى موضوع شعبي. وإذا كنا لا نجد للملحمة نماذج مباشرة في الأدب العربي فإن الأمر يختلف بالنسبة لشعر البالاد, وبعض الدارسين يجد في الشعر العربي محاولات قريبة الشبه من هذا النوع الشعري1، تتمثل له في شعر "الصعاليك" في العصر الجاهلي، وشعر هذيل، وفي شعر عمر بن أبي ربيعة، وغيرهم. على أننا نجد محاولات معاصرة في الأدب العربي لكتابة القصة القصيرة الشعرية، كمحاولات الشاعر خالد الجرنوسي، إلا أن هذا اللون غير رائج؛ لأن القصة القصيرة النثرية تملأ الميدان. وهكذا نجد أننا في غير حاجة لأن نشغل أنفسنا كثيرًا بالشعر القصصي؛ لأنه لا يعيش بيننا الآن. أما الشعر الغنائي, فإن لدينا منه تراثًا هائلًا إن لم يكن كل تراثنا الشعري غنائيًّا، وقد ذكرنا أقسام هذا الشعر الغنائي في الأدب الأوروبي. والحق أننا لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الأقسام في الشعر العربي القديم، وهي وإن اتفقت جميعًا في أنها تمثل الشعر الذاتي العاطفي، تختلف فيما بينها من حيث الإطار والبناء الفني، كما أنها تتفاوت في مدى صلتها بالعاطفة وبالفكرة، أما القصيدة الغنائية في الأدب العربي فقد كان لها في كل حالة إطار واحد. ومحاولة الخروج إلى أطر جديدة، كانت في الغالب تتمثل في الشعر الشعبي، كالزجل والقوما وكان وكان وغيرها، أما القصيدة التي تحددت أغراضها منذ وقت مبكر في المدح والرثاء والهجاء والفخر والغزل وما أشبه، فقد استمرت بشكلها التقليدي، حتى عند الشعراء المحدثين الذين كانوا يتبعون تلك التقاليد. ولكن يحق لنا أن نسجل هنا أن نوعًا جديدًا من القصيدة قد أخذ مكانه في العصر الحديث عند الشعراء الأوروبيين، وبدأ يحتلّ مكانًا واضحًا عند شعرائنا الذين يحملون لواء التجديد. وهذا النوع يسمى "القصيدة الطويلة"، وهو -في رأيي- يعد تطورًا للملحمة الأدبية من جهة، ويرتبط بالقصيدة الغنائية من جهة أخرى، فالقصيدة الطويلة هي حلقة التطور التي ينتهي عندها الشعر القصصي, والشعر الغنائي.

_ 1 انظر أحمد كمال زكي، شعر الألباد، مجلة الثقافة، العدد 828، سنة 1952.

وهنا لا بد أن يتساءل القارئ: بماذا تفترق القصيدة الطويلة عن القصيدة الغنائية؟ وقد حاول "هربرت ريد"1 أن يجيب عن هذا، فوجد أن مجرد الطول لا يجعل من القصيدة عملا شعريا ضخما, فالفرق بين القصيدة الطويلة والقصيدة الغنائية فرق في الجوهر. فنحن نسمي القصيدة في العادة قصيدة غنائية، وكان ذلك يعني في الأصل قصيدة من القصر بحيث يمكن تلحينها وغناؤها في فترة معينة، ويمكن تعريف القصيدة الغنائية من وجهة نظر الشاعر بأنها قصيدة تجسم موقفًا عاطفيًّا مفردًا أو بسيطًا. إنها قصيدة تعبر مباشرة عن حالة أو إلهام غير منقطع. أما القصيدة الطويلة فهي قصيدة تربط بمهارة بين كثير من تلك الحالات العاطفية، وإن كان من الواجب هنا أن تصحب المهارة فكرة عامة واحدة، هي في ذاتها تكوّن وحدة عاطفية. ثم يقول "ريد": وأريد أن أؤكد بصفة خاصة كلمتي العاطفة والفكرة في سياقهما الخاص، فمن الممكن أن نجد أنهما هما الكلمتان اللتان بتسلطهما على طبيعة الشعر، توصلان إلى التفريق الجوهري الذي نرغب في تقريره بين القصيدة الطويلة والقصيدة الغنائية. وينبه "ريد" إلى أن بعض الأنواع الأدبية يكون الطول فيها ملزمًا بحكم موضوعها، كقصص كانتربري2، فهي طويلة بحكم أن الشاعر كان عليه أن يسرد مجموعة من القصص في الشعر، وليس هذا هو العمل الشعري الضخم أو الطويل. وينتهي "ريد" إلى أنه عندما تسيطر الصورة على المعنى "أي: عندما يحدد المعنى تحديدًا كافيًا لينظر إليه بوصفه وحدة مفردة، أي: حين يؤخذ منذ البداية حتى النهاية في توتر ذهني واحد" عندئذ يمكن أن تعرف القصيدة بحق بأنها "قصيرة". ومن جهة أخرى, فإنه عندما يكون المعنى معقدًا بحيث يتحتم على العقل أن يستوعب أجزاء منفصلة، وينظم هذه الأجزاء أخيرًا في وحدة لها مدلول عام، عندئذ تعرف القصيدة بحق بأنها "طويلة"3. وهذا "البناء" الداخلي للقصيدة الطويلة يدخل التعقيد عنصرا أساسيا فيه، في حين أن البساطة وتحدد العاطفة هما من طبيعة القصيدة الغنائية. وقليل من النقاد من التفت إلى العلاقة بين الطول في الأعمال الفنية وبين التعقيد والعظمة. ويمكن الانتهاء في ذلك -مع "ريد"- إلى قاعدة عامة، هي أن السطر الواحد من الشعر, أو المقطع الواحد، تتهيأ له فرصة أوسع لأن يكون عظيمًا إذا هو جاء في عمل شعري طويل. ومعنى هذا أن التعقيد يصعب تحققه في الحيز المحدود "مفهوم هنا

_ 1 انظر: H. Read., Collected Essays in Literary Criticism. Faber- London 1951. p. 58. ff. 2 The Canterbury Tales-Chaucer للشاعر الإنجليزي تشوسر. 3 نفسه ص19.

أننا لا نتحدث عن التعقيد بما هو ظاهرة بنائية نفسية في القصائد أو الأعمال الشعرية الطويلة". وليس الطول في ذاته هو الذي يشعر بالتعقيد أو يبعث عليه، ولكن كل قسم بمفرده يستمتع بمزيد من الإيحاء والمعنى بسبب علاقته بالكل. فمثلا آخر كلمة نطق بها "هاملت" إزاء مشكلة الحياة والموت هي: "إن البقية صمت! ", وهي عبارة لا تعطي حلًّا واحدًا للمسألة، وإنما هي توحي بأن البقية راحة, ولكنها من الممكن أن تعني أن "هاملت" لن يستطيع الكلام بعد، ويمكن أن تعني كذلك أنه مهما طال اهتمام الكائنات الفانية, فإن الصمت يتلو جميع أسئلتها عن الحياة المستقبلة. ومن كل هذا يتضح لنا ما قررناه من أن "القصيدة الطويلة" نوع أدبي يعد من جهة تطورًا للقصيدة الملحمية الأدبية، كما أنه في الوقت نفسه يمكن أن يعد تطورًا للقصيدة الغنائية بعد أن تركت بدايتها الغنائية العاطفية الصرف، وتطورت بتطور الحضارة، ودخل فيها العنصر الفكري. ففي "القصيدة الطويلة" تتجمع صفات "الملحمة الأدبية" مع فرق ملحوظ في الطول؛ لأن الملحمة أطول في العادة بكثير. وفيها كذلك تتجمع صفات القصيدة الغنائية الفكرية "الأنشودة ode" بصفة خاصة. ويحدثنا "جايتان بيكو Gaetan Picon" وهو من أبرز النقاد الفرنسيين في العصر الحديث، عن أن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطًا روحيًّا مصاحبًا للواقع، فهو ليس سوى إبداع فني للواقع. ويستوي أن يكون الواقع هنا خبرة نفسية، أو موضوعًا وصفيًّا، أو قصة تاريخية، أو سوى ذلك. والقصيدة الطويلة حشد كبير من هذه الأشياء "الجاهزة" التي تعيش في واقع الشاعر النفسي، والتي تتجمع وتتضام، ويؤلف بينها ذلك الخلق الفني الجديد ليخرج منها عملا شعريا ضخما. فأنت تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والواقعة والزمن والخبرة الإنسانية والمعرفة، أو لنقل: تجد فيها آفاقًا فسيحة متعددة من الحياة. وهذا كله ينتقل من صورته الأصلية أو من ماضيه، ليحتل صورة جديدة، وليستقر في حاضر جديد، وكأنه قد خلق خلقًا آخر. و"الشعر" في القصيدة الطويلة هو ذلك الخلق الآخر، ولا تتجمع هذه الآفاق المتعددة بصورة اعتباطية، وإلا أصبحت أمشاجًا لا لون لها ولا طعم، ولأصبحت القصيدة شيئًا آخر، لا هي بالطويلة ولا بالغنائية، ولكنها تتجمع في خلقها الجديد ليربط بين أجزائها رباط حيوي هو ما سماه "ريد" من قبل "الفكرة". وإذا كنا قد أطلنا الكلام عن "القصيدة الطويلة" فلأنها أهم نوع شعري في الأدب المعاصر. وقد بدأ شعراؤنا -كما قلت- ينصرفون إليها, وكان انصرافهم إليها أمرًا من

الصعوبة بمكان؛ لأنهم كانوا محتاجين إلى أن يغيروا فلسفتهم الفنية تغييرًا جوهريًّا حتى ينتقلوا من جماليات الشعر العربي الغنائي القديم إلى جماليات "التجربة" و"الفكر الفعال"، وما يصحب ذلك من تغييرات جوهرية في "الإطار" و"التكوين". وقد صحب هذه التغيرات تغيرات أخرى في الشكل، تناولت الوزن والقافية، وهما العنصران التقليديان في كل الشعر القديم. وسندرس فيما يلي بعض النماذج الدالة من الشعر الذي ينهج النهج القديم، وبعضًا آخر يمثل محاولات التجديد. والهدف من هذه الدراسة النقدية هو أن نكمل الحديث في نظرية الشعر من خلال الدراسة العملية لهذه النماذج. قصائد لشوقي وحافظ والعقاد "دراسة تطبيقية": كلنا نعرف -أو ينبغي أن نعرف- أن شعر "شوقي" في العصر الحديث هو خير مثال للقصيدة التقليدية, وهو رأس مدرسة شعرية لم يعد لها ما تمتعت به من قوة النفوذ وقوة الأنصار. وعلى المثل الفنية التقليدية التي كانت هذه المدرسة تأخذ نفسها بها ثار "العقاد" و"المازني" وحملا حملتهما النقدية منذ وقت مبكر على شوقي وأنصار مذهبه, وقد وضعا المقاييس الجديدة التي يقيسان بها الشعر القديم، وكان معهما من حيث النزعة عبد الرحمن شكري, والطريف أنهم جميعًا يكتبون الشعر. وسنتخذ هنا موضوعًا لدراستنا ثلاث قصائد قيلت في موضوع واحد هي: قصائد شوقي وحافظ والعقاد, أما الموضوع المشترك "شكسبير"، فقد كتب عنه الثلاثة بمناسبة الاحتفال بذكراه, وسنرى الآن كيف تناول كل منهم الموضوع. والواقع أننا نستطيع أن نتحدث عن قصيدتي شوقي وحافظ معًا؛ لأنهما تتفقان إلى حد كبير في المنهج الفني, والملاحظات التي سنسجلها هنا تنطبق كذلك على كل شعرهما دون أدنى مخاطرة. وهما يشتركان هنا على الأقل، في: 1- الصياغة. 2- البناء الشعري. 3- طريقة تناول المعاني. 4- الارتباط بالمأثور اللغوي القديم, وبصور التعبير التقليدية. 5- التصوير. فشوقي وحافظ، ككل الشعراء الذين يتبعون المدرسة القديمة، يشتركون في هذه الظاهرة، ولذلك نجدهم يحتفلون احتفالًا كبيرًا بالصنعة الشكلية، ويصرفون أكبر

جهدهم إلى تكوين الأبيات الرنانة التي تتمتع بوقع موسيقي كبير، والتي تغلب عليها النزعة الخطابية. وهذه الناحية في شعرهم هي التي غالبًا ما تروع القارئ أو السامع بصفة خاصة، وهي تلهيه عما وراء هذه الزخارف والتلوينات الصوتية من قيم شعرية، صحيح أن عنصر الموسيقى عنصر لازم ومهم في العمل الشعري، ولكن ينبغي أن نفرق دائمًا بين موسيقى سطحية مصنوعة، وموسيقى تنبع من النفس لتنتقل إلى صميم النفس. وربما كانت موسيقى حافظ أكثر هدوءًا منها عند شوقي، ولكنها -بعد هذا- لا تجاوز الأذن. أما ظاهرة البناء الشعري فهي قائمة في طريقة نظم القصيدة، وفي الاعتبارات الأساسية الخاصة بمفهوم العمل الشعري. فلم يكن شعراء المدرسة القديمة ينظرون إلى العمل الشعري بوصفه عملا متكاملا، وبنية عضوية حية، تتفاعل عناصرها جميعًا كما تتفاعل الأعضاء المختلفة في الجسم الحي، ولكنهم كانوا ينظرون إلى القصيدة على أنها عدد من الأبيات قد يقل وقد يكثر. ومن هنا تحددت طريقتهم في نظم القصيدة، فهم لا ينظمون القصيدة وإنما ينظمون أبياتًا. ينظمون البيت أو البيتين على فترات نفسية متباعدة، ثم إذا هم يضمون هذه الأشتات بعضها إلى بعض ليؤلفوا منها عددًا من الأبيات يسمونه القصيدة. وهذا معناه أن القصيدة تفقد نسقها الفني، فإذا بها انطباعات شتى نتيجة لوقوع الشاعر في حالات نفسية متباعدة ومختلفة. وليست نتيجة ذلك فقدان النسق الفني في القصيدة فحسب، بحيث يفتقد فيها الخيط النفسي الذي ينتظمها من أولها إلى آخرها، بل إن ذلك يورط الشاعر في كثير من الأحيان في أن يكرر نفسه، وأن يعود إلى عرض معانٍ سبق أن تناولها في أجزاء أخرى. وهذا واضح عند شوقي، فقد كان يبدأ المعنى ويستوفيه أو يكاد، ثم إذا به بعد عشرة أبيات أو يزيد يعود إليه مرة أخرى، فإذا بمحصل القصيدة قليل، برغم كثرة أبياتها. وكذلك كان حافظ، فقد فقدت القصيدة عنده نسقها الفني، كما ظهر فيها التكرار واضحًا، وهذا من شأنه أن يشكك القارئ في أن الشاعر يقدم إليه أجزاء من خبراته وانفعالاته، ومن انطباعاته الخاصة، ويوحي إليه أن الشاعر إنما يتكلف الحديث في الموضوع تكلفًا، وأنه في كثير من الأحيان لا يجد ما يقوله, فيقول كلامًا كل ما فيه من شعر أنه موزون مقفى. وأما الظاهرة الثالثة، وهي طريقة تناول المعاني وعرضها، فإن الطريقة التقليدية تقوم على أساس أن يعرض الشاعر المعنى، سواء أكان من عنده أم كان معنى متداولًا, أن يعرضه في صورة لفظية خاصة، وإن كان ما يميزه عن غيره هو هذه الصورة. والحق أن هذا الاعتبار يدعو إلى الشك في فهم هؤلاء الشعراء لمهمتهم، فليست مهمتهم أن يعيدوا بناء المعاني التي ألفها الناس أو سبق أن تناولها الشعراء، وإن كان ذلك في صورة

لفظية جديدة، ولكن مهمتهم الأساسية هي أن يضيفوا إلينا محصولًا جديدًا من الخبرات النفسية، ومشاعر أعمق من مشاعرنا العادية؛ ولذلك نجد "شوقيًّا وحافظًا" يشتركان في قصيدتيهما في كثير من المعاني، وكل ما يمكن أن يكون بينهما من فرق هو أن هذا يعرض المعنى في صورة لفظية, وذاك يعرضه في صورة أخرى. وصحيح أن مجرد اختلاف الصورة اللفظية يؤدي إلى اختلاف في المعنى، وهذا مسلم به بوجه عام، ولكن يلاحظ أن "شوقيا" و"حافظا" قد حلقا في آفاق واحدة، أو غاصا في أعماق قريبة متشابهة. وكل ما في الأمر أن "شوقيا" كان أكثر تهويلا في عرضه لهذه المعاني المشتركة, ولكنهما يشتركان كذلك في تناولهما للمعنى على حدة، مستقلًّا في كثير من الحالات عما قبله وما بعده. وبعبارة أخرى نقول: ليست المعاني عندهما تأتي نتيجة لامتدادات تطورات للموقف النفسي "موقف الشاعر" الذي دفع الشاعر عند اللحظة الأولى لكتابة الشعر، ولكنها دفعات بعيدة مستقلة، فإذا بها في القصيدة أبيات أو مجموعات من الأبيات متباعدة، تكاد تكون مستقلة، فهما إذن يتناولان المعاني الجزئية على حدة، ثم هما يضمان هذه المعاني آخر الأمر في صورة نهائية. وأكتفي -منعًا للإطالة- بتقديم هذه الأبيات من قصيدة شوقي: دستورهم1 عجب الدنيا وشاعرهم ... يد على خلقه لله بيضاء ما أنجبت مثل شكسبير حاضرة ... ولا نمت من كريم الطير غناء نالت به وحده إنجلترا شرفًا ... ما لم تنل بالنجوم الكثر جوزاء لم تكشف النفس لولاه ولا بليت ... لها سرائر لا تحصى وأهواء شعر من النسق الأعلى يؤيده ... من جانب الله إلهام وإيحاء فبقليل من الحس الأدبي نستطيع أن ندرك أن كل بيت من هذه الأبيات قد نظم أولا مستقلا عن الأبيات الأخرى، ثم جمع الشاعر بينها في هذا الترتيب الذي كان من الممكن أن يكون على نحو آخر، والذي لا ترتبط فيه الأبيات برباط حيوي، وبخاصة إذا نظرنا إلى العلاقة المفتعلة بين البيت الأخير وما قبله. أما الظاهرة الرابعة وهي ارتباطهما بالمأثور اللغوي القديم وبالصور التقليدية القديمة, فلعله يتضح لنا في كل بيت وكل صورة, وربما كانت هذه الظاهرة أوضح في قصيدة شوقي منها في قصيدة حافظ. وبنظرة سريعة في القصيدتين تتضح لنا هذه

_ 1 يعني الإنجليز.

الظاهرة. وهي هنا أننا حين نقرأ قصيدتيهما نحس أننا نقرأ شعرًا بيننا وبين لغته شيء من التباعد، فليست لغة شعر شوقي وحافظ هي اللغة التي تستمدّ من واقع حياتنا عناصر التعبير، ولكنها تستمد هذه العناصر من مصدر آخر يبعد بها عن ذلك الواقع. وظاهرة التصوير تكشف لنا بوضوح عن هذه القضية. وقد سبق أن تحدثنا عن خصائص الصورة في الشعر القديم, وهذه الخصائص هي ذاتها خصائص الصورة في شعر شوقي والمدرسة التقليدية. وفي قصيدة "شكسبير" نقرأ له: بمن أماتك قل لي: كيف جمجمة ... غبراء في ظلمات الأرض جوفاء "كانت سماء بيان غير مقلعة ... شؤبوبها عسل صاف وصهباء" فهو هنا يصف جمجمة شكسبير وإنتاجها الغزير، فإذا به يصور هذا الإنتاج بأنه عسل وخمر. ولست أدري هل يثير إنتاج شكسبير في النفس ما يثيره العسل؟! إن العسل يثير الشعور بالحلاوة، وقد يثير في النفس "ميوعة"، وإنتاج شكسبير يثير في النفس المرارة أو "المزازة" أو هما معًا أو شيئًا مثلهما. والخمر وسيلة من وسائل الانطلاق من الحياة والفرار من الواقع، وإنتاج شكسبير يغوص بنا في أعمق أعماق النفس البشرية، ويعمق في نفوسنا الإحساس بالحياة وفهم حقائقها، فالصورة إذن في وادٍ والمشاعر التي كان ينبغي تصويرها في وادٍ آخر. وليس ذلك إلا لأن الصورة لم تتجاوز الشكل المحسوس، ولم يستغلّ الشاعر إيحاءاتها استغلالًا صالحًا، ولم يلتفت إلى إشعاعاتها النفسية؛ ولذلك كانت صورة كاذبة؛ لأنها تصور شعورًا كاذبًا. فالشاعر لم ينفعل بشخصية "شكسبير" ويتأثر بها قبل أن يصورها لنا، بل راح يستخدم مقدرته على نظم الكلام في أن يصوغ قصيدة في مناسبة ما كان يجدر به ألا يشارك فيها وهي ذكرى "شكسبير". ومن هنا حمل نفسه على شيء لم ينفعل به، وكأنه يكتب موضوعًا إنشائيًّا كالذي يكتبه التلاميذ في المدارس مكرهين "تقسيمة القصيدة إلى مقدمة وموضوع وخاتمة أثر من آثار ذلك". وإذا بحثنا عن السبب في فساد هذه الصورة وجدناه في تأثر شوقي بقيم خاصة تقليدية لبعض الألفاظ التي استخدمها القدامى وصوروا من خلالها مشاعرهم الخاصة ومثلهم العليا. كان من أبرز ما يشخص السراة أن يقدم الرجل لضيوفه العسل والخمر, وهو حينما يقصد إلى التمدح والتفاخر لا يفوته أن يذكر ذلك. ومن هنا أصبح للفظتي العسل والخمر هذه الدلالة على عظمة الشخص الذي يقدمها بسخاء إلى الآخرين،

ولا شك أن العناصر التي استخدمها شوقي "السماء، الشؤبوب، العسل، الصهباء" لها صلتها الوثيقة بحياة البيئة العربية القديمة، ومن ثم كان لها إيحاءاتها وإشعاعاتها النفسية الخاصة لدى العربي القديم. أما حينما يعتمد عليها شوقي، في مصر، وفي القرن العشرين؛ لكي ينقل إلينا من خلالها إحساسه إزاء إنتاج شكسبير، فإنه يكون من الغريب أن تنقل هذه العناصر بقيمها القديمة في موضوع جديد, ومن هنا كان التباعد الشنيع بين ما توحيه الصورة عند شوقي وبين الموضوع الذي يتحدث فيه. هذه الظواهر الفنية المختلفة تجمل لنا فن الشاعرين. وهناك ملاحظة عامة يشترك فيها الشاعران كذلك، وهي جهلهما بالموضوع الذي تعرضا له، فالصورة التي يصور بها شوقي شكسبير صورة غريبة عن شكسبير من جهة، ثم هي لها طابع عام يصلح أن يكون لغير شكسبير من جهة أخرى. فهو حين يقول عن شعر شكسبير أنه: شعر من النسق الأعلى يؤيده ... من جانب الله إلهام وإيحاء من كل بيت كآي الله تسكنه ... حقيقة من خيال الشعر غراء وكل معنى كعيسى في محاسنه ... جاءت به من بنات الشعر عذراء فليس هذا إلا وصفًا عامًّا يصلح أن يقال لغير شكسبير كذلك من كبار الشعراء. ومعنى هذا أن الشاعر لا يشخص لنا الظاهرة التي يتحدث عنها، بل يتناولها تناولا عاما. وليس حافظ أقل من صاحبه في هذا التناول العام، فهو يقول عن مسرحية "هاملت" للشاعر: وأقعدني عن وصف "هامليت" حسنها ... وفي مثلها تعيا البراعة والفهم وأعتقد أن هذا الوصف لمسرحية هاملت لا يعني شيئًا آخر سوى أن "حافظًا" لم يجد ما يقوله عنها، فخلع عليها صفة الحسن، وليس أعم منها بين الصفات، ثم إن الإنسان لا يدري للحسن أدنى علاقة بالمسرحية. وكل هذا يصل بنا إلى حقيقة عامة هي أنهما لم يتناولا شكسبير من حيث هو ظاهرة إنسانية فريدة كان لها وقع خاص في نفسيهما, فانفعلا إزاءها بشتى الانفعالات، ثم أرادا أن يصورا لنا كل ذلك، وإنما قد تناولا شكسبير على أنه موضوع ينبغي أن

يكتبا فيه. وحافظ هنا يشترك مع شوقي في ظاهرة عامة هي أنه كان دائمًا يقف خارج الموضوع ويطل عليه من بعيد. فإذا ما قرأنا قصيدة العقاد -وقد أخرنا الحديث عنها لأننا نريد أن ننظر إليها على أنها تمثل المذهب المقابل في الشعر، وهو الذي يقوم على الفهم الحديث- وجدنا أن القصيدة لم تكن -فيما نرى- "بنية حية"، بل كانت مجموعة من المعاني تدور حول موضوع واحد، ولكنها -برغم ارتباطها بموضوع واحد- لم تكن أجزاؤها ترتبط فيما بينها ارتباطًا عضويًّا. ومنهج العقاد في قياس البنية الحية للعمل الفني هو أن يغير من وضع أبيات القصيدة وترتيبها أو يحذف منها، أو يزيد فيها أبياتًا على نسقها، وقد طبعت قصيدته طبعتين مختلفتين، فهناك أبيات أثبتت في إحدى الطبعتين وليست مثبتة في الأخرى. ثم هناك اختلاف في ترتيب بعض الأبيات بين الطبعتين، ثم إن الشاعر قد غير بعض الألفاظ في أكثر من بيت، وهذا معناه أن صياغة القصيدة لم تخلق منها البنية المستوية. هذا من مجرد شكل القصيدة، ولا تتمثل البنية الحية في الشكل وحده؛ لأن الشكل مرتبط دائمًا بالمضمون؛ ولذلك ينبغي أن ننظر في صميم "البنية النفسية" للقصيدة. وبعد قراءات كثيرة للقصيدة نستطيع أن نطمئن إلى أن النسق النفسي لم يتوافر للقصيدة، فما تزال وحداتها النفسية مفرقة, لا تسلم كل واحدة منها إلى الأخرى. فهناك كثير من الانقطاع وكثير من البدايات يصادفنا, وقد نجد الشطر الواحد قائمًا بذاته، ويمكن أن يفصل عن البيت ليجري على الألسن مجرى المثل، كما هو مألوف في نسق الشعر القديم. من ذلك: خدعت بالخلد تستدني أقاصيه ... "ما الخلد من أرب النوامة النهم" ومع ذلك أنستطيع أن نقول: إن العقاد يشبه في هذه الناحية صاحبيه؟ الحقيقة أن العقاد كان أكثر منهما تعمقًا للشاعر وتصويرًا لجوانب إنسانية بارزة في شخصيته. وكان العقاد نفسه عميقًا في إحساسه بهذه الشخصية، كما كان عميقًا في معانيه التجريدية التي التمس لها الصور الحسية الحية ليزيدها وضوحًا, وتأثيرًا في النفس. ومن ذلك قوله: قضيت دهرك تلهيهم وتضحكهم ... يا للعجائب من أضحوكة القِسَم لا يوثق الهر رئبالًا ليضحكه ... فاعجب من الناس لا تعجب من البهم

فهو هنا يفترق عن صاحبيه في أنه لا يتناول معاني تقليدية، ولا يلجأ إلى صورة حسية مألوفة، ولكنه يشتق معانيه من شعوره، كما يلمس صورة جديدة من حيث عناصرها ومن حيث تركيبها. وهذا يدل على أن الشاعر يبذل جهدًا نفسيًّا في كتابته هذا الشعر، ولا يتناوله تناولا كيفما يتفق له، وحسبما يملي عليه الشعور العابر. إذن فقد افترق العقاد عن صاحبيه في معانيه وفي طريقة عرضه لهذه المعاني. أما صوره فقد رأينا أنها صور جديدة، تحمل طابعًا إنسانيًّا من حيث إنها تجسم لنا حقائق إنسانية تجسيمًا واضحًا، يثير في نفوسنا تلك المعاني الإنسانية. وهذه الصور يستغلها الشاعر دائمًا في أن يدفع بالمعنى المجرد إلى نفس القارئ من خلال تلك الصور الحسية الموحية. وقد سبق أن رأينا تنافرًا بين ما توحيه الصورة عند شوقي وما يريد أن ينقله إلينا من معنى، ولكن ذلك يختفي في قصيدة العقاد، فإيحاءات الصور هي نفس المعاني التي يريد الشاعر أن يوصلها إلى نفوسنا، فليس بين الصورة بإيحاءاتها وتلك المعاني أي لون من التنافر. وهذا معناه أنه في حين نجد أن "شوقيا" -وإلى حد ما "حافظا"- يلجأ إلى التصوير بما هو صنعة وزخرف للشكل، نجد العقاد يلجأ إلى التصوير ليعطي من خلاله معنى حسيا حيا. وبعبارة أخرى يصدق العقاد في تصويره حيث يكذب شوقي وأحيانًا حافظ, وصدق التعبير خط عريض من خطوط المذهب الجديد في الشعر. على أن كثيرًا من رواسب المدرسة القديمة ما زال يتمثل في قصيدة العقاد, وأعتقد أن هذا الأمر طبيعي. فالقصيدة كتبت في وقت مبكر "1916"، في وقت كان الشعر فيه ما يزال تقليدًا للقديم، ثم إن التطور لا يحدث طفرة واحدة، فنحن لم نتخلص من مخلفات المدرسة القديمة إلا منذ سنوات. والرواسب القديمة التي تتمثل في قصيدة العقاد تتضح في نسقها, فهي ما تزال متأثرة بالتصميم الخطابي أو طابع الخطابة في القصيدة القديمة. وأنت حين تطالعها تجد نفسك مضطرا لأن ترفع صوتك وإن كنت تقرؤها لنفسك. وليس ذلك في أبيات الحكمة التي يطلقها الشاعر من حين إلى آخر فحسب، ولكنه في طريقة النظم بكاملها، تلك الطريقة التي تجعل للألفاظ ولوقعها قيمة كبيرة تلهي القارئ -عند أول قراءتها- عما يمكن أن تحتوي عليه من معنى. وكثير من الأبيات تسمعه فيروقك سماعه لأول وهلة، فإذا بحثت عما فيه وجدت -بعد الجهد- معنى عاديا. والسبب في ذلك طريقة النظم التي حتمت في بعض الحالات صورًا من التقديم والتأخير، فكثر بذلك استخدام الضمائر العائدة. وفي هذه القصيدة يرتبط العقاد -إلى جانب ارتباطه

بالطابع الخطابي وبطريقة النظم- يرتبط كذلك بمعجم الشعر القديم، فما تزال كثير من ألفاظه أثرًا من آثار الشعر القديم, وهي ألفاظ فقدت كثيرًا من حيويتها بالنسبة لنا, وسأسوق هنا بعض الأبيات التي توضح تلك الرواسب. فمن الناحية الخطابية نبدأ بمطلع القصيدة: أبا القوافي ورب الطرس والقلم ... ماذا أفادك صدق العلم في الأمم ثم حين ترتبط الخطابة بالحكمة، وحين تتوالى أبيات الحكمة: ما أكثر البر باسم لا غناء به ... وأندر البر بالأرواح والنسم لا يقدر الناس يومًا أجر سادتهم ... وإنما يقدرون الأجر للخدم أجر العظيم زماع في جوانحه ... يجزيه بالأمن أحيانًا وبالألم ثم حين تدعو طريقة النظم إلى تعقيد التركيب اللفظي نتيجة لكثرة الضمائر العائدة: أغناه باللهو عما أنت ضامنه ... من ليس يغنيك عنه بالنهي العمم أما الارتباط بمعجم الشعر القديم فيتضح في استخدام ألفاظ مثل: الأطم واللمم والأين وذرى إرم. وليس الارتباط بالألفاظ وحدها بل بصور التعبير التقليدية. أو يكبروك فماذا قول مسرجة ... للشمس هذا ضياء الكوكب العلم أو في قوله: تقاربت عندك الأقدار والتهمت ... حياتك الخلق طرا كل ملتهم مما يذكر بمعاني المدح في القصيدة القديمة. ولكن ذلك كله لا يجعل قصيدة العقاد قصيدة تقليدية من كل الوجوه؛ لأن القصيدة -بعد- قد تضمنت أجزاء من تجاربه، ومحاولة جادة وصادقة لتصوير هذه التجارب.

قصيدة لصلاح عبد الصبور "دراسة تطبيقية": وكان لا بد -مع تطور الوعي الفني- أن يحاول الشعراء فيما بعد أن يتخلصوا من رواسب القصيدة الغنائية القديمة بألفاظها وصورها وشكلها وكل مبادئها الفنية، وأن يؤصلوا مبادئ جديدة يحققونها في أشعارهم. وقد مر بنا نموذجان لهذا الشعر الجديد، أحدهما للشاعرة العراقية "نازك الملائكة" والثاني للشاعر السوداني "جيلي عبد الرحمن". ويعرف العالم العربي الآن عددًا لا يحصى من الشعراء الجدد الذين يمثلون الاتجاه الجديد في الشعر العربي، وقد تكاثر إنتاج هؤلاء في الأعوام الماضية، ولست في مجال إحصاء للشعراء الذين يتأثرون بالمنهج الجديد في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وغيرها، فإن عددهم الآن يفوق الحصر، ولكننا لو وقفنا أمام قصيدة كقصيدة "الملك لك"1 لتبينت لنا خصائص القصيدة الجديدة. والحق أنها الخصائص التي تتجمع فيما سبق أن سميناه "القصيدة الطويلة"، وهي خصائص فكرية وفنية. فهناك الفكرة أو الشعور العام الذي يسير على كل وحدات القصيدة ليجعل منها جميعًا كلا متماسكًا، وبناء فكريًّا متكاملًا، ثم هناك الشكل الشعري الذي جاء نتيجة حتمية لذلك البناء النفسي. وظهرت فلسفة جديدة لاستخدام الكلمة وتكوين الصورة، كما ظهر في القصيدة الطابع القصصي السردي: أواحدتي ربما تعجبين، وقد تسألين: لماذا إذن يا صديقي ينور عينيك فيض سرور وحب؟ حكاية هذا -على طولها- لا تثير السآم. سأحكي الحكاية من بدئها ... لحد الختام. صباي البعيد أحن إليه.. ويمضي الشاعر يرسم صور الطفولة وأحلامها وأوهامها, والطفولة مرحلة في حياة الإنسان لا تنفصل عن الأم. وهنا يرسم الشاعر صورة حية للأم المصرية بأوهامها ومعتقداتها، وللطفولة، من خلال مشاهد متنوعة:

_ 1 للشاعر صلاح الدين عبد الصبور، نشرت بمجلة "العالم العربي" التي تصدر في القاهرة، عدد أكتوبر سنة 1953، نشرت بعد ذلك في ديوانه "الناس في بلادي".

إلى أمي البرة الطاهرة. تخوفني نقمة الآخرة. ونار العذاب وما قد أعدوه للكافرين وللسارقين وللاعبين وتهتف إن عثرت رجليه وإن طنّنت نحلة حوليه "باسم النبي" وفي الليل كنت أنام على حجر أمي وأحلم في غفوتي بالبشر وعسف القدر وبالموت حين يدك الحياة وبالسندباد وبالعاصفة وبالغول في قصره المارد فأصرخ رعبًا ... وتهتف أمي: "باسم النبي"...... ولست الآن بسبيل الدراسة التحليلية لهذا الشعر أو هذه القصيدة، وقد عرضت جزءًا منها فقط -لأنها طويلة- يكفي لكي نتبين كيف استغنى الشاعر عن معجم الشعر القديم، وصار يستخدم اللفظ الذي ينقل المعنى مباشرة إلى المتلقي، وكيف يستخدم الألفاظ ذات المضمون الرمزي العام "السندباد، الغول، باسم النبي" ليزيد من حيوية الصورة أو المشهد. فإذا تركنا الألفاظ والصور ظهر لنا أن الشكل التقليدي للشعر لا يتمثل في هذه القصيدة. فليس هناك بيت بالمعنى المعروف لبيت الشعر، بل هناك سطور بعضها طويل وبعضها قصير وبعضها بين بين. ليس هناك الشطران المتساويان اللذان ينتهيان دائمًا بقافية رتيبة تتكرر في كل أبيات القصيدة، فلم يبق من كل ذلك إلا وحدة

الوزن، أي: التفعيلة "فعولن, في هذه القصيدة مثلا"، وقد يكون السطر الواحد تفعيلة أو أكثر بحسب دفقة الشعور, وبحسب تكون المعنى تكونًا طبيعيًّا. وهناك في الواقع قافية ولكنها ليست رتيبة ولا مملة, وبذلك تتنوع الموسيقى في القصيدة، وتتلون بحسب المشاعر المتشابكة المعقدة، تمامًا كما تتنوع أنغام اللحن السيمفوني. وبذلك أصبحت القصيدة بنية موسيقية تختلف عن كل قصيدة أخرى، بجانب أنها في الوقت نفسه بنية نفسية وفكرية. ويصطدم الشاعر في إنجازها بكل مشكلات التعبير القديمة، ولكنه يتغلب أخيرًا على كل صعوبة. وهذا التغيير الذي تناول جوهر القصيدة كما تناول شكلها مرجعه -في رأيي- إلى أن فهمنا لمهمة الشعر قد تغير عن الفهم القديم تغيرًا كبيرًا.

الفصل الثاني: الفن القصصي

الفصل الثاني: الفن القصصي تعريف الفن القصصي: تواجهنا في بداية كل فصل مشكلة التعريف، ولكننا لم نشأ أن نبدأ بهذه المغامرة؛ لأننا نؤمن بأن التعريف نهاية عملية التفكير لا بدايتها. ومن ثم فإننا لن نغامر بتعريف الفن القصصي، ولكننا سنكتفي بأن نتحدث عنه، عن طبيعته، وعن عناصره ووسائله، وعن أنواعه وأغراضه. وأحسب أن معرفة ذلك تغنينا عن وضع تعريف قد يكون آخر الأمر قاصرًا.

مادة العمل القصصي

مادة العمل القصصي: ونحن حين نفحص الفن القصصي نجد أنه يتضمن أحداثًا جزئية كثيرة، وخبرات متنوعة، هي في الحقيقة المادة التي تكون منها هذا العمل. والحق أن الكاتب القصصي يستغل في عمله هذه المادة التي توفر عليها، فهو في حياته قد اصطدم بكثير من المشكلات التي نجح -أو أخفق- في حلها، وهو في ذلك قد اتصل بعدد لا حصر له من الناس، وتفاعل مع كثير منهم، وهو في كل لحظة يعاصر مجموعة من الحوادث أو الأفعال التي لا يمكن أن توجد الحياة بدونها، في البيت وفي الطريق وفي العمل وفي النادي. ولا شك أن كل هذه الأشياء تصادف كل إنسان غيره، فليس هو وحده الذي يعيش بين الناس، ولكن لم يحدث أن أصبح جميع الناس كتاب قصة. حقا إن كل إنسان يستطيع أن يحكي لك حكاية أو يقص عليك حادثة شاهدها أو وقعت له، أعني أن الاستعداد القصصي خاصة إنسانية يشترك فيها جميع الناس، ولكن كاتب القصة يختلف عن كل إنسان في أنه ينظر إلى الأشياء الواقعة نظرة خاصة. فهو لا يقف منها عند السطح، ولكنه يتعمقها ويفرز عليها من أفكاره وخياله، ويجعل لها تكوينًا آخر وفلسفة أخرى، ثم هو يختزن كل ذلك في نفسه ليستغله في يوم من الأيام، وهو حين يعود إلى نفسه لكي يستمد من ذلك المخزون فإنه لا يستمد منه اعتباطًا، ولكنه يستمد منه ما له أهمية خاصة؛ لذلك كانت مادة العمل القصصي الناجح دائمًا مادة لها هذه الصفة، أعني صفة الأهمية. ولا تأتي أهمية هذه المادة من أهمية الحادث مثلا، أو أهمية التاريخ؛ لأن الحادثة في ذاتها مهما كانت أهميتها الخاصة لا تكفي لإخراج عمل قصصي ناجح، وإلا كان من السهل على كل إنسان أن يختار الحوادث الكبرى ليتخذ منها مادة قصصية. الحق أنه ليس كل القصص التي تتناول الحوادث الكبرى ذات قيمة أدبية، ولكن القيمة تأتي من أن الكاتب قد تعمق هذه الحادثة، ونظر إليها من جوانبها المتعددة. وبعبارة مجملة نقول: قد أكسبها قيمة إنسانية خاصة؛ ولذلك قد تكون الحادثة

في أصلها بسيطة وصغيرة، ولكن القصاص يرى فيها -من وجهة نظر خاصة- أهمية تجعلها تفوق في نظره أهمية كثير من الحوادث الأخرى. وإذا قلنا: إن الكاتب يختار الحادثة المهمة -صغيرة كانت أم كبيرة- فإننا نقدر قيمة معنى الاختيار في تكوين العمل الأدبي. فالحوادث التي تصادفنا في القصة -أي قصة- لم تكن بالضرورة سلسلة من الحوادث التي وقعت على هذا النسق في الحياة. فلم يكن لها هذا الترتيب الزمني ولا الوضع المكاني اللذان أخذتهما في سياق القصة، ولكنها في الحقيقة أشتات من الحوادث التي مر بها الكاتب في حياته، أو عرفها بطريق من الطرق، واتخذ منها في حينها موقفًا معينًا، وفلسفها فلسفة خاصة، واختزنها في نفسه. وهذه الأشتات تجتمع فيها حادثة من هنا وحادثة من هناك، وشيء وقع في حياة الكاتب وشيء مضى عليه عهد طويل. حتى إذا جاءت عملية الإبداع الفني للقصة كانت هذه الأشتات على استعداد دائم لأن تمده بما يلزم. وحتى عندما تكون هناك حادثة أساسية كبيرة, ولتكن حادثة تاريخية مثلا، يرتبط الكاتب بمجملها بالضرورة، فإن الكاتب لا يني يستخدم هذه المادة الخاصة التي كونها لنفسه ويختار منها. إن العالم مليء بالحوادث، ولكن عمل الكاتب القصصي هو أن يختار منها المجموعة التي يستطيع بها أن يكون شيئًا له كيان ومعنى، تمامًا كما يصنع النحات الذي يستطيع أن يستخرج من الحجر المهوش -أي نوع من الحجر- تمثالا له كيان ومعنى، أو أن يختار من بين كل حصى الصحراء مجموعة بذاتها يؤلف بينها ليخرج من ذلك كله الشيء الذي له دلالة خاصة.

عملية الاختيار

عملية الاختيار: فإلى جانب أهمية المادة التي يستغلها الكاتب هناك عملية اختيار تأخذ اللازم, وتستبعد ما لا نفع له. وهناك من يميل إلى أن يحدد أهمية الشيء بأن يكون الكاتب نفسه قد عاناه أو خبره؛ لأنه عندئذ لا يملك إلا أن يكون أمينًا في نقله واستخدامه. ففي نطاق خبرة الكاتب الخاصة يكون لما يعرضه في عمله القصصي أهمية. فإذا هو حاول الخروج عن ميدان تجاربه الخاصة، وخبراته التي حصلها بنفسه، وقع لا محالة في عيب لا يغتفر في العمل الأدبي، وهو ألا يكون أمينًا وصادقًا. وبناء على ذلك فإنك إذا كنت تكتب قصة وتحركت بإحدى شخصياتها إلى بيئة لم تعرفها ولم تخبرها عن قرب، أو إلى مكان لم تزره ولم تعرف أهله، فإنك لن تستطيع أن توفر لقصتك صفة الأمانة تلك. ويتبع ذلك أن تفقد قصتك أهميتها؛ لأنك تقدم فيها شيئًا لم يمر بوجدانك، فضلا عن أنه -في أغلب الأحوال- يكون بعيدًا عن الحقيقة. فمثلا إذا حاول كاتب من طبقة معينة أن يمتد إلى تصوير أجزاء من بيئة طبقة أخرى لم يعش فيها, ولم يعرفها عن قرب فإنه لن

يكون صادقًا في انفعاله بها ولا أمينًا في تصويره لها. وإذا تحدث إليك في قصته عن المغامرة التي مر بها أحد أشخاص قصته في عرض البحر وهو لم يسبق له أن ركب البحر, ولا عرف أهواله, فإنه لن يستطيع أن يقدم إليك شيئًا له أهمية. والمسألة لا تقف عند مجرد الخبرة بالأشياء، بل كذلك الخبرة بالأشخاص وطباعها وحقائقها. فالمرأة التي تحاول أن تكتب قصة تصور فيها أمورًا خاصة بالرجال وهي لا تعرف ما يكون بين الرجال في جلساتهم وحياتهم الخاصة؛ لأنها -عمليا- لا تستطيع أن تعرف ذلك، لا يمكن أن تكون لقصتها أهمية؛ لأنها لم تقم على خبرة شخصية عملية صادقة بطبيعة الرجال. والواقع أن هذا الرأي يتضمن كثيرًا من الحقيقة، ولكنه ليس صحيحًا كل الصحة؛ وذلك أننا نستفيد من تجارب الآخرين أكثر مما نستفيد من تجاربنا، ونحن في قراءتنا نحصل قدرًا من الخبرات هو أضعاف أضعاف ما نحصل بأنفسنا لأنفسنا من خبرات، فحياة الإنسان محدودة بالزمان الذي يستطيع أن يعيشه، ومحددة بالمكان الذي يستطيع أن يعيش ويتحرك فيه. ويتبع ذلك أن تكون خبرة الإنسان الذاتية محدودة بهذين الحدين، ولكن خبرته التي يحصلها من خلال تجارب الآخرين لا تكاد تحدها حدود؛ لأنه يستطيع أن يعرف الكثير عن حياة سكان جزيرة جاوة مثلا، كما يستطيع أن يعرف الكثير عن حياة النحل أو النمل، وكذلك يستطيع أن يدرس شخصية "أوديب" و"أبي نواس" و"هملت" وغيرهم من النماذج البشرية ذات الأهمية. وبعبارة مجملة يستطيع أن يعرف كل شيء دخل في نطاق التاريخ والأسطورة، سواء عن طريق القراءة أو الرواية. وكما تلفت الكاتب القصصي أشياء بعينها في الحياة التي يعيشها ويتخذ منها موقفًا بذاته، ويفلسفها فلسفة خاصة فكذلك تلفته أشياء بذاتها من ذلك الذي يقرأ عنه أو يروى له، فيسقط منها موقفًا بذاته ويفلسفها فلسفة خاصة ويتخذ منها مادة لعمله القصصي, ويحدث هذا بصورة واضحة في القصة التاريخية. وبهذا المعنى يمكن أن نفهم كيف يشتق الفن القصصي -ككل الفنون الأدبية- مادته من الحياة.

عناصر العمل القصصي

عناصر العمل القصصي: ولكن العمل القصصي لا يستوي حتى تتوافر له عناصر بذاتها. فهناك حوادث وأفعال تقع لأناس أو تحدث منهم, وبذلك يوجد العنصر الثاني وهو عنصر الشخصية. ووقوع الحادثة لا بد أن يكون في مكان وزمان, وهذا هو العنصر الثالث. ثم هناك الأسلوب الذي تسرد به الحادثة، والحديث الذي يقع بين الشخصيات. والعنصر الأخير هو الفكرة أو وجهة النظر، فكل قصة تعرض بالضرورة وجهة نظر في الحياة وبعض مشكلاتها. وكل العناصر السابقة ليست سوى أدوات تكشف لنا بها القصة عن طريقة المؤلف في النظر إلى الحياة, وفهمه لها, وموقفه العام منها.

وفيما يأتي دراسة سريعة لعناصر العمل القصصي: 1- الحادثة: الحادثة في العمل القصصي هي مجموعة من الوقائع الجزئية مرتبطة ومنظمة على نحو خاص هو ما يمكن أن نسميه "الإطار" plot؛ ففي كل القصص يجب أن تحدث أشياء في نظام معين. وكما أنه يجب أن تحدث أشياء فإن النظام هو الذي يميز إطارًا عن آخر. فالحوادث تتبع خطا في قصة، وخطا آخر في قصة أخرى1. والذين يتعرضون لنقد القصة عندنا يتحدثون عما يسمونه "الحبكة" بدلا من الإطار، ومفهومها أن تكون حوادث القصة وشخصياتها مرتبطة ارتباطًا منطقيًّا يجعل من مجموعها وحدة ذات دلالة محددة. فسرد أي مجموعة من الحوادث مرتبطة بما يلزم من الشخصيات، لا يكفي حتى تعد ما يسرد قصة فنية؛ فالسرد خاصية أيضًا للكتابة التاريخية. فالحبكة الفنية إذن في المفهومات الشائعة لها شيء يضاف إلى السرد ليجعل من الأشياء المسرودة بناء متماسك الأجزاء، يؤدي هدفًا واحدًا. الحادثة الفنية هي تلك السلسلة من الوقائع المسرودة سردًا فنيًّا، التي يضمها إطار خاص. وإذا كنا هنا نتحدث عن عنصر الحادثة فينبغي أن نذكر نوعًا من القصص يعنى عناية خاصة بالحادثة وسردها، وتقل عنايته بالعناصر القصصية الأخرى، ويسمى هذا النوع "قصة الحادثة"2 أو "القصة السردية". وفي القصة السردية تكون الحركة "action" هي الشيء الرئيسي، أما الشخصيات فإنها ترسم كيفما اتفق، فالحركة عنصر أساسي في العمل القصصي, وهي نوعان: حركة عضوية وحركة ذهنية. والحركة العضوية تتحقق في الحوادث التي تقع، وفي سلوك الشخصيات، وهي بذلك تعد تجسيمًا للحركة الذهنية التي تتمثل في تطور الفكرة العامة نحو الهدف الذي تهدف إليه القصة. 2- السرد: حين نقرأ القصة تتمثل الحادثة فيها ولكن من خلال تلك الألفاظ المنقوشة على الورق، أي: من خلال اللغة. والسرد هو نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة

_ 1 Edwin Muir: The Sructure of the Novel., the Horgarth Press, London 1949, p. 16. 2 انظر المرجع السابق.

لغوية، فحين نقرأ مثلًا: "وجرى نحو الباب وهو يلهث، ودفعه في عنف، ولكن قواه كانت قد خارت، فسقط خلف الباب من الإعياء" نلاحظ هذه الأفعال: جرى، يلهث، دفع، خار، سقط، فهذه الأفعال هي التي تكون في أذهاننا جزئيات الواقعة، ولكن السرد الفني لا يكتفي عادة بالأفعال كما يحدث في كتابة التاريخ، بل نلاحظ دائمًا أن السرد الفني يستخدم العنصر النفسي الذي يصور به هذه الأفعال "وهو يلهث، في عنف، من الإعياء, في المثال السابق". وهذا من شأنه أن يكسب السرد حيوية، ويجعله لذلك فنيًّا. وبينما يرتبط المؤلف المسرحي بطريقة واحدة لكي يحكي قصته -وهي السرد الذي يتمثل من خلال الحوار الذي يجري بين الشخصيات- فإن لكاتب القصة أن يختار واحدة من ثلاث طرائق: الطريقة المباشرة أو الملحمية epic، وطريقة السرد الذاتي autobiography وطريقة الوثائق. والطريقة الأولى مألوفة أكثر من غيرها، وفيها يكون الكاتب مؤرخًا يسرد من الخارج, وهو في الطريقة الثانية يكتب على لسان المتكلم، وبذلك يجعل من نفسه وأحد شخوص القصة شخصية واحدة, وهو بذلك يقدم ترجمة ذاتية خيالية. وفي الطريقة الثالثة تتحقق القصة عن طريق الخطابات أو اليوميات أو الحكايات والوثائق المختلفة، ومن الواضح أن لكل من هذه الطرائق الثلاث مزاياها لخاصة؛ لأنه في حين تفسح الطريقة المباشرة دائمًا أبعد المدى، وتعطي أكثر قدر من حرية الحركة، فإنه يمكن الحصول على متعة أعظم وأقرب إلى النفس عن طريق استخدام طريقة المتكلم أو طريقة الوثائق1. 3- البناء: لقد عرفنا أن الكاتب يختار وقائع بذاتها، يؤلف بينها، ويكون منها البناء الكامل للحادثة. وهناك صور عدة لبناء الحادثة القصصية بناء فنيًّا, ويمكن أن يقال: إن كل قصة لها صورة بنائية خاصة بها، ومع ذلك فقد أمكن ضبط مجموعة من الصور البنائية العامة. وهناك -صور بصفة عامة- صورتان لبناء الحبكة القصصية هما: الصورة الانتقائية والصورة العضوية organic. وفي الصورة الأولى لا تكون بين الوقائع علاقة كبيرة ضرورية أو منتظمة, وعندئذ تعتمد وحدة السرد على شخصية البطل الذي يربط -بوصفه النواة الشخصية المركزية- بين العناصر المتفرقة. وقصص المغامرات بعامة تمثل

_ 1 انظر: Hudson: An Intoduction to the Study of Literature., pp. 1978.

هذا النوع. مثال ذلك قصة "روبنسون كروزو"1، فالأشياء فيها تتحدث، والشخصيات تلتقي وتفترق، ولكنها ليس لها عمود فقري بنائي واضح، أو وحدة عضوية, وليس من الضروري لكاتب في هذه الحالة أن يعرف كل تفصيلات القصة قبل أن يبدأ كتابتها، بل يكفي أن يكوّن في ذهنه معرفة عامة بالطريق الذي ستتبعه القصة. أما في الصورة البنائية العضوية فإن القصة مهما امتلأت بالحوادث الجزئية المنفصلة الممتعة فإنها تتبع "تصميمًا" عامًّا معقولًا. وفي خلال هذا التصميم تقوم كل حادثة تفصيلية بدور حيوي واضح, فهناك شيء أكثر من مجرد الفكرة العامة عن مسار القصة. فالخطة كلها لا بد أن تعد بصورة مفصلة، وأن تنظم الشخصيات والحوادث بحيث تشغل أماكنها المناسبة، وأن تؤدي كل الخطوط إلى النهاية. وينبغي أن يكون واضحًا أن الصورة البنائية تختلف من نوع قصصي إلى آخر؛ فالصورة البنائية التي تتمثل في الرواية لا يمكن أن تصلح لبناء قصة قصيرة, والصورة البنائية الأولى التي سبق ذكرها هي أنسب صورة للرواية، في حين أنها لا تصلح للقصة القصيرة. والصورة الثانية تصلح للقصة دون القصة القصيرة؛ لأن القصة القصيرة بحكم طبيعتها تتطلب صورًا بنائية خاصة. وأبسط صورة لبناء القصة -وهي الصورة المألوفة بصفة عامة- هي تلك التي تتمثل بين طرفي الصراع، وهما الهدف والنتيجة. فإذا كان "أ" يهدف إلى الزواج من "ب" برغم منافسة "ج" وممانعة "د" فإنه إما أن ينجح أو يخفق, ونجاحه هو النتيجة. وهو في سبيله إليها سيصادف حوادث مفاجئة كثيرة تقربه من النجاح حينًا ومن الإخفاق حينًا، وهذه الحوادث المفاجئة يمكن أن تقع فوق الخط المستقيم وأسفله، ذلك الخط الذي يمتد بين طرفين هما الهدف والنتيجة، والذي يخترقه خط الحركة في القصة عدة مرات في اجتيازه من مفاجأة نجاح إلى مفاجأة إخفاق، حتى يتصل أخيرًا بالخط المستقيم عند نهايته أو أسفله، تبعًا للهدف الأخير أو فقدان الهدف الرئيسي من حركة القصة2. والشكل الآتي يوضح هذه الصورة:

_ 1 Robinson Crusoe، اسم رواية لـ "دانيال ديفو" Daniel Defoe وهو كاتب إنجليزي "1660-1731"، وقد كتب هذه الرواية في عام 1719. 2 Westland: literary Appreciation, p. 211.

وينقسم هذا الخط عادة إلى عدة مراحل، فيبدأ بالمقدمة التي قد تشغل فصلا أو أكثر من أول القصة، وفيها نعرف الأشياء اللازمة لفهم ما سيأتي. ثم تبدأ "الواقعة الأولى" وتبدأ معها عملية البناء. ثم تأتي بعد ذلك "الحوادث المفاجئة" وهي تفقد قيمتها الفنية إذا لم تأت منطقية في موضعها. وينمو "الصراع" مع نمو "الحركة" في القصة حتى نصل إلى أقوى الحوادث إثارة وهي عادة تتمثل في أشد المواقف تعقيدًا في عملية البناء، أي: فيما يسمى بذروة التعقيد. ثم تبدأ الأشياء في مرحلة "التنوير denouement"، وهذه المرحلة تفتح طرقًا مختلفة إلى نهاية القصة. وهي في القصص ذات "النهاية السعيدة" تزيل العراقيل التي تعوق الوصول إلى الهدف الرئيسي، وعندئذ تظل في حاجة لرؤية كيف يتم ذلك في الواقع. أما في قصص "المآسي" فإن مرحلة التنوير تشمل مواجهة عقبة على الأقل هي غاية في الصعوبة للوصول إلى الهدف الرئيسي. وهنا يجب أن نعرف ما سيحدث للناس الذين صادفهم سوء الحظ. وفي تطور القصة من مرحلة التنوير إلى نهايتها الحقيقية "وهي المرحلة التي تعرف فنيا بالكارثة catastrophe" يتمثل "القرار الحاسم resolution" وهي مرحلة تحتاج إلى مهارة؛ لأنه في هذا الموضوع -أكثر من أي موضوع آخر- غالبًا ما يفقد القارئ تشوقه بسهولة. هذه هي الصورة البسيطة لبناء هذه القصة، وهناك بطبيعة الحال صور أخرى معقدة لا تحصى. 4- الشخصية: إن الأشخاص يشغلون جزءًا كبيرًا من حياتنا إذا نحن قدرنا ألوان التفاعل التي تتم بيننا وبينهم، والتي تثير كثيرًا من المشاعر، وألوانًا من العطف، وتولد الفكرة أثر الفكرة. والقصة معرض لأشخاص جدد، يقابلهم القارئ ليعرفهم، ويتفهم دورهم، أو يحدد موقفهم "وطبيعي أنه من الصعب أن نجد بين أنفسنا وشخصية من الشخصيات التي لم نعرفها ولم نفهمها نوعًا من التعاطف. ومن هنا كانت أهمية التشخيص characterization في القصة، فقبل أن يستطيع الكاتب أن يجعل قارئه يتعاطف وجدانيا مع الشخصية، يجب أن تكون هذه الشخصية حية، فالقارئ يريد أن يراها وهي تتحرك، وأن يسمعها وهي تتكلم، يريد أن يتمكن من أن يراها رأي العين"1. وكما رأينا أن هناك نوعًا من القصة يعرف بقصة الحادثة, فإن هناك أيضًا "قصة الشخصية" في الأولى تتمثل الوقائع events وفي الأخرى المواقف attitudes. في الأولى يكون الاهتمام بالحادثة أولا ثم تختار الشخصيات المناسبة، وفي الأخرى يكون العكس.

_ 1 H. Shaw & Bement: Reading the Story., Harper and Brothers. New York 1941, p. 8.

على أن الشخصيات ذاتها في القصة نوعان: نوع يمكن أن نسميه "الشخصية الجاهزة flat character" أو المسطحة، وهي الشخصية المكتملة التي تظهر في القصة -حين تظهر- دون أن يحدث في تكوينها أي تغير، وإنما يحدث التغير في علاقاتها بالشخصيات الأخرى فحسب, أما تصرفاتها فلها دائمًا طابع واحد. والنوع الثاني يمكن أن نسميه "الشخصية النامية round character"، وهي الشخصية التي يتم تكوينها بتمام القصة، فتتطور من موقف إلى آخر، ويظهر لها في كل موقف تصرف جديد يكشف لنا عن جانب جديد منها, والذوق الحديث يفضل النوع الثاني من الشخصية1. ومن القصص التي تهتم بالشخصية نوع يسمى "البيكارسك Picaresque"، وقد ازدهر في القرن السادس عشر، وفيه يتناول الكاتب شخصية أساسية خلال سلسلة متتابعة من المشاهد، كما يقدم مجموعة كبيرة من الشخصيات. ومن خلالها يقدم الكاتب نوعًا من المعلومات، كما يرسم صورة للمجتمع. والفرق بين هذا النوع من القصة وبين الرواية هو أن البيكارسك واقعية، في حين أن الرواية تحكي عادة مغامرات خيالية. وأوضح مثال لهذا النوع في أدبنا هو قصة "الأرض" للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، فليس فيها حادثة ولكن مجموعة من الوقائع التي ارتبطت بالشخصيات ذاتها. والشخصيات نفسها شخصيات جاهزة نتعرف عليها منذ أن نقابلها، ولا يكاد موقفها في الغالب يتغير، وهي في خلال القصة تمر بنا في مشاهد مختلفة تؤكد ذاتها، وقد تكرر نفسها، ولكنها مشاهد واقعية حية، ومن خلالها رسم الكاتب صورة للمجتمع الريفي. على أن انقسام القصة إلى قصة حادثة وقصة شخصية لا يتمثل بهذه الحدة، وكل ما في الأمر أن كاتبًا يولي الشخصية اهتمامًا أكبر، وآخر يهتم بالحادثة، ولكن القصة ذاتها لا يمكن أن تخلو خلوا تاما سواء من الشخصية أو الحادثة. وهناك من يعادل في الأهمية بين الشخصية والحادثة، فيعطي هذه من العناية ما يعطيه تلك, وبذلك يظهر نوع جديد من القصة "يسمى Old morality" هي القصة التي تجمع بين طابعي القصة السردية, والقصة التشخيصية2. 5- الزمان والمكان: كل حادثة تقع لا بد أن تقع في مكان معين وزمان بذاته, وهي لذلك ترتبط بظروف وعادات ومبادئ خاصة بالزمان ولمكان اللذين وقعت فيهما. والارتباط بكل

_ 1 انظر: Muir: op cit, p. 26. 2 انظر المرجع السابق ص33.

ذلك ضروري لحيوية القصة؛ لأنه يمثل البطانة النفسية للقصة. ويسمى هذا العنصر "setting"، ويقوم بالدور الذي تقوم به المناظر على المسرح بوصفها شيئًا مرئيًّا يساعد على فهم الحالة النفسية للقصة أو الشخصية، فهو هنا يقوم بنفس الدور الذي تقوم به الموسيقى المصاحبة للمسرحية أو القصة السينمائية. وأخيرًا يصبح التصوير مهمًّا أحيانًا، حتى إنه يكاد يقوم بدور الممثل في القصة، أي: تكون له قوة درامية1. وهناك نوع من القصة يسمى "قصة الحقبة"، وهي قصة لا تحاول أن تطلعنا على الحقيقة الإنسانية التي تصدق في كل عصر، بل تكتفي بمجتمع في مرحلة انتقال، وبالشخصيات التي لا تكون حقيقية إلا بمقدار تمثيلها لذلك المجتمع2. وقصة "أنا الشعب" التي سندرسها في نهاية هذا الفصل تمثل هذا النوع. 6- الفكرة: يتساءل القارئ المتوسط عن "الإطار" في القصة، وهو يعني بذلك عادة "ماذا حدث؟ "، ولكن عندما نحلل القصة لا يكون لهذا السؤال من الأهمية ما يكون لسؤالنا: لماذا حدث؟ صحيح أن نهاية كل قصة تعطي نوعًا من النتيجة، فهناك شيء "يحدث" حقا, ولكن أسباب هذه النتيجة أكثر أهمية من الحوادث الواقعة ذاتها، فخلف الحوادث يقع المعنى. وهذا المعنى يقبله القارئ أو يرفضه، معتمدًا على ما إذا كان المؤلف قد كان قادرًا على إقناعه بأن النتيجة تتفق سواء مع خبرته بالحياة أو مع الحياة كما يصورها المؤلف3. فالقصة إذن إنما تحدث لتقول شيئًا, لتقرر فكرة، فالفكرة هي الأساس الذي يقوم عليه البناء الفني للقصة. "والموضوع الذي تبنى عليه القصة لا يكون دائمًا إيجابيا في أثره، فمع أنه يجب أن يقرر -بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- حقيقة عن الحياة أو السلوك الإنساني فإنه غير مطالب بأن يحل مشكلة. وقد بين كاتب القصة القصيرة الروسي العظيم "تشيكوف"4 ذات مرة لصديق شاب أن هناك فرقًا بين حل المشكلة ووضعها وضعًا صحيحًا، فيكفي الفنان -كما قال- أن يصور مشكلته تصويرًا صحيحًا"5.

_ 1 Reading the Short Story, p. 10. 2 Muir: p. 117. 3 Reading the Short Story, p. 11. 4 أنطون بافلوفيتش تشيكوف Anton Powlovich Chekhow "1860-1904": كاتب مسرحي، ومؤلف أقاصيص روسي، ويعد من أئمة القصة القصيرة في العصر الحديث. 5 نفس المصدر 13.

وحين نبحث عن مصدر إعجابنا بقصة قرأناها سنجد أن فكرتها كان لها أثر في هذا الإعجاب. ولكن هل نحن نقرأ العمل الفني لفكرته فحسب!! إن القصة صورة للحياة، ونحن نعرف الحياة معرفة جيدة وننتظر من القصة دائمًا أن تكون صادقة، حية، مقنعة، كالحياة الواقعة. ولكن القصة تمتاز بأن لها صورة فنية خاصة، فالكاتب يقدم إلينا قصة -وقصة بالذات- حين يقدم إلينا فكرة. وهنا تحدث مفارقات غريبة، فقد تكون القصة ناجحة من حيث الإطار الفني, ولكنها تنطوي على فكرة لا تروقنا. وهناك أيضًا قصص ممتلئة بالحياة، ومع ذلك تفقد الشكل الفني. وأوضح مثال لذلك قصة تولستوي1 الشهيرة "الحرب والسلام"، فنحن نعجب بها برغم افتقارها إلى الوضوح الشكلي. يقول عنها "لبوك": "إن عمل القصاص أن يخلق الحياة، والحياة هنا قد خلقت بلا جدال، والذي ينقص هو الرضا الناتج عن الصورة السوية المتماسكة. وكان من الخير وجودها، هذا كل ما في الأمر، ولكننا قد حصلنا على قصة رائعة بدونها"2. ومعنى هذا أن مصدر إعجابنا لا يمكن دائمًا أن يحدد بقاعدة؛ لأننا في كل قصة ينكشف لنا شيء جديد, ولكن المؤكد أن القصة -ككل عمل فني- لا يتحدد لها شكل حتى تتحقق فيها فكرة الكاتب, فتحقق الفكرة يفترض بالضرورة وجود شكل. لتكن فكرة الكاتب في موضوع كموضوع الخيانة الزوجية مثلا أن الزوج هو المسئول عن خيانة زوجته إياه. فهو لكي يحقق هذه الفكرة يبني قصته على النحو الذي يحققها, فإذا نحن أعجبنا بفكرة القصة فإننا نكون في الوقت نفسه قد أعجبنا بالصورة التي أديت فيها هذه الفكرة, وأي خلل في هذه الصورة سيكون له أثره في الفكرة. وبعبارة أخرى فإن فكرة أي قصة تتحقق بتحقق القصة ذاتها. وكما أن هناك أنواعًا من القصة تعنى عناية خاصة بالحادثة أو بالشخصية، فهناك القصة التي تهتم اهتمامًا أكبر بالفكرة، ويقل الاهتمام فيها بالتشخيص وبالسرد. ومعنى هذا أن الشخصيات تتصرف وفقًا لفكرة الكاتب لا تبعًا لتكوينها الخاص, وبذلك قد تكون تصرفاتها منطقية، ولكنها برغم ذلك لا تكون مؤثرة؛ لأنها فقدت حريتها أمام التوجيه الخاص الذي يوجهها به المؤلف، ففي قصة الفكرة يغلب الجانب المنطقي جانب الضرورة، ويقل جانب الحرية، ولا تتساوى أهمية المنطقية والتلقائية، أو لنقل: الضرورة والحرية، إلا في نوع خاص من القصة يسمى "القصة الدرامية"، ففيها تتصرف

_ 1 الكونت ليو تولستوي Count Leo Tolstoly روائي روسي، أشهر آثاره: "الحرب والسلام" war and peace "1828-1910". 2 Percy Lubbok: The Craft of Fiction., Traveller's Libr., 1926, p. 40.

الشخصيات تصرفات منطقية أو التصرفات الضرورية، ولكنها في الوقت نفسه تصدر عن الشخصيات ذاتها وهي في كامل حريتها، لا مسيرة كما يريد الكاتب، وقصة "مرتفعات وذرنج" للكاتبة "إميلي برونتيه"1 أوضح مثال لهذا النوع. هذه هي عناصر الفن القصصي، والدور الذي يقوم به كل عنصر في أنواع القصة المختلفة، التي تهتم بعنصر أكثر من اهتمامها بغيره. على أن الأنواع القصصية الرئيسية يفرق بينها عادة بفروق فنية أخرى. وهذه الأنواع في: الرواية، القصة، القصة القصيرة، الأقصوصة2. والرواية Romance هي أكبر الأنواع القصصية من حيث الحجم، وهي ترتبط بالنزعة الرومانتيكية ونزعة الفرار escapism من الواقع، وتصوير البطولة الخيالية. وفيها تكون الأهمية للوقائع، حتى إن "سانتسبري" يميز الرواية بأنها قصة الواقعة، عن القصة Novel التي هي قصة الشخصية والدافع3.

_ 1 إميلي برونتيه Emily Bronte "1818-1848" روائية إنجليزية, وقد كتبت رواية "مرتفعات وذرنج" Withering عام 1847. 2 أفضل أن أطلق لفظ الأقصوصة على ما يسمى Short-Short story محتفظًا بالقصة القصيرة لما يسمى Short story. 3 انظر: R. Liddle: A Treatise on the Novel., Jonatan Cape, London 1947, pp.. 16-17.

القصة القصيرة

القصة القصيرة: وقد تحدثنا فيما مضى عن القصة كثيرًا. أما القصة القصيرة فقد قال عنها أعظم كتابها الأمريكيين "إدجار ألان بو"1: "إن القصة القصيرة بحق تختلف بصفة أساسية عن القصة بوحدة الانطباع Imperssion. ويمكن أن نلاحظ بهذه المناسبة أن القصة القصيرة غالبًا ما تحقق الوحدات الثلاث التي عرفتها المسرحية الفرنسية الكلاسيكية، فهي تمثل حدثًا واحدًا يقع في وقت واحد. وتتناول القصة القصيرة شخصية مفردة أو حادثة مفردة أو عاطفة، أو مجموعة من العواطف التي أثارها موقف مفرد"2. وفي هذه العبارة إيجاز لطبيعة القصة القصيرة لا إيجاز بعده، ولم يفت "بو" أن يتحدث عن حجم القصة القصيرة، فقد حدد ذلك بمقياس زمني حين قرر أنها "تتطلب

_ 1 Edgar Allan Poe "1809-1949": كاتب وشاعر أمريكي، يعد أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في العالم. 2 The Encyclopedia Britannica, vol. 20. p. 589.

من نصف ساعة إلى ساعة أو ساعتين لقراءتها قراءة دقيقة"1. وجميع النقاد يتفقون على المبادئ الأساسية التي وضعها "بو" للقصة القصيرة، ولكننا قد نجد من يختلف في مسألة التحديد الزمني، فمنهم من يحدد مدة قراءتها بين ربع ساعة وثلثها. وفي تعريف "هـ. ج. ولز" لها ذهب إلى أنها تقرأ في أقل من ساعة2. وربما كان التحديد الزمني يتأثر بمدى سرعة القراءة؛ ولذلك كان من الأفضل تحديدها في المكان. يقول "موزلي": "إنني أوافق على أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد بدقة طول القصة القصيرة، ولكنني أعتقد أن الغالب أن أي قصة تقع في أقل من 500 كلمة من الأفضل أن تسمى Sketch، وأن أي قصة تقع في أكثر من 10000 كلمة من الأفضل أن توصف بأنها قصيصة Novelette، وعندي أن القصة القصيرة بحق ينبغي أن تتراوح في الطول بين 1500 و10000 كلمة"3. ومهما يكن من أمر فليس هذا التحديد غاية في ذاته، ولكنه مهم لما يترتب عليه؛ لأن الحيز الضيق يؤثر في اختيار الموضوع, وطريقة السرد، وبناء الحادثة، والصياغة اللفظية، وكذلك في الصورة العامة للعمل الأدبي. وهنا لا يلتبس تلخيص الرواية الطويلة في صفحات قليلة بالقصة القصيرة، والفرق بينهما هو الفرق بين الموضوع الحي المعروض في صورة عضوية متفاعلة الأجزاء متكاملة العناصر، والموضوع الجامد الذي يغلب عليه طابع التجريد والتلخيص. فالقصة القصيرة من الممكن أن تجتاز بالقارئ فترة زمنية طويلة، كما تصنع الرواية، ولكن يحدث الفرق هنا في طريقة العرض. فالتفصيلات والجزئيات التي تملأ كل يوم وكل ساعة في تلك الفترة الزمنية لا حاجة لكاتب القصة القصيرة بها، بل إنه يجتاز كل شيء لينتقل مباشرة من لمسة من لمساته للموضوع إلى أخرى، مجتازًا بذلك من الزمن فترة قد تطول وقد تقصر. فطريقة العلاج ترتبط ارتباطًا حيًّا بالموضوع، وهذا -من جهة أخرى- فرق جوهري بين القصة القصيرة والطويلة. فلينتقل كاتب القصة القصيرة في الزمن كيف شاء، وليجتز الشهور والسنين، ولكن الذي يجعل عمله قصة قصيرة -برغم ذلك- هو الوحدة الزمنية التي تتمثل في القصة. فلا بد في القصة القصيرة من هذه الوحدة الزمنية التي ترتبط بين لمساته المتباعدة في الزمان. وهذا طبيعي إذا عرفنا أن القصة القصيرة في عمومها لا تتجاوز الفكرة الواحدة، فحسب كاتب القصة القصيرة الناجحة أن يصور هذه الفكرة أو تلك في

_ 1 Hudson. op. cit, p451. 2 انظر: Sydney A. Moseley: Short Story Writing and Free- Lance Journalism., London, 5th ed. 1984, p. 188. 3 نفس المصدر ص118, 119.

قصته، لا مجموعة من الأفكار، مهما يكن بينها من ارتباط، كما هو الشأن في القصة الطويلة1. وما يقال عن الزمان يقال عن الشخصيات، فالقصة القصيرة تفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات، خلافًا للقصة والرواية، حيث يكثر الأشخاص. فليس في القصة القصيرة فرصة لرسم هذا العدد الكبير من الشخصيات؛ لضيق الحيز من جهة، ولأن القصة ذاتها لم تنشأ لتحليل عدد كبير من الشخصيات من جهة أخرى؛ ومع ذلك فمن الممكن أن تكثر الشخصيات في القصة القصيرة، ولكنها لا بد أن تكون في مجموعها وحدة، أي أن يجمعها غرض واحد، تمامًا كما تحدث "بو" عن العواطف الكثيرة التي قد تتضمنها القصة القصيرة، على أن تكون قد أثارها موقف واحد. كل هذا يجعل صفة "التركيز" أساسية في القصة القصيرة، فهي أساسية في الموضوع، وفي الحادثة وطريقة سردها، أو في الموقف وطريقة تصويره، أي: في لغتها. ويبلغ التركيز حد أنه لا تستخدم لفظة واحدة يمكن الاستغناء عنها، أو يمكن أن يستبدل بها غيرها، فكل لفظة تكون موحية، ويكون لها دورها، تمامًا كما هو الشأن في الشعر. أما الرواية فهي في رأيي الصورة الأدبية النثرية التي تطورت عن الملحمة القديمة, وقد كان ظهورها مرتبطًا في أوروبا -كما يذهب "كتل Kettle"- بالنظام الإقطاعي الذي ساد العصور الوسطى، فالرواية كانت الأدب الأرستقراطي غير الواقعي للنظام الإقطاعي. وهي لم تكن واقعية بمعنى أن الهدف منها لم يكن لمساعدة الناس مساعدة إيجابية في حل المشكلات المتعلقة بأمور الحياة، ولكن للانتقال بهم إلى عالم مثالي مختلف عن عالمهم هو أجمل منه وأحسن. وكان أرستقراطيًّا لأن الاتجاهات التي عبر عنها، والتي أوصى بها، كانت -على وجه التحديد- الاتجاهات التي ترغب الطبقة الحاكمة في تشجيعها لكي يظل وضعها المكتسب مستمرًّا إلى الأبد. وأما القصة فقد كان ظهورها -في رأي من الآراء- رد فعل لرواية العصور الوسطى وما بعدها في القرنين السادس عشر والسابع عشر من روايات، وفي رأي آخر نتيجة لظهور شعب قارئ والحاجة إلى ما يقرأ من مادة أدبية. وقد احتلت القصة في القرن الثامن عشر في إنجلترا مكان المسرحية الشعرية. "وقد كانت القصة أنجح في تصوير الشخصية -وهي تعمل وتتحرك- من المسرحية. ثم إن العقول التي كان من الممكن أن تجتذبها المسرحية في العصور الأخرى اجتذبها القصص"2. وقد يقال: إن القصة ظهرت بظهور طبقة البرجوازية التجارية القوية التي تمثل الطبقة الوسطى. وهذه

_ 1 انظر: Hudson., p. 435. 2 Liddel: A Treatiste on the Novel., 17-18.

الأسباب تصور جزءًا من الحقيقة، ولكن "كتل" يربط بينهما وبين الثورة الإنجليزية، تلك الثورة التي لم تكتفِ بأن تطور علاقات الناس الاجتماعية، بل امتدت إلى تطوير نظرتهم إلى الحياة وفلسفتهم وفنهم. وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجًا. وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل الخارجية. أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيرًا من الشبان بكتابتها، برغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص؛ ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها. وأما من حيث العوامل الخارجية فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، وظهرت مئات الصحف والمجلات التي تحتاج كل يوم لمئات القصص. وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية تفضل القصة القصيرة. والإذاعة كذلك -لأنها بحكم عامل الزمن لا تستطيع أن تمنح المتحدث أكثر من ربع ساعة- قد ساعدت على رواج القصة القصيرة. والناس أنفسهم قد أخذتهم السرعة، فهم في كل مظاهر حياتهم ميالون إلى التخفف والبساطة, وكان هذا طابعهم فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في القصة القصيرة ما ينشدون. ثم لا ننسى عامل القلق الذي يسود الإنسانية، والذي لا يتيح للناس الحالة النفسية اللازمة لقراءة قصة طويلة أو رواية تحتاج إلى استرخاء ذهني ونفسي, أمدًا بعيدًا، كما كان الشأن في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، يوم كانت الرواية تطول وتطول إلى أن تملأ المجلدات, ويجلس إليها القارئ يقطع بقراءتها ليالي فصل الشتاء الطويلة. ومن الصعب أن نجد تحديدًا نهائيًّا لمنهج القصة القصيرة، برغم اتفاقنا على مجموعة من الأصول والظواهر العامة التي تبرز في هذا الفن. فبرغم الإطار الضيق نسبيا الذي تتحرك فيه القصة القصيرة، ما زال هناك تنوع ملحوظ في المناهج التي يتبعها كتاب هذا الفن. وكل من هؤلاء الكتاب إنما يصدر عن تصور خاص لعوامل التأثير في القصة القصيرة وفي الهدف منها، فهم -بعبارة أخرى- يختلفون في المنهج من حيث الغاية, والوسيلة. المؤكد أن غاية الجميع هي أن يبدعوا عملا فنيا، فهم في ذلك متفقون لا محالة، وإنما يقصد بالغاية هنا الغاية التي يحققها كل منهم بالنسبة لقارئه. فمن الكتاب من يحرص على أن يقول للقارئ كل شيء تفصيلا، وألا يترك للقارئ شيئًا يستكشفه بنفسه، أو يترك له فرصة استنباط شيء وراء المواقف ووراء الكلمات.

وهذا النمط من الكتاب يعنى في الغالب بعنصر الحادثة في القصة التي يكتبها, ومن ثم يركز الكاتب كل عنايته في سرد المواقف والعناية بالأسلوب, وقصص محمود تيمور القصيرة تمثل هذا النمط أحسن تمثيل. ومن الكتاب من يؤثر التركيز على الشخصية، يرسمها في أناة ودقة، ويجعلها المحور الذي تدور حوله كل الأحداث المتعلقة به، ومن ثم لا يرد من المواقف والأحداث في القصة إلا ما يجلو الشخصية، بغض النظر عن تناسق هذه المواقف بعضها مع بعض، أي: بغض النظر عن كون هذه المواقف تمثل في مجموعها -أو لا تمثل- حكاية متماسكة. ثم هناك القصة القصيرة ذات الطابع الرومانتيكي. وفي هذا النمط يركز الكاتب على عواطف الشخصية أو الشخصيات التي يصورها، وكثيرًا ما نجد الكاتب في هذه الحالة يرتاد الموضوعات التي تتيح له مستوًى عاليًا من العاطفة، وكثيرًا ما يكون الموضوع ذا طابع مأساوي. وقريب من هذا النمط القصة القصيرة ذات الطابع الشعري. وفيها تختفي الحادثة تمامًا أو تكاد، فهي لا تتضمن سلسلة متصلة من المواقف، وهي كذلك لا تعنى برسم الشخصية، وإنما تتكون من انبثاقات عاطفية شتى، نابعة من موقف شعوري بعينه يلحّ على الكاتب, ويضغط على نفسه كما هو الشأن في القصيدة. ثم هناك القصة القصيرة التي تهتم بالفكرة، وهي نوعان: رمزية، وأسطورية. وفي هذا النمط يستغل الكاتب الرموز الشعبية والأساطير الجاهزة في أن يضمنها وجهة نظر خاصة أو فكرة خاصة، وفي هذه الحالة لا يأخذ الكاتب من الرمز أو الأسطورة إلا الإطار العام. ثم هناك كذلك القصة القصيرة الكاريكاتورية، وفيها يهتم الكاتب بالموقف والشخصية معًا، ولكنه يرسمها بطريقة الكاريكاتير، فيجرد الشخصية والموقف من العناصر العادية، ولا يلتفت فيها إلا إلى البارز المميز ذي الدلالة الخاصة فيجسمه, ويضخمه لكي يلفت النظر إليه، تمامًا كما يصنع رسام الكاريكاتير1.

_ 1 راجع تفصيلًا عن هذه الأنماط في مقدمتنا لكتاب "قصص من مصر"، من مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية "دار المعرفة بالقاهرة سنة 1955". وانظر كذلك مقالتنا عن إحدى قصص فاروق خورشيد الكاريكاتورية بمجلة الثقافة، عدد 725 "لجنة التأليف والترجمة والنشر".

وليس هذا إحصاء لمناهج القصة القصيرة، وإنما شئنا هنا أن نقدم مجموعة من المناهج البارزة الشائعة. وما يزال كتاب القصة القصيرة يطلون علينا بين الحين والآخر بكشوفهم الجديدة في هذا الميدان، فيزيدون هذا الفن ثراء وتنوعًا، ويعملون -بطريقة غير مباشرة- على تطوير هذا الفن. وقد عرفنا أن هناك نوعًا من القصص لا هو بالقصير ولا هو بالطويل ولكن بين بين، وهو ما أطلقنا عليه اسم القصيصة، تصغيرًا لاسم القصة. وهذا النوع غير ذائع نسبيًّا، فقليلون من يكتبونه أصلًا، والذين يكتبونه لا يتخذون منه نوعًا مميزًا لنتاجهم الفني. ومن أبرز من عالجوا هذا النوع في أدبنا القصصي يحيى حقي. وكما يقل بين الكتاب إنتاج هذا النوع يقل كذلك النوع الآخر الذي سميناه بالأقصوصة، أي: القصة الأقصر من القصيرة، وأغلب ما يدور هذا النوع الأخير حول مشهد صغير أو فكرة جزئية أو مجرد الفكاهة أو اللمسة النفسية. قصة أنا الشعب "دراسة تطبيقية": هذه هي الخطوط العامة لنظرية "فن القصص"، وواضح أن المجال لا يتسع هنا لدراسة تطبيقية تمثل كل تلك الأنواع والأنماط، ومن ثم فإننا نكتفي بنموذج لدراسة إحدى القصص. أما القصة فهي قصة "أنا الشعب"، وأما مؤلفها فهو الكاتب المشهور الأستاذ محمد فريد أبو حديد. وهو مشهور في أكثر من ميدان ولكن ربما كانت شهرته الأدبية راجعة أولًا إلى نتاجه الأدبي القصصي الممتاز، سواء منه التاريخي وغير التاريخي. والحادثة في هذه القصة حادثة بسيطة، وإن كانت قد أخذت شكلًا معقدًا نوعًا ما؛ لكثرة ما تداخل فيها من المواقف الجزئية التي قد يكون لها أهميتها في بعض الأحيان، ولكنها كانت كذلك في أحيان أخرى لا يكاد يكون لها أثر ملحوظ في سياق الحادثة. ومن ذلك مثلًا محاولة "سيد" أن يحصل على شهادة البكالوريا، فنلاحظ أنه صرف جزءًا كبيرًا في التفكير في هذا الموضوع، كما أنه شغل جزءًا من سياق القصة بمحاولته الحصول على البكالوريا ونجاخه أخيرًا في الحصول عليها. وإذا بحثنا عن المبرر لكل هذا في الحادثة, وجدنا المسألة أبسط من ذلك بكثير، فالقصة في ذاتها لا تفيد شيئًا من هذه المحاولة أكثر من أن تضيف شخصية جديدة هي شخصية "عبد الحميد عباس" صديق سيد القديم، فمحاولته الحصول على البكالوريا تدعوه إلى البحث عن هذا الصديق الذي أصبح مدرسًا ليستعين به في دراسته. ومنذ هذه اللحظة تبدأ أطراف خيوط جديدة لقصة صغيرة تسير جنبا إلى جنب مع القصة الأساسية، وهي قصة علاقة بين عبد الحميد هذا ومنيرة أخت سيد. وقد رأينا في آخر

الأمر إلى أين انتهت هذه العلاقة، فقد اقترن عبد الحميد بمنيرة. وسواء وقفنا عند الحادثة التي صدرت عنها هذه القصة وهي الحصول على البكالوريا أو عند هذه القصة ذاتها، فإننا لا نكاد نجد لها أي دور خطير في سياق القصة ذاتها. بعبارة أخرى: ماذا يربط هذه المحاولة وهذه القصة بالحادثة الكبيرة في القصة الرئيسية؟ أي رباط يربط هذه الأشياء بالحادثة؟ وإلا فما دورها وما أهميتها؟ ومن أجل ذلك تضخمت القصة. على أن الحادثة الأصلية ذاتها بسيطة كل البساطة، فهي قصة شاب من أسرة كبيرة فقدت عائلها، وكان هذا الشاب ما يزال في مقتبل عمره لم يحصل على البكالوريا بعد. وهو يحس بأن عليه مسئولية ضخمة وهو ما يزال في هذه السن الصغيرة: مسئولية الأسرة ومسئولية نفسه، وربما كان يحس كذلك بمسئوليات أخرى إزاء أشخاص كان يصاحبهم على مضض, وهو يلاقي في صداقته لهم شيئًا من العنت، ولكنه يحاول أن يفرض شخصيته على هؤلاء الأصدقاء. ويظل من هؤلاء شخصان سيكون لهما دورهما في القصة فيما بعد، أحدهما "مصطفى عجوة" والآخر "حمادة الأصفر". ويبدأ الفتى نوعًا من الجهاد في الحياة, يحاول الكتابة في بعض الصحف لأنه كان يظن أنه أديب بارع، ولكن محاولته الأولى لم تأت بنتيجة. ثم ينتقل من هذه المحاولة إلى محاولة أخرى هي احتراف التمثيل، يغريه بذلك أصدقاؤه أنفسهم، ولكنه لا يستمر في هذه الحرفة طويلا؛ لأنه لا يحب أن يقف هو في الدور الذي يصفع فيه حتى وإن كان هذا تمثيلا وليس حقيقة. فهو إذن فتى متمرد منذ اللحظة الأولى، وربما كان لتمرده هذا أثر كبير في إخفاقه المتلاحق في الحياة، فهو كما أخفق في الكتابة إلى الصحف، وكما أخفق في احتراف التمثيل كذلك، لم تستمر وظيفته الجديدة التي ظفر بها في محلج "السيد أحمد جلال" كثيرًا. كان بين السيد جلال هذا وبين والد سيد صداقة قديمة هي التي كانت سببًا في أن يلحق الفتى بمحلجه. وعندئذ تبدأ علاقة بين الفتى وبين "منى" بنة السيد جلال, وهنا تبدأ قصة مستقلة إلى حد ما هي قصة هذه العلاقة بين "سيد" و"منى". وهي علاقة ستصادف كثيرًا من العقبات، ويتكلف سيد في سبيلها كثيرًا من المشقات، ولكنها ستنتهي آخر الأمر نهايتها الطبيعية، فيقترن سيد بمنى. على أي حال لا يستمر سيد كثيرًا في محلج السيد جلال, ولم يكن هذا إلا لأن صديقه القديم مصطفى عجوة الذي كان يوقع به في كل مناسبة لدى السيد جلال قد نجح أخيرًا في أن يوغر صدر سيد عليه، وإذا به ينجح في أن يحمله على فصله من العمل. ويخرج الفتى لا يدري سببًا لما حدث، ويتعمد مقابلة السيد جلال فيما بعد، وتنتهي المقابلة بينهما بتحدٍّ صارخ؛ ذلك أن الفتى كان يحس أنه لا يقل شيئًا عن السيد

جلال، وأنه يستطيع أن يكون ندًّا له، برغم الغنى الذي يتمتع به السيد جلال، وضيق الحال الذي يعاني منه سيد. فلم تكن المسألة أمامه مسألة ثروة أو غنى، ولكنها مسألة حق في الحياة وكرامة إنسانية. وعلى هذا الأساس تحدى ولي نعمته، وإن كان يحس بأن هذا التحدي قد قطع أمله في الحصول على منى. ثم يمضي إلى التفكير في نفسه وفي الحياة وفي الناس. وتستمر فترة انطواء يعاني فيها شيئًا كثيرًا من الألم، ويحس الفقدان إحساسًا قويًّا، ففي هذه اللحظة اتضح له أنه فقد كل شيء وأنه كان مخطئًا يوم تخلف عن المدرسة. وهو ينظر الآن فيجد زملاءه قد ظفروا بالشهادات العالية, وأصبحوا أشخاصًا لهم مكانتهم في المجتمع، وفي وسعهم أن يقوموا بأعباء الحياة. وعندئذ يفكر في العودة إلى المدرسة، والحصول على شهادة البكالوريا، ولكنه كان يعرف تمامًا أن هذه العملية لن تكون لها قيمة كبيرة؛ لأن حصوله على البكالوريا يقتضي منه أن يتم تعليمه العالي. وهذا بدوره يحتاج منه إلى مال كثير فضلا عن حاجة عائلته وحاجة أخته منيرة, التي كانت على وشك أن تحصل بدورها على شهادة البكالوريا. ومع كل هذا ذهب إلى صديقه عبد الحميد عباس المدرس ليجد فيه عونًا له على التقدم للبكالوريا والتحضير لها. وهو ينجح في الحصول على هذه الشهادة، ولكنه كما كان متوقعًا، لا يكاد يفيد منها شيئًا، بل جاءت فائدته من ناحية أخرى وفي ميدان آخر هو ميدان التجارة. فهو منذ أن تحدى السيد جلال عوّل على أن يبدأ مثله تاجرًا بسيطًا حتى يصير يومًا ما منافسًا له في ميدان التجارة، ويقف معه على قدم المساواة. ويحمل الفتى موازينه وعشرين جنيهًا كان قد ادخرها في أثناء عمله بالمحلج، ويمضي نحو الريف إلى السوق ليبتاع وليمارس التجارة. وهو في طريقه إلى السوق يقابل صديقه القديم حمادة الأصفر, وحمادة شخصية لها دور كبير في القصة، يبدأ منذ هذه اللحظة. وكانت لحمادة هذا خبرة بالتجارة -تجارة القطن بخاصة- تفوق ما يعرفه سيد. ويتفق الاثنان معًا، ويكون من هذه الشركة مكسب كبير لهما معًا. وتستمر هذه الشركة بعض الوقت وإن كان سيد يتحملها على كره منه, فقد كان حمادة هذا كريهًا بغيضًا له. وينجح سيد في أن يجمع بعض المال من هذه التجارة الصغيرة ليشتري صفقة أكبر يبيعها إلى السيد جلال ويربح فيها ربحًا كبيرًا، يكتشف بعده بفضل حمادة أنه كان من الممكن أن يخرج منها بربح أكثر. وهكذا كادت العلاقة بين سيد والسيد جلال تعود مرة أخرى إلى مجاريها الطبيعية, ولكن حدث ما جعل هذه العلاقة تمضي في توترها حين جاء موسم

الانتخابات، فقد حاول السيد جلال أن يستميل بعض الأشخاص إليه؛ ليقوموا بالدعاية له ضد منافسه محمد باشا خلف. والحق أن السيد قد حاول في هذه المناسبة أن يقف موقفًا كبيرًا ضد تلك التزييفات التي كانت تتم في عمليات الانتخابات، التي كانت الإدارة نفسها تتعهدها؛ ولذلك نجده ينضم إلى المرشح الشعبي السيد العجمي، ويحاول أن يقوم له بالدعاية الكافية. ويدعو إلى إقامة سرادق لهذه الدعوى ينتهي بالإخفاق؛ لأن رجال السيد جلال متضامنين مع رجال الشرطة قد تدخلوا وهدموا السرادق، وشتتوا من حولهم. وتخفق المحاولة، وينتصر السيد جلال، بعد أن يتنازل العجمي ومحمد خلف ولكن السيد سيستدعى إلى المركز، وهناك يلقى معاملة سيئة من رجال الشرطة، ويسجن بعض الوقت، حتى يتدخل السيد جلال في الأمر، ويطلب الإفراج عنه. ويتبين بعد ذلك أن عبد الحميد عباس هو الذي سعى هذا المسعى لدى السيد جلال. ويخرج سيد من السجن ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا، فيفتح له صديقه عبد الحميد بابًا جديدًا يستطيع أن يستغل فيه موهبته الكتابية، فيعرض عليه أن يعمل محررًا في جريدة "بريد الأحرار" التي يصدرها صديقه مختار. ويقبل سيد العرض الجديد، ويجد في هذا الميدان فرصة جديدة للانتقام من هؤلاء الأشخاص الذين هم أساس الفساد، كما يجد فرصة للحملة على الأوضاع الاجتماعية الفاسدة في ميدان الصحافة. وينتقل سيد إلى مصر ليقوم بمهمته الجديدة، فيبدأ في الجريدة مصححًا للبروفات، وينتقل بعد ذلك إلى الكتابة. وهو في هذه المرحلة يتعرف على الشيخ مصطفى، التاجر الصغير الذي يفتح له بيته، فيتعرف فيه على ابنته فطومة. وتبدأ فطومة تشغل حيزًا من تفكيره وإن كان لا يتعدى الفترات التي يوجد فيها في البيت، ولكنها على كل حال لم تستطع أن تمحو من خياله صورة منى. وتبدأ مقالاته النزالية التي يحمل فيها على بعض الشخصيات الكبيرة حملة سافرة ولكنها حملة شديدة، ويكون هذا سببًا في أن يجزل له السيد علي مختار العطاء، ولكنه كان سببًا أيضًا في أن يذهب به أكثر من مرة إلى نيابة الصحافة. وهو يفلت في المرة الأولى, ولكنه ينتهي في المرة الثانية إلى أن يودع السجن بعض الوقت. ويعتريه شيء من المرض في أثناء السجن، وينتقل إلى المستشفى، ثم يعود ليفرج عنه بعد قليل. ويمضي ليجد القاهرة تتنفس أنفاسًا مكتومة بعد حريق امتد في أطرافها، فهو يشم الدخان في كل شارع وفي كل مكان، وفي هذه الأثناء تكون أسرته قد جاءت إلى القاهرة بعد أن أخبرها حمادة الأصفر، الذي أصبح ثريًّا بعد صفقة كبيرة عقدها مع محمد خلف.

وهذه الصفقة جاءت بعد مساومات كثيرة بين حمادة هذا ومحمد خلف؛ نتيجة لأن محمد خلف كان قد أصبح متصرفًا في شئون السيد جلال، الذي لقي حتفه فجأة وترك وراءه أسرة تتناولها الألسن كما تتناول سمعته، التي وجد الكثيرون سبيلًا إلى الطعن فيها عندما عرفوا أنه كانت تربطه بالسيدة التركية علاقة زواج ولكنه زواج عرفي. وقد حاول حمادة الأصفر -لصلته بها- أن يستغل الموقف، وأن يعرض عقد الزواج على خلف هذا لقاء مبلغ كبير من المال, ولكنه لم يصنع؛ لأن صديقه السيد استطاع أن يقنعه بمائة جنيه فحسب، ويأخذ منه هذه الوثيقة التي كانت تكفي لأن ينتقل نصف ميراث السيد جلال إلى ابنه من تلك السيدة. أصبح حمادة ثريا بعد أن ظفر بعشرة آلاف جنيه من السيد خلف في فترة كان التلاعب فيها بتجارة القطن كافيًا لأن يرفع أمثاله من الحضيض إلى تلك الصورة التي بلغها. وهو في إقامته في القاهرة تنشأ بينه وبين فطومة بنة الشيخ مصطفى علاقة مودة, ولكن فطومة هذه لا تعيره اهتمامًا؛ لأنها وجدت من هو أكثر منه غنى وجاهًا في البيئات الخاصة التي لا يغشاها إلا الشخصيات الكبيرة من مثل محمد باشا خلف ومن مثل الست هدى. وتنتهي القصة بأن يعود سيد بعد كل هذا إلى منى, ويفض ما بين الأسرة البائسة ومحمد خلف الذي كان يريد أن يحصل على كل الثروة عن طريق زواج ابنه محمود من منى. وينجح سيد آخر الأمر في أن يكشف لمنى عن حقيقة شعوره نحوها، وأن يفض ما بين أسرتها ومحمد خلف من علاقة ومن نزاع، وينتهي الأمر بأن يقترن بمنى. وإلى هنا تكون حوادث القصة الرئيسية قد انتهت، فهي كما قلت قصة بسيطة في تكوينها لا تعدو أن تكون قصة لفتى متمرد، يشق طريقه بيده ويلاقي في سبيل ذلك الصعوبات التي قد تصل أحيانًا به إلى السجن، ولكنه مؤمن بقوته ومؤمن بحقه، ولذلك تنتهي فترة جهاده بأن يظفر آخر الأمر بما كانت تهدف إليه نفسه منذ اللحظة الأولى. ولكن هل كان كل همّ الكاتب أن يقص علينا هذه القصة؟ ماذا كان يريد من وراء كل هذا؟ هل يكفيه أن يصور لنا جهاد هذه الشخصية التي عادت آخر الأمر إلى البداية التي بدأت منها, فإذا بنا نجد السيد مديرًا للمحلج في آخر القصة بعد أن رأيناه وزانًا بالمحلج في أول القصة؟ هل كل القصة تجري وراء تصوير هذا الصراع الذي جعل وزان المحلج في يوم من الأيام مديرًا له؟ لو كانت القصة تسعى إلى ذلك لكانت أبعد شيء عن المضمون الذي يبدو أن الكاتب كان يسعى إليه من وراء كل هذه الحوادث. وعبارة "أنا الشعب" لا تتحقق في أن يرتفع وزان المحلج يومًا ما إلى مدير لهذا المحلج،

فمن السهل جدا أن ينقلب هذا الوزان مديرًا وتبقى الأزمة هي هي، وتبقى المشكلة قائمة، ويظل الشعب هو نفس الشعب، بكل أوضاعه وكل أفكاره وتقاليده، أو لنقل: يبقى هذا الشعب كما هو دون أن يحس بشيء من ذلك الوعي الذي أحس به فرد من الأفراد فجأة، يرتقي إلى إدارة محلج بعد أن كان موظفًا صغيرًا فيه. بعبارة أخرى: ليست هذه القصة قصة شعب, ولكنها قصة فرد من هذا الشعب وليست فيها أي رمزية حتى نأخذ صورة هذا الوعي التي تمثلت لنا في شخصية سيد على أنها رمز لوعي أكبر وأكثر امتدادًا هو الوعي الشعبي، وعي الجماهير التي تحس بواقعها المرير, فتحاول جاهدة التخلص منه وإن لاقت في ذلك أكبر العناء حتى تصل آخر الأمر إلى ما تريد. وليست هناك شخصية أخرى تسير في الخط نفسه، فحمادة الأصفر الذي بقي معنا حتى اللحظة الأخيرة في القصة لم يزد على أن أصبح ثريا, وإن كان لا يزال هو حمادة الأصفر البغيض إلى النفس، الكريه الجبان الخبيث الذي ينطوي على نفس منحطة. قد يكون في صداقته وعطفه على سيد شيء من اعتبار أخلاقي، ولكن هذه المسألة لا تغير من واقع حياته شيئًا، فهو على استعداد دائمًا لأن يقف في وجه صديقه هذا لقاء خمسة جنيهات "أيام الانتخابات". إذن فلم يكن حمادة ممثلا للوعي الشعبي، بل لم يكن فيه أقل قدر من هذا الوعي. وكذلك كان مصطفى عجوة، فقد كان ذنبًا من أذناب السيد جلال، هو والشيخ القرش وأمثالهما ممن يعيشون على فتات موائد السادة، ويقنعون بتلك الحياة المهينة لقاء ما يحصلون عليه من دراهم، حتى عبد الحميد عباس الذي كان على درجة من التعليم، والذي كان هو نفسه يعمل بالتدريس، لم يكن فيه الوعي الكافي، وإذا بمهمته في القصة تقتصر على أن يكون رجلا يمد يد المساعدة أحيانًا لأسرة صديقه, حتى إذا بحثنا عن الدوافع لهذا لم نجد ذلك؛ نتيجة لأنه يريد أن يساعد شخصًا مجاهدًا هو سيد وأن يدفع به إلى أمام، ويحمل عنه عبء القيام بشئون الأسرة، ولكنه كان يصنع ذلك في الحقيقة؛ لأنه كانت له رغبة خاصة في هذه الأسرة وهي أن يقترن بمنيرة أخت سيد, فلم يكن يقوم بهذه المهمة الإنسانية إذن لوعي إنساني, بل لرغبة شخصية. أما الشخصيات الشعبية الصغيرة الأخرى، مثل شخصية الشيخ مصطفى، فقد رأيناها شخصية ضائعة تخفي عن الناس حقيقة أمرها، تلك الحقيقة التي تنفر منها كل نفس كريمة. كان الشيخ مصطفى يتجر في المخدرات، وكان هذا سببًا لأن تصل هذه المواد إلى يد ابنته "فطومة" تلك الفتاة الساذجة، وإلى كل الزوار الذين كانت تلاقيهم هذه الفتاة وتقدم إليهم شيئًا من هذه المادة لقاء أجر معين.

كل ذلك فتح نظرها على أشياء غريبة هي من لوازم المجتمع المنحلّ، من لوازم المجتمع الذي يعاني أشد المعاناة، ويحاول الفرار. حاول الكاتب في هذه القصة أن يمس مواطن الفساد المستشري في كل مكان، فامتد إلى جوانب مختلفة من الحياة؛ ليضع أصبعه على موطن الفساد في كل منها. فهو في أثناء سرده للحادثة يصور لنا الفساد في الإدارة الحكومية، ويصور لنا الفساد في نظم الحكم وما يتبعها من اعتبارات سياسية، كقيام الأحزاب وتناحرها على الحكم بكل وسيلة، وما تبع ذلك من انتخابات تزيف فيها الحقائق، وكيف أن هذا كله كان على حساب الشعب الجائع الفقير. ولم يكن سيد هو الشعب في الحقيقة، وإنما كان حمادة الأصفر هو ذلك الشعب الأصفر المريض المعتلّ الفقير الذي يعاني من كل هذا ولا يجد حرجًا في أن ينافق, وفي أن يكذب ليبلغ من وراء كل ذلك لقمة العيش. ولا يقف الفساد عند هذه النواحي, بل يمتد إلى الحياة الاجتماعية؛ حياة القصور وما يجري بداخلها من امتهان للكرامة الإنسانية، ومن مظاهر العبودية التي تذكر بالقرون الوسطى. وكذلك يحدثنا عن الفساد في مواطن أخرى؛ في السجن وفي المستشفى وفي غيرهما من الأماكن التي امتدت إليها حوادث القصة. إذن فقد كانت القصة تتحرك إلى الأمام فتتطور, وتتكون شيئًا فشيئًا، وفي أثناء سياقها يقف الكاتب وقفات يلقي من خلالها الأضواء على تلك الجوانب الفاسدة في حياة الناس وفي المجتمع. بدا هذا منذ اللحظة الأولى واستمر حتى آخر القصة. والحق أننا لم نكن نشعر في جزء كبير من القصة بأن تصوير هذا الفساد أمر مقصود إليه قصدًا مباشرًا، ولكننا نلمحه من بعيد فنفهمه بطريق غير مباشر؛ ولذلك نجح الجزء الأول أو الجزء الأكبر من القصة في أداء هذه المهمة. ولكننا عدنا لنتصور ما صنعه المؤلف في هذا الجزء الناجح بعد أن قرأنا نهاية القصة، فالحقيقة أن هذه النهاية التي ربط فيها المؤلف بين أحداث القصة، أو لنقل بعبارة أصح: بين المواقف المختلفة التي صور فيها فساد الحياة في أثناء سرده للقصة, حين ربط بينها وبين تلك النهاية التي تحققت فيها الثورة المصرية التي نعرفها جميعًا والتي عاصرناها ونعاصرها. وكل ذلك جعلنا نعود لنتصور أن المؤلف لم يصور لنا الحياة الفاسدة تصويرًا عرضيًّا في خلال سرده للقصة، وإنما يخيل للإنسان أنه كان يتعمد الامتداد بحوادث القصة إلى كل مكان؛ حتى يستطيع أن يضع أصبعه على جانب الفساد فيه. وأبرز مثال لذلك حين أصيب سيد بالحمى وهو في السجن, فقد مرض سيد لا لشيء إلا لينتقل إلى المستشفى, وفي انتقاله إلى المستشفى فرصة ولا شك يستطيع الكاتب فيها أن يلمس الحياة في ذلك المكان. وكثير من هذه الجوانب كان

موفقًا؛ لأنه صور فيه الفساد بطريقة غير مباشرة، كان يجعل الموقف جزءًا حيًّا من بنية الحادثة، ويجعله في الوقت نفسه ضرورة منطقية ونفسية معًا، ففي الوقت الذي تستمر فيه أحداث القصة في تطورها الطبيعي يقع القارئ على صور صادقة لتلك الجوانب الفاسدة في حياة المجتمع. وكل هذا يجعلنا ننتهي إلى تصور المهمة التي كان الكاتب يهدف إليها من كتابة هذه القصة، فالهدف واضح، وهو لا يصل إلى أن يكون فكرة أو مجرد وجهة نظر، بل هو أقرب إلى دراسة موضوعية لحياة المجتمع المصري قبل قيام الثورة في 23 يوليو. وقد اعتدنا في الأعمال الفنية التي هي من هذا النوع ألا تقتصر على الماضي بل ربما كانت مهمتها الأصلية هي الامتداد إلى المستقبل، هي شق الطريق وتمهيده للحياة المستقبلية. وقصتنا لم تبرح الماضي، ولم تجاوزه إلى الحاضر، فهي لا تصور لنا شيئًا من واقعنا بعد قيام الثورة، فضلا عن أن تحدثنا عن المستقبل المأمول لحياة المجتمع المصري بعد قيام الثورة. ثم إن ارتباط القصة بالحادثة التاريخية هنا جعلها تجمع بين نوعين من الكتابة القصصية، فهي في جزء كبير منها لا ترتبط أي ارتباط بالتاريخ، ثم هي في جزء آخر على صلة وثيقة بأحداث تاريخية مشهورة معروفة. وهذا معناه أنها ليست تاريخية صرفًا، وليست كذلك قصة ابتداعية بحتًا، بل هي مزيج من اللونين. وهذا الخلط يفقد القصة شيئًا من قيمتها الفنية؛ لأن القارئ يريد أن يعيش في جو واحد، فإما أن يعيش في جو تاريخي على طول الخط، وإما أن يعيش في الجو الذي يخلقه له القصاص في قصته؛ ولذلك يحس كثير ممن يقرءون هذه القصة -أنا الشعب- أن نهايتها لم تكن موفقة؛ لأنها نهاية قصة من نوع آخر؛ نهاية قصة يصور فيها الكاتب حياة الشعب ودبيب الوعي الرشيد في أبنائه، وتطور هذا الوعي إلى حد أن تصل الحركة الشعبية إلى مواجهة الصورة القائمة للحياة، فتثور عليها وينتهي الموقف بانتصارها. هذه قصة أخرى صور منها أبو حديد جزأين، صور منها جوانب الحياة الفاسدة، وصور منها -أو لنقل: سرد منها- قيام الثورة. أما الحلقات التي بين هذه الحياة الفاسدة وبين قيام الثورة فمفقودة. وهي في الحقيقة أهم جزء في القصة؛ لأنها هي القصة ذاتها. فالقصة قصة تطور لوعي اجتماعي، وكان ينبغي أن تعيش القصة مع هذا الوعي الذي يبدأ نتيجة لفساد الحياة، ثم يتطور وينمو وينتشر في الجماهير المختلفة حتى ينتهي بها إلى الثورة. هذا ما كان ينبغي أن يتمثل في قصة تعالج حياة شعب يثور على أوضاع قديمة وتنبعث فيه نهضة جديدة. ولكن قصتنا التي أراد لها المؤلف أن تتحدث باسم الشعب لم تكن في الواقع قصة هذا الشعب؛ ولذلك تقف أهمية هذه القصة كما قلنا

عند مجرد تصوير جزء من حياة المجتمع المصري في وقت من الأوقات، ولكنه في الماضي. والعمل الفني حين يستهدف غاية اجتماعية لا يقف لتصوير الماضي وحده، ولكنه يأخذ على عاتقه شق الطريق أمام الشعوب إلى المستقبل. وقصة "أنا الشعب" لم تقم بشيء من هذه المهمة إلا تصوير الحياة في الماضي, وهي بذلك تمثل النوع الذي سميناه "القصة العصرية" أي: التي تصور حياة مجتمع في فترة خاصة تعد مرحلة تطور في حياته, ولكن هذه القصة لم تصور نشأة الوعي وتطوره في جماعات الشعب حتى تنتهي إلى ثورتها. وكان من الممكن أن يقرن الكاتب قصة الحب التي حكاها بين سيد ومنى بقصة هذا الشعب، على أن تسير القصتان جنبًا إلى جنب في خطين نفسيين متوازيين ومتكاملين في الوقت نفسه. ولكي يبدو أن الكاتب لم ينجح في أن يكتب قصة كفاح الشعب كما لم ينجح في أن يكتب قصة حب تسير متوازية ومتكاملة معها, كان سيد زهير بطل القصتين, وكان طبيعيا في هذا الحال أن يكون الدور الذي تقوم به شخصية هذا البطل، سواء في قصة الكفاح أو في قصة الحب، دورًا يحمل طابعًا واحدًا، بمعنى أنه ليس طبيعيا أن يكون له دور إيجابي ينزع إلى التجديد في أساليب الحياة، وهدم التقاليد، وبناء مجتمع سليم من الآفات, وأن تكون شخصيته في الوقت نفسه تحمل طابع السلبية, وتعيش في نطاق القيود والتقاليد, ويدل دورها دلالة واضحة على أن هذه الشخصية تفتقد الثورة في كامنها, فهي إذن شخصية ثائرة وشخصية غير ثائرة. وكان نتيجة لذلك أن محاولة الكاتب في هذه القصة لربط القصتين، قصة الحب وقصة الكفاح، قد ضاعت سدى؛ لأن قصة الكفاح كان بطلها يمثل اتجاهًا خاصًّا، ونزعة ثورية متميزة، وكان بطل قصة الحب -وهو نفس البطل- يمثل اتجاهًا معاكسًا. وهذا هو السبب في أن القصتين لم تندمجا الاندماج الحيوي الذي كان من الممكن أن يتم لو كان الكاتب رسم شخصية البطل منذ اللحظة الأولى رسمًا كافيًا، واتخذ له خطًّا واحدًا يتمثل في كل موقف، سواء ارتبط هذا الموقف بقصة الكفاح أو بقصة الحب. ومن العجيب أن قصة الحب التي يمكن أن نتحدث عنها هنا لا تحمل إلينا في بابها جديدًا، فقد كان كل المعول في أهمية هذه القصة إذن على تصوير كفاح الشعب، وهو الشيء الذي لا نجد شاهدًا واحدًا عليه من القصة, وكأن حياة الفرد العاطفية شيء لا دخل له في حياته الاجتماعية العامة. وهذا الانقسام إذن جاء نتيجة لتصور الإنسان في حياته العاطفية مستقلا -نفسيا- استقلالا تاما عن جوانب الحياة الأخرى التي يشارك فيها. ولا يبدو هذا التصور مقبولا؛ فالإنسان يفكر بطريقة واحدة، ويتصرف نتيجة لوجهة نظره المتكاملة في الحياة وفي الناس.

وكان يلزم نتيجة لذلك أن تكون شخصية سيد في قصة الحب موازية ومكملة لشخصية سيد في قصة الكفاح. ولم يكن سيد بعد هذا -أو قبل هذا- شخصية شعبية بالمعنى الصحيح، فأسرته من الطبقة المتوسطة برغم أنها فقدت عائلها, وهو حين يطمع في الزواج من منى لا يكون ذلك طموحًا كبيرًا، ولا يكون تحقيقه هدمًا لفكرة الطبقات. فإذا كان قد انتهت قصة حبه بزواجه من منى, فليس معنى ذلك أن هناك عملية كفاح قد تمت للمقاربة بين طبقتين اجتماعيتين تختلفان من حين المستوى المادي والأدبي، فالحقيقة أن الأسرتين متقاربتان، وفي تحقيق هذا الزواج لا يبدو أي كفاح طبقي، ولا أي انتصار شعبي؛ ولذلك تقف قصة الحب في "أنا الشعب" بعيدة عن الكفاح الذي أراد إليه المؤلف، فقصة الحب لا تحمل أي نزعة ثورية، ولا تدل على تقدم في الوعي الاجتماعي، ولا على تحطيم الفروق بين الطبقات. وإذا أردنا أن نتصور النزعة السلبية والانطوائية في شخصية سيد كان علينا أن ننظر بخاصة في قصة الحب التي تخللت "أنا الشعب"، فهو في هذه القصة ينظر إلى الحياة نظرة تدل على شعوره بالضعف إزاء الحياة وإزاء المقادير. وفي أكثر من مرة يتصور الحياة كالدوامة الكبيرة، ويتصور نفسه ملقى فيها وهي تدور به كيفما شاءت، دون أن يعترض تيارها أو يشق لنفسه طريقًا خارجها "ص120" "ص188". وهو كذلك شخص خجول ينكمش في نفسه أمام حديث الفتاة فطومة الساذجة عندما تحكي له عن صلاتها بشهاب أفندي الموظف الذي كان ينزل في بيتهم قبله "ص51، 252، 281، 282". وهناك أكثر من موقف نستشف منه ذلك الجانب الضعيف في شخصية سيد زهير، وكل ذلك ينتهي بنا إلى الحكم على هذه الشخصية بأنها كانت منقسمة على ذاتها، أو لم تكن شخصية متكاملة في ثورتها وفي تقدميتها. ومع أن شخصية سيد زهير لم تكن شخصية شعبية بالمعنى الصحيح, فقد كانت الشخصيات الأخرى تحمل طابع الشعبية ولكنها تفتقد الثورة في كامنها. فحمادة الأصفر، ومصطفى عجوة، والشيخ القرش، والشيخ مصطفى، هذه النماذج الشعبية كانت أفقر النماذج للدلالة على دبيب الوعي في نفوس أبناء الشعب، بل لعلها كانت شخصيات ترمز فحسب إلى مواطن الفساد التي يعاني منها ذلك الشعب، ولكنها لم تكن تحمل في طيها أي نزعة إلى التغيير, وإلى الانطلاق من أوضاعها السيئة. وينجح المؤلف في أن يضفي عليها طابع الشعبية، لا ليستغلها فيما بعد لتكوين الوعي الشعبي وقيام الثورة، ولكنه يصورها فقط ليلقي من خلالها الأضواء على ما يسود هذا الشعب

من أسباب الفساد والانحلال، وقد يبدو لشخص كحمادة الأصفر دور كبير في هذه القصة, ويتضح ذلك من عناية الكاتب به في كل مرحلة من مراحل القصة. ولعله لم يقف لرسم شخصية من شخصيات القصة مثلما وقف لرسم شخصية حمادة هذا. وقد نجح في أن يخلق منه شخصية درامية ممتازة "ص289، 290"، ولكنه برغم نجاحه لم يستغل هذه الشخصية استغلالًا شعبيًّا، فقد جسم لنا فيها ما يسود هذا الشعب من نفاق ومن حياة بائسة, ومن جوع وفقر وسير بغير هدف وحياة بغير أمل، كأن الشعب كله هو حمادة هذا الذي يكسب لقمة العيش من أي طريق، ويعيش يومه لا يفكر في غده، ويقضي حياته تحت رحمة المقادير. وهذا يعد إضافة إلى تصوير حال الشعب قبل قيام الثورة, وكأن الأشخاص أنفسهم قد سخروا في القصة لكي يجسم فيها المؤلف مساوئ الحياة الماضية، فشخصياته سواء كانت من بين أفراد الطبقة الأرستقراطية أو من بين أفراد الطبقة الرأسمالية، أو كانت من بين أفراد طبقة الشعب، كانت وسيلة إلى هدف واحد، هو إلقاء الأضواء على مفاسد الحياة القديمة. ومن هذا يتبين لنا أن القصة من حيث حادثتها وفكرتها وشخصياتها تنتهي إلى هدف واحد، هو تصوير ماضي المجتمع المصري قبل قيام الثورة. يبقى أن ننظر في القصة من حيث بناؤها الفني، ومن حيث لغتها. ويبدو لكل من يقرأ القصة أن الكاتب كان قد وضع تصميم هذه القصة على أساس تصميم من تصميمات كثيرة مألوفة، وهو الربط بين كفاح شعبي وقصة حب. وقد رأينا أنه لم ينجح في أن يصنع تفصيلات هذا التصميم وأن يملأه بالأحداث اللازمة، وأن يحرك الشخصيات المناسبة، فكان تكوين القصة لا يعدو أن يكون حشدًا لأكبر قدر ممكن من المواقف التي يجد فيها الكاتب فرصة لأن يتحدث عن عيب من العيوب. وقد يكون في سياقها نوع من التسلسل المنطقي، ولكنها كثيرًا ما استعانت بعنصر المصادفة في إدخال أحداث جديدة تلزم لإبراز الناحية الثورية، ناحية الكفاح التي ركزها الكاتب في شخصية سيد. ثم إن تركيب الحوادث لم يكن مثيرًا إلى الحد الذي يجعل القارئ مشوقًا دائمًا لأن يستمر في القراءة وتتبع المواقف، ففي أكثر من مرة يحدث الانقطاع بين جزء من القصة وجزء آخر. وهذا يحدث عادة عندما يبحث الكاتب عن مجال جديد ينقل إليه السيد زهير ليبدأ حلقة جديدة من سلسلة كفاحه في الحياة, وأوضح انقطاع هو ذلك الذي تمثل في الخاتمة, وقد أحس الكاتب نفسه بأنها "تشبه خاتمة القصص الروائية". والرداءة هنا في الواقع تأتي من أن الخاتمة لا يربطها بالقصة رباط حيوي، ولكنها تأتي فجأة ودون أي اتصال بما سرد علينا في خلال القصة, بل نستطيع أن نقول: إن القصة

ذاتها كانت قد انتهت عند اقتران زهير بمنى، ولكن هناك قصة أخرى كما عرفنا هي قصة الكفاح التي كان من المفروض أن تسير جنبًا إلى جنب مع قصة الحب. وكأن هذه النهاية التي أحس المؤلف نفسه أنها نهاية رديئة هي النهاية التي كان من المفروض أن يضعها الكاتب لقصة الكفاح التي لم يكتبها؛ ولذلك كان وضع هذه النهاية غريبًا لأنه يرتبط بقصة لم نعرفها، وكل الذي عرفناه منها لا يعدو أن يكون بمثابة المقدمات التي يبني عليها الكاتب حوادث قصته. لقد كان تصميم هذه القصة إذن إلى جانب ما فيه من انقطاعات وانتقالات، يتضمن فجوة هائلة هي بمثابة جسم القصة. وهذا واضح بصفة خاصة حين نتتبع خيوط قصة الكفاح، فنجد كل خيوط السدى ممتدة أمامنا ولكن عبثًا نجد خيوط اللحمة, وكل ما في الأمر أنه امتد مع هذه الخيوط إلى غايتها، ثم وضع لها نهايتها وخيل إليه أنه في أثناء الطريق صنع نسيجًا طبيعيًّا، والحق أنه نسيج مفرغ. معنى ذلك كله أن تصميم هذه القصة ليس تصميمًا حيويًّا متماسكًا، كما أنه لا يقدم إلينا قصة مشوقة تربطنا إليها وتثيرنا، وتضطرنا إلى متابعة حوادثها حتى آخر لحظة، أو بعبارة أخرى ليس في هذه القصة الارتفاعات والانخفاضات النفسية التي يمر بها قارئ القصة الناجحة التصميم، التي تثير فيه التشوق والمتابعة حتى نهايتها، ولكنها أقرب إلى أن تكون موجة واحدة، ولكنها لا ترتفع عن السطح ارتفاعًا كبيرًا؛ ولذلك كانت الحادثة كما قلنا من قبل حادثة بسيطة. وهذا معنى قولنا: إنها حادثة بسيطة، فهي بسيطة من حيث التركيب، وبسيطة من حيث التطور. وإذن فقد فقدت عنصرًا مهمًّا هو ذلك العنصر الذي يثير التشوق في القارئ وهو عنصر التعقيد، فلم يتمثل هذا العنصر في أي موقف من المواقف على نحو يثير القارئ، بل كانت كل المواقف تقريبًا تبدو نهايتها وحلولها قبل أن يفرغ القارئ منها. وحين يتكشف للقارئ ما سينتهي إليه الموقف القصصي فإنه لا يجد دافعًا كبيرًا إلى متابعة السرد حتى يصل إلى ما سبق أن تكشف له. وميزة التعقيد هي أن تتركه دائمًا يحدس في النهاية التي يمكن أن ينتهي إليها الموقف, وبذلك يصبح القارئ جزءًا من صميم الموقف، يتحرك معه، ويتجاوب مع أشخاصه، ويرسم له النهاية التي يتصورها، أو يرسم له في نفسه أكثر من نهاية ثم ينتظر تحقق واحدة منها، وكم تكون دهشته عندما ينتهي الموقف على نحو لم يتوقعه على الإطلاق. هذا من شأنه أن يجدد نشاط القارئ، وأن يجعله دائمًا على اتصال بمواقف القصة وحوادثها، كما ينشئ بينه وبين شخصيات القصة المختلفين أنواعًا من العلاقات والتفاعلات.

ولعل الشخصية الوحيدة التي نجحت في أن تأسرنا إليها نوعًا ما -في هذه القصة- وتحظى بعطفنا عليها وتعاطفنا معها هي شخصية حمادة الأصفر، فقد كنا نلمسه عن قرب في كل موقف من مواقفه، وكان هذا سيضفي على الموقف شيئًا من الحيوية. إن الكاتب ينجح في أن يشركنا مع الشخصية في الموقف، حتى إذا ما ذهب حمادة من الميدان لم نجد بيننا وبين شخصية أخرى من الشخصيات أي نوع من التعاطف؛ ولذلك كنا -في أغلب الحالات- بعيدين بعدًا كبيرًا عن شخصيات القصة، وعما يدور في طواياها من أحاسيس ومشاعر. وهذا من جانبه قد باعد بيننا -أو ساعد على المباعدة بيننا- وبين القصة. وينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى المواقف الخطابية التي تخلَّلت هذه القصة، ففي أكثر من موقف -وبخاصة في بداية الفصول- كان الكاتب يقف وقفات طويلة يتحدث فيها حديثًا مستقلًّا عن الحياة وعن الأدب وعن غيرهما من الموضوعات التي تشغله شخصيا. بل أكثر من هذا، كثيرًا ما ينتهز الكاتب الفرصة في موقف من المواقف لكي يبدأ حملة من الحملات العنيفة بلهجة خطابية قوية على موطن من مواطن الفساد -مثلا- في العهد الماضي. وكذلك يقف موقفه الخطابي حين يحاول الدعوة إلى شيء, وكل هذه المواقف تبدو متميزة عن مواقف القصة. وإذا كان من حق الكاتب أن يبث في قصته أفكاره وخبراته, فإن ذلك لا يأتي على هذا النحو الخطابي، وإنما من الممكن أن يأتي على صورة أخرى فيتحقق في سياق الموقف وسياق القصة بصفة عامة، وإن كان تحققه -في هذه الحالة- تحققًا غير مباشر. ونجاح العمل الفني يرتبط ارتباطًا كبيرًا بأن يفضي إلى القارئ ما يريد الكاتب أن يقوله, أو يدعو إليه بطريق غير مباشر، أما الحديث المباشر، والدعوة الصريحة، والفكرة المستقلة في العمل الفني، فإنها لا تنجح ولا تعمل عملها في نفس القارئ الذي لا يرضى في كثير من الحالات أن يقف منه الكاتب موقف الناصح أو موقف الدليل، هذا من حيث بنية القصة والعوامل التي تشترك في حيوية هذه البنية وأهميتها. أما لغة القصة -وهي المظهر الحسي المباشر لهذه القصة- فلم تكن أغنى من البناء القصصي ذاته، قد يقال: إن لغة القصة كانت من البساطة والوضوح بحيث يستطيع كل قارئ أن يفهمها, وأن يتذوقها عن قرب. وهذا صحيح، ولكن مسألة الكتابة القصصية ليست مسألة لغة سهلة أو صعبة، بل العبرة بحيوية هذه القصة. وكيف تتحقق الحيوية إذن في لغة القصة؟

من المفروض أن الكاتب لا يتحدث في القصة بلسانه الشخصي بل يتحدث على لسان الشخصيات المختلفة التي نصادفها في القصة. وليست المسألة مجرد إجراء للحديث على ألسنتهم، فيكون من الضروري عندئذ أن يتحدث كل شخص بلغته الخاصة وبلهجته الخاصة، ولكن لا بد أن يصحب ذلك اعتبار للمستويات الفكرية، فكل شخصية لها مستواها الفكري، ولها ميدانها الذي يحدد نشاطها الفكري والوجداني؛ ولذلك يلزم أن يراعي الكاتب مستويات شخصياته الفكرية إلى جانب مراعاته للغة هذه الشخصيات ولهجاتها، فلا يجعل شخصية بسيطة تنطق بالحكمة وتتحدث حديث الخبير المجرب، أو تتحدث حديث المثقف أو العالم, وكذلك تأخذ كل شخصية طابعها العام المستقل الذي يميزها عن غيرها كل التمييز. واللغة هي الفاصل الكبير في هذه المشكلة، فعن طريقها تعرف الشخصية، وعن طريقها أيضًا يعرف مستواها الفكري. وكل من يقرأ قصة "أنا الشعب" يلاحظ أن شخصية الكاتب كانت تطغى في كثير من الأحوال على شخصيات القصة، فإذا به ينساها وينسى مميزاتها الخاصة ومستوياتها الفكرية والوجدانية، ويمضي يتحدث هو من خلالها حديثًا إن دل فإنما يدل على مستواه الفكري كما يدل على شخصيته الخاصة، ففي أكثر من مكان يحس القارئ بشخصية الكاتب بارزة أمامه، وكان هذا سببًا في أن ظهرت الشخصيات باهتة غير مميزة؛ لأنها كانت في أغلب الأحوال تستخدم لغة واحدة، وتفكر في مستوى واحد. ولا شك أن نتيجة ذلك كانت أوضح ما تكون في لغة الحوار، فلم يكن حوارًا حيًّا بالمعنى الدقيق؛ لأن الأشخاص لم يكونوا يتمتعون بحيوياتهم الخاصة، وإنما كانوا ينطقون -حين ينطقون- بلسان المؤلف ذاته، فتلاشت من وراء ذلك شخصياتهم أو كادت، وكأنما أصبحت هذه الشخصيات قوالب من الحجارة يحركها الكاتب كيف شاء. لم ينجح أسلوب الحوار إذن في هذه القصة؛ لأنه فضلا عن تقيده بالعربية الفصحى لم يكن يدل دلالة كافية على المستويات الفكرية للشخصيات المختلفة. هذا ما يختص بلغة الحوار، أما السرد فقد كان عاديا لا يكاد يقف عنده القارئ, ولكنه كان من الممكن أن يكون أكثر حرارة وتأثيرًا لو أنه ارتبط بالبناء القصصي ارتباطًا حيًّا. وربما كان ضعف تصميم هذا البناء له أثره في اللغة السردية, وكذلك الأمر فيما يختص باللغة التصويرية. وقد تكون هذه الناحية في القصة أنجح من الأسلوبين الحواري والسردي؛ لأنها كانت تتمتع -إلى حد كبير- بصور فيها كثير من الحيوية، وفيها كثير من الإثارة والتهيئة النفسية، ورسم الأجواء المختلفة لبعض المواقف.

هذه هي قصة "أنا الشعب" من حيث حادثتها وشخصياتها وهدفها، ثم من حيث بناؤها ولغتها. والمؤلف وحده هو الذي يستطيع أن يقول: إن هذا النقد خاطئ؛ لأننا نتطلب منه شيئًا لم يخطر له على بال، ونحاسبه على أشياء لم تثر اهتمامه قط. وعندئذ سيكون جوابنا: إن الكاتب قد كتب ما كتب، والناس يتلقون عمله الفني, كلٌّ بطريقته الخاصة؛ ومن ثم لا يغير من واقع الأمر أن يرى الكاتب نفسه رأيًا في عمل فني له خلاف ما يرى الآخرون.

الفصل الثالث: الفن المسرحي

الفصل الثالث: الفن المسرحي مدخل ... الفصل الثالث: الفن المسرحي كوّن الإنسان لنفسه منذ أقدم العصور معتقداته الدينية الخاصة، وقد كان سعيه وقد أوصله إلى هذه المعتقدات نتيجة لجهده الذي يبذله في محاولته تفهم نفسه وعالمه ومصيره المقدر له بلغة يستطيع هو أن يفهمها. وليست المعتقدات الدينية وحدها هي نتيجة ذلك السعي، فإنه حين ترقى هو والجماعة في الفهم والتفكير ظهرت في المجتمع عادات وتقاليد ومحرمات وقوانين خلقية، وقد كان كل ذلك نتيجة لمحاولة رسم الطريق الذي يهدي الفرد والجماعة إلى الاتجاه الصحيح، ويحميهم من قوى الشر والتخريب. فلما أن اطمأنّ الإنسان إلى طعامه ومأواه، واحتمى من أعدائه، راح يتفهم -مدفوعًا بنفس الغريزة- بعض الظواهر التي هي أقل إلحاحًا. وكانت الفنون الجميلة واحدة من هذه الظواهر؛ فمنذ ما يقرب من ثلاثة قرون أو يزيد كان الإنسان يسأل نفسه: ما الفن؟ وهو ما زال حتى اليوم يردد السؤال نفسه. حقًّا إن أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد كتب عن فن المسرح "الدراما" في كتابه فن الشعر "البويطقيا Poetics" دراسة شاملة، ولكن ليس هناك ما يدل على أن مشكلة طبيعة المسرحية وبنائها وهدفها قد حلت حلًّا كافيًا, وما يزال الكُتّاب -ولا يكاد يحصيهم العد- منذ أرسطو حتى اليوم يتناولون الموضوع بالدرس.

الحوار والصراع والحركة

الحوار والصراع والحركة: ونحب هنا أن نبدأ من المكان الذي لم يعطه أرسطو عناية كافية، وهو "الحوار" وذلك أن المسرحية تشترك مع القصة في اشتمالها على الحادثة والشخصية والفكرة والتعبير، ولا يميزها تمييزًا واضحًا إلا طريقتها في استخدام أسلوب الحوار بصفة أساسية. وأقول بصفة أساسية، لأن القصة تستخدم هذا الأسلوب "أحيانًا" بجانب استخدامها الأسلوب السردي والأسلوب التصويري، في حين أن المسرحية لا تستخدم سوى ذلك الأسلوب، وسواء أكانت المسرحية ممثلة أم مقروءة فإن الحوار هو الأداة الوحيدة للتصوير. الحوار هو المظهر الحسي للمسرحية، والمظهر المعنوي لها هو "الصراع". "و"كلمة" "دراما" تعني صراعًا داخليًّا"1. وهذا لا يقل في جوهريته بالنسبة لفن المسرحية عن

_ 1 Jean Beraud: Jnititaion a I' Art Dramatique., Varietes Montreal 1936. p. 57.

الحوار، والصورة العامة التي يتمثل فيها الصراع هي صورة الصراع بين الخير والشر. وليست المشكلة دائمًا هي مشكلة الخير والشر المطلقين، ففي الحياة صور لا حصر لها لهذين المعنيين المطلقين، ولا تكاد تفرغ الحياة كل يوم من صورة هذا الصراع، سواء بين أشخاص وآخرين حول مبدأ، أو بين الشخص ونفسه حول فكرة أو نزعة. ومن ثَمَّ يرتبط المسرح بالحياة أشد الارتباط؛ لأنه يتصل اتصالًا مباشرًا بمشكلات الحياة التي تقع بين الناس, أو تتمثل في النفس الإنسانية. فالحوار والصراع إذن هما الخاصتان الفنيتان اللتان تميزان فن المسرحية. ولا بد أن يرتبط هذان العنصران بطبيعة الحال في العمل المسرحي، فلا يكفينا من الحوار أن يأخذ صورة سؤال وجواب بين شخص وآخر، ولكننا ننتظر في المسرحية الحوار الذي ينقلنا إلى الحياة؛ الحوار الذي يجعلنا نتمثل الأشخاص في أزماتهم وصراعهم كما نتمثل الأفكار؛ الحوار كما يقع في الحياة بين الناس. إن محاورات أفلاطون تصلح كل الصلاحية للقراء المنفردين الجالسين إلى دراساتهم أو في الحدائق تحت شجر الزيتون، ولكنها لا تصلح للجماهير؛ لأن الجماهير "حتى جماهير "المفكرين"" سوف يستغرقون في النوم أو يعودون إلى منازلهم إذا هم دعوا لمشاهدة ممثلين يلقون الأحاديث الطويلة الصعبة لسقراط1 أو ألسبياد Alcibiades, تلك الأحاديث التي لا يصل منها إلا ما كان قريبًا من المنطق أو الحق، والتي لا يمكن أن تمتع إلا العقل المتأمل المهيأ تهيئة كافية لاستقبالها. بعبارة أخرى فإن مادة محاورات أفلاطون تخلو خلوًّا كبيرًا من الحركة action والعاطفة emotion. وقد عرف كتاب المسرحيات الإغريق أن المتفرجين لا يستطيعون أن يستجيبوا مدة طويلة لشيء سوى الحركة والعاطفة2. ومعنى هذا أن المسرحية لا يكفي فيها أن يوجد أشخاص، وأن يتحدث هؤلاء الأشخاص بعضهم إلى بعض، فإن الحديث وحده يدعو إلى الملل، وسرعان ما يتلهى عنه المتفرج، والذي يأسره إلى المتابعة اليقظة هو هذه الحركة التي يمثلها هؤلاء الأشخاص، والتي تموج بها خشبة المسرح، وتلك العاطفة التي توجّههم في حركتهم كما تتمثل في أحاديثهم. ومعنى هذا أن المسرحية لا يتم وضعها الفني الحقيقي إلا حين

_ 1 Scorates "470-399 ق. م": فيلسوف يوناني، يعد هو وأفلاطون وأرسطو واضعي أسس الفلسفة الغربية. 2 Barrett H. Clark: The Drama and Theater., in, the Enoyment of the Arts, Chapter VII, pp. 207-8.

تمثل على المسرح1؛ لأنها بذلك ستستفيد من وضعها على المسرح أن يشاهد المتفرج الحركة بعينه، ويحس بالعواطف التي توجهها، وهو بذلك ينتقل إلى أن يصبح كأنه واحد من أولئك الممثلين الذين يتحركون أمامه. هذه النظرية تحتم أن تكون هناك علاقة بين المسرحية وبين أداء الممثلين لها في المسرح وأمام المتفرجين؛ وهي نظرية لها قوتها ولا شك، ولعلها تكاد تكون قاعدة يعتمد عليها كل ناقد مسرحي. ولكننا نجد نظرية مقابلة تضع أساسًا آخر للنقد المسرحي يقول بها الناقد أشبنجارن J. E. Spingarn حين يقرر أن "كاتب الفن المسرحي لا يحاسب على أساس غير الأساس الذي يحاسب به أي فنان مبدع آخر، وهو: ما الشيء الذي حاول أن يعبر عنه، وكيف عبر عنه؟ "2. وقد راح أشبنجارن يقتبس من أرسطو في كتابه "فن الشعر Poetics" عبارات يعزز بها نظريته، فنقل عنه قوله: "يمكننا أن نتأكد من أن قوة التراجيديا يمكن الإحساس بها بعيدًا عن التمثيل والممثلين". وكذلك "ينبغي أن يكون بناء الحوادث بحيث يجعل المستمع إلى القصة حين تروى -ودون مساعدة العين- يرتجف هلعًا، ويذوب شفقة لما هو واقع". وأخيرًا قوله: "إن التراجيديا -كالشعر الملحمي- يمكن أن تحدث أثرها بغير الحركة action، فمجرد القراءة يكشف عما بها من قوة"3. وهنا يظهر التناقض، فنظرية تقول بلزوم المسرح والممثلين والمتفرجين حتى تأخذ المسرحية وضعها الفني الكامل، وحتى تنكشف قوتها الكاملة في خلال التمثيل والحركة التي يقوم بها الممثلون على المسرح، والتي تتمثل كذلك في أحاديثهم، ونظرية تقول بأن هذه العلاقة بين المسرحية وبين المسرح والممثلين والمتفرجين علاقة عرضية، وأن المسرحية مسرحية بغير هذه الأشياء، وأنها تستطيع أن تحدث أثرها الفني المنشود, دون الاعتماد على شيء سوى القراءة. وينتهي "كلارك" من هذا التعارض بأن الشخص العادي حين يذهب إلى المسرحية ويعجب مثلا بمسرحية "ماكبث" لشكسبير, فإنه في الحقيقة -حين نسأله عن سبب ارتياحه- قد وجد متعة لا في جمال لغة شكسبير, ولا في الآثار المسرحية ولكن في الموسيقى والرقص. ويقول:

_ 1 انظر: T. S. Eliot: Points Of View, p 61. 2 Clark: op. cit., p. 210. 3 المرجع نفسه.

"إن فنون الرقص "الباليه Ballet" والمسرحيات الصامتة Pantomime غالبًا ما قامت دون أي مساعدة من الشاعر المسرحي؛ لأنها لا تعتمد على الكلمة المنطوقة، وكذلك لا تعتمد -إلى حد كبير- على القصة، بل تعتمد على الميل الحسي إلى اللون والموسيقى وحركات الرجال والنساء الرشيقة في أزيائهم الجميلة المثيرة، هذا فضلا عن المنظر المسرحي؛ ففن المسرح يمكن أن يكون -حتى حين يخلو من المسرحية drama- غاية في ذاته تمامًا, كما يمكن أن تقوم المسرحية دون مساعدة المسرح"1. ونحن لا يعنينا هنا من مسألة العلاقة بين المسرحية والمسرح والممثلين والمتفرجين إلا ما يمكن أن يكون من أثر لهذه الثلاثة الأخيرة على المؤلف حين يختار مادته، وحين يعمل في هذه المادة، أو حين يحاول إخراجها فنيا في إطار مسرحي.

_ 1 نفسه ص213.

علاقة المسرحية بالمسرح

علاقة المسرحية بالمسرح: وقبل أن نمضي في بحث ذلك ينبغي الالتفات إلى بدهية تؤكد لنا ما بين المسرحية والمسرح من علاقة. فحين نسأل المؤلف -كما يريد أشبنجارن- ماذا صنع؟ ويقول: إنني صنعت مسرحية، فإنه يعني في هذه الحالة أنه لم يكتب قصة أو قصيدة أو ملحمة. بعبارة أخرى فإنه لم يعتبر فيما صنع الأصول الفنية العامة للقصة أو القصيدة أو الملحمة، بل قيد نفسه بأصول أخرى، أو لنقل: بإطار فني آخر هو الإطار المسرحي. وإذا نحن نظرنا إلى الإطار وجدنا اعتبارات خاصة بالمسرح ذاته لها أثرها في توجيه الكاتب, من ذلك الزمان وإمكانيات المكان، فالكاتب -في العصور الحديثة على الأقل- أصبح مقيدًا بسويعات محددة في المسرح لعرض مسرحيته لا يستطيع أن يتجاوزها. وهذا الزمن المحدد كان له أثره في بناء المسرحية ولا شك؛ لأنه يريد في خلال هذه المدة المحدودة أن يعرض أشياء كثيرة، وهذا الحد الزمني له أثره في أنه سيستبعد بعض الأشياء اعتمادًا على أن بنية المسرحية تستطيع أن تستغني عنها, وهذا معناه أن البنية لا بد أن تكون مركبة تركيبًا خاصًّا. ومن هنا وصلنا إلى وضع حد لفصول المسرحية، في الوقت الذي تركنا فيه فصول القصة مثلا دون تحديد. هناك المسرحية ذات الفصل الواحد، ولكن هذا النوع ليس ما نتحدث عنه هنا، كما أننا لا نعني القصة القصيرة، ولكن المسرحية التي نعنيها هي المسرحية ذات الفصول، وقد أصبح من المتواضع عليه ألا يقل عدد هذه الفصول عن ثلاثة1 وألا يزيد على خمسة، وفي حدود هذا العدد من الفصول ينسق المؤلف بناء مسرحيته، فإذا كانت ذات فصول ثلاثة فإنه يجعل الأول منها لعرض الشخصيات

_ 1 ضمن موجات التجديد المعاصرة ظهرت مسرحيات كثيرة من فصلين.

والمشكلة، والثاني للأزمة، والثالث للحل والنهاية، وإذا كانت من فصول أربعة فإنه يعرض الشخصيات وبداية خيوط المشكلة في الأول، ثم يمضي بأطراف تلك الخيوط ينسج منها المشكلة كاملة في الثاني، ثم الثالث، فالرابع. وعلى كل حال, فإن هذا التقسيم الشكلي الواضح في الإطار المسرحي لم يفرضه -فيما يبدو لي- سوى تقيد المؤلف بزمن محدد. إن "شاعر الربابة" عندنا لم يحتج إلى أن يقص قصة أبي زيد الهلالي في فصول محددة العدد كهذه؛ لأن المتفرجين والمستمعين في المكان الذي يجتمعون فيه لا تحدهم حدود، وهم يستطيعون أن يسهروا معه حتى مطلع الفجر. فالارتباط إذن بزمن معين لعرض المسرحية على الجمهور في المسرح كان له أثره في توجيه البناء الفني للمسرحية ذاتها. وإذا لم ترتبط المسرحية بهذا الزمن المحدد لما كان هناك ما يدعو إلى تحديد هذه الفصول -كما ينتهي إلى ذلك كلارك- فما الذي ما يزال يقيد المؤلف المسرحي بهذه الحدود البنائية في مسرحية تقرأ, أو يستمتع بقراءتها؟ وكما كان لحدود المسرح الزمنية أثرها فكذلك كان لإمكاناته المكانية -من ناحية أخرى- أثرها في اختيار المواقف والأحداث. فخشبة المسرح لا تتسع مثلا لجيشين متحاربين، وعندئذ يضطر المؤلف المسرحي إلى إدارة المعركة خلف الأستار، ولا يظهر أمام الناس إلا ما يدل على النتيجة، وكذلك هناك أحداث ليس من السهل على الممثل أداؤها أمام المتفرجين، فأوديب مثلا لا يفقأ عينيه أمام المتفرجين، ولكنه يدخل إلى المسرح متخبطًا في مشيته, والدم يسيل من عينيه. فارتباط المسرحية بإطار فني خاص أثر من آثار ارتباط المؤلف المسرحي ذاته, هذه هي البدهية. وقد يضاف إلى ذلك أن تصور المؤلف للمسرح الذي ستمثل فيه المسرحية، وخصائص هذا المسرح بالذات، البنائية وغير البنائية، له أثر في دقائق التأليف ذاته. ولا شك أن المسرحية الإغريقية كانت أنسب مسرحية لشكل المسرح القديم الذي كان معدا في الهواء الطلق، والذي كان يتسع لعدد يتراوح بين ثلاثين وأربعين ألفًا. أما في العصور الحديثة فقد تغير شكل المسرحية تغيرًا جوهريًّا، وأصبح العرض المسرحي لا يشهده سوى ألف أو أقل قليلا. وهذه التغييرات المكانية لها اعتبارها عند المؤلف ذاته, فتصوره للمكان له اعتباره عندما يمضي في عملية بناء المسرحية. وهذا يؤكد مرة أخرى تلك البدهية السابقة. وقد كفانا عرض هذه البدهية مئونة بحث العلاقة بين المسرحية والمسرح ذاته.

المسرحية الفلسفية

المسرحية الفلسفية: على أن هناك نوعًا من الكتابة المسرحية ينزع نزعة فلسفية تأملية, وعندئذ يكون من الصعب فهم المسرحية ممثلة، ويكون من الأجدى قراءتها. وهذا هو النوع الذي يتفق ووجهة نظر أرسطو في أن المسرحية يمكن أن تقوم بغير تمثيل ولا ممثلين. وفي هذه الحال ما زال الحوار يلعب دورًا خطيرًا. إن المسرحية المقروءة تفقد القارئ فرصة مشاهدة الحادثة "تقع"، أي: الحركة, والحركة هي العنصر الثالث الجوهري في العمل المسرحي، وهو يتعاون مع العنصرين السابقين "الحوار والصراع" ولا يقل عنهما أهمية. ويمكن أن يقال: إننا حين نقرأ المسرحية إنما نستغني عن عنصر فني مهم هو الحركة. وهذا صحيح إلى حد ما؛ ذلك أن الحركة تتمثل في أذهاننا من خلال اللغة، ومن خلال الحوار، فالحركة على خشبة المسرح حركة عضوية وذهنية في وقت معًا, وهي في المسرحية المقروءة حركة ذهنية فحسب, وقد سبق شرح ذلك في عنصر "السرد" في الفصل السابق. ومعنى هذا أننا في المسرحية المقروءة نفتقد حيوية الحركة العضوية التي يقوم بها الممثلون ونستعيض عنها بحركة ذهنية تتمثل لنا من خلال الحوار المكتوب, وهذا يقتضي بالضرورة حيوية ذلك الحوار. والحيوية في الحوار تتحقق بما يصاحب الأداء من حركة عضوية، أو القراءة من حركة ذهنية، وكذلك حين يرتبط الحوار بالشخصيات فيدل عليها من حيث وضعها الاجتماعي، ومستواها الفكري والخلقي، ومثلها في الحياة. فالحوار قبل كل شيء لغة الأشخاص أنفسهم، أو هو لغة المؤلف التي كان من الممكن أن تتحدث بها الشخصيات بذاتها. ومن حديث الشخص نستطيع أن نعرف عنه كل شيء.

لغة المسرح بين الشعر والنثر

لغة المسرح بين الشعر والنثر: وهنا نكون قد وصلنا إلى مشكلة مهمة في حياة المسرح هي: بأي لغة تكتب المسرحية؟ ذلك أن المسرحية "التراجيديا بصفة خاصة" كانت تكتب شعرًا "والمسرح المصري قد عرف الشعر المسرحي في مسرحيات "شوقي" وما زال حتى اليوم يعرفه في مسرحيات "عزيز أباظة" وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وغيرهم" وهي الآن تكتب في الغالب نثرًا. ولكن الناس الآن لا يتكلمون في حياتهم اللغة الفصيحة؛ ولذلك وجدت الدعوة إلى أن يكون الحوار باللغة التي يتكلمها الناس. وقد شغلت مشكلة الفصحى والعامية مواسم أدبية فيما سبق. ومنذ بضع سنوات أدلى إلي رائد "الحوار" في الأدب العربي الحديث الأستاذ "توفيق الحكيم" برأيه -وهو عندي الرأي الوجيه في هذا الإشكال- فقال: "إن كل قيد يقف أمام الفنان ويحول بينه وبين حرية التعبير وصحة الأداء يجب أن يحطمه دون أن يحفل بشيء أو أحد. فإذا شعر فنان بأن تعبيره لن يكون كاملًا ولا نابضًا ولا حيًّا، وأن أداءه لن يكون سليمًا ولا كاملًا إلا باستعمال أسلوب من الأساليب, فإنه يتحتم عليه أن يستخدم هذا الأسلوب. أما في المسرح فالأمر أكثر وجوبًا على المؤلف، فالقراءة قد تجعل من السهل على القارئ

أن يترجم لنفسه لغة الأبطال، ولكن المسرح لا يتيح للمشاهدة فرصة التأمل، بل هو يتلقى كلام الأبطال مباشرة من أفواههم، فكل تنافر بين مظهر الأبطال على المسرح واللغة التي ينطقونها يحدث في الحال شعورًا باختلال الصورة الفنية في الذهن؛ لذلك كانت الروايات المسرحية التي تمثل أشخاصًا أجانب في المكان، أو الروايات التاريخية أو الأسطورية التي تمثل أشخاصًا أجانب في الزمان، لا بأس في جعل لغتها فصحى أو شعرية لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه المشاهد. أما إذا شعر المشاهد أن الأشخاص يتفقون معه في الزمان والمكان فلا بد حتمًا عندئذ من أن يتكلموا اللغة التي تفرضها عليهم حياتهم الحقيقية الواقعية في الزمان والمكان"1. هذه العناصر الثلاثة "الحوار، الصراع، الحركة" هي العناصر الجوهرية التي تميز فن المسرحية عن غيره من الفنون الأدبية. ومن الواضح أن المسرحية تشترك مع القصة في أنها تستغلّ عناصر القصة من حادثة وشخصية وفكرة. والواقع أن كل مسرحية تشتمل على قصة, إنها قصة غير مسرودة ولكنها ممثلة كما تحدث في الواقع. و"وحدة الموضوع" التي يتحدث عنها النقاد ليست تعني عند أرسطو -أول من نادى بها في المسرحية- سوى وحدة القصة unity of action التي تصورها المسرحية.

_ 1 مجلة الثقافة، العدد 732 سنة 1952، ص7.

الإطار المسرحي

الإطار المسرحي: ولكن برغم هذا الاشتراك فإن المسرحية تختلف عن القصة في استخدامها هذه العناصر؛ ذلك أن الإطار المسرحي الخاص يفرض على المؤلف المسرحي طريقة خاصة لبناء الحادثة وتكوينها. ويكفي أن نذكر هنا أن كاتب القصة يستطيع أحيانًا أن يستطرد، وقد يستهلك فصلا بكامله في هذا الاستطراد، دون أن يؤثر هذا على الحادثة الأساسية، بل قد يكون مفيدًا لها. أما المسرحية فهي "لا تسمح بالأشياء الجانبية التي ربما أبعدت ذهن المتفرج عن الحادثة الرئيسية. إن هناك مكانًا يسمح به للوقائع ذات الأهمية الثانوية بجانب تطور المواقف الدرامية أو فيه، ولكنها يجب دائمًا أن تشارك في حركة القصة، سواء بأن تزيد من التعريف بشخصية من الشخصيات، أو بأن تبعث دوافع جديدة للقرارات التي ستتخذها الشخصيات"1. وما يقال عن الحوادث الجانبية يقال عن الشخصيات الجانبية من حيث ضرورة ارتباطها بالحادثة الأساسية، وضرورة دورها في بناء هذه الحادثة. إن الإطار المسرحي إطار ضيق، وهو كذلك إطار محكم؛ ولذلك تصعب الكتابة المسرحية حتى إننا لنجد بجانب كل مائة كاتب قصة كاتبًا مسرحيًّا واحدًا. والحق أن

_ 1 Jean Beraud: Initiation a l' Art Dr., p. 54.

الكتابة المسرحية تحتاج إلى نضوج فني خاص يتحقق في مرحلة مزاولة الكتابة القصصية. وفي القصة يرسم الكاتب شخصياته بأن يصفها من الناحية الشكلية aspect physique كما يصفها من ناحيتها الأخلاقية aspect morale وهذا يساعد على تمثيل الشخصية وفهمها. أما في المسرحية فالشخصية أمامنا، ولا سبيل إلى رسمها عند الكاتب سوى أن يحركها وأن ينطقها، على أن تصدر عنها كل حركة وكل كلمة في كل موقف من المواقف بحيث تأتلف في رسم الشخصية مع غيرها من الحركات والكلمات, وأنا أسمي ذلك "وحدة الشخصية". وهذا لا يمنع نمو الشخصية مع نمو المسرحية، تمامًا كما يحدث في القصة. فالصعوبة في رسم الشخصية المسرحية تأتي من أن الكاتب مضطرّ لأن يحرك الشخصية أمامنا، وأن يخلق لها مجالات تتصرف فيها تصرفات خاصة، وأن يجري على لسانها الحديث في مناسبات معينة حتى نتعرفها، على أن يكون كل ذلك داخلًا في صميم المسرحية ذاتها. ولا تنس أن طريقة المؤلف المسرحي في رسم الشخصية هكذا تكون -حين تنجح- أكثر تأثيرًا من طريقة كاتب القصة، كما أنها تربط بيننا وبين الشخصية برباط قوي. أما الفكرة فإنها لازمة لكل مسرحية، في الوقت الذي لا تلزم فيه الفكرة في القصة إلا في القصة الدرامية. ومنذ اللحظة الأولى ظهرت المسرحية لتصور موقف الإنسان والطبيعة من الخير والشر. وقد تصور الصراع بين الإنسان والطبيعة، كما قد ترتبط بمشكلات الحياة اليومية, ومن هنا أمكن الحديث عن مسرحيات فكرية وأخرى اجتماعية. والمسرحية قد تستغل التاريخ كما تستغل الأسطورة، وقد تستقل عنهما. أما المسرحية الاجتماعية فهي قد تستغلهما أحيانًا لتلقي من خلالهما الأضواء على مشكلات الحياة الراهنة، أخذًا بفكرة أن التاريخ يعيد نفسه.

الأنواع المسرحية

الأنواع المسرحية: والمسرحية تنقسم إلى: "كوميديا" و"تراجيديا" أو "ملهاة" و"مأساة". وقد كانت الملهاة تتميز بتناولها الشخصيات غير المهمة، واهتمامها بشئون الحياة العامة، وعلى العكس من ذلك المأساة، فهي تتناول الشخصيات العظيمة. بدأت بالآلهة عند الإغريق، ثم بأبطال من البشر هم في الحقيقة أنصاف آلهة، ثم صار الإنسان هو البطل، وبخاصة في عصر النهضة، حين كان يظن أن الإنسان مركز العالم ولكنه ظل الإنسان الممتاز، كشخصيات الملوك والأمراء. حتى إذا ما تزعزعت تلك العقيدة ذهبت معها فكرة البطولة، ولم تعد البطولة تستخدم إلا لتدل على الشخصية الرئيسية في المسرحية، كما تتناول الموضوعات العالمية البالغة الأهمية. أما في العصور الحديثة فيقوم التفريق بين الملهاة والمأساة على أساس من فكرة "النهاية السعيدة" ففي الملهاة تتحقق النهاية السعيدة، أما النهاية المميزة للمأساة فهي هزيمة البطل أو موته في العادة.

وحينما كانت المأساة ترتبط بالشخصيات ذات المكانة العالية أو الأهمية, ظهر نوع خاص أطلق عليه اسم "المأساة البرجوازية" أو مأساة الحياة العامة. وينبغي أن نذكر أن المأساة بمعناها الصحيح إنما تتمثل عند كتاب الإغريق بالذات مثل "سوفوكليس"1، حيث يصور صراع الإنسان في اختياره بين المقادير والدافع الأخلاقي، بعكس "يوربيد"2 الذي كان متشائمًا يرى الحقيقة في جوهرها في الشر، ولا يرى قيمة للصراع، ولم يتحقق المعنى التراجيدي فيما بعد، وإن ظهرت مسرحيات كثيرة تصطنع الجدية والخطورة. وبعض النقاد يؤكدون أن المأساة لم تعد ممكنة؛ لأنها تتطلب إيمانًا بالإنسان ومستوًى مسلمًا به من القيم، كلاهما قد هدمه العلم. ومع ذلك فهم يرون أن المأساة تحتاج إلى شاعر عظيم, وربما ظهر. أما الملهاة فيمكن تقسيمها بسهولة إلى ثلاثة أنواع: ملهاة الأخلاق comedy of manners، والملهاة الرومانتيكية، والفارص farce. والأولى من شأنها أن تحمل على الأوضاع المألوفة في الحياة المعاصرة، كمسرحيات "برناردشو"3. وكما أن هذا النوع قريب من القصة فكذلك الملهاة الرومانتيكية قريبة من الرواية، فهي تتناول جوانب من التجربة لا يألفها الناس كثيرًا وتعالجها معالجة أقرب إلى العطف عليها منها إلى أن تحمل عليها. وعند شكسبير يتمثل هذا النوع، وهو غير مزدهر في العصور الحديثة. أما الفارص فهي تقوم على الحركة المسلية، وفيها تهمل إثارة الحبكة ورسم الشخصية إهمالًا صريحًا. "ينظر إلى الفارص أحيانًا على أنها ملهاة منحطة، وأن الملهاة التي تقوم على رسم الشخصية هي الملهاة الراقية". وبجانب هذه الأنواع الرئيسية هناك أنواع مختلفة مختلطة أو غير محددة يجب أن تلاحظ. فهناك الملهاة الباكية "Tragi-Comedy" وهي مزيج من المأساة والملهاة، وهي نوع مسرحي ازدهر خلال السنين الأولى من القرن السابع عشر. وهي في أوج ازدهارها قد انقسمت إلى نوعين عامين: أما النوع الأول فقد كانت فيه القصة جادة، وهي تتحرك نحو نهاية مأساوية، حتى إذا كان المشهد أو المشهدان الأخيران من المسرحية إذا بالحوادث تنتهي إلى نهاية سعيدة أو كوميدية. أما النوع الثاني فيتمثل في المسرحية التي يمتزج

_ 1 Sophocles "496-406 ق. م": مؤلف مسرحي يوناني، يعد أعظم المسرحيين التراجيديين في الأدب اليوناني القديم. كتب حوالي 113 مسرحية لم يصل إلينا منها إلا سبع. 2 Euripides "484-406 ق. م": كاتب مسرحي يوناني، وضع نحوًا من 92 مسرحية، وصل إلينا منها القليل. 3 جورج برناردشو George Bernerd Show "1856-1950": كاتب مسرحي إنجليزي أيرلندي المولد، تزخر آثاره بالفكاهة المرة والسخرية.

العنصران التراجيدي والكوميدي خلالها، فالحادثة الرئيسية جادة ولها إمكانات مأساوية برغم أنها تنتهي نهاية سعيدة, وكذلك تتضمن أشد المشاهد جدية عناصر كوميدية تتعارض أحيانًا تعارضًا حادًّا مع النغمة الحزينة الرئيسية. وينبغي الانتباه إلى أن العناصر الكوميدية في "الملهاة الباكية" أجزاء أساسية من المسرحية، فهي تختلف عن المواقف الكوميدية التي تستخدم أحيانًا في المأساة للتخفيف من وقعها حتى لا يضجر المتفرج، وكذلك لتقوي أثر العواطف المأساوية عن طريق التقابل. ومن الأنواع المسرحية كذلك "الميلودراما Melodrama" وهي في الأصل تعني المسرحية الموسيقية music-drama، وهو لفظ يستخدم استخدامًا غير محدد إلى حد ما؛ ليدل على ما يمكن أن يسمى بالفارص الجادة، وهي مسرحية تعتمد على الوقائع أكثر من اعتمادها على الشخصية، وتميل لا إلى المعنى الكوميدي بل إلى العواطف الحادة. وهناك أيضًا نوع يسمى "الماسك masque"، وهو ليس مسرحية ولكنه شيء يشبهها. إنه نوع من الاحتفال الذي قد يحدث في الهواء الطلق. وقد ازدهر في إنجلترا في خلال القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، وهو يرتبط بصفة خاصة بحفلات "عيد الميلاد". وهو يجمع بين الحديث العاطفي والحوار والملابس والمناظر والموسيقى والرقص، ولكن بحيث يربط بينها جميعًا قصة بسيطة في طبيعتها، ورمزية في مدلولها، وقد كانت هذه الحفلات تقام في بلاط الملوك، ويقوم بالأدوار فيها النبلاء ورجال البلاط أنفسهم، وحين ازدهر هذا النوع اجتذب إليه أحسن الكفايات في الموسيقى والمسرح والزخرفة، ولكن هذه الحفلات كانت تتكلف نفقات باهظة. وقد انتهى كل ذلك بمجيء الطهريين1 Puritans. وأشهر كتاب هذا النوع هو "بن جونسون2 Ben Jonson"، وأشهر"ماسك" هي التي ألفها "ملتن" بعنوان Camus. هذه هي الأنواع المسرحية المختلفة, وقد ظهرت عندنا منها المسرحية الشعرية التي تصور مأساة تاريخية، كمسرحيات شوقي وتلميذه عزيز أباظة، كما ظهرت المسرحية الفكرية التي يتناول فيها الكاتب الصراع والمشكلات الإنسانية الكبرى، كمسرحيات توفيق الحكيم الأسطورية، وكذلك ظهرت المسرحية الاجتماعية التي تتناول مشكلات وقتية، وتقدم صورة للمجتمع، ونظرًا لأن هذا النوع تنشره الصحف أحيانًا فقد كانت المسرحية ذات الفصل الواحد One-act Play هي أصلح إطار لهذا الغرض.

_ 1 البيوريتانيون جماعة بروتستانتية في إنجلترا في القرنين 16، 17، طالبت بتبسيط طقوس العبادة، وبالتمسك الشديد بأهداب الفضيلة. 2 Ben Jonson "1572-1637": يعد أعظم كتاب المسرح في عصره بعد شكسبير.

مسرحية "غروب الأندلس" دراسة تطبيقية: وفيما يلي دراسة ونقد لمسرحية تمثل النوع الأول. أما المسرحية فهي "غروب الأندلس"، وأما المؤلف فهو الشاعر عزيز أباظة, وتمثل له في هذا الموسم بدار الأوبرا مسرحية كتبها أخيرًا عن "شهريار"1. ومسرحية "غروب الأندلس" مسرحية تاريخية تستمد حوادثها ووقائعها من التاريخ, وكذلك كانت شخصياتها هي الشخصيات التي ارتبطت بهذه الفترة التاريخية، وهي كما نعلم الفترة التي انتهى فيها حكم العرب لإسبانيا بعد أن كان حكمًا عريضًا وملكًا واسعًا، وانقسم العرب في إسبانيا إلى طوائف واستقلت كل طائفة بجهة من الجهات، وأقامت لها فيها إمارة، وأخذ الأمراء يتنافسون ويحاربون بعضهم بعضًا فأضعفت الفرقة من شوكتهم، وأتاحت الفرصة للإسبان أن يقووا وأن يحملوا على ملك العرب ليعيدوه مرة أخرى إلى حوزتهم, ويردوا هؤلاء الغزاة. والمسرحية تصور لنا انهيار الحكم في غرناطة، وهي أكبر إمارة في ذلك العهد. وقد حاول الكاتب أن يجعل مسرحيته صورة لحياة الأمم في الفترة التي يؤذن الحكم فيها بالانهيار، وهي الفترة التي يستبد فيها الحاكم وينصرف إلى ملاهيه وملذاته، ويترك القيادة إلى الضعفاء أو النساء يصرفن الأمور كيف شئن، هذا فضلا عن إهمال هؤلاء الحكام العابثين حقوق الشعب, والعمل على رفاهيته وقوته. وهناك عوامل كثيرة في الواقع تتدخل في انهيار الأمم وتكون سببًا مباشرًا لما يجتاحها من ثورات، أو تنتهي إليها حياتها من انحلال واضمحلال. وقد كانت مصر في ذلك الوقت الذي كتب فيه المؤلف مسرحيته تعاني كثيرًا من الأزمات التي مصدرها عبث الحاكم واختلاف آراء الناس وتفرقهم شيعًا وأحزابًا، إلى غير ذلك من العوامل التي كانت سببًا في انتكاس الحياة المصرية في ذلك العهد، وقد لمس الكاتب شبهًا بين ظروف الحياة في مصر في ذلك العهد وبين تلك الأحداث المريرة التي مرت بها إمارة غرناطة في تلك الفترة التاريخية التي صورها لنا، ومعنى ذلك أن المسرحية لم تأخذ على عاتقها مجرد السرد التاريخي لواقعة أو وقائع لها طرافتها، ولكنها -إلى جانب ذلك- كانت تحمل مضمونًا اجتماعيًّا هو ذلك الذي تمثل في تصوير مساوئ الحياة في مصر ومفاسدها في الوقت الذي كتبت فيه المسرحية، وهو من وراء ذلك يوجه الإنذار ويلفت الأنظار إلى أن تلك الحياة كانت كفيلة -وإن صبرنا عليها- بأن تنتهي بنا إلى ما انتهت إليه الحياة في غرناطة في ذلك العهد. ويحس قارئ المسرحية بصفة خاصة أن المؤلف كان يلحّ إلحاحًا شديدًا على إبراز جوانب الحياة الفاسدة في المجتمع المصري، بل يحس أنه إنما كان يتحدث في كل لحظة

_ 1 يلاحظ أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب ظهرت في ديسمبر 1955م.

عن مظهر من مظاهر الحياة المصرية ذاتها، ولكن في القرن العشرين؛ ولذلك يكاد الإنسان ينسى أن هذه المسرحية تمثل لنا آخر عهد العرب بإسبانيا، ويخيل إليه أنها تصور لنا أحداثًا مصرية وشخصيات مصرية، وهذا في حد ذاته -بغض النظر عن الناحية الفنية- يمكن أن يكون مقبولا إذا أخذنا بأن مهمة الكاتب هي أن يلمس مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يصورها للناس بحيث يحملهم على تمثلها، ويثير فيهم الرغبة في إيجاد الحل أو الحلول لها، فهي من الناحية الاجتماعية إذن تؤدي هذه المهمة، وهي أن تجعل القارئ يحس بمشكلات الحياة في مصر في ذلك العهد. ولكن تحقيق هذا من خلال مسرحية تاريخية أمر من الصعوبة بمكان، يورط الكاتب في مزالق كبيرة من الناحية الفنية إذا لم يكن من المهارة الفنية على قدر كبير. ومن أمثلة تصويره لواقع الحياة المصرية قوله: الملك يلهو والحوادث حوله ... متظاهرات والخطوب سراع والقصر تفهق بالخنا قاعاته ... ويبيت يروى إثمها ويذاع والحكم فوضى، لبه وقوامه ... ذمم تسام رخيصة فتباع والشعب مكدود القوى متحفز ... إن الضعيف يصول حين يراع أو قوله: يا دولة هوم أحراسها ... فاستشرت النيران في غابها مخمورة يعبث سواسها ... والغاصب العادي على بابها وكذلك: قد رشوتم -أقولها- وارتشيتم ... واستباح المحارم الحكام واتجرتم بالعدل فالأمر فوضى ... فحدود تطوى وأخرى تقام .....إلخ. وصور أخرى كثيرة من صميم الحياة المصرية آنذاك. ووصف الدكتور طه حسين للمسرحية في مقدمتها بأنها مصرية أندلسية، أو أنها مصرية الموضوع، مصرية الأحداث، مصرية التصوير والأداء، يعد نقدًا قاسيًا أكثر مما هو إطراء. وأول ما يدل عليه أن القصة في المسرحية كانت مفككة ولم تأخذ الشكل المسرحي المطلوب, فهي لم تأخذ من التاريخ سوى الأسماء والأشكال، وما عدا ذلك فهو

مصري معاصر. ولعله ذكر مصر والمصريين وما وقع لهم في هذه الأيام الأخيرة أكثر مما ذكر غرناطة وأهلها وما جرى عليهم من الأحداث. وكان من الممكن أن تؤدي المسرحية مهمتها الاجتماعية إذا اتبع فيها الكاتب طريقة أخرى، هي أن يقتصر على الحادثة التاريخية يصورها لنا في الإطار المسرحي تصويرًا فنيًّا، ويضع في خلال هذا التصوير العناصر المسرحية التي تثير في القارئ شعورًا نفسيًّا موازيًا، فإذا به في كل موقف من المواقف يقف أمام التاريخ لينظر إلى واقع، ويستنتج، ويحس إحساسًا عميقًا بهذا الواقع، ولكن بطريقة غير مباشرة، وكأنه ينبع من وجدانه الخاص، وعندئذ كان المؤلف يظل مرتبطًا في كل لحظة بالتاريخ وبما تم في الفترة التي يصورها، تاركًا القارئ يرسم -موازيًا له- خطا آخر للحياة الواقعة التي يحياها. وإذا كانت مهمة العمل الفني أن يجعلنا نحس بحياتنا إحساسًا أعمق، ونلمس مشكلاتنا عن قرب، فإن المسرحية في هذه الحالة -برغم أنها تصور لنا فترة تاريخية قديمة- تكون قد نجحت في أن تؤدي هذه المهمة الحيوية أداء فنيا. ولكن عزيز أباظة لم يترك للقارئ لحظة واحدة ينظر فيها إلى التاريخ الذي يصوره لنا ليستنبط ويستخرج المضمونات، فكان في كل مناسبة يستنبط للقارئ ويضع أمامه النتائج؛ بل أكثر من هذا فقد كان يعقب على هذه النتائج ويستخلص منها الحكمة، وأوضح مثال على ذلك نهاية كثير من المشاهد ونهايات الفصول، فأكثر هذه النهايات يكون عادة حكمة تلخص لنا الموقف أو تلخص لنا الفصل. في نهاية الفصل الأول نقرأ -قبل إسدال الستار مباشرة: من لم يدعم بالأسنة ملكه ... والحزم، بات مفزعًا لم يسلم وفي نهاية الفصل الثاني -أيضًا- قبل إسدال الستار مباشرة: الله إن أخذ القرى بفسوقها ... عصف الخلاف بها فكان قضاء كذلك في نهاية الفصل الرابع: واضيعة الإسلام إن لم تقهروا ... أهواءكم، واضيعة الإسلام! وفي كثير من نهايات المشاهد.

ومعنى هذا أن المؤلف كان يقوم بدور المؤلف والقارئ في وقت واحد؛ لأنه لم يترك للقارئ فرصة واحدة يستنبط فيها ما يهدف إليه الكاتب، ويتذوق ويستمتع بالمسرحية. وهذه النزعة إلى الحكمة أثر من آثار النزعة الخطابية التي تميز بها الشعر العربي منذ القدم، وكما نعرف ليس المسرح ميدانًا للخطابة ولكنه مكان تبرز فيه الحياة طبيعية عادية, ولكن عزيز أباظة الذي أتقن كتابة الشعر على النسق القديم، والذي يعد تلميذًا لشوقي في كتابة المسرح، كان من الطبيعي عنده أن تظهر في مسرحياته تلك النزعة الخطابية. وتقوم المسرحية في أساسها -كما سبق أن عرفنا- على الصراع، فإذا نظرنا -على هذا الأساس- إلى مسرحية "غروب الأندلس" نبحث فيها عن ذلك العنصر الجوهري وجدنا أن المسرحية تمثل لنا نوعًا من الصراع الحسي بين مجموعتين من الناس. وهو صراع حول الحصول على الحكم، فكلتا الطائفتين تسعى جاهدة لتثبيت أقدامها في الحكم، وتدبر -في سبيل ذلك- المؤامرات التي تنال بها من الطائفة الأخرى. فلدينا عائشة وابنها موسى وابن سراج ومن معهم يتخذون جانبًا واحدًا هو تثبيت الحكم لعبد الله بن أبي الحسن, ووراء ذلك نزعة عصبية تدعوهم إلى أن يتخذوا هذا الموقف محافظة منهم على ملك العرب. وفي الجانب الآخر نجد الثريا وابنها الأمير يحيى ومن والاهما من الإسبان يسعون إلى تقويض هذا الحكم، ويتخذون لذلك الوسائل، وربما كان من أهم هذه الوسائل التي صورها لنا المؤلف عملية التزاوج بين العرب والإسبان، فتزاوج العرب من الإسبان أتاح الفرصة لخروج أجيال تكاد لا تخلص للعرب، وربما كانت ميولها أقرب إلى الإسبان. كل هذا جعل عناصر هذا الملك العربي لا تحتفظ بصفاتها وأصالتها، بل تدخل فيها تلك العناصر الأجنبية التي ستعمل فيما بعد لتثبيط الهمم أو لمساعدة الإسبان. هناك إذن هذا الصراع الحسي الذي نلمسه بين هاتين الطائفتين، وهو لا يسمو إلى أن يكون صراعًا حول فكرة، وكذلك لا يصل إلى أن يكون صراعًا نفسيًّا يتجاذب شخصية أو مجموعة من الأشخاص, ووصفه بأنه صراع حسي يقصد به إلى بيان أن العمل المسرحي هنا لم يكن في أدق مظاهره، فلم يكن صراعًا حول مذهب فكري مثلا، ولم يقم ليصور لنا مشكلة إنسانية -كما هو الشأن في المسرح- ولكن كانت مشكلة هذه المسرحية -كما قلنا- مشكلة الحصول على الحكم. وهي مشكلة لا تتضمن أي موقف فكري إنساني يهتم به كل إنسان في كل زمان ومكان, ومن هنا نلمس مدى تحقق هذا العنصر المسرحي الجوهري -وهو عنصر الصراع- في هذه المسرحية. فقد كان تحققه على هذا النحو البعيد عن مشكلات القارئ

النفسية والمشكلات العامة الإنسانية؛ ولذلك فإننا نقرأ المسرحية أو نشاهدها دون أن تنشأ بيننا وبينها علاقة بالمعنى الدقيق، قد يلفتنا فيها اتصالها بتلك الفترة التاريخية التي لها في نفوس العرب -بصفة عامة- أصداء حزينة، وقد تثير فيها لونًا من الذكريات الإسبانية، ولكن هذا كله شيء واتصالنا بصميم المسرحية شيء آخر. فليس في المسرحية مشكلة فكرية تتصل بنا، وليس فيها مشكلة نفسية تهم كل فرد منا، ولكنها -كما رأينا- تقوم على ذلك الصراع الحسي بين أناس يسعون إلى الحكم، وهم في سعيهم إليه يتخذون كل وسيلة، بالخداع أحيانًا والتهديد أحيانًا، والتضحية إذا لزم الأمر، وما شاكل ذلك من الوسيلة العنيفة أو اللينة التي يلجأ إليها كل من وجد في مثل هذا الموقف، موقف الساعي في سبيل الحصول على الحكم. فإذا وقفنا بعيدًا عن هذه المسرحية، بمشكلاتنا وبمشاعرنا وبكياننا بما نحن أفراد في هذه الإنسانية، ولم نحس بارتباط حيوي بيننا وبينها، فإن ذلك مرجعه إلى أن المسرحية قامت على ذلك الصراع الحسي البعيد عن كل فرد منا، ومن ثم كانت فرصة الاستمتاع بهذه المسرحية من هذه الوجهة فرصة ضئيلة جدا, إذا لم نقل: إنها معدومة. قد تروعنا أشياء أخرى في هذه المسرحية نعجب بها عند قراءتها أو عند مشاهدتها، ولكن هذه الأشياء بعيدة عن صميم العمل المسرحي. ستعجبنا -بلا شك- تلك الأناقة الواضحة في اللغة الشعرية، وهذه الصنعة الدقيقة التي في الشعر، سيعجبنا هذا من ناحية مستقلة كل الاستقلال عن المسرحية، فنقول: إن هذه "القطعة من الشعر" التي جاءت على لسان فلان من الشخصيات قطعة رائعة، فيها صناعة شكلية دقيقة ممتازة, ولكن إعجابنا بهذا شيء آخر لا دخل له بالمسرحية. بعبارة أخرى مجملة نقول: إن إعجابنا "بشعر" هذه المسرحية لا يعني بالضرورة أننا نعجب بالمسرحية ذاتها, وقد يختلف الكثيرون في إعجابهم بهذه الناحية أيضًا، فالصنعة في العمل الشعري شيء ممقوت، وقد زاد المؤلف على هذه الصنعة نوعًا من التكلف, فهو لا تواتيه الفرصة لأن يستخدم صورًا بديعية ولا يستخدمها. ومن أمثلة ذلك: تصدت له رومية فانطوى لها ... "وأسلم حتى كاد أن ينتصرا" وقوله: فلتجمعي ولنمض إما حجة ... "لجني المنى أو حجة لمنون" بل أكثر من هذا أنه يمضي في البحث وراء الألفاظ الغريبة، فهو لا يستخدم كلمة "الموج" ويمضي يبحث عن كلمة غريبة تؤدي المعنى, فيجد أمامه كلمة "الدفاع", ويجد كلمة "فرصة" سائرة على الألسن فيجتنبها ويبحث عن كلمة غريبة -نوعًا ما- فيجد

كلمة "نهزة"، فيستخدمها. وهذا الاحتفال بالصنعة الشعرية قد لا يرضى عنه الكثيرون، وعند هؤلاء ستفقد المسرحية كل ما فيها، ستفقد جوهرها المسرحي، وستفقد أهمية الشعر فيها. والظاهرة الأساسية الأخرى للعمل المسرحي هي -كما عرفنا أيضًا- الحوار. فالمسرحية قطعة من الحياة، والشخصيات فيها عناصر بارزة تتحرك أمامنا وتتحدث ويتصل بعضها ببعض في صورة عملية لا عن طريق حكاية سردية. فالشخصية أمامنا دائمًا، نراها ونستمع إليها، وهي تعبر عن موقفها وعن شخصيتها أو عن ذاتها بأسلوبها الخاص, وهنا يكون للغة دور خطير في تصوير هذه الشخصيات. وإذا قلنا: إن المسرحية تصور لنا الحياة أقرب ما تكون إلى الواقع كان ذلك معناه أننا ننتظر دائمًا أن يتحدث الأشخاص بعضهم إلى بعض على النحو الذي يمكن أن يتمثل لنا في الحياة العادية. والحوار الذي يدور بين الناس في الحياة العادية تكون له أهميته بمقدار ما يستمد من حيوات الأشخاص المتكلمين، فالشخصيات الحية المتدفقة الحياة يصدر عنها حديث يتمتع بقسط كبير من الحيوية، فحيوية الحوار مرتبطة -إلى حد بعيد- بحيوية الأشخاص، وحيوية الأشخاص مرجعها إلى مواقفهم الفكرية أو النفسية العميقة التي يحسون بها إحساسًا قويًّا، ويصدرون في حديثهم عنها. وهي تتمثل في تلك الحركة النفسية أو الفكرية التي تدور داخل هذه الشخصيات, بعبارة أخرى: فإن حيوية الحوار مرجعها إلى الحركة الذهنية أو النفسية التي تقع في داخل الشخصيات، والشخصيات في تفاعلها وفي اتصالها بعضها ببعض تعبر عن تلك الحركة في لغتها, فإذا بتعبيرها يتمتع بقسط كبير من الحركة والحيوية. وكل من يقرأ مسرحية "غروب الأندلس" يفتقد فيها الحيوية اللازمة؛ لأن اللغة فيها لم تكن تتصل اتصالًا مباشرًا بالشخصيات، فلم تكن تدل على كل شخصية متميزة كل التميز عن الأخرى، وبنظرة فاحصة إلى الشعر الذي نقرؤه في هذه المسرحية نستطيع أن نعرف السبب في فقدانها الحيوية اللازمة. فالملاحظ أن أسلوب الشعر كان نمطًا واحدًا عند كل الشخصيات، ولم يكن فيه التنويع والتلوين اللذان يحددان كل شخصية ويحددان موقفها؛ ولذلك نستطيع أن نقرأ في بعض الحالات ما يقرب من عشرين بيتًا في وزن واحد وقافية واحدة وتيار نفسي واحد. ثم إذا بنا نجد هذه الأبيات قد قسمت تقسيمًا ما بين شخصين أو أكثر، والانتقال من حيث شخصية إلى أخرى لا نكاد نشعر به في كل حالة، بل يخيل للقارئ أنه يقرأ كلامًا متصلًا لشخصية واحدة، وكأنه على صلة بهذه الشخصية وحدها دون غيرها من الشخصيات التي وجدت في الموقف! وهذا

من شأنه أن يجعل الحوار بهذه الطريقة بعيدًا عما يقع في الحياة، ومن هنا يبتعد عن هذه الحياة ويظل يفتقد الحيوية اللازمة، وكذلك كان المؤلف يجري الحديث على ألسنة الشخصيات دون النظر إلى ما بينها من فروق جوهرية. فنحن نقرأ حديثًا لشخصية من شخصيات الرجال لا نكاد نميز بينه وبين حديث تال له لشخصية من شخصيات النساء، وهكذا تضيع ملامح الشخصيات ولا يبقى أمامنا في الحقيقة إلا القصيدة في مجموعها بوزنها الواحد وقافيتها الواحدة. ويتضح جمود الموقف دائمًا عندما تستقل الشخصية الواحدة بحديث طويل، فنحن لا نكاد نطيق على المسرح مثل هذه المواقف، لا نريد شخصية متحركة متحدثة وبجانبها شخصيات أخرى جامدة صامتة، وإنما ننتظر دائمًا على المسرح حيوية شاملة. ويبدو ذلك واضحًا في الأجزاء الأخيرة من المسرحية بصفة خاصة، فنجد الشخصية الواحدة تستقل بحديث يطول فيشغل أكثر من عشرة أبيات، ثم يليه حديث لشخصية أخرى يمتد امتدادًا يقرب من هذا، ويليه حديث شخصية ثالثة، وهكذا. هذه الصورة أبعد ما تكون عن الحوار المسرحي الحي, وليس معنى هذا أن المؤلف لم يكن يوفر لمشاهده الحيوية على الإطلاق، ففي المشهد السادس من القسم الثاني من الفصل الأول نجد أن المؤلف ينجح في بث الحركة والحيوية في الموقف. وهو المشهد الذي يخبر فيه الوزير "أبو القاسم" "السلطان" أنه أطلق سراح عائشة ومن معها قبل أن يأذن له السلطان؛ تنفيذًا لرغبة الأمير يحيى، ففي هذا الموقف نجد المؤلف يحتفظ لكل شخصية بموقفها الخاص وبانفعالها الخاص، ويداول الحديث بين هذه الشخصيات في سرعة تتناسب مع الانفعالات المفاجئة السريعة التي لازمت هذا الموقف؛ ولذلك يمكن أن نقول: إن هذا الموقف قد أدى أداء مسرحيا ناجحا، وإن فيه من الحيوية ما جعل الحوار طبيعيًّا قريبًا من الواقع. يبقى أن ننظر في شخصيات المسرحية، وفي ضوء ما قدمنا من مقدمات تتصل بتكوين المسرحية "بنيتها" وبالحركة المسرحية وبلغة الحوار والصراع نستطيع أن ننتهي إلى أن شخصيات هذه المسرحية لم تنجح في أن تكون شخصيات إنسانية بارزة، بمعنى أنها لا تصور لنا ظواهر إنسانية باقية، وإنما هي أقرب إلى الشخصيات العادية في الحياة وإن كانت تقوم بالأدوار التي تتم في الحياة داخل القصور؛ فلدينا شخصيات السلطان والأمراء والقواد والجواري والولاة وكل من له صلة بطبقة الحكام. وخطورة الشخصية بالنسبة للعمل المسرحي لا تأتي من خطورة مركزها الاجتماعي أو مركزها السياسي، ولكن من أهميتها الإنسانية؛ ولذلك نجد كثيرًا من الشخصيات الشعبية تظفر باهتمام

المؤلفين المسرحيين فإذا بهم يخلدونها، لا على أنها قامت بدور سياسي خطير أو لأنها حكمت الناس فترة من الزمان، بل لأنها -قبل كل شيء- ظاهرة إنسانية لها قيمتها؛ ولذلك لم تكن شخصيات "غروب الأندلس" هي تلك الشخصيات الإنسانية ذات القيمة, وإن صورت لنا النوازع الإنسانية. فنحن نصادف ألوانًا من العواطف والميول كالحب والبغض والدهاء والخداع وما شاكل ذلك من النوازع الإنسانية، ولكن هذه الأشياء لم تأخذ وضعًا مسرحيًّا، ولم يركز الكاتب على واحد منها، ولو أنه ركز عمله المسرحي على تصوير نوع من الصراع يدور في داخل شخصية عائشة حول الإبقاء على الحكم العربي والنزعة القومية، والميل نحو ابنها "عبد الله" والعطف على موقفه. أو لنقل: بين النزعة القومية فيها وعاطفة الأمومة، لكان ذلك سبيلا إلى إخراج مسرحية لها قيمتها. ولكن المؤلف لا يستغل هذا الموقف الاستغلال المسرحي على نطاق واسع، أو لنقل: لم تكن المسرحية في أساسها تهدف إلى تصوير هذا الصراع، ولو أنها فعلت لكان لها شأن آخر. ونعود إلى الشخصيات مرة أخرى فنجد أن كل شخصية من أجل هذا لم تكن تمثل فكرة إنسانية أو اتجاهًا نفسيًّا، ولكنها -جميعًا- كانت تمضي إلى تحقيق غرض واحد وهو الحصول على الحكم. ومن ثم لم تكن للشخصيات طبيعتها المستقلة المنفردة بل كانت تتشابه إلى حد بعيد, وهي -لذلك- كانت تبدو "باهتة"؛ لأن ملامحها الخاصة لم تكن من الوضوح بقدر كافٍ, وربما كانت شخصية عائشة من أبرز الشخصيات. والحق أنها قامت في المسرحية بأكبر دور، وتحركت بشكل يلفت النظر، فنحن نصادفها في مصر وفي وادي آش أكثر مما نصادف أي شخصية أخرى، وربما كان وجودها عنصرًا لازمًا لهذه المسرحية، ولكن لا ننسى أن هناك شخصيات أخرى كان من الممكن استغلالها مسرحيا ولكنها اختفت سريعًا، كشخصية الأمير يحيى، وكذلك كانت شخصية الوزير أبي القاسم شخصية درامية ناجحة، فقد ركز فيه المؤلف مفهومات الوزير ومبادئه، فاستطاع أن يعطينا صورة صادقة لحياة الوزراء الضعاف القلقة المضطربة التي لا تخلو من ذلة أمام الحكام، والتي تصطنع البطش والجبروت والقوة مع الشعب الضعيف، بعبارة عامة كانت شخصية الوزير أبي القاسم مرسومة رسمًا دقيقًا وأدت دورها على النحو المفروض. وفيما عدا ذلك نصادف شخصيات أبطال وقواد ليس لهم إلا أن يتحمسوا لعائشة وأن يبذلوا لها النصح أحيانًا، أما شخصية السلطان أبي الحسن فقد كانت ناجحة إلى حد ما، فيها عناصر الشيخوخة وفيها آثارها وتصرفاتها، ثم فيها -إلى جانب ذلك- بقية من حماسة قديمة ونجدة عربية أصيلة. أما شخصيات الإسبان فقد كانت أهميتها في أن تكمل القصة، ولم تكن شخصيات لها أهمية في ذاتها. هي

شخصيات يقتضيها تكوين المسرحية، وتكوين الحادثة فيها, ولكن لم تكن شخصيات لها في ذاتها قيمة مستقلة. كذلك كانت شخصيتا الوصيفتين "وجد" و"أمل" فهما شخصيتان جانبيتان ليس لهما قيمة خاصة, ولكن تتحدد أهميتهما بضرورة موقفهما المسرحي الذي يتكرر في بداية القسم الثاني من الفصل الأول, وفي بداية الفصل الخامس. وهذا الموقف يفيد دائمًا في التعريف ببعض الشخصيات التي لم يسبق لنا معرفتها والتي سيبدأ دورها. وعلى العموم نستطيع أن نقول: إن شخصيات المسرحية لا تعدو أن تكون أدوات لازمة لتكوين القصة أو لتكوين الإطار المسرحي، ولكنها -في مجموعها- لا تتضمن شخصية بارزة لها قيمة مستقلة في ذاتها.

الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة

الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة ترجمة الحياة ... الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى: ترجمة الحياة، المقال، الخاطرة 1- ترجمة الحياة: لا تقتصر الفنون الأدبية على الشعر والقصة والمسرحية بأنواعها المختلفة، وإن كانت هذه هي الأنواع الكبرى الذائعة منذ أقدم العصور، فإن هناك فنونًا أخرى لا تقل رواجًا في السوق الأدبية وتستحق منا العناية والدراسة. وهي فنون حديثة العهد بالقياس إلى فن الشعر أو فن المسرح. وهي في الحقيقة مرتبطة بظهور فن الكتابة النثرية؛ لأن ترجمة الحياة والمقال والخاطرة جميعًا فنون نثرية. وترجمة الحياة Biography هي الكتابة عن أحد الأشخاص البارزين لجلاء شخصيته، والكشف عن عناصر العظمة فيها. ولسنا نريد بذلك أن نعرف هذا الفن؛ لأن ترجمة الحياة تتسع لتشمل جوانب العظمة وجوانب الانحطاط -إن وجدت- في الشخصية المترجم لها. فالترجمة في الواقع عملية تحليلية لكل مركز من عناصر كثيرة مختلفة هو الشخصية. ومن خلال هذا التحليل تبرز القيم الإنسانية التي تنطوي عليها الشخصية، والتي يهم الآخرين الاطلاع عليها. ولكي نفهم عملية التحليل التي تتم في ترجمة الحياة ينبغي أن نفهم معنى الشخصية. وكتب علم النفس تمدنا بكثير من المعرفة الخاصة بالشخصية، ولكننا -دون الدخول في تفصيلات الدراسة النفسية- نستطيع أن نقرر أن الشخصية "مجموعة من المجالات"، فأنا مع أصدقائي غيري مع أقاربي، وأنا مع تلاميذي غيري مع أساتذتي، وأنا مع جاري غيري مع الشخص الغريب، ومع المصري غيري مع الأجنبي ... وهلم، ففي كل حالة من هذه يظهر جانب خاص من شخصيتي يكون هو الغالب على الموقف. وهو يظهر نتيجة لوجودي مع شخص معين، فوجودي مع ذلك الشخص حدد لي مجالًا معينًا للتفاعل والتفاهم والسلوك بعامة، فحين يزورني أقاربي من الريف يظهر من شخصيتي الجانب الذي يستطيع أن يتفاعل معهم، أو الجانب الذي يستطيع أن يدخل في مجالهم. وهذا الجانب يختفي تمامًا حينما يجمعني بشخص أجنبي مكان، وعندئذ يظهر جانب آخر، أو مجال آخر ... وهكذا، فمن دراسة "العلاقات" التي تجمع الشخص بآخرين، وكذلك التي تتمثل في تصرفات الشخص الخاصة في المواقف المختلفة،

أستطيع أن أحدد مجموع المجالات التي تتكون منها الشخصية، ولسنا نستطيع أن نتصور الشخصية بغير مجالات، فمن يكون الشخص بغير العلاقات الكثيرة التي بينه وبين الحياة؟! وفي ضوء هذا الفهم لمعنى الشخصية نستطيع أن نفهم معنى ترجمة الحياة، فترجمة الحياة عملية فنية تجمع بين عمل المؤرخ من جهة ارتباطها بسيرة إنسان عاش في بيئة بعينها وزمن بعينه، وبين عمل المصور الفنان الذي يتخصص في رسم الصور النصفية للأشخاص "البورتريت" Portrait. ومن اللازم للمؤرخ أن يكون دقيقًا وموضعيًّا وأن يرتب الأحداث في نسقها المعقول، فلا يكفي المؤرخ أو كاتب ترجمة الحياة أن يحشد الحقائق التاريخية حشدًا، وإنما يحتاج المؤرخ كذلك إلى نوع من الحس الفني في اختياره وصياغته وتنسيقه لتلك الحقائق. وكذلك يحرص رسام البورتريت على أن يقدم صورة صادقة للشخص الجالس أمامه, وذلك في الوقت نفسه عمل فني. ومن ثم يتحدد عمل كاتب ترجمة الحياة مبدئيا في جمع المصادر والحقائق وكل الوثائق المتصلة بالشخص الذي يترجم له، ثم تركيب صورة لحياة هذا الشخص بطريقة تجعل منها -إلى جانب ذلك- عملا أدبيا بكل ما للعمل الأدبي من مقومات. ومع ما هنالك من تشابه جزئي بين عمل كاتب ترجمة الحياة والمؤرخ, فإن طريقة تناول كل منهما لحياة زعيم سياسي أو فكري أو حياة قائد عسكري أو مصلح اجتماعي تختلف. فحين يترجم كاتب لحياة نابليون مثلا فإنه لا يهتم بوقائع التاريخ إلا من زاوية واحدة هي مدى ما كان لتلك الوقائع التاريخية من تأثير في حياته، وتشكيل لشخصيته, وبلورة لها على مر الأيام. ويتصور بعض كتاب الترجمة أن مهمتهم لا تقتصر على تصوير حياة الشخص الذي يترجمون له وإنما تمتد إلى العصر الذي عاش فيه. ويرى إدموند جروسيه E. Grosse أن هذا التصوير خطأ؛ لأن ترجمة الحياة -في رأيه- دراسة محدودة بحادثين هما الميلاد والوفاة، ومن ثم يجب أن تكتب الترجمة بحيث تجعل الشخصية الأساسية في حالة استرخاء كلي. فإذا تناول كاتب حياة دزرائيلي1 مثلا فمن الواضح أنه لا يستطيع أن يهمل الظروف السياسية في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر، ولكنه يجب أن يقتصر على تلك الجوانب التي كانت معروفة لدزرائيلي نفسه، وكان لها تأثير في حياته.

_ 1 بنيامين دزرائيلي Beniamin Disdraeil "1804-1881": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء "1868" و"1874-1880". اشترى حصة مصر من أسهم قناة السويس في عام 1875.

وهذه الوجهة ترد كاتب ترجمة الحياة مرة أخرى إلى وظيفة رسام البورتريت، فهذا الأخير دائمًا يواجه مشكلة خلفية الصورة التي يرسمها. وليس الرسامون على وفاق بشأن هذه الخلفية، فبعضهم يتركها عارية تمامًا من أي تفصيلات، وبعضهم يختار منظرًا له دلالته ليجعل منه خلفية للصورة. وبنفس المنطق يواجه كاتب الترجمة -أو ينبغي أن يواجه- مشكلة الخلفية التاريخية لحياة من يترجم له, ترى أي الإطارين يختار؟ أيكتفي بحياة الشخص نفسه المحددة بحادثتي ميلاده ووفاته, أم يضع هذه الحياة المحددة داخل إطار من تفصيلات العصر؟ الجواب على هذا السؤال تحدده طبيعة الإنسان نفسه الذي نترجم له، فإذا كانت حقيقته البارزة ماثلة في تطور "حياته الداخلية"، وكان قد آثر لنفسه العزلة فلم ينتمِ إلى مدرسة فكرية أو أدبية أو إلى تنظيم سياسي، فعند ذلك يكون من العبث الصراح صرف اهتمام كبير إلى تفصيلات الحياة في العصر الذي عاش فيه. أما إذا كان قد خضع لبعض المؤثرات في هذا العصر, فإن الضرورة تقضي بالتعرض لتلك المؤثرات -وتلك المؤثرات وحدها- التي عملت على تشكيل شخصيته. ولعلنا نلاحظ في هذا المقام عيبًا فنيًّا في كثير من التراجم التي يصدرها كتابنا، هو أنهم يحشدون كل ما يجمعونه من حقائق عن عصر الشخص الذي يترجمون لحياته دون أن يستفيدوا منها في تجلية جوانب الشخص الرئيسية. قد تكون هذه الحقائق معلومات مفيدة في ذاتها، ولكنها -بهذه الطريقة- تجافي طبيعة فن ترجمة الحياة. كيف يختار كاتب الترجمة موضوعه؟ قدر لبعض الشخصيات ذات الأهمية أن تظفر بعناية الكتاب سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم, ولكن مثل هذه الكتابات لا يمكن أن تكون نهائية، فما زال هناك أكثر من مبرر لإعادة الكتابة عنها. وفي الوقت نفسه يحفل التاريخ بأشخاص كان لهم في حياتهم دور كبير، ولكن المترجمين أهملوهم؛ لنقص في المصادر والوثائق، أو لظروف اجتماعية وسياسية عاشها أولئك الكتاب أو لغير ذلك من الأسباب. وفي هاتين الحالتين يجد كاتب الترجمة الفرصة متاحة له لاختيار الشخصية التي يترجم لها. فإذا كانت الشخصية قد سبق أن ترجم لها آخرون في أزمان مختلفة فهناك المبررات التي تجعل من حق الكاتب الترجمة لها من جديد، فكثيرًا ما يكون ظهور الوثائق والشواهد والأدلة الجديدة مغيرًا لما انتهت إليه التراجم السابقة كليا أو جزئيا, وهذا مبرر لإعادة الترجمة. وحتى عندما لا تظهر الوثائق الجديدة فإن المبرر يظل قائمًا في أن الشخصية الواحدة قد تعني بالنسبة لعصر خلاف ما تعنيه بالنسبة لآخر. ومن ثم

يمكن أن ينظر كل جيل إلى الشخصية الواحدة من منظور خاص به. فإذا لم تكن الترجمة الجديدة قائمة على أحد هذين الأساسين، أو على أساس آخر مقنع يبررها، وكانت مجرد إعادة صياغة لترجمة سابقة، كانت لغوًا لا قيمة له. أما في حالة الأشخاص الذين لم تسبق ترجمة حياتهم فمبرر الترجمة لهم واضح، ما دامت الوثائق والشواهد المطلوبة قد صارت في متناول يد الكاتب. فكثيرًا ما يحدث أن يترك بعض الأشخاص من الرجال والنساء الذين لم يكونوا معروفين على نطاق واسع في أثناء حياتهم مذكرات أو يوميات أو خطابات ذات أهمية فائقة، وعندما تستكشف هذه الوثائق فيما بعد يصبح أصحابها موضوعات صالحة لكتابة تراجم حياتهم، وحياة صمويل بيبس S. pepsy ومي زيادة مثال على هذا. ما المصادر الأساسية التي يتحتم الرجوع إليها لكتابة ترجمة حياة؟ عرفنا أن من واجب كاتب السيرة أن يلم بكل الحقائق التي لها صلة مباشرة ببطله، وبالأحداث والمواقف التي كان لها تأثير مباشر في حياته. وعلى هذا الأساس لا يحق له أن يهمل أي مصدر يمكن أن يمده بشيء من هذا، ألا يحدث في كثير من الأحيان أن يمدنا شاهد لم نتوقعه ولم نحسب له حسابًا بمادة طريفة تلقي ضوءًا مباشرًا على الشخصية موضوع دراستنا؟ ومن ثم حددت المصادر اللازمة لكاتب الترجمة بما يلي: أ- الكتب التي سبق تأليفها في الموضوع, أو في موضوع متصل به. ب- الوثائق الأصلية؛ كالخطابات أو اليوميات أو السجلات الرسمية. جـ- ذكريات المعاصرين. د- مقتنيات الشهود الأحياء، وذلك عندما لا تكون الفترة موضوع الدراسة بعيدة. هـ- ذكريات المؤلف نفسه إذا كانت له معرفة شخصية ببطله، كما هو ماثل في ترجمة بوزول لحياة جونسون، أو ترجمة العقاد لسعد زغلول. وأخيرًا، ينبغي على الكاتب -قدر المستطاع- أن يزور الأماكن التي يجد نفسه مضطرًّا لوصفها1.

_ 1 Cassells Encyc, Of Lit.

ولكن ما موقف الكاتب من المادة التي يجمعها من هذه المصادر؟ قلنا: إنه لا يستطيع أن يحشد كل ما جمع كما هو، وإنما هو مطالب على الدوام بأن يزن الأمور ويتحقق من صدق هذه المادة، ولكن هذا وحده لا يكفي، فترجمة الحياة كما قلنا عمل فني، وكل عمل فني يتضمن وجهة نظر خاصة بالضرورة، ومن ثم يبرز عنصر شخصي خاص بالكاتب نفسه، متجليًا في "تفسيره" الخاص لهذه المادة التي وزنها وتثبت من صحتها، ثم لا ننسى أن الكاتب كثيرًا ما يواجه تناقضًا في المادة التي يجمعها. وهنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة، هي أن هذا التناقض قد يكون راجعًا إلى عيب في المصادر نفسها، وقد يكون راجعًا إلى نفس الشخص الذي يترجم له. ومن ثم يتعين على الكاتب أن يحدد ما إذا كانت المصادر نفسها هي المسئولة عن هذا التناقض، فعند ذاك يحق له -بل يجب عليه- أن ينفي من الروايات ما لا يرقى إلى مستوى الثقة. أما إذا لم يستطع الكاتب رد هذا التناقض إلى عيب في المصادر نفسها فلا ضير على الكاتب في أن يقرر أن التناقض في الشخصية نفسها التي يترجم لها. وهنا يحق لنا أن نتنبه إلى أن بعض كتاب التراجم يميلون إلى إرجاع التناقض دائمًا إلى المرويات وإلى المصادر، ويتحرجون من نسبته إلى الشخصية التي يترجمون لها، وهذا خطأ؛ لأنهم يتصورون أنهم مطالبون بأن يقدموا إلينا دائمًا شخصية منطقية مع نفسها، وإن كان الواقع يشهد بعكس ذلك. ألا يحدث كثيرًا أن يتناقض الإنسان مع نفسه خلال تطوره؟ ألا يحدث كثيرًا أننا نستكشف في الحياة نفسها تناقضا؟ وكل هذا يجعل من الخطأ نفي التناقض الثابت عن الشخصية التي نترجم لها، وإنما يقتضينا الأمر إثبات هذا التناقض ومحاولة تفسيره، بل إن تفسير هذا التناقض يصبح عملا أساسيا بالنسبة لكاتب الترجمة. ماذا يهدف كاتب ترجمة الحياة من عمله؟ إنه يريد أن يثير فينا الاهتمام بحياة إنسان له قيمته, ولكن أي مدى من الحرية في التناول يحق له لكي يثير فينا هذا الاهتمام؟ كان الكاتب -في تراجم الحياة ذات الطابع الرومانتيكي- يسمح لنفسه باختراع الأحداث والحوار، مقتربًا بذلك من الرواية التاريخية. ولكن ترجمة الحياة شيء آخر غير الرواية التاريخية، وإن غلب على طريقة بنائها الأسلوب القصصي. فمهمة كاتب الترجمة هي أن يصور لنا البطل وهو يستكشف الحياة شيئًا فشيئًا، كما يحدث في الواقع بالنسبة لكل فرد منا. لا شك أن نظرتنا إلى الأمور تتطور وتتبلور خلال مراحل حياتنا المختلفة, فنحن إذن في كشف مستمر لأنفسنا وللحياة من حولنا، وما يقربنا من الشخصية المترجم لها هو إحساسنا بهذا الكشف

المستمر الذي تقوم به هذه الشخصية؛ ومن ثَمَّ فإننا نتعرف ملامح هذه الشخصية خلال هذا الكشف المستمر. وما زال هناك من كتابنا من يتبع المنهج البلوتاركي1 القديم في تقديمه الشخصية، فقد كان بلوتارك يسرد أعمال من يختار الترجمة لهم من المشاهير ثم يأتي في النهاية بتلك المواقف التي تصور شخصياتهم. وهو منهج لا يمكن أن يخلق التعاطف بين القارئ والشخصية المترجم لها، ذلك التعاطف الذي لا بد منه كي تؤدي الترجمة مهمتها وتثبت فنيتها. على أن فن التراجم الحديث قد نبذ هذا المنهج تمامًا. وأخيرًا، ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة في موقف الكاتب من الشخصية التي يترجم لها ومن القراء، فليس الكاتب مطالبًا -بل ليس من حقه- أن يصدر على الشخصية التي يترجم لها أي حكم من أي نوع. وهنا لا بد من الالتفات إلى نوعين من ترجمة الحياة. فالكاتب قد يترجم لشخصية سابقة, وهو عندئذ يتمثل الآخر في البيئة والزمان اللذين عاش فيهما هذا نوع, والنوع الآخر هو ترجمة الحياة الشخصية، وذلك عندما يكتب لنا الكاتب ترجمة حياته هو الخاصة, وهي عندئذ تسمى "ترجمة ذاتية Autobigrophy"، وهذا النوع يحتاج من الكاتب إلى الأمانة والصدق. ويمكن أن يقال: إن أصدق حياة يمكن أن يكتبها الإنسان هي ترجمته لحياته الخاصة، فهو أعرف الناس بها، ولكن يبدو أن هذا غير صحيح في كثير من الأحوال، ففهم الإنسان لنفسه أمر مشكوك فيه، فربما كانت قدرته على فهم الآخرين أكبر من قدرته على فهم نفسه. واعتماد الإنسان على ذاكرته في استرجاع أحداث حياته يجعل من المحتمل إفلات كثير من الوقائع الصغيرة ذات الدلالة الكبيرة في حياته من ذاكرته. ولا بد في هذه الحالة من أن يكون الشخص قد دون كل ما مر به في حياته في حينه، حتى إذا ما عاد إليه بالقراءة استطاع أن يسترجع المواقف القديمة. وهو في هذه الحالة مضطر لأن يخرج عن ذاته يفحص ذلك الذي دونه فحصًا موضوعيًّا، وكأنه يفحص مذكرات شخص آخر يريد أن يكتب ترجمة حياته. ومن جهة أخرى يستطيع كاتب الترجمة الذاتية أن يتجنب من الوقائع القديمة ما لا يرضى عنه، وبخاصة تلك الوقائع التي لا يعرفها -أو لم يعد يعرفها- أحد سواه.

_ 1 نسبة إلى كاتب السير اليوناني Plutarch "46-120م". ومن أشهر آثاره كتاب "حيوات متوازية Paralle Livs".

ومن ثم يحتاج كاتب الترجمة الذاتية لكثير من الصراحة. وقبل ذلك هو في حاجة لكثير من الشجاعة؛ لكي يثبت الوقائع التي لا يرضى عنها، وأغلب ما يكون ذلك متعلقا بحياته العاطفية والجنسية. فإذا كانت لديه الشجاعة لأن يكشف كل ذلك من نفسه, فإنه ربما تحرج من ذكر الوقائع كاملة؛ لأنها عندئذ تمس شخصيات الآخرين الذين شاركوه تلك المواقف. يضاف إلى هذا أنه مهما بلغت صراحة كاتب السيرة الذاتية وشجاعته, فإنه غالبًا ما يحرص على أن يقدم صورة متناسقة لحياته من أولها إلى آخرها، وهو لذلك قد يتجنب تلك الوقائع التي قد تبرز نوعًا من التناقض في شخصيته. وكل هذه العوامل تجعل الترجمة الذاتية شاقة على نفس صاحبها، وقليلون هم أولئك الذين استطاعوا أن يكونوا صادقين مع أنفسهم في ترجمتهم لذواتهم. وقد ظهر فن الترجمة لدينا حديثًا. ويعد العقاد أول كاتب يكتب لنا ترجمة فنية تمثل النوع الأول، ويتجلى فيها الذكاء والمهارة والخبرة، كالعبقريات، وترجماته للمهاتما غاندي ومحمد علي جناح وسن يات سن وغيرهم. أما النوع الثاني فقد بدأه الدكتور طه حسين بكتابه "الأيام" الذي ترجم فيه لنشأته وأطوار حياته، وهو لذلك قريب من طابع القصة. ومنذ أكثر من أربعة أعوام أصدر المرحوم الأستاذ أحمد أمين كتابه "حياتي"1 الذي ترجم فيه لنفسه. والمفروض في حالة النوع الثاني أن الكاتب يكون حريصًا على أن يلحظ الحياة الخارجية بحيث تمتد عملية التحليل والتفسير والتقويم خارج حياة الكاتب الخاصة إلى الحياة العامة. ولعل الكاتب والشاعر الإنجليزي المعاصر "إستيفن إسبندر Stephen Spender" كان صادقًا كل الصدق حين سمى ترجمته لحياته "حياة خلال حياة Life Within Life". هذا النوع الأدبي له مكانته في الآداب الأوروبية الحديثة وله خطورته، بما يحمل إلى الناس من نماذج بشرية وقيم إنسانية لا بد أن يكون لها أثرها في تكوينهم وتوجيههم، ولكنه يحتاج دائمًا إلى الكاتب الخبير المتمكن، ونرجو أن يصرف الأدباء جزءًا من جهودهم للنهوض بهذا النوع. وفيما يلي دراسة لنموذج من السيرة الذاتية. كتب المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد سيرة حياته في عدد من الفصول، نشر مفرقًا في مجلات "الهلال والمصور والاثنين وكل شيء والقافلة"، ثم قام

_ 1 ينبغي أن نتذكر أن هذا التحديد الزمني صحيح بالنسبة للطبعة الأولى لكتابنا هذا.

على جمعها في كتاب بعنوان "أنا" الكاتب الصحفي طاهر الطناحي بعد موافقة العقاد نفسه. وربما خطر لنا منذ البداية أن كتابة هذه الفصول مفرقة ونشرها على هذا النحو "وإن كان معظمها قد نشر في مجلة "الهلال"" قد لا يؤديان بها مجتمعة إلى ما يكون عليه العمل الأدبي، الذي تتصل كتابته، من التماسك والوحدة, لكن من يعرف منهج العقاد في التأليف بصفة عامة، يدرك أنه لم يكن يتقيد في تأليف كتبه بنسق الفصول التي يتضمنها كل كتاب، وأنه ربما كتب فصلًا متأخرًا من الكتاب قبل فصل متقدم، حسبما تتيسر له كتابة الفصول التي يشتمل عليها الكتاب. لقد جرى على أن يبني في عقله تصوره للكتاب الذي يؤلفه، في إجماله وتفصيله، وفي نسقه الواجب له، فإذا جاءت مرحلة الكتابة لم يجر فيها -بالضرورة- على النسق الذي تصوره، وإن كان ذلك لا ينفي -في النهاية- تحقق الوحدة الموضوعية, والفكرية للكتاب. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن العقاد حين نشر تلك الفصول المفرقة عن نفسه إنما كان يصدر فيها عن تصور شامل لكتاب يترجم فيه لنفسه، أو يقدم فيه سيرة حياته. ويؤكد هذا ما ذكره طاهر الطناحي حين اقترح عليه أن يكتب كتابًا عن حياته فأجاب بقوله: "سأكتب هذا الكتاب، وسيكون عنوانه "عني" وسيتناول حياتي من جانبين: الأول حياتي الشخصية بما فيها من صفاتي وخصائصي، نشأتي وتربيتي البيتية والفكرية، وآمالي وأهدافي، وما تأثرت به من بيئة وأساتذة وأصدقاء، وما طبع أو انطبع في نفسي من إيمان وعقيدة ومبادئ أو بعبارة أخرى "عباس العقاد الإنسان" الذي أعرفه أنا وحدي، لا "عباس العقاد" كما يعرفه الناس، ولا "عباس العقاد" كما خلقه الله، والجانب الثاني حياتي الأدبية والسياسية والاجتماعية المتصلة بمن حولي من الناس، أو بالأحداث التي مرت بي وعشت فيها أو عشت معها، وخضت بسببها عدة معارك قلمية، وكانت صناعة القلم أبرز ما فيها، أو بعبارة أخرى "حياة قلمي". ولعلي أبدأ بالجانب الأول، الذي هو "أنا"؛ لأنه أقرب إلى الكتابة، وبخاصة وأنا في نهاية الحلقة السادسة من عمري ... "1. من هذا يتضح أن العقاد حين شرع في كتابة تلك الفصول عن نفسه كان يدرك أنه بصدد أن يكتب ترجمة ذاتية، وأن عناصر هذه الترجمة كانت واضحة في ذهنه،

_ 1 عباس محمود العقاد: أنا، دار الهلال، ب ت، مقدمة الطناحي، ص 6, 7.

حتى إنه قسمها إلى مجموعتين متمايزتين ومتكاملتين في الوقت نفسه، إحداهما تتعلق بشخصه، والأخرى بعالم الكتابة عنده، وقد أنجز كتابة القسم الأول، الذي هو بين أيدينا الآن، والذي يحمل عنوان "أنا"، وإن نشرت فصول هذا القسم في البداية مفرقة, ودون التزام بنسقها الطبيعي. ينقسم كتاب "أنا" إلى تسعة فصول، يشتمل كل فصل منها على عدد من العناصر يقل أو يكثر, وقد رُوعي في كل فصل أن تكون عناصره -في الأغلب الأعم- متآلفة ومتكاملة. فالعناصر التي يشتمل عليها الفصل الأول -على سبيل المثال- هي على التوالي: أنا، أبي، أمي، بلدتي، طفولتي, ذكريات العيد، وهذه العناصر في مجموعها وفي نسقها هذا توحي بأن الكاتب قد أفرد هذا الفصل لمرحلة النشأة الأولى في حياته، أي: مرحلة الطفولة، حيث يتحدد عالم الطفل بعلاقاته المحدودة بأقرب الناس والأشياء إليه. ومع ذلك فإن العقاد حين تحدث في العنصر الأول عن نفسه لم يتحدث عن أنا الطفل في شخصه، بل راح يتحدث عن أنا العقاد الناضج المشهور بين الناس. ولما كانت صورته المتداولة بين الناس ليست -في رأيه- هي صورته الحقيقية بل لعلها -في رأيه كذلك- نقيض صورته الحقيقية، فقد اتخذ من الحديث عن مكونات صورته الحقيقية التي يعرفها لنفسه مدخلا لتصحيح تلك الصورة المغلوطة الشائعة، فإذا كان الشائع عنه بين الناس أنه رجل مفرط الكبرياء، مفرط القسوة والجفاء، وأنه رجل منقطع للكتب، لا يباشر الحياة كما يباشرها الناس، وأنه يملكه سلطان المنطق والتفكير ولا سلطان للقلب والعاطفة عليه، وأنه شديد الصرامة فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد الاستغفار, إذا كان هذا هو الشائع عنه فإنه ينكره جملة وتفصيلًا، ويقول: "أقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباسا العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق، ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب"1. ثم يمضي يحدد مشخصاته التي هي نقيض ذلك. لقد اختار العقاد أن يكون هذا الحديث عن صورته المغلوطة لدى الناس وصورته الحقيقية مدخلًا إلى الحديث عن سيرته الذاتية، وكأنه يقدم بين يدي القارئ ما يبرر له كتابة هذه السيرة. أما بقية عناصر هذا الفصل فيتصل الحديث فيها على نحو يحدد ملامح البيئة المادية التي تفاعل معها العقاد في طفولته، ونعني بها مدينة أسوان، كما يحدد أسلوب التربية الذي خضع له -أو تمرد عليه أحيانًا- في البيت وفي المدرسة. أضف إلى هذا

_ 1 العقاد: أنا، ص21.

الحديث عن شخصية أبيه وشخصية أمه، وعن أصولهما في أجداده لأبيه وأجداده لأمه ... إلخ. على أن العقاد لا يذكر ذلك كله لمجرد تقرير عدد من الحقائق التي صاحبت نشأته الأولى، بل كان الهدف البعيد من ذكر ذلك هو أن يفسر في ضوئه -قدر المستطاع- سلوكه الشخصي والعقلي بعد أن شبَّ ونضج؛ إيمانًا منه بأن الطباع تورث، وأن كثيرًا من طباعه التي لازمت سلوكه في شتى مراحل حياته دون تغير إنما يرجع بصفة أساسية إلى عناصر الوراثة لديه. وهو نفسه يقول في الفصل السادس من الكتاب تحت عنوان "فلسفتي في الحياة": "من فلسفة الحياة ما نستمده من الطبع الموروث، ومنها ما نستمده من تجربة الحوادث والناس، ومنها ما نستمده من الدرس والاطلاع، وهي في اعتقادي على هذا الترتيب في القوة والأصالة"1, ومن ثم نراه حين يحدثنا عن نزعته الإيمانية -مثلًا- يقول: "أؤمن بالله وراثة وشعورًا وبعد تفكير طويل"2. ونعود فنتذكر حديثه في الفصل الأول عن أبيه، كيف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، وكيف أن صورته وهو يؤدي صلاة الصبح، جالسًا على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار، يتلو سورًا خاصة من القرآن الكريم ويعقبها بالدعوات, كيف أن صورته هذه ظلت مطبوعة في ذاكرته طوال حياته3. وكذلك نتذكر ما قرره في الفصل نفسه عن أمه، من أنه ورث عنها تقواها، وأنه فتح عينيه يراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها4. وعلى هذا النحو يتشبث العقاد بأثر التنشئة الأولى وبعنصر الوراثة في تشكيل سلوكيات الإنسان ومعتقداته على السواء، ومن هنا يتضح لنا معلم أساسي من معالم منهج العقاد في كتابة الترجمة الذاتية، بل في كتابة السيرة بعامة، وهو أنه يقدم على الشخصية التي يترجم لها كأنها موضوع دراسة لا بد أن تلتئم نتائجه مع مقدماته، وكأن الشخصية موضوع الترجمة أمامه مجموعة من الظواهر المادية والمعنوية التي تصدر في بدايتها عن عوامل بيئية ووراثية، وتئول في نهايتها إليها. وهو منهج تبريري في أساسه، يرد فيه الكاتب كل مزية أو نقص في الشخصية التي يترجم لها إلى ما كمن فيها من

_ 1 نفسه ص168. 2 نفسه ص152. 3 نفسه ص31. 4 نفسه ص39.

استعداد بأثر الوراثة أو أثر البيئة. وهذا ما صنعه في ترجمته لنفسه، فهو لا يروي سيرة حياته بكل ما فيها، ولا يكتفي بتسجيل ذكرياته عن الأشخاص والأحداث كما مرت في حياته، أو يكتفي برواية مواقفه ومغامراته بمعزل عن أي قيمة اجتماعية أو موقف أخلاقي، بل يجعل ما يختار روايته من ذلك موضع تأمل، ومادة لا بد لها من تفسير. ومن ثم نستطيع أن نقول: إن كتاب "أنا" لا يحكي لنا قصة حياة العقاد بقدر ما يعكس محاولة الكاتب فهم نفسه. وتسلمنا هذه الحقيقة العامة إلى أسلوب العقاد في تناول كل عنصر من العناصر التي أدار عليها الكلام في فصول ذلك الكتاب، ذلك أنه يدخل إلى الحديث -في الأغلب الأعم- من مدخل فكري وتأملي عام، يطول أحيانًا ويقصر أحيانًا، وكأنه شرح أو تبرير لما سيتحدث به عن نفسه فيما بعد. ولنقف -على سبيل المثال- عند بداية الفصل السابع من الكتاب لنجد مصداق هذا. في مستهل هذا الفصل يتحدث العقاد -تحت عنوان "طفت العالم من مكاني"- حديثًا مستفيضًا عن كبار الرحالين وكيف أنهم تملكهم -على الرغم منهم- "ملكة شخصية" يصح أن تسمى عبقرية السياحة، وكيف أن هذه الملكة الشخصية تستمد أصولها من ملكة قومية، حيث خرج هؤلاء الرحالون من أمم قد تعود أبناؤها الرحلة، كالعرب؛ لأنهم أبناء بادية، والفينيقيين والإغريق والبنادقة والبرتغاليين والإنجليز؛ لأنهم جميعًا بحريون وملاحون. ثم ينتقل إلى الحديث عن نوع آخر من الرحلة في غير المكان, وهي الرحلة في داخل النفس، أو في عالم الخيال، حيث تتم الرحلة دون أن يفارق الإنسان مكانه خلال عشرات السنين، كأبي العلاء المعري، الشاعر العربي، رهين المحبسين، وكجول فيرن، الكاتب الفرنسي المشهور في عالم القصص العلمي. حتى إذا ما انتهى من تقرير هذين النوعين من الرحلة، راح يحدثنا عن نفسه، كيف أنه ينتمي إلى الرحالين بغير انتقال، على الرغم من أنه في صباه كان مشوقًا للسياحة في مشارق الأرض ومغاربها. إنه يرد ذلك الشوق القديم إلى ما يسميه "عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة"1. وكان الميل المتمكن من السليقة لديه هو حب العزل التي نشأ عليها وورثها من أبويه2. فهو إذن أميل إلى ذلك النوع من الرحلة الذي يتحقق دون الانتقال في المكان, على أنه يعتقد أنه لم يخسر بذلك شيئًا مما يحصله الرحالون المتنقلون.

_ 1 نفسه ص177. 2 نفسه ص178.

مهما يكن من شيء فإن رغبة العقاد في الحديث عن ميله إلى العزلة وعدم إقباله على السياحة في المكان اقتضت منه ذلك التمهيد الطويل عن كبار الرحالة في العالم، وعن ملكة الرحلة، وعن الشعوب التي صارت الرحلة ملكة من ملكاتها القومية ... إلخ. ولعله من الواضح الآن أن هذا المنهج في كتابة العنصر الواحد من عناصر السيرة يأتلف كل الائتلاف مع المنهج العام للسيرة كلها، في أن الكاتب لا يتجه إلى سرد قصة حياته إجمالا وتفصيلا بقدر ما يحاول التأمل في هذه الحياة، وتفسيرها وتبريرها. لقد كره العقاد السياحة في المكان، أي: الحركة فيه، وآثر عليها السياحة في النفس. ولعل سيرته الذاتية -"أنا"- كما كتبها تؤكد أنه حتى على مستوى الكتابة، قد آثر أن يستبطن ذاته على أن يحكي قصة حياته، فكان بذلك صادقًا مع نفسه فيما اعتقد وفيما كتب.

المقالة

2- المقالة: وكلمة المقال ليست غريبة على اللغة العربية، ولكنها من حيث دلالتها الفنية تعد محدثة في أدبنا العربي، والحق أن تاريخ المقالة عندنا يرتبط بتاريخ الصحافة، وهو تاريخ لا يرجع بنا إلى الوراء أكثر من قرن ونصف قرن بكثير؛ وبذلك يكون المقال قد دخل في حياتنا الأدبية بعد أن أخذ في الآداب الأوروبية وضعه الحديث. وذلك أن أول استعمال لكلمة مقال Essay ظهر حين نشر "مونتين"1 مقالاته عام 1850، ولكن كلمة "مقال" كانت في الحقيقة أقرب إلى ما عرفة الأدب العربي القديم في "الرسالة" لا الرسالة الشخصية أو الديوانية, ولكن الرسالة التي تتناول موضوعًا بالبحث، كرسالة إخوان الصفا مثلا, وهي بذلك كانت تطول حتى تملأ عشرات من الصفحات. أما المقالة في وضعها الفني الحديث فتتميز بالقصر؛ لأنها "لا تحاول أن تشمل كل الحقائق والأفكار المتصلة بموضوعها كما صنع "لوك"2 في "مقال عن الإدراك الإنساني"، ولكنها تختار جانبًا أو على الأكثر قليلًا من جوانبه لتجعله موضع الاعتبار. وهنا يكون ما فيها من فن؛ لأن المؤلف يجب أن يختار هذه الجوانب من موضوعه بحيث يستطيع تقديمها إلى قرائه بطريقة مشوقة. وهذا لا يتضمن المهارة في اختيار موضوع محدد، والحرص في اختيار المادة المتصلة به فحسب، بل يتضمن كذلك الحذاقة Graftsmanship الكافية

_ 1 ميشال يواقيم دو مونتين Michal Eyquem de Montaigne "1533-1592": محامٍ فرنسي ابتدع فن المقالة. 2 جون لوك John Locke "1632-1704": فيلسوف إنجليزي، عارض نظرية الحق الإلهي، وقال: إن الاختيار أساس المعرفة.

لتوزيع درجات القوة على المواضع المناسبة من المقالة؛ وذلك لضمان الاستجابة المطلوبة عند القارئ"1. فالمقال ليس حشدًا من المعلومات، وليس كل هدفه أن ينقل المعرفة، بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكون مشوقًا، ولا يكون المقال كذلك حتى يعطينا من شخصية الكاتب بمقدار ما يعطينا من الموضوع ذاته. فشخصية الكاتب لا بد أن تبرز في مقاله، لا في أسلوبه فحسب، بل في طريقة تناوله للموضوع وعرضه إياه، ثم في العنصر الذاتي الذي يضيفه الكاتب من خبرته الشخصية وممارسته للحياة العامة. والمقال نفسه يبدأ بأن يكون فكرة في رأس الكاتب، تظل في رأسه فترة من الزمن، تنمو فيها وتكبر وتأخذ الشكل السوي. وهي في تلك الفترة من النمو تتغذى من ملاحظة الكاتب، ومن قراءاته المتعددة النواحي، ومن خبراته الشخصية؛ ومن هنا اعتمد المقال على الحكاية والمثل والإشارة إلى جانب المادة التحصيلية, وكل ذلك يتشكل -حين يأخذ صورته النهائية- بحالة الكاتب النفسية. ومعنى هذا أن الكاتب يحدد مشروع مقاله قبل أن يكتبه بحيث تتوجه كل مادته على اختلاف أنواعها إلى جلاء فكرة واحدة في جميع جوانبها. وفي الوقت الذي يحرص فيه الكاتب على تماسك مقاله وقوته نجده حريصًا على إمتاع قارئه. ولما لم يكن للمقال ميدان محدد فقد رأيناه يتنوع أنواعًا عدة، فمقال أدبي، وآخر سياسي، وثالث اجتماعي، ورابع نقدي ... إلى غير ذلك من الأنواع. وقد كانت صحافتنا -قبل الحرب العالمية الأخيرة- صحافة مقال، أي: إنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا في تحريرها على المقالات المختلفة، ثم تحولت فترة إلى صحافة خبر، وأصبح دور المقالات ثانويًّا. أما في الوقت الحاضر فقد عادت المقالة تحتل مكانها في الصحف والمجلات على السواء، ولا ننسى أن المجلات الأدبية تهتمّ بالمقالة اهتمامًا خاصًّا. وفيما يلي دراسة لإحدى المقالات: شهر الدكتور زكي نجيب محمود -من بين المشتغلين بالفلسفة، ومنذ وقت مبكر- بكتابة المقال، فقد شغل -إلى جانب الفلسفة والتفلسف- بالظاهرة الأدبية، وتكون لديه تصور عملي لفن المقال، الذي يمتزج فيه الفكر بالحس، والتصور النظري بالتجربة العملية، والتاريخ بالواقع. والمقصود بالتصور العملي هنا هو طريقة إنشاء المقال وتركيب عناصره على نحو يحقق له الوحدة الموضوعية من جهة، ويجعله مثيرًا ومشوقًا للقارئ العام من جهة أخرى.

_ 1 Westland: op. cit., p. 202.

وهذا مقال نشره بعنوان "مدينة الفكر كثيرة الأبواب"1. ونلاحظ منذ البداية أن هذا العنوان قد صِيغ في جملة تامة مفيدة، وهي عبارة تبدو بسيطة للغاية، ومع ذلك فمن الواضح أنها لا ترد على الذهن ابتداء، أعني أنها لا تعبر عن مشكلة تطرح للوهلة الأولى على بساط التفكير، بل تبدو كما لو كانت تلخص النتيجة الأخيرة لسلسلة من الأفكار. ومن ثم تنشأ لدى القارئ -إثر قراءته لهذا العنوان- الرغبة في أن يعرف تلك الأفكار التي قادت إلى هذه النتيجة. وهذه هي الإثارة الأولى التي يمكن أن يحققها عنوان المقال لدى القارئ, وذلك عندما ينجح في حفزه على قراءة المقال. وربما كان يغلب على الاعتقاد أن العنوان الذي تتصف صيغته بالغموض هو العنوان المحقق للإثارة، ولكننا رأينا هنا كيف أن العنوان الذي صيغ في جملة "مفيدة" كان أيضًا مثيرًا. والمعول في كل الأحوال على مدى قدرة العنوان على أن يثير في ذهن القارئ هذا السؤال: كيف كان ذلك؟ فعند ذاك تتولد لدى القارئ الرغبة في قراءة المقال. فإذا قال الدكتور زكي نجيب محمود في عنوان مقاله: إن "مدينة الفكر كثيرة الأبواب" قلنا: وكيف كان ذلك؟ وهنالك نشرع في قراءة المقال. وكما أن عنوان المقال يؤدي دورًا مهمًّا في إثارة ذهن القارئ ودفعه إلى قراءة المقال، فكذلك الشأن بالنسبة إلى مدخل المقال نفسه، فكاتب المقال يختار المدخل الذي يظل يترجح في علاقته بالموضوع بين الوضوح والغموض، والذي قد يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عن صلب الموضوع، وإن اتضحت علاقته الماسة به فيما بعد. وقد دخل الكاتب إلى المقال الذي بين أيدينا من مدخل غريب، فحدثنا عن كتاب عربي صدر في مستهل الخمسينيات بعنوان "علمتني الحياة" يضم مجموعة من المقالات لكتاب غربيين وعرب، يتحدثون فيها من خلال تجاربهم عما علمتهم إياه الحياة. وكان كاتبنا واحدًا ممن اختيروا من الكتاب العرب للكتابة في هذا الموضوع. ويستعيد كاتبنا خلاصة ما قاله حينذاك، وهو أنه "كلما امتدت الأعوام بالإنسان قلت حدة انفعاله، وزادت رجاحة عقله"، فإذا بسلوكه يختلف أمام الموقف الواحد، فيكون انفعاليا في سن الشباب، رزينا ومتعقلا في سن الكهولة فضلا عن الشيخوخة. ثم يذكر الكاتب أنه

_ 1 نشر في صحيفة الأهرام في 19/ 6/ 1982، ص13.

ضرب لذلك مثلًا واقعيًّا شهده في جدته لأبيه، كيف بلغ بها الحزن والهلع حد الجنون عندما غرق أحد أبنائها في النيل، وكيف كظمت حزنها على وفاة ابن آخر لها بعد عشرين عامًا من الواقعة الأولى. وإلى هذا يبدو الحديث غريبًا عن الموضوع، إذن ما العلاقة بين تطور الإنسان في حياته من الانفعالية الثائرة إلى العقلانية الهادئة، ومدينة الفكر الكثيرة الأبواب؟ لكن المؤكد أن الكاتب لن يكتب كلامًا لا علاقة له بما هو فيه، إلا أن يكون فاسد التفكير. وإذن فلا بد من المضي في القراءة لاستجلاء المقصود من هذا المدخل, وعندئذ يكون الكاتب قد ولد لدى القارئ الرغبة في متابعة القراءة، حتى يدرك لم اختار الكاتب هذا المدخل لموضوعه. ويمضي الكاتب بعد ذلك فيسأل نفسه عما إذا كان ما يزال عند رأيه القديم ذاك، فيقرر أن رأيه لم يتغير، ولكنه يضيف إليه إضافة جديدة ومهمة، مؤداها أنه يجب على الإنسان ألا يضيق على نفسه الأفق، بأن يقف من أي موضوع معروض للنظر موقفًا يقول فيه: "إما.. وإما.. ولا ثالث لها". ذلك أن معظم الأمور تحتمل الجمع فيها بين جانب وجانب، بل بين عدة جوانب كان المظنون في أول الأمر أنها لا تجتمع. وواضح أن هذه الإضافة الجديدة تترتب على الفكرة الأولى، التي توضح كيف أن الفرد نفسه يتعامل مع الموقف الواحد في زمنين مختلفين بأسلوبين مختلفين. وهنا يشرع الكاتب في ضرب مثال واقعي يؤكد به الفكرة الجديدة، فيذكر كيف مرت أعوام كان فيها هو وزملاؤه من أساتذة الفلسفة يعتركون حول النظرة الفلسفية الصحيحة وما تكون، فكان منهم من يرى أنها النظرة المثالية، ومنهم من يرى أنها النظرة الوجودية، وكان هو نفسه يرى "أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ". ولكنه أدرك -فيما بعد- أن النظرة الصائبة صوابًا كاملًا "هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعة واحدة"، على أساس أن الكيان الإنساني نفسه إنما يقوم على عدد من العناصر، وأن الحياة الإنسانية متعددة الجوانب. فإذا اهتم الكاتب بجانب الحياة العلمية فليس يمنع هذا أن يهتم غيره بجانب آخر. ومرة أخرى يعود الكاتب فيضرب مثالا ولكنه في هذه المرة مثال افتراضي، فيشبه الأمر بجماعة من الناس "وقفوا جميعًا ينظرون معًا إلى منظر واحد، لكنّ كلا منهم أخذ ينظر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة؟ وآخر يفكر لنفسه: ماذا لو أحضرت أدواتي غدا, وجلست أرسم هذا المنظر؟

وثالث يفكر لنفسه متسائلًا: كيف لم يحدث له أن يصطاد السمك من النهر الجاري هناك؟ ورابع، وخامس ... إلخ". ثم يتساءل: "أفنقول في هذه الحالة: إن اتجاهات أولئك متعارضة؟ أم الأصوب أن نقول عنها: إن بعضها يكمل بعضًا؟ ". وهكذا ينتهي الكاتب في هذه المرحلة من المقال إلى تقرير أن ما قد نظنه تعارضًا في وجهات النظر إنما هو تعارض وهمي، إذ هي في حقيقة أمرها زوايا للنظر مختلفة. وإذا كان مدار الحديث حتى الآن هو الآراء والأفكار الفلسفية، فإن الأمر لا يختلف إذا نحن انتقلنا إلى إطار معرفي آخر، هو الآراء والأفكار الأدبية أو الفنية بعامة. وهنا يشرع الكاتب في بيان كيف أن زوايا النظر إلى الفن قد تختلف فتنشأ عن ذلك مذاهب مختلفة في النقد الفني. وهذه الزوايا لا تخرج -في رأيه- عن أربع: زاوية نفسية، وزاوية اجتماعية، وزاوية شخصية انطباعية، وزاوية شكلية، ثم يتساءل: "هل هذه الوقفات الأربع متعارضة؟ ". وهو يقرر -في الإجابة عن هذا السؤال- أن الأقرب إلى الصواب أن نقول: إن كل اتجاه يجيء إضافة إلى الاتجاهات الأخرى, فقراءة العمل الأدبي وفهمه من زاويتين أفضل من قراءته وفهمه من زاوية واحدة. ويزداد هذا الفهم إذا كان من ثلاث زوايا, ويكتمل الفهم إذا قرئ العمل الأدبي من خلال الزوايا الأربع مجتمعة. حتى إذا فرغ الكاتب من تقرير هذه الحقيقة على مستوى الفكر الفلسفي, ومستوى الفكر الأدبي بدا كما لو أنه ساق كل هذا التحليل ليتخذ منه مدخلًا للحديث عن خطاب بعث به إليه واحد من الحاصلين على درجة الليسانس في الفلسفة -ذكر الكاتب اسمه- على أثر قراءته عن اتجاه الكاتب في النقد، على نحو ما شرحه في كتابه "قصة عقل". ونفهم من هذا الخطاب أن اتجاه الكاتب في النقد الأدبي هو ذلك الاتجاه الذي يعنى بدراسة النص ذاته، بغض النظر عن دوافع صاحبه النفسية وظروفه الاجتماعية، في حين أن فهم الحياة النفسية والاجتماعية للفنان -في رأي صاحب الخطاب- يساعد الناقد كثيرًا في تحليله للأثر الأدبي. وهنا يعود الكاتب -في صدد الرد على صاحب الرسالة- ليؤكد فكرته السابقة في أن اختيار الناقد لزاوية من زوايا النظر الأربع لا يعني إلغاء الزوايا الأخرى. ثم يورد الكاتب جزءًا آخر من الرسالة، يأخذ فيها صاحبها عليه ما تقوله -أي الكاتب- من أن "من يقول حقيقة عامة، يعد قوله بعيدًا عن الفن الرفيع". وصاحب الرسالة إذ ينكر عليه هذا القول، يسوق بيت أبي تمام القائل:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب ثم يتجه إلى الكاتب بهذا السؤال: "أتراك بموجب هذا تحكم على هذا البيت من الشعر بالبعد عن الفن الرفيع لكونه يقرر حقيقة تقريرية؟ ". ويجيب الكاتب بأن ذلك البيت "ما كان ليكون شعرًا في الأساس إذا لم تكن مفرداته قد صيغت في هذا النظام الخاص، ووقعت في هذا الوزن الخاص، فهذا وذاك يكونان "الشكل" الذي هو جواز المرور المبدئي لدخوله في دنيا الفن". وعلى هذا الأساس يمضي الكاتب في بيان كيف يمكن له دراسته وتحليله على أساس معطياته الشكلية؛ ليبين موقعه من الفن الرفيع. على أنه يعود مرة أخرى فلا ينكر أهمية الزوايا الأخرى التي يمكن النظر منها إلى ذلك البيت، فهي بكل تأكيد تزيد القارئ فهمًا، فالمعرفة بالخلفية التاريخية أو الاجتماعية لبيت تزيد دلالته الفعلية وضوحًا لدى القارئ, ومع ذلك فإن هذا البيت "يظل بشكله الفني شعرًا رفيعًا". وعند هذا المدى يكون الكاتب قد بسط موضوعه بسطًا كافيًا، وعرض أفكاره المتعلقة به عرضًا شافيًا، فلم يعد يبقى سوى كلمة ختام يذكر فيها الكاتب خلاصة كل هذه الأفكار، والنتيجة الأخيرة التي يراد من القارئ أن يعيها في ذاكرته، إما ليأخذ منها أو يعارضها، وهي أن الحياة قد علمته أن "مدينة الفكر كثيرة الأبواب"، بمعنى "أن الموضوع الواحد يمكن للفكر أن يتناوله من عدة جهات، دون أن تجيء الأحكام عن الجوانب المختلفة مناقضًا بعضها لبعض، بل هي قد تكون متكاملة يقوي بعضها بعضا" وعند ذلك يتضح لنا أن هذه النتيجة هي التي صيغ منها عنوان المقال، الذي هو أول شيء يلقاه القارئ. وعلى هذا النحو تلتئم نهاية المقال ببدايته، وتقفل الدائرة، وتصبح كل الأفكار الجزئية التي اشتمل عليها المقال بمثابة الخلايا المتفاعلة في الكيان العضوي الحي. وهكذا يكشف لنا هذا المقال عن كثير من أسرار النجاح في هذا الفن من الكتابة. فمن الواضح أن الكاتب قد اختار فكرة أساسية محورية دارت حولها أفكاره الأخرى المستمدة من مجالات مختلفة وكانت في خدمتها. وهو كذلك قد قلب الفكرة فنظر إليها من وجوه مختلفة، واعتمد في هذا على قراءته الفلسفية مرة، والأدبية مرة، كما اعتمد على خبراته الشخصية وتجاربه في الحياة. وهو في كثير من المواضع كان يلجأ إلى

ضرب المثل؛ لما لذلك من أثر قوي في تقرير الفكرة المطلوبة في الأذهان. وربما بدا في بعض الأحيان مستطردًا، على نحو ما صنع في إيراد أجزاء من الرسالة التي بعث بها إليه أحد القراء، ولكننا ما نلبث أن ندرك أن هذا الاستطراد لم يخرج بنا عن صلب الموضوع، وأنه كان نوعًا من الاستشهاد بالوقائع، شأنه شأن ضرب الأمثال. وأخيرًا, فإن المادة الغزيرة المتنوعة التي بنى منها الكاتب موضوعه كانت مترابطة الأجزاء, ومتسلسلة تسلسلًا منطقيًّا مقنعًا.

الخاطرة

3- الخاطرة: والخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة, ولكنها تختلف عن المقال من عدة وجوه: فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة. وليست فكرة تعرض من كل الوجوه, بل هي مجرد لمحة. وليست كالمقالة مجالًا للأخذ والرد، ولا هي تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي. وما زلت أذكر للأستاذ الدكتور أحمد أمين "وكان من كتاب الخاطرة, وقد جمع خواطره في عدة مجلدات" تلك الخاطرة التي كتبها عن قطعة الورق التي مزقها وهو جالس إلى البحر فحمل الريح أجزاءها وذهب بكل جزء إلى جهة ما, كما تصنع الحياة بالناس ومصائرهم. فهنا لا نجد فكرة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، ولكنها لمحة ذهنية بمناسبة ذلك الحادث العرضي "تمزيق الورقة" محملة بمشاعر الكاتب. ثم لا ننسى الاختلاف في الطول، فالخاطرة أقصر من المقال، وهي لا تجاوز كثيرًا نصف عمود من الصحيفة، وعمودًا من المجلة. وإذا ذكرنا الصحيفة والمجلة فإنما نذكرهما لنعود لتقرير أن الخاطرة في وقتنا قد أصبحت عنصرًا صحفيًّا نطالعه في كل جريدة وكل مجلة، والصحف تعطي هذا العنصر عنوانًا ثابتًا؛ لأن الخاطرة تكون عادة -وهي تختلف في ذلك أيضًا عن المقال- بلا عنوان. من هذه العناوين: "فكرة"، "نحو النور"، "شموع تحترق"، "ما قل ودل".. إلخ. وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتمشى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطولة. وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لفت القارئ إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالة كبيرة.

ولنقف الآن وقفة أطول عند خاطرة من خواطر الأستاذ أحمد أمين الممتعة, ومن الطريف أنه نشرها بعنوان: "من غير عنوان"1. يبدأ الكاتب خاطرته بالحديث عن أكلة أكلها فساء هضمها في معدته، فانقبضت نفسه نتيجة لذلك، وتغير مزاجه، وفارقه المرح، وسئم كل شيء حوله، وبرم بمخالطة الناس كما برم بالعزلة عنهم، وكره السكوت كما كره الكلام. وعلى الجملة فقد اسودّ كل شيء في عينيه، فصار يرى العالم متجهمًا، "ثقيل الروح، فاسد المنطق"، يستوي فيه السعيد والشقي، والفقير والغني، والذكي والغبي، فقد سوى بينهم القبر. أما نظام هذا العالم فقد لاح له أنه فوضى، وأما الحياة فكلها فساد، وأما العيش فهذيان وتعلل بالأباطيل، وأما الدنيا فتلعب بالناس لعب الكرة. "وكل شيء في العالم مفترس؛ أسد يفترس ذئبًا، وذئب يفترس حَمَلًا، وإنسان يفترس كل شيء حتى نفسه". ثم زاد تلبّك معدته فزادت نقمته على الحياة. وفي خلال ذلك كانت أقوال قديمة للشعراء تتقاطر في ذهنه، مؤكدة كل المعاني السلبية البشعة التي رآها في العالم وفي الحياة وفي الناس. ثم تناول -كما يقول- دواءً هاضمًا فتغير مزاجه وتغيرت نظرته من النقيض إلى النقيض، فأخذ يهش للحياة، وينظر إلى العالم بوجه منطلق، فإذا العالم يتألق في عينيه جمالًا، ورقة، وعذوبة، وإذا كل شيء حوله يتهلل بالبشر، وإذا الدنيا "قيثارة يوقع عليها شجى الألحان ... ". وكما تقاطرت الأشعار القديمة على ذهنه في الحالة الأولى، تقاطرت أشعار قديمة أخرى في ذهنه، مؤكدة في هذه المرة كل الجوانب الإيجابية المحببة في الحياة. وهنا يقف الكاتب ليتأمل ما حدث في الحالين فيهوله الأمر، ويقول: "رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم، ويحيل السواد بياضًا، والشقاء سعادة، والقبح جمالًا، والظلام نورًا، والحزن سرورًا، فأين الحق؟ ". ومن الواضح أن الكاتب هنا لم يناقش موضوعًا بعينه، ولم يصدر في كتابته عن فكرة محددة ومختمرة في ذهنه، ولم يرد أن يقرر في نفس القارئ وجهة نظر خاصة، فالأمر كله لم يخرج عن ملاحظة حالته المعنوية عندما ساء هضمه وتلبكت معدته، وحالته عندما زال هذا السوء وهذا التلبك. والغريب أن يتم هذا التحول من النقيض إلى النقيض نتيجة لتناوله جرعة دواء هاضم، ولكن الأغرب منه أن نجد الشعراء يتحدثون بلسانه في الحالين، فإذا هم -بما قالوا- يدعمون ذلك التناقش. ومن هنا ينهي الكاتب

_ 1 أحمد أمين: فيض الخاطر، ج1، ط5، "مكتبة النهضة".

كلامه بهذا السؤال الكبير: أين الحق؟ وهو يلقي هذا السؤال على القارئ في اللحظة التي يقرر فيها أن يصمت وكأنه يدعو القارئ إلى التأمل في قضية الحياة وموقف الإنسان منها، وكيف أن هذا الموقف قد يتأثر إلى أبعد حد بالحالة التي تكون عليها معدة الإنسان، أليس هذا الأمر مدعاة للسخرية؟! وعلى هذا النحو تصبح الخاطرة المكتوبة -على الرغم من صغر حجمها- عملًا مثيرًا للذهن وممتعًا في الوقت نفسه، فيه من الشعر خاصية التركيز، وعمق النظرة، وحدة الشعور بالأشياء. هذه هي ترجمة الحياة والمقال والخاطرة، رأينا ضرورة عرض أصولها بعد أن عرضنا نظريات الأدب والنقد والشعر والقصة والمسرحية. وبذلك نكون قد وقفنا على أبرز فنون الأدب بأنواعها المختلفة، ونرجو -بعد- أن نكون قد حققنا الغاية التي من أجلها ألف هذا الكتاب.

المراجع

المراجع ...

الفهرس

الفهرس 4 إهداء 5 مقدمة الطبعة الثامنة 6 افتتاح الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي الفصل الأول: نظرية الأدب 9 1- تعريف الأدب 9 معنى كلمة "أدب" 10 فن الكلمة 11 المزاولة النفسية للعمل الأدبي 12 المتعة والمنفعة في العمل الأدبي 13 الحياة مادة الأدب 14 عناصر العمل الأدبي 15 صفات الأدب المرضي 16 مشكلة الموضوعات الأدبية 17 شخصية العلم الأدبي 20 إمكانيات اللغة 21 2- مشكلة الأسلوب 24 3- العلاقة بين الأدب والمجتمع

27 4- مناهج دراسة الأدب 29 المذاهب الأدبية: 29 الكلاسيكية، الرومانتيكية، الواقعية، الرمزية، السيريالية، الدادية، الوجودية، اللامعقول الفصل الثاني: نظرية النقد 39 معنى النقد 39 أهمية النقد 40 طبيعة النقد 43 قواعد النقد 44 مراحل العملية النقدية 49 الأساس النقدي للأدب القديم والحديث 52 النقد التفسيري للأدب 60 النقد الحكمي الباب الثاني: الفنون الأدبية 69 تمهيد: الأنواع الأدبية الفصل الأول: الشعر 75 قدم فن الشعر 75 محاولة تعريفه 76 طبيعة الشعر 79 الانفعال والفكرة

80 الصور القديمة وخصائصها 82 الصور في الشعر الحديث ودورها 84 الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما 90 -قصائد لشوقي وحافظ والعقاد "دراسة تطبيقية" 98 -قصيدة لصلاح عبد الصبور "دراسة تطبيقية" الفصل الثاني: الفن القصصي 101 الفن القصصي 101 مادة العمل القصصي 102 عملية الاختيار 103 عناصر العمل القصصي 104 1- الحادثة 104 2- السرد 105 3- البناء 107 4- الشخصية 108 5- الزمان والمكان 109 6- الفكرة 111 القصة القصيرة 116 قصة "أنا الشعب" "دراسة تطبيقية" الفصل الثالث: الفن المسرحي 131 الحوار، الصراع، الحركة 134 علاقة المسرحية بالمسرح

135 المسرحية الفلسفية 136 لغة المسرح بين الشعر والنثر 137 الإطار المسرحي 138 الأنواع المسرحية 141 مسرحية "غروب الأندلس" "دراسة تطبيقية" الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى 151 1- ترجمة الحياة 162 2- المقالة 168 3- الخاطرة 171 المراجع

§1/1