الأدب النبوي

محمد عبد العزيز الخَوْلي

مقدمة المحقق

[الأدب النبوي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله حمدا يوافي نعمه، ويرفع نقمه، ويكافىء مزيده والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أجمعين وبعد: فإن علم الحديث يعتبر من أهم العلوم الإسلامية بعد القرآن الكريم، حيث يعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع التي تلزم الإنسان في هذه الحياة، حتى يسير على هديها، وينعم بنعيمها يوم القيامة، وسعادتها عند لقاء الحق جل وعلا، ومن هنا كان لا بد للإنسان العاقل أن يبحث عن ذاك الهدي، وإن هذا الكتاب يمثل خير هذا الهدي. هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو الذي فيه الدواء الشافي لكثير من العلل والأسقام التي تعتري الإنسان في حياته الدنيا بالإضافة إلى أنه مليء بالحكم الخالدات والمواعظ البالغات، وهذا ما دفعني إلى الاعتناء بهذا الكتاب وتنقيحه وتخريج أحاديث ما أمكن. فكان عملي في الكتاب على النحو التالي: 1- خرّجت الآيات القرآنية ووضعتها بين قوسين مزهرين لتمييزها وبخط أسود. 2- قابلت هذه النسخة على عدة نسخ مطبوعة فقمت بتصحيح الخطأ والتصحيف. 3- خرّجت الأحاديث النبوية الشريفة ما أمكن ووضعتها بين علامتي تنصيص «» . 4- شرحت بعض الكلمات الصعبة والمبهمة. 5- ضبطت بعض الألفاظ بالشكل.

6- وضعت في أعلى الصفحات ترويسات بأرقام الأحاديث وعناوينها ليسهل على القارىء الكريم الرجوع إلى الأحاديث. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يلهمني السداد والتوفيق وأن يجعل عملي خالصا لوجه الكريم، وأن يحشرني تحت لواء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير. وكتب عبد المجيد محمد رياض طعمه حلبي حلب-

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته؛ ويزكيهم؛ ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ ويهداهم إلى المحجة؛ ويبصرهم مواطن الحجة؛ أرسله على حين فترة من الرسل؛ وحاجة من البشر؛ فأهاب بالعقول من سباتها وأخذ بالنفوس عن غيها؛ وعرض على الأنظار خيالة- سينما- تمثلت فيها آي الكون الصامتة؛ وشنف الآذان باي الله الناطقة؛ وأثلج الصدور بحكمه البالغة؛ وأفاض على القلوب من عظاته المؤثرة؛ فكان مصدر خير ومبعث نور؛ وشمس هداية؛ أضاءت للعالم سبل المصالح؛ وهدتهم خطط العمل الناجح؛ فكانوا بإرشاده أمة؛ وبنوا من آدابه دولة؛ كان لها شأن في العصور السالفة؛ كما نرجو لها في الأيام القابلة؛ فصلوات الله وسلامه عليه؛ ورحمته وبركاته إليه؛ وعلى آله الطيبين وصحبه المخلصين ومن قفا أثرهم؛ واختط سبيلهم. وبعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدبه العليم الحكيم، بما أنزل عليه من آي الكتاب المبين؛ فكان تكوينه خير تكوين، وتثقيفه أول تثقيف؛ فصدرت منه آيات بينات؛ وحكم خالدات؛ وعبارات في الأدب غاية؛ وفي البدع نهاية؛ كان لها شأو بعيد؛ وأثر حميد؛ في تربية النفوس وإصلاحها؛ وتقويم الأخلاق وتهذيبها؛ وقد تولى الفضلاء السابقون كلمه صلى الله عليه وسلم بالشرح والبيان؛ والاستنباط والاستنتاج؛ ولكن أدخلوا في طي ذلك ضروبا من الإعراب، وشتيتا من الروايات؛ وخليطا من الاستطراد؛ وكانوا يكتبون بلغة عصرهم، وروح وقتهم؛ ويمثلون من مشهودهم؛ فكان في ذلك إملال على القارىء؛ وإبعاد عن عصره الحاضر؛ خصوصا إذا لم يضرب في النحو بسهم غائر؛ ولم يكن له من فن الرواية حظ وافر؛ فأردت- ألهمني الله وإياك سبيل السداد-

إلى مئات من الأحاديث المنتقاة المتخيرة؛ التي تمتّ إلى العصر الحاضر بكبير الصلة فجمعتها جمعا؛ صحيحة غير معتلة؛ وقيمة غير معوجة؛ وتوليتها بالشرح والبيان شرحا يجاري الحياة؛ ويفصل شئونها؛ ويجلي غوامضها؛ ويحكم في أمورها؛ ويضرب في صميمها؛ شرحا يلمحه الأديب فيروقه رصفه؛ ويقرأه المربي فيسايره نهجه؛ وينظره القارىء الساذج فيسهل عليه فهمه؛ وتروى منه نفسه؛ شرحا فيه لكل مدرّس غنية؛ ولكل طالب بغية؛ ولكل راغب في الدين أو الخلق منية؛ وقد ضمنته جميع الأحاديث المقررة بالمدارس المصرية على اختلاف درجاتها كما ترى ذلك في الجدول الملحق بالفهرس، وأضفت إليها أضعافها مما يملأ نفس الراغب، ويسد جوعة الناهم وقد جعلته قسمين؛ أسهبت في شرح أولهما وأوجزت في آخرهما: إذ كان البيان السابق، داعية الإيجاز في اللاحق، والله يهديناا إلى سواء السبيل، ويوفقنا لخدمة هذا الدين، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير. محمد عبد العزيز الخولي

1 - باب: أثر النيات في الأعمال

1- باب: أثر النيات في الأعمال عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . [رواه البخاري ومسلم وغيرهما] ، وفي رواية زيادة: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» ، ثم عقّبها بالجملة الأخيرة «1» . اللغة: الأعمال: الشاملة لأعمال اللسان المسماة بالأقوال، ولأعمال الأعضاء الآخرى من رأس ويد ورجل وغيرهما. والنيات: جمع نية، وهي: القصد، وبعبارة أوسع هي: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر. وعرّفت في الشرع: بأنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه، وكلمة «إنما» تفيد التأكيد والقصر كقصر الأعمال هنا على نياتها من تحصيل غرض ديني أو دنيوي، والهجرة: ترك مكان إلى مكان آخر مأخوذة من الهجر، وهو مفارقة الإنسان غيره ببدنه أو لسانه أو قلبه، واستعملت في لسان الشارع في ترك دار الخوف إلى دار الأمن، كما فعل بعض الصحابة في تركهم مكة إلى الحبشة أول الأمر، وفي ترك دار الكفر إلى دار الإسلام فرارا بالدّين كما فعل المسلمون في مغادرتهم مكة إلى المدينة لما انتشر الإسلام فيها، وهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ترك ما نهى الله عنه، والدنيا: مؤنث الأدنى مأخوذة من الدنو وهو القرب، وتطلق على الحياة الأولى للإنسان، وعلى المخلوقات.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنية» (4904) .

الشرح:

الشرح: قد يتصدق إنسان ليقال: إنه محسن، أو ليحظى بمكانه عند مليك أو وزيرا أو مديرا؛ أو ليكسب خدمة ممن تصدق عليه؛ وقد تصدق آخر ليكف يدا عن السؤال؛ أو ليحفظ على بائس عفته وحياءه؛ أو لمجرد الامتثال لأمر الله بالإنفاق؛ أو لابتغاء ثوابه ورضوانه؛ فالعمل من الشخصين واحد وهو التصدق ولكن اختلفت درجته باختلاف النية الباعثة عليه فهو من الأول في درجة دنيا لأنه قصد به منفعة دنيوية شخصية لولاها لما تصدق فباعث الخير الحقيقي لم يتوطن نفسه؛ ومن الثاني في درجة عليا للباعث الطيب الذي ملأ قلبه وهو محبة الخير للناس؛ وحفظ الكرامة عليهم؛ والامتثال لأمر الله؛ وابتغاء مرضاته، مثل هذا يرجى منه خير كبير؛ ويرجى منه متابعة المعروف فهو مورد دائم لذوي الحاجات؛ وفي مثل هذا يقول الله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ بستان بمكان عال أَصابَها وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أُكُلَها ثمرها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ مطر قليل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «1» . أمّا الأول: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ «2» حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس لا نبات عليه. فالثاني: عمله مثمر؛ والأول غير مثمر. شخص يصلي ليرائي الناس فيسموه بالصلاح؛ أو يكلوا إليه عملا ماليا يطلق فيه يده بالاختلاس؛ وآخر يصلي قياما بالواجب؛ وتطهيرا لنفسه؛ وإرضاء لربه؛ أصلاتهما بدرجة واحدة؟ لا. كاتب أو شاعر أو خطيب يدعو إلى مصلحة عامة؛ والباعث له وظيفة يرجوها أو حظوة «3» عند ذي سلطان؛ أتكون درجته كاخر يدعو إلى ذلك لأن فيه خير الأمة؛ ولأن هذا بوحي قلبه المخلص لبلده؟ لا يستويان. فإن الأول إذا لم يصل لبغيته حطم قلمه؛ أمّا الثاني: فإنه دائب الدعوة، ولو لاقى في سبيل ذلك الصعاب؛ وقل مثل ذلك في سائر الأعمال؛ وبهذا عرفت أن معنى الجملة الأولى: الأعمال تابعة للنيات مقدّرة بها؛ وموزونة بميزانها؛ فدرجة كل عمل من درجة النية الباعثة عليه؛ فإن كانت

_ (1) سورة البقرة، الآية: 265. (2) سورة البقرة، الآية: 264. (3) حظوة: مكانة ومنزلة.

خيرا فخير؛ وإن شرا فشر؛ وإن شريفة فشريفة؛ وإن وضيعة فوضيعة؛ ولا تبديل لذلك، وهذا هو معنى الحصر أو القصر. وذهب بعض الشرّاح إلى أن معنى العبارة: صحة الأعمال بالنية؛ أي إنها لا تكون معتبرة في نظر الشارع؛ مترتبة عليها آثارها إلا بالنية. فالوضوء أو التيمم مثلا لا يعتبران شرعا بحيث تؤدى بهما الصلاة أو يباح بهما مس المصحف إلا إذا سبقتهما أو صاحبتهما النية؛ أما بدون النية فلا عبرة بهما فالنية على هذا التقدير لا بد منها في المقاصد كالصلاة والحج، والوسائل كالوضوء والتيمم. وقدّر بعضهم: كمال الأعمال بالنية ولذلك لم يشترطها في الوسائل وإن شرطها في المقاصد؛ وما قررناه أولا هو الظاهر وهو الذي يلائم التفريع الآتي. وإذا عرفت أنّ درجة الأعمال من درجات نياتها، وكان لكل عمل جزاء سعادة في الدنيا؛ ونعيم في الآخرة؛ أو خلافهما: بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم بالجملة الثانية أن لكل إنسان جزاء ما نواه؛ فمن كانت نيته ثواب الله ومرضاته فله ذلك؛ ومن كانت نيته شرا فله الويل؛ ومن نوى عرضا دنيويا محضا فلاحظ له في الثواب، وقد أفاد الحصر في هذه الجملة أن ما لم ينوه المرء لا شيء له أو عليه منه. الهجرة: الإنتقال من مكة دار الكفر إلى يثرب دار الإسلام وكانت من أبر الأعمال يوم كانت مكة في أيدي المشركين إذ بها يتمكن المسلم من إقامة شعائر الدين كاملة؛ ويستمع الوحي الذي كان يترى «1» نزوله؛ ويتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو نور له يسعى بين يديه؛ وينضم إلى فئة المسلمين المجاهدين؛ فيزيدهم قوة إلى قوة؛ ولما فتح المسلمون مكة سنة ثمان؛ وأصبحت دار إيمان لم تبق حاجة إلى الهجرة اللهم إلا هجرة من دار كفر وبغي إلى دار إيمان وعدل للشرع فيها قيام، وللمسلمين عزة وسلطان؛ فتلك لا تزال باقية إلى يوم القيامة وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث- تطبيقا على القاعدتين السابقتين- أن الهجرة من الناس ليست بدرجة واحدة عند الله؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ أي يقصد بها خدمة الدّين؛ وإعلاء كلمة الله بتعلم كتابه وسنة رسوله؛ والعمل بهما؛ وإقامة سلطانهما، والتمكين لهما- فهجرته إليهما أي هي الهجرة الحقة، التي تنبغي لكل مسلم مخلص؛ والتي

_ (1) يترى: أترى: عمل أعمالا متواترة بين كل عملين فترة.

2 - باب: دعائم الإسلام

يستحق عليها الثواب الجزيل والأجر العظيم؛ ومن كانت هجرته بقصد آخر: كمال يبتغيه، أو مناخ طيب يريد الإقامة فيه، أو فرار من غريم، أو من شرير أثيم، أو من حاكم ظلوم، أو ملك غشوم، أو امرأة يريد زواجها. وطيب العشرة معها- إلى غير ذلك من الأغراض الدنيوية، والمصالح الشخصية- فهجرته إلى ما هاجر إليه، أي ليس له إلا ما قصده فليس له ثواب المهاجر لخدمة الدّين بل لا ثواب له مطلقا مادام لم يكن في عمله قصد القربة إلى الله، وإنما له ما نواه لا يعدوه إلى جزاء المقربين. والحديث يحبب إلينا الرغبة في معالي الأمور، ويحثنا على الإخلاص في الطاعات، ويحضنا على خدمة الدّين ولو بمفارقة الوطن، والمال والولد، ويبين أن الأعمال ليست بمظهرها. بل للباعث عليها أثر كبير في انحطاطها أو علوها، وعقابها أو ثوابها. 2- باب: دعائم الإسلام عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألاإله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ وصوم رمضان» [رواه البخاري ومسلم] «1» . اللغة: الإسلام في اللغة: الانقياد والخضوع، أو الدخول في السلم- ضد الحرب- ويقال في الشرع على ضربين: أولهما الإعتراف اللساني بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم و ... الخ وافق القلب اللسان أو خالف، وثانيهما التصديق بالقلب إلى التصديق باللسان مع الوفاء بالفعل والاستسلام لله في جميع ما قضى وقدّر، وهذا أنسب معانيه بحديثنا، والشهادة: قول صادر عن علم حصل لمشاهدة بصر أو بصيرة، وتقال لمطلق الإقرار والاعتراف، والإله: المعبود، والصلاة في الأصل: الدعاء وتقال: للعبادة المعروفة لما فيها من الدعاء والتوجه إلى الله. وإقامتها: تقويمها بالخشوع فيها، والتفكر في معانيها، وتذكّر من أقيمت له، فهي من أقام العود إذا قومه،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان باب: دعاؤكم إيمانكم (8) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام و.. (21) .

الشرح:

وفسرت الإقامة: بالمداومة عليها والقيام بها في أوقاتها، والزكاة في الأصل: مصدر زكا الزرع يزكو إذا نما وأطلقت في عرف الشارع: على ما يخرجه الإنسان من ماله حقا لله تعالى ليصرف لذوي الحاجات وفي المصالح العامة، والصوم في اللغة: الإمساك، والمراد به هنا ترك الطعام والشراب والجماع يوما كاملا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والحج في اللغة: القصد والمراد به في لسان الشارع: قصد البيت الحرام- الكعبة- للطواف به والسعي بين الصفا والمروة- موضعين بجوار المسجد الحرام- والوقوف بعرفة: واد واسع على نحو ألفي متر من المسجد الحرام، إلى غير ذلك من باقي شعائره المعروفة. الشرح: يمثل الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام وقواعده بالأشياء التي يقوم بها بناء البيت من أحجار وأخشاب وجير أو طين، ورمل وإسمنت، وحديد وغيره، فكما للبيت عناصر أولية كذلك للإسلام الذي هو تصديق وعمل وخضوع واستسلام وأصول هي منه كعناصر البيت، وهي ما ذكرت في الحديث، وهناك أمور أخرى هي من هذه كالفروع من الأصول، أو هي من آثار الإحسان في هذه الأمور كحسن المعاملة للناس أثر من آثار الإحسان في الصلاة، والجهاد في سبيل الله لازم للعقيدة الخالصة إذ هو دفاع عنها أو نشر لها، وما من مبدأ يملك النفس إلا سخرها وسخر ما تملك في سبيل خدمته وصيانته، ونشره وإذاعته، وهاك بيان القواعد الخمس: فأولاها: الاعتراف بأنه لا إله حقيقي تجوز عبادته ويصمد «1» إليه في قضاء الحوائج الخارجة عن متناول البشر إلا الله ، الذي خلق كل شيء وبيده وحده الأمر والتدبير، أما ما يعبده الجاهلون من شمس وقمر، وحيوان وعجول، وأصنام وأوثان، وأنبياء وأولياء، فإنه الباطل والشرك، والظلم بترك الشكر لصاحب النعمة إلى من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا موتا. وكذلك الاعتراف بأن محمدا رسول الله أرسله على حين فترة من الرسل لهداية البشر، وإرشادهم لمصالحهم الحقيقية، وإعانتهم على شؤون الحياة. والاعتراف بالوحدة لله والرسالة لمحمد أساس الاعتراف بالحقائق ومبدأ الهداية الحقة ولذلك بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ (1) يصمد: يعمد ويقصد.

وثانيتها: الصلاة

وثانيتها: الصلاة ، وهي دعاء وابتهال، وخشوع وامتثال، توثق صلة العبد بربه، فيفيض عليه من خيره، وتطهر نفسه من التكالب على أعراض هذه الحياة وتعوّده الإخلاص والابتعاد من النفاق؛ تبعث في جسمه النشاط بما يقوم به من حركات؛ وتمرنه على النظام؛ وأداء الأمور في مواعيدها المضروبة، يقرأ فيها القرآن وقلبه خاشع، وذهنه حاضر، فيتعلم من علومه ويهتدي بهداه؛ وتصفو نفسه؛ ويستنير عقله لهذا كانت عنصرا أساسيا في بناء الإسلام. وثالثتها: الزكاة: وهي قليل من مالك؛ الزائد عن حاجتك؛ تخرجه للفقراء والمساكين؛ وتحرّر به رقاب الأسرى العانين؛ وتعين به الغارمين «1» المدينين؛ وتقوي به صرح هذا الدين؛ فتكون بذلك قد رفعت البؤس عن البائسين، فيحبونك؛ ويجلّونك ويحافظون على حياتك ومالك، محافظتهم على رأس المال، إذ كنت مصدر رزقهم، ومحط آمالهم، وتكون بذلك خدمت دينك خدمة قيمة إذ جاهدت في سبيله بمالك، وخدمت نفسك بتطهيرها من رذيلة البخل والشح، وتعويدها الخير، ورفع مقامها بين الخلق. ورابعتها: صوم رمضان: يطهر معدتك مما علق بها من بقايا الطعام؛ ويريحها من العمل عدة أيام، وينمي في نفسك الشعور بحال الفقير والمسكين، إذ به تذوق ألم الجوع والظمأ، فتذكر إخوانا لك بائسين؛ تذكرهم بمعونتك وبرّك ويزكي فيك روح التفكير، إذ البطنة تذهب بالفطنة؛ ويذكرك في كل لحظة بإله هو رب نعمتك؛ فترطب بذكره لسانك؛ وتقرأ من القرآن ما بدا لك، إلى غير ذلك من حكمه وأسراره. وخامستها: حج البيت: فتذهب إلى مكة البلد الأمين؛ الذي نشأ فيه سيد العالمين، ونبت فيه هذا الدين، وترى أول بيت وضع للناس؛ وتقوم بأعمال مختلفة كلها قربات؛ من طواف وصلاة وسعي ووقوف بعرفات؛ وذكر وتهليل وتلبية وتكبير، وذبح قرابين وتصدق على الفقراء والمساكين؛ فتهذب نفسك بالسفر؛ وتذكر النشأة الأولى للإسلام الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «2» ، وتجتمع بإخوانك المسلمين، الذين

_ (1) المغرم: المثقل بالدّين. (2) سورة الذاريات، الآية: 55.

3 - باب: بيان المسلم والمهاجر

نسلوا «1» من كل حدب «2» ، وأتوا من كل فج «3» ، من مشارق الأرض ومغاربها، فتفكر معهم فيما يعيد للإسلام مجده، أو ما يعلي سلطانه وشأنه، وتقف على حال المسلمين في الأقطار المختلفة- والعلم أول خطوة إلى العمل- إلى حكم أخرى، تنبهك هذه إليها. تلك دعامات الإسلام، فاحرص عليها، ونمّها بالأعمال الصالحة الآخرى واللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «4» . 3- باب: بيان المسلم والمهاجر عن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . [رواه البخاري وأبو داود والنسائي] «5» . شرحت لك في الحديث الماضي كلمة الإسلام، وبينت المراد بالهجرة في الحديث الأول. وهنا يبين الرسول صلى الله عليه وآله الجدير بلقب الإسلام والجدير بلقب المهاجرة، فالأول: من سلم الناس من شره مسلمين أو غير مسلمين ممن لهم ذمة أو عهد وإن كانت حرمة المسلمين فوق حرمة غيرهم ومنع الأذى عنهم في المقدمة- وهذه حكمة تخصيصهم بالذكر- أما المحاربون المعتدون على ديننا أو بلادنا فنحاربهم بكل ما استطعنا، وخص اللسان واليد بالسلامة من شرهما دون باقي الأعضاء لأن أكثر الإيذاء بهما وإن كان بغيرهما أيضا محرما: فالمسلم ليس بسبّاب ولا شتام، ولا مغتاب ولا

_ (1) نسلوا: أسرعوا. (2) الحدب: المكان المرتفع. (3) الفج: الطريق بين جبلين، والمراد أتوا مسرعين من كل مكان. (4) سورة التوبة، الآية: 120. (5) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (162) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل (5014) .

4 - باب: علامة المؤمن

نمام، لا يأمر بمنكر ولا ينهي عن معروف، ولا يكذب على الناس، ولا يغرر بهم، ولا يقول بغير علم، ولا يحرك لسانه سخرية بأحد، بل لسانه حلو، لا يصدر منه للناس إلا الخير وكذلك المسلم لا يؤذي الناس بيده، فلا يقلع زرعهم أو يسم حيوانهم أو يهدم بنيانهم أو يغير حدودهم، أو يضربهم، أو يقتلهم، أو يستلب أموالهم، أو يكتب بيده في ثلم أعراضهم، والحط من كرامتهم، والتضليل لهم، أو يعين عليهم عدوهم، أو يحرش الظلمة بهم، بل يده شريفة نزيهة، لا تعمل إلا الخير، ولا تخط إلا الحق، ومن الخير والحق إيذاء الولد تربية له وتأديبا، وإقامة الحدود من جلد أو قطع، أو قتل على من سعى في الأرض فسادا، وهدّد الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وكذلك لا يؤذي الناس ببصره أو سمعه، أو صوته أو رجله أو غيرها من أعضائه بل كله للناس سلم، وهو لهم خير. أما المهاجر بحق: فهو الذي لم يقف عند الهجرة الظاهرة من ترك دار الحرب إلى دار الأمن، بل هجر كل ما نهى الله عنه، فلا يقتل ولا يسرق ولا يزني ولا يفسق، ولا يشهد الزور، ولا يشرب الخمور، ولا يبخل أو يسرف أو يداهن أو ينافق- إلى غير ذلك من الأمور المحرمة- بل ضرب بينه وبين المعاصي حجابا وسورا، فكل عمله في دائرة الخير والواجب. والحديث يبين في جلاء أن الظواهر لا يعبأ الله بها إذا لم يؤيدها الأعمال الدالة على صدقها. 4- باب: علامة المؤمن عن أنس رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» . [رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي] «1» . اللغة: المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب من حسن وجمال، أو فضل

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب ... (168) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان (5031) .

الشرح:

وكمال، أو خير وإحسان، والمراد هنا الميل الإختياري دون الطبعي القسري «1» . الشرح: آية الإيمان الحق أن يرى الفرد نفسه عضوا في المجتمع، نفعه نفع لنفسه، وضره إضرار بها، فإذا أحس هذا الإحساس الصادق، وانطبع في نفسه رأى غيره كنفسه، بل رآه نفسه، فيحب له مثل ما يحب لنفسه، يحب لنفسه علما واسعا، وخلقا طيبا، وعملا صالحا، ومكانا عاليا، وشرفا ساميا، يحب لها بيتا جميلا؛ ومالا غزيرا، وضياعا واسعة، وزوجا صالحة، وبنين شهودا، وركوبا ذلولا «2» ، وأقرباء مخلصين، وإخوانا صالحين، وخدما طائعين! فليحب لأخيه ابن أخيه- دنا أو علا- كل ذلك، أما أن يحب لنفسه أمرا ولا يحبه لغيره، ويحسده أو يحقد عليه إن ناله فذلك مناف للإيمان، بل ذلك بقية من آثار الكفران، وكما يحب لغيره ما يحب لنفسه يبغض له ما يبغض لها، يبغض الفقر والذل، والاستعباد والانحطاط، والبلاء في المال أو النفس أو الأولاد، وغير ذلك من الأمور المكروهة، فليبغض لأخيه ما يبغض لنفسه وفاء بحق الإيمان. 5- باب: علامات النفاق- 1- عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . [رواه الشيخان وأصحاب السنن الثلاثة أبو داود والترمذي والنسائي] «3» . اللغة: النفاق في اللغة: مخالفة الباطن للظاهر، وأصله من نافقاء

_ (1) القسري: القسر: هو القهر. (2) الذلول: الدابة السهلة والمهيأة. (3) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (34) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (207) . ورواه أبو داود في كتاب: السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصه (4688) ، ورواه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في علامة المنافق (2632) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (5035) .

الشرح:

اليربوع «1» وهي إحدى حجراته يكتمها ويظهر غيرها، والنفاق إن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ووعد يستعمل في الخير والشر إذا ذكر الفعل، يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا، فإذا أسقط قالوا في الخير: وعدته وفي الشر أوعدته، وحكى ابن الأعرابي في نوادره أو عدته خيرا، فالمراد بالوعد في الحديث: الوعد بالخير، وأما الشر: فيستحب إخلافه وقد يحب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. والغدر: ترك الوفاء بما عاهد عليه، والمخاصمة: المنازعة أصلها من خصم الشيء أي جانبه وناحيته فكل من المتخاصمين في جهة، والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده وأصله من الفجر وهو شق الشيء شقا واسعا والفجور فتق في الدين. الشرح: يبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من وجدت فيه أربع خصال كان منافقا خالصا ومن وجد فيه بعضها كان لديه من النفاق بقدر ما وجد فيه، وتلك الخصال هي خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، والغدر في المعاهدة، والفجور في المخاصمة وحقا إنها لكبائر موبقة وجرائم مردية، لا تصدر عن مؤمن ملأ الإيمان قلبه. فخيانة الأمانة ظلم لصاحبها ونزع للثقة من نفوس الناس بخائنها، وهي نوع من السرقة، وقد فسروا الخيانة: بأنها التصرف في الأمانة بغير وجه شرعي كبيعها أو جحدها أو انتقاصها أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كل ما ائتمن عليه الإنسان من مال أو عرض أو حق بل تشمل الشرائع التي جعلها الله في يدنا أمانات نعلمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل، ولذلك سمى الله تعالى مخالفة كتابه وسنة رسوله خيانة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . أما الكذب في الحديث فإنه أس النفاق والقاضي على الأخلاق، وهو داع لاحتقار صاحبه، وعدم الثقة في شأن من الشئون، وصاحبه لبّاس «3» على الناس عاش لهم، والكذاب في الحقيقة ميت بين الأحياء.

_ (1) نافقاء اليربوع: نوع من الفئران، وهو حيوان من الفصيلة اليربوعية صغير على هيئة الجرذ الصغير له ذنب طويل قصير اليدين طويل الرجلين. (2) سورة الأنفال، الآية: 27. (3) اللبّاس: كثير الخلط والتدليس.

وخلف الوعود أو نقض العهود والغدر بها باب من أبواب الكذب، وقد رتب الله عليه نفاق القلوب في قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ «1» وخلف الوعد تضييع للثقة، وسرقة من وقت الموعود، وإخلال بنظام حياته وأعماله، وكل هذه يفقد بها الإنسان من مكاسب الحياة ربحا عظيما، وكذلك نقض العهد، وخلف الوعد يكون جريمة كبرى إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد فإذا كان عازما على الوفاء ساعة وعد ولكن عرض له ما حال دون الوفاء، لم يكن من أهل النفاق، فإن كان الوفاء في إمكانه وتركه فعليه إثم الإخلاف وإن كان قبل عازما على الوفاء. وأما الفجور في المخاصمة وعدم الوقوف عند الحق: فذلك وزر كبير يجر إلى أوزار كثيرة، ومفاسد عظيمة. فالفاجر في الخصومة ينكر حق صاحبه ويستحل ماله وعرضه، ولا يترك بابا من أبواب الإضرار به إلا اقتحمه، ولو أضاع في سبيل ذلك المال الكثير، بل ولو شغله ذلك عن القيام بواجباته وأنت جد عليم بما يكون بين أرباب القضايا وبين الحزبين من بلد واحد، وبين الأحزاب السياسية وغيرها، فالفجور في الخصومة داء وبيل، يقطع الأواصر «2» وينشر الجرائم، ويفتك بالأخلاق، فلا جرم إن كان آية الآيات في النفاق. هذا وقد ذكر النووي أن جماعة من العلماء عدّوا هذا الحديث مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره، وقد أجيب عن ذلك بأن المتصف بهذه الخصال كالمنافق في التخلق بأخلاقه لا أنه منافق حقيقة، وهذا الجواب مبني على أن المراد بالنفاق في الحديث النفاق في الإيمان، وهذا الجواب مردود بقوله في الحديث: «كان منافقا خالصا» ، وأجيب أيضا بأن الظاهر غير مراد وإنما الغرض من ذلك المبالغة في التحذير، والتنفير من هذه الخصال بأبشع الطرق. وارتضى القرطبي أن المراد بالنفاق هنا نفاق العمل، ويرى آخرون أنه نفاق في الإيمان، والمراد بمن وجدت فيه هذه الخصال: من تعودها وصارت له ديدنا وخلقا،

_ (1) سورة التوبة، الآية: 77. (2) الأواصر: الصلة والقرابة.

6 - باب: علامات النفاق - 2 -

ويدل عليه التعبير بإذا فإنها تدل على تكرر الفعل، فالمتخلق بها منافق حقيقة يستحق الدرك الأسفل من النار، فتلك أربعة أجوبة تخير منها ما شئت. والحديث دعامة كبيرة من دعائم الأخلاق التي ترتكز عليها عزة الأمم وسعادتها. 6- باب: علامات النفاق- 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . [رواه مسلم والترمذي والنسائي] «1» . الآية: العلامة الظاهرة التي تدل على أمر خفي وراءها، وإخلاف الوعد ترك الوفاء مأخوذة من أخلف الشجر إذا اخضر بعد سقوط ورقه، وليس الغرض من ذكر هذه الثلاثة حصر آيات النفاق فيها فإنها كثيرة كالفجور في المخاصمة وإنما الغرض التنبيه إلى أصولها إذ التدين ينحصر أصله في ثلاثة القول والعمل والنية فنبّه إلى فساد القول بالكذب، وإلى فساد الفعل بالخيانة، وإلى فساد النية بالإخلاف لأن الإخلاف القادح «2» ما كان العزم عليه مقارنا للوعد، وباقي الشرح للحديث في شرح ما قبله. 7- باب: الدين النصيحة عن تميم الدّاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدّين النّصيحة» ، قالوا: لمن

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (33) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (208) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (5036) . ورواه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في علامة المنافق (2631) . (2) القادح: الناقص.

اللغة:

يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه. ولرسوله، ولأئمّة المسلمين، وعامّتهم» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي] «1» . اللغة: قال صاحب النهاية «2» : النصيحة: كلمة تعبر عن جملة هي (إرادة الخير للمنصوح له) وليست كلمة تعبر عن هذا المعنى سواها. وأصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحته ونصحت له، وقال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له. الشرح: حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّين في النصيحة لعلو شأنها، ولأنها بالتعميم الذي ذكره الرسول شملت الدين كله، فأخبر بها عنه بصيغة القصر، والنصيحة وإن كان معناها العام ما ذكرناه فإنها تختلف باختلاف المنصوح له فالنصيحة لله الإيمان به، ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بأوصاف الكمال، وتنزيهه عن النقائص، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك مما يجب له، وجميع هذه الأشياء في الحقيقة ترجع مصلحتها إلى العبد، فهي نصيحة لنفسه وكسب خير لها. والنصيحة لكتابه: الإيمان بأنه كلامه تعالى، وتحليل ما حلله، وتحريم ما حرمه، والاهتداء بما فيه، والتدبر لمعانيه، والقيام بحقوق تلاوته، والاتعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، والمعرفة له ... إلخ. والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تصديقه فيما جاء به، واتباعه فيما أمر به ونهى عنه، وتعظيم حقه، وتوقيره حيا وميتا ومعرفة سنته، ونشرها، والعمل بها ... إلخ. والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم بحوائج العباد، ونصحهم في رفق وعدل ... إلخ، والمراد بأئمة المسلمين: إعانتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم بحوائج العباد،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة لله ورسوله.. معلقا» . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (194) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في النصيحة (1926) وقال: حسن صحيح. (2) صاحب النهاية: هو ابن الأثير وكتابه «النهاية في غريب الحديث والأثر» .

8 - باب: أثر العلم في النفوس واختلافه باختلافها

ونصحهم في رفق وعدل ... إلخ، والمراد بأئمة المسلمين قادتهم في تنظيم شؤون الدنيا، وفي إقامة معالم الدين ونشره بين الناس، فتشمل الملوك والأمراء والرؤساء والعلماء. والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأخراهم، وكف الأذى عنهم، وتعليمهم ما جهلوه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونحو ذلك واعلم أن نصيحة المسلمين فرض كفاية على من هو أهل لها وهي واجبة على قدر الطاقة البشرية مادام هناك أمل في قبولها- والمسلم لا ييأس- ولم يخش في سبيلها أذى لا يحتمل، فإن خشيه فهو في سعة. 8- باب: أثر العلم في النفوس واختلافه باختلافها عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب- في رواية «إخاذات- أمسكت الماء، فنفع الله بها النّاس، فشربوا وسقوا وزرعوا» - في رواية «ورعوا- وأصابه منها طائفة أخرى إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلمه وعلّمه، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الّذي أرسلت به» . [رواه البخاري ومسلم والنسائي] «1» . اللغة: المثل: المثيل والنظير، ويقال: للصفة العجيبة؛ والهدى: الدلالة الموصلة للغاية، والغيث: المطر، والنقية: الطيبة المعدن، الخالصة من عوائق الإنبات، والكلأ: النبات رطبا ويابسا، والعشب: النبات الرطب، والأجادب: جمع

_ (1) ورواه البخاري في كتاب: العلم، باب: فضل من علم وعلّم (79) . رواه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم (5912) .

الشرح:

جدب على غير قياس وهي: الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء، والإخااذات: جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. والرعي: تغذية الحيوان من المرعى، والقيعان: واحدها قاع وهي الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت، وفقه: فهم، وفقه: صار فقيها. الشرح: بعث الله محمدا بالقرآن الذي يرشد الناس إلى طريق الخير، ويهداهم إلى وجوه المصلحة، والذي يعرفهم الحقائق، ويبين لهم الأحكام، ويرفع عن قلوبهم غشاء الجهالة، فهو هدى ورشاد، وهو علم ونور شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» . وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «2» غير أن الناس لم يكونوا في الانتفاع به بدرجة واحدة بل اختلفوا وتباينوا لاختلاف نفوسهم وتفاوت استعدادهم. ففريق طيب النفس، صافي الفطرة، لم يدنسها بالآثام، ولم يفسدها بالأوزار، فهذا حينما يسمع الوحي يصغي إليه بأذنيه، ويتفهمه ويتدبره؛ ويفقهه ويحفظه، وتتأثر به نفسه الطيبة، وقلبه السليم، فيوحي إلى الأعضاء بالعمل به، ويأخذ في دعوة الناس إليه، فهو للقرآن سميع، وبأحكامه عليم، ولإرشاده مجيب، وللناس به ناصح أمين. وهذا قد مثّله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة التربة، النقية الخصبة، إذا نزل بها المطر الغزير نفذ إلى صميمها، فأثر فيها، فاهتزت «3» وربت، وأنبتت بالماء العشب والكلأ، فرعاه الحيوان، وعاد خيره للإنسان، بل أنبتت بالماء من كل زوج بهيج مما هو طعام للإنسان وغذاء أو فاكهة ومتاع، فالأرض لجودتها قد حبست الماء في جوفها لمصلحتها، فأخصبت به بعد إجدابها، وحييت به بعد موتها، ونفعت الإنسان والحيوان بما أخرجت من الكلأ والثمار، كذلك القرآن إذا نزل صيب آية بالنفوس الطيبة حييت به القلوب الهامدة، فأوحت للمرء بالأعمال الصالحة وأخذ يعلم الناس ما علم وينفعهم بما به انتفع، وهذا الفريق هو الذي قال الله فيه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «4» . وفريق خبثت نفسه، وفسدت فطرته، ومات استعداده، فهذا إن قرعت أذنه آي

_ (1) سورة البقرة، الآية: 185. (2) سورة النساء، الآية: 174. (3) اهتزت الأرض: أخصبت وأنبتت. (4) سورة فصلت، الآية: 44.

الوحي ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا، لا يرفع به رأسا، ولا يفتح له قلبا، ولا يقبل منه هدى. وهذا مثّله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأرض المستوية؛ الرخوة السّبخة «1» ؛ إذا نزل بها الماء أضلته في جوفها؛ وأضاعته في مسامها؛ ولم تخرج به كلأ ولا عشبا؛ ولا نباتا ولا ثمرا، فلا هي انتفعت بالماء ولا هي أمسكته على ظهرها، فانتفع به الحيوان والإنسان أو سقي به أرض أخرى طيبة نقية فكذلك هذا الفريق لم ينتفع بالوحي ولم ينفع به فكان مثله كمثل الأرض الخبيثة، وهذا الفريق الذي قال الله فيه: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» . وفريق ثالث بين الفريقين لم يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذكر مثله ومن عرف الفريقين عرفه: بل المثل وحده يرشد إليه؛ فهو ذلك الشخص الذي سمع القرآن؛ فعقله وفهمه، ووقف على أحكامه، وحلاله وحرامه، ولكن لم يعمل به في خاصة نفسه، ولكن دعا الناس إليه علمهم ما تعلم، فهو كالذين قال الله فيهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ «3» فهذا قد نفع الله به العباد، وجعله معبر خير لهم ولم ينتفع هو بما علم وعلّم، وكان حريا «4» به أن يهذب نفسه بما هذب به غيره، فهذا مثله كالأرض الصلبة التي تمسك الماء لا تشربه، فيشرب منه الناس والحيوان، وتسقي به الأرض الطيبة الخصبة، ويلقي بها الحب والبذور، فينبت بالماء نباتا حسنا، فيأكل الإنسان ويرعى الحيوان، فالأجادب نفعت ولم تنفع، كذلك العالم بالقرآن يعلمه ولا يعمل به، أفترضى أن تكون أرضا مجدبة؟ أليست نفسك أولى ببرّك وعلمك، أتريد أن تكون ممن قال الله فيهم: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً «5» عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «6» فاستمع للوحي وتدبره، وهذب به نفسك؛ وكمل به خلقك؛ وادع الناس إليه بقولك، كما تدعوهم بعلمك وَمَنْ

_ (1) السّبخة: أرض ذات ملح ونز لا تكاد تنبت. (2) سورة البقرة، الآيتان: 6، 7. (3) سورة البقرة، الآية: 44. (4) حريا: جديرا. (5) المقت: البغض والكره. (6) سورة الصف، الآيتان: 2، 3.

9 - باب: الهلع عند المصائب

أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ «1» . 9- باب: الهلع عند المصائب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لطم الخدود. وشقّ الّجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه] «2» . اللغة: جيب الثوب: فتحته التي يدخل منها الإنسان الرأس أي طوقه، والجاهلية: الحال التي كان العرب عليها قبل الإسلام من الجهل بالله؛ وبالدين الحق، والمفاخرة بالأنساب، والكبر، والتجبر، ووأد البنات، وغير ذلك. الشرح: من خلق المؤمن الصبر عند نزول المصائب، ومقابلتها بالرضا والتسليم إذ يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «3» ويقول: إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، والصبر يخفف المصيبة؛ ويحلل صلدها «4» ؛ ويقتل جرثومتها. وأما الجزع والهلع والسخط على ما قضى الله وقدّر، فليس من الإيمان في شيء وليس الذي يقوم به من حزب محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه. فالذي ينخلع قلبه للمصيبة ولا يعرف الثبات والشجاعة في ملاقاة الإحن «5» ،

_ (1) سورة فصلت، الآية: 33. (2) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب (1294) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء ... (281) . ورواه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: ضرب الخدود (1861) . ورواه الترمذي في كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب عند المصيبة (999) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب (1584) . (3) سورة البقرة، الآية: 156. (4) الصلد: الصلب الأملس الشديد. (5) الإحن: جمع إحنة: الحقد والضغن.

10 - باب: أنواع الصدقة

وملاقاة المحن، بل يلطم الخدود، ويسخم «1» الوجوه، ويدق الصدور، ويشق الجيوب، ويمزق الثياب ويقطع الهندام، ويدعو بدعوى الجاهلية فيقول: واأبتاه، وا أماه، وا ولداه، وا زوجاه، وا قريباه، وا مصيبتاه، وا داهيتاه، وا مالاه، وا بيتاه، ويقول كلّما يعترض بها على القدر؛ وينقد قضاءه- من كان كذلك فليس من المسلمين. إنما المسلم الثابت الرزين الصابر المحتسب: الذي لا يدفعه الحزن إلى التسخط، بل يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حال وفاة إبراهيم ولده، جعلت عيناه تذرفان الدمع، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة» ، ثم أتبعها بأخرى، وقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ، فليتق الله رجالنا ونساؤنا فيما يصنعون وقت المصائب، وليعلم الأزواج الذين يسمحون لنسائهم بالنياحة والتعديد «2» ، ولطم الخدود، ودق الطبول، أنهم شركاؤهن في الإثم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «3» . 10- باب: أنواع الصدقة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كلّ مسلم صدقة» ، وفي رواية زيادة: «كلّ يوم» ، فقالوا: يا نبيّ الله فإن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدّق» . قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» . قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف» - وفي رواية- «فليأمر بالخير أو بالمعروف، وليمسك عن الشّرّ» ، وفي رواية- قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: «فليمسك عن الشّرّ فإنّها له صدقة» . وفي رواية: «فإنّه» [رواه البخاري ومسلم والنسائي] «4» .

_ (1) يسخم: يسوّد. (2) التعديد: ذكر المناقب الحميدة. (3) سورة التحريم، الآية: 6. (4) رواه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: على كل مسلم صدقة ممن لم يجد ... (1445) . -

اللغة:

اللغة: الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به والزكاة للواجب. وقد يسمي الواجب صدقة إذا تحرى مخرجه الصدق في فعله بأن يكون مخلصا فيه، طيبة به نفسه. والملهوف: المظلوم يستغيث أو هو المستغيث مظلوما أو عاجزا، والمعروف: اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه، والمنكر ما ينكر بهما. الشرح: المسلم لا يعمل لخير نفسه فقط؛ بل لخيرها وخير غيره، وقد أكد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم صدقة، يعود بها نفسه البذل ويثبت فيها خلق الكرم، وينفع بها الفقراء والمساكين، فإن لم يجد ما يتصدق به جد في العمل، وكدح في تحصيل الرزق من طريق التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها من طرق الكسب حتى يكون بيده مال ينفع نفسه بالطعام، والشراب، واللباس، والسكن والركوب، وتخير المرأة الصالحة، والإنفاق عليها وعلى أولادها منه وينفع غيره بالتصدق عليه، والإقراض له؛ وتحمل الدّين عنه، فإن لم يجد العمل أو وجده ولا يستطيعه أعان ذا الحاجة من مظلوم يستغيث، ومكروب يستجير، وعاجز يستعين. فينصر المظلوم بمساعدته على نيل حقه، ومنع الحيف «1» عنه، ويجير المكروب بتفريج كربته وتخفيف بليته، فإن كان مريضا رجا له طبيبا يداويه، أو ساعده على دخول مستشفى يطببه ويراعيه، وإن كان له مال ضائع ساعده على الوصول إليه، ويعين العاجز على قضاء ماربه، وتحقيق أمانيه، فإن لم يكن في قدرته الإعانة وكشف الكرب أمر الناس بالمعروف من صلاة وصيام، وحج وزكاة، وحسن أخلاق، وجميل معاشرة، وأدب في معاملة وتعلم علم، وإخلاص في عمل، وابتغاء خير، ونهاهم عن المنكر من زني وشرب خمور، وشهادة زور، وتهتك وفجور، وظلم وسرقة، ونفاق ومداهنة «2» ، وليعمل بما يأمر.

_ - ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2330) . ورواه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: صدقة العبد (2537) . (1) الحيف: الجور. (2) المداهنة: الغش والخداع.

11 - باب: ترك المشتبهات

وليترك ما نهي عنه فإن ذلك أساس الدعوة الحقة: أن يعمل أولا بما يدعو إليه فإن لم يكن ذلك في المكنة «1» جنّب الناس شره، ومنع ضره، كما يجنب نفسه موارد الهلكة، ومزالق الفتنة، ومواقف التهمة. ذلك ما ينبغي للمسلم نحو الناس: أن يكون نفّاعا لهم بقدر ما يستطيع، لا يدخر وسعا في جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، فلو أمكنه أن يقوم بكل ذلك فيتصدق ويعمل، ويعين وينفع، ويأمر بالخير، ويمسك عن الشر كان مطالبا بالقيام به، بل لو أمكنه إلى ذلك غيره، فعل ما استطاع. فالحديث يرغب في الصدقة إذ جعلها أول ما يبدأ به المسلم، ويحبب في العمل والكسب، ويقدم حاجة النفس على حاجة الغير «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ويحث على الإعانة، ويدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويأمر بمنع الأذى عن الناس. 11- باب: ترك المشتبهات عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» . وفي رواية أخرى عن النعمان: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا

_ (1) المكنة: الاستطاعة والامكان.

اللغة:

صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت الجسد كلّه ألا وهي القلب» . [رواه البخاري ومسلم «1» وغيرهما] . اللغة: الحلال: المأذون فيه؛ والحرام: الممنوع منه، وبيّن: واضح، والمشتبه: أو المشبه الخفي أمره، والإثم: الذنب، والاستبانة: الظهور، واجترأ: تشجع، وأوشك: قرب، والرتع: رعي الماشية والإتساع في الخصب، والحمى: المكان المحمي الممنوع على غير من حماه، واتقى: حذر واتخذ الوقاية مما يضر، استبرأ: طلب البراءة، والدّين: الطاعة وما يتدين به، والعرض: موضوع المدح والذم من الإنسان؛ والمضغة: القطعة قدر ما يمضغ؛ والقلب: معروف، ويقال للعقل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها «2» . الشرح: يرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما هو خير لنا في ديننا وأعراضنا وهو الابتعاد عن مواطن الريب فيسلم الدّين من النقص، والعرض من الطعن؛ فذكر أن الحلال بين واضح إذ هو ما أذن الشارع في فعله بنص في القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك الحرام واضح لأنه ما منع الشارع فعله بنص قرآني أو حديث نبوي، وبعبارة أخرى الحلال هو الطيب النافع، والحرام هو الخبيث الضار، وبين الحلال والحرام أمور خفية مشتبهة لا يدري كثير من الناس أهي من الحلال أم من الحرام؟ كالأشياء التي تعارضت فيها الأدلة كلحوم الحمر الإنسية وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، فإن ظاهر الحصر في آية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «3» يدل على حل ما ذكرناه؛ وجاء في الحديث النهي عنها، ومن أجل ذلك اختلف العلماء في حلها، ومن الشبيهات الأمور التي لا تطمئن إليها نفسك الطيبة. فدعها إلى ما تطمئن إليه عملا بحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . رواه الترمذي والنسائي «4» وغيرهما عن الحسن بن علي.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (52) . ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (107) . (2) سورة الحج، الآية: 46. (3) سورة الأنعام، الآية: 145. (4) رواه النسائي في كتاب: الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات (5727) .

ومن هذا القبيل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة سودة بنت زمعة بالاحتجاب من أخيها ابن جارية أبيها لما ادعى بنوته عتبة بن أبي وقاص. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» «1» وحكم به لزمعة، وأمر سودة بالاحتجاب منه لما رآه شبيها في الصورة بعتبة. ومن هذا أيضا شخص أرسل كلبه للصيد وسمى عند الإرسال. فوجد عند الصيد مع كلبه كلبا آخر لم يسم عليه ولا يدري أيهما الذي صاد، فإنه يترك الأكل منه، وكذلك مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة ساقطة فقال: «لولا أن تكون صدقة لأكلتها» - ذكر هذه المسائل الثلاث البخاري في صحيحه- وعد بعض العلماء المكروه من المشتبهات إذ تنازعه الإذن فيه والمنع منه، ومن المشتبهات مال شخص لا يتحرج في كسبه عن الحرام، فترك معاملته والأكل من ماله الورع، كذلك من الشبهات المكاسب الناتجة عن صلح لم تكن نفوس المتصالحين به طيبة لقسر شابه «2» . وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم العلم بالمشتبهات عن كثير من الناس فأفاد أن بعضهم قد يعلم حقيقتها، وأنها من وادي الحلال أو الحرام، فلا تكون إذ ذاك مشتبهة عنده، بل لها حكم الحلال البين أو الحرام البين، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من تحامى المشتبه الذي قد يكون في الواقع إثما حراما كان للحرام البين أشد تحاميا، ومن جرأ نفسه وشجعها على اقتحام الشبهات والوقوع فيها مع قيام الشك ومخالطة الريب كاد يواقع الحرام البين. فالشبهات وقاية دون الحرام، فمن انتهكها كاد يتردى في هاوية الحرام، ومن تجنبها كان في مأمن منها، بعيدا عنها، فاجعل بينك وبين الحرام حصنا، واضرب دونه سدا. وما المعاصي إلا كالأرض التي يحميها الملوك، فيخصونها ببهمهم «3» ويمنعونها من غيرهم، فمن ترك من الرعاة منطقة حولها، لا يرعى فيها بهمه أمن الوقوع في الحمى، وسلم من سخط الملوك والتعرض لعقابهم، ومن رعى في المنطقة المجاورة لا يأمن الوقوع فيه، كذلك المعاصي هي حمى الله في أرضه، والشبهات منطقة حولها فمن ترك الشبهات كان للمعاصي أترك، ومن خالطها كان إلى

_ - ورواه الترمذي في كتاب: صفة القيامة، باب: 60 (2518) مطولا. (1) أي الولد للشخص الذي ولد على فراشه ولا شيء للعاهر الزاني أو له الرجم بالحجارة. (2) لقسر شابه: لقهر خالطه. (3) ببهمهم: البهائم: الضأن والمعز.

الوقوع في المعاصي أقرب، وقد جاء في الرواية الثانية أن من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه أي من حذرها طلب البراءة والسلامة لدينه بالتحرز من المعصية، وتحامى «1» المنطقة التي دونها، وكذلك طلب البراءة لعرضه، فلا يتهمه الناس بمقارفة «2» المعاصي وانتهاك الحرمات، وكيف؟ ولم يقارب الشبهات، فأنى يتهم بالمحرمات؟. وفي الرواية الثانية: أن في الجسد مضغة صلاحها صلاح للجسد كله، وفسادها فساد له، تلك المضغة هي القلب موزع الدم في عروق الجسم، ومصلحه بعد فساده والمراد به هنا العقل الذي لا يعمل إلا بحرارة الحياة المنبعثة من الدورة الدموية، ولا ريب في أن صلاح العقل، واستقامته في الإدراك والتفكير، ووزنه الأشياء بميزان الحقيقة، وتحريه «3» الإنصاف في أحكامه يترتب عليه صلاح الأعضاء كلها، فلا تصدر إلا خيرا، ولا تعمل إلا صالحا، ولا تقول إلا حسنا، لأنه الحاكم عليها، والرئيس بينها، وإذا صلح الرئيس صلحت الرعية. أما إذا فسد العقل، واختل نظام التفكير، وغلبه على ملكه باعث الشهوة، وسلطان الهوى فسد سائر الأعضاء فلا يصدر غير الشر، إذ حكمة العقل مفقودة، وحركته مشلولة، وهل إذا أصيب القلب تسلم الحياة، ويصح الجسد؟ كلا. كذلك العقل في مرضه مرض القوى كلها، فربوا العقول، وعودوها التفكير المستقيم، والحكم الصحيح، وحذار أن تهملوها، ولا تغذوها بالنظر والبحث، فتفقدوا الانتفاع بقوى الجسم التي تستطيعون بها أن تسخروا العالم كله لخدمتكم. فالحديث يحذرنا من الشبهات، والوقوف في مواقف الرّيب «4» ، ويدعونا إلى الاحتراس وبعد النظر؛ ويحضنا على تخليص الدّين من الشوائب. وإبعاد العرض من المثالب «5» ؛ بتجنب أسبابها، ويدعونا إلى تنمية العقل؛ وترقية التفكير لتكون الأعمال منظمة؛ طيبة العاقبة.

_ (1) تحامى: اجتنب وابتعد. (2) المقارفة: الارتكاب والفعل. (3) تحريه، تحرّى: توخّى وقصد. (4) الرّيب: ج ريبة: وهي التهمة. (5) المثالب: ج مثلبة: العيب.

12 - باب: فضل الكسب باليد

12- باب: فضل الكسب باليد عن المقدام رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود عليه السّلام كان يأكل من عمل يده» . [رواه البخاري وأبو داود والنسائي «1» وغيرهم] . طرق المال كثيرة كالوراثة والهبة والصدقة؛ وكالاشتغال في عمل حكومي يتقاضى في نظيره أجرا؛ وكالتجارة والزراعة والصناعة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير طعام يأكله المرء ما كان من عمل يده، فالذي يشتغل بيده، ويكدح ببدنه ويستجدي الرزق من عرق جبينه ويأكل من إنتاجه خير ممن يأكل من تركة موروثة، أو هبة مبذولة، أو صدقة تعطى له عفوا أو إستجداء ذلك أن ما كسبه الإنسان بكدحه وكده يفيد جسمه نشاطا ويكسبه صحة، ويزيده قوة فإذا ما أكل أكل هنيئا؛ وهضم سريعا، فاستفاد وقويت النية، ولا كذلك الكسل الخمول الذي يعتمد على مال وقع في يده عفوا، ويعطل أعضاءه عن العمل والحركة، ويمكث طوال يومه على مقهى أو مسطبة، فيأكل من غير شهية إذا لم يهضم الطعام السابق فيزداد خمولا إلى خمولاه وتعتل الصحة، فلا يجد حلاوة لطعام أو شراب، أضف إلى ذلك أن المال الناتج من الكد أغلى قيمة عند صاحبه مما جاءه عفوا، ولذلك تجده أحرص عليه مما سبق إليه، وإنه ليشعر بلذة كبيرة ساعة ينتفع به، وهل ترى تناول الثمرة من يد البائع كتناولها بيدك من الشجرة؟ وإلى ذلك أيضا أن الثروة المسوقة إن ضاعت قلما تجد لها عوضا، أما الثروة الكسبية فقلما تضيع، وإن ضاعت فمنبعها قائم وهو اليد العاملة. ولقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده إذ كان يصنع الدروع الحربية، ولا أحدثك عن داود وملكه إذ سخر الله له الجبال والطير والحديد وآتاه السلطان مكافأة له على شجاعته الحربية لما قتل جالوت وفيه يقول الله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ «2» فمع هذا الملك والسيطرة، وما تبعهما من الغنى والثروة لم يستنكف من العمل بيده ليشجع العمال على المضي في

_ (1) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده (2072) . (2) سورة ص، الآية: 26.

13 - باب: تفضيل الحرفة على السؤال

أعمالهم، وليفيد جسمه صحة وقوة، فليعتبر بهذا أولئك الأغنياء الوارث، وأولئك الأمراء والوزراء، الذين يشمئزون من العمل، ويخالونه حطة وضعة، وما دروا أن كثرة الأيدي المنتجة ثروة عظيمة للأمة، وعزة لها وسيادة، وإشادة بذكرها بين الأمم. فالحديث يرغبنا في العمل، ويدعونا إلى ما يزيدنا صحة، ويبغض إلينا الاعتماد على الثروة المسوقة، وترك الأعمال المنتجة. 13- باب: تفضيل الحرفة على السؤال عن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله: فيأتي بحزمة حطب؛ فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الحطب: ما يوقد به، والكف: المنع. الشرح: سؤال الناس مذلة وضعة، والمؤمن عزيز غير ذليل: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» فإن أعطي السائل فالمنة عليه ثقيلة، والجميل أسر له واستعباد، وإن منع خزي وخجل وتأفف من المسؤول أو أبغضه، واضطغن عليه «3» وإن كان السائل قادرا على الكسب فهو كافر بنعمة الله إذا لم يشكر له نعمة الجوارح، فإن شكرها بالانتفاع بها فيما خلقت له، وما خلقت إلا للكدح بها في سبيل الرزق فلما كان السؤال بكل ذلك، وهو ما لا يلائم أخلاق المؤمن بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الاكتساب خير منه، بل الاكتساب هو الخير، والسؤال هو الشر ولو كان الاكتساب من أدنى الحرف، فالذي يأخذ حبله ويخرج إلى المراعي والمزارع، أو الأجران والغابات، فيجمع حزمة حطب مما رغب عنه الناس، أو من كلأ مباح؛ ويحملها على ظهره ويبيعها بقرش أو مليمات يأكل به ويشرب فيحفظ بذلك على نفسه كرامتها وعزتها؛ ويقي وجهه ذلة المسألة خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده (2075) . (2) سورة المنافقون، الآية: 8. (3) اضطغن عليه: انطوى على الحقد.

14 - باب: السماحة في المعاملة

وبذلك عرفت أن أولئك الرجال أو النساء الذين يتّجرون في الفجل أو الكراث أو البصل أو في الخضروات أو البقول أو غيرها من الأشياء الرخيصة يحضرونها من المزارع وعلى ظهورهم أو رؤوسهم خير من أولئك الذين يجوبون الشوارع ليلا ونهارا يتكففون «1» الناس؛ وأكثرهم قادر على الكسب؛ صالح للعمل، بل أولئك المتجرون هم الأخيار، وأولئك الشحاذون هم الأشرار، فلا تعنهم على الشر ورغبهم في الخير، فالحديث يحضنا على اكتساب الرزق ولو من المهن الصغيرة، ويبغضنا في السؤال، ويحفظ علينا العزة والكرامة، ويمنعنا الذلة والمهانة. 14- باب: السماحة في المعاملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» ، وفي رواية «وإذا قضى» . [رواه البخاري والترمذي وابن ماجة «2» ] . السمح: يطلق على السهل، وعلى الجواد، والأول هو المناسب هنا، والاقتضاء: طلب قضاء الحق. يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة وإسباغ النعمة للرجل السمح السهل، ودعاؤه عند الله بمكانة عظيمة لأنه صادر من النفس الطاهرة المخلصة، من اللسان الرطب بذكر الله، فتفتح له أبواب الإجابة إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «3» . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السماحة في أربعة أشياء: في البيع، والشراء، والاقتضاء، والقضاء. فالسماحة في البيع: ألا يكون شحيحا بسلعته، مستقصيا في ثمنها، مغاليا

_ (1) يتكففون: يمدون أيديهم بالسؤال. (2) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن ... (2076) . ورواه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في استقراض البعير أو السيء من الحيوان أو السن (الحديث 1320) . ورواه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: السماحة في البيع (2203) . (3) سورة فاطر، الآية: 10.

والسماحة في الشراء:

في الربح منها، مكثرا من المساومة فيها، بل يكون كريم النفس، راضيا بيسير الربح، مقلا من الكلام. والسماحة في الشراء: أن يكون سهلا في كياسة، فلا يدقق في الدانق والملّيم، خصوصا إن كانت السلعة شيئا هينا كفجلة أو بصلة، والمشتري غنيا، والبائع فقيرا معدما، ولا يسأم «1» البائع بالأخذ والرد، وتعطيله عن المشترين الآخرين، أو مصالحة الآخرى، ولا يكثر التقليب في البضاعة بعد أن سبر غورها «2» ، ووقف على حقيقتها. والسماحة في الاقتضاء: أن يطلب حقه أو دينه في هوادة «3» بلا عنف وفي لين بلا شدة، ويراعي حال المدين فإن كان معسرا أنظره وأخره، بل إن كانت حاله لا تسمح بالسداد تصدق عليه بحقه أو من حقه وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4» . ومن السماحة في الاقتضاء: ألا يطالب المدين على مشهد من الناس ومسمع، خصوصا إذا كانوا لا يعلمون بالدين. أو يتأذي المدين بالجهر. وألا يلحف «5» في الطلب. أو يطالبه في أوقات راحته وهناءته؛ فينغص عليه صفوه، وهو من أحرص الناس على قضاء الحقوق وألا يرفع أمره إلى القضاء وهو مستعد للدفع في وقت قريب فيغرمه الرسوم وأجر المحاماة، ويشغل باله. ويستنفذ من وقته من غير جدوى تعود عليه. - إلا الإضرار بأخيه- كل ذلك من حسن الاقتضاء. وأما السماحة في القضاء: فأن يرد الحق لصاحبه في الموعد المضروب، ولا يكلفه عناء المطالبة أو المقاضاة، ويشفع القضاء بالشكر والدعاء، أو الهدية إن كان لها مستطيعا إلى غير ذلك مما ينطوي تحت المسامحة. فالحديث يرغبنا في حسن المعاملة، وفي كرم النفس، وفي مراعاة المصلحة، وفي حفظ الوقت.

_ (1) يسأم: يتعب. (2) سبر غورها: تبين له حقيقتها وسرها. (3) الهوادة: الرفق والتأني. (4) سورة البقرة، الآية: 280. (5) يلحف: يلحّ.

15 - باب: فضل الغرس والزرع

15- باب: فضل الغرس والزرع عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو بهيمة، إلّا كان له به صدقة» . [رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب المزارعة في (باب فضل الغرس والزرع) ورواه مسلم أيضا والترمذي «1» ] . الغرس للشجر، والزرع للنبات، والغرس: هو الرشق أو الدفن في الأرض وقريب منه الزرع، والمراد بالغرس والزرع: المغروس والمزروع كالعقل «2» والحبوب، والطير: جمع مفرده طائر كركب وراكب والمراد به هنا كل ذي جناح يسبح في الهواء. والبهيمة: اسم لكل ما لا ينطق لما في صوته من الإبهام لكن خص في العرف بما عدا السباع والطير، والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة في الأصل تقال: للمتطوع به والزكاة: للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله. والحديث يرغبنا في تعمير الأرض بالأشجار والزرع التي ينتفع بها الإنسان أو الحيوان ويبين أن ما أكل من الشجر أو الزرع صدقات للإنسان يستحق الإثابة عليها، وخص المسلم بذلك لأنه الذي ينتفع بثواب الصدقة في الدنيا والآخرة وأما الكافر فيثاب على ما زرع أو غرس في الحياة الدنيا فقط، وقال بعضهم يجوز أن يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة خصوصا إذا لم يرزق الغنى والعافية في الدنيا. وفي الحديث حث على السعي في مصالح الناس وعلى الرحمة بالحيوان، وقد أخرجه البخاري أيضا في (باب) رحمة الناس والبهائم. ومن الرحمة بالحيوان التخفيف عنه في الأحمال وعدم تكليفه مشاق الأعمال،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الحرث والمزارعة، باب: فضل الزرع والغرس إذا أكل منه ... (2320) . ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع (3950) . ورواه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في فضل الغرس (1382) . (2) العقل: أعواد من الشجر تغرس في الأرض لتنبت.

16 - باب: الإخلاص والمساعدة

وترك الإسراف في ضربه وإيذائه، ومداواة جراحه، والقيام بحاجاته. 16- باب: الإخلاص والمساعدة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطّريق فمنعه من ابن السّبيل. ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلّا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط. ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الّذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدّقه رجل» ، في رواية «فصدّقه وأخذها ولم يعط بها» ، ثم قرأ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. «1» [رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن «2» ] . اللغة: يزكيهم: يطهرهم من الأوزار وقيل: يثنى عليهم؛ وأليم: موجع؛ وفضل: زيادة؛ وابن السبيل: سالك الطريق، والمبايعة: للإمام الرضا به والتعهد له ببذل الطاعة والمراد بالدنيا: هنا عرضها، وسخط: غضب، والسلعة: المتاع والبضاعة وأقامها عرضها أو روجها من قامت السوق إذا راجت، ويشترون: يستبدلون، وعهد الله: ما عاهدوه عليه، والأيمان: جمع واحدها يمين وهي الحلف، والثمن: العوض، والخلاق: النصيب والحظ.

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 77. (2) رواه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: اليمين بعد العصر (2672) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق ... (293) . ورواه النسائي في كتاب: البيوع، باب: الحلف الواجب للخديعة في البيع (4474) . ورواه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع (2207) . ورواه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في منع الماء (3474) .

الشرح:

الشرح: ثلاثة أشخاص يغضب الله عليهم يوم القيامة يوم تجزى كل نفس ما عملت فلا ينظر إليهم نظر عطف ورحمة، بل نظر مقت وازدراء، أو لا يلتفت إليهم مطلقا إعراضا عنهم، وزيادة سخط عليهم، ولا يطهّر في الدنيا نفوسهم من الأوزار وكيف يطهرها ولم يعدوها لقبول الهداية بل لوّثوها بخبث طويتهم «1» ؟ وكذب أيمانهم الذي هو ضرب من النفاق، ومنعهم المعونة من هم في حاجة إليها، أو معنى عدم التزكية عدم الثناء عليهم والمدح لهم لأنهم مجرمون، ولهم إلى الغضب وعدم التطهير عذاب شديد في الآخرة، يصلون سعيره، ويقاسمون لهيبه. فأول الثلاثة رجل له ماء بالطريق [فيمنعه من السابلة المارين به] كبئر: أو مصاصة «2» ، أو حوض، أو زير به ما يزيد عن حاجته من الماء فمنعه من السابلة المارين به وهم في حاجة إليه، وإنه لذو نفس خبيثة إذ منع نعمة ساقها الله إليه، بها حياة الإنسان والحيوان والنبات وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «3» - منعها من أشد الناس حاجة إليها وهو المسافر وربما كان في ذلك هلكه، منعها في حين لم تكن به حاجة إليها، وإذا كان بفضل الماء بخيلا فهو بغيره أبخل، فهو منّاع للخير لا يسمح به لغيره. لو كان في ذلك حتفه. فلا جرم «4» كان خليقا «5» بهذا العقاب. وقد استثنى الفقهاء من ذلك الحربي والمرتد إذا أصرا على الكفر لا يجب علينا بذل الماء لهما. وثاني الثلاثة رجل بايع إمامه: ورضي له بالسمع والطاعة. وهو غير مخلص في بيعته إنما بايعه لمصلحة خاصة يرجوها كوظيفة يأملها أو ورطة يريد مساعدته على الخلاص منها. أو مال يبتغيه لنفسه أو ولده. فإن أجيب إلى بغيته رضي واطمأن، وإن لم يجب غضب وسخط. وشن الغارة على ذلك الذي بايعه وسمع به في الملأ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «6» فمثل هذا جدير بغضب الله وعقابه. ومنعه التوفيق والهداية. إذ باع مصلحة المسلمين والعمل لخيرهم

_ (1) طويتهم: ما يضمرونه في أنفسهم. (2) مصاصة: بقية الشيء بعد أن يمص. (3) سورة الأنبياء، الآية: 30. (4) لا جرم: أي حقا. (5) خليقا: جديرا. (6) سورة التوبة، الآية: 58.

وثالث الثلاثة: رجل يغش المسلمين بامتهان اسم الله المقدس

والنصح لهم في اختيار إمام عادل، ويقوم على دين الله بالحفظ، وعلى ملكه بالعدل، يقيم حدود الله، ويقدس الحق، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر. ويتفقد المصالح العامة- مصلحتهم في تخير الإمام العادل- في سوق مصالحه الخاصة. فطلب الحظ لنفسه في غش الرعية. وأراد الطعام الدسم، في سم زعاف قدمه للبرية ومن هذا الوادي الأشخاص الذين ينتسبون لحزب خاص لا لنصرة مبادئه. والعمل تحت لوائه وطلب الخير للأمة من طريقه، بل لمارب شخصية، إن نالوها شكروا له، وإن منعوها انتقضوا عليه. وسلقوه بألسنة حداد ورموه بكل منكر وزور. أولئك لا خلاق لهم في الآخرة وأولئك الذين في قلوبهم مرض. وثالث الثلاثة: رجل يغش المسلمين بامتهان اسم الله المقدس ، والحلف به زورا. لينال عرضا زائلا، وربحا كاسدا، وما هو بنائله. فيعرض سلعته وقت قيام السوق، والظاهر أنها كانت تقام إذ ذاك بعد العصر. أو خص هذا الوقت بالذكر لقرب العهد بالصلاة فكان الظاهر أن يرعوي «1» بها عن الكذب ولكن لم يرعوا. فكانت جريمته عند الله أشد وكأنه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: - بعد الصلاة- ويقيمها بالأيمان المغلظة، ويروجها بالعبارات الكاذبة، فيقول لرواد التجارة: والله الذي لا إله غيره لقد قدرت هذه السلعة ودفع لي خمسة وعشرون أو ستة وعشرون أو ... وما قبلت، يريد بذلك ترغيب المشتري في الأخذ بأزيد مما قال، فصدقه رجل في يمينه التي أكدها أشد التأكيد، وأخذها منه بما قال، أو بما زاد. والواقع أنها لم تقدر بذلك ولم يعط بها الثمن الذي ذكر، بل كذب على أخيه وغشه في الثمن واستهزأ بالله إذ اتخذ اسمه وسيلة للكذب، والتلبيس على الناس. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «2» الآية ليؤكد قوله، ويزيد النفوس إيمانا به وتصديقا له. وواضح دخول المبايعة في عهد الله. ودخول ترويج السلعة بالحلف الكذب في الأيمان. بل هما داخلان تحت العهد والأيمان إذ الأكثر في العهد أن يقرن باليمين. والأيمان تقال للعهود أيضا. وأما دخول من منع الماء وارديه فغير واضح. فالظاهر أن الاستشهاد بالآية على الأخيرين.

_ (1) يرعوي: يكف ويبتعد. (2) سورة آل عمران، الآية: 77.

17 - باب: الرفق بالحيوان

وجائز أن يقال: حقيقة الأيمان عهد بين الله والعبد أن يقوم بكل ما أمر به ويجانب كل ما نهى عنه. وقد أمر بالتعاون على البر والتقوى. ومن البر بذل الماء وحرّم منع الخير بقوله في سياق الذم مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ «1» ومنه منع الماء وعلى ذلك فالثلاثة داخلة تحت الآية. ومعنى الآية أن من لم يوف بعهد الله، أو لم يصدق فيه ويخلص، وكذلك من لا يصدق في يمينه واستبدل بذلك عوضا قليلا. وعوضا ضئيلا من نحو ما ذكرنا- وكل ثمن نظير الحق والصدق فإنه قليل مهما كان في نظر الشهويين عظيما- لا نصيب له في نعيم الآخرة ولا حظ. ولا يكلمه الله كلمة رضا وعطف ولا ينظرن إليه نظرة محبة ورعاية يوم القيامة. ولا يشهد له بما ينجيه. أولا يطهره في الدنيا من الأوزار ما دام عاكفا على ما يلوث نفسه. ويدنس فطرته ويعذبه في الآخرة عذابا أليما- فإن تاب وعمل صالحا عاد عليه بالمغفرة والرحمة وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «2» . فالحديث يحتم الوفاء بالعهود، والإخلاص فيها، والنصيحة للرعية في تخير الحكام العادلين، والموظفين المخلصين، ويحرّم الأيمان الكاذبة، والغش في المعاملة وبيع الحق بالشهوات والأعراض الزائلة، ويأمر ببذل المعونة للمحتاجين. وإنفاق العفو للبائسين وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3» يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ «4» . 17- باب: الرفق بالحيوان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل

_ (1) سورة القلم، الآية: 12. (2) سورة طه، الآية: 82. (3) سورة البقرة، الآية: 219. (4) سورة البقرة، الآية: 215.

اللغة:

يمشي، فاشتدّ عليه العطش، فنزل بئرا، فشرب منها، ثمّ خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثّرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفّه، ثمّ أمسكه بفيه، ثمّ رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له» . قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجرا؟ قال: «في كلّ كبد رطبة أجر» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: بينا: هي بين أشبعت فتحتها فصارت ألفا؛ وكذلك بينما هي بين زيدت عليها ما. وهي ظرف بمعنى وسط. اللهث: ارتفاع النفس من الإعياء والتعب؛ وفي الحيوان خاصة إخراجه اللسان من شدة العطش والحر. لهث الكلب وغيره يلهث لهثا. والثرى: التراب الندي؛ والخف: ما يلبس في الرّجل. ورقى يرقى: صعد. والكبد: عضو في الجنب الأيمن يفرز الصفراء ويقال: للجوف كله. والمراد برطوبة الكبد حياته. الشرح: يقص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة رجل مؤمن كان يمشي بطريق أو بادية فعطش عطشا شديدا فنزل بئرا شرب منها حتى روي، ثم خرج منها فإذا به يجد كلبا قد أخرج لسانه من شدة الظمأ يلحس به الأرض الندية لعلّ في رطوبتها ما يقلّل من حرارة العطش. فقال في نفسه أو بلسانه: لقد بلغ هذا الحيوان الدرجة التي بلغتها في العطش، وآلمه منه ما آلمني، فنزل إلي البئر ثانية وملأ خفه بالماء، وأمسكه بفمه لتخلص له يداه ويمسك بهما في جدارن البئر عند الصعود ثم صعد فسقى الكلب من خفه. فشكر الله هذا الصنيع. وما شكره إلا عفوه عن ذنوبه السالفة. بل من شكره المنّ بنعمه على المحسنين من عباده. فسأل الحاضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا في البهائم إذا دفعنا عنها الأذى. وأحسنّا إليها أجر وثواب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «في كل كبد رطبة أجر» ، وهذه الجملة تعم كل حيوان من كلب أو قط أو جمل أو بقرة أو شاة ... إلخ، وتشمل دفع أنواع

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الشرب والمساقاة، باب: فضل سقي الماء (2363) . ورواه مسلم في كتاب: السلام، باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (5820) .

18 - باب: عقاب من آذى الحيوان

الأذى عنه من عطش، أو جوع أو مرض أو حر، أو برد، أو حمل ثقيل، أو عمل شديد، أو غير ذلك مما يتأذى به الحيوان، وتشمل إيصال ضروب النفع له من تقديم الطعام والشراب والسكن له وإزالة الدرن عن جسمه. بل الكبد الرطبة تشمل الإنسان والحيوان. فكل عمل تعمله تزيل به ضرا. أو تجلب به نفعا لإنسان أو حيوان لك أجر فيه. ولا تستكثر الشكر من الله والمغفرة لهذا الذي أنقذ الكلب من ظمئه. فإنه نزل البئر له خاصة ليسقيه. وملأ خفه بالماء. وذلك مما يضر بجلده. وأمسكه بفمه وذلك مما يعافّه المتكبرون. وعانى ما عنى من النزول والصعود مثل ما عانى لنفسه. كل ذلك تجشمه «1» في سبيل رأفته بالحيوان الظمان. وهل ترى نفسا تبلغ منها الرحمة يالحيوان هذا المبلغ لا تكون رحمتها بالناس أشد؟ إن هذا العمل ليدّل على شعور راق. ورحمة فياضة. سكنت تلك النفس العالية. فكانت لا ريب خليقة بهذا الجزاء. والراحمون يرحمهم الرحمن، ولعلك عرفت من هذا الحديث تربية الشدائد للنفوس. وأنها تدعوها للخير. وتلفتها إلى مثل ما حل بها. فتعمل على دفعه كما عملت لنفسه. ومن ذاق الآلام المريرة شعر بالام الناس. وتلك حكمة من حكم الصيام أنه يزكي في الناس الشعور بحال البائسين فيمدون أيديهم بالإحسان إليهم. فالحديث يحث على الرأفة بالحيوان ودفع الضر عنه. ويحبذ النصب في سبيله ويعظم الأجر على ذلك. وهذا الحديث أصل في إنشاء جمعيات الرفق بالحيوان. ويشكر للذين يقيمون حياضا في الطرق ليشرب منها الحيوان. 18- باب: عقاب من آذى الحيوان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذّبت امرأة في هرّة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النّار» ، وفي رواية: «دخلت امرأة النّار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش

_ (1) تجشمه، التجشم: تحمل المصاعب.

اللغة:

الأرض» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الهرة: القطة، وخشاش الأرض: هوامها وحشرتها. الشرح: يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة حبست هرة في حجرة أو ربطتها حتى ماتت جوعا، فلا هي قدّمت لها طعاما وشرابا، ولا هي أطلقتها تأكل من هوام الأرض وحشراتها كالفيران والصراصير ونحوها فعذبها الله لذلك. وفي هذا دلالة واضحة على أن تعذيب الحيوان بلا سبب معصية تستوجب العقاب، وكذلك قتله إذا لم يكن مؤذيا. وهذا يدخل في عموم قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «2» ، وفيه إشارة إلى جواز اتخاذ الهرة وربطها إذا لم يهمل طعامها وشرابها. ولا يدل الحديث على إحباط عمل صالح إن كان لهذه المرأة بإماتتها الهرة جوعا، بل لكل حسنة ثوابها، ولكل جريمة عقابها، فإن كان لها من الحسنات ما يغمر الجريمة شملها قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «3» ، وإذا كان هذا جزاء من يعذب الحيوان الأعجم فما بالك بمن يصب على الناس وابلا من شروره وآثامه، بل ما ظنك بمن يؤذي إخوانه الذين تربطه بهم رابطة الدّين أو القرابة أو المصاهرة أو الجوار أو الاتحاد في العمل أو غيرها من الروابط؟. فالحديث يتوعد بالعذاب الشديد من يؤذي الحيوان ويوجب علينا الإنفاق عليه أو تركه يسعى في رزقه. 19- باب: أداء الحقوق عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال النّاس

_ (1) رواه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: 54 (3482) . ورواه مسلم في كتاب: الأدب البر والصلة والآداب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها من ... (6618) . (2) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8. (3) سورة هود، الآية: 114.

يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» . [رواه البخاري وابن ماجه «1» وغيرهما] . من الناس من يقترض الأموال لحاجة من حاجته. عازما على أدائها في الموعد المضروب، أو حين يقع في يده مال، فهذا يؤدي الله عنه ديونه فيفتح له من أبواب الرزق ما لم يكن يحتسبه مكافأة على نيته الصالحة، وعزمه المحمود، على أن لتلك الإرادة أثرا في اكتساب الرزق فإنها لا تزال بصاحبها تدفعه إلى تلمس أبواب المكاسب، والبحث عن طرق المال، حتى يهتدي إليها، ويؤدي ديونه ومثل هذا من يشتري من التجار طعامه وشرابه وحاجياته الآخرى، أو بضاعة يتجر فيها إلى أجل وليس بيده ما يدفعه نقدا. فإن عزم على الأداء والوفاء يسّر الله له المال حتى يوفي بما عاهد. أما من استقرض أو اشترى شيئا دينا أو طلب إلى الناس أن يودعوه أموالهم، أو استعار، أو استأجر عينا عازما على الجحود والإنكار. أو الإتلاف والإهلاك فإن الله تعالى يتلفه؛ فيوقعه في خبث نيته وسوء طويته، ويفتح له من أبواب النفقات ما يذهب بماله، طارفه وتليده «2» ، أو يسلط عليه من البلايا والمصائب ما يستأصل ملكه، أو يرسل إليه جيشا من الأمراض الفتاكة يعمل في نفسه وأهله وولده ما يحرمهم لذة الحياة ونعيمها إلى عذاب في الآخرة شديد. وهل رأيت أكرمك الله من اغتنى وتنعم في مال غيره المغضوب؟ ولئن ضحكت له الدنيا أياما أو سنين استهزاء به، واستدراجا له لهي كاشرة له عن أنيابها. ثم تلتهمه التهاما. أو تستلب ما كنز من أولاده وأحفاده استلابا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «3» ، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ «4» فالنية الصالحة. والإرادة الصادقة لها أثرها في كسب المال. والهداية لسبله؛ والنية الخبيثة جائحة المال. ومبددة الثروة. والقاضية علي صاحبها بالفقر

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الاستقراض، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) . (2) طارفه وتليده، الطارف: الحديث المستفاد من المال ونحوه وهو خلاف التالد، والتلاد: المال الأصلي القديم له، ويقصد يذهب كل ماله قديمه وحديثه. (3) سورة النمل، الآية: 52. (4) سورة إبراهيم، الآية: 42.

20 - باب: المماطلة في أداء الحق

والمتربة. بل بالهلاك والخسار؛ فلا تستدن إلا عند الحاجة؛ وإن استدنت فاعزم على الوفاء. ومهد لتنفيذ العزم بتذليل الأسباب. والبحث عن مسالك المال. وحذار أن تأخذ أموال الناس في صورة استدانة؛ وطوية نفسك غصب وسرقة؛ وانتهاب وخيانة؛ فتكون غشاشا لمن أعانك؛ بل تكون منافقا تبدي للناس غير ما تضمر؛ ولا تنس قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «1» . فالحديث يحض على الإخلاص في النية؛ وعلى أداء الحقوق؛ ويتوعد من يضمر الشر؛ ويستلب الأموال بالطرق الخفية. وإنه ليؤذن أولئك التجار الذين يملأون مخازنهم بالبضاعات يشترونها لأجل. وفي نيتهم أن يعلنوا الإفلاس بعد أن تمتلىء جيوبهم- يؤذنهم بالخسار والبوار. بل يؤذنهم بحرب من الله لا قبل لهم بها. فليتقوا الله في أموال الناس ليرزقهم من حيث لم يحتسبوا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً «2» . 20- باب: المماطلة في أداء الحق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغنيّ ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملىء، فليتبع» . [رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه «3» ] . اللغة: المطل: في الأصل: المد، يقال: مطلت الحديدة أمطلها مطلا إذا مددتها لتطول. وقال الأزهري: المطل: المدافعة. والمراد به هنا تأخير ما استحق اداؤه بغير عذر. والغني هنا: من قدر على الأداء ولو كان فقيرا. والمليء: الغني المقتدر مأخوذة من ملؤ الرجل ملاء وملاءة إذا اغتني.

_ (1) سورة النساء، الآية: 58. (2) سورة الطلاق، الآية: 4. (3) رواه البخاري في كتاب: الحوالة، باب: الحوالة (2287) . ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم مطل الغني وصحة الحوالة ... (3978) . ورواه النسائي في كتاب: البيوع، باب: الحوالة (4705) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الصدقات، باب: الحوالة (2403) .

الشرح:

وقال صاحب المختار: المليء الثقة ويقال: الملي بلا همز تسهيلا. والإضافة في مطل الغني من إضافة المصدر لفاعله. وقيل من إضافته لمفعوله وهو بعيد. الشرح: مما يحقق الثقة بالمرء أداؤه لحقوق الناس ولو لم يكن من كبار المثرين. ومما يزلزل الثقة أو يزيلها تلكؤه في أداء الحقوق ولو كان في مقدمة الأغنياء الموسرين. والثقة رأس مال كبير تسهّل للمرء طرق أبواب التجارة وإن كان ماله قلا «1» . وتقرّب إليه جيوب الناس وخزائنهم وإن لم يكن مليا. فلا جرم حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم مما ينزع الثقة بالمرء من نفوس الناس وهو المماطلة. ولقد عرّف علماء الأخلاق العدل بأنه إعطاء كل ذي حق حقه. ولما كانت مماطلة الغني القادر على الدفع وتأخره في أداء الحقوق منعا للحق عن صاحبه عدها الرسول صلى الله عليه وسلم ظلما فالمماطل ظلم غيره بتأخير حقه بدون عذر. بل ظلم نفسه إذ حرمها الثقة، وعرضها للطعن والثلب في الحياة الدنيا، ولعقوبة الله في الحياة الآخرى. فمن كان مدينا في تجارة، أو في متاع اشتراه، أو كان قبله حقوق لرعيته أو لمن تحت يده إن كان ملكا أو أميرا أو رئيسا أو وزيرا أو كان عليه نفقة لزوجه، أو والده أو ولده، أو قريبه أو عبده، أو كان عليه زكاة أو ضريبة مشروعة، وحل موعد الدفع وتلكأ «2» والمال في جيبه أو تحت يده- كان ظالما- بل قال بعض الفقهاء: لو أمكنه الاكتساب لسداد الدّين فتركه كان ظالما فاسقا. فالواجب على المستطيع بأي طريق كان أداء الحق متى حل أجله. ولو لم يطالبه به أهله. بل لو أمكنه الدفع قبل الموعد بادر إليه تبرئة لذمته. ورحمة لنفسه من ذل الدّين وهمه. وربما عسر عليه غدا ما تيسر له الساعة. والمال غاد ورائح. أما إن كان عاجزا عن الأداء فليس بظالم. بل لا يعد مماطلا. والواجب على الدائن في هذه الحال- إن كان له دين- وفي قلبه رحمه. أحد أمرين: إما مهلة وإما صدقة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» .

_ (1) قلا: قليلا. (2) تلكأ: أبطأ. (3) سورة البقرة، الآية: 280.

وإذا قلنا: إن الإضافة في مطل الغني على معنى مطلك الغني فمعنى العبارة أنه يجب وفاء الدّين ولو كان مستحقة غنيا. فلا نتخذ من غناه ذريعة لمماطلته، وإذا كان تأخير ديون الأغنياء ظلما فالفقراء من باب أولى. ولقد أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم الدائن إذا أحاله المدين على غني مليء موسر قادر- أن يقبل هذه الإحالة، وأن يتبع الذي أحيل عليه بالمطالبة حتى يستوفي حقه، وإنما أمره بالإتباع إذا أتبع تنجية للمدين من الظلم أو الإشراف عليه بالمماطلة، وتعجيلا لإستيفاء حقه بلا مساوفة «1» ، ولقد قال أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير وأهل الظاهر. إنه يجب على الدائن قبول الإحالة على الملىء عملا بهذا الأمر. قال الجمهور: إن الأمر هنا للاستحباب وأي مانع يمنعك أيها المسلم الرحيم من أن تلزم نفسك القبول، وفي ذلك خيرك وخير أخيك؟ إنه لا مانع إلا المعاكسة والمشاكسة «2» وليست من أخلاق المؤمن. وقد استدل بهذا الحديث على اعتبار رض المحيل والمحال دون المحال عليه لعدم التعرض لذكره، وبذلك قال جمهور الفقهاء، وعن الحنفية والاصطخري من الشافعية اشتراط رضاه أيضا. وكذلك استدل به على أن المعسر لا يحبس، ولا يطالب حتى يوسر لأنه لو جازت مؤاخذته لكان ذلك لظلمه والفرض أنه غير ظالم لعجزه، وقيل: يحبس وقيل: يطالب وقد قدمنا لك حكم القرآن في ذلك، أما المماطل فنسلك معه كل سبيل حتى يصل ذو الحق لحقه، ولو كان بالإيذاء له أو الحبس. فأد الأمانات لأهلها، ولا تكن ظلوما، واعمل على تحقيق الثقة بك، وارحم المدين العاجز وأمهله أو تصدّق عليه، ولا ترفض ما ينفع غيرك وينفعك، أو ينفعه ولا يضرك ودع النزاع والخصام وأحل محلهما الألفة والوئام إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «3» .

_ (1) المساوفة: التسويف والمطل. (2) المشاكشة: الاختلاف وصعوبة الخلق. (3) سورة التوبة، الآية: 120.

21 - باب: واجب الرؤساء نحو مرؤسيهم

21- باب: واجب الرؤساء نحو مرؤسيهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته، الإمام راع ومسؤول عن رعيّته، والرّجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيّتها، والخادم راع في مال سيّده ومسؤول عن رعيّته» . قال: وحسبت أن قد قال: «والرّجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيّته، وكلّكم راع ومسؤول عن رعيّته» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي «1» ] . اللغة: الراعي: الحافظ المؤتمن. وبعبارة أخرى من إليه تدبير الشيء وسياسته وحفظه ورعايته مأخوذ من الرعي وهو الحفظ. والرعية: كل ما يشمله حفظ الراعي ونظره. وحسبت: ظننت. الشرح: ما من إنسان إلا قد وكل إليه أمر يدبره ويرعاه. فكلنا راع وكلنا مطالب بالإحسان فيما استرعيه ومسؤول عنه أمام من لا تخفى عليه خافية، فإن قام بالواجب عليه لمن تحت يده كان أثر ذلك في الأمة عظيما. وحسابه عند الله يسيرا وثوابه جزيلا. وإن قصر في الرعاية. وخان الأمانة أضر بالأمة وعسر على نفسه الحساب. وأوجب لها المقت والعذاب. فإن فرّ في الدنيا من يد الإدارة، أو النيابة، أو برأه القضاء، أو لم يكن تقصيره داخل في حدود القوانين القائمة فإن حساب الله آت، وعقابه بالمرصاد. وكل امرىء بما كسب رهين. فإمام الناس من ملك أو أمير- راع كفيل. وحافظ أمين مسؤول عن أهل مملكته أو إمارته. فعليه إقامة العدالة فيهم؛ وردّ الحقوق لأربابها. واحترام حرياتهم في دائرة

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الفتن، باب: قول الله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (7138) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (4701) . ورواه الترمذي في كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الإمام (1705) .

الحق والأدب واستشارتهم في الأمور، والإستماع لنصائحهم والذود عن كرامتهم، والحرص على مصالحهم، والدفاع عن حقوقهم، وفتح الأبواب لمعايشهم، وتذليل السبل لتنمية ثروتهم. والضرب على أيدي المفسدين والتنكيل بالمجرمين الخائنين، والعمل على قطع الفساد في الأرض، ومنع الجرائم منها- إلى غير ذلك مما ترقي به الأمة. وتسلم من الأضرار. وإن الإمام المسؤول أمام الله عن أمته وجماعته، يسأل عن كل فرد فيها. وعن كل عمل من أعمالها. يسأل عن ثروتها موردا ومصرفا. وعما عمل لمصلحتها وسلك لسعادتها بل يسأل عن حيوانها: ماذا صنع لراحته. وتخفيف مشقته. وبعبارة أوجز: بقدر ما في يده من الشؤون وما وكل إليه من الأمور يكون الحساب. وتكون المسؤولية. فلا يله ذو منصب بمنصبه عن القيام بواجبه. ولا يغترن الرؤساء بمظاهر الرياسة من الحيطة والكياسة. وإعداد العدة لحساب أحكم الحاكمين. كذلك الزوج أو رب الأسرة راع في أسرته. ومؤتمن على من تحت ولايته فعليه التعليم لهم والتثقيف، والتربية والتهذيب، بنفسه أو بوساطة ماله حتى يكونوا كملة في الأخلاق، أئمة في الآداب، سواء في ذلك بنوه وبناته وإخوته وأخواته وزوجه وخدمه. وفي مقدمة التهذيب تعليمهم فرائض الدّين. وتأديبهم بأدب العليم الحكيم. وتأديبهم له من طريق عمله. أجرى «1» عليهم من كلمة. وعليه الأخذ بهم عن طريق الدنايا. والإبتعاد عن مواطن الريب. ومياآت الفتن. وعليه أن يقدم لهم مسكنا مناسبا. وطعاما وشرابا موافقا. ولباسا في دائرة الأدب والحشمة وزينة لا تدعو إلى الفتنة. كل ذلك في غير تقتير ولا إسراف. بل يسلك طريق الاقتصاد ليدّخر لهم ما يكون عدّة للشدائد، وسعة في المضايق، وتركة تقيهم ذل المسألة وتحفظ عليهم الكرامة. وليكن في بيته عينا راعية وأذنا واعيّة. يتفقد الأمور ويتحرى المصالح ويقيم العدل في رعايا هذه المملكة الصغيرة. وليعلم أن الله سائله عن زوجه: هل عاشرها بالمعروف. وقام لها بالحقوق ولم يخنها في غيبته؟ وسائله عن ولده: ماذا صنع في نفسه. وما عمل في ماله. وعن أقربائه الذين هم تحت كنفه: ماذا قدّم لهم وكيف واساهم فليعدّ الجواب الحسن من عمله وخلقه وكرم رعايته وحسن ولايته يا أَيُّهَا

_ (1) أجدى عليهم: أشد تأثيرا ونفاذا فيهم.

الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ «1» . وكذلك المرأة في بيت زوجها راعية، ومؤتمنة موكلة وربة مملكة، رعيتها البنات والبنون. والزوج الرؤوم. والبيت وما وعى. والمال والخدم. فلتكن للأولاد خير مربية. ولزوجها خادما طائعة. وفي بيتها حكيمة مدّبرة. وعلى المال قائمة راعية حافظة له منمية ولخدمها قدوة صالحة، ترشدهم إلى الواجب. وتهداهم إلي الصالح. تهذب من أخلاقهم. وتقوم بواجبهم. تراقب سيرتهم وترعى نفوسهم ولا تهجر في زجرهم «2» . وبعبارة أخرى: نريد من المرأة بيتا نظيفا منظما. وولدا صحيحا مؤدبا ومالا مرعيا وطعاما شهيا وثمرا جنيا. وطاعة لزوج في معروف. وأدبا في منطق وكمالا في نفس. ونظافة في بدن وزي. وفي ولد وخدم فإن فعلت ذلك فنعمت الراعية. ونعمت من ترعى وإن المرأة مسؤوله أمام الله عن هذه الرعية: أقامت بواجبها أم قصرت في حقها فإن كان القيام فروح وريحان وجنة نعيم. وإن كان التقصير فنزل من حميم وتصلية جحيم فليتق الله نساؤنا ولا يكن كل همهنّ الطعام والشراب، وزيارة الأحباب، والتفنن في الزينات، والمشي في الطرقات. أما البيت وتدبيره، والولد وتقويمه؛ والزوج وشؤونه فلا عناية ولا رعاية. ذلك شين في الدين. الخطر فيه كبير. والوزر عظيم والحساب عليه عسير. كذلك الخادم راع في مال سيده، وحافظ مؤتمن، فليرعه كما يرعى ماله. ينميه بما استطاع. ويحفظه من الضياع، يرحم حيوانه ويرأف به، ويتفقد صالحه وخيره، أليس من هذا المال يطعم ويشرب ويلبس ويسكن؟ أليس منه يتخذ الأجر؟ فلم لا يكون فيه أمينا، وعلى تثميره حريصا. وإذا كان مكلفا برعاية المال فما بالك برعاية الأهل والولد. فلا يخن سيده في ماله، أو ولده أو أهله. وليبعد عنهم الدنس والدنايا ولينصح لسيده في كل ماله صلة به والدين النصيحة وليعلم أن الله سائله عن رعيته. كذلك الولد راع في مال أبيه يستثمره وينميه، ويحفظه ويرعاه، فلا يبذره تبذيرا، ويبدده تبديدا، ولا يخونه فيه بالسرقة أو الإغتصاب، أو الكذب عليه في

_ (1) سورة التحريم، الآية: 6. (2) تهجر في زجرهم: أهجر في الزجر: أفحش فيه.

22 - باب: وجوب صلاة الجماعة

الحساب. وهل مال أبيه إلا ماله؟ فإن رعاه فإنما يرعى لنفسه، ويدبر لمستقبله وسيسأل الله الأبناء عما صنعوا في مال الآباء فليتقوا الله فيه، وليعملوا ما يحمدون عليه. وكلنا راع، وكلنا مسؤول عن رعيته. فالعمدة راع في بلده. ومسؤول عن رعيته، والمأمور راع في مركزه، ومسؤول عن رعيته، والنائب أو الشيخ راع في دائرته، ومسؤول عن رعيته، ورئيس النواب أو الشيوخ راع في مجلسه، ومسؤول عن رعيته، والناظر راع في مدرسته، ومسؤول عن رعيته، والمدرّس راع في فصله، ومسؤول عن رعيته، وكل رئيس راع في مصلحته، ومسؤول عن رعيته، والصانع راع في صنعته، ومسؤول عن رعيته، والتاجر راع في تجارته، ومسؤول عن رعيته، والزارع راع في مزرعته، ومسؤول عن رعيته. فالحديث دعامة كبيرة في القيام بالواجبات والحقوق. والإحسان في الأعمال والرعاية لما تحت اليد؛ وإنه ليقرر مسؤولية كل فرد فيما وكل إليه من نفوس وأموال ومصالح وأعمال. 22- باب: وجوب صلاة الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والّذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب، ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها، ثمّ آمر رجلا فيؤمّ النّاس، ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنّه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» . [رواه البخاري ومسلم والنسائي «1» ] . اللغة: الهم: العزم أو ما دونه. ويحتطب: يكسر. ويؤم الناس: يصلي بهم

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة (644) . ورواه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما روي في التخلف عن الجماعة (1479) . ورواه النسائي في كتاب: الإمامة، باب: التشديد في التخلف عن الجمعة (847) .

الشرح:

إماما وأخالف: أتخلف أو آتي من الخلف. أو ذهب إلى من تخلف. والتحريق: المبالغة في الحرق والعرق: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وجمعه عراق، وهو جمع نادر. ويقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. وقال الأصمعي: العرق قطعة لحم. والمرماة: ظلف الشاة وقيل ما بين ظلفيها من اللحم. وتطلق المرماة على: سهم صغير غير محدد يتعلم به الرمي وهو أبخس السهام وأدناها. الشرح: مما شرعه الإسلام أداء الصلوات جماعة في المساجد لحكم بالغة، ومزايا جمة. ذلك أن القيام بها تأليف بين المسلمين وجمع لقلوبهم في أكبر عباده مهذبة للنفوس، مرقية للشعور، مذكرة بالواجب، معلقة الآمال بالكبير المتعال. وفيها يقف الأمير بجانب الصغير، والغني بجانب الفقير. فتتساوى الرؤوس كما تساوت الأقدام في الصفوف. وإذ ذاك تنسى مظاهر الترف التي كثيرا ما فتنت الناس. وفيها يتعلمون من الإمام الدّين بطريق عملي أو نظري بما يزودهم به من النصائح عقب الصلوات. وفيها معنى الوحدة. والتمرين على الأعمال المشتركة. والتدريب على مواقف الحرب تحت إمرة قائد واحد. وفي صلاة الجماعة أيضا حركة بالسعي إلى المساجد. فيزول الكسل ويحلو العمل. وفيها سهولة إعلام الناس بالأمور العامة- والحوادث المهمة- إلى غير ذلك من مزاياها. فلما كانت بهذه المثابة أكد الرسول صلى الله عليه وسلم طلبها، وحتم على الرجال حضورها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقسم بمن نفسه بيده، وروحه بقدرته، يتصرف فيها كما يشاء أنه قد همّ وعزم، وقدّر وصمم أن يأمر بعض الناس بإحضار حطب يحطم ويكسر ليسهل اشتعال النار فيه. ثم يؤمر بعض الناس بإحضار حطب يحطم ويكسر ليسهل اشتعال النار فيه. ثم يأمر بالصلاة يؤذن بها المؤذن. ثم يتخير من بين الحاضرين رجلا يؤم الناس في الصلاة نيابة عنه. ويتخلف هو إلى رجال في منازلهم قعدوا عن صلاة الجماعة. وتركوها بلا عزر. فيحرق عليهم بيوتهم بالحطب الذي يحطب. فيذهب الحريق بنفوسهم وأموالهم عقابا لهم على ترك هذه الشعيرة. ثم أعاد الرسول صلى الله عليه وسلم القسم تأكيدا وتثبيتا، وقال: لو يعلم أحد هؤلاء المتخلفين أن في الذهاب إلى المسجد شيئا حقيرا من متاع هذه الحياة يأكله أو ينتفع به لحضر

صلاة العشاء التي هي من أثقل الصلوات على ضعفاء النفوس لظلام الطريق. واقتراب موعد النوم. والميل فيه إلى الراحة من عناء الأعمال طوال النهار. وقد مثل الشيء الحقير بظلف الشاة- نعلها الطبيعي- أو بعظم به بقايا لحم أو بلحيمة. وبسهمين دقيقين حسنين، يتعلم بهما الصبيان الرماية. وقيمتها ضئيلة. يعني بذلك الرسول أن هذا المتخلف لو وجد في الحضور إلى المساجد منفعة دنيوية يسيرة لهرول «1» إليها، فهو ضعيف الإيمان. غافل عن مزايا الجماعة. مؤثر لعرض هذه الحياة على ما عند الله. والحديث كما ترى فيه وعيد شديد لتاركي صلاة الجماعة؛ وأنه همّ بقتلهم، وتحريق بيوتهم ولعله منعه من التنفيذ أن غرضه مجرد التهديد، أو نساء وصبيان يسكنون بيوتهم لا ذنب لهم ولا جريرة. ومن أجل هذا الوعيد ذهب عطاء والأوزاعي، وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية، كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان إلى أن صلاة الجماعة فرض عين. بل بالغ داود بن علي وأتباعه من الظاهرية، فاشترطوا الجماعة لصحة الصلاة بناء على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية إذا قام بها جماعة سقطت عن الباقين، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وكثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة. وأجابوا عن حديثنا بجملة أجوبة لا تسلم من قدح «2» ، وأمثلها أن المراد بالصلاة الجمعة. واستدلوا لذلك بالتصريح بها في رواية لمسلم، ولكن جاء التصريح بالعشاء في روايات كثيرة صحيحة، ومن الأجوبة الأحاديث المفصلة لصلاة الجماعة على صلاة الفرد كحديث «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» ، وفي رواية: «بخمس وعشرين» - رواه البخاري «3» عن أبي هريرة. فقالوا: إن الأفضلية

_ (1) هرول: أسرع. (2) القدح: الطعن. (3) رواه البخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل صلاة الجماعة (645) عن ابن عمر رضي الله عنه. منها ما روى مسلم في كتاب: المساجد، باب: ما روي في التخلف عن الجماعة (1480) . -

23 - باب: معاونة الإخوان في الدين

تقتضي الإشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. والحديث يدل على جواز أخذ مقتر في الجرائم على غرة لأنه صلى الله عليه وسلم همّ بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بصلاة الجماعة، فأراد أن يبغتهم «1» في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد. ويدل أيضا على تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسر ذلك أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأغلظ من العقوبة. فاحرص أخي على صلاة الجماعة؛ ولا تدعها إلا لعذر قوي، ولا يشغلنك عنها لعبة، أو أكلة، ولا تتساهل في حق الله كما لا تقصر في حق نفسك، وكن لبيت الله معمرا، ولمصلحة إخوانك راعيا. كما راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلحة صحبه وحملهم على القيام بالواجب. ولو ناداك عظيم لبيت نداءه. وهرولت نحوه لتنفذ إشاراته. فالله يناديك: حي على الصلاة: حي على الفلاح ويثني لك النداء فلا تجيب نداءه؟ ألا تهرول إلى الجماعة؟ ألا تعدو إلى التشرف بلقائه. والتلذذ بمناجاته في ذلك الجمع العظيم. من أولي النفوس الطاهرة؟ أكبر ظني أنك مجيب وكيف؟ وأنت الفطن اللبيب. 23- باب: معاونة الإخوان في الدين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» . [أخرجه البخاري؛ ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي «2» وقال: حسن صحيح] .

_ - (وجاء في رواية أن هذه الصلاة التي هم بتحريقهم للتخلف عنها هي العشاء، وفي رواية أنها الجمعة، وفي رواية يتخلفون عن الصلاة مطلقا وكله صحيح ولا منافاة بين ذلك) . (1) يبغتهم: يفاجئهم بمجيئه. (2) رواه مسلم في كتاب: الأدب، باب: تحريم الظلم (6521) .

اللغة:

اللغة: يقال: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه إلي الهلكة، ولم يحمه من عدوه. وهو عام في كل من أسلمته إلى شيء لكن غلب على الإلقاء في الهلكة. والكربة: الغم الذي يأخذ بالنفس. وتفريجها: كفها وإزالتها. الشرح: المراد بإخوّة المسلم للمسلم توثق العلاقة بينهم كتوثقها بين إخوة النسب توثقا يترتب عليه المحبة والمودة، والمواساة والنصر. وجلب كل خير ودفع كل ضر، ومن مقتضى الأخوة أنه لا يظلمه ولا يسلمه، وظلمه انتقاص حقه في نفسه أو ماله أو عرضه؛ طيبا أو فاسقا؛ فالظلم باطلاقه محرم؛ وقد نهى عنه القرآن في مواضع كثيرة، وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» - رواه الشيخان «1» - وإسلامه خذلانه وتركه لعدوه ينكل به، أو يقضي عليه؛ وإذا كان الإنسان يحمي أعضاءه مما يضرها فليحم أخاه المسلم الذي اعتبره الشارع كعضو منه فلينصره ظالما أو مظلوما؛ ونصره ظالما منعه من ظلمه. وقوله: ومن كان في حاجة أخيه إلخ حث على السعي في مصالح الناس سواء كانت مصالح مالية؛ أو علمية، أو أدبية؛ وقد دلت هذه العبارة على أن الوقت الذي ينفقه الإنسان في قضاء مصالح لغيره لا يضيع عليه؛ بل القدير العليم الذي بيده خزائن السموات والأرض يسعى في قضاء حاجاته، فهو إن بذل للإنسان قليلا نال به من الله خيرا كثيرا، فليستعن المرء على قضاء حاجته بقضاء حاجات الناس، وهذا المعنى يدخل في عموم قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «2» ، وكذلك ما بعده؛ وقوله: «ومن فرج عن مسلم كربة» إلخ، حض على السعي في دفع البلايا التي تحل بالمسلمين في الحياة الدنيا؛ فمن أصابته مسغبة بذلت له من مالك أو حثثت الأغنياء على معونته؛ ومن بلي بالعطلة سعيت له في عمل، ومن حاق به ظلم ظالم رفعت عنه الظلم ما وجدت لذلك سبيلا، ومن انتابه مرض داويته؛ أو أحضرت له طبيبا؛ وعلى

_ - ورواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2442) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: المؤاخاة (4893) . ورواه الترمذي في كتاب: الحدود، باب: ما جاء في الستر على المسلم (1426) . (1) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة (2447) . ورواه مسلم في كتاب: الأدب، البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم (6520) . (2) سورة محمد، الآية: 7.

الجملة تسعى لإخوانك في إزالة النوائب أو تخفيفها؛ وقد ضمن الله لفاعل ذلك رفع الكرب عنه يوم القيامة؛ وكرب يوم القيامة شديدة لا تماثل كرب الدنيا؛ فليس لدرئها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا معونة تقدمها في الدنيا لذوي الحاجة؛ وقوله: «من ستر مسلما» ، إلخ حث على ستر زلات أخيه المسلم إذا اطلّع عليها؛ وظاهر هذا الإطلاق يشمل كل زلة صغيرة أو كبيرة مما يوجب الحسد كسرقة وزني وشرب خمر أو لا، فستر الجميع مطلوب، ولكن للعلماء في ذلك تفصيل فقالوا، إذا رأى المجرم أثناء ارتكابه الجريمة تقدم إليه منكرا، ومنعه منها ما استطاع، فإن تركه كان آثما لأنه لم يقم بواجب النهي عن المنكر، ويعتبر كمساعد له على الجريمة، والله يقول: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ «1» ، وإن عرف الجريمة بعد ارتكابها فإن كان مرتكبها من المعروفين بالإجرام وجب عليه تبليغ أولي الأمر «الإدارة أو النيابة» ما لم يخش من ذلك مفسدة راجحة لأن الستر في هذه الحال يدعوه إلى التمادي في الإجرام، ويجرىء غيره من أهل الفساد على الطغيان، وإن لم يعرف بالإجرام فالستر عليه مستحب، ويجوز له تبليغ أولي الأمر، ولا يكون بذلك آثما ما لم يعرف أنه تاب وأقلع، فإن التبليغ يحرم عليه وقد قالوا: إن جرح الشهود والرواة والأمناء على الأوقاف والصدقات وغير ذلك من باب نصيحة المسلمين الواجبة على كل من اطّلع عليها. ولا يعتبر ذلك من باب الغيبة، ولا من قبيل هتك العورة. ومدار البحث في هذا الموضوع أن النهي عن المنكر واجب قولا فلا تمكن شخصا من ارتكاب جريمة أو إتمامها إن استطعنا، وأن العورة أو السيئة إذا كان في الإخبار بها مصلحة للمسلمين أو دفع مضرة عنهم وجب التبليغ لمن يملك التأديب، وإن كان في الإخبار مجرد الفضيحة ولا مصلحة من ورائه فينبغي الستر خصوصا على الذين لم يعرفوا بالفساد. واعلم أن هناك عيوبا خلقية، مستورة عن عيون الناس؛ ويؤلم الشخص أن تعرف عنه، فالواجب على من اطلع عليها ألا يذيع أمرها فإن الإذاعة إيذاء والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقد وعد الله سائر العورات بالستر عليه يوم القيامة، فلا يفضحه على رؤوس

_ (1) سورة المائدة، الآية: 2.

24 - باب: نصر الظالم والمظلوم

الأشهاد، بل يتجاوز عن سيئاته بما قدم من حسناته؛ ولو فسرنا ستر المسلم بسكوته لم نبعد، ولكن الأول أظهر. 24- باب: نصر الظالم والمظلوم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» . قالوا: يا رسول الله هذا ننصر مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ فقال: «تأخذ فوق يديه» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي «1» ] . الشرح: الإخوة في الدين رابطة متينة؛ وعلاقة وثيقة؛ توجب على المرء السعي في خير أخيه؛ من طريق المساعدة على الخير، والمنع من الشر إن أراده أو سلك طريقه وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ- ترجع- إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . ولقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بنصر الأخ ظالما أو مظلوما، فالمظلوم في حقه أو ماله نمنع عنه الظلم، ونرفع الحيف، بكل ما نستطيع من الوسائل، فإن كان الكلام مجديا في ارعواء «3» الظالم عن ظلمه آثرناه، وإن كان القضاء هو السبيل لاسترداد الحق المسلوب ساعدناه بالمال رسما للقضايا وأجرا للمحامين، ومكافأة للخبراء، وإن كان لا يرتدع عن بغيه إلا بشكايته على صفائح الجرائد سننا له القلم، وسودنا له الصحائف؛ وإن كان غشوما «4» لا تردعه إلا القوة سلكنا سبيلها، والمضطر يركب الصعاب؛ والقصد أن تكون يدنا إلى يد المظلوم حتى يأخذ حقه، ويبرد غضبه وتطمئن نفسه.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوما (2444) . ورواه مسلم في كتاب: الأدب، باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوما (6525) بنحوه. (2) سورة الحجرات، الآيتان: 9. 10. (3) ارعواء: رجوع. (4) غشوما: ظالما.

أما نصر الظالم فربما خلته مساعدته على ظلمه، أو مجاراته في عدوانه كما كان العرب يصنعون في عهد الجاهلية. إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي حين يظلم وكما يصنع أولو العصبية والجهالة، المتهالكون في الحزبية؛ ينصرون شيعتهم بالحق وبالباطل، وليس نصر الظالم ذلك؛ بل تمنعه من الظلم؛ فإن أراد استلاب مال أخذت بيديه وإن أراد اغتصاب حق حلت بينه وبينه؛ وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده إن كانت يدك أقوى منها. وتراعي الحكمة في المنع لئلا ينقلب ظالما لك؛ وقد يكون شديد النكاية. وأنت ضعيف الرماية فإن كانت النصيحة رادعة سلك سبيلها؛ فإن لم تكن مجدية فاستعن عليه بمن هو أعلى منه. ممن يخشى بأسه، أو يرهب سلطانه، أو يرجو مصلحة عنده، فلا يكن في ذلك رادع فاستعمل معه القوة ما قدرت عليه حتى يعود إلى حظيرة الحق، ويستقيم على النهج وإنما سمى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك نصرا وإعانة مع معاكسة وعداوة لأن ظلمه إضرار بنفسه في حياته الحاضرة، يعرضها للعقوبات القضائية ويشين سمعتها بين البرية، ويدنسها بالعيش من الحرام واستمراء الحقوق ويعرضها لعقوبة الله في الحياة الآخرة، بل في الحياة الدنيا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «1» ، فمن أراد قتل نفس عدوانا وظلما إذا أرخيت له العنان حتى ارتكب هذا الجرم الكبير عرض نفسه للقصاص، واستلاب الحياة، فأعقب ذكرى سيئة وتاريخا أسود؛ ورمّل زوجه، ويتّم ولده، وأساء إلى أسرته، وكان مثلا سيئا في الباقين، فإذا منعته من جرمه، وضربت بسيفك على يده حفظت له الحياة، وأبقيت على ذكراه، وأنجيت أهله وولده وحفظت الشرف على أسرته؛ فكان ذلك نصرا مؤزرا، بل كنت له الصديق في ثوب العدو والحريص على خيره في لباس الراغب في شره. فيا أيها المسلم لا تجعل للظلم بين المسلمين وجودا، ولا ترى فيهم ظالما أو مظلوما بل اعمل على تمتع كل امرىء بحقوقه، وطمأنته على شؤونه، وآثر «2» الحق

_ (1) سورة السجدة، الآية: 21. (2) آثر: فضّل.

25 - باب: تعاون المؤمنين

والخير. وإن أغضبت الجهول، فإنه لك بعد نعم الشكور. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. 25- باب: تعاون المؤمنين عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا، ثمّ شبّك بين أصابعه» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي «1» ] . البيت مكون من جدران اتصل بعضها ببعض، والجدار مكون من لبنات أو طوب أو حجارة، وللقطعة منها في الجدار من القوة والمتانة ما ليس لها خارجة إذ شدت إلى ما حولها بالشيد «2» ، وكان لها سند من جميع نواحيها، ولهذا يصعب تحريكها في جدارها، بل يصعب تكسيرها، أما خارج الجدار فليس لها مناعة وقوة فكسرها سهل، ونقلها أسهل، وكذلك الجدار إذا كان قائما وحده. وعمره قصير تزلزله حوامل الأثقال إذا مرت بجانبه، وتهزه العواصف الشديدة، أو تطرحه أرضا فإذا ما اتصل بغيره من طرفيه حتى كانت في الجدار حجرة. وكان من الحجرات منزل أو عمارة؛ رسخ في مكانه وصلب في مقامه، ولا تؤثر فيه الحوادث إلا بقدر، فالجدار وحده ضعيف، وبأمثاله قوي شديد. ذلك مثل المؤمن للمؤمن، فهو معه كالبنيان يشد بعضه بعضا فالمؤمنون شأنهم التعاون والتناصر، والتظاهر والتكاتف على مصالحهم الخاصة والمصالح العامة: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ «3» ، أما التفرق والتخاذل فلا يعرفه الإيمان، وليس من الدّين في شيء فإن كان التعاون كانت القوة

_ (1) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم (2446) . ورواه مسلم في كتاب: الأدب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (6528) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (1928) . (2) الشيد: ما يطلى به الحائط من جص ونحوه. (3) سورة المائدة، الآية: 2.

للمسلمين، والشوكة للموحدين؛ يستخدمونها في التنكيل بعدوهم، حتى يستردوا حقوقا مغصوبة وأرضا منقوصة، أو يرهبون بها من يحدثهم جشعهم باستلاب ملكهم، واستعمار بلادهم، فلا يقدمون على ما عزموا وبيتوا وقدروا، أو يسخرونها في الانتفاع بخيرات هذا الكون، وتذليل عناصره، بعمل الجمعيات، وإنشاء الشركات، وإقامة النقابات، وبقدر ما بين المسلمين في أنحاء الأرض من حسن الصلات، ووثيق العلاقات تكون قوتهم، وثبات ملكهم؛ وقيامه خالدا. وإن كثرت الزلازل، وتوالت العواصف، وأجمع الأعداء من أمرهم. وأجلبوا علينا بخيلهم ورجلهم، وإن كان التخاذل والتدابر والتقاطع وتبديد عرا الإخاء، وانصراف كل إلى نفسه وهواه وشهرته. كان الضعف والإنحطاط، والفشل والخور. فضيحة من عدونا، وإبراق وإرعاد، يزلزل ملكنا، ويذهب بمجدنا، ويجعلنا أذلاء في ديارنا؛ بل ضعفاء في ديننا. فلا دنيا حصلنا ولا دينا أقمنا؛ ولا ثوابا آجلا ضمنا فخسرنا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين؛ والذئب إنما يأكل من الغنم القاصية التي تركت جماعتها واستقلت عن فصيلتها. ولقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم اتحاد المسلمين ومعونة بعضهم لبعض بالتشبيك بين أصابعه. وإدخال بعضها في خلال بعض، ولا شك أن ذلك يزيد في متانة كل إصبع ويعطي كل يد قوة إلى قوتها؛ كذلك المسلمون إذا تضامت «1» أيديهم، وتظاهرت «2» قواهم، وتحابّت نفوسهم؛ وتساندت أممهم، زادوا قوة، وخلقوا لهم عزة فدانت الأمم لسلطانهم وخضعت لأمرهم وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» . فيا أيها المسلمون ذلكم رسولكم، وأسوتكم وإمامكم، يرشدكم إلي سلاح ماض وجيش غلاب، وعدة عتيدة. تنفعكم في البأساء والضراء، وتدفع عنكم الأعداء وتزيل عنكم الاستعباد، وترد إليكم العزة الماضية، والكرامة الراحلة، وتبوّئكم المكانة العالية ذلكم هو سلاح الائتلاف، والاتحاد والوفاق، سلاح ضم اليد إلى

_ (1) تضامّت: ضم بعضها إلى بعض. (2) تظاهرت: تعاونت واتحدت. (3) سورة المنافقون، الآية: 8.

26 - باب: دعوة المظلوم

اليد. ومعونة الأخ للأخ، وترك النزاع جانبا، والعداء ظهريا. فاستمعوا لإرشاده، واعملوا بنصحه فإنه من يطع الرسول أطاع الله، ومن يعصه عصاه واذكروا قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «1» ، وقوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» . 26- باب: دعوة المظلوم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن، فقال «اتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب» . [رواه البخاري ومسلم «3» ] . اللغة: الحذر. وأصله اتخاذ الوقاية مما يضر. والحجاب: الحاجز المانع حسيا أو معنويا. وهو في الأصل مصدر حجبه يحجبه حجبا وحجابا إذا منعه وستره. الشرح: هذا الحديث قطعة من وصية وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن سنة عشر قاضيا عليها. أو واليا قال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلي أن يشهدوا ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم. نفائسها. واتق دعوة المظلوم ... » . إلخ. دعوة المظلوم على ظالمه دعوة حقة، وإنها لانتصار من ظلمه: وَلَمَنِ انْتَصَرَ

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 103. (2) سورة الأنفال، الآية: 46. (3) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم (2448) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (122) .

بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «1» ، وهي دعوة حارة سخنت من نار الغضب صادرة من أعمال النفس، فكانت في السماء متصعدة، شأن الهواء إذا سخن بعيدة المدى، شأن القنبلة إذا أطلقت من مدفع بعيد الغور، فما تزال تشق أجواء الفضاء لا يحجبها حاجب ولا يردها صادر حتى تصل إلى السماء، فتخترق طبقاتها، وتنفذ من بنائها، فيتقبلها ربها بردا وسلاما لمن دعا، ونارا وجحيما لمن ظلمه، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط هذا المعنى من قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً «2» ، فالدعوة مشروعة بقوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، ومقبولة مسموعة بتعقيب الاستثناء بقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً، وقد جاء في حديث رواه أحمد بسند حسن: قبول دعوة المظلوم وإن كان فاجرا، وأن فجوره على نفسه لا يقف دون دعوته. وجاء في الحديث أن إجابة الدعاء على ثلاث مراتب إما أن يجاب الداعي إلى ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، فلا تعجب إذا لم تجب إلى عين ما طلبت وقد ظلمت، فإن الله عليم حكيم قد تقتضي حكمته عدم الإجابة إلى ما سألت وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» . وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم واليه وعامله، وبعيثه وقاضيه من دعوة المظلوم، وأمره أن يتخذ من دونها وقاية، وما اتقاؤها إلا بتجنب أسبابها، فلا يظلم أحدا ممن تحت ولايته في نفسه إيذاء، أو في ماله بانتقاص كأن يأخذ في الزكاة كرائم أمواله، ونجائب «4» حيوانه، دون الوسط من ذلك، فيوغر صدره ويسن لسانه؛ ويبعث بدعوة المظلوم من قلبه، ولا يحابي في عمله الأغنياء، ويعرض عن الفقراء، ولا يعفو عن ظالم لمكانة أو وجاهة، ولا يقبل رشوة أو شفاعة أو باطل، وإن كان قاضيا تجنب المحاباة ووزع المساواة، وأخذ للضعيف من القوي وتحرى الحق في قضائه، والعدل في أحكامه. إلى غير ذلك من آداب الولاة والقضاة، فليكن قاضي الجنة، والإمام العادل الذي يظله الله في يوم لا ظل إلا ظله.

_ (1) سورة الشورى، الآية: 41. (2) سورة النساء، الآية: 148. (3) سورة آل عمران، الآية: 66. (4) أي أفضلها.

27 - باب: جزاء من اغتصب أرضا

فيا أيها القضاة والولاة، ويا أيها الحكام والرعاة، خوّلكم الله رعية وجعل تحت أيديكم حقوقا وأمانات، فاتقوا الله فيها؛ وأدوا الأمانات لأهلها، ولا تنقصوا أحدا حقه، ولا تبخسوا عاملا عمله؛ ولا تسلبوا مجدا أمله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً «1» واعلموا أن من ظلمتم أو خذلتم فالله ناصره ومعينه؛ ووليه وكفيله؛ وإنه لمتقبل دعوته، ومستمع شكايته؛ ومنتقم ممن ظلمه؛ وآخذ له منه حقه، فاتقوا الدّيان؛ واحذروا النكال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «2» . 27- باب: جزاء من اغتصب أرضا في اغتصاب الأراضي عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» . [رواه البخاري ومسلم «3» ] . اللغة: القيد بكسر القاف: القدر كالقاد والقيس والقاس؛ فكلها بمعنى واحد؛ والتطويق: وضع الطوق في العنق، ويقال: للتكليف والإلزام. الشرح: هذا الحديث روي عن عبد الله بن عمر أيضا بلفظ: «من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» «4» . وكذلك روي عن سعيد بن زيد في قصة حكاها مسلم: قال سعيد: إن أروى خاصمته في بعض داره، فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة اللهم إن كانت كاذبة

_ (1) سورة النساء، الآية: 58. (2) سورة إبراهيم، الآية: 42. (3) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2453) . ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (4113) . (4) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2454) .

فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها» «1» ، قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها. الظلم حرام قليله وكثيره؛ وسرقة الأرض وغصبها باب من أبواب الظلم، شبرا كان المأخوذ أو ذراعا، قصبة كان أو فدانا، ملكا للأفراد أو من المنافع العامة لما رواه أبو يعلى بإسناد عن الحكم بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ من طريق المسلمين شبرا جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين» » . فالذين يأكلون من الطرق الخاصة أو العامة في المباني أو المزارع أو يأخذون من جسور السكك الحديدية أو من شواطىء الأنهار والترع كل أولئك ظلمة غصبة، وكذلك الذين يغيرون معالم الضياع أو أراضي البناء، ويزحزحون حدودها عن أماكنها ليضموا إلى ملكهم من أملاك غيرهم وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من ظلم مقدار شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين، أي ألزم إثم ذلك، ولم يكن له مفر من عقابه فليس معنى التطويق أن يجعل ذلك طوقا بوم القيامة يحيط بعنقه، أو أن يكلف نقل تراب ذلك الشبر من سبع أرضين تعذيبا له فإن ذلك مرّ في ذوق اللغة في هذا الموطن وأشباهه، وإنما الغرض لزوم الإثم له لزوم الطوق، وأخذ العذاب الشديد بخناقه، وليس العقاب على سطح ما أخذه ليزرع فيه أو يا بني عليه فقط، بل العقاب على ما اغتصبه بالغة في جوف الأرض وطبقاتها أقصاها، وهذا يفيد أن السفل تابع للسطح كما أن العلو تابع له، ولذلك استنبط الفقهاء من هذا الحديث أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة ثابتة، وأبنية ومعادن. وعيون ومنابع. وغير ذلك وله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجيرانه. فإنه لا ضرر في هذا الدّين ولا ضرار. وله أن يمنع من يريد حفر

_ (1) رواه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين وقول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ... (3198) بنحوه. رواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (4111) بنحوه. ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (4110) . (2) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (2458) بنحوه. وگرواه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (4448) .

28 - باب: لا يحل القضاء حراما ولا يحرم حلالا

بئر أو سرداب تحت أرضه ليسلكه أو ليسير فيه عربات أو قطارات. وكذلك له منع الأنابيب وأسلاك البرق والكهرباء أن تمدّ تحت ملكه. والمراد بالأرضين هنا: طبقات الأرض السبع التي نبّه إليها القرآن اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1» ، وليعلم القارىء أن الاعتداء على الحدود كثيرا ما سبب مشاكل خطرة، وقضايا عدة. بل كثيرا ما أريقت فيه دماء. وأنفقت في سبيله خزائن الأموال. فلو أنّ الناس عملوا بهذا الحديث ووقف كل عند حدّه. ما وقعنا في هذه البلايا. بل لأرحنا الحكومة. وخففنا عن مصلحة المساحة ولم تثقل عبء المالية بما تنفقه من مئات الآلاف في سبيل إقامة الأعلام الحديدية. بل كنا نقتصد ذلك من هذا الباب. لينفق في أبواب أخرى كتعبيد الطرق، وشق الترع، وإقامة السدود والقناطر، وغير ذلك مما يساعد على تنمية الثروة، ويخفف عن الفلاح عبأه. وبعد: فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وفي الدنيا نزاع وعداوة، ومتلفة وخسارة والطمع غبه الندم، فلا تدنس نفسك الطاهرة برجسه. ولا تفسد أرضك بشبره فتنتابها الأمراض الزراعية، ويرسل الله عليها من جنوده الخفية. فإذا بالثمر قليل وإذا بالقليل ذاهب البركة، وقليل في عفة، خير من كثير في نهمة. 28- باب: لا يحل القضاء حراما ولا يحرم حلالا عن أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سمع خصومة بباب حجرته. فخرج إليهم، فقال: «إنّما أنا بشر، وإنّه يأتيني الخصم، فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنّه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحقّ مسلم فإنّما هي قطعة من النّار، فليأخذها أو ليتركها» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود «2» ] .

_ (1) سورة الطلاق، الآية: 12. (2) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (2458) .

اللغة:

اللغة: الخصومة: المنازعة والمجادلة، وفي بعض الروايات جلبة، خصام، والجلبة: اختلاط الأصوات، والبشر: الخلق يقال للجماعة والواحد، والخصم المنازع وهو في الأصل اسم مصدر يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والذكر والمؤنث ويجوز تثنيته وجمعه، وأبلغ أكثر بلاغه. وللمتقدمين في بيان البلاغة عبارات مختلفة. فقيل: هي أن يبلغ المرء بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ. وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأل. وقيل: إجمال اللفظ واتساع المعنى وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى. وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ. وقيل: النطق في موضعه والسكوت في موضعه وقيل: غير ذلك وأنسب المعاني بحديثنا أولها. أما المتأخرون فعرفوها بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته وأحسب: أظن. هذا وقد جاء في رواية للشيخين: «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» «1» . أي أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره. وأصل اللحن الميل عن جهة الاستقامة يقال: لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق. وجاء في رواية لأبي داود زيادة: فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لك. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إذا فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق. ثم استهما ثم تحاللا» «2» . الشرح: كان لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم حجرات بجوار مسجده المعروف. ومن بينها حجرة أم سلمة. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في حجرتها إذ سمع ببابها نزاعا ومحاورة، وخصاما ومجادلة. ارتفعت فيها الأصوات. واختلط بعضها ببعض، وكان ذلك على إرث قديم كما صرّح بذلك في رواية. فخرج إلى الخصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم لهم هذه العظة البالغة، قبل أن يقضي

_ - ورواه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (4450) . ورواه أبو داود في كتاب: الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3583) . (1) رواه مسلم في كتاب: الأقضية، الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (4448) . رواه البخاري في كتاب المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (2458) . (2) رواه ابو داود في كتاب: الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3584) .

1 - المحاماة عن الباطل إثم كبير.

في الشجار، ويفصل في النزاع، فقال لهم: «إنما أنا بشر مثلكم» ، إمتثالا لأمر ربه قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «1» فلا علم لي بالغيب ولا ببواطن الأمور كما يزعم الجاهلون إلا ما يوحي إليّ ربي من آي القرآن وأمور التشريع، وأما الوقوف على دخائل النفوس وخفايا الأمور فأنا وسائر الناس فيه سواء لنا ما ظهر وإلى الله ما بطن، فإذا حضر مجلسي الخصوم لأفصل بينهم في نزاع قائم فربما كان بعضهم أشد بيانا من بعض، وأقوى تأثيرا، وأقوم قيلا، وأقدر على صوغ الحجج. وتوضيح المشتبه. وجلاء الغامض. لذرابة «2» لسان وقوة بيان. وطول مران. وحدة ذهن. وسرعة بديهة والآخر دونه في ذلك، فلا يحسن البيان والخصام. والحوار والدفاع. وقد يكون الحق في جانبه والصدق في قوله ولكن عيه وضعفه ستر معالم حقه. وبيان الأول وبلاغته جلى دعواه، وألبسها ثوب الحقيقة. وقد تكون دعوى باطلة، وقضية مزوّرة، فيغلب على ظني، ويقع في نفسي صدق من علا بيانه وقوي حجاجه «3» ، وهو في الباطن كاذب، فأقضي له بما ادعى، فمن قضيت له بحق أخيه في الإنسانية مسلما أو ذميا، معاهدا أو حربيا- فذكر المسلم من باب التهييج لالتزام الحق فإنما أقضي له بقطعة من نار إذ كان في الواقع حق غيره لا حقه، فهو معذب به لا محالة، فإن رآه الآن مالا ونفعا فسيراه في الآخرة نارا ولهبا، فإن شاء فليأخذ ما حكمت به، وإن شاء فليترك، فإن أخذ فالنار موعده، وإن ترك فلعل الله مسامحه فالأمر هنا للتهديد مثله في قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» «4» . والحديث كما ترى أصل كبير في المحاماة والقضاء، وتبين لك المهم من أحكامه: 1- المحاماة عن الباطل إثم كبير. وفي ذلك يقول القرآن: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا «5»

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 93. (2) لذرابة لسان، لسان ذرب: حاد، يقال: ذرب لسانه: إذا كان شتاما فاحشا لا يبالي ما قال. (3) حجاجة: المراد به البرهان الواضح. (4) سورة الكهف، الآية: 29. (5) سورة النساء، الآيات: 107- 109.

2 - من ادعى حقا أمام القاضي، وعجز عن إثباته

فإن انضم إلى ذلك استخدام القوة الخطابية، والمواهب النفسية في إظهار الحق في معرض الباطل. ورسم الباطل في مظهر الحق كان الإثم أشد، والجرم أكبر أما أن تستخدم البلاغة، وقوة العارضة في نصرة الحق وإزهاق الباطل، في عبارة سياجها الأدب. منزهة عن التشهير بالخصم والثلم للعرض فذلك ما لا حرج عليك فيه. بل لك من الله أجر الدفاع، وثواب الإقناع. وإذا كان قضاء الحاكم بالباطل لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا فبأي وجه يستحل المحامون أجر الدفاع عن الباطل إذا وقفوا على الحقيقة قبل التوكيل أو في أثناء المرافعة. ليعلموا أن الحياة الدنيا متاع، وأن ما عند الله خير وأبقى، وأنه لا يبقى على الحرام ملك، ولا يضيع عند الله حريص على حق. 2- من ادّعى حقا أمام القاضي، وعجز عن إثباته ، وطلب يمين المدعي عليه فحلف، فبرّأه القاضي، وهو في الحقيقة مدين- لم يبرأ عند الله ولم يحل له بذلك حق أخيه. فلو تمكن المدعي من إثبات دعواه بعد وجب على القاضي الاستماع لبينته. ونقض الحكم الأول، فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وكذلك لو ادّعى إنسان على آخر مالا، أو ادعى زوجية امرأة لم ترض به زوجا، أو ادّعى على رجل تطليقه لزوجته؛ وأقام البينة على ذلك، وكانت في الظاهر بينة عادلة، فحكم بها القاضي، وهي في الواقع كاذبة مزورة؛ لم يحل له المال، ولم يكن له حقوق الأزواج، ولم تحرم المدعي طلاقها على زوجها بل المدعي مؤاخذ بعلمه ومعاقب على كذبه، ولا يرفع عنه حكم القاضي الذي أداه إليه اجتهاده. 3- يدل الحديث على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يخالف قضاؤه الواقع ، وليس ذلك بمناف لمقام النبوة، ومبدأ العصمة. فإن ذلك في المبادىء التشريعية؛ والأحكام الدينية، التي هي قانون عام للناس يرجعون إليه في كل العصور؛ فهذه لا يخطىء فيها؛ وإن أخطأ- بأبي هو وأمي- على رأي من يرى له الاجتهاد في سن الأحكام الشرعية نزل عليه وحي الله بالصواب، إذ هو أسوة للناس وقدوة، فلا يقرّ على الأخطاء، وإن كانت من غير قصد، أما الأحكام القضائية فقد يكون فيها الخطأ، لا في مبادئها، ولكن في طرقها فقد يحكم ببينة يراها عادلة والواقع أنها فاسقة؛ وقد

29 - باب: حق الطريق

يحكم بيمين خالها «1» صادقة وهي غموس «2» كاذبة وقد يحسن أحد الخصمين الدفاع والبيان؛ فيحسب الحق في جانبه؛ فيحكم له والحق لصاحبه، فمثل هذا القضاء يجوز من الرسول صلى الله عليه وسلم كما يجوز من غيره؛ والقضاء ينفذ فيه ظاهرا لا باطنا فلا يحرم حلالا، ولا يحل حراما؛ فإن كان القضاء طبق الواقع نفذ ظاهرا وباطنا. فيا أيها المسلم لا تسلك إلى الباطل الحيل؛ ولا تأكل الإثم وإن قضت به لك المحاكم؛ أو عجز صاحب الحق عن رفع دعواه لفقده الرسوم، أو لأنه يخشى بأسك وسلطانك، أو لأنه تعوزه البينة والدليل، واجعل لعلمك قيمة فاعمل به وإن خالفه القضاء، واعلم أن الله رقيب عليك، يعلم سرك وجهرك، وباطلك وحقك، وهو أولى بالخشية؛ وأجدر بالرعاية وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ «3» . وأما أنت أيها القاضي فليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإذا تقدم إليك الخصوم، وقد جدّ بينهم النزاع فتقدم إليهم بالموعظة الحسنة. والمقالة المؤثرة، عسى أن يرجعوا عن خصامهم، ويعترفوا بالحق فيعودوا من مجلسك إخوانا متصافين، ولنصحك شاكرين. 29- باب: حق الطريق عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والجلوس على الطّرقات» - في رواية بالطرقات- فقالوا: ما لنا بدّ إنّما هي مجالسنا نتحدّث فيها. قال: «فإذا أبيتم إلّا المجالس فأعطوا الطّريق حقّها» . قالوا: وما حقّ الطّريق؟ قال: «غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السّلام؛ والأمر بالمعروف، والنّهيّ عن المنكر» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود «4» ] .

_ (1) خالها: ظنّها. (2) الغموس: التي تغمس صاحبها في الإثم لكذبها. (3) سورة الأحزاب، الآية: 37. (4) رواه البخاري في كتاب: المظالم، باب: أفنية الدور والجلوس فيها و ... (2465) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه (5528) .

اللغة:

اللغة: إياكم: كلمة تستعمل للتحذير. والطرقات: جمع طرق. وهذه واحدها طريق. فالطرقات: جمع الجمع. والبد: المناص والمهرب والعوض. والإباء: الإمتناع. والغض: النقصان من الطرف والصوت وما في الإناء يقال: غض وأغض. والكف: المنع. هذا وقد جاء في روايات أخرى. حسن الكلام وهداية الضال، وتشميت العاطس إذا حمد، وإغاثة الملهوف، وإعانة المظلوم، والمساعدة على الحمولة وذكر الله كثيرا فتلك سبع إلى خمس. الشرح: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه عن الجلوس على الطرقات على المساطب أو الأرائك، أو الكراسي. أو على الأرض بجانب الحوائط مفروشة وغير مفروشة. فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما لنا بد منها. ولا غنى لنا عنها. لأنها مجتمعاتنا وأنديتنا. التي نتحدث فيها بشؤوننا. ونتذاكر في مصالحنا. في دنيانا وديننا. ونروّح عن نفوسنا. ويسرّي بعضنا عن بعض مما ألمّ بنا، فتركها يشق علينا، وكأنهم فهموا أن النهي للتنزيه «1» ، ولا يراد به التحريم. لأنهم لم يعهدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم نافع، ولا إباحة ضار، أو أن النهي لمعنى متصل بالمجالس، لا لنفسها وذاتها، وقد يكون في إمكانهم مجانبة المعنى الذي من أجله كان النهي ولذلك راجعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ذاكرين أنها مجالس محادثة ومذاكرة، ومؤانسة ومجاملة، فلم ينهون عنها؟ ولو علموا أن النهي عزمة من العزمات ما راجعوه ولكانوا أول من يمتثل، كما عهدناهم في مواطن كثيرة؛ ينفذون بمجرد الإشارة؛ فما بالك بصريح العبارة؟. ولقد أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن النهي ليس لذات المجالس وإنما هو من أجل حقوق الطريق التي يتعرض لها الجالس؛ وقد يقصر فيها؛ فيبوء «2» بإثمها؛ فقال لهم: «إذا أبيتم إلا المجالس؛ ورغبتم عن غيرها إليها؛ تجلسون فيها وتتسامرون فأعطوا الطريق حقها» . فسألوه عن حقها؛ شأنهم في استبانة الغامض؛ واستفصال المجمل؛ فبين لهم حقوقها.

_ - ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الجلوس في الطرقات (4815) . (1) المنهي عنه تنزيها: ما كان فعله إلى الإباحة أقرب. (2) أي يرجع.

فأولها: غض البصر:

فأولها: غض البصر: فإن أرسلته لتعرف سائر، أو تمتع بمنظر فاتن؛ من خضرة ناضرة؛ ومياه جارية؛ وسماء صافية؛ وصور متحركة- فلا ترسله إلى السيدات، والفتيات المارات، مشبعا بجراثيم الشهوة، محملا ببواعث الفتنة فإن ذلك الذي حرم القرآن بقوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «1» ، وإذا كان النظر إليهم محرما فما بالك بمن يلفظ بالهنات، ويقول المفظعات ويرمي المحصنات الغافلات؟ إن وزره لكبير، وإثمه عند الله عظيم، وكما تحرم عليك النظرة المسمومة للسائرات كذلك تحرم للاتي يطللن من خدورهن ويبرزن من فتحات دورهن لقضاء مصلحة؛ ولترويح نفس ضائقة؛ كذلك لا ترسل البصر ساخرا بالناس؛ أو حاسدا أو زاريا أو غاضبا؛ بل كفّ منه، وأرسل منه؛ فكفه عن الحرام؛ وأرسله في الحلال. وثانيها: كف الأذى: فلا تؤذ سائرا بلسانك أو يدك؛ فتشتمه أو تسبه؛ أو تنهال عليه ضربا باليد أو العصا من غير ما جرم اجترمه «2» ، ولا ذنب اقترفه، ومن الإيذاء سلبه شيئا مما يحمله من غير أن تطيب به نفسه، أو إراقة الماء في طريقه حتى تزلّ به الأقدام، أو وضع عقبات في الطريق يعثر فيها المشاة؛ أو إلقاء قاذورات، أو أشواك تضر بالسابلة «3» ، أو تضييقه الطريق بمجلسه أو قعوده حيث يتأذى الجيران فيكشف نساءهم، ويقيد عليهم حريتهم كل ذلك وأضرا به مما يجب كفه، والعمل على إبعاد المارة منه. وثالثها: رد السلام: فإن ذلك فريضة محكمة «4» ، وسنة متبعة. وإنه رسول الألفة وداعية المحبة، ولا تسأم كثرته من المارين. فإن كلا يتحبب به إليك ويحييك ويكرمك، أفلا تجيب التحية بمثلها أو خير منها؟ أفلا تود من وادك، وتكرم من كرمك؟ ذلك خلق الكريم أفلا تكونه؟. ورابعها وخامسها: الأمر بالمعروف النهي عن المنكر: وإن ذلك لواجب مقدس للمسلم على أخيه المسلم؛ فإذا رأيت عربة ذات حمل ثقيل. ناء بجرها البهيم، أو رأيت حيوانا حمل فوق طاقته فانه عن هذا المنكر، ومر السائق بالتخفيف، وإذا رأيت

_ (1) سورة النور، الآية: 30. (2) جرم اجترمه: ذنب وخطأ ارتكبه وفعله. (3) السابلة: المارة في الطريق. (4) محكمة: بينه وواضحة.

أما سبع الروايات الآخرى:

سائرين يتسابان أو يتقاتلان فمرهما بالكف وإذا رأيت شابا يعاكس فتاة ويعترضها في طريقها فانصح له بالاستقامة، فإن أبى إلا بالصفع أو بالأخذ إلى القسم فافعل ما استطعت في غير تهور ولا إضرار بك؛ وإن رأيت من يبخس الكيل، ويطفف «1» الميزان فمره بالعدل أو سلّمه إلى الشرطي، وإن رأيت من يعبث بحديقة الجار أو ببعض حاجاته فحل بينه وبين العبث، وإن رأيت من يبيع طعاما عفنا، أو شرابا أسنا «2» - فاضرب على يده- إلى غير ذلك مما يقترفه المارة ويجترمه الباعة. أما سبع الروايات الآخرى: فأولها: حسن الكلام ، فإن سألك طارق في بعض شؤونه فأرهف له أذنك؛ وأجبه بعبارة حشوها الأدب، وأرشده بهوادة ولطف، ولا تتلقه بالخشونة وتجاوبه بالفظاظة، ولا ترفع من صوتك مع جلسائك. ولا تهزأ. ولا تقل هجرا ولا فحشا، ولا تهوش على جيرانك فتؤذيهم في بيوتهم، أو تقضهم في مضاجعهم. وثانيها: هداية الضال فمن استهداك الطريق فاهده. ومن رأيته ضل المحجة «3» فأقمه على صراطها. وإن رأيت كفيفا فخذ بيده أو وصله إلى مقصده. وثالثها: تشميت العاطس فإذا حمد مولاه فقل له: يرحمك الله تدعو له بالرحمة والمغفرة. فتجلب من وده. وتزيد في أنسه. فتشميته الدعاء له وكل داع بخير فهو مشمت. ورابعها: إغاثة الملهوف . وقد قدمنا القول فيه في الحديث العاشر. وخامسها: إعانة المظلوم. فتأخذ بيده حتى يصل إلى حقه. وسادسها: إعانة الحمولة فإن رأيت حيوانا زلّ بحمله. أو فرسا عثر في عدوه. أو عربة إنقلبت. أو سيارة وقفت. أو فرغ منها الوقود فخذ بيد الكابي حتى يرجع سيرته الأولى. فإن زل إنسان حاملا أو شاغرا «4» فهو أولى بالمعونة.

_ (1) يطفف: ينقص. (2) أسنا: متغيرا. (3) المحجة: الطريق البين الواضح. (4) شاغرا: خاليا.

وسابعها: ذكر الله كثيرا

وسابعها: ذكر الله كثيرا حتى يكون لك منه باعث على الخيرات. ومبغض في السيئات. ومرغب على القيام بحق الطرقات. فتلك اثنتا عشرة خصلة هي حقوق الطريق التي يطالب بها كل جالس فيه، بل يطالب بها من أطل من شرفات منزله. ومن جلس في طنوفه «1» ، ومن جثم في متجره أو مصنعه بحيث يرى السابلة، والساكنون تجاهك في الطبقات العلوية أو السفلية أولى بمراعاة الأدب. وتجنب الضرر. وللجار من الحقوق أضعاف ما للسالك. وقد استدل بالحديث من قال: إن ما نهى عنه الشارع سدا للذريعة يجوز للمرء فعله إذا أمن شره. وجانب ضره. وإن كان الأولى تركه ابتعادا عن بواعث الفتنة. ونأيا عن المزلة وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجلوس أولا حسما للمادة فلما أبوا إلا الجلوس بيّن لهم مواضع الخطر. فإن تجنبوها فلا عليهم إن جلسوا. واستدل به على أن دفع المفاسد مقدّم على جلب المصالح إذ نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إتقاء للأخطار وإن كان في الجلوس شتى المنافع. فيا أيها الأخ إن آنست في نفسك القيام بالواجبات، فلا عليك أن تجلس في الطرقات على المقهى أو أمام المسكن، أو دون المتجر، تستنشق الهواء وتستدفىء بالشمس؛ أو ترتاد غير ذلك من المصالح، وإن خشيت عدوان نفسك عليك، ومغالبتها لك. وطغيان شهوتك على عقلك. وشيطانك على ملكك فدعها إلى داخل منزلك: أو إلى السير في الهواء الطلق. أو الجو الدافىء تسلم من المعاطب وتفز بطيب الرغائب. 30- باب: إكرام المماليك والخدم عن المعرور بن سويد قال: «رأيت أبا ذر الغفاريّ رضي الله عنه وعليه حلة، وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك، فقال: إنّي ساببت رجلا فشكاني إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة» . ثمّ

_ (1) طنوفه، الصّنف: ما أشرف خارجا عن البناء.

اللغة:

قال: «إنّ إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم: فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الحلة: الكسوة ولا تسمى بذلك إلا إذا كانت ثوبين من جنس واحد. وقد نقل بعض أهل اللغة: أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحملهما من طيهما فأفاد أنها من الحل. والغلام: الطار «2» الشارب. وساببته: وقع بيني وبينه سباب من السب وهو الشتم الوجيع. والتعيير النسبة إلى العار وهو العيب. وفي بعض الروايات: وكانت أمه أعجمية فنلت منها والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي أعجميا كان أو عربيا. وفي رواية: قلت له. يا ابن السوداء. والجاهلية: الحال التي كان عليها العرب قبل الإسلام وقد شرحناها قبل. والخول: الخدم سموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي يتعهدونها ويصلحونها. ومنه الخولي: لمن يقوم بإصلاح البستان. ويقال: إن الخول جمع خائل وهو الراعي. وقد يطلق الخول على الواحد. والتكليف. تحميل النفس ما فيه كلفة ومشقة. الشرح: المعرور بن سويد لقي أبا ذر بالربذة- موضع بالبادية بينه وبين المدينة ثلاث مراحل- وعليه حلة. وعلى خادمه مثلها. فسأله. كيف يلبس خادمه مثل ما يلبس. وذلك غير معهود. فأجابه ببيان السبب. وأنه حصل بينه وبين شخص سباب ومشاتمة. وأنه عايره بأمه وعابه بها وقال له. يا ابن الأعجمية أو يا ابن السوداء. أو ما شاكل ذلك من الكلمات. فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم أعيرته بأمه؟ منكرا عليه ذلك إذ الأم لا دخل لها في الخصام، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «3» ، وقال له: إنك امرؤ فيك جاهلية أي خصلة من خصالها التي قضى عليها الإسلام أن تعتدي في الخصام. فتجاوز الخصم إلى أبيه وأمه وما لها من ذنب إليك، ثم أوصاه هذه الوصية القيامة التي رفعت من شأن الخدم إلى درجة المخدومين والسادة.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون» (2545) . ورواه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه ... (4291) . (2) الطار الشارب: من ظهرت ونبتت شاربه. (3) سورة النساء، الآية: 36.

فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخدم والمماليك إخوان في الدّين أو في الإنسانية. وكان الظاهر أن يقول: خولكم إخوانكم. ولكن قدّم ما أصله التأخير اهتماما بالأخوة. وأنه لا ينبغي أن تنسيها الخدمة. وهل الخدمة إلا إعانة. فكيف تجعلها سبب تحقير وإهانة؟ إن الأخوة وحدها داعية التبجيل والإكرام. فكيف إذا انضمت إليها الخدمة. والمعونة والمساعدة؟ كنت تحسب أنك تطعم الخادم وتسقيه، وتكسوه وتؤويه أو تنقده أجرا على خدمته، فلا تنسى أنه يقوم لك بأمور، أنت مضطر إليها في حياتك، وكثيرا ما تعجز عن معالجتها، والقيام بها، فهو يكمل نقصك، ويوفر عليك وقتك، ويحقق غرضك، وتصور الوقت الذي تفقد فيه الخادم كيف تعتل أمورك، ويقف دولابك، ويختل النظام وتتعسر الحاجات؟ فالذي يكفيك شؤونك، ويحقق مصالحك جدير بمعونتك، خليق برعايتك، فهؤلاء الخدم الإخوان جعلهم الله تحت يدك، ومكنك منهم بالملك أو الأجر، وصاروا مسخرين لك طواعية وأخيارا، فالواجب عليك العناية بهم. والإحسان إليهم وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى ... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» ، فتطعمهم من جنس ما تطعم فلا تعد لهم طعاما دون طعامك، ولا عيشا دون عيشك، وكيف تستمرىء «2» طعاما يطهوه الخادم ويعده، وعينه إليه ناظرة، ويده فيه عاملة فتأكله كله، ولا تبقي له بعضه، أما تخشى سم عينيه؟ فإن كان طبيخك لحما وأرزا، وخضارة وحلوى فأبق له من كل، ولا تحرمه من بعض، وخل عنك الكبر والتعاظم، فلولا هذا ما طعمت الشهي، ولا شربت الهني، وكذلك تلبسهم مما تلبس، وإن لم يكن مثله من كل الوجوه، فإن المدار على المواساة. وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه» «3» - رواه البخاري. فالغرض أن تكون نفوسهم قانعة؛ وبحالهم راضية؛ وقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم أن

_ (1) رواه البخاري في كتاب: العتق، باب: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه (2557) . (2) أي تستطيب وتستحسن. (3) ولي علاجه: أي غني بتحضيره وطبخه.

31 - باب: أكبر الكبائر

نكلفهم من الأعمال ما يشق عليهم، ويهد من قوتهم، أو يستفرغ جهدهم «1» ، بل التكليف بالسهل المستطاع الذي لا يسأمه الخادم، فإن كلفناهم بالشاق وجب علينا أن نعينهم بنفوسنا أو بخدم إلى خدمنا والحديث نصر للعمال، وأخذ بيد الخادم والغلمان؛ ورفع لمستواهم وتنبيه لهم إلى حقوقهم قبل ساداتهم؛ وإرشاد لأرباب البيوت أن يقفوا منهم موقف العدالة. ولا يتناسوا رابطة الأخوة. ولا تبادل المنافع؛ وفيه النهي عن سباب للخدم وعدم التعرض لآبائهم وأمهاتهم بما يسوؤهم. أو يحط من قدرهم. وبعد: فهذه اشتراكية الإسلام وهذا موقفه نحو الأرقاء. وهذا حرصه على مصلحة العمال. فهل بعد هذا رقي في دين؟ 31- باب: أكبر الكبائر عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر- ثلاثا» - قالوا: بلى يا رسول الله قال: «الإشراك بالله. وعقوق الوالدين» ، وجلس، وكان متّكئا فقال: «ألا وقول الزّور» ، قال: فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت. [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «2» ] . اللغة: نبأه وأنبأه: أخبره بمهم. وبلى: حرف تصديق مثل نعم؛ وأكثر ما تستعمل بعد الاستفهام، والعقوق: الإيذاء والعصيان، أصله من العق: وهو الشق والقطع والزور الباطل. وأصله تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل لمن سمعه أنه بخلاف ما هو به. الشرح: الذنوب درجات؛ فما فحش ضرره فكبيرة؛ وما زاد فحشه فأكبر

_ (1) يستفرغ جهدهم: يستنفذ جهدهم وقوتهم. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5976) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (255) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في عقوق الوالدين (1901) . ورواه النسائي في كتاب: التحريم باب: ذكر الكبائر (4021) .

الكبائر، وما قل ضرره فهو الصغيرة، وكل حرّم الله، ومنع مقارفته، والرسول صلى الله عليه وسلم وسلم يعرض على حاضريه تحديثهم بأكبر الكبائر؛ وفي هذا العرض لفتهم إلى ما يحدّث به؛ وصرف آذانهم لسماعه؛ وقلوبهم لوعيه وقد كرر كلمة العرض ثلاث مرات حتى يزدادوا تنبهيا، ويتوجهوا إليه توجها، فقالوا: نعم يا رسول الله حدثنا بأكبرها؛ فحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث. أولها: الشرك بالله: واتخاذ الأنداد والوسطاء، والأولياء والشفعاء، ودعاؤهم في الملمات كما يدعي وعبادتهم كما يعبد. والتقرب إليهم بالقرابين والنذور وضروب التقديس. وتلك أكبر جريمة أن تجعل لمن خلقك ندا. أن تشرك به ما لا يملك ضرا ولا نفعا. ولا حياة ولا موتا. أن تشرك به أمواتا غير أحياء عجزة غير أقوياء. أن تشكر من لا نعمة له عليك ولا يد له واصلة إليك؛ أن تعبد وهما وخيالا. وتدعو أسماء أن تنادي من لا يسمع ولا يبصر. وربك أقرب إليك من حبل الوريد. قد فتح أبوابه للسائلين. ووعد بالإجابة للداعين؛ فادع الله وحده مخلصا له الدين. وصدق بعملك. قولك لربك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، واذكر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» . وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً «3» ، وقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ «4» . وثانيها- عقوق الوالدين: وإيذاؤهما بالقول أو العمل. فسبهما وشتمهما بل قول أف لهما عقوق وقطيعة. وكذلك عصيان أمرهما. والتلكؤ في قضاء شؤونهما. ومد اليد بالسوء إليهما. كل ذلك عقوق. ونكران للجميل. نعم إن دعواك إلى الإشراك، أو عصيان الخلاق فلا تطعمهما. وإن وجب عليك البر بهما. وحسن المصاحبة لهما وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ «5» ، واعلم أن الله تعالى قرن

_ (1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (2) سورة النساء، الآية: 48. (3) سورة النساء، الآية: 48. (4) سورة الحج، الآية: 31. (5) سورة لقمان، الآية: 15.

الإحسان إليهما بالقضاء له بتوحيده في العبادة إذ يقول: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «1» ، وأمرك بالقول الكريم، والصنع الجميل. والدعاء لهما بالرحمة. فلا تضع الإساءة موضع الإحسان. ولا الكفران مكان الشكران؛ واعلم أن الله لا ينظر يوم القيامة إلى ثلاثة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر؛ والمنان- روى ذلك النسائي والحاكم وصححه ابن حبان «2» . وقد قرر العلماء وجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبت وفروض الكفاية كذلك؛ ولقد استأذن امرؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فأبى الإذن له إلا بعد استرضاء والديه؛ فإياك أن تهمل في حق من ربياك صغيرا. وثالثهما- قول الزور والباطل: وقد أكبر الرسول صلى الله عليه وسلم خطره؛ وأعظم جرمه؛ إذ جلس له بعد اتكائه؛ اهتماما بشأنه، وصدّر قوله بأداة التنبيه؛ وكرّر كلمته حتى شق على نفسه؛ وبدأ الغضب في وجهه؛ وتمنى أصحابه لو سكت؛ شفقة عليه ورحمة به؛ كما كان بهم رؤوفا رحيما، وقول الزور قرنه القرآن بالشرك في قوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «3» ، وجاء في ضمن أوصاف عباده المخبتين «4» ، قوله: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «5» . وقول الزور يشمل شهادة الباطل؛ والحكم الجائر؛ ورمي الأبرياء بما هم منه براء؛ والقول على الله بغير علم؛ فكل ذلك داخل في قول الزور؛ هذا وإن شاهد الزور يسيء إلى نفسه؛ إذ يبيع آخرته بدنيا غيره. ويسيء إلى من شهد له بإعانته على ظلمه؛ وإلى من شهد عليه بإضاعة حقه؛ وإلى القاضي بإضلاله عن المحجّة «6» ، وإلى الأمة بزلزلة الحقوق فيها؛ وعدم الإطمئنان عليها. ومن الخزي الفاضح أن يكثر بيننا من يشهدون زور لمجرد صداقة أو رجاء. أو نظير مبلغ يسير يتقاضونه. أولئك الذين

_ (1) سورة الإسراء، الآية: 23. (2) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب: المنان بما أعطى (2561) . ورواه الحاكم (4/ 146) . (3) سورة الحج، الآية: 30. (4) المخبتين: الطائعين الخاشعين. (5) سورة الفرقان، الآية: 72. (6) المحجّة: الطريق المستقيم.

32 - باب: اليمين الفاجرة

خربت ذممهم. وخبثت نفوسهم. ولم يخالط الإيمان قلوبهم. أولئك قرناء المشركين وإخوان الشياطين. 32- باب: اليمين الفاجرة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر» ، وفي رواية «يمن كاذبة ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» ، وفي رواية «فليتبوّأ مقعده من النّار» ، فأنزل الله تصديق ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «1» إلى آخر الآية فدخل الأشعث بن قيس، فقال: ما حدّثكم أبو عبد الرّحمن، فقالوا: كذا: قال فيّ أنزلت: كان لي بئر في أرض ابن عم لي: فجحدني فقدّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بيّنتك أو يمينه» ؛ وفي رواية: فقال لي: «شهودك قلت: ما لي شهود» ، قال: «فيمينه» ؛ فقلت إذن يحلف ويذهب بمالي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر ... إلخ» [رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن «2» وغيرهما بعبارات متقاربة] . اللغة: يمين الصبر: هي التي ألزم بها صاحبها. وحبس عليها وكانت لازمة له من جهة الحكم. والفجور: شق ستر الديانة مأخوذ من الفجر، وهو شق الشيء شقا

_ (1) سورة آل عمران، الآية: 77. (2) رواه البخاري في كتاب: التفسير، باب: «إن الذين يشترون بعهد الله ... » . (4549) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (353) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن حلف يمينا ليقتطع بها مالا لأحد (3243) . ورواه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في اليمين الفاجرة يقتطع بها مال المسلم (1269) . ورواه ابن ماجة في كتاب: الأحكام، باب: من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا (2323) . ورواه النسائي في كتاب: آداب القضاة، باب: القضاء في قليل المال وكثيره (5434) بنحوه.

الشرح:

واسعا. والإقتطاع: من القطع وهو الفصل. وذلك أن الحالف كذبا يقطع المال عن صاحبه أو يأخذ قطعة من ماله. وتبوأ المكان: سكنه ونزل به مأخوذ من البواء، وهو استواء المكان وعدم الإنخفاض فيه والإرتفاع، يقال بوأت لفلان مكانا سويته له فتبوأه أي أقام فيه. والآية تقدم شرحها في الحديث (16) . والجحود: الإنكار. والبينة: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسية. وتقال للشاهدين لأنهما يبينان الحق. الشرح: عبد الله بن مسعود كان يحدث جماعة بحديث اليمين الكاذبة. ويذكر الآية التي أنزلها الله من آل عمران تصديقا للرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه. فدخل عليهم الأشعث بن قيس، وسألهم عما يحدثهم به أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود فقالوا: كذا وكذا يعنون حديث اليمين والآية المصدقة له. فقال: هذه الآية نزلت فيّ. وذلك أنه كان لي بئر ضمن أرض لابن عم لي فجحدني ملكي. ومنعني حقي. فاختصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعت أمره إليه. فقال: بينتك أو يمينه. أي لك بينتك تقيمها على صدق دعواك. أو يمين خصمك إن لم تكن لك بينه. فإن حلف لم يكن لك عليه طلب وإن نكل كان لك ما ادعيت. فقال: إنه إذا وجهت إليه اليمين حلفها زورا. ويذهب بمالي. ويضيع عليّ بئري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر» ... إلخ أي أنه إن كذب عليك في اليمين. واقتطع مالك فإن الله يتولى عقابه في الآخرة. ولسوف يعوضك الله من حقك المال الكثير. أو الثواب الجزيل. ذلك ملخص القصة. ومعنى الحديث أن من حلف على شيء حلفا كاذبا أجأته إليه الخصومة. وحمله عليه الجحود والمكابرة في الحق. وهو بها محدث في دينه حدثا. وفاتق فيه فتقا وخارج عن الحق خروجا- من حلف هذه اليمين ليسلب به مال إنسان أو حقه. ويحول بينه وبينه لقي الله في القيامة وهو عليه غضبان. فينتقم منه على كذبه واستيلائه على مال غيره، بهذه الطريقة الخاطئة، واليمين الفاجرة. ويدخله ناره ليتخذ له فيها منزلا، يصلى سعيه، ويقاسي جحيمه، فإن كان الذي اقتطع ماله أخا مسلما كان الجرم أكبر، والعقاب أعظم فإن واجب المسلم نحو المسلم مساعدته على استرداد حقوقه، واسترجاع ماله؛ أما أن يقتطع قطعة من ماله ظلما وعدوانا ويكذب في سبيلها

الأحكام المستنبطة من حديث اليمين الفاجرة

ويمتهن «1» اسم الله لسلبها فذلك ما ينافي الإيمان؛ وبهذا التحليل عرفت أن ذكر المسلم لا يراد به التخصيص؛ وقصر الحكم عليه؛ وإباحة أموال غيره ممن لا يدين بدينه؛ بل ذكره لتفظيع الجريمة، وأن أخوّة الإسلام تستدعي الصدق؛ والتزام الحق؛ وكذلك كلمة «يمين» في قوله: من حلف على يمين صبر يراد بها المحلوف عليه وسمي يمينا لتعلقه بها، أو تقول «على» زائدة والمعنى من حلف يمين صبر.... الكذب في نفسه جريمة لأنه قلب للحقائق، وتعمية على الناس؛ وإضلال لهم عن الحقيقة؛ وداعية فقد الثقة في المعاملة والمحادثة، فإن انضم إليه تأكيده بالأيمان الكاذبة الفاجرة؛ التي فيها امتهان أسماء الله المقدّسة، وصفاته العالية كانت الجريمة أكبر، فإذا أضيف إلى ذلك قطع الحقوق عن أربابها. والحيلولة بينهم وبينها كان فحش الجريمة نهاية. فإن كان إلى ذلك وقوعها على أخيك في الدّين وتربك «2» في العقيدة كان الفحش نهاية النهاية؛ وأقصى الغاية؛ فلا تعجب أن يكون العقاب غضب الجبار؛ وأن يكون المتبوأ النار؛ فإياك واليمين الفاجرة؛ وإياك ومال أخيك؛ واحترم للقضاء مكانته، ولبارئك أسماءه وصفاته؛ ولا تبتغ بها عرضا من الدنيا؛ غناؤه قليل؛ وعقباه جحيم؛ واقرأ الآية المرة تلو المرة؛ وعد بأولها على آخرها وباخرها على أولها لترى عظم الجريمة؛ وشدة العقوبة. [الأحكام المستنبطة من حديث اليمين الفاجرة] وقد استنبط الفقهاء من هذا الحديث أحكاما كثيرة نذكر لك منها ما صلته بالحديث ظاهرة: 1- الأحكام تبنى على الظاهر وإن كان المحكوم له مبطلا في نفس الأمر. 2- حكم الحاكم لا يبيح للمرء ما ليس بحلال له؛ وقد خالف في ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف في مسائل الفروج دون الأموال. 3- البينة على المدعي واليمين على من أنكر. 4- صاحب اليد أولى بالمدعى فيه. 5- يمين المدعى عليه تصرف عنه دعوى المدعي فقط، ولا تستوجب الحكم له بالمدعي فيه، فلا يحكم له القاضي بملكيته أو حيازته، بل يقره على حكم يمينه.

_ (1) يمتهن: يحتقر. (2) الترب: من ولدك معك، والمماثل لك في السن.

33 - باب: الوصية بالمال

6- يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، ولا يؤثر في اعتبارها فجور. 7- من أقام البينة قضي له بحقه من غير طلب يمين منه على صدق بينته. 8- شرح طريقة القضاء، فالقاضي يسمع الدعوى أولا من الطالب؛ ثم يسأل عنها المطلوب: هل يقرّ أو ينكر، فإن أنكر طلب من المدعي البينة، فإن لم يقمها وجّه اليمين إلى المدعى عليه. 9- يعظ الحاكم المطلوب أذاهمّ بالحلف لعله يرجع إلى الحق إن كان مبطلا، ويدع اليمين الغموس. 33- باب: الوصية بالمال عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التّي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابن عفراء» . قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كلّه؟ قال: «لا» . قلت: فالشّطر؟: قال: «لا، قلت: الثّلث؟ قال: «فالثلث، والثلث كثير، إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون النّاس في أيديهم، وإنّك مهما أنفقت من نفقة فإنّها صدقة حتّى اللّقمة ترفعها إليّ في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس، ويضرّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلّا ابنة» . [رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن «1» وغيرهم] .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من ... (2742) . ورواه مسلم في كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث (4187) . ورواه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما يجوز للموصي في ماله (2864) بنحوه. ورواه النسائي في كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث (3630) . ورواه الترمذي في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية بالثلث (2116) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث (2708) مختصرا.

اللغة:

اللغة: الشطر: النصف. والعالة: جمع عائل وهو الفقير يقال: عال الرجل يعيل عيلة وعيولا إذا افتقر. وتكفف: واستكف بسط كفه للسؤال. أو سأل ما يكف عنه الجوع. أو سأل كفافا من طعام. الشرح: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع ذهب إلى سعد بن أبي وقاص يعوده من مرض اشتد به. حتى أشفى على الموت «1» . وكان سعد يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها. ففي الحديث إلتفات من التكلم إلى الغيبة كما يدل لذلك رواية مسلم عن سعد قال: يا رسول الله خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة- لأنها كانت حصن المشركين الذين آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ويودّ أن يموت بدار الهجرة التي أعزّ الله فيها الإسلام. وسكنها المهاجرون المخلصون. الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما استطاعوا حتى ظهر دين الله. وصارت كلمته هي العليا. وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فمن أجل ذلك رغب سعد عن مكة إلى طيبة. عن الأرض الملوثة بالشرك وأرجاس «2» الأعداء. إلى الأرض المطهرة بالتوحيد وأعمال البررة الأتقياء. ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم اسم سعد بن خولة من سعد بن أبي وقاص ترحّم عليه. وكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما. فكان يواسيهم ويعطف عليهم في حياتهم. ويدعو لهم بعد وفاتهم. وابن خولة هذا من المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا. وقد توفي بمكة في حجة الوداع. فخشي سعد أن يكون نصيبه نصيب أخيه- فكلمة عفراء في الحديث وهم من الراوي صوابها خولة كما جاء ذلك في رواية الزهري «3» - ولقد قال سعد للرسول صلى الله عليه وسلم لما عاده: إنه قد بلغ بي الوجع ما ترى. وأنا ذو مال. أفأوصي بمالي كله؟ قال: «لا» ، قال: أفأوصي بالثلثين- جاء ذلك في رواية. قال: «لا» : قال: أفأوصي بالنصف؟ قال: «لا» : قال: أفأوصي بالثلث؟ قال: «فالثلث توصي به.

_ (1) أشفى على الموت: أشرف وقارب عليه. (2) أرجاس: الرّجس: الكفر والحرام والفعل القبيح. (3) رواه مسلم في كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث (4185) .

والثلث كثير» . إن الأولى النقصان عنه. ولا يزاد عليه، ذلك ما يتبادر إلى الفهم من هذه العبارة. ويجوز أن يكون معناها: الثلث كثير في الأجر فهو الأكمل. ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحكمة في ترك الوصية بالكثير إلى الوصية بالقليل وهي أن ترك الورثة أغنياء. بما يرثونه عن الآباء. خير من تركهم فقراء يمدّون أكفهم إلى الناس استجداء «1» . ليضعوا في أيديهم من صدقاتهم ما يدفعون به الجوع. ويزيلون به مضض الحاجة «2» . ثم بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن كل نفقة ينفقها على زوجه أو ولده. أو أقاربه أو خدمة صدقة وله ثوابها. ما دام يبتغي بها وجه الله ويقصد وقاية هذه النفوس من ذلة المسألة. وكرب الحاجة أو يقصد كف أيديهم عن الحرام. وتوفيرها على العمل في سبيل الله. فكل ما أنفق صدقة. ولو كان قليلا. حتى اللقمة يرفعها إلى فم امرأته- إذا كانت مريضة مثلا. أو كان يداعبها بذلك. أو الغرض من رفعها إعدادها للأكل- وأما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لسعد ليبين له أن إنفاق المال على الأهل والأقرباء طريق إلى تكثير الأجر، فإن استقل أجر الوصية بالثلث أو بما دونه فليستكثره بالإنفاق. والأقربون أولى بالمعروف. فإن امتدت به الحياة فليسلك هذا الطريق ثم رجا له الرسول ربه أن يرفعه من مرضه. ويطيل عمره. ويعلي من شأنه. حتى ينتفع به أناس. ويضرّ به آخرون، وقد حقق الله رجاءه لسعد. فبرىء «3» من مرضه وأطال في عمره. حتى عزّ به الإسلام. وذلّ به خصومه كما ترى بعد، ولم يكن لسعد ساعة مرضه إلا ابنة واحدة وقد وهب الله له من الذرية بعد برئه بضعه عشر ابنا، أربعة ذكور واثنتا عشر بنتا. والحديث يدل على جواز الوصية بالثلث، وعلى أن الأولى أن ينقص عنه واستدل به على منع الوصية بأزيد من الثلث. قال في الفتح: وقد استقر الإجماع على ذلك لكن اختلف فيمن ليس له وارث

_ (1) استجداء، سجد: خضع وتطامن. (2) مضض: المضض: التألم. مضض الحاجة: شدة آلامها. (3) برىء: شفي وتخلص مما به.

خاص. فذهب الجمهور إلي منعه من الزيادة على الثلث. وجوزه الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية في القرآن مطلقة. فقيدتها السنة بمن له وارث. فبقي من لا وارث له على الإطلاق، وفي الحديث زيارة الإمام للمرضى، فلا يستنكف «1» الملوك والوزراء والعظماء من زيارتهم، وإن كانوا من الطبقة الدنيا، وفيه الفسح للمريض في طول الحياة، وجواز تحدثه بشدة مرضه. وزيادة ألمه. إذا لم يقترن ذلك بالاعتراض على القدر وأن ذلك لا ينافي الصبر على البلاء. خصوصا إذا كان في ذلك رجاء دعاء أو طلب دواء، وفيه الحث على صلة الرحم. والإحسان إلى الأقارب؛ وأن ذلك أولى من صلة الأباعد والإنفاق في وجوه البر الآخرى؛ وفيه التزام العدالة في الوصية. ومنع حرمان الورثة، ولو كانوا بنات كما جرت به عادة الجهلاء. يكتبون أموالهم لبنيهم، ويحرمون بناتهم خشية أن تنتقل الثروة لغير الأسرة. وما درى هؤلاء أن المال يرفع من شأن الزوجة لدى زوجها ويعظم مكانتها. ويرغّب الخاطبين في الفتيات. وأن البنات قد ينكبن «2» في أزواجهن الذين يعولونهن. وقد يدّعون لهن ذرية ضعافا. فالمال عدة لهن إذا ترملن. بل عدة لهن إذا قل مال الأزواج أو زال، فالعدالة في العمل على تنفيذ ما أوصانا الله به في أولادنا، بل في سائر ورثتنا، وإنك لا تحسن التوزيع في حال الحياة. فدعه لله بعد الوفاة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. تتمة: سعد بن أبي وقاص هذا الذي رجا له رسول الله صلى الله عليه وسلم العلو، هو صحابي جليل هاجر إلي المدينة قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد بدرا والمشاهد كلها وبشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. وأول من رمى في سبيل الله؛ وأحد ستة الشورى الذين عيّنهم عمر للخلافة. وفارس الإسلام. وقائد جيوشه في فتح العراق ومدائن كسرى. وهو الذي خطط أرض الكوفة لقبائل العرب ومكث واليا عليها مدة عمر؛ وأقرّه عثمان زمنا ثم عزله؛ فعاد إلى المدينة. وفقد بصره؛ وعاش قليلا ثم مات في قصره بالعقيق على مقربة من المدينة سنة 55.

_ (1) يستنكف: استنكف: امتنع مستكبرا. (2) ينكبن: نكب عنه: مال عنه واعتزله.

34 - باب: الجرائم الموبقة والسبع المهلكة

34- باب: الجرائم الموبقة والسبع المهلكة عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات» ، قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر وقتل النّفس التي حرّم الله إلّا بالحق، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّوليّ: يوم الزّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي «1» ] . اللغة: الاجتناب: الابتعاد وأصله جعل الشيء على جنب. والموبق: المهلك، والسحر: يطلق عند العرب على كل ما لطف مأخذه ودق وخفي؛ يقال سحرت فلانا وسحرته إذا خدعته واستملته. وكل من استمال شيئا فقد سحره: ومنه سحر العيون وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» «2» ، وأصل المادة السحر- بالفتح والتحريك- بمعنى طرف الحلقوم أو الرئة لأنهما باطنان خفيان فأخذ من اسمهما السحر لدقة مسلكه. وخفاء سببه على أكثر الناس. ويطلق على ضرب من التخييل لا حقيقة له تخدع به العيون حتى ترى ما ليس واقعا واقعا. كالذي يفعله المشعوذ «3» يصرف به الأبصار عمّا يعمله بخفة يده وسرعة حركته وإلى ذلك الإشارة بقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «4» ، وقد يستعان على ذلك باستخدام خواص الأشياء وطبائعها التي لا يعرفها العامة، كخاصية جذب المغناطيس للحديد، فهذا

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الوصايا، باب: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ... (2766) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (258) . ورواه النسائي في كتاب: الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم (3673) . ورواه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (2874) . (2) رواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في إن من البيان سحرا (2028) . ورواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: إن من البيان سحرا (5767) . (3) المشعوذ: من الشعبذة: وهي مهر في الاحتيال، وأرى الشيء على غير حقيقته، معتمدا على خداع الحواس. (4) سورة طه، الآية: 66.

الضرب إما حيلة وشعوذة؛ وإما صناعة عليمة خفية. يجهلها أكثر الناس. فيسمونها سحرا كالذي حكاه المؤرخون عن سحرة فرعون أنهم استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصورة الحيات والثعابين. حتى خيّل إلى الناس أنها تسعى. وقال بعض العلماء: إنه يطلق على ضرب ثالث يحصل بمعونة الشياطين. والتقرب إليهم بالمعاصي؛ يؤثر في القلوب بنحو الحب والبغض. وفي الأجسام بنحو الألم والسقم؛ وهذا الضرب يحتاج إلى برهان عملي. قال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها باكتساب غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء، والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته. وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإبهامات «1» بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ «2» مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا. ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر. وفي الأبدان بالألم والسقم. وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك. والمراد به في الآية الضربان الأخيران أما الأول: فإنه السحر الحلال. والربا في اللغة: الزيادة مطلقا يقال: ربا يربو ربوا إذا زاد ونما. وفي اصطلاح الفقهاء: الزيادة على رأس المال من وجه خاص. والربا المعروف في الجاهلية أن يقول الدائن لمدينه إذا حل الأجل: إما أن تعطي وإما أن تربي. واليتيم من الإنسان: الذي فقد أباه. ومن الحيوان: ما فقد أمه. والتولي: الفرار والهرب وأصله إعطاؤك الغير وليك أي ظهرك. والزحف: المشي. وزحف الجيش مشيه إلى عدوه في ثقل لكثرته. وأصل الزحف: الدب على المقعدة أو الركبتين قليلا قليلا. والقذف: الرمي. والمراد به هنا الرمي بالزنى. والمحصنات: العفيفات اللاتي أحصنّ نفوسهن من الخنا «3» مأخوذ من الحصن وهو المكان المنيع،

_ (1) إبهامات: أبهم الأمر: أخفاه وأشكله. (2) سورة الأعراف، الآية: 116. (3) الخنا: الفحش في الكلام، وخنا الدهر: آفاته ونوائبه.

والشرح:

إذ نفوسهن في حصن من العفاف، وتقال للحرائر «1» ، وللمتزوجات لأن الحرية والزواج من دواعي العفة، والابتعاد عن الفاحشة. والغافلات: اللاتي لم تخطر الفاحشة على بالهن لطهارة قلوبهن. فهن ساهيات عن المنكر. والشرح: الحسنات درجات. والسيئات درجات فما كان من الحسنات نفعه كبيرا كان ثوابه عند الله عظيما. وما كان نفعه دون ذلك كان ثوابه أدنى وما كان من السيئات ضرره بليغا فهو الكبيرة الموبقة «2» والفاحشة المهلكة. وما كان ضرره دون ذلك فهو الصغيرة التي يكفرها مجانبة الكبيرة. وفي هذا الحديث أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باجتناب السبع الموبقات وليس الغرض حصر الموبقات في هذه السبع. بل الغرض التنبيه بها إلى أمثالها. أو ما زاد فحشه عن فحشها. كالزنى والسرقة والغلول- الخيانة في الغنيمة- والعقوق. واليمين الغموس. والإلحاد في الحرم «3» ، وشرب الخمر، وشهادة الزور والنميمة، ونكث البيعة «4» ، وفراق الجماعة، وترك التنزه من البول، والأمن من مكر الله، والقنوط «5» من رحمته، والاضرار في الوصية والجمع بين الصلاتين من غير عذر. فكل هذه من الجرائم المهلكة. والموبقات المردية. التي جاء فيها الوعيد الشديد بالعذاب الأليم. وهاك بيان السبع. فأولاها الشرك: وهو أكبر الذنوب. وفيه يقول الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «6» ، وقد فصلت ذلك في الحديث (31) . ثانيتها السحر: وهو حوب «7» كبير، ووزر عظيم، لأن فيه تلبيسا وتعمية وسترا للحقائق، ووضع غشاء على الأبصار، وإضلالا للعامة وزلزالا لعقيدتهم في ترتب المسببات على أسبابها. والنتائج على مقدماتها، فإن كان من سبله الإتصال

_ (1) الحرائر: ج حرة: الخالصة من الرق. (2) الموبقة: المهلكة. (3) الإلحاد في الحرم: ألحد في الحرم: استحل حرمته وانتهكها. (4) نكث البيعة: نقضها ونبذها. (5) القنوط: قنط: يئس. (6) سورة النساء، الآية: 116. (7) الحوب: الإثم.

وثالثتها قتل النفس المحرمة:

بالشياطين، والتقرب إليهم بالعصيان كانت تلك أضرار أخرى. وإن كان منه ما يؤثر في القلوب بالحب والبغض وفي الأجسام بالصحة والسقم كان أشد فحشا وأعظم وقد اتفق العلماء على حرمة تعلم السحر وتعليمه وتعاطيه. وقالوا: إن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كان كفرا. وقال مالك وأحمد وجماعة من الصحابة والتابعين: تعاطي السحر كفر يوجب القتل، وكأن حرمة التعلم والتعليم لأن ذلك وسيلة إلى العمل به. فإن كان ذلك لمجرد الإحاطة به، والوقوف عليه وأمن العمل به، ولم يكن في سبيله إقتراف جريمة لم يتجه التحريم كمن يتعرف الأديان الباطلة وطرق العبادة فيها لا يأثم بذلك، ولا يخرج من حظيرة الملّة، بل له ثواب إن أراد النهي عنه. والتحذير منه. وثالثتها قتل النفس المحرمة: وإزهاق «1» الروح الآمنة البريئة، وإراقة الدماء الطاهرة الزكية. فتلك جريمة ترفع الأمن، وتنشر الخوف، وتفتك بالأمة وتضعفها. وتقطع روابط الإخاء بينها تلك الجريمة المرملة للنساء، الميتّمة للأطفال، الزرّاعة للإحن والعداوات. تلك التي يقول الله فيها: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «2» ، تلك التي يقول الله في عذابها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً «3» تلك الجريمة التي لا تخطر على قلب مؤمن، أو لا تطاوعه نفسه عليها وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً «4» ، وقتل النفس يشمل قتل العدوان. وقتل الأولاد خشية الإملاق «5» ، ووأد «6» البنات مخافة العار. فالنفس الإنسانية محترمة إلا إن كانت نفسا شريرة، مجرمة مفسدة. فإن دواءها إراحة المجتمع منها، فالقاتل يقتل وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «7» ، والزاني الذي تحت يده امرأة تعفه إذا انتهك عرض امرأة، واقترف الفاحشة يرجم. والتارك لدينه المفارق للجماعة،

_ (1) إزهاق الروح، إماتتها. (2) سورة المائدة، الآية: 32. (3) سورة النساء، الآية: 93. (4) سورة النساء، الآية: 92. (5) الإملاق: أملق فلان: افتقر. (6) ووأد البنات: وأد الرجل ابنته: دفنها حية. (7) سورة البقرة، الآية: 179.

ورابعة الموبقات أكل الربا:

المحارب لله ورسوله يقتل. وبعبارة أخرى. لا نريد نقض المجتمع، والإعتداء على حياته. ولكن ننقض من نقض بناءه، وأراق دماءه. ورابعة الموبقات أكل الربا: وهو ظلم للإنسان، وأكل لماله بالباطل. ومحاربة لله ورسوله. وموجب للخلود في النار كما حكى القرآن. وكيف لا يكون كذلك وأنت تنتهز فرصة الإعسار. وشدة الفقر. وخلو اليد. الذي يوجب عليك الصدقة. فتخرج الجنيه بعشرة قروش أو عشرين؛ ثم تفعل ذلك كلما حل الأجل حتى يكون الربا أضعافا مضاعفة. فتثقل ظهر أخيك وتذهب بما قد يكون في يده من مال يتكىء عليه في الحياة، أو من بيت يؤويه، ويؤوي زوجه وبنيه؟ وإن الربا لممحقة للمال «1» . ومذهبة للبركة. ونازع للرحمة. وموجب للعداء. وناشر للبلشفية «2» التي تهدد أرباب الثراء يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ «3» . ولقد كان من آثاره الوخيمة أن أصبحت ضياعنا الواسعة، وعماراتنا الشاهقة ملكا للأجانب. أو نستغلها لحسابهم. ليس لنا منها إلا الشقاء والنصب «4» ؛ ولهم منها الثمرة والربح أصبحت الأمم مستعمرة لنا اقتصاديا وإن ذلك من أخطر الأنواع في الاستعمار. من أجل هذا كله عده الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات ولعن آكله وموكله؛ وكاتبه وشاهده. وخامستها أكل مال اليتيم: وكان واجبا على الناس أن يكفلوه، وينمّوا ماله ويرعوه؛ ويساعدوه حتى يبلغ أشده. ويدرك رشده. ولكن هناك نفوس خبيثة، نهمة «5» شرهة «6» . تنتهز فرصة الصغر والضعف، فتأكل أموال اليتامي إسرافا وبدارا أن يكبروا؛ وفيهم يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي

_ (1) ممحقة للمال: مذهبة له ولبركته. (2) البلشفيّة: مذهب شيوعي يرى أن من المستحيل على الهيئة الاجتماعية أن تنتقل طفرة من النظام الرأسما لي إلى النظام الشيوعي وأنه لا بد من دور انتقالي يطبق فيه مذهب الجماعية. (3) سورة البقرة، الآية: 276. (4) النّصب: الشر والبلاء. (5) نهمه: نهم في الشيء: أفرط الشهوة أو الرغبة فيه. (6) شرهة: شده عليه: اشتد حرصه عليه.

وسادستها التولي يوم الزحف:

بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «1» ، وهل ترضى أخي أن تكون لك ذرية ضعاف تتركهم صغارا، فيأتي ظالم يقص أجنحتهم، ويجتاح ثروتهم؟ إذا كنت تمقت ذلك أشد المقت فلماذا لا تمقته من نفسك، لأولاد غيرك؟ «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «2» ، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «3» . وسادستها التولي يوم الزحف: والفرار من لقاء العدو، والهرب من وجه الجيش المهاجم. والعدو المناجز «4» . فإن ذلك الجبن، وإن ذلك إضعاف الشوكة، والفت «5» في عضد المجاهدين، وإن ذلك ضياع البلاد، وإضعاف الدّين أو القضاء عليه؛ في ذلك تمكين الأعداء من دمائنا ونسائنا، وأولادنا وأموالنا، في ذلك الاستعباد والاستذلال، والقضاء على الحريات؛ فبع نفسك لربك واشتر بمالك ونفسك جنة عرضها السموات والأرض؛ وما الشجاع إلا من يميت نفسه في سبيل حياة دينه، وإرضاء ربه، وإن الموت لا محالة مدركك، فليكن في سبيل العزة والكرامة، ليكن في سبيل الحياة لقومك؛ وفي التولي يوم الزحف يقول الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «6» . وخاتمة السبع قذف المحصنات: الغافلات المؤمنات، وكيف لا يكون جريمة

_ (1) سورة النساء، الآية: 10. (2) رواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ... (168) . ورواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13) . ورواه الترمذي في كتاب: صفة القيامة، باب: 59، (2515) . ورواه ابن ماجه في المقدمة، باب: في الإيمان (66) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان (5031) . (3) سورة النساء، الآية: 9. (4) المناجز: ناجزه الشيء: عاجله وأسرع به يقال: ناجزه الحرب: نازله وقاتله. (5) الفتّ: فت في عضده: أوهن قوته. (6) سورة الأنفال، الآيتان: 15، 16.

35 - باب: أداء الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد

منكرة؛ وإفكا إدا «1» أن تعمد إلى امرأة متمتعة بالحصانة، بعيدة عن الريبة، لا تخطر بقلبها الفاحشة، ولا تتحدث بها نفسها الطيبة، تعمد إلى هذه الحرة العفيفة، التي مليء قلبها بالإيمان، فلم يكن فيه موضع لنية خبيثة؛ ورطب لسانها بذكر الرحمن؛ فلم ينطق بالزور؛ ولم يتحرك بالخنا، وصرفت كل جوارحها في العمل الصالح وكل وقتها في تدبير بيتها؛ وتربية ولدها وتطهير نفسها؟ من يرم هذه بالفاحشة ويقذف الطهارة بالقذارة؛ والعفة بالعهارة «2» ؛ والطيب بالخبث فجزاؤه ما قال الله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3» . إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4» ، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «5» ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «6» . فيا أيها المسلم لا تدنّس نفسك بهذه الموبقات؛ فتوجب لها مقت الله ومقت الناس وتعرّضها لشديد العذاب في الدنيا والآخرة بل اجعلها الطاهرة النقية الطيبة المهذّبة؛ التي لا ترضى بالخير بديلا. 35- باب: أداء الصلاة لوقتها وبرّ الوالدين والجهاد عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ وفي رواية: أيّ العمل افضل؟ قال: «الصّلاة على وقتها» . قال: ثمّ أيّ؟ قال: «برّ الوالدين» . قال: ثمّ أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» . قال: حدّثني بهنّ

_ (1) الإد: الأمر الفظيع. (2) العهارة: عهر المرأة: زنى بها. (3) سورة النور، الآية: 4. (4) سورة النور، الآية: 19. (5) سورة النور، الآية: 23. (6) سورة النور، الآية: 24.

الشرح:

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني. [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «1» ] . الشرح: سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله؛ وأفضلها عنده؛ ليكون حرصه عليه أشد؛ وعنايته به أكبر؛ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الأحب؛ والأفضل والأرفع درجة والأجزل ثوابا الصلاة على وقتها؛ وفي رواية: «الصلاة لوقتها» «2» . وقد قال الشراح: إن على هنا بمعنى اللام؛ واللام هنا تحتمل الاستقبال؛ مثلها في قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «3» أي مستقبلات عدتهن؛ وتحتمل الإبتداء مثلها في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «4» أي ابتداء زوالها؛ وتحتمل الظرفية أي في وقتها؛ ويشهد للإبتداء رواية مرجوحة «5» فيها: الصلاة في أول وقتها وقد سبق الكلام على الصلاة وآثارها في الحديث الثاني. وهنا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة في أوقاتها المحددة أفضل الأعمال إذ في ذلك العمل بقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «6» وتعوّد النظام واحترام المواعيد، وذكر الله، والقيام بين يديه ومناجاته خمس مرات في اليوم والليلة؛ وتلبية داعي الحق كلما دعا: حيّ على الفلاح والدأب «7» على رياضة النفس وتهذيبها، والمبادرة إلي الخيرات، وملك النفس والشهوات. وعدم التمكين للشيطان في الفتنة، فإنه يتصيد النفوس الغافلة عن ذكر الله، المنهمكة في شؤون الحياة؛ وأداء

_ (1) رواه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها (527) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (250) . ورواه النسائي في كتاب: المواقيت، باب: فضل الصلاة لمواقيتها (609) . ورواه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل (173) . (2) رواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (248) . (3) سورة الطلاق، الآية: 1. (4) سورة الإسراء، الآية: 78. (5) «روى ذلك علي بن حفص وهو شيخ صدوق من رجال مسلم فقال: «الصلاة في أول وقتها» أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي من طريقه، قال الدارقطني: ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه قلت: ورواه الحسن بن علي المعمري في «اليوم والليلة» عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك» . (خ) . (6) سورة النساء، الآية: 103. (7) الدأب: العادة والشأن.

الصلاة في غير وقتها يعرضك للإثم والعذاب، بل يعرضك لعدم قبول الصلاة منك، فإن كثيرا من المحققين على أن الصلاة لا تؤدي في غير وقتها، فإن فاتتك بؤت «1» بإثمها، ولم يكن لك مخلص من عقابها، على أنه إذا كان القضاء جائزا مع الحرمة فإن الصلاة تكون ثقيلة على النفس. إذ تضم إلى أخواتها التاليات، فيثقل الحمل، فتنوء «2» به النفس، أو تؤديه على مضض؛ أو بسرعة تفوت الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها. نعم لو نسي الإنسان صلاة. أو نام عنها. أو كان هناك عذر شرعي يبيح تأخيرها لم يكن عليك إثم في التأخير. وكان وقتها وقت الذكر. أو التيقظ. أو زوال العذر. وإذا قلنا: إن اللام للابتداء كان أفضل الأعمال أداء الصلاة في أول وقتها. إذ ذلك مبادرة إلى الخيرات. ولحاق لأول الجماعات. وتبرئة للذمة من دين الصلوات وأنك أول الملبين. المسرعين إلى مرضاة الله. والحظوة بمناجاته. فأداء الصلاة كل يوم في أوقاتها أو في أول الأوقات أفضل عند الله من سائر الأعمال الآخرى. ثم سأله عبد الله عما يلي ذلك في المرتبة فقال له: بر الوالدين. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك الترتيب من قوله تعالى في وصية الإنسان بوالديه أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «3» فشكر الله بالصلاة وشكر الوالدين ببرهما. وبرهما بطاعة أمرهما. وتفقد مصالحهما والإنفاق عليهما وحسن معاملتهما، وخفض الجناح لهما. وأن تقول: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «4» وهل التربية. والعطف والرحمة. والحب الطبعي. والكد «5» لراحتك. والسهر لنومك. والشقاء لسعادتك، تقابل منك إلا بالبر إلا أن تكون جحودا كفورا؟ ولا إخالك. وحسبك بيانا لمنزلة الوالدين وإشادة «6» بحقهما أن الله قرن الإحسان إليهما بالأمر بتوحيده في كثير من الآيات. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن لراغب في الجهاد إلا بعد استئذانه من أبويه. وأنه جعل السعي

_ (1) بؤت: باء بالشيء: رجع. (2) فتنوء: تتعب من شدة ثقله. (3) سورة لقمان، الآية: 14. (4) سورة الإسراء، الآية: 24. (5) الكدّ: الشدة في العمل. والتعب. (6) إشادة: مبالغة بحقهما.

عليهما جهادا في سبيل الله «1» . ثم سأله عبد الله عما يلي بر الوالدين. فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الجهاد في سبيل الله. وسبيله دينه الذي شرعه. والحق الذي رسمه. وما الجهاد إلا بذل المستطاع من مال ونفس. ومركز وجاه. وقوى وتفكير. وقلم ولسان، في سبيل إعلاء كلمته. وحفظ دينه. ونشره بين الناس وتعليمه وحفظ البلاد التي يقطنها «2» الإسلام. وحفظ أهله ممن أرادهم بسوء من الأمم الغاشمة «3» . والدول المستعمرة. التي لا ترعى فينا إلا «4» ولا ذمة. فلنستخدم كل وسيلة في سبيل إقامة الدّين. ورفع لواء القرآن والتمكين للحق في الأرض. وفي نفوس الناس عامة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «5» . قال عبد الله: ولو طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم الزيادة على ذلك مما هو بيان لدرجات الأعمال. أو مما يحتاج إليه المرء في دينه لزاد. لأنه إمام الإرشاد. فكيف لا يجيب السائل. ولو تابع السؤال وكان عبد الله وقف عند هذا الحد شفقة على الرسول صلى الله عليه وسلم وحرصا على راحته، ويؤيد ذلك ما جاء في رواية لمسلم «6» عن عبد الله. فما تركت أن أستزيده إلا إرعاء عليه. أي شفقة عليه لئلا يسأم «7» . وفي هذا إرشاد للطلبة والمتعلمين ألا يكثروا من الأسئلة حتى يشقوا على أساتيذهم المربين. وإرشاد للمربين أن يتقبلوا أسئلة الطلبة بصدور رحبة ولو سألوا مرارا. ما دام لم يكن في ذلك مضيعة ولا مضرة. وكان الظاهر أن يقدّم فيه الجهاد على الصلاة لوقتها وبر الوالدين؛ لأن المشقة فيه أكبر، إذ فيه بذل المال والنفس، ولكن الجهاد واجب وقتي، والصلاة واجب دائم

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الجهاد بإذن الأبوين (3004) . ورواه مسلم في كتاب: الأدب، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به (6451) . (2) يقطنها: قطن في المكان: أقام به. (3) الغاشمة: الظالمة. (4) إلا: عهدا وميثاقا. (5) سورة العنكبوت، الآية: 69. (6) تقدم تخريجه ص 93 (1) . (7) يسأم: السأم: الملل والضجر.

36 - باب: طاعة الأئمة والرؤساء في المعروف

كالبر بالوالدين، فالصبر على مشقتهما وإن كان أدنى من الصبر في مواطن الكفاح ولقاء الأعداء، لكن المداومة على ذلك طوال السنين مما أكبر المشقة فيهما، ورفع درجتهما عن الجهاد قرينهما. وأعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجاب في مواطن أخرى عن سؤال «أفضل الأعمال» بغير هذه الإجابة، وليس من تعارض بين ذلك وتضارب، لأنه كان يجيب كل سائل بما يناسب حاله، أو يلتئم مع رغبته وميله. أو لاختلاف الأوقات والأحوال؛ ففي أوقات الحرب والنزال، وهجوم الأعداء: الجهاد أحب، وفي أوقات المجاعات: الصدقة أفضل: وفي أوقات الهدوء والطمأنينة: الصلاة أهم، وهكذا لكل حال ما يناسبها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس لكل حال لبوسها، ويجيب بما يسايرها، وهو البليغ الحكيم. ولعن تاركي الصلاة، الذين يحسبون أنفسهم مؤمنين؛ ولم يركعوا لله ركعة أو يسجدوا له سجدة؛ ولم يغشوا «1» بيوت الله؛ وإن غشوا بيوت الناس- لعلهم يعتبرون بهذا الحديث؛ فيقلعوا عن جرمهم؛ ويتوبوا إلى ربهم؛ ولعل الكسالى الذين يجمعون الصلوات؛ أو يؤدونها آخر الأوقات يكون لهم من ذلك موعظة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 36- باب: طاعة الأئمة والرؤساء في المعروف عن عبد الله بن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» . [رواه البخاري «2» ] . الشرح: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي

_ (1) يغشوا: يدخلوا. (2) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4740) .

أولو الأمر:

الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» فأمر عباده المؤمنين بطاعته. وطاعة رسوله. وأولي الأمر فأفاد أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لأنه إذا أمر بمعصية فأطعناه لم نحقق طاعة الله وطاعة الرسول. فكانت الآية شاهد ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لا طاعة لأولياء الأمور. فيما فيه مخالفة الله أو الرسول. أولو الأمر: هم الذين وكل إليهم القيام بالشؤون العامة. والمصالح المهمة. فيدخل فيهم كل من ولي أمرا من أمور المسلمين: من ملك ووزير. ورئيس ومدير. ومأمور وعمدة. وقاض ونائب وضابط وجندي وقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم على كل مسلم السمع لأوامر هؤلاء. والمبادرة إلى تنفيذها. سواآ كانت محبوبة له. أم بغيضة إليه وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» فإذا دعونا إلى الحرب. وبذل المال في سبيلها لبّينا الطلب. وإذا طالبونا بالضرائب المشروعة دفعناها. وإن طلبوا منا المساعدة على حفظ الشواطىء والمزارع من المياه الطاغية «3» أجبنا. وإن رغبوا في معونتنا لأهل بلد اجتاحهم حريق أو نابتهم نائبة حققنا رغبتهم. وهكذا نسمع كل ما أمروا به وننفذه، سواء وافق رغباتنا وميولنا أو خالفها، وسواء شق علينا أم سهل ما دام في المصلحة العامة، وما دام في دائرة الحلال المشروع، أما إن أمرونا بمعصية كإتهام بريء، أو حبسه. أو إيذائه، أو مصادرة ماله ظلما وعدوانا، أو رغبوا إلى القضاء أن يحيد عن الحق ويحكم بالباطل، أو أرادوا مالنا وحيواننا ورجالنا لمساعدة عدونا. أو أرادوا أن نخط بيدنا صك الاستعباد لنا ولأبنائنا وأحفادنا، أو طلبوا أن نرخص لمن يرغبن في الإتجار بأعراضهن، أو من يتجرون في الخمور، أو يفتحون ناديا للميسر- إن أمرونا بشيء من ذلك أطعنا الله وعصيناهم وأرضيناه وإن أغضبناهم. فطاعتهم محرمة، ومخالفتهم واجبة. هذا وقد جاءت أحاديث فيها إطلاق الأمر بطاعة الولاة، والصبر على مكارههم، وعدم الخروج عليهم، كحديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

_ (1) سورة النساء، الآية: 59. (2) سورة البقرة، الآية: 216. (3) المياه الطاغية: طغى الماء: فاض وتجاوز الحد في الزيادة.

«اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» «1» يريد بذلك صغرها. وكحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا، فيموت إلا مات ميتة جاهلية» «2» . وكحديث عبادة بن الصامت قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا- في حال النشاط والكراهة- وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا- استئثار بحظ دنيوي- وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا- جهارا- عندكم من الله فيه برهان «3» . روى هذه الأحاديث الثلاثة البخاري، فيجب تقييد الإطلاق فيها بالآية السابقة وبحديثنا الذي نشرحه، وبحديث معاذ الذي رواه أحمد: «لا طاعة لمن لم يطع الله» «4» . وأحاديث أخرى تحرّم علينا طاعتهم في المعصية، ويدل لتقييد حديث أنس حديث أم الحصين عند مسلم: «اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله» «5» ، والمكروه الذي أمرنا بالصبر عليه في حديث ابن عباس ما شق على نفوسنا، ولم يكن معصية الله والرسول، فإن كان معصية فالنهي عن المنكر واجب، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نثير الفتن ونبدد «6» شمل الأمة، ونعرّض دماءها وأموالها ومصالحها للضياع إذا أمكننا إزالة المنكر بالحسنى والمسالمة. وكذلك إذا كان ضرر المنكر دون الضرر المترتب على الإنكار. وأما حديث عبادة الذي فيه: ألا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا فالمراد بالكفر هنا المعصية، وكل معصية للخالق جحود بنعمته.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7142) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7143) . (3) رواه البخاري في كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترون من بعدي أمورا تنكرونها» (7055 و 7056) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4748) . (4) رواه أحمد (3/ 213) . (5) رواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4735) . (6) نبدّد: بدّد: فرّق.

37 - باب: من يضاعف الله لهم الأجر

يدل على ذلك رواية: إلا أن يكون معصية لله بواحا فلا ننازع ولاة الأمور في ولايتهم، ولا نعترض عليهم في تدبيرهم إلا إن رأينا منهم منكرا محققا لا شبهة فيه ولا تأويل. فإن رأينا ذلك أنكرنا عليهم إنكارا يقلعون به عن المعصية مع إلتزام الحكمة في النصيحة. فأطع من ولوا أمرك ما داموا لله مطيعين، واصبر على ما تبغض منهم ما لم يكن معصية بينة، واحرص على اتحاد الكلمة، وبقاء الألفة. وسلامة الجماعة، ما دامت على الحق قائمة. وبأمر الله عاملة. وإياك أن تداهن «1» الولاة في معصية. أو تجاريهم على مظلمة وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ «2» . 37- باب: من يضاعف الله لهم الأجر عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يئتون أجرهم مرّتين: الرّجل تكون له الأمة، فيعلّمها. فيحسن تعليمها. ويؤدّبها فيحسن تأديبها، ثمّ يعتقها، فيتزوّجها فله أجران، ومؤمن أهل الكتاب الّذي كان مؤمنا، ثمّ آمن بالنّبي صلى الله عليه وسلم فله أجران، والعبد الّذي يؤدّي حقّ الله، وينصح لسيّده، له أجران» . [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه «3» ] . الشرح: لكل حسنة أجرها وثوابها. وعلى قدر الإخلاص فيها والنفع بها يكون مقدار الأجر. وإذا كانت الحسنة واحدة. وكان لها جهات متعددة تعدد الأجر. كما

_ (1) تذاهن: داهن فلانا: داراه ولاينه. (2) سورة هود، الآية: 113. (3) رواه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل من أسلم من أهل الكتابين (3011) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع ... (385) . ورواه النسائي في كتاب: النكاح، باب: عتق الرجل جاريته ثم يتزوجها (3344) . ورواه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الفضل في ذلك (1116) . ورواه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها (1956) .

أولهم من يحسن إلى أمته

يتعدد بتعدد الحسنات. وفي هذا الحديث يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص يؤتون أجرهم مرتين. أولهم [من يحسن إلى أمته] : الرجل تكون له أمة تحت يده ملكا واستخداما. فيحسن إليها الإحسان كله. فيعلمها فرائض الدّين وسننه. وشؤون المنزل وأعماله من نظافة وطهي. وعجن وخبز. وترتيب ونظام. وخدمة أولاد. سواء أكان ذلك التعليم بنفسه أم بوساطة غيره، من زوج وخدم، أو بنات وحشم «1» ولا يقتصر على تعليم ناقص، بل يجدّ فيه، حتى تبلغ نهايته، وتدرك غايته وتكون فيه الحاذقة «2» الماهرة، والحكيمة المدبرة، وكذلك يؤدبها ويهذبها، ويروّضها «3» على مكارم الأخلاق. وأحاسن الآداب كالعفة والقناعة والصدق والأمانة. وحسن المعاشرة. والأدب في المحادثة. ويبالغ في ذلك التأديب. حتى تكون الفتاة المهذبة. والأمة المكملة؛ وبعد ذلك التعليم والتأديب، والبلوغ بهما الغاية يعتقها من رقها، ويطلقها من قيدها، ويمنّ عليها بالحرية التي فطر الناس عليها، فتصبح ذات شأنها، والمستقلة بأمرها لا سلطان لأحد عليها، تتصرف في مالها ونفسها كما تريد في الدائرة المشروعة، والخطة المحمودة. ثم يضيف إلى ذلك منة أخرى، وحسنة كبرى: أن يتخذها زوجا له فيسويها بزوجة الحرة. ويلحقها بسيدتها، ويرفعها من درجة الخدمة إلى مرتبة القرينة «4» ، فهذا الشخص له أجران في هذه الأمة، أجر التحرير بعد الاستعباد، وأجر الزواج بعد الاستخدام. وله فوق ذلك أجر التعليم، وأجر التأديب، وكأنه لما كان العتق من الحسنات في الدرجة العليا حتى عدّه الله في القرآن اقتحام العقبة وكان زواج الأمة بعد تحريرها أكبر نعمة تسدى إليها اقتصر على أجريهما، إشارة إلى علو شأنهما، وبعد مرتبتهما، ولم يذكر أجري التعليم والتهذيب؛ وحكمة أخرى، وهي التنبيه إلى أن التعليم والتأديب لا يختص بالإماء والعبيد، بل ذلك واجب السيد نحو البنات والبنين، أفترى بعد ذلك أن الإسلام لم يرفع من شأن الرقيق، ولم يرق به إلى درجة

_ (1) حشتم: حشم الرجل: خاصته الذين يغضبون لغضبه ولما يصيبه من مكروه، من عبيد أو أهل أو جيرة. (2) الحاذقة: حذق العمل: أوغل في ممارسته حتى صهر فيه. (3) يروّضها: يعدها ويعلمها. (4) القرينة: الزوجة.

وثانيهم: من آمن بديننا وكتابنا، وإمامنا ونبينا من أهل الكتب المقدسة

الحر في تربيته وتهذيبه، ولم يأخذ بيده إلى الحرية المنشودة والحقوق العامة؟ ثم أترى بعد ذلك أن الإسلام لم يحضّ على تعليم البنت وتأديبها، وتهذيبها وتثقيفها، بما ينمّي عقلها، ويحسن أخلاقها، ويرفع شأنها، ويعلمها واجبات بيتها؟ إذا كان الشارع يشيد بذلك في الإماء، فما بالك بالحرائر المحصنات؟ فعلّم بنتك وأدبها يكن لها ولك المستقبل السعيد والعيشة الراضية، والكرامة العالية. وثانيهم: من آمن بديننا وكتابنا، وإمامنا ونبينا من أهل الكتب المقدسة يهودا أو نصارى، فأولئك لهم أجران على الإيمان لتعدد جهته. أجر على الإيمان بدينهم، والعمل بكتابهم. وأجر على الإيمان بنبينا، والعمل بكتابنا، وفي هذا ترغيب عظيم لليهود أو النصارى في المسارعة إلى اعتناق الإسلام. الذي هو خاتمة الأديان، وأن ما أرادوه من الثواب في المحافظة على دينهم محفوظ لهم إلى ما ينالون من ثواب الإيمان الجديد، والعمل بالقرآن المجيد، فالإسلام لا يغمط «1» لذي حق حقه، ولا يحرم عاملا أجره. وثالثهم: العبد الذي يقوم بواجب الرق لسيده وواجب العبودية لربه ، فهو لسيده الخادم المطيع والحافظ الأمين، يخلص لسيده في سائر أعماله، يحرص على ماله وينميه، ويحافظ على بناته وبنيه، يرشده إلى ما يراه الخير، وينبهه إلي مواطن الشر، وهو لربه مؤد للحقوق، قائم بالواجبات فلا يلهيه القيام بخدمة سيده، عن القيام بحق بارئه، فإذا ما نودي للصلاة هرول إليها، وإذا ما دعي لمكرمة أجابها، وإذا ما رغب إليه سيده في اقتراف جريمة نصحه وأطاع ربه، فهو بأوامر الدين قائم، ولنواهيه تارك، وللقرآن ذاكر، وللسوء مخاصم، فهذا له أجران: أجر النصح لسيده، وأجر الطاعة لربه. هذا والعدد لا مفهوم له. فهناك من يؤتى أجره مرتين غير أولئك. كنساء الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال الله فيهن: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً «2» ، وكمن يتصدق على قريبه له أجران: أجر

_ (1) يغمط: غمط: استصغر واحتقر. (2) سورة الأحزاب، الآية: 31.

38 - باب: التيسير والتبشير

الصدقة، وأجر الصلة. وكالحاكم إذا أصاب في حكمه فله أجران. وكالذي يسن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها. وكالذي تيمم وصلّى، ولما وجد الماء أعاد الصلاة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لك الأجر مرتين» ، وكالذي يقرأ القرآن وهو شاق عليه له أجران. كل ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة، فدل على أن مضاعفة الأجر ليست قاصرة على الثلاثة وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ «1» . 38- باب: التيسير والتبشير عن عامر بن أبي موسى عن أبيه قال: لمّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال لهما: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» . [رواه البخاري «2» ] . اللغة: التيسير: التسهيل، وضده التعسير. والتبشير: الإخبار بما يسر ويبدو أثره على البشرة، ويقابله الإنذار. والتنفير: إزعاج الشيء وإثارته من مكانه، وضده التسكين. والتطاوع: إطاعة كل واحد منهما صاحبه، وضده التخالف. كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث ولاته وعماله إلى الأقطار المختلفة أن يزودهم بالنصائح، حتى يكونوا للناس قدوة حسنة، ويجمعوا قلوبهم على الإسلام، فلما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن كلا منهما على مخلاف فيها- إقليم- زودهما بهذه النصيحة فأمرهما بثلاثة، ونهاهما عن ثلاثة. 1- أمرهما بالتيسير، ونهاهما عن التعسير ، فالتيسير التسهيل على الناس وقد ندب إليه القرآن في قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «3» ، وقوله:

_ (1) سورة البقرة، الآية: 261. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «يسرا ولا تعسرا» (6124) . (3) سورة البقرة، الآية: 185.

2 - وأمرهما بالتبشير؛ ونهاهما عن التنفير.

وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» ، فلا يجشمهم «2» صعبا، ولا يكلفهم عسرا، يتأذون به، أو تتململ منه نفوسهم، فإذا صلّى بهم إماما لا يطيل في صلاته، بل يخفف كتخفيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة. وإذا خاطبه بعضهم بعبارات جافة، لكنها فطرية لا يتغير منها، وفي جباية الزكاة يأخذ منهم ما يسهل على نفوسهم، دون ما يشق عليها، من غير تقصير في حق، وإذا أراد نهيهم عن قبيح، وإقلاعهم عن باطل سلك بهم في الزجر سبيلا سهلا، خاليا من الغلظة في القول، والقسوة في الموعظة، كالذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بال أعرابي في المسجد، وثار إليه الناس ليوقعوا به فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء» - الذنوب والسجل الدلو- «فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» «3» . وكما تيسر على الناس في معاملتهم، ونهيهم وزجرهم؛ كذلك تيسر على النفس، فلا تكثر عليها من الطاعات حتى تسأمها وتملها، ولا تشق عليها في أداء الواجبات إذا أمكن القيام بها في يسر، فالذي يشق عليه القيام في الصلاة يتركه إلى القعود. أو يشق عليه الصوم لمرضه أو سفره أو كبره يتركه إلى الإفطار، أو يصعب عليه التوضؤ بالماء في البرد القارس ولم يتيسر له الماء الساخن يستبدل به التيمم، وهكذا يرفق بنفسه ولا يعسر عليها حتى تخرج عن أمره. ومن فهم التيسير عرف التعسير. وإنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعسير بعد أمره بالتيسير مع أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده تقوية وتأكيدا؛ حتى لا يبقى لمتنطع «4» علة يعتل بها لتنطعه. على أنه لو اقتصر على «يسروا» لتحقق الإمتثال بالتيسير مرة. وإن عسر مرارا. فلما قرنه بالنهي عن التعسير. والنهي يقتضي الكف عن الفعل دائما فهمنا المداومة على التيسير. وكذلك يقال في الأمر والنهي الآخيرين. 2- وأمرهما بالتبشير؛ ونهاهما عن التنفير. فتبدأ الناس بالأخبار السّارّة

_ (1) سورة الحج، الآية: 78. (2) يجشمهم: جشم الأمر جشما: تكلّفه على مشقة. (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «يسرا ولا تعسرا» (6128) . (4) متنطع: تنطع في كلامه: تشدّق وغالى.

المروحة للنفوس، المزيلة للهموم، فتشحذ «1» منهم العزائم؛ وتعلو الهمم. فيقبلون على الأعمال الطيبة، فإذا دعونا جماعة إلي هذا الدين بدأناهم بذكر الثمرات التي يجنيها العبد من ورائه. فنذكر لهم العزة في الدنيا والملك والغني وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» . وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «3» . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً «4» ، ونذكر ما أعد الله للمؤمنين في الحياة الآخرة. مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر، ونبين لهم سهولة الدّين، وأن شرائعه لا تثقل النفوس، ولا تحرجها، بل هي لها طهارة وسعادة وبرد وراحة وإذا وعظنا شريرا ليرعوي عن غيه رغبناه في التوبة، وعرّفناه أنها تجبّ «5» السيئات وأن أبواب الله لها مفتحة، وأن الإستقامة أجدى عليه من الإجرام، وإذا نصحنا طالبا ليجد في دروسه بيّنا له آثار الجد، وثمراته في المجدين، وما كسبوا من كبير المناصب، وعلو الجاه، وسعة الثروة، ذلك هو التبشير. أما التنفير فجانب سبيله، فلا تبدأ من دخل الإسلام حديثا؛ ولم يتمكن من نفسه بذكر أنواع المياه، وأحكام الاستنجاء، وفروض الوضوء وسننه وآدابه؛ والغسل وأحكامه وأسبابه؛ والتيمم وأركانه ... وتستقصي في ذكر الأحكام له استقصاء حتى يرى نفسه أمام تعليمات ثقيلة وأحكام كثيرة؛ وكل هذا للصلاة وسيلة؛ فما الحال في المقاصد؟ إنها لكبيرة فينفر من الدّين بعد أن رغب فيه؛ ويهم بالنكوص «6» بعد أن خطا فيه خطوة. وكذلك لا تنفر العاصي بأن ما أسلفه من السيئات لا توبة له منه ولا إنابة؛ ولا بد من عقابه على ما أجرم فيرجع عن الإقلاع؛ ويستمر في الإجرام؛ وكذلك لا تبدأ الطالب الكسلان بوخامة «7» العاقبة؛ وسوء النتيجة، فتفت في عضده؛ وتذهب ببقية

_ (1) تشحذ: شحذ الهمة: قوّاها. (2) سورة المنافقون، الآية: 8. (3) سورة النور، الآية: 55. (4) سورة الطلاق، الآية: 4. (5) تجبّ: تمحو. (6) النكوص: نكص: رجع عما كان قد اعتزمه وأحجم عنه. (7) الوخامة: يقال: هذا الأمر وخيم العاقبة أي سيء.

3 - وأمرهما بالتطاوع، ونهاهما عن التخالف.

عزمه. فتضره ولا تنفعه. وإذا قابلت من تزوج حديثا فبشره بالحياة الطيبة؛ والذرية المباركة؛ ولا تقل له: زوجك هذه من أسرة خلقها كيت وكيت. أو هي لا تحسن إدارة منزل؛ ولا خدمة زوج؛ وقد خطبها فلان ورغب عنها؛ مما يدل على حماقتك وقصر نظرك؛ وأنك لا تقدر المواقف قدرها. وإنما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم التنفير بجانب التبشير دون الإنذار الذي هو قرينه لأن الإنذار غير منهي عنه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم مبشرا ونذيرا لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً «1» ، والقرآن من سننه قرن النعيم بالجحيم. وأن الأول: للمتقين، والثانية: للمجرمين؛ فكيف ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سنته وطريقته، وعن سلوك منهج القرآن؟ لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التنفير دون الإنذار. وأن للتبشير مقاما. وللإنذار مقاما. فالإنذار مقاما. فالإنذار لمن لا يقيمه على الصراط الإبراق والإرعاد. والتبشير لمن يحركه إلى العمل بارق الأمل، وكلاهما محمود. أما التنفير فإنه ممقوت ما دام يبعد عن الحق، ويرغب عن الخير، فإن كان مبعدا عن الرذيلة فذلك الإنذار المحمود، وإذا كان للإنذار مقام، وللتبشير مقام، لم يكن الأمر بالتبشير نهيا عن الإنذار لاختلاف الوجهة، ومن التنفير إذا كنت مدرّسا أن تحدث الطلبة بطول المقرر وصعوبته، وأنه لا أمل في الإحاطة به، أو أن تبدأهم بالمسائل الصعبة والأبواب العسرة. بل تحدثهم بسهولة المقرر، وأن الإرادة الماضية تحيط به في يسير من الوقت، وتأخذ بهم من الأسهل إلى السهل، فالصعب ثم الأصعب وكذلك كل من تولى مع آخرين عملا مهما؛ يسهل عليهم أمره؛ ويتدرج بهم فيه، حتى يبلغوا غايته، وكل هذا من الحكمة. 3- وأمرهما بالتطاوع، ونهاهما عن التخالف. لأن التطاوع قوة وألفة والتخالف ضعف ونفرة. فما دام الأمر في معروف فليطعه. فإن رأى غير ما رأى تباحثا في وجوه الاختلاف، ومحّصا «2» المسألة، ثم أصدرا عن اتفاق تلك نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ. وجدير بكل من بعث واليا، وعيّن حاكما، على إقليم من الأقاليم أن يضع هذه النصيحة نصب عينيه لينجح في إدارته، ويعلو في ولايته.

_ (1) سورة الكهف، الآيتان: 2، 3. (2) محّص المسألة: كشفها وتمعن فيها.

39 - باب: إطعام الجائع وعيادة المريض

هذا وللحديث بقية، فنذكر لك أصله- قال البخاري «1» : حدثنا مسلم، حدثنا شعبة، حدثنا سعيد بن أبي بردة، عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا. وبشرا ولا تنفرا. وتطاوعا ولا تختلفا» ، قال أبا موسى: يا نبي الله إن أرضنا بها شرب من الشعير المزر «2» ، وشراب من العسل البتع «3» ... فقال: «كل مسكر حرام» فانطلقا. فقال معاذ لأبي موسى كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما، وقاعدا، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا- أي لا أقرأ وردي منه دفعة واحدة، ولكن أقرؤه شيئا بعد شيء في ليلي ونهاري، مأخوذ من فواق الناقة لأنها تحلب، ثم تراح حتى تدر، ثم تحلب- قال: أما أنا فأنام، فأقوم، وأنام فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وضرب فسطاطا- بيتا من شعر- فجعلا يتواران فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم، ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه. 39- باب: إطعام الجائع وعيادة المريض عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني» . [رواه البخاري «4» ] . اللغة: العيادة: الزيارة، وكل من أتاك مرة بعد أخرى فهو عائد وقد اشتهرت العيادة في زيارة المريض حتى صارت كأنها مختصة به. والعاني: الأسير. وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو وهو عان. والمرأة عانية، والجمع عوان، ومنه الحديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء أو كالأسراء. الشرح: في هذا الحديث طلب أمور ثلاثة:

_ (1) رواه البخاري في كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4341) . (2) المزر: نبيذ الشعير، ونبيذ الذرة خاصة. (3) البتع: نبيذ العسل. (4) رواه البخاري في كتاب: المرضى، باب: وجوب عيادة المريض (5649) .

أولها: إطعام الجائع.

أولها: إطعام الجائع. وقد حث على ذلك القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- مجاعة- يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ- لله- أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ «1» ، فيجب علينا كفائيا إطعام الجائع إنقاذا له من ألم الجوع. ومحافظة على صحته بل على حياته إن كان يودي بها فقد الطعام، وليكن إطعامه من خير ما نطعم به عملا بقوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ «2» ، وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً «3» ، ولم يبعد من عمم الجائع في الإنسان والحيوان. وثانيهما: عيادة المريض ؛ وقد أوجبها كفائيا بعض الفقهاء كإطعام الجائع وفك الأسير، وعضد ذلك بحديث أبي هريرة عند البخاري «4» : حق المسلم على المسلم. وبرواية مسلم «5» : خمس تجب للمسلم على المسلم، وذكر منها عيادة المريض، ولكن الجمهور على أنها في الأصل مندوبة، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض الناس دون بعض، وعيادة المريض تذكرة ومحبة ومنفعة، فهي تذكر الإنسان بناعي الحياة، وتعرفه قيمة الصحة التي يتمتع بها، فينطق بشكر مسديها «6» ، وهي تزرع المحبة بين المريض وعواده، بل بينهم وبين قرابته، وهي نافعة للمريض تروّح عنه وتسليه، وربما وصف العائد دواء ذهب بالداء؛ أو تبرع بإحضار نطاسي «7» ، أو أرشد إلى طبيب ماهر، وينبغي أن تكون العيادة في الأوقات المعتادة، وألا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض، أو يشق على أهله، ما لم تدع ضرورة إلى ذلك، وأن يلاحظ أوامر الأطباء في ترك اقتراب أو مكالمة، أو قلة الترداد. وثالثها: فك العاني ، وفكه تخليصه من أيدي العدو بمال أو غيره، والجمهور على وجوب ذلك كفائيا حتى لا تكون ذلة لمؤمن كتب الله له العزة. وقال إسحق بن

_ (1) سورة البلد، الآيات: 11- 16. (2) سورة البقرة، الآية: 267. (3) سورة الإنسان، الآية: 8. (4) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز (1240) . (5) رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام (5615) . (6) مسديها: المسدي: المحسن. (7) النّطاسيّ: العالم الماهر والطبيب الحاذق.

40 - باب: إئتلاف الأرواح واختلافها

راهواه: يجب تخليص الأسرى من بيت المال، وهو رواية عن مالك، فتخليصهم واجب حكومي لا فردي، ولو كان في يدنا أسارى للأعداء فادينا بهم أسارانا، والغرض ألا ندع قوما جاهدوا لإعزازنا، في مذلة أعدائنا، بل علينا أن نستردهم إلى ديارهم بكل ما استطعنا أفرادا وأمة. 40- باب: إئتلاف الأرواح واختلافها عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» . [رواه البخاري وكذلك مسلم «1» عن أبي هريرة] . اللغة: الروح: ما به الحياة والحركة، والجنود: جمع جند، وهم الأعوان والأنصار. وبعبارة أخرى: الجيش والعسكر، وواحد الجند جندي، وأصله المادة الغلظ والتجمع، يقال للأرض الغليظة ذات الحجارة: جند وتجنيد الجند جمعهم، فمعنى مجندة: مجموعة، والتعارف: معرفة بعضها بعضا، والمعرفة: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، والتناكر: ضده، والائتلاف: الاجتماع مع التئام، وبعبارة أخرى: الإئتناس والمحبة، وضده الاختلاف. هذا والحديث قد رواه البخاري في صحيحه معلقا غير متصل عن الليث عن يحيى، عن سعيد، عن عمرة، عن عائشة. ولكن وصله في كتابه (الأدب المفرد) فرواه فيه عن عبد الله بن صالح عن يحيى ... وقد تكلم في عبد الله هذا بعض أئمة الجرح والتعديل. الشرح: من الظواهر التي نراها في الاجتماعات العامة ميل كل امرىء إلى من يشاكله «2» ويناسبه روحا وخلقا، أو دينا وأدبا، أو مبدأ ومذهبا، أو حرفة وعملا، فترى المجتمعين بعد مدة وجيزة من بدء الاجتماع قد انقسموا جماعات تتحدث كل جماعة في شؤونها الخاصة، وأمورها المشتركة وتتغير نفوسها إذا رأت دخيلا بين

_ (1) رواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: الأرواح جنود مجندة (6650) . (2) يشاكله: يماثله ويشابهه.

جماعتها، لا تربطه بهم صلة، ولا تجمعهم به جامعة، وتجلس في ركوب «1» عام قطار أو سفينة أو ترام أو سيارة، أو في مجلس من المجالس فترى نفسك منجذبة إلى بعض الحاضرين. نافرة من آخرين. وربما لم يكن قبل هذا اجتماع ولا تعارف، ولا تعاد وتخاصم فما سر هذا التالف والتحابب، وما علة هذا الاختلاف والتنافر؟ ذلك ما بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فهو يقول: «إن أرواح العباد ونفوسهم جنود مجتمعة وجيوش مجيشة فالتي بينها تعارف وتشاكل، وتوافق وتناسب، يألف بعضها بعضا، ويسر باجتماعه، ويفرح للقائه. لاتفاق في المبدأ، وتقارب في الروح» . روى أبو يعلى في مسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت امرأة بمكة مزاحة، فنزلت على امرأة مثلها في المدينة، فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدق حبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الأرواح جنود مجندة» ... إلخ. أما التي بينها تناكر وتباين وتباعد وتغاير فإنها تختلف، وينفر بعضها من بعض، ولا يود لقاءه، فالأخيار الأبرار، الأمجاد الأطهار إذا وجدوا في مجتمع جذبهم أشباههم، أو انجذبوا إليهم، وسرى بينهم تيار من المحبة جمع قلوبهم، ووثق فيها روابط الصلة، وعرى الإخاء والمودة اما من لا يشاكلهم فتنفر منه قلوبهم. وكذلك الأشرار الفجار إذا حلوا بناد بادر إليهم أضرابهم. وجذبهم قرناؤهم، ونفروا ممن لا يتخلق بخلقهم ولا يسير في سبيلهم. فإذا عرفت رجالا بالبر والإستقامة. ونفرت منهم نفسك ونبا عنهم قلبك. فاعلم أن فيك عيبا ونقصا، وأنت دونهم في الطهارة فداو نفسك من عيوبها، وطهرها من أوزارها حتى تتقارب الأرواح، وتتشاكل النفوس، فتحل الألفة محل النفرة. وإذا رأيتك ميالا من تعرفهم بالشر والفسق والخلاعة «2» والعهر «3» ، فاعلم أنك من طبقتهم، ونسبك من شجرتهم. فإذا كانت نفسك تحدثك بأنك البرّ الأمين، أو الصوفي العظيم، أو التقي المخلص، أو الإنسان المهذب فكذب نفسك في حديثها. واعتقد أنك غر «4» مخدوع، وأبله مفتون، ففتش في زوايا قلبك تجد للباطل ركنا،

_ (1) الرّكوب: ما يركب. (2) الخلاعة: خلع عذاره: ترك الحياء وركب هواه. (3) العهر: الفجور. (4) غرّ الرجل: جهل الأمور وغفل عنها.

41 - باب: بر الوالدين

وللشيطان حظا؛ وللفساد جوا؛ وهذا ما جذب قلبك إلى الأشرار؛ وإذا رأيتك تميل إلى الأخيار؛ وتحب مجالسهم وتنجذب نفسك إليهم؛ مع علمك بسوء سيرتك واعوجاج طريقتك؛ فأدرك أن فيك بقية من الخير؛ ولا يزال فيك أمل. فربّ هذه البقية؛ وقوّ هذا الأمل؛ حتى يرحل عنك الشر؛ وتدخل بجملتك في حزب الخير. وكذلك إذا كنت طاهرا برا نقيا؛ ورأيت في نفسك بعض الميل للمجرمين، أو الركون إلى الظالمين فاعرف أن الشيطان قد نفث فيك نفثة، وثغر في قلبك ثغرة، فتحضن منه، وقل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ- الصبح- مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ- ليل إذا دخل- وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ «1» . فالحديث يبين لنا طبيعة من طبائع النفوس؛ لننتفع بها، فنجنبها الشر، ونغمرها بالخير. 41- باب: برّ الوالدين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحقّ بحسن صحابتي؟ قال: «أمّك» ، قال: ثمّ من؟ قال: «أمّك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمّك» ، قال: ثمّ من؟ قال: «أبوك» . [رواه البخاري ومسلم] «2» . اللغة: الصحبة والصحابة مصدران: بمعنى المصاحبة، وهي الملازمة، والأصل فيها أن تكون بالبدن، وقد تكون بالعناية والاهتمام كما هنا. الشرح: هذا الحديث يدل على أن لكل من الأبوين حقا في المصاحبة الحسنة؛ والعناية التامة بشؤونه وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «3» ، ولكن حق الأم فوق حق الأب بدرجات، إذ لم يذكر حقه إلا بعد أن أكد حق الأم تمام التأكيد، بذكرها ثلاث

_ (1) سورة الفلق. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة (5971) . رواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به (6447) . (3) سورة لقمان، الآية: 15.

مرات، وإنما علت منزلتها منزلته مع أنهما شريكان في تربية الولد هذا بماله ورعايته؛ وهذه بخدمته في طعامه وشرابه، ولباسه وفراشه و ... إلخ. لأن الأم عانت في سبيله ما لم يعانه الأب، فحملته تسعة أشهر وهنا على وهن، وضعفا إلى ضعف؛ ووضعته كرها؛ يكاد يخطفها الموت من هول ما تقاسي، ولكم كان بدء الحياة لوليد نهايتها الأم رؤم «1» ، وكذلك أرضعته سنتين، ساهرة على راحته، عاملة لمصلحته وإن برحت بها في سبيل ذلك الآلام وبذلك نطق الوحي: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «2» ، فتراه وصّى الإنسان بالإحسان إلي والديه؛ ولم يذكر من الأسباب إلا ما تعانيه الأم إشارة إلى عظم حقها. ومن حسن المصاحبة للأبوين الإنفاق عليهما طعاما وشرابا، ومسكنا ولباسا؛ وما إلى ذلك من حاجات المعيشة، إن كانا محتاجين. بل إن كانا في عيشة دنيا أو وسطى؛ وكنت في عيشة ناعمة راضية فارفعهما إلى درجتك أو زد. فإن ذلك من الإحسان في الصحبة. واذكر ما صنع يوسف مع أبويه وقد أوتي الملك إذ رفعهما على العرش بعد أن جاء بهما من البدو. ومن حسن الصحبة بل جماع أمورها ما ذكره الله بقوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «3» فامنع عنهما لسان البذاءة «4» ، ولو بالهنات «5» الصغيرة. وجنبهما أنواع الأذى. وألن لهما قولك؛ واخفض لهما جناحك؛ وذلل لطاعتهما نفسك؛ وأذك في روحك العطف عليهما؛ والرحمة بهما. ورطّب لسانك بالدعاء لهما من خالص قلبك وقرارة نفسك وقل: ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا، ولا تنس زيادة العناية بالأم، عملا بإشارة الوحي؛ ومسايرة لمنطق الحديث.

_ (1) رؤوم: رئمت الأنثى ولدها: أحبته وعطفت عليه ولزمته فهي رؤوم. (2) سورة الأحقاف، الآية: 15. (3) سورة الإسراء، الآيتان: 23، 24. (4) البذاءة: بذأ: فحش قوله. (5) الهنات: ج الهن: كناية عن شيء يستقبح ذكره لصغره.

42 - باب: سب الرجل والديه

وقد استنبط جمهور الفقهاء من الحديث تقديم الأم على الأب في النفقة إذا كان مال الولد لا يتسع إلا لواحد منهما. وقيل: إنهما سواء. وهو مروي عن مالك والشافعي. 42- باب: سب الرجل والديه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرّجل والديه» ، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرّجل والديه؟ قال: «يسبّ الرّجل أبا الرّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: اللعن من الله: الطرد والإبعاد على سبيل السخط. ومن الناس: السب والدعاء. والسب الشتم الوجيع. الشرح: من الذنوب ما ضرره عظيم. وسوء أثره في المجتمع كبير كالقتل والزنى وشرب الخمر والسرقة وشهادة الزور وقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم. وهذا النوع يسمى بالكبائر لكبر المفسدة فيه، وللوعيد الشديد عليه ولهذا النوع درجات بحسب الضرر الذي فيه، فكلما كانت دائرته أوسع كان في الكبر أدخل. فكتمان الشهادة كبيرة؛ ولكن أكبر منه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من الذنوب ضرره يسيرا يسمى بالصغائر. كعبوسة الوجه، وهز الرأس احتقارا، والحديث يبين أن سب الرجل أبويه من أكبر الكبائر. وأعظم الذنوب. لأنه الإساءة في موضع الإحسان، والإثم الكبير مكان البر العظيم، والشتم الذميم عوض القول الكريم، وهل هو إلا كفر بنعمة التربية منهما، وغمط «2» لحقوقهما، ودناءة نفس، وخسة «3» طبع، وهل يرجى من شخص يسيء إلى أبويه اللذين ربياه صغيرا أن يحسن إلى أحد من

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه (5973) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (259) . (2) غمط: غمط الحق: أنكره وهو يعلمه. (3) خسّة: خسّ الرجل، خسة وخساسة: حقر.

43 - باب: ثمرات صلة الرحم

الناس؟ كلا. فهو مصدر شر ومبعث فساد. فلا جرم أن كان ذنبه عظيما. ووزره خطيرا ولذلك عجب الصحابة واستغربوا وقالوا: كيف يسب الرجل والديه؟ استبعاد أن يكون في بني الإنسان من يقدم على هذا الجرم العظيم. فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سب غير مباشر، بأن يسب شخص أبا شخص آخر، فيسب هذا أبويه، انتصارا لنفسه، وانتقاما مضاعفا لعرضه، فذلك سب من الأول لأبويه. لأنه تسبب فيه. وإذا كان التسبب لذلك من أكبر الكبائر فما بالك بمن يسبهما كفاحا «1» . بله من يؤذيهما ويضربهما؟ إن ذلك للوزر الأكبر، لا يفوقه إلا الشرك والأصل في هذا الحديث قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً- ظلما- بِغَيْرِ عِلْمٍ «2» ، فنهى المسلمين عن سب الآلهة التي يعبدها المشركون مخافة أن يسبوا الله انتصارا لآلهتهم. 43- باب: ثمرات صلة الرحم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» . [رواه البخاري ومسلم، ورواه الترمذي «3» بلفظ] : إنّ صلة الرّحم محبّة في الأهل، مثراة في المال منسأة في الأثر. اللغة: البسط: النشر والتوسعة، والرزق: يقال للعطاء الجاري كالمرتب. وللنصيب، ولما يتغذى به. والإنساء: التأخير، وأثر الشيء: ما نشأ عنه ودلّ عليه، فأثر المشي في الأرض صورة القدم فيها، والمراد به هنا: الأجل أي بقية الحياة. قال زهير:

_ (1) أي يشتمهما مستقبلا ومواجهة. (2) سورة الأنعام، الآية: 108. (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5985) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (6470) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في تعليم النسب (1979) .

الشرح:

والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي الطرف حتى ينتهي الأثر وسميت بقية العمر أثرا لأنها تتبعه في الذهاب كما يتبع الأثر صاحبه، ولأن المرء ما عاش لحركاته آثار. فإذا مات فلا حركات، ولا آثار، أو المراد بالأثر الذكر الحسن، والرحم القرابة لأنها داعية التراحم بين الأقرباء وصلة الأقارب تكون بزيارتهم ومعونتهم بالنفس وبالمال، صدقة إن كانوا فقراء، وهدية إن كانوا أغنياء. وبعمل كل ما يستطيع من جر مغنم، أو دفع مغرم. فيعتبرهم كنفسه في جلب الخير، واتقاء الشر. الشرح: رتب الرسول صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم أمرين بسط الرزق والإنساء في الأثر. أما ترتب السعة في الرزق على صلة الرحم فلأنه بالصلة يستجلب محبتهم ومودتهم فيعاونونه على كسب الثروة فتزداد. وينفي بالصلة عداوتهم التي إذ شغل بها استنفدت كثيرا من وقته. يتعطل فيه عن ابتغاء الرزق. ولأنه بالصلة يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة وبالصلة يدخل في زمرة المتقين وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1» ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً «2» وفي القرآن آيات كثيرة ترتب السعادة الدنيوية على الأعمال الصالحة مثل وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «3» ، وأما ترتب الإنسان في الأثر على الصلة، فإن فسرنا الأثر بالذكرى الطيبة للإنسان بعد وفاته فالإنساء فيها معناه التأخير والإطالة؛ فألسنة الناس ثناء عليه ودعاء له. لقيامه بواجب القرابة؛ وربما استمرت هذه الذكرى أمدا طويلا. فنفسه الرحيمة كأنها خالدة في عالم الأحياء. وإن فسرنا الأثر ببقية العمر فظاهره أن الأجل يمتد بصلة الرحم؛ وذلك يعارض قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها «4» ، فالجواب أن الأجل محدد بالنسبة إلى كل سبب من أسبابه. فإذا فرضنا أن الشخص حدد له ستون عاما إن وصل رحمه وأربعون إن قطعها؛ فإذا وصلها زاد الله في عمره الذي حدد له إذا لم يصل.

_ (1) سورة الطلاق، الآية: 2، 3. (2) سورة الطلاق، الآية: 4. (3) سورة الأعراف، الآية: 96. (4) سورة المنافقون، الآية: 11.

44 - باب: فضل كفالة اليتيم

فالأجل لا يتأخر بالنسبة إلى سببه الخاص، ويتأخر بالنسبة إلى سبب آخر. وأحسن من هذا أن تفسر مد الأجل بالبركة في العمر؛ فيهبه الله قوة في الجسم؛ ورجاحة في العقل؛ ومضاء في العزيمة. فتكون حياته حافلة «1» بالأعمال الطيبة. فهي حياة طويلة وإن كانت في الحساب قصيرة وذلك لأن المقياس الحقيقي للحياة المباركة ليس الشهور والأعوام ولكنه جلائل الأعمال؛ وكثرة الآثار. فرب شخص عمّر طويلا؛ وكأن لم يكن. ورب آخر عاش قليلا؛ وكأنه لبث فينا قرونا؛ لكثرة ما عمل؛ وعظم ما خلّف. وإنما رتبت البركة في العمر علي صلة الرحم لأن المرء إذا وصل أقرباءه أجلّوه واحترموه؛ فامتلأت نفسه سرورا، وشعر بمكانة عالية من أجل صنيعه الذي صنع، والسرور منشّط كما أن الحزن مثبّط، والشعور بالعظمة عن أعمال مجيدة داع للإكثار منها وبذل الجهد في سبيلها. والحديث يقرنا على حب البسطة في العيش ما آمنّا وعملنا الصالحات لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» ، ويقرنا أيضا على الرغبة في زيادة الحياة إن كانت في سبيل الطيبات، كما يحثنا على بر الأقرباء وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «3» . 44- باب: فضل كفالة اليتيم عن سهل بن سعد عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنّة» ، هكذا، وقال بإصبعيه السّبابة والوسطى. [رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي «4» ] .

_ (1) حافلة: مليئة. (2) سورة المائدة، الآية: 93. (3) سورة الإسراء، الآية: 26. (4) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: فضل من يعول يتيما (6005) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في من ضم اليتيم (5150) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته (1918) . -

اللغة:

اللغة: اليتيم من الإنسان: من مات أبوه قبل بلوغه، ومن الحيوان: من فقد أمه؛ وكافله: مربيه الذي يقوم بشؤونه؛ ويدير مصالحه، وقال: بإصبعيه أشار بهما، والسبابة: الأصبع التي تلي الابهام. الشرح: اليتيم من فقد أباه الذي كان يرعاه بنفسه وماله، ويحبه من أعماق قلبه؛ ويؤثر مصلحته على مصلحته. وإن مما يذرف الدمع ساخنا ساعة الموت صبية صغارا؛ وذرية ضعافا، يخلفهم المحتضر وراءه؛ يخشى عليهم إحن الحياة؛ وصروف الدهر؛ ويتمنى لهم وليا مرشدا؛ يرعاهم كرعايته؛ ويسوسهم كسياسته؛ يعزيهم بره وعطفه عن نفسه الراحلة، ويجدون فيه من العناية بمصالحهم ما يخرجهم رجالا في الحياة؛ يملأون العيون؛ ويشرحون الصدور. فالذي يكفل اليتيم ويتعهده؛ وينمي ثروته ويهذب نفسه؛ ويطمئن والده في جدثه «1» ؛ ويعوضه عنه كافلا رحيما، وراعيا حكيما؛ فلا جرم أن كان مكانه عند الله عظيما؛ وكان حريّا أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة صاحبا وقرينا؛ يتمتع بما فيها من النعيم؛ كما متع برعايته اليتيم؛ وفي هذا ترغيب عظيم في كفالة الأيتام، والعناية بأمورهم. أما كان الكافل، أو قريبا، أو أجنبيا أو صديقا. وفي حديث عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وسفعاء الخدين» - التي شحب لونها من قيامها على خدمة ولدها- «كهاتين يوم القيامة» : امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا. رواه أبو داود «2» . 45- باب: السعي على الأرملة والمسكين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» . [رواه البخاري «3» ومالك وغيرهما] .

_ - ورواه مسلم في كتاب الزهد: باب: الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (7394) بنحوه. (1) جدثه: الجدث: القبر. (2) رواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في فضل من عال يتيما (5149) . (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الساعي على المساكين (6007) .

اللغة:

اللغة: الساعي: الذي يذهب ويجيء في قضاء المصالح. والأرملة: التي مات زوجها. والمسكين: المحتاج الذي أسكنته الحاجة. وسبيل الله: دينه وشرعه. الشرح: المجاهد في سبيل الله الذي يخدم دينه بنفسه وماله، أو جاهه وسلطانه أو علمه وفنه، ليس له جزاء إلا الجنة إلى الذكرى الطيبة في الحياة الدنيا والمكانة العالية في النفوس. وكذلك الجزاء للساعي على الأرملة والمسكين، فيكد ويتعب؛ ويجاهد وينصب، ليكفي تلك الأرملة حاجاتها. بعد أن فقدت بعلها، الذي كان يرعاها وينفق عليها، فهو بذلك يخفف عنها من ألم المصيبة؛ ويسليها على الفجيعة «1» ؛ ويكف يدها عن المد؛ ويصون وجهها عن العرض. وكذلك يصنع للمسلم الذي فقد المال؛ وعجز عن الكسب أو قدر ولكن لم يجد العمل، فهو يجمع المال بعرق جبينه. لا ليمتّع نفسه أو ولده؛ أو لينفقه في البذخ واللذة، ولكن ليسد به جوعة المسكين، ويغنيه عن الإستجداء فيحفظ على وجهه ماء الحياء، وعلى نفسه خلق العفاف، فكان خليقا بمرتبة المجاهدين، ومنزلة المقربين. فاخدم بمالك ووقتك وقوتك وسعيك ذوي الحاجات، وأرباب العاهات تنل المنزلة العالية والجنة الخالدة. 46- باب: إيذاء الجار عن أبي شريح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الّذي لا يأمن جاره بوائقه» . [رواه البخاري ومسلم وأحمد «2» وغيرهما] . اللغة: البوائق: واحدتها بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد يوافي المرء بغتة. الشرح: من سعادة المرء أن يكون في بيئة يشعر فيها بالعطف عليه. والمحبة

_ (1) الفجيعة: الفاجعة: المصيبة المؤلمة توجع الإنسان بفقد ما يعزّ عليه من مال أو حميم. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان تحريم إيذاء الجار (170) عن أبي هريرة بنحوه.

47 - باب: إكرام الضيف والإحسان إلى الجار

له، ومن شقائه أن يكون بين جماعة يضمرون له الشر، ويدبرون له المكايد فالشخص الذي بجانبه جيران سوء، يعملون للإضرار به في نفسه؛ أو ماله، أو عرضه، ويحوكون «1» له العظائم والدواهي، منغص في عيشه؛ لا يهنأ له بال، ولا ينعم بمال، تراه مقطب الوجه، محزون النفس مكلوم «2» الفؤاد، كل ذلك من سوء الجوار، ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من هذا خلقه، وتلك دخيلته مع جاره- غير مؤمن، وأكد ذلك بالحلف والتكرار ثلاث مرات، وهل المؤمن إلا من أمنه الناس على دمائهم؛ وأموالهم؛ وأعراضهم. وهل الإيمان إلا من الأمن. فإذا كان الجار لجاره حربا؛ وعليه ضدا؛ فكيف يكون من المؤمنين الذي أخلصوا دينهم لله، لقد كان الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره؛ ويساعده بكل ما استطاع؛ ويعمل على جلب الخير له؛ ودفع الشر عنه؛ حتى يكونا في عيشة راضية؛ وحياة طيبة؛ أفما كفاه أن يترك كل ذلك حتى يقف منه موقف العداء؛ يدبر له الموبقات المدمرات، والمفظعات المهلكات وليقف موقف الحياد إن لم يكن لصنع المعروف أهلا لا يحسن إليه فلا يسيء؛ والحديث يؤكد حق الجار؛ وأنه من بين الحقوق بالمكان العظيم؛ حتى أن من ينتهك حرماته يسلب عنه الإيمان الذي هو معقد السعادة في الدنيا والآخرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» . 47- باب: إكرام الضيف والإحسان إلى الجار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره؛ ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» . [أخرجه الشيخان وابن ماجه «4» ] .

_ (1) يحوكون: ينسجون له الشرور والمصائب ليوقعوه بها. (2) مكلوم: كلم كلما: جرحه. (3) سورة المائدة، الآية: 5. (4) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره-

1 - إكرام الضيف:

ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث أمورا ثلاثة، يقتضيها الإيمان بالله واليوم الآخر؛ إكرام الضيف؛ والإحسان إلى الجار؛ والنطق بالخير أو الصمت؛ وإنما خص بالذكر الإيمان بالله واليوم الآخر دون غيرهما مما يجب الإيمان به كالرسل والكتب الإلهية لأن الله تعالى مبدأ كل شيء وبيده الخير والشر، واليوم الآخر نهاية الحياة الدنيا، وهو ينتظم البعث والنشر؛ والحشر والحساب؛ والجنة والنار؛ فهو يوم جامع لكثير مما يجب الإيمان به؛ وإنما كان الإيمان بهما مقتضيا لهذه الأشياء الثلاثة لأن من صدّق بالله؛ وعلم أنه خبير بما يعمله، ومحاسبه عليه. وأن بيده الثواب والعقاب يجدّ في عمل الطيبات؛ ويدع السيئات. ومن آمن بيوم يحيا فيه الناس جميعا، وتعرض عليهم فيه أعمالهم من خير أو شر؛ ويلقون جزاءهم من جنة أو نار- من آمن بكل ذلك طمع في الثواب بالمسارعة إلي الخيرات ونفر من العقاب باتقائه الشرور. 1- إكرام الضيف: الضيف يطلق على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ «1» ، وإكرام الضيف يكون بحسن استقباله، فيقابله بوجه باش، ويظهر له السرور بحضوره، ويقدم له خير ما عنده من الطعام والشراب ووسائل الراحة؛ وإن كان ذا سعة والضيف فقير مد إليه يد المعونة، ويودعه كما استقبله إلى غير ذلك، وقد قال العلماء: إن الضيافة الشرعية ثلاثة أيام؛ وما زاد عليها فهو صدقة؛ فنحن مأمورون بإكرامه هذه الثلاثة، وما زاد عليها فهو فضل من المضيف. 2- الإحسان إلى الجار: الجار يطلق على الداخل في الجوار، وعلى المجاور في الدار؛ والمراد به الثاني؛ واسم الجار عام يشمل المسلم والكافر؛ والعابد والفاسق والصديق والعدو. والقريب والأجنبي؛ والأقرب دارا والأبعد. وله مراتب بعضها أعلى من بعض؛ فالمسلم القريب العابد الصديق أولى ممن لم تتوفر فيه هذه الصفات. والإحسان إلى الجار يكون بعمل ما يستطيع معه من

_ - (6018) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا ... (174) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الأدب، باب: حق الجوار (3672) . (1) سورة الحجر، الآيتان: 51، 52.

3 - قول الخير أو الصمت:

ضروب الخير فإن استقرضك أقرضته. وإن استعانك أعنته. وإن احتاج أعطيته. وإن مرض عدته وإن أصابه خير هنّأته. وإن انتابته نائبة «1» عزّيته. وكن أمينا على أسراره. متوددا إليه بالهدايا حريصا على مصالحه كما تحرص على مصالحك. وإذا كان الإحسان للجار مطلوبا فدفع الأذى عنه أمر محتم. وفي حديث البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «2» ، وفي القرآن آيات كثيرة تحث على الإحسان إلى الجار من ذلك قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ «3» . 3- قول الخير أو الصمت: سعادة المرء وشقائه في طرف لسانه فإن حبس لسانه في دائرة الخير- كأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو قراءة علم، أو منطق أدب: نال خيره، وكفى شره. وإن خرج به عن دائرة الخير جلب عليه النوائب وأرداه «4» في هوة «5» سحيقة، وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأحد أمرين إما قول الخير وإما الصمت؛ فمن لم يتيسر له الإحسان في القول والنفع به فليمسك عليه لسانه فإن ذلك أسلم له؛ وقد قال العلماء: إن هذه العبارة من جوامع كلمة صلى الله عليه وسلم لأن القول كله إما خير؛ وإما شر، وإما آيل «6» إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها؛ فأذن فيه على اختلاف أنواعه؛ ودخل فيه ما يؤول إليه؛ وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت.

_ (1) نائبة: ما ينزل بالرجل من الكوراث والحوادث المؤلمة. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الوصاة بالجار (6014) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه (6630) . (3) سورة النساء، الآية: 36. (4) أرداه: أردى فلانا: أهلكه. (5) هوّة: الحفرة البعيدة القعر. (6) آيل: راجع.

48 - باب: وحدة المسلمين وتراحمهم

48- باب: وحدة المسلمين وتراحمهم عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى» . [أخرجه البخاري وكذلك مسلم «1» بعبارات مختلفة] . اللغة: التراحم والتواد والتعاطف: كلها من باب التفاعل الذي يستدعي اشتراك الجماعة في أصل الفعل، وهي وإن تقاربت في المعنى بينها فرق لطيف، فالتراحم: رحمة بعضهم بعضا بأخوة الإيمان لا بسبب آخر، والتواد: التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي والتعاطف: إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب على الثوب تقوية له، وتداعوا: دعا بعضهم بعضا، ومنه تداعت الحيطان أي تساقطت أو كادت، وسائر: بمعنى باقي، والحمّى: تلك الحرارة المرتفعة التي تضر بالأعمال الطبيعية. الشرح: يمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذه الخلال «2» الثلاث بالجسد الواحد، فكما أن الجسد إذا مرض منه عضو تألم له الباقي، فلم يذق نوما وسارت إليه حرارة الحمّى، فالمته، فكذلك المؤمنون حقيقة إذا ناب واحدا منهم نائبة شعر بألمها الباقون، فسعوا بما فيهم من العواطف لدفع الألم عنه، وجلب الخير إليه. فالمسلمون في مجموعهم كشخص واحد وكل فرد منهم بالنسبة للمجموع كالعضو بالنسبة للشخص، فالخير يصيب الواحد منهم كأنما أصاب كلهم؛ والشر ينوبه «3» كأنما ناب جميعهم؛ فليعتبر بهذا الحديث بعض الأمم الإسلامية التي لا تألم لما يصيب جارتها، بل ربما ساعدت عدوّها على القضاء عليها وليعتبر به أولئك الأفراد الذين جدوا في اصطياد مصالحهم الشخصية وإن أضرت باخرين؛ وإذا ما طلب منهم مواساة إخوانهم ولوا على أدبارهم نفورا، أولئك لم يتوطن الإيمان بعد نفوسهم.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (6011) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (6529) . (2) الخلال: ج الخلّة: الخصلة. (3) ينوبه: يصيبه.

49 - باب: الرحمة وعقاب مجانبها

49- باب: الرحمة وعقاب مجانبها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يرحم لا يرحم» . [أخرجه البخاري في باب- رحمة الولد وتقبيله ومعانقته- وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي «1» بألفاظ متقاربة] . للحديث سبب، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» . الرحمة بالناس. بل بالحيوان. عاطفة شريفة وخليقة محمودة، ولقد مدح الله بها رسوله في قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» ، وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود. لما نقضوا العهود؛ إذ يقول: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «3» . فالرحمة فضيلة. والقسوة رذيلة. والرحمة تكون بالأبناء، وأثرها تقبيل ومعانقة كما صنع الرسول صلى الله عليه وسلم بالحسن. وتأديب وتربية وإجابة رغائب- ما دامت في سبيل المصلحة- وإبعاد من الشر. وتكون بالآباء والأمهات وأثرها قول كريم، وصنع جميل، وطاعة في غير معصية وخدمة صادقة وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «4» ، وتكون بالأقرباء، وأثرها بر وصلة، وزيارة ومودة، وسعي في مصلحة، ودفع لمضرة، وتكون بين

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5997) . ورواه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه (5982) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في قبلة الرجل ولده (5218) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في رحمة الولد (1911) . (2) سورة التوبة، الآية: 128. (3) سورة المائدة، الآية: 13. (4) سورة الإسراء، الآية: 24.

50 - باب: الصدقة بالمال وطيب الكلام

الزوج وزوجة، وأثرها عشرة بالمعروف، وإخلاص متبادل، وألا ترهقه «1» بالطلبات، ولا يكلفها بالمرهقات، بل يعاونها على شؤون المنزل وتربية الأولاد بالخدم ما دام في المال سعة أو بنفسه إن كان في وقته فضل. وتكون بأهل دينك، ترشدهم إلي الخير، وتعلمهم ما تعلمت. وتأخذ بهم عن اللمم «2» إلي السبيل الأهم وتعمل لعزهم، ودفع المذلة عنهم، وتكون بالناس جميعا، فتحب لهم ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها، وتكون بالحيوان فتقدم له أكله وشربه، وتداوي جرحه، ولا تكلفه عسيرا، ولا تحمله ثقيلا. فإن كانت الرحمة خليقتك رحمك الناس كما رحمتهم، وكانوا لك كما كنت لهم، ورحمك الرحمن الرحيم: فأسبغ عليك نعمة ظاهرة وباطنة، وإن تركتها إلى القساوة قست عليك الخليقة، فإن نابتك نائبة، أو حلت بك ضائقة «3» أغضوا عنك وفرّوا منك، فتجرعت وحدك صابها «4» ، وصليت نارها، وكذلك يصنع الله بك يرفع عنك رحمته، فإذا أنت في الدنيا في معيشة ضنك، لا تنعم بعزة أو هناءة، وفي الآخرة لا ينظر الله إليك ولا يكلمك، ولك العذاب الهون جزاء بما اكتسبت، فارحم ترحم، وكن للناس يكونوا لك وتخلق بخلق الله يرفع شأنك، ويعل نفسك والله لا يضيع أجر المحسنين. 50- باب: الصدقة بالمال وطيب الكلام عن عديّ بن حاتم قال: ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّار فتعوّذ منها، وأشاح بوجهه، ثمّ ذكر النار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه قال شعبة: أمّا مرّتين فلا أشكّ- ثمّ قال: «اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيّبة» . [رواه البخاري ومسلم «5» ] .

_ (1) ترهقه: تطلب ما يزيد عن طاقته، وحمله على ما لا يطيقه. (2) اللمم: مقاربة الذنب. (3) ضائقة: ضاقت حيلته، وضاق بالأمر، وضاق به ذرعا. (4) صابها: يقال: صابت بقرّ: نزلت النازلة في مستقرها، يضرب عند نزول الشدة وإصابتها. (5) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: طيب الكلام (6023) .

اللغة:

اللغة: تعوذ: قال: أعوذ بالله، أي ألجأ إليه، وأتحصن به، يقال: عذت به أعوذ عوذا وعياذا ومعاذا أي ألجأ إليه. والمعاذ: المصدر والزمان والمكان. وأشاح: يقال: بمعنى حذر وبمعنى جد في الأمر: ويقال: أشاح وجهه وبوجهه وأشاح عنه وجهه إذا أعرض متكرها. والإتقاء: اتخاذ الوقاية مما يضر. وبعبارة أخصر: الحذر. والشق: النصف أو الجانب. الشرح: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النار وسعيرها وشررها. وتمثلها أمامه كأنه يراها رأي العين لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «1» ، فقال أعوذ بالله منها. وأتحصن به من شرها وهولها «2» ، وأعرض بوجهه عنها متكرها لها كأن لفحها يكاد يصل إليه، فيحول عنها وجهه، ثم ذكرها مرة أخرى فصنع مثل ما صنع في الذكرى الأولى- وقد جزم شعبة أحد رواة الحديث ورجاله بهاتين المرتين، إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم زاد عليهما فهذا ما لم يتيقنه شعبة- ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» . إلخ. النار عذابها أليم وسعيرها عظيم وهولها شديد. والرسول صلى الله عليه وسلم بأمته رؤوف رحيم، حريص على سعادتها، ووقايتها مما يضرها، فكيف لا يرشدها إلى ما تتقي به النار، وتنأى به عن هول الجحيم؟ لقد بين أن الصدقات وقاية من النار فمن بذل المال في سبيل الله للفقراء والمساكين والغارمين والمجاهدين، والمصالح العامة كان ما بذل سورا منيعا، وحاجزا حصينا، يقيه لهيب الجحيم، وقليل المال- ممن لا يستطيع غيره إذا أعطاه بطيب نفس وإخلاص قلب- كثير عند الله فهو يربي التمرة الصغيرة بل شقها. حتى تكون كالجبال الشامخة، أثرها كبير وثوابها عظيم، فلا تحقر المعروف وإن قلّ، ولا تستقل الصدقة وإن كانت بشق من تمرة، أو مليّم من قرش، أو قطعة من رغيف، فربما سدت حاجة من جائع، بل ربما أنقذت نفسا أشرفت على الهلاك، وقد ذمّ الله من عاب جماعة بقلّة ما بذلوا وهو منتهي جهدهم وغاية وسعهم، فقال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يغتابون ويعيبون الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

_ - ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة ... (2346) . (1) سورة التكاثر، الآيتان: 5، 6. (2) هولها: الهول: الفزع الشديد والخوف.

51 - باب: حسن الخلق

أَلِيمٌ «1» ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على امرأة، معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها. ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتلى من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار» ، رواه البخاري «2» ، فصدقة المال نافعة، ومن النار واقية، جلّت «3» أو قلّت، ما دام ذلك الجهد، فإن لم يجد المرء ما يمد به يده للسائل والمحروم؟ فليحرك لسانه وليتكلم بالكلم الطيب: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ «4» ، فإذ ردّ السائل بالقول الجميل، أو وعده العطاء عند اليسار كان له ذلك صدقة وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً «5» وحض أهل اليسار على إطعام المسكين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس كل ذلك صدقات فإن أعوزك المال فلن يعوزك اللسان لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «6» . 51- باب: حسن الخلق عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن خياركم أحسنكم أخلاقا» ، وفي رواية: «إنّ من خيركم أحسنكم خلقا» . [رواه البخاري «7» ] . الخلق: يطلق على كل صفة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير تكلف كالكرم يصدر عنه الإعطاء بلا عناء، والحلم يستدعي مصابرة السفيه والعفو

_ (1) سورة التوبة، الآية: 79. (2) رواه البخاري في كتاب، الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5995) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: فضل الإحسان إلى البنات (6636) . (3) جلّت: عظمت وكثرت. (4) سورة البقرة، الآية: 263. (5) سورة الإسراء، الآية: 28. (6) سورة النساء، الآية: 114. (7) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6035) .

عن المسيء، والحكمة تقتضي وزن كل عمل بميزان المصلحة. وعرف بعضهم الخلق: بأنه العادة في الإرادة. فتعود العزم على منازلة العدو كلما أوقد حربا يسمى خلق الشجاعة. والخلق يقال للمكارم وللمساوي. كالبخل والسفه والجبن وغيرها من الرذائل. وفي هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن خيار المسلمين من حسنت أخلاقهم وكرمت صفاتهم، أما من ساءت منهم الأخلاق وقبحت الصفات فأولئك الأشرار، وإن كانوا يصلون، ويصومون ويحجون، فإن صلاتهم ليست بصلاة الخاشعين، وصيامهم مجاراة، وحجّهم رياء، ولو كان ذلك منهم بإخلاص لأثمر بلا مراء كرم الأخلاق فإن الصلاة الحقة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والصيام الخالص داعية الصبر والكرم. والحج المبرور ينمي خلق الصبر وحسن العشرة، والمعونة فبرهان الصدق في العبارات والإخلاص فيها كرم الأخلاق. وآية التقصير فيها سوءها ولأن حسن الخلق من العلو بمكان مدح الله به خير خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» ، وكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما قالت زوجه عائشة رضي الله عنها. فكان أدبه آدابه. وخلقه أخلاقه. من صبر وحلم، وكرم وعفو، وإخلاص وشجاعة، وعدل وحكمة ... إلخ. وأن مما يثمره حسن الخلق في هذه الحياة تيسر الأمور لصاحبه، وموافاة الرغائب، وحب الخلق له، وثناءهم عليه، ومعونتهم له. والإبتعاد عن أذاه وقلة مشاكله في الحياة. واطمئنان نفسه، وطيب عيشه، ورضاء ربه، أما الثمرة في الحياة الآخرة فجنة نعيم، وقرب من رب العالمين. روى الترمذي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إليّ؛ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا» «2» ، وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على مكارم الأخلاق. منها حديث النواس بن سمعان: «البر حسن الخلق» - رواه مسلم «3» . وحديث أبي الدرداء: ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق- رواه

_ (1) سورة القلم، الآية: 4. (2) رواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق (2018) . (3) رواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تفسير البر والإثم (6463) .

ومن محاسن الأخلاق:

الترمذي وابن حبان وصححاه، ورواه أبو داود «1» ، وحديث أبي هريرة: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق» - رواه البزار بسند حسن، وحديث أبي هريرة: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» - رواه أحمد، وكذلك البزار بلفظ: مكارم، بدل صالح. ومن محاسن الأخلاق: الصدق، والشهامة؛ والنجدة وعزة النفس والتواضع؛ والتثبت، وعلو الهمة، والعفو، والبشر، والرحمة والحكمة، والشجاعة، والوقار «2» ، والصيانة، والدماثة «3» ، والدعة، والصبر، والورع، والحياء، والسخاء، والنزاهة «4» ، وحفظ السر، والقناعة والعفة، والإيثار. ومن مساويها: السفه، والرياء، والغيبة، والنميمة، والتبذل «5» ، والغدر، والخرق «6» ، والحمق، والكذب، والجهل، والمكر، والخبث، والطيش، والحقد، والقحة «7» ، والحسد، والشراسة، والعجب، والجبن، وضعف الهمة، والكبر، والعبوس «8» ، والغضب، والذعر «9» ، والكسل، والهزء، والزهو، والحرص، والشماتة، والمجون «10» ؛ وإفشاء السر، والشره والفجور. فاحرص أخي على مكارم الأخلاق واتخذها حليتك؛ وتجنب سفسافها «11» . لتكون من الخيار الذين يألفون ويؤلفون.

_ (1) رواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق (2003) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في حسن الخلق (4799) . (2) الوقار: الرزانة والحلم. (3) الدّماثة: دمث الرجل: سهل خلقه. (4) النزاهة: البعد عن السوء وترك الشبهات. (5) التبذل: تبذل الرجل: ترك التصون والتحرز. (6) الخرق: الجهل. (7) القحة: وقح الرجل أي قل حياؤه. (8) العبوس: عبس: جمع جلد ما بين عينيه وجلد جبهته وتجهّم. (9) الذّعر: الخوف والفزع. (10) المجون: مجن فلان مجونا ومجانة: قلّ حياؤه. (11) سفسافها: السّفساف: الرديء الحقير من كل شيء وعمل.

52 - باب: مداراة الأشرار

52- باب: مداراة الأشرار عن عائشة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ شرّ النّاس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه أو ودعه النّاس اتّقاء شرّه» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي «1» ] . اللغة: ودعه: تركه، وقد ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، وقد جاء الماضي في هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن شكلا لا جزما وجاء المصدر في قوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات» ، والصحيح أن ذلك جائز ولكنه استعمال نادر. الشرح: الناس في الآخرة منازل. كما كانت أعمالهم في الدّنيا منازل وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا «2» ، فأحسن الناس عملا أعلاهم درجة وأرفعهم منزلة. وأسوؤهم عملا أدناهم درجة، وأحطّهم «3» منزلة. وبين هذين درجات متفاوتة ومنازل مختلفة بحسب اختلاف الأعمال وتفاوتها. وفي هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس ووادعوه وفارقوه وسالموه لا لأنه لا خير فيه ولا منفعة ترجى من ورائه. بل اتقاء شره وحذر ضره وبغيه، فهم لا يأمنون إذا كاشفوه بحاله، أو نصحوه ليرعوي عن ظلمه أو جالسوه وخالطوه أو قابلوا سيئه بالسيئة. لا يأمنون أن يرميهم بالمقذعات «4» ويدبر لهم المكيدات التي تضرهم في نفوسهم أو أعراضهم وأموالهم أو مناصبهم ومراكزهم، فهو أفاك «5» أثيم، مجرم شرير؛ لا يتحامى «6» منكرا، ولا يجافي مأثما،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا (6032) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: مداراة من يتقي فحشه (6539) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في حسن العشرة (4791) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في المداراة (1996) . (2) سورة الأحقاف، الآية: 19. (3) أحطّهم: أحقرهم وأصغرهم. (4) المقذعات: الشتائم المستقبحة. (5) أفّاك: أفك فلان: كذب وافترى وخدع. (6) يتحامى: يتجنب.

سبب الحديث

أو هو دنّ من القاذورات؛ إن اقتربت منه أو نبشته هبت عليك رائحته الخبيثة، ولوثتك نجاسته الغليظة؛ فالسلامة منه في مجانبته؛ أو متاركته ومسالمته؛ هذا أسوأ الناس منزلة يوم القيامة لأنه وباء على المجتمع؛ وهل منزلته السوأى إلا جهنم؛ يصلى سعيرها ويعاني لهيبها؛ يستظل بيحمومها «1» ، ويشرب من حميمها «2» ؛ ويطعم من زقومها «3» ويتسربل «4» من قطرانها؛ ومثل هذا ليس من الإسلام في شيء؛ فإن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده؛ وليس من الإيمان في قليل ولا كثير؛ فإن المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن كان يحمل لقب الإسلام أو الإيمان فهو لقب مكذوب؛ ونعت مسروق. [سبب الحديث] هذا والحديث له سبب: روى البخاري عن عائشة أن رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه. وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا. ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» . أهـ. العشيرة: الجماعة أو القبيلة. أو هي الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده. وتطلق: أبدى له طلاقة وجهه. يقال: وجه طلق وطليق أي مسترسل منبسط، ليس بعبوس. وللفحش يقال لكل ما خرج عن الحدّ حتى استقبح من قول أو فعل أو صفة. لكن استعماله في القول أكثر. وقد قيل: إن هذا الرجل المستأذن هو مخرمة بن نوفل. وقيل: عيينة بن حصن الفزاري. وكان يسمى بالأحمق المطاع لأنه كان رئيس قومه: وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه ليسلم قومه. وقد أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدّ في خلافة أبي بكر وحارب. ثم رجع إلى الإسلام. وحضر بعض الفتوح في عهد عمر. وهو الذي استأذن له ابن أخيه الحر بن قيس في الدخول على عمر. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا

_ (1) يحموحها: اليحموم: الحرارة الشديدة. (2) حميمها: الحميم: الماء الحار. (3) زقومها: الزّقوم: شجرة مرة كريهة الدائمة، ثمرها طعام أهل النار. (4) يتسربل: تسربل: لبس.

الجزل «1» . وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به- يبالغ في ضربه- فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» ، وإن هذا من الجاهلين. وإن هذا من الجاهلين. فو الله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافا عند كتاب الله- روى ذلك البخاري في كتاب الاعتصام «3» . وسواء كان المستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرمة أو عيينة فالقصة مشكلة من جهة المعنى إذ كيف يذم الرسول صلى الله عليه وسلم شخصا رآه مقبلا، ويقول فيه: بئس أخو العشيرة؛ وبئس ابن العشيرة ثم يهش في وجهه؛ وينبسط له حينما جلس معه؛ وهل هذا إلا التظاهر بغير ما يضمر؟ فكيف يصدر هذا من الرسول الكريم؛ الذي شهد له رب العالمين بأنه على خلق عظيم؟ لقد أجيب عن هذا الذم بأنه من باب النصيحة للأمة والتحذير لها من أن تغتر بذوي المظاهر الجميلة؛ أرباب الطوايا الخبيثة فتقع في شراكهم «4» ، ويصيبها شر من جهتهم. بل استدل بهذا الذم على جواز غيبة من أعلن الفسق أو الفحش. أو جار في الحكم. أو دعا إلى بدعة جهارا أو نحو ذلك. وهذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كان من عابه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة. وأجيب عن التطلق في وجهه والتبسط إليه بعد ذلك الذم بأنه من باب المداراة؛ إتقاء لشره. وليس من قبيل المداهنة في الدين التي هي من مساوىء الأخلاق. قال القرطبي: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدّين أو هما معا. وهي مباحة. وربما استحبت. والمداهنة ترك الدّين لصلاح الدنيا. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته؛ والرفق في مكالمته. ومع ذلك فلم يمدحه بقوله. ولم يناقض قوله فيه فعله. فإن قوله فيه قول حق؛ وفعله معه حسن عشرة. فيزول بهذا الإشكال. ذلك ما أجابوا به ولا زال في النفس من هذا الذم والتطلق شيء. ولا زلنا نرى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وكرم خلقه فوق ذلك الموقف. وأن الذي نجده في نفوسنا كالذي وجدته عائشة، وإذا كان الغرض من ذلك التبسط

_ (1) الجزل: الكثير العظيم من كل شيء. (2) سورة الأعراف، الآية: 199. (3) رواه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7286) . (4) شراكهم: أي تقع في المكائد والمصائب التي ينسجونها ويحوكونها لك.

53 - باب: النميمة وعقابها

التألف له كان من تمامه ألا يذكره بسوء قد يصل خيره إليه. وإذا كان الغرض المداراة كفى فيها مقابلته له بحال عادية ليس فيها تصنع؛ ثم كيف يظهر على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم خلاف ما في نفسه؛ ووجهه مرآة قلبه؛ ثم هل كان عيينة بدرجة من القوة والشر بحيث يخشاه الرسول صلى الله عليه وسلم ويداريه؟ أما جواب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه الحق لا مرية فيه. فإنه لم يكن فاحشا في حال من أحواله. وصدق فيما قال. أما أن يظهر للإنسان خلاف ما في نفسه ويبدي له البشاشة وفي قلبه الكراهة، فذلك ما نجل عنه مقام الرسالة. وبعد: فالرجاء إليك أن تكون حبا للمسلمين لا ضدا. وسلما لهم لا حربا، وأن تدع شر الأعمال لتجانب شر المنازل عند الدّيان، واعلم أن قوة الله فوق كل قوة. وأن بطشه شديد، فلا تغتر بقوتك، ولا ترعب الناس بسطوتك «1» ، فيأخذك القهار أخذ عزيز مقتدر، يوم يؤخذ بالنواصي والأقدام. 53- باب: النميمة وعقابها عن حذيفة قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنّة قتّات» ، وفي رواية: «نمّام» . [رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي «2» ] . اللغة: القتات: النمام، يقال: وقت الحديث يقته قتا إذا زوّره وهيأه وسواه، وقيل النمام: الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات: الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه. والنمام: الذي ينقل حديث الناس بعضهم في بعض على وجه الوشاية «3» والسعاية والإفساد، والنميمة: الوشاية، وأصلها الهمس والحركة الخفيفة. ويقال: نم ينم وينم نما ونميما. النميمة: الإسم، والرجل نم، ونموم ونمام، ومنم. وهي نمة.

_ (1) بسطوتك: قوتك وبطشك. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكره من النميمة (6056) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة (287) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في القتات (4871) . رواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في النمام (2026) . (3) الوشاية: وشى الكلام: كذب فيه وألّفه ولوّنه.

الشرح:

الشرح: قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «1» ، فنهى تعالى عن طاعة الهماز الطعان، العياب المغتاب، الذي يمشي بين الناس بالوشاية والإفساد، لأنه باعث الفتن، وزارع الإحن، ومقطع الصلات، ومفرق الجماعات، يجعل الصديقين عدوين، والأخوين أجنبيين، والزوجين متنافرين، والولد حربا لأبيه، والأب ضد لبنيه، فهو غراب بين، ونذير شر، وحمال حطب، ومشعل لهب. فكانت طاعته حراما. ونهيه لزاما. فإياك أن تأخذ قوله مسلما. وترتب عليه عداء وتخاصما؛ فإنه فاسق. وقد أمرنا الله تعالى بالتثبت في خبره والتحري عن صدقه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «2» ، بل إن كنت مؤمنا كريما فلا تشغل نفسك بحديث الأنمّاء، ولا تضيع من وقتك في تسمع أخبار السفهاء. وظن الخير بإخوانك وأقربائك واتهم النمام الجهول؛ بل قبح له عمله وبغض إليه نمّه وقل له لا تفسد بيني وبين إخواني، ولا تبغض إلى أعواني، وخير لك أن تذكر ما يزيد الصلة متانة. وعرا الإخاء وثاقة، وإن من ينقل عن غيرك إليك أحاديث السوء، ينقل عنك إلى غيرك. فلا تجعله موضعا لثقتك، واجعل وشايته دبر أذنك. واعلم أن نقل الأنباء قد تكون فيه مصلحة شرعية، ومنفعة عمومية. كمن ينقل إلى شخص مكيدة «3» يدبرها له الخصوم من قتل أو سرقة؛ وكمن يعرّف الأئمة والملوك سيرة الحكام الظالمين، والموظفين الخائنين، فهذا لا حرج فيه بل ذلك واجب، حقنا للدماء «4» ، والأموال، ونصحا للرعية والولاة. والدّين النصيحة. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجنة لا يدخلها قتات، لأنها دار المتقين، وهذا من المجرمين، ما لم يكن له من الحسنات ما يمحو أثر السيئات، أو الغرض من العبارة التحذير من القت، والتنبيه إلى خطر النم؛ أو المراد: لا يدخلها أول الأمر. حتى يطهّر بالنار من خبث الوزر؛ ثم يدخلها طاهرا طيبا.

_ (1) سورة القلم، الآيتان: 10، 11. (2) سورة الحجرات، الآية: 6. (3) مكيدة: خديعة. (4) حقنا للدماء: حقن دم فلان: منعه أن يسفك.

54 - باب: ذو الوجهين

54- باب: ذو الوجهين عن أبي هريرة قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «تجد من شرار النّاس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الّذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود «1» ] . من الناس من يظهر لك إذا قابلك أنه صديقك الحكيم، والحريص على مصلحتك الساعي في منفعتك، وأنه عدو لعدوك، وأنه حرب عليه مثلك ناصب له حياة الشر، فتغتر بقوله، وتنخدع بوشيه، فتفضي إليه بسر نفسك وتبوح له بخبيئة أمرك، وتحدثه عن عدوك؛ وبما تنقم منه؛ وتعيب عليه، وما تدبره له أو تتقي به شره وضره وكيده ومكره. فإذا ما فارقك ذهب إلى عدوك وباح له بكل سرك؛ ودخيلة نفسك؛ وطعن له في عرضك ونال من شرفك، وأظهر له أنه عدو لك وحرب عليك، وأنه له الصديق الوفي فتطمئن نفسه إليه وينطق فيك بالذم وفي عرضك بالنهش ثم يحدث هذا بما فكر فيه وقدر، وبيت له ودبر، فيذهب به إلى الأول، ويقصه عليه قصا، حتى يوغر صدره «2» إيغارا، ويشعل في قلبه نارا، فيزداد العداء؛ وتربو الشحناء؛ وهكذا دواليك بين الإثنين أو الحزبين؛ حتى تتأجج نيران العداوة وترمي بشرر كالقصر؛ فمثل هذا منافق كذاب، مختال «3» خداع، غشاش نمام، فكان لا ريب عند الله من الأشرار، حريا بصلي النار؛ وهذا هو ذو الوجهين المتلون بلونين، اللابس لباسين؛ وليس منه من يسعى بالإصلاح بين خصمين أو حزبين متعاديين، فيحكي لكل فريق أحسن ما قال الآخر فيه، ويسكت عما ذكر من مساويه، ويعتذر لكل عما كان من الآخر من دواعي الخصام وأسباب العداء، حتى ينزع الكراهة من نفسهما نزعا، ويزرع المحبة في قلوبهما زرعا؛ فإذا بالخصمين صديقان، وبالعدوين

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما قيل في ذي الوجهين (6058) . ورواه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خيار الناس (6401) . ورواه أبو داود في كتاب، الأدب. باب: في ذي الوجهين (4872) . (2) يوغر: يمتلأ غيظا وحقدا. (3) مختال: ختله: خدعه عن غفلة ورواغه.

55 - باب: الظن والتجسس والتحاسد

اخوان، إنما هذا ناصح أمين ومخلص كريم فله من الناس الشكر الجزيل، ومن الله الثواب العظيم وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «1» . 55- باب: الظن والتجسس والتحاسد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، كما أمركم الله تعالى، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرىء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم: كلّ المسلم على المسلم حرام، ماله، ودمه، وعرضه، إنّ الله لا ينظر إلي أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، التّقوى ههنا، التّقوى ههنا، التّقوى ههنا-» ويشير إلى صدره» . [رواه البخاري ومسلم في كتاب الأدب من صحيحيهما من طرق مختلفة، وألفاظه فيهما مفرقة «2» ] . اللغة: أصل التجسس تعرض الشيء من طريق الجس أي الاختبار باليد، والتحسس تعرفه من طريق الحواس، ثم استعملا في البحث عن عيوب الناس وقيل: إن الأول البحث عن العورات؛ والثاني الاستماع لحديث القوم. وقيل: الأول البحث في بواطن الأمور؛ وأكثر ما يقال في الشر. والثاني ما يدرك بحاسة العين والأذن كما في قوله تعالى: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ «3» ، وقيل التجسس تتبع العورات لأجل غيره، والتحسس تتبعها لنفسه؛ والحسد: تمني زوال النعمة عن

_ (1) سورة النساء، الآية: 114. (2) رواه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش (6482) ، وباب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه (6487) و (6488) . ورواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر (6064) مختصرا. (3) سورة يوسف، الآية: 87.

الشرح:

مستحقها، اقترن ذلك بسعي أم لا. والتدابر: فسّر بالتهاجر؛ وبالتعادي؛ وبالإعراض وهي معان متقاربة، وأصله إعطاء كل دبره للآخر إعراضا. والحقر: الاحتقار أي الاستصغار والاستقلال. وبحسب امرىء: أي كفايته أو كافيه، والباء زائدة. والعرض: موضع المدح أو الذم من الإنسان سواء كان في نفسه، أو في سلفه، أو من يلزمه أمره. وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويسلب. والتقوى: الوقاية والصيانة مما يضر وذلك بفعل الأوامر، وترك النواهي. الشرح: في الحديث نهي عن ستة أشياء، وأمر بالأخوة، وبيان لما تقتضيه. ولما حرم من المسلم على المسلم، ولما ينظر إليه الرب من المرء وهاك البيان: 1- إياكم والظن: الظن هنا التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه أثرها. فهذا ظن سوء لا مبرر له. وهو الذي نهى الله عنه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «1» ، ولا يدخل في الظن المحرم الظن بمن أورد نفسه موارد الريب جهرة، ولا الظن في الأمور المعاشية، ولا حسن الظن بالله تعالى، ويدخل فيه الظن في الإلهيات والنبوّات فإنه محرم، والواجب فيها اليقين. وقد استدل بالحديث على منع العمل في الأعمال بالاجتهاد والرأى لأنه عمل بالظن ولكن أجيب عن هذا بأن الظن المحرم ظن مجرد عن الدليل، ليس مبنيا على أصل، ولا تحقيق نظر. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الظن بأنه أكذب الحديث. واستشكل ذلك من جهتين: الأولى: أن الظن ليس من قبيل الحديث حتى يكون أكذبه، بل هو عمل نفسي. والثانية: أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلي ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن، فكيف يكون الظن أكذب الحديث؟ والجواب عن الأولى أن الظن حديث نفسي. فيوصف بالكذب إذا لم يطابق الواقع أو أن المراد بالظن ما ينشأ عنه من الكلام. والجواب عن الثانية: أن وصفه بذلك للإشارة إلى أن المراد به ظن لا يعتمد

_ (1) سورة الحجرات، الآية: 12.

2 - 3 - ولا تجسسوا، ولا تحسسوا:

على شيء. فهو لا يطابق الواقع؛ فكان لذلك كذبا؛ وكان أكذب الحديث لأن الاعتداد به أكثر من الكذب المحض «1» لخفائه في الأكثر ووضح الكذب المحض، أو أن وصفه بالأكذبية مبالغة في ذمه لأن الكذب معروف وصاحب الظن معتمد بزعمه على شيء. فكأنه في نظره غير قبيح فقبحه بوصفه فذلك تنفيرا منه. 2- 3- ولا تجسسوا، ولا تحسسوا: تقدم الفرق بينهما؛ وقد نهى القرآن عن التجسس والمراد المنع عن تتبع عورات الناس؛ والبحث عن مثالبهم بأي طريق. فنكتفي منهم بالظاهر؛ ونكل إلى الله أمر الباطن. نعم لو تعين التجسس طريقا لدرء مفسدة كبيرة. أو جلب مصلحة عظيمة لم يكن محرما. كما إذا علمنا أن أشخاصا عزموا على ارتكاب جريمة قتل أو سرقة مثلا؛ فتجسسنا عليهم لنحول دون وقوع الجريمة أو لنقبض عليهم أو تجسسنا لمعرفة جناة ارتكبوا جريمة وفرّوا فإنه لا حرج في ذلك. 4- ولا تحاسدوا: أي لا يحسد بعضكم بعضا ويتمنى زوال ما لديه من النعم إليه أو إلى غيره، مالية كانت أو غيرها. فإن هذا ينافي خلق المؤمنين الذين يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك التمني بقوله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «2» ، وأمرنا بالتعوذ من شر الحاسد في قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ... وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ «3» ، والحسد مذموم وإن لم يقرن بسعي في سلب النعمة عن الغير. نعم لو خطر للإنسان فجاهده، ولم يمكن له من نفسه يرجى له الصفح عنه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «4» . 5- ولا تباغضوا: المراد بذلك تجنب أسباب البغض لأن البغض لا يكسب ابتداء، فكل ما يسبب الكراهة والعداوة محظور على الإنسان فعله. نعم البغض في الله محمود لأنه كراهة للشر أن يقع، ومحبة للعبد أن يقلع ويتطهر. وهذا إحساس شريف لا يفارق المؤمن.

_ (1) المحض: كل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء يخالطه. (2) سورة النساء، الآية: 32. (3) سورة الفلق. (4) سورة الأعراف، الآية: 201.

6 - ولا تدابروا:

6- ولا تدابروا: بيّنا التدابر في اللغة، والمراد بالنهي ترك التقاطع والتهاجر. قال مالك في الموطأ: لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام يدبر عنه بوجهه، وهذا نوع منه. 7- الأمر بالأخوة: أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخوة في قوله: وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله، أي كونوا كإخوان النسب في الشفقة، والرحمة، والمواساة، والنصيحة كما أمر الله في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» ، فإنه وإن كان خبرا فإنه في معنى الأمر، والغرض من هذا أن يكون الشعور بين أفراد المسلمين كالشعور بين أفراد الأسرة الواحدة، يسعى كل فرد في مصلحة الآخر، ودفع الضرر عنه، فإن رابطة الإيمان فوق رابطة النسب؛ حتى أنه لا طاعة لمخلوق وإن كان أبا في معصية الخالق وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «2» . 8- ما تقتضيه الأخوة: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره. بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. المراد بأخوة المسلم للمسلم توثق العلاقة بينهما توثقا يستدعي المحبة والمودة والرفق والشفقة، والملاطفة والمؤانسة. والتعاون في الخير، مع صفاء القلوب، وبذل النصيحة وهذه الأخوة تستدعي نفي الصفات التي بعدها. فلا ينتقص المسلم حقوق أخيه. ولا يخذله إذا دعاه لنصرته في حق. ولا يستصغره ويحتقره. فإن ذلك قاطع للأخوة، باعث للعداوة. ويكفي المسلم شرا ذلك الاحتقار الذي يقطع العلاقات، ويثير العداوات. 9- حرمة المسلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه. كلمة جامعة في محافظة المسلم على حقوق أخيه، وعدم تعديه عليها بغير حق فلا يحل لمسلم أن يسفك لأخيه دما وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً «3» ، ولا يستلب له مالا، سرقة أو انتهابا، أو غشا في المعاملة، ولا يطعن في أوصافه وأخلاقه، أو آبائه وأجداده، أو من يمتون إليه بسبب فهو يصون موضع الكرامة منه،

_ (1) سورة الحجرات، الآية: 10. (2) سورة لقمان، الآية: 15. (3) سورة النساء، الآية: 92.

10 - موضع نظر الرب في الحديث:

ويرعى جانب العزة فيه. 10- موضع نظر الرب في الحديث: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال لأنها موضع التقوى. حقيقة ليست قيمة المرء في زيّه الحسن ولا في صورته الجميلة، ولا في جسمه الضخم. ولكن قيمته في أعمال طيبة. صادرة عن قلوب مخلصة، فمن صفا قلبه. وامتلأ بخشية الله وعظمته. ومحبة الخير للناس، وصدرت منه أعمال صالحة، تصلح بها نفسه، وأسرته وأمته، ويرفع بها دينه، فذلك الرجل يستحق نظر الله ورعايته، ورحمته ومثوبته؛ وإن كان رث «1» الثياب، نحيف القوام، تقتحمه الأبصار، فلنعلن بتطهير الباطن ولنسارع في الخيرات، وحذار أن تشغلنا العناية بالظاهر عن العناية بالباطن؛ فإن ذلك أخذ القشور وترك اللباب. 56- باب: المجاهرة بالمعاصي والمجون عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّ أمّتي معافى إلّا المجاهرين، وإنّ من المجانة أن يعمل الرّجل باللّيل عملا ثمّ يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر الله عنه» . [رواه البخاري ومسلم «2» ] . اللغة: المعافاة: سلامتك من أذى الناس وسلامتهم منك. ويقال: عافى الله العبد وأعفاه سلّمه من البلايا والعلل، والمعافاة مفاعلة من العفو بأن تعفو ويعفى عنك، والعفو: التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله: المحو والطمس «3» . والمعافى: اسم المفعول من عافاه عفاء ومعافاة وعافية. والمجاهرة: الإعلان والإظهار. فهي بمعنى الجهر. يقال: جهر وأجهر وجاهر فالجهار والإجهار

_ (1) رث: الرّث: رديء المتاع. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ستر المؤمن على نفسه (6069) . ورواه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (7410) . (3) الطمس: طمس الشيء: شوّهه أو محاه وأزاله.

الشرح:

والمجاهرة بمعنى واحد. والمجانة: الإستهتار وعدم المبالاة بما يقول أو يقال له. وبما يفعل. يقال: مجن يمجن مجونا ومجانة ومجنا. وفي رواية، المجاهرة بدل المجانة. وفي ثانية: الإجهار. وفي ثالثة: الجهار وفي رابعة: الإهجار. يقال: أهجر في منطقه يهجر إهجار إذا أفحش أو أكثر الكلام فيما لا ينبغي. والإسم الهجر، والبارحة: أقرب ليلة مضت من وقت القول. وهي من برح بمعنى زال. والستر: الستارة أي ما يستر به. الشرح: المعاصي حمى الله، محرم علينا غشيانها «1» ، بل أن نرتع «2» حولها. لتسلم أجسام لنا وعقول، وأعراض ونفوس. والغشيان محظور ليلا ونهارا، سرا وجهارا وإن كان الأثر مختلفا، والعقاب متفاوتا. ذلك أن المستترين في عصيانهم؛ المختفين في فسقهم، عندهم بقية من الحياء، إن لم يكن من الله فإنه من الناس. فلا زال لديهم ضمير يؤنبهم، وواعظ نفسي ينصحهم، وإن كان مغلوبا على أمره، ومقهورا للشيطان، ولذلك استحوا من الإعلان، واختفوا عن الأنظار، وإن كان الله بما يعملون محيطا. هذا إلى أنهم بأسرارهم، لم يلفتوا غيرهم إلى جرمهم، ولم يحرضوا النفوس الغافلة بعملهم على الاقتداء بهم في فسقهم. وإلى ذلك أن العفو عنهم من مأمول إذا تابوا وأنابوا، وأصلحوا ما أفسدوا وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «3» ، لأن الضرر لم ينتشر، والأثر لم يكثر، والذنب عنهم لم يعرف. أما المعلنون لفسقهم، المجاهرون بعصيانهم، المستهترون بدينهم؛ الذين يشربون الخمر على قارعة الطريق، ويرتادون الفاحشة جهارا ويتعاملون بالربا علنا، ويلعبون الميسر في النوادي. ويتجاهرون بترك الصلاة ومنع الزكاة. ويغشون «4» المطاعم والمقاهي في رمضان على مرأى من الناس ومنظر؛ ويأخذون الرشا أمام العيون- أما أولئك فليسوا بمعافين، وليسوا من الأذى بسالمين، ولا من الشر آمنين، ولا من العفو نائلين. وكيف؛ وإعلانهم يدل على تمكن الشر من نفوسهم، وامتزاجه بلحومهم ودمائهم، وأنهم فقدوا خلق الحياء، ومات عندهم الوازع «5» . فأولئك

_ (1) غشيانها: إتيانها. (2) نرتع: المراد لا نرتكبها ولا نحوم حولها. (3) سورة طه، الآية: 82. (4) يغشون: يدخلون. (5) الوازع: الضمير الزاجر والناهي والمعاتب.

يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم، وفسقا إلى فسقهم؛ عقابا لهم على مجاهرتهم فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً «1» . فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «2» ، فالتوبة منهم غير مأمولة، والنصيحة لهم غير مقبولة، فكيف يرجى لهم من الله عفو، ويؤمل عنهم صفح. وسنته ونظامه أن عفوه للتائبين، وصفحه عن النّبيّين «3» ، وأن التأثر بالنصائح لمن لم يمت فيهم الاستعداد بالاستهتار في العصيان. أما من فقدوا الاستعداد فقرع الآيات يزيدهم غيا إلى غيهم وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ «4» ، فكيف يكون هؤلاء من المعافين، وإلى ذلك أن مجاهرتهم بالمعصية دعوة عملية للإقتداء بهم في إجرامهم، وسلوك سبيلهم، فيجيبهم ضعفاء الإيمان، واهنوا «5» الإرادة، فيحملون من وزرهم، ويكتب لهم من فسقهم «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «6» ، فإن أمكنهم التخلص من آثامهم بالتوبة النصوح- إن كان لها في نفوسهم موضع- فكيف يتخلصون من أوزار من أضلوهم بغير علم؟ وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من المجاهرة والإعلان، أو من الفحش والإهجار، أو من المجون والاستهتار، وعدم المبالاة بالدّين، وبرقابة الخبير العليم؛ وبشعور المسلمين- أن يقترف المرء جرما بالليل، ويغشى فاحشة تحت سترة البهيم. حيث النفوس عنه غافلة، والأبصار إليه ناظرة؛ وإن كانت عين الله راعية، وأقلام الكتبة الكرام مقيدة. ثم يصبح؛ ولم يقف على جرمه إلا علام الغيوب، وستار الذنوب فيهتك الستر، ويبوح بالسر، ويعلن عن نفسه بالإجرام، وعن سيرته بالسوء. ويلطخ عرضه بدنس الآثام، ورجس الشيطان فيقول للناس إذا ما أصبح وجمعته المجالس

_ (1) سورة البقرة، الآية: 10. (2) سورة الصف، الآية: 5. (3) النّبيين: ناب إلى الله: تاب ولزم طاعته. (4) سورة التوبة، الآية: 125. (5) واهنوا: ضعيفوا. (6) ورواه مسلم في كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة (6745) . ورواه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة وقال: حسن صحيح (2674) . رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة (206) .

57 - باب: التواضع والكبر

بالندماء «1» ، وأرباب اللهو والخلاعة: لقد فعلت الليلة الماضية كذا وكذا. فانتهكت عرضا، وشربت خمرا، ولعبت ميسرا. وكانت ليلة ساهرة وصيدة طيبة ... إلخ. فينزع ستر الله عنه، ويكشف للناس عن نفسه المجرمة، وفعلته المنكرة، ويذيع السوء عن شريكه أو شركته فيتأثر بروايته وقصته الذين في قلوبهم مرض، ويبغون ليلة كليلته، وسهرة كسهرته. هذا هو الأحمق السفيه؛ وهذا هو الماجن «2» الأفين «3» ؛ وهذا عدو نفسه؛ وهذا من شياطين الإنس؛ الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا؛ ويقص باطلا وزورا. فهذا لا ريب من المجاهرين؛ فليس من المعافين أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا- حرموا الثواب- بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ «4» . فالتزم أخي سواء السبيل، وإياك والعصيان. وحذار حذار الإجهار والمجانة والإهتار. فإن زللت فاستر على نفسك؛ عسى الله أن يعفو عنك. إن تبت وأنبت، وعلى صراط الحق استقمت. وفي حديث ابن عمر: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها؛ فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله- أخرجه الحاكم «5» ورواه مالك في الموطأ من مرسل زيد بن أسلم. والله يقينا وإياك الزلل ويهديناا إلى أحسن العمل. 57- باب: التواضع والكبر عن حارثة بن وهب الخزاعي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنّة: كلّ ضعيف متضعّف» ، وفي رواية: «متضاعف» ، وفي أخرى: «مستضعف، لو أقسم على الله لأبرّه ألا أخبركم بأهل النّار: كلّ عتل جوّاظ

_ (1) ج نديم: المصاحب على الشراب المسامر. (2) الماجن: مجن: قلّ حياؤه ولم يبال بما يصنع. (3) الأفين: أفن الرجل: نقص عقله. (4) سورة الأنعام، الآية: 70. (5) رواه الحاكم (4/ 244) .

اللغة:

مستكبر» . [رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة «1» ] . اللغة: الضعف: خلاف القوة. ويكون في النفس. وفي البدن. وفي الحال والمتضعف والمستضعف: من يستضعفه الناس. ويتجبرون عليه في الدنيا لفقره ورثاثة حاله. أو لضعف جسمه وانحطاط قوته. والمتضعف والمتضاعف، المتواضع كأنه الذي يتكلف الضعف. والإقسام: الحلف. وبر الله: قسمه وأبره صدقه فيه والعتل: الغليظ الجافي خلقه. وكل شديد قوي تسميه العرب عتلا. مأخوذ من العتل وهو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهره. ومنه العتال لمن يحمل الأشياء الثقيلة. وفسر العتل: بالشديد الخصومة. وبالجافي عن الموعظة. وباللفظ الشديد. وبالفاحش الآثم. وبغير ذلك، وكل معانيه تدور على الغلظ والقوة. والجواظ: فسر بالجموع: المنوع: وباللفظ الغليظ وبالفاجر. وبالسمين: المختال في مشيته وبالقصير البطن. والمستكبر: الذي يرى نفسه أكبر من غيره بما ليس فيه. فهو مدّع متكلّف. الشرح: الرجال لا تقاس بالضخامة والمنة «2» ، ولا بالشكل والقوة ولا بالزي والصورة، ولكن تقاس بالقلوب التي تحملها، والأعمال التي تصدرها، والأخلاق التي تلبسها. فمن حمل قلبا سليما وأصدر عملا نبيلا، وتخلق خلقا جميلا فذلك الرجل، يحمد الله صنيعه، ويجزل من الصواب نصيبه، وإن كان ضعيف البنية، واهن القوة، رث الحال، قليل المال، مشوه الصورة، أشعث أغبر، أسود أفحم، ذا طمرين «3» باليين، وثوبين خلقين، تقتحمه العيون وتزدريه النفوس، ويستضعفه الأحمق الجهول، ويتجرأ عليه ذو البأس والسلطة، والجاه والقوة، ذلك هو الضعيف، المتضعف، والمسكين المستضعف ذلك هو الذّل المتواضع. والخنوع «4» المتطامن. بل ذلك قوي النفس متين الخلق. صافي السريرة خالص العقيدة. لو أقسم على الله أن يهبه مالا أو علما. أو زوجا. أو ولدا. أو قوة. أو جاها لأبره في قسمه،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الكبر (6071) . ورواه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (7116) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: من لا يؤبه له (4116) . (2) المنّة: القوة. (3) طمرين: الطّمر: الثوب الخلق البالي. (4) الخنوع: خنع إلى الأمر: ذلّ وخضع.

58 - باب: حرمة الخصام والهجر

وصدقه في حلفه، وأجابه إلى رغبته، لعلو مكانته عند الله وقرب منزلته إليه وكرامته عليه وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «2» ، أما من حمل قلبا لئيما، وأصدر ذميما، وتخلق رذيلا، فكان جافي الطبع، غليظ القلب، نفورا من الموعظة، لدودا «3» في المخاصمة، فظا «4» عنيدا، فاحشا أثيما، نهما شرها جواظا وقحا، جموعا منوعا، أكولا شروبا، مختالا سمينا، قصيرا بطينا، متكبرا على الخلق، معرضا عن الحق، إذا سمع آيات الله تتلى ولى مستكبر، كأن لم يسمعها، يستنكف أن يكون لله عبدا، وبوحدته مقرا، ولرسوله متبعا، ويتعالى بما لا يعليه، ويستكبر بما ليس فيه- من كان كذلك فهو إلى الله بغيض إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ «5» مأواه الجحيم، ومسكنه السعير، وإن كان ضخما بدينا، وجبارا عنيدا إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ- ثقب الإبرة- وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ. وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «6» . فلا تغتر أخي بقوتك. وتسخّرها في التجبر على الضعفاء الذين يحملون نفوسا عظيمة. وقلوبا رحيمة. فإنهم عباد الله المقربون. وجنده المخلصون لا يرد عليهم دعاء، ولا يخيب لهم رجاء إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «7» . 58- باب: حرمة الخصام والهجر عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ لرجل أن يجهر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان. فيعرض هذا، ويعرض هذا؛ وخيرهما

_ (1) سورة القصص، الآية: 5. (2) سورة المؤمنون، الآيتان: 10، 11. (3) لدودا: لدّ فلان: شدد خصومته. (4) فظّا: الجافي المسيء. (5) سورة النحل، الآية: 23. (6) سورة الأعراف، الآيتان: 40، 41. (7) سورة النحل، الآية: 128.

اللغة:

الذي يبدأ بالسّلام» ، [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الهجر: ضد الوصل، فالمراد به الترك قولا أو فعلا. وفسرها هنا بترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا. الشرح: المؤمن لأخيه المؤمن ودود متودد، آلف متألف، محب متحبب لا يعرف الهجر والعداء، والنفور والخصام، لأن ذلك يضعف المنة، ويوجب الفرقة، ويمزق الوحدة، من أجل هذا حرّم الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنسان أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، معها أيامها، يلقى أحدهما الآخر، فينأى عنه بجانبه، ويلوي الآخر عنقه. لا ينبسان «2» بكلام، ولا يتبادلان السلام، وقد دل الحديث بمفهومه على حل الهجر ثلاثا، رفقا بالناس، ورحمة بهم، ذلك أن الهجر أثر غضب ونفور، وللغضب ثورة وسلطان وحدّة، يصعب التغلب عليها أول الأمر، فرخص للشخص في ثلاث، حتى تهدأ نار الغضب أو تخمد، ويضعف أثره أو يذهب. أما ما زاد عليها فحرام ما لم يكن في الهجر مصلحة راجحة، فإذا خاف على دينه الفساد أو خشي الضرر على نفسه أو دنياه من المكالمة جاز له الهجر، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية، ولذلك أمرنا الله به في تأديب الزوجات في قوله: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا «3» ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر والهجر الجميل في قوله: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «4» ، وهجر صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يوما لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، وأمر أصحابه بهجرانهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا ألاملجأ من الله إلا إليه، وهجر صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وتهاجر جماعة من الصحابة، ومدار البحث أنه إذا كان في الهجر مصلحة تفوق ضرره جاز، وإن زاد على ثلاث.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل ... » (6077) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (6478) . (2) ينبسّان: نبس: تحركت شفتان بشيء. (3) سورة النساء، الآية: 34. (4) سورة المزمل، الآية: 10.

وقد أفاد الحديث أن إثم الهجر يزول بتبادل التحية، وأن خير المتهاجرين من يبدأ بالسلام، فله ثواب السبق، وكبح «1» جماح «2» النفس، فإن لم يرد عليه الآخر باء بالإثم. وقال الإمام أحمد: لا يزول الهجر بمجرد التحية بل لا بد من رجوع الحال إلى ما كانت عليه قبل الخصام. وفي هذا الباب قصة لعائشة «مع ابن أختها عبد الله بن الزبير استشكلها العلماء فنذكرها لما فيها من الأدب الجم، ونعقبها بالجواب عنها. روى البخاري عن عائشة: أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا نعم، قالت: هو لله عليّ نذر ألا أكلم ابن الزبير أبدا. فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت: لا. والله لا أشفع فيه أبدا. ولا أحنث في نذري. فلما طال ذاك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي- هي خالته ومربيته- فأقبل به المسور وعبد الرحمن وهما مشتملين بأرديتها، حتى استأذنا على عائشة. فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها، إلا ما كلمته، وقبلت منه. ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجر. وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتذكير بفضل صلة الرحم العفو وكظم الغيظ- والتحريج: التضييق- طفقت تذكرهما. وتبكي. وتقول: إني نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمات ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، كانت تذكر نذرها بعد ذلك. فتبكي حتى تبل دموعها خمارها» «3» .

_ (1) كبح: كبح فلانا عن حاجته: ردّه عنه. (2) جماح: جمح الرجل: ركب هواه فلا يمكن ردّه. (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل ... » (6073) .

59 - باب: الصدق والكذب وأثرهما

والاستشكال للقصة من جهتين: الأولى: أن نذرها من قبيل نذر المعصية وهو لا ينعقد. والثانية: أنه ما كان ينبغي لأم المؤمنين أن تهجر الهجر المحرم والجواب عن ذلك أن عائشة رأت أن ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله: لأحجرن «1» عليها. فإن فيه انتقاصا لقدرها، ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين، وخالته أخت أمه، ولم يكن أحد عندها في منزلته. فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه، عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء «2» بالمنافقين لحقارتهم. فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة، وأنها رأت الهجر من النوع المأذون فيه، فنذرته، وكفّرت عنه لما لم تف به بمكالمتها ابن الزبير. وانظر هذا الأدب العالي من الصحابة مع أم المؤمنين وكيف كان حرصهم على مرضاتها، وانظر حرصها على الوفاء بنذرها، وكيف بكت لما فاتها وكيف سخت نفسها بأربعين رقبة حررتها كفارة عن نذرها، ثم ما برحت تبكي بعد ذلك بكاء شديدا على نذرها؛ أن لم تف به! هكذا يكون الحرص على شرائع الدّين واحترام أمهات المؤمنين. 59- باب: الصدق والكذب وأثرهما عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق، ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب

_ (1) لأحجرن: حجّر الشيء ضيقه. (2) ازدراء: ازدراه: حقّره وعابه.

اللغة:

يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب، ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي «1» ] . اللغة: قال الراغب في كتابه (مفردات القرآن) : أصل الصدق والكذب في القول، ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالإستفهام والطلب، والصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه. فإن انخرم «2» شرط لم يكن صدقا. بل إما أن يكون كذبا، أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال. صدق لكون المخبر عنه كذلك. ويصح أن يقال: كذب لمخالفة قوله لضميره. والصديق: من كثر منه الصدق. وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو: صدق ظني. وفي الفعل نحو صدق في القتال. ومنه: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» ، هذا ما قال الراغب. وقال الجمهور: الصدق: ما طابق الواقع. والكذب: ما خالفه وقال آخرون: الصدق ما طابق الاعتقاد والكذب ما خالفه. والهداية: الدلالة الموصلة إلى المطلوب. والبر: التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها. ويطلق على العمل الخالص الدائم. والجنة في الأصل: المرة من جنه يجنه إذا ستره، وتطلق على الحديقة ذات النخل والشجر لأنها تجن ما تحتها، وتستره بظلها، وتحري الشيء: تعمده وقصده. والفجور: شق ستر الدّيانة ويطلق على الميل إلى الفساد. وعلى الإنبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشر. وأصل الفجر الشق الواسع. الشرح: الصدق فضيلة الفضائل. وأنس الخلائق يقوم عليه نظام الاجتماع

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (6094) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (6582) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التشديد في الكذب (4989) . ورواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الصدق والكذب (1971) . (2) انخرم: نقص. (3) سورة الصافات، الآية: 105.

وترتيب الأمور، وسيرها السير الحميد، وإنه ليعلي صاحبه عند الناس جميعا فيجعله موضع ثقتهم، مرغوب الحديث عندهم، محبوبا إليهم، محترم الكلمة عند حكامهم، مقبول الشهادة عند قضاتهم، لهذا أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أمرنا القرآن في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «1» ، وأشاد بمكانته في حديثه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب إذ يقول: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا «2» ، ومدح به إسماعيل في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا «3» ، وإدريس في قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «4» . والصدق يكون في القول وفي العقيدة، وفي العمل. فالصدق في القول أن يكون مطابقا لضميره، أو وفق الحقيقة، أو وفقهما معا، وهذا يدعوك إلى التثبت في الحديث، والتحري قبله. وألا تقول بغير علم فإذا حدّثت عن الماضي فقل الحق. وإذا حدّثت بما نويته فاجعل حديثك طبق نيتك. وإذا وعدت فاجعل نية الوفاء قرينة العزم. ولا تستفهم عن أمر وأنت به عليم لتغرر بالسامعين لحاجة في نفسك ولا تطلب من خادمك طلبا وقد أشرت إليه بعدم الإجابة؛ أو نبهته إلى ذلك من قبل. والصدق في العقيدة أن تكون طبق الأصل في الوجود. ففي الوجود إله واحد فعّال؛ يحكم ما يريد؛ ويبدىء ويعيد؛ فلا تعتقد له في ذلك ندا «5» وشريكا وفي الوجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقد رسالته، وفي الوجود ظلم أمة أو عدالتها فاعتقد ما شهد به الوجود؛ وهكذا. والصدق في العقيدة يستدعي أولا بحثها؛ وطلب الدليل عليها من الحسيات أو العقليات، ونفي الشبهات عنها. والصدق في الفعل أن يكون مظهره في الخارج طبق صورته في النفس، فيكون خالصا لله؛ تبغي به المصلحة؛ لا يشوبه نفاق ولا رياء، ولا تريد الوصول به إلى غرض دنيء، كالذي يزور عظيما؛ مظهرا تودّده إليه، ومحبته له، وهو يريد من وراء ذلك منفعة شخصية. وكالذي يجاهد مداراة ومجاراة؛ أو طمعا في مركز أو جاه. فكل ما تقدم يشمله عنوان

_ (1) سورة التوبة، الآية: 119. (2) سورة مريم، الآية: 50. (3) سورة مريم، الآية: 54. (4) سورة مريم، الآيتان: 56، 57. (5) نّدا: الند: المثل والنظير.

الصدق، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يهدي إلى البر، ويرشد إلى التوسع في الخير، ذلك أنه منبت الفضائل، وجذع شجرتها، ومتفرع غصونها. وهل الإيمان بالله. والتصديق برسله ووحيه. إلا شعبة من الصدق؛ فالصادق موفق للخيرات، مقيم للمبرات «1» ، والبر طريق الجنة، بل مفتاحها الذي لا تفتح بغيره: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرائِكِ- الأسرة- يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ- بهجه ورونقه- يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ- شراب خالص- مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «2» . وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث مسألة من أهم مسائل الأخلاق وهي طريقة تربية الخلق وتكوينه. وتقويته في النفس وتثبيته. وجعله في صف الطبائع. ذلك أن يتحرى الإنسان القول الجميل. أو الصنع المجيد، ويعمله المرة بعد المرة، والرابعة تلو الثالثة، والسادسة بعد الخامسة، حتى يؤثر في نفسه أثرا، ويتخذ منها مجرى، يزداد تعمقا كلما تابع العمل. فإذا بذلك الأثر الخلق والفضيلة، التي تصدر عنها الأعمال الطيبة بسهولة، فمن رغب أن يكون الصدق شيمته «3» وخلقه، وديدنه وطبعه، فليتحر الصدق في أقواله وأعماله. وليتابع ذلك، فإذا بالصدق خلقه، وإذا به الصدّيق. ومن رغب أن يكون الشجاع المقدام، والبطل المغوار «4» ، فليخض غمار «5» الشدائد كلما دعته، وليناضل الخطوب «6» كلما داهمته، فإذا بالشجاعة خلقه. ومن أراد نفسه على الكرم فليبذل من ماله كلما أهاب به داعي الإحسان فإذا به الجواد الكريم. ومعنى كتابة الله من تحري الصدق وتعوده صديقا ضبط ذلك في سجله وحسابه في زمرة الصديقين. وإعلان ذلك في الملأ الأعلى. فرحا به. ورفعا لذكره والوحي إلى قلوب العباد بذلك ليحترموه ويجلوه. ويوقّروه ويكبروه.

_ (1) للمبرات: برّ فلان ربه: توسع في طاعته فهو بار. (2) سورة المطففين، الآيات: 22- 26. (3) شميته: الشّمية: الخلق ج شيم. (4) المغوار: من الرجال: المقاتل الكثير الغارات على أعدائه. (5) غمار: ج الغمرة: الشدة. (6) الخطوب: ج الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب.

وكما أن الصدق أسّ الفضائل فإن الكذب أسّ الرذائل، به يتصدع «1» بنيان المجتمع، ويختل سير الأمور، ويسقط خدنه «2» من العيون، لا يصدقونه في قول ولا يثقون به في عمل. ولا يحبون له مجلسا. أحاديثه منبوذة، وشهادته مردودة لذلك نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي القرآن كثير من الآيات. المقبّحة للكذب، المنفّرة منه: المتوعدة عليه بالعذاب الشديد وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» . إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ «4» ، والكذب إنما يجري مجرى الصدق. فيكون في القول، والعقيدة، والعمل فقول ما لا يطابق الضمير أو الواقع أو هما معا، أو لا يوافق النية كذب. وإعتقاد ما لا يساير الوجود كذب، والرياء في الأعمال وإلباسها لباسا غير لباسها النفسي كذب. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكذب يهدي إلى الفجور، ويبعث إلى الشر. ويهتك ستر الديانة، فإذا بصاحبه مرتطم «5» في المعاصي: متهالك عليها «6» ، وهل الشرك واتخاذ الند الذي هو أكبر جريمة إلا كذب، وهل النفاق الذي هو شر من الكفر الصريح إلا كذب، وكذلك الغش في المعاملة، ونية الإخلاف في المواعيد والمراآة في الأعمال كلها من ضروب الكذب، وبين صلى الله عليه وسلم أن الفجور يهدي إلى النار، ويرمي بصاحبه إلى الدرك الأسفل وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ «7» ، وكما أن الأعمال الحميدة. بتحريها وتعودها تتكون الأخلاق العالية، التي هي مصدر الخيرات، كذلك الأعمال السيئة إذا تحراها الإنسان وتعودها. وضري بها كونت في نفسه الأخلاق السيئة. التي هي مصدر الشرور والآثام. فمن سمح لنفسه بكذبة مرة. وأتبعها بأخرى. وعززها بثالثة. فرابعة. وهكذا أصبح الكذب خلقا له، وصار الكذاب المهين. فلتجنبها نفسك وإلا تصبح خلقك أو طبعك، دع المحارم، وإن

_ (1) يتصدّع: تصدّع القوم: تفرقوا. (2) خدنه: الخدن: الصديق. (3) سورة النحل، الآيتان: 116، 117. (4) سورة النحل، الآية: 105. (5) مرتطم في المعاصي: واقع في المعاصي. (6) تهالك عليها: شديد الحرص عليها. (7) سورة الانفطار، الآيتان: 14، 15.

60 - باب: ضبط النفس

وقعت في شيء منها فبادر إلى التوبة، وحذار العودة والتكرار، فتكون من الهالكين، وكتابة الله- متعود الكذب كذابا تدوين ذلك في صحيفته السوداء، وحسبانه من حزب الكاذبين المنافقين، والتشهير به في الملأ الأعلى، وإلهام النفوس أن تمجه وتحتقره، وتزدريه «1» وتمقته «2» ، فإذا به بين الناس الطريد المهين، الكريه البغيض. فالتزم أخي نهج الصدق لتكون الصديق ذا المكانة العالية بين الناس، والدرجة الرفيعة عند الله، ولا تغش الكذب حتى لا تكون الفاجر الأثيم، والكذاب المهين واجعل صحيفتك بيضاء نقية، ومكانتك في المقربين عليّة. 60- باب: ضبط النفس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود «3» ] . اللغة: الصرعة: المبالغ في الصراع الذي لا يغلب، فهو صيغة مبالغة من الصرع؛ وهو الطرح على الأرض. الشرح: بين الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الشديد ليس الذي يصرع الناس ولا يصرعونه، ويطرحهم على الأرض ولا يطرحونه، وإنما الشديد حقا الذي يملك نفسه عند ثوران الغضب، فيقهرها بحلمه، ويصرعها بثباته، ولا يمكنها من أن تسترسل مع تيار الغضب، فتشتم وتسب، وتضرب وتقتل، وتخرج عن سنن الاعتدال في أقوالها وأفعالها، تلبية لداعي الانتقام ممن أثار حفيظتها، وإنما كان الشديد بحق من ملك نفسه عند الغضب لأن النفس الأمارة بالسوء شر خصوم الإنسان، وأعدى أعدائه لأنها

_ (1) تزدريه: تحقّره وتعيبه. (2) تمقته: تبغضه أشد البغض. (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الحذر من الغضب (6114) . ورواه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب ... (6586) . ورواه أبو داود في كتاب، الأدب باب: من كظم غيظا (4779) بنحوه.

61 - باب: الحياء وأثره

تدفع به إلى المعاطب «1» . فإذا ملك زمامها ولم تملكه: قهر أقوى خصومه. فكان أشد بأسا من الصرعة. واعلم أن الغضب غريزة في الإنسان كامنة يثيرها اعتداء على حق. أو انتهاك لحرمة. وهو إذا ثار احمر منه الوجه والعينان، وانتفخت الأوداج «2» لثوران الدم، والمرء إذا جاراه، فاندفع في الانتقام أراده. فالواجب مجاهدة النفس في هذه الحال. ومنعها مما أرادت فإن ظفر بها فذلك الجندي الباسل الذي صرع أشد أعدائه بأسا. وضبط النفس هو الفضيلة التي علا بها العظماء. ومكن بها لمجدهم القادة والزعماء. وهي أس الإحسان في الفكرة، ووزن الأقوال بميزان الحكمة. وصدور الأعمال وفق المصلحة، وهي تجعل صاحبها الثبت الرزين «3» . القرم «4» الرصين «5» ذا النفس المطمئنة. والأخلاق الهادئة. وإنها لتحمي الإنسان من الطيش والنزق والهلع «6» والفرق. وتدعو إلى احترامه وإجلاله. وتوقيره وإكباره فاملك زمام نفسك عند الغضب تكن أشجع الناس. 61- باب: الحياء وأثره عن عمران بن حصين قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلّا بخير» . [رواه البخاري ومسلم «7» وأحمد] . اللغة: اختلفت العبارة في الإعراب عن معنى الحياء: فقيل: هو خلق يبعث على فعل الحسن. وترك القبيح. وقيل: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره،

_ (1) المعاطب: الهالك. (2) الأوداج: ج الودج وهو الوداج: عرق في العنق، وهو الذي يقطعه الذابح فلا تبقى معه حياة. (3) الرزين: الحليم الوقود. (4) القرم من الرجال: السيد المعظم والمكرّم. (5) الرّصين: رصن رصانة: ثبت واستحكم. (6) الهلع: الجزع الشديد. (7) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الحياء (6117) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان (155) .

الشرح:

وقيل: خوف الذم بنسبة الشر إليه، وقال الزمخشري: هو تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، واشتقاقه من الحياة يقال حي الرجل كما يقال: نسي وحشي وشظي الفرس إذا اعتلّت هذه الأعضاء- النساء وهو عرق، والحشى وهو ما دون الحجاب مما في البطن؛ والشظى وهو عظم مستدق لازق بالركبة أو بالذراع أو عصب صغار فيه- جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير متنكس القوة، منتقص الحياة كما يقال: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء وجمد في مكانه خجلا. وقال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي. فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحيي فاسقا. وقلما يكون الشجاع مستحيا. وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان. اه. الشرح: إذا كان الحياء تغيرا نفسيا، وخلقا باطنيا. يحول بين المرء والقبائح أو يمنعه من عمل ما يعاب به ويذم. أو ينقد عليه ويعنف- كان لا شك خلقا محمودا. لا ينتج إلا خيرا. فالذي يمر بخياله فعل الفاحشة. فيمنعه حياؤه من اجتراحها «1» أو يسبه شخص فيمنعه الحياء من مقابلة السيئة بمثلها، أو يسأله سائل، فيحول حياؤه دون حرمانه، أو تقابله فتاة جميلة فيغض الحياء بصره. أو يستبرئه مدين معسر من دينه، فيأبى عليه حياؤه إلا الإبراء. أو يضمه مجلس، فيمسك الحياء بلسانه عن الكلام فيما لا يعنيه، أو الخوض فيما لا يجيده والذي يكون للحياء في نفسه هذه الآثار الحسنة. والأعمال الطيبة ذو خلق محمود. وفي حديث عبد الله بن عمر عند البخاري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه، فإن الحياء من الإيمان» «2» ، وأعلى درجات الحياء ما كان ناشئا عن الشعور برقابة الله. وعظم حقه عليه. فإن هذا يقيم المرء على صراط الحق. لا يلتوي عنه يمنة أو يسرة. وفي حديث عبد الله بن مسعود عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استحيوا من الله

_ (1) اجتراحها: ارتكابها. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الحياء (6118) .

حق الحياء» ، قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: «ليس ذلك. ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى- كالسمع والبصر واللسان- والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا- لم يفتتن بها حتى تشغله عن الواجبات- وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» ، وعن بعض السلف. رأيت المعاصي مذلة فتركتها مروءة. فصارت ديانة، وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه. فيستحي العاقل أو يستعين بها على معصية. وليس من أثر الحياء قعودك عن مواجهة من يرتكب إثما، ونهيه عن ذنبه، ولا عدم مطالبتك بحق أنت في حاجة إليه. ولا تركك السؤال لأستاذك عن مسألة خفيت عليك، أو ترى فيها غير ما يرى، خجلا منه أو من إخوانك أو خشية أن تكون مخطئا في رأيك، ولا تركك القول في مجلس رفع الباطل فيه أو الخطأ رأسه. وأنت بالحق والصواب عليم كل ذلك وأشباهه ليس من أثر الحياء المحمود؛ إنما ذلك أثر العجز والمهانة، والجبن والحقارة، وإطلاق الحياء عليه للشبه بينه وبين الحياء الحقيقي. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد حياء من الكبر في خدرها «1» ، وما ترك النهي عن المنكر، ولا أقر باطلا، ولا سكت على خطأ، وفي الصحيح عن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن، وأن يتفقهن في الدين. وروى البخاري عن أم سلمة أنها قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق؛ فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال: «نعم إذا رأت الماء» «2» . وروي أيضا عن أنس قال: «جاءت امرأة إلي النبي صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها؛ فقالت: هل لك حاجة فيّ؟ (تريد الزواج به) فقالت ابنته: ما أقل حياءها فقال: «هي خير منك. عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها» «3» .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الحياء (6119) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما لا يستحيا من الحق للتفقه في الدين (6121) . (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما لا يستحيا من الحق للتفقه في الدين (6123) .

62 - باب: مفاسد من حرموا الحياء

62- باب: مفاسد من حرموا الحياء عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه «1» ] . اللغة: النبوة: سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده لإزاحة علتهم في أمر معادهم ومعاشهم. وحيي، واستحي واستحيا بمعنى واحد، والأخير أعلى وأكثر وقد قدمنا في الحديث السابق شرح الحياء. الشرح: من يوم أن خلق الله الإنسان وجدّ النزاع «2» بين بنيه بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، فكان فيه الحكم البالغة، والنصائح القيّمة، وكان منها ما سار في الناس مسير الأمثال، فبقي على ممر الحقوب «3» والأجيال، ومن ذلك «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ، أي إذا لم يكن لدى المرء حياء يحول بينه وبين الشرور، ويجنبه غشيان الزور، فليفعل ما بدا له من خير أو شر، حق أو باطل، طيب أو خبيث، معروف أو منكر يجرّ إليه الذم والملام، والعيب والعار، أم لا يجر، فإن الله تعالى محص عليه ما يصنع، مقيد ما يعمل، وسيجزيه الجزاء العادل على ما كسبت يداه، فالأمر في العبارة للتوبيخ والتهديد، وفيه إشعار بأن الحياء هو الذي يحول بين المرء ومواقعة السوء «4» . وأن من حرمه هوى في بؤرة الفساد لا محالة، حتى كأنه مأمور بارتكاب كل ضلالة، ومقارفة كل سيئة، وقيل: إن الأمر هنا للإباحة، وأن معنى العبارة: إذا كنت في فعلك آمنا من أن تستحي منه لجريانك فيه على سنن الصواب فاصنع ما بدا لك. لا حرج فيه عليك، والمعنى الأول هو المتبادر إلى الفهم.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت (6120) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحياء (4797) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: الحياء (4183) . (2) جد النزاع: عظم. (3) الحقوب: جمع حقبة، مدة غير محددة. (4) مواقعة السوء: الاقتراب منه واقترافه.

63 - باب: حذر المؤمن

نرى في هذا العالم شرارا لئاما، وفسقة فجارا، يعتدون على الحرمات، فيسفكون الدماء، ويسلبون الأموال، ويهتكون الأعراض لا يقدسون حقا، ولا يحترمون رأيا، تقرع آذانهم قوارع الناصحين، وعظات المخلصين، وكأن لم تكن قارعة، وكأن لم يسمعوا عظة. في سبيل المحافظة على جاههم، وبقاء سلطانهم يجترحون «1» كل فاحشة، ويقترفون كل مظلمة، وتخنق الحريات وتصدع الجماعات، ثم يعجب صوافي النفوس، وطهرة القلوب: كيف لا ترعوي هذه عن غيها؟ أليس لها قلب؟ أليس فيها عاطفة؟ أليس فيها من الإنسانية بقية؟ ولو سمعوا هذه الكلمة الخالدة. وفقهوا هذه الحكمة البالغة لعرفوا السبب، وبطل العجب. ذلك أنهم فقدوا خلق الحياء، فصنعوا ما شاؤا. واقترفوا ما أرادوا وإن كان في ذلك هلاك العباد وخراب البلاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «2» . 63- باب: حذر المؤمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين» . [رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه «3» ] . اللغة: اللدغ: ما يكون من ذوات السموم. واللدغ: ما يكون من النار. الشرح: سبب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الشاعر يوم بدر، فذكر له فقره وعياله، فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه، فلحق بقومه، ثم رجع إلى التحريض والهجاء ثم أسر يوم أحد، فسأله المن. فقال: لا. تمسح عارضيك بمكة تقول: «سخرت بمحمد مرتين» ؟ وأمر به فقتل وقال: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .

_ (1) يجترحون: يرتكبون. (2) سورة الرعد، الآية: 33. (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (6133) . ورواه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (7423) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الحذر من الناس (4862) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: العزلة (3982) .

والحديث ورد بصيغة الخبر (برفع يلدغ) وبصيغة النهي (بكسر يلدغ) ، فعلى الأول هو إخبار في معنى الأمر أي ليكن المؤمن حازما حذرا. كيسا فطنا لا يؤتى من ناحية الغافلة. فيلدغ مرة بعد أخرى في أمر الدّين أو الدنيا. أو هو إخبار عن شأن المؤمن الكامل الذي أوقفته تجاربه على غوامض الأمور. وأنه دائما يعتبر في المستقبل بحوادث الماضي؛ وأما المؤمن المغافل «1» فقد يلدغ مرارا؛ وعلى أنه نهي فمعناه ما قال شارح المشكاة: إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الكريمة الميل إلى الحلم والعفو عن أبي عزة جرّد منها مؤمنا كاملا؛ حازما ذا شهامة، ونهاه عن الانخداع، وكأنه قال له: ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله، ويذب عن دينه أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى. فانته عن حديث الحلم؛ وامض لشأنك في الانتقام منه والانتصار من عدو الله: فإن مقام الغضب لله يأبى الحلم والعفو؛ ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله؛ فينتقم لها؛ وقد ظهر من هذا أن الحلم مطلقا غير محمود كما أن الحرد «2» كذلك. فمقام التحلم مندوب إليه ولكن مع المؤمنين، وأما الأعداء فلهم الغلظة، ألا ترى قوله تعالى في وصف الصحابة: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» . ولعلك عرفت بهذا أن الإيمان لا يتفق والغافلة، بل يقتضي الحذر والحيطة «4» . وأن أولئك الذين يضحك عليهم، ولا يتعظون بالماضي، ولا يستفيدون من التجارب لم يكمل الإيمان بعد في نفوسهم. وإن كانوا قائمين برسوم العبادة. فالمؤمن كيس حذر، من خلقه الاعتبار بكل بلاء. ولعلّ مستمد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى حكاية عن يعقوب هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ «5» ، وقوله تعالى في وصف المنافقين أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ «6» .

_ (1) أي من لا فطنة له. (2) الحرد: الاعتزال والتنحي عن الناس. (3) سورة الفتح، الآية: 29. (4) الحيطة: الاحتياط. (5) سورة يوسف، الآية: 64. (6) سورة التوبة، الآية: 126.

64 - باب: التشهير بالغادر

64- باب: التشهير بالغادر عن عبد الله بن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الغادر يرفع له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» . [رواه الشيخان «1» ] . اللغة: الغدر: الإخلال بالشيء وتركه. ويقال: لترك العهد وعدم الوفاء به. واللواء: العلم والراية. ولا يمسكها إلا صاحب الجيش. الشرح: قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» ، وقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا «3» ، وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ «4» . المؤمن صادق القول، وفي العهد، ليس الغدر من شيمته لأنه يخل بنظام الحياة، ويفسد على المرء تدبيره لمصلحته؛ وهو ضرب «5» من الكذب. والكذب رأس النفاق. وإضرار بمن عاهده. ولا ضرر ولا ضرار. وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغادر يشهر به على رؤوس الأشهاد يوم القيامة حيث العالم كله مجتمع، فينصب له لواء، ويرفع له علم في الموقف بحيث تراه العيون. ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان؛ تشنيعا «6» عليه وتقبيحا وتوبيخا له وتعذيبا؛ وتصور أنك في حفلة جامعة. وأنك بين يدي مليك؛ ثم نادى مناد هذا فلان المجرم؛ هذا الذي غدر؛ هذا الذي كذب؛ ألا تكاد تصعق «7» من هذه النسبة، فإن كانت كاذبة فما بالك بها وإن كانت صادقة؟ فإذا كان هذا هو الأثر في مجتمعاتنا

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يدعى الناس بأبائهم (6177) . ورواه مسلم في كتاب: الجهاد، باب: تحريم الغدر (4504) . (2) سورة المائدة، الآية: 1. (3) سورة الإسراء، الآية: 34. (4) سورة النحل، الآية: 91. (5) ضرب: صنف ونوع. (6) تشنيعا: شنع فلانا: عابه وفضحه. (7) تصعق: صعق الرجل: غشي عليه وهلك.

65 - باب: السلام ومن يبدأ به

الخاصة فما بالك بالمحشر العام الذي لا تدع مخلوقا من يوم أن كان آدم عليه السلام إلى أن ورث الله الأرض ومن عليها إلا ضمه ذلك الموقف الذي يتجلى فيه رب العالمين ويحاسب كل إنسان على الصغير والكبير؛ لا شك أن العذاب مبرح «1» ، والهول مفزع؛ إذ تقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ وهذا اللواء المرفوع قد يكون لواء حقيقيا؛ فيه رمز لصاحبه، وإشارة إلى غدرته، وقد يكون الغرض إشهار الغدرة من غير ملاحظة أن يكون هناك لواء مرفوع. والغرض من الحديث التنفير من الغدر، وبيان أنه جريمة كبيرة، وأن صاحبه عند الله مهين وعذابه أليم. 65- باب: السلام ومن يبدأ به عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يسلّم الرّاكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . [رواه البخاري ومسلم «2» ] . السلام: تحية مباركة سنّها الله للمسلمين. قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً «3» . وهذا الحديث بين لنا الأحق ببدء السلام. فأولا: الراكب يسلم على الماشي ، لأن الغرض من السلام استجلاب المودة، ودفع النفرة، وتالف القلوب، والراكب أحسن حالا من الماشي، فالبدء من جهته دليل على تواضعه لأخيه المسلم في حال رفعته، فكان ذلك أجلب لمحبته ومودته، وحكمة أخرى أن السلام تحية الوارد على غيره. والراكب أسرع في السير من الماشي في الأكثر، فكان الوارد عليه فندب له الإبتداء بالسلام. وإذا تلاقى راكبان أو ماشيان فأيهما أحسن حالا بدأ أخاه. فإن تساويا بدأ أيهما شاء. وللبادىء فضل على غيره.

_ (1) مبرح: البرح: الشدة والعذاب الشديد والأذى. (2) رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب: يسلم الراكب على الماشي (6232) . ورواه مسلم في كتاب السلام باب؛ يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (5611) . (3) سورة النور، الآية: 61.

ثانيا: الماشي يسلم على القاعد

ثانيا: الماشي يسلّم على القاعد لأن السلام تحية الوارد عرفا «1» ووضعا. والوارد هنا هو الماشي. ثم إن القاعد قد يتوقع الشر من القادم عليه. فإذا بدأه بالسلام أزال الخوف عنه. وحكمة ثالثة: أن القاعد قد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم: فسقطت البداءة عنه دفعا للمشقة. وثالثا: القليل يسلم على الكثير . ولعل الحكمة في ذلك أنه إذا بدأ الكثير بالسلام على القليل خيف على هذا أن يداخله شيء من الكبر لسلام الكثير عليه. ومن جهة أخرى العدد القليل أسرع مشيا من الجمع الكثير في الغالب. فكان كالوارد عليه والسلام تحية الوارد. ومن جهة ثالثة بدء القليل أيسر كلفة فكان أولى. هذا وقد ذكر بعض العلماء أن من مشي في الشوارع المطروقة كالسوق لا يسلم إلا على بعض من يلقاه. لأنه لو سلم على كلهم تشاغل على قضاء مهمته. التي خرج لأجلها وخرج عن العرف المألوف. والمؤمن حكيم يلبس لكل حال لبوسها. 66- باب: في استعمال الذهب والفضة والحرير، وإبرار القسم إلخ عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا باتّباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الدّاعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم أو المقسم، وردّ السّلام» . في رواية «وإفشاء السّلام بدل ردّه وتشميت العاطس؛ ونهانا عن آنية الفضّة، وخاتم الذّهب، والحرير، والدّيباج، والقسّي والإستبرق، والميثرة الحمراء» . [رواه البخاري في جملة أبواب من صحيحه. ورواه مسلم في كتاب اللباس والزينة. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه «2» وغيرهم.]

_ (1) العرف: ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم. (2) رواه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: إفشاء السلام (6235) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على-

اللغة:

اللغة: الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها وهي النعش فيه الميت وقيل. بالكسر النعش، وبالفتح الميت، والعيادة: الزيارة، وبر القسم وإبراره تصديقه، والإفشاء: النشر والإكثار، والعطاس: اندفاع الهواء من الأنف بعزم مع صوت يسمع، والتشميت: كالتسميت الدعاء بالخير والبركة يقال: شمت فلانا وشمت عليه تشميتا، فهو مشمت، واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعا للعاطس بالثبات على طاعة الله، وقيل: معناه أبعدك الله من الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك؛ وقيل: أصله التسميت. فمعنى سمته دعا له بالهدى، وقصد السمت أي الطريق. والآنية: جمع إناء وهو الوعاء، والديباج: الثوب المتخذ من الإبريسم؛ وبعبارة أخرى: الثوب الذي سداه ولحمته حرير؛ والقسّي: ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على شاطىء البحر يقال لها: القس قريبة من تنيس. وبعض المحدثين يكسر قافها؛ وقيل: أصل القسي القزي منسوب إلى القز. وهو ضرب من الإبريسم. فأبدلت الزاي سينا، وقيل: إنه منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، والإستبرق: غليظ الديباج. والميثرة: وطاء كانت النساء تضعه على السروج لأزواجهن ويكون من الحرير والصوف ونحوهما، وقيل: غطاء للسرج من الحرير خاصة. قال أبو عبيد: المياثر من مراكب العجم تعمل من الديباج والحرير وقيل: إنها سروج من الديباج وقيل: هي شيء كالفراش الصغير تتخذ من الحرير وتحشى بالقطن أو الصوف يجعلها راكب البعير تحته على الرحل والميثرة مأخوذة من الوثارة. وهي: اللين والنعمة. الشرح: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أشياء. ونهى عن سبعة، ترجع إلى ثلاثة؛ وهي استعمال آنية الفضة، ولبس خاتم الذهب، واستعمال الحرير بسائر أنواعه، فجملة ما أمر به ونهى عنه في هذا الحديث عشرة؛ نفصلها لك فيما يأتي:

_ - الرجال والنساء وخاتم ... (5356) . ورواه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز (1938) . ورواه ابن ماجه في كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير (3589) وهو جزء صغير جدا من الحديث المذكور. ورواه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسي (2809) .

1 - اتباع الجنائز:

1- اتباع الجنائز: من الإكرام للمسلم. والوفاء له، والأداء لحقه، إذا ما فارق هذه الحياة أن نتبع جنازته، ونواري سوأته «1» . فنسير مع الجنازة، أمامها أو خلفها، يمينها أو شمالها، على مقربة منها ونصلي عليها ونواري جثته في قبرها ومستقرها، فنحسن بذلك إلى الميت إذا صنعنا معه ما نستطيع من معروف، من صحبة وصلاة. وحمل ومواراة، ودعاء واستغفار، ونحسن إلى أقربائه، إذ واسيناهم في مصابهم، وشاركناهم في تشييع فقيدهم. ونحسن إلى أنفسنا بثواب المسير وأجر الصلاة. وتذكرنا عن الحياة وعالم البقاء. والذكر عند ذوي القلوب الحية باعثة إلى الخيرات. منفرة عن السيئات وفي حديث أبي هريرة عند البخاري «من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل أحد (أي يرجع بثواب عظيم) ، ومن صلّى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط» «2» نصف أجر الأول. وقد قال العلماء. اتباع الجنائز سنّة لمن عرفنا ومن لم نعرف، الأقارب والأجانب في ذلك سواء. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباعها، ففي حديث أم عطية عند الشيخين «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» «3» . 2- عيادة المريض: وقد بسطنا القول في ذلك في الحديث (30) . 3- إجابة الداعي: في حديث عبد الله بن عمر عند الشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها» «4» ، وفي رواية لمسلم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه» «5» . الولائم تقام للنعم الحادثة من زواج أو رزق ولد، أو ختانة، أو نجاحه، أو شفاء، أو ادراك غاية، وتقام إكراما للإخوان والأصدقاء، وبرا بهم، وقضية الإيمان أن

_ (1) سوأته: السوأة: العورة. (2) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: من انتظر حتى تدفن (1325) ، بنحو آخر. (3) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: اتباع النساء الجنائز (1278) . ورواه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز (2164) . (4) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة ومن ... (5173) . ورواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (3495) . (5) رواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (3499) .

4 - نصر المظلوم:

تحب لأخيك ما تحب لنفسك والحب معنى نفسي، وشعور داخلي، تظهره الأعمال فإن أجبت أخاك إلى دعوته، وشاركته في مسرته، برهنت بعملك على حبك له، وأنّ ما حلّ به من النعم كأنما حل بك. وفي ذلك تأكيد العلاقات، وتوثيق الصلات. وإن رفضت الإجابة بلا عذر أحزنت نفسه وأوغرت صدره. وعرضت الصلة للقطع أو الضعف. بل ربما سبب ذلك عداء وخصاما. فلتقوية الصلات ومنع الحزازات أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعوة. فاجابتها واجبة. وبذلك قال الظاهرية. قال ابن حزم. إنه قول جمهور الصحابة والتابعين. ومن الفقهاء من فرق بين وليمة العرس وغيرها، فأوجبوا وليمة العرس دون غيرها بل صرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وقيل: إنها فرض كفاية. ويعجبني ما قاله الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس. وكل دعوة دعا إليها رجل وليمة. فلا أرخّص لأحد في تركها ولو تركها لم يتبين أنه عاص. كما تبين لي في وليمة العرس. والشيعة «1» لا يرون الوجوب في الولائم كلها. وقد سوغ الفقهاء ترك الإجابة لأعذار. منها أن يكون في الطعام شبهة. كأن يكون طعام حاكم ظالم لا يتورع عن أموال الناس، أو قيم على أيتام لا يعرف بالعفة. أو تاجر غشاش أو نحو ذلك. ومنها أن يخص بها الأغنياء كما يصنع أكثر الناس اليوم. أو أن يكون فيها من يتأذى بحضوره معه. أو يكون دعاه خوفا من شره أو طمعا في جاهه، أو ليعينه على باطل، أو يكون فيها منكر كشرب خمر، ورقص فتيات. وخلوة بالأجنبيات، أو تكون ذريعة إلى فساد، أو ما شاكل ذلك، وفي حديث جابر عند النسائي «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» . 4- نصر المظلوم: هو من فروض الكفاية، ومن جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب على من قدر عليه. ولم يخش ضررا؛ وقد بسطت الكلام فيه في الحديث (24) . 5- إبرار القسم: وهو من البر بالمؤمن. والإكرام له فإذا حلف لك شخص لتعطينه من مالك، أو لتساعدنه في قضاء حاجة من حاجته، أو لتعلّمنه مسألة، أو

_ (1) الشّيعة: فرقة كبيرة من المسلمين اجتمعوا على حب عليّ وآله وأحقّيتهم بالإمامة.

6 - إفشاء السلام ورده:

لتفتنيه في معضلة «1» ، أو لتعولن يتيما «2» ، فأبرّه في يمينه، وحقق رجاءه. وقد قال العلماء إنّ إبرار القسم سنة إذا لم يكن في ذلك مفسدة، أو خوف ضرر، فإن كل شيء من ذلك فلا إبرار، فمن حلف لتساعدنه على النكاية بفلان، أو اغتصاب ماله، أو استلاب حقه، أو لتشربن معه الخمر؛ وتأتين المنكر حرم عليك إبراره؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 6- إفشاء السلام ورده: السلام داعية المحبة، وآية الإخاء والألفة؛ وقد أمر به القرآن في عدة مواطن؛ وبين أنه تحية من عند الله مباركة طيبة فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً «3» ، وكان تحية إبراهيم وضيفه المكرمين لما دخلوا عليه قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ «4» ، وهو شعار أهل الجنة تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «5» ، والأمر بإفشائه ورده يدل على وجوبه ولكن حكى كثير من العلماء أن الابتداء به سنة؛ والرد واجب وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «6» ، فإن كان المسلم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلّم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم فإن كان المسلّم عليه واحد تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم فإذا ردّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين. وفي حديث علي عند أحمد والبيهقي «يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجماعة أن يرد أحدهم» ، وعن أبي يوسف أن الرد من الجميع واجب، وكما يسلم عند اللقاء يسلم عند الفراق، فليست الأولى بأحق من الآخرة، ولا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام لأنه شعار المسلمين، فإن بدؤنا به أجبناهم، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم «لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام» «7» ، وفي حديث

_ (1) معضلة: المسألة المشكلة التي لا يهتدى لوجهها. (2) لتعولنّ: تقوم بما يحتاج إليه من طعام وكساء وغيرهما. (3) سورة النور، الآية: 61. (4) سورة هود، الآية: 69. (5) سورة يونس، الآية: 10. (6) سورة النساء، الآية: 86. (7) رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (5626) .

7 - تشميت العاطس:

أنس في الصحيحين «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» «1» . وذهب طائفة إلى جواز بدئنا لهم بالسلام، وهو مروي عن ابن عباس وأبي أمامة وغيرهما، وهو رأي لبعض الشافعية محتجين بعموم الأحاديث الآمرة به وبإفشائه، وقال بعض الشافعية يكون ابتداؤهم بالسلام، ولا يحرم، وقد قال العلماء: إن كلمة السلام في التحية اسم من أسماء الله تعالى، فمعنى السلام عليكم: أنتم في حفظ الله ورعايته، كما يقال: الله معك، والله يصحبك، وقيل هي بمعنى السلامة، أي سلامة الله ملازمة لك، وقدمنا لك في الحديث السابق بعض مباحث السلام. 7- تشميت العاطس: تشميته الدعاء له كما قدمنا، وصيغته الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن العاطس إذا ما قال: الحمد لله قال له المشمت: يرحمك الله، فيجيبه العاطس: يهداكم الله ويصلح بالكم» «2» ، فإن لم يحمد الله فلا يشمت، روى البخاري عن أنس أن رجلين عطسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمت هذا، ولم تشمتني، قال: «إن هذا حمد الله، ولم تحمد الله» «3» ، وإنما يحمد العاطس شكرا لله على نعمة العطاس، الذي أذهب عنه الضرر فإنه يخرج الأبخرة المحتقنة في الدماغ، التي لو بقيت فيه أحدثت أدواء عسرة، وسلامة أعضائه والتئامها «4» بعد هذه الرجة الشديدة نعمة أخرى تستدعي الحمد. ولما كان الحمد طاعة لله كان من موجبات الرحمة، فدعا له بها المشمت. والعاطس كافأه بطلب الهداية له وإصلاح الحال. وقد قال العلماء: إن العاطس إذا لم يكن مسلما دعي له بالهداية دون الرحمة لما رواه أبو داود والترمذي عن أبي موسى قال: كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله. فيقول: «يهداكم الله ويصلح بالكم» «5» ،

_ (1) رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (5617) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: إذا عطس كيف يشمت (6224) . (3) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله (6225) . (4) التئامها: التأم الشيء: انضم والتصق. (5) رواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كيف يشمت الذمي (5038) . ورواه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاء كيف تشميت العاطس (2739) .

8 - آنية الفضة:

وقالوا: إذا زاد العطاس على ثلاث فلا تشميت، وإن ذلك لزكام فمتابعة التشميت فيه مشغلة للجليس. ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك روايات «1» لم تبلغ درجة الصحة. ولا مانع من أن يدعو للمزكوم بالشفاء والعافية. فإن ذلك من التراحم بين المسلمين، وإنه لحسن جميل. هذا والأمر بالتشميت يدل على وجوبه. ويؤيد ذلك حديث: «حق على كل مسلم سمعه أن يشمته» «2» . وحديث «خمس تجب للمسلم على المسلم: - وذكر منها التشميت» «3» وحديث: «حق على المسلم ست» ، وذكر فيها، «وإذا عطس فحمد الله فشمته» «4» . الأول في البخاري، والثالث في مسلم. والثاني فيهما. وقد قال بالوجوب بعض المالكية وجمهور أهل الظاهر، وقوى ذلك ابن القيم فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبلفظ على الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء، وذهب آخرون إلي أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة، وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب ويجزيء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض. اه. 8- آنية الفضة: جاءت أحاديث صحيحة في النهي عن الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة، والتوعد على ذلك بالعذاب، منها حديث حذيفة قال: سمعت رسول

_ (1) روى ذلك أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يشمت العاطس (5034) . وروى الترمذي في كتاب: الأدب، باب: ما جاءكم يشمت العاطس (2744) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب (6223) . (3) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز (1240) . ورواه مسلم في كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام (5615) . (4) رواه مسلم في كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام (5616) .

الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما» . (واحدتها صحفة وهي إناء يشبع الخمسة) ، «فإنها لهم في الدنيا. ولكم في الآخرة» ، رواه الشيخان «1» وغيرهما؛ ومنها حديث أم سلمة عند الشيخين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر- يصب- في بطنه نار جهنم» «2» . وفي رواية لمسلم «إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب أو الفضة ... » «3» إلخ. من أجل ذلك ذهب الفقهاء إلى تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة. لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء. إنما لهن التحلي بهما تزيّنا وتجمّلا، وليس الشرب والأكل من واديه، وذهب داود إلى تحريم الشرب فقط. ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل أو لم يثبت ذلك عنده، وقال جماعة بالكراهة دون التحريم، وقالوا: إن الأحاديث لمجرد التزهيد. ورد ذلك بالوعيد عليه في حديث أم سلمة المذكور، وشذت طائفة، فقالت بالإباحة مطلقا. والنص حجة عليهم، وألحق جماعة من الفقهاء أنواع الاستعمال الآخرى كالتطيب والتكحل بالأكل والشرب ولم يسلم بذلك المحققون، وفي حديث رواه أحمد وأبو داود: «عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا» «4» ، وجمهور الفقهاء على منع اتخاذ الأواني منهما بدون استعمال؛ ورخصت فيه طائفة، والفقهاء على جواز اتخاذ الأواني من الجواهر النفيسة وإن كانت أعلى قيمة من الذهب والفضة. ومنع ذلك بعضهم، ولا تنس في هذا الباب قاعدة أن الأصل في الأشياء الحل لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «5» ، فلا تحريم إلا بدليل، والذي نراه في حكمة التحريم أن ذلك مظنة الإسراف والخيلاء،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض (5426) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء و ... (5367) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة (5634) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الثوب وغيره ... (5353) . (3) رواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ... (5354) . (4) رواه أبو داود في كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في الذهب للنساء (4236) . (5) سورة البقرة، الآية: 29.

9 - التختم بالذهب:

والإسراف محرّم بنص القرآن يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «1» ، ولهذا نرى أن اتخاذ الجواهر النفيسة، بل تحلي النساء بالذهب والفضة إذا جاوز حد القصد حرام بهذه الآية، كما يحرّم الإسراف في الأكل والشرب. فإن لم يكن إسراف فلا حرمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «2» . وخير لنا من اتخاذ الذهب والفضة أواني أن نستثمرها في الأعمال الصناعية أو الزراعية، أو نتجر بهما! فننمي ثروتنا، ونعز أمتنا ونغنيها عن أموال الأجانب التي استعبدونا بها، وجعلونا أجراء أو عمالا لهم في ضياغنا وأملاكنا. 9- التختم بالذهب: النهي عن خاتم الذهب يدل على حرمته، وقد ورد التصريح بالحرمة في حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي. وحرم على ذكورها» «3» ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ولكن الحديث معلول، إذ في سنده سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى؛ وسعيد لم يلق أبا موسى ولم يسمع منه؛ وبالحرمة على الرجال قال الجمهور. وقال جماعة: بكراهة ذلك كراهة تنزيه. وقد لبسه جماعة من الصحابة، منهم سعد بن أبي وقاص. وطلحة بن عبد الله. وصهيب. وحذيفة وجابر بن سمرة. والبراء راوي حديثنا. وآخرون ولعلهم حسبوا أن النهي للتنزيه. وفي حديث عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب أو فضة. وجعل فصه مما يلي كفه ونقش فيه «محمد رسول الله» فاتخذ الناس مثله فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبدا؛ ثم اتخذ خاتما من فضة؛ فاتخذ الناس خواتيم الفضة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس «4» - بئر في حديقة قرب مسجد قباء بالمدينة- ومن هذا عرفت جواز التختم بالفضة.

_ (1) سورة الأعراف، الآية: 31. (2) سورة الأعراف، الآية: 32. (3) رواه النسائي في كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال (5163) . ورواه الترمذي في كتاب: اللباس، باب ما جاء في الحديد والذهب (1720) . (4) رواه أبو داود في كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في اتخاذ الخاتم (4218) .

10 - استعمال الحرير:

10- استعمال الحرير: حديثنا يدل على تحريم الحرير الخالص بأنواعه. بل على تحريم ما جمع في نسيجه بين الحرير وغيره إذا فسرنا القسي بما كان مصنوعا من كتان وحرير. وقد ورد في النهي عن لبس الحرير والجلوس عليه جملة أحاديث صحيحة. منها حديث عمر عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» «1» ، ومنها حديث عبد الله بن عمر عند الشيخين وأبي داود والنسائي وابن ماجة أن عمر رأى حلة من استبرق تباع. فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه. فتجمل بها للعيدين والوفود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذه لباس من لا خلاق له» ؛ ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بجبة ديباج. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قلت: إنما هذه لباس من لا خلاق له. ثم أرسلت إلي بهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أرسلها إليك لتلبسها. ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك» «2» ، ومنها حديث حذيفة عند البخاري قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة. وأن نأكل فيها. وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه «3» . ووردت أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك منها حديث عقبة قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير- قباء مفتوح من الخلف- فلبسه ثم صلّى فيه. ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم قال: «لا ينبغي هذا للمتقين» «4» ، ومنها حديث المسور بن مخرمة أنه قدّمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهب هو وأبوه للنبي صلى الله عليه وسلم لشيء منها،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير للرجال (5834) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5377) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من تجمل للوفود (6081) بنحوه. ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير للرجال (5371) . ورواه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الحرير (4041) . ورواه النسائي في كتاب العيدين باب: الزينة للعيدين (1559) . ورواه ابن ماجة في كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير (3551) مختصرا. (3) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: افتراش الحرير (5837) . (4) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: القباء وفروج حرير وهو القباء (5801) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5394) .

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم قباء من ديباج مزرور، فقال: «يا مخرمة خبأنا لك هذا» ، وجعل يريه محاسنه، وقال: «أرضي مخرمة» ، رواهما الشيخان «1» ، ومنها ما رواه أنس أنه صلى الله عليه وسلم لبس مستقة- فرو طويل الكمين- من سندس- رفيع- أهداها له ملك الروم، ثم بعث بها إلى جعفر، فلبسها. ثم جاءه. فقال: «إني لم أعطكها لتلبسها» ، قال: فما أصنع؟ قال: «أرسل بها إلى أخيك النجاشي» - رواه أبو داود «2» ، ولبس الحرير أكثر من عشرين صحابيا. منهم أنس والبراء بن عازب راوي حديثنا. من أجل هذا التعارض في الأدلة كان تحريم لبس الحرير موضع نظر. فحكى القاضي عياض عن جماعة إباحته، منهم ابن علية؛ ولكن جمهور الفقهاء على التحريم للأحاديث التي سقناها أولا. وقالوا إن حديث عقبة فيه «أنه لا ينبغي هذا للمتقين» ، فإذا كان لبسه لا يلائم المتقين فهو بالتحريم أجدر، وقالوا في حديث المسور وحديث أنس: إنهما من قبيل الأفعال، فلا تقاوم الأقوال الدالة على التحريم. على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير، ثم كان التحريم آخر الأمر كما يشعر بذلك حديث جابر قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء له من ديباج أهدي إليه، ثم أوشك أن نزعه، وأرسل به إلى عمر بن الخطاب، فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله، قال: «نهاني عنه جبريل عليه السّلام» ، فجاءه عمر يبكي، فقال يا رسول الله كرهت أمرا، وأعطيتنيه، فما لي؟ قال: «ما أعطيتك لتلبسه، إنما أعطيتك تبيعه؛ فباعه بألفي درهم» ، رواه أحمد، وروى مسلم نحوه «3» ، وقالوا أيضا: حديث أنس في سنده علي بن زيد بن جدعان لا يحتج بحديثه؛ وقال الخطابي. يشبه أن تكون المستقة مكففة بالسندس، وقالوا إن ما لبسه الصحابة كان خزا؛ وهو ما نسج من صوف وإبريسم. هذا وقال محمد بن علي الشوكاني في كتابه «نيل الأوطار» يمكن أن يقال إن لبسه صلى الله عليه وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للأقبية بين أصحابه وليس فيه ما يدل على أنه متقدم

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: القباء وفرّوج حرير وهو القباء (5800) . ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش أو غلظة (2428) . (2) رواه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: من كرهه (4047) . (3) رواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5386) .

على أحاديث النهي، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه، فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة؛ ويكون ذلك جمعا بين الأدلة؛ ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا؛ ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة؛ ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه، فقد كان ينكر بعضهم على بعض ما هو أخف من هذا. ولا نعلم مخالفا في جواز لبس الحرير للنساء إلا ابن الزبير، فإنه حرّمه عليهن محتجا بعموم الأحاديث، ولكن تخطئه الأحاديث الكثيرة الدالة على حله للنساء كحديث عليّ قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء- التي فيها خطوط كالميسور وهي برود من الحرير أو الغالب فيها الحرير؛ وفسرت بغير ذلك- فبعث بها إليّ فلبستها فعرفت الغضب في وجهه. فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء» ، رواه الشيخان «1» . وقد أبيح لبس الحرير للعذر كالجرب ونحوه، روي الشيخان وغيرهما عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما «2» . وجاء ما يدل على إباحة التطريز به والتسجيف والقليل منه في الثوب كحديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة «3» - رواه مسلم وأصحاب السنن. ونقول لك بعد هذا البيان الجامع انظر في الأدلة نظرة دقة وإنصاف، واستفت قلبك يفتك. ولا عليك أن تستمع لوحي نفسك.

_ (1) رواه البخاري في كتاب الهبة باب: هدية ما يكره لبسها (2614) بنحوه. ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5387) . (2) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: ما يرخص للرجال من الحرير والحكة (5839) . ورواه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها (5398) . (3) رواه مسلم في كتاب، اللباس والزينة، باب: تحريم لبس الحرير وغير ذلك للرجال (5384) . ورواه النسائي في كتاب: الزينة، باب: الرخصة في لبس الحرير (5328) بنحوه. ورواه الترمذي في كتاب اللباس، باب: ما جاء في الحرير والذهب (1721) .

67 - باب: إطعام الطعام وإقراء السلام

67- باب: إطعام الطعام وإقراء السلام عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رجلا سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الإسلام خيرا؟ قال: «تطعم الطّعام، وتقرأ السّلام على من عرفت، ومن لم تعرف» . [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه «1» ] . اللغة: الإسلام: الانقياد والخضوع أو الدخول في السلام، ويطلق: على مجموع ما شرعه الله من الأحكام، وقرأ السلام، وأقرأه، قاله، يقال: أقرىء فلانا السلام واقرأ عليه السلم كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويردّه، والمعنى الأصلي لمادة «قرأ» الجمع. الشرح: سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير خصال الإسلام. وأكثرها نفعا، فأجابه «بأن خيرها إطعام الطعام. وإقراء السلام» ، وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى بغير هذا الجواب كالذي سأله: أي الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» «2» . وسبب الإختلاف في الجواب اختلاف حال السائلين أو السامعين، فمن يخشى منه الإيذاء باليد أو اللسان أرشده إلى الكف؛ ومن يرجى منه النفع العام بالقول أو الفعل أرشده إلى ذلك. وإطعام الطعام يشمل بذله للمحتاج وتقديمه للضيف. وإقامة الولائم، بل يشمل بإشارته معونة المسلم بماله، أيا كان نوع المعونة، وأيا كان المال طعاما أو شرابا. أو مسكنا أو لباسا أو نقدا. وإقراء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف يزيد المحبة بين المتعارفين ويجلب الصلة والمودة بين المتناكرين. فلا نخص

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإسلام (28) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (159) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام خير (5015) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في إفشاء السلام (5194) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الأطعمة، باب: إطعام الطعام (3253) . (2) رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل (11) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (162) .

68 - باب: أدب المناجاة

به من نعرف ولا بعض من نعرف تكبّرا وتصنّعا. بل إقامة لشعائر الإسلام نبذله لكل مسلم ليتالف الجميع وتزداد الصلة بينهم متانة. على أنك لو منعته من لم تعرف ربما كان ممن تعرف، فاعراضك عنه يوحشه منك. وقد تمسّك بالحديث من أجاز ابتداء الكافر بالسلام. ولا حجة فيه؛ لأن السلام شعار الإسلام. فيحمل قوله: من عرفت على المسلم، وأما من لم تعرف فلا دلالة فيه. بل إن عرف أنه مسلم فذاك، وإن لم يعرف. فسلّم احتياطا فلا حرج حتى يعرف أنه كافر وخص هاتين الخصلتين بالذّكر لمسيس الحاجة إليهما أول الأمر إذا كان المسلمون في حال بؤس وفقر. فإن المهاجرين تركوا ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم. والأنصار قاسموهم أموالهم. وكانوا في حاجة إلى التعارف والتالف وإلى ذلك أن في ذكرهما إيماء إلى الأعمال الخيرية كلها مالية كانت أو بدنية. من أجل هذا خصنا بالذكر وفي الحديث (39) بسط القول في إطعام الجائع. وفي الحديثين (65 و 66) مباحث السلام. 68- باب: أدب المناجاة عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانوا ثلاثة- في رواية لمسلم: «إذا كان ثلاثة- فلا يتناجى اثنان دون الثّالث» ، وفي رواية أخرى: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالنّاس، أجل أنّ ذلك يحزنه» ، وفي رواية: «يتناج» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . الشرح: المناجاة: المسارّة. وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض أي مكان مرتفع. أصله من النجاء لأنك تعاونه على ما فيه خلاصه. وأجل: بمعنى من أجل. يقال: فعلت كذا من أجل كذا. وأجل كذا أي بسببه ويجوز في همزته الفتح والكسر. وأصل الأجل: الجناية التي يخشى عاقبتها في الآجل. ثم استعمل في التعليل. الشرح قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارّة والمناجاة (6290) . ورواه مسلم في كتاب: السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه (5660) .

وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «1» ، نهانا الله جلّ شأنه عن التناجي بما فيه ضرر أو إضرار. فلا نتناجى باثام يعود ضررها أولا إلى نفوسنا. وتبعدنا من رحمة ربنا. كإسراف في طعام أو شراب أو لباس. ولا بجرائم يتطاير شررها إلى الناس أولا. ويعود منه إلينا ثانيا. كزنى وقتل. وسرقة ونهب. ولا بعصيان الرسول فيما أمر. أو الخروج على ما شرع. وأباح لنا التناجي بالأعمال الخيرية، من نشر علم، وتقويم خلق، وبذل مال وإصلاح خصم، وبالأمور التي تقينا الأضرار. وتحفظنا من الغوائل «2» . كإعداد القوة للعدو، واتخاذ الحصون من دونه، وادّخار المال للنوائب والحميه الواقية من الأمراض وبيّن أن النجوى بالأوزار من وسوسة الشيطان ليحزن بها الذين آمنوا. إذ يسرهم البر والتقوى، ويحزنهم اقتراف الآثام، والتحدث بها، والائتمار عليها، وقد تكون كيدا لهم، وتامرا عليهم، فالنجوى بالسوء محرمة مطلقا. بين اثنين انفرادا بها عن ثالث، أو عن ثالث ورابع، أو بين جماعة انفردوا بها عن واحد أو أكثر، استأذنوا أم لم يستأذنوا. أمّا النجوى بالخير فحلال للمتناجين. غير أن هناك أدبا يتعلق بها. تجب رعايته بالنسبة للحاضرين. ذلك ما بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. فإن كان المجلس مؤلفا من ثلاثة فلا يتسارّ اثنان بحديث دون الثالث لأن هذا يوحشه ويحزنه. وقد يظن أنهما ينهشان «3» في عرضه. أو يحطان من قدره، أو يكيدان له، فيقوم من المجلس موغر الصدر «4» ، تساوره الظنون، وتخالجه «5» الريب، فللإبقاء على المودة، والمحافظة على الألفة منعا المناجاة من دونه إلا أن يستأذناه فيأذن. فلا حرج إذا لأن المنع لحقه، فيستباح بإذنه، وكذلك الحكم لو تناجى ثلاثة من دون رابع أو أربعة من دون خامس، أو خمسة من دون سادس، أو ... إلخ، لتحقق علة النهي في كل

_ (1) سورة المجادلة، الآيتان: 9، 10. (2) الغوائل: الفساد والشر والداهية. (3) ينهشان: نهش فلانا في عرضه: اغتابه ووقع فيه. (4) موغر: محمي الصدر من الغيظ. (5) تخالجه: تخطر له الشكوك.

69 - باب: الاحتراس من النار وتغطية الآنية

ذلك. بل العلة هنا أشد تحققا. فإن انفراد جمع بالمناجاة من دون واحد أشد إيغار لصدره. وبدل أن يكون النفور من شخصين يكون من أكثر. فالأثر أفحش. فكان بالمنع أجدر وكأن الحكمة في تخصيص الثلاثة بالذكر أنها أول عدد يتصور فيه المعنى. فما كان مثله في تحقيق العلة ألحق به، وإن كان المجلس مؤلفا من أربعة فأكثر. وكان الباقي بعد من يتناجي اثنين فأزيد جازت النجوى. إذ يمكن الباقين التانس والتناجي. ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حتى تختلطوا بالناس» ، وعمل ابن عمر راوي الحديث. فإنه كان إذا أراد أن يسار رجلا وكانوا ثلاثة دعا رابعا. وقال للاثنين. استريحا شيئا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ... » إلخ. ويؤيده أيضا ما رواه البخاري عن عبد الله قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يوما قسمة. فقال رجل من الأنصار. إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. قلت: أما والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في ملأ، فساررته، فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: «رحمة الله على موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر» «1» . نعم لو كان الباقون تحزنهم المناجاة تركت لوقت آخر. ما لم تكن في أمر مهم لا خطر فيه، ولو تسارا الحديث اثنان. فقدم عليهما ثالث. أو كان بحضرتهما ثالث لا يسمع جهرهما لا يقرب منهما ليتسمع حديثهما إلا بإذنهما. روى البخاري في (الأدب المفرد) عن سعيد المقبري قال: مررت على ابن عمر ومعه رجل يتحدث. فقمت إليهما. فلطم صدري. وقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان فلا تقم معهما حتى تستأذنهما. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والنهي في رواية «يتناج» يدل على التحريم. ما لم يكن رضا من المنفرد، وآية الرضا إذنه بالتناجي، والنفي في الرواية الآخرى بمعنى النهي. 69- باب: الاحتراس من النار وتغطية الآنية عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطفئوا المصابيح باللّيل إذا رقدتم، وأغلقوا الأبواب وأوكئوا الأسقية، وخمّروا الطّعام والشراب» ، وفي رواية زيادة: «واكفتوا صبيانكم عند المساء فإنّ للجنّ انتشارا وخطفة» .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الصبر في الأذى (6100) .

اللغة:

[رواه البخاري ومسلم «1» وغيرهما واللفظ للبخاري] . اللغة: إغلاق الباب: إقفاله، وفي رواية، وغلقوا، وفي ثالثة: وأجيفوا أي أغلقوا، والسقاء: القربة وجمعه أسقية، وأوكأ السقاء: ربطه وشده بالوكاء وهو اسم للخيط الذي يشد به فم القربة والكيس ونحوهما، والتخمير: التغطية، ومنه الخمر لتغطيتها العقل والخمار لستره الرأس، والكفت: الضم. والخطف: الأخذ بسرعة. الشرح: في هذا الحديث أمرنا الرسول ص بخمسة أشياء. وقد قال جماعة، إن الأمر هنا للإرشاد؛ إذا المقصود به تحقيق مصالح دنيوية، ويحتمل أن يكون للندب. ولماذا لا يكون للوجوب إذا خشي من المخالفة ضرر بالنفس أو المال؟ فإن أمن الضرر فلا وجوب، فأول الخمسة إطفاء المصابيح عند الرقاد ليلا. وقد جاء تعليل ذلك في رواية «بأن الفويسقة- الفأرة- ربما جرّت الفتيلة. فأحرقت أهل البيت» «2» . فالإنسان حينما ينام يفقد الشعور بما يجري والتيقظ لما يحدث، وما النوم إلا وفاة غبها حياة اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «3» ، فالإحتياط والحكمة إطفاء السرج التي لا يؤمن وقوعها باحتكاك فأرة. أو صدمة قطة أو عبث حيوان. أو حركة إنسان، أو عصفة ريح، أو يخشى التهاب ذبالتها واشتعال فتيلتها، من هواء يلعب بها، أو ينحبس عنها. أو وسخ في زيتها أو خلل في آلتها. فتتصل النار بما تجد. فإذا الحريق يلتهم الإنسان والحيوان، والبيت والمتاع. على حين غفلة. فيصعب الإطفاء ويعظم الخسار، فإن كان انقلاب السراج مأمونا؛ أو أحيط بما يمنع اتصاله بغيره لو وقع؛ أو كان نادر الخطر أو عديمه كالمصابيح الكهربائية، فلا حرج في تركه إن كانت مصلحة؛ وكذلك الحكم في المواقد لا ننام عنها متقدة نارها، وخاصة إذا كان الفحم وقودها، فربما وقع منها على الفراش؛ وربما استنفدت أو كسجين الحجرة؛ فمات

_ (1) رواه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. (3316) . ورواه مسلم في كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب ... (5214) . (2) تقدم تخريجه بمثل حديث جابر ص 175. (3) سورة الزمر، الآية: 42.

وثانيها - إغلاق الأبواب ليلا:

النيام مختنقين. وكم للمواقد والمصابيح من حوادث خطيرة نشأت من ترك الاسترشاد بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم. وثانيها- إغلاق الأبواب ليلا: فإنه يمنع الحيوان أن يتسرب إلى الخارج وأهله عنه غافلون. ويمنع السباع أن تدخل المنازل. فتفتك بالطيور الداجنة أو الحيوان أو تعتدي على الإنسان ويحول دون الشياطين من الإنس أو يكون عقبة في سبيلهم. فلا يسرقون وينهبون: ولا يعتدون ويسفكون. وإذا كان النهي عن المنكر واجبا فالحيلولة بينه وبين من رامه لازمة ومن الحيلولة أن تسد عليه الطريق، وتجيف دونه الباب. وثالثها ورابعها- إيكاء الأسقية التي فيها الماء: وتغطية الأوعية التي فيها الأطعمة والأشربة. فإن ذلك وقاية لها من الجراثيم المنتشرة.. وصيانة لها من الأتربة والأشياء القذرة، ومنعا للهوام والحشرات عنها وللطيور أن تلوثها، وللحيوان أن يلغ «1» فيها، فتبقى سليمة مما يفسدها؛ فيطعمها المرء هنيئا ويشربها مريئا. وخامسها: كفت «2» الصبيان إذا ما جنّ الليل «3» ، وإيواؤهم إلى المنازل؛ والرجوع بهم إلى المضاجع. فإن ذلك يطمئن أهليهم. ويحول دون ضلالهم في ظلام الليل، ويمنع غشيانهم لمجالس الفجار، التي تنفق بالليل؛ تستّرا بجلبابه الحالك، وارتيادا لأهل الريب والفساد، والليل كثير المخاطر، والصبيان طائشة العقول لا يحسنون الاحتراس، ولا يأخذون الحذر فربما صدمتهم عقبة أو سقطوا في حفرة. أو دهمتهم عربة، أو فجأتهم قاطرة، أو لسعتهم عقرب أو آذاهم شيطان؛ فكانت الحكمة أن يأرزوا «4» إلى بيوتهم، ويمرحوا في رعاية آبائهم وأمهاتهم، أو يناموا تحت أستارهم؛ وأما الجن أو الشياطين- كما جاء في رواية- الذين ينتشرون بالليل، ويخشى منهم على الصبيان إذا بقوا في الخلاء، فهم عالم يروننا ولا نراهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ «5» . ومردة الجن هم الشياطين كما أن من الإنس شياطين كما صرح بذلك القرآن ولا

_ (1) يلغ فيها: ولغ: شرب بأطراف لسانه أو أدخل فيه لسانه. (2) كفت: صرف. (3) جنّ: أظلم. (4) يأرزوا: يدخلوا. (5) سورة الأعراف، الآية: 27.

70 - باب: الغنى غنى النفس

مانع من أن تمتد يدهم بالإيذاء إلى الصبيان الذين لا تحوطهم رعاية الآباء والأمهات، كما تمتد أيدي الشياطين منا إلى أبنائنا بالشتم والضرب. واللطم والخطف وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ «1» ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» . ومن غريب الاستنباط أو عجيبه ما قال بعض الفقهاء: إن الحديث يدل على مشروعية وضع اليد على الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازا؟؟ 70- باب: الغنى غنى النفس عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النفس» . [رواه البخاري ومسلم «3» وغيرهما] . اللغة: الغني: يقال لعدم الحاجة مطلقا، وليس ذلك إلا لله وحده، فهو الغني عن عباده، وهم الفقراء إليه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ «4» ، ويقال لقلة الحاجات كما يقال لكثرة القنيات، والعرض: ما ينتفع به من متاع الدنيا وحطامها، وأما العرض: فهو ما كان من المال غير نقد، وجمعه عروض. الشرح: الغني في عرف الناس من كثر ماله، وعظمت ثروته، من ضياع واسعة. وجنات ناضرة. وعمارات شاهقة. وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة وخيل مسومة «5» . وأنعام راعية، وعروض نامية، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الغني ليس بسعة الثروة. ووفرة المال. وكثرة المتاع ولكن الغنى غني النفس، فمن استغنى بما في يده عما في أيدي الناس، ولم تشرف نفسه عليه، ولم تتطلع إليه، فهو الغني الجدير بلقب الغنى، وإن كان في المال قلا إذ رضاه بالقسم وعفته، وزهده وقناعته، جعلته في درجة من الغنى دونها بطبقات أهل الثراء الذين حرموا الرضاء والزهادة بل أولئك

_ (1) سورة البروج، الآية: 20. في الأصل (بكل شيء) . (2) سورة الإسراء، الآية: 85. (3) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (6446) . ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (2417) . (4) سورة محمد، الآية: 38. (5) مسوّمة: سوّم الشيء: أعلمه بسومة والسّومة: القيامة.

ليسوا من الغنى في شيء، وإن غني النفس مطمئن القلب. هادىء البال. لا يلحف «1» في سؤال. ولا يحرص على مال. ولا تذهب نفسه حسرة إذا فاتته صفقة «2» أو ضاعت عليه فرصة. بل ما جاءه رضي به وقنع. وأنفق منه على نفسه وأهله. وبر الناس بعفوه وفضله. وهو من الناس ملك مبجل «3» . وأمير موقر. وعظيم معزز. إذ لم ينزل بهم حاجته ولم يملك الحرص عليه منته، والحاجة مذلة، والحرص معرة. فإن كان إلى غنى النفس غنى المال. فتلك الدرجة العلياء. والعزة القعساء «4» . أما من كثر ماله. وتشعبت أملاكه. وقلبه موزع بين ضيعته وعمارته. وذهبه وفضته وفرسه وبقرته. ليس له همّ إلا جمع المال. يحرص عليه أشد الحرص، ويتميز «5» غيظا إذا فاته القرش، ويتمنى كل ما في أيدي الناس إلى ما في يده. بل يحسدهم على ما رزقوا من نعمة. يخشى عدوى الفقر إن مدت يده إلى فقير بدرهم. ويحسب الجائحة «6» أن يتبرع لعمل خيري بيسير من وفره. ولم يبق ما يمتع فيه نفسه بثروته أو يقوم بواجبه لولده وزوجته. وقرابته وعشيرته ذلك هو الفقير حقا، المحروم صدقا. ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر وهل يكون غنيا من نفسه لما في أيدي الناس متطلعة. وليست بما في يدها راضية قانعة؟ هل يكون غنيا من هذا الحرص من قوته. وأعل من صحته. ومنعه التكالب «7» أن يروي نفسه من منهل العلم؛ ويغذّيها بلبان الحكمة؟ هل يكون غنيا من تبغي نفسه طعاما شهيا، أو ثمرا جنيا، أو لباسا رفيعا. فيأبى عليه حبه للمال. وشغفه بكنزه. إجابتها إلى طلبتها وتحقيق رغبتها؟ هل يكون غنيا من أولاده في بؤس؛ وأهله في ضنك يعيشون في أحضان الثروة ولكن من التمتع بها

_ (1) يلحف: يلح بالمسألة وهو مستغن عنها. (2) صفقة: البيعة. (3) مبجّل: معظّم موقرّ. (4) القعساء: ممتنعة ثابتة. (5) يتميز: يتقطع. (6) الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله. (7) التكالب: تكالب على الشيء. تواثب كما تفعل الكلاب.

71 - باب: الاعتدال ومداومة الأعمال

محرومون؟ ذلك بلا ريب فقير؛ وإن عده الناس غنيا. وذلك المعدم وإن حسبه الناس ثريا. وذلك الذميم البغيض، والبائس الفقير الذي جعل الله المال في يده ألما له وعذابا، ونكالا وعقابا أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ «1» ، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ «2» ، أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «3» . واعلم أن السبيل إلى غنى النفس الرضا بما قدر الله وأعطى والثقة بأن ما عنده خير وأبقى، وأن المال في يد الشره البخيل فقر ومذلة. وفي يد القانع الكريم غنى ومعزة وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «4» . 71- باب: الاعتدال ومداومة الأعمال عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدّدوا، وقاربوا، وأبشروا، فإنّه لم يدخل الجنّة أحدا عمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة، واعلموا أنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ» . [رواه البخاري ومسلم والنسائي «5» ] . وفي الحديث أمر بثلاثة أشياء: التسديد، والمقاربة، والإبشار، وإخبار بأمرين

_ (1) سورة المؤمنون، الآيتان: 55، 56. (2) سورة الهمزة، الآيات: 1- 4. (3) سورة التكاثر، الآيات: 1- 3. (4) سورة سبأ، الآية: 37. (5) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل (6464) و (6467) . ورواه مسلم في كتاب: صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (7053) . ورواه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على عائشة في إحياء الليل (1641) . بنحو آخر.

1 - التسديد في الأمور طلب السداد فيها:

أولهما أن دخول الجنة ليس بالعمل. بل بفضل الله ورحمته. الثاني: أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. 1- التسديد في الأمور طلب السداد فيها: وهو القصد والعدل. أي ما بين الإفراط والتفريط، وفسّر السداد بالصواب وهو مقارب للقصد، لأن التقصير في المطلوب أو المغالاة فيه تخرجه عن الصواب، والقصد في الأمور ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، في تطهرهم، وصلاتهم، وصيامهم، وصدقاتهم، وأخلاقهم ... إلخ. 2- والمقاربة عدم الإفراط في العبادة: لأن إجهاد النفس فيها يفضي إلى الملال فيؤدي إلى تركها، فيكون الإفراط فيها من التفريط والتقصير، فالمطلوب منا في الأعمال المقاربة لا المبالغة. وفي حديث جابر: «إن هذا الدين متين فأوغلوا «1» فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى» . 3- والإبشار كالتبشير: الإخبار بما يسر ويظهر أثره على بشرة الإنسان (ظاهر جلده) فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإدخال السرور على نفوسنا من فرط رحمة الله بنا نحن المؤمنين، العالمين، فلا نيأس من روح الله ما دمنا عند حدوده التي رسمها، لا نعصي له أمرا، ولا نخالف نهيا. 4- تغمّده بالرحمة: عمّه بها وألبسه إياها حتى كانت له كالغمد للسيف، يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العمل لا يدخل عامله الجنة، ولو كان الرسول نفسه، إلا إذا شملته رحمة الله، وهذا ينافي آيات القرآن الكثيرة التي تدل على أن دخول الجنة وإرثها إنما هو بالعمل الصالح- مع الإيمان كقوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «2» ، وقوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3» ، وقد أجاب العلماء عن هذا التعارض بأجوبة كثيرة منها أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمته ما كان إيمان ولا عمل صالح، فالسبب الأصلي لدخول الجنة الرحمة. والعمل المترتب عليه الدخول أثرها. ومنها أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد،

_ (1) أوغلو: تعمقوا وتدبروا برفق. (2) سورة الزخرف، الآية: 72. (3) سورة النحل، الآية: 32.

5 - الأعمال الطيبة كثيرة:

فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بالأعمال، وأقول: إن العمل في نفسه لا يتسبب عنه الدخول لولا أن الله جعله كذلك في حكمه وشرعه، وجعله سببا إنما هو بفضله ورحمته، ولو شاء لم يجعله سببا ولكن جعله كذلك في كتبه، وعلى السنة رسله، فلا سبيل إلى الجنة إلا من طريقه، فلا ندعه وتطمع في رحمة الله، فإن رحمته كتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة والذين هم باياته يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، فإن راقتك «1» هذه الأجوبة فخذها وإن وفقت لخير منها فهاته. وإن لم تر سبيلا لدفع التعارض بين الآيات والحديث فالقرآن أولى بالتقدمة. 5- الأعمال الطيبة كثيرة: كالصلاة، والصدقات، والصيام، وقراءة القرآن والانتصار للمظلومين، ونشر العلم بين الطالبين، والجد في خير الناس، والأعمال الطيبة من شأنها تغذية الإيمان وتقويته. وإعلاء النفس وإكبارها والقصد في العمل سبيل إدامته والمواظبة عليه. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إلى الله وأولاها بالقبول والثواب ما داوم عليه صاحبه وإن قل. لأن المداومة فيها تغذية الإيمان في كل وقت. فلا تذبل شجرته وفيها ترقية دائمة للنفوس. فهي دائما صاعدة في درج الكمال. ولا كذلك الإجهاد الذي يقعد بالإنسان عن العمل، فتذوي «2» شجرة الإيمان، وتضعف نفسه عن مكافحة الشدائد، ويشطب اسمه من ديوان العاملين المجاهدين، ويقيد في سجل الكسالى العاطلين، وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بأن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم كان ديمة أي دائما لأن الديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون، بلا رعد ولا برق، والمراد بالدوام الدوام العرفي وهو الإتيان بما يطلق عليه اسم المداومة عرفا، لا شمول الأزمنة إذ هذا غير مقدور. 72- باب: حق الله على العباد وحقهم عليه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينما أنا رديف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس بيني

_ (1) راقتك: أعجبتك. (2) تذوي: تذبل.

اللغة:

وبينه إلّا آخرة الرّحل. فقال: «معاذ» : قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: «يا معاذ» ، قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثمّ قال: «يا معاذ بن جبل» ، قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حقّ الله على عباده؟» ، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ، ثم سار ساعة، ثمّ قال: «يا معاذ بن جبل» ، قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ العباد على الله ألّا يعذبهم» . [رواه البخاري ومسلم «1» وأحمد وغيرهم] . اللغة: الرديف والردف: الذي يركب خلفك، ويقال الردف أيضا للكفل والعجز، وأردفه: أركبه خلفه، وكل شيء يتبع شيئا فهو ردفه، والترادف: التتابع، والرحل: ما يوضع على ظهر البعير كالسرج للفرس، وآخرته العود الذي يجعل خلف الراكب يستند إليه، ولبيك: مأخوذ من اللب وهو الإجابة والتثنية فيه للتكرير والتكثير أي إجابة لك بعد إجابة ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية، وقيل: إنه من التلبية وهي إجابة المنادي من لب بالمكان وألب إذا أقام به، وألب على كذا إذا لم يفارقه، وهو منصوب على المصدر بعامل لا يظهر كأنك قلت: ألب إلبابا بعد إلباب، وقيل: معناه اتجاهي وقصدي إليك، من قولهم: داري تلب دارك أي تواجهها، وقيل: معناه إخلاصي لك من قولهم: حسب لباب، إذا كان خالصا محضا. ومنه لب الطعام ولبابه، وسعديك: معناه ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة، وإسعادا بعد إسعاد، والتثنية فيه والإعراب مثلهما في لبيك، والحق: الشيء الثابت المتحقق، فما للإنسان على غيره إن كان لا تردد فيه يسمى حقا؛ والله حق، والصدق حق، والعبادة: الطاعة مع خضوع أو هي غاية الخضوع. الشرح: كان معاذ بن جبل الشاب العابد، الأمة القانت، الشهم المجاهد الذي

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: إرداف الرجل خلف الرجل (5967) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على الوحيد دخل الجنة قطعا (142) .

حضر الغزوات كلها- راكبا في سفر خلف الرسول صلى الله عليه وسلم دابته لا يفصله منه إلا آخرة الرحل التي كان يسند إليها ظهره. وكان إردافه له تواضعا منه صلى الله عليه وسلم وإكراما للشباب المجاهد، فقال: يا معاذ. قال إجابة لك يا رسول الله بعد إجابة، وطاعة لك بعد طاعة. فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحدثه، وبعد أن سار ساعة قال: يا معاذ. قال: إتجاها إليك يا رسول الله بعد اتجاه، وإسعادا بعد إسعاد، فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا بدون محادثة. وبعد أن سار فترة قال: يا معاذ بن جبل. قال: إخلاصا لك يا رسول الله بعد إخلاص. ومساعدة غب «1» مساعدة، فتلك نداآت ثلاث نبهت معاذا إلى العناية بما يلقى؛ وصرف الذهن إليه، وإرهاف «2» الأذن له؛ وإيقاظ الحافظة «3» لضبطه ووعيه وعرفته أنه نبأ عظيم؛ وحديث خطير، ثم قال له: هل تدري يا معاذ ما حق الله على عباده وما الذي يجب عليهم أن يحققوه شكرا له؟ ولم يستفهم الرسول صلى الله عليه وسلم منه استجوابا له، ولكن زيادة في تنبيهه إلى ما يلقى عليه، وتشويقا إليه. وقد ردّ معاذ علم ذلك إلى الله الذي أحاط بكل شيء علما. وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبلغ عن الله وحيه وهذا من معاذ كمال أدب: وقف عند حده. ولم يقف ما ليس له به علم. وقد بين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا: كلمة جامعة لم تترك من الدّين صغيرة ولا كبيرة. فعبادته الخضوع له والتذلل. وذلك بطاعته فيما أمر ونهي فنؤمن برسوله ونصدق بكتابه، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، ونهذب نفوسنا ونصح أجسامنا بالصيام، ونحج البيت الحرام ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ونحسن عشرة الناس، ونصدق في معاملتهم، ونخالقهم «4» بخلق حسن، ونقف عند ما شرع الله، لا نتعدّى حدوده. ولا نتجاوز رسومه. ونجانب كل ما نهى عنه من الخبائث مما هو اعتداء على النفس. أو المال أو العرض أو إضرار بالخلق. وأساس ذلك علم بكتاب الله، وبما احتواه، وهذا بتلاوته وتدبره ودراسته وتفهمه. أما توحيده وعدم الإشراك به فأن نعتقد أنه وحده صاحب الخلق والأمر. وأن من دونه لا يملك ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله. سواء أكان ملكا مقربا؛ أو نبيا مرسلا، أو وليا عابدا؛ ومن توحيده أن تكون الأعمال خالصة لوجهه؛ لا يشوبها خداع ولا رياء ولا

_ (1) غبّ: بمعنى بعد. (2) إرهاف: اصفاء. (3) الحافظة: قوة تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني وتذكرها وتسمى الذاكرة أيضا. (4) نخالقهم: نعاملهم بخلق حسن.

73 - باب: نذر الطاعة ونذر المعصية

تدليس ونفاق، وألا ندعوا معه غيره. أو نقدم إليه القرابين أو نسوق النذور. أو نتخذه وسيلة إليه. فإن كل ذلك شرك ينافي مقام التوحيد ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا عن حق العباد على الله، وما وعدهم به؛ وكتبه لهم على نفسه؛ إذا هم عبدوه حق عبادته وأخلصوا له الدّين. وأسلموا الوجوه، وعمّروا القلوب بتوحيده، وطهروها من دنس الإشراك. فقال له مثل مقالته الأولى: الله ورسوله أعلم. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: حق العباد على الله ألا يعذبهم. وكيف يعذب من توفر «1» على طاعته، وكان عبده السميع، تقرع أذنه آي الوحي فإذا به قد مثلها في عمله، وأظهرها في خلقه، ويسمع هدى الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا به قد اتخذه إماما وقدوة: وهاديا وأسوة؛ كيف يعذب ذا النفس العالية. الطاهرة النقية، التي لا يرى فيها إلا بياض التوحيد ونوره، ليس بها نكتة «2» من دنس أو شرك، بل كيف لا يسبغ نعمته، ويدخل جنته عباده المقربين، وجنده المخلصين، وهو البّر الرحيم؛ وأكرم الأكرمين وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «3» . 73- باب: نذر الطاعة ونذر المعصية عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» . [رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه «4» ] . النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، كأن تنذر صدقة أو اعتكافا، أو تهجدا إذا رزقت ولدا، أو بلغت أملا. وفي هذا الحديث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عن نذر طاعة الله أن يطيعه ونهى من نذر معصيته أن يعصيه. فنذر الطاعة يجب الوفاء

_ (1) توفر: عكف. (2) نكته: العلامة الخفية. (3) سورة النازعات، الآيتان: 40، 41. (4) رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذور في الطاعة (6696) . ورواه النسائي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة (3815) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في النذر في المعصية (3289) . ورواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: من نذر أن يطيع الله فليطعه (1526) . ورواه ابن ماجة في كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية (2126) .

به. قال تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» ، ونذر المعصية يحرم الوفاء به، إذ لا نذر في معصية الخالق. فمن نذر إرشاد الجاهلين. وإنقاذ المظلومين أو مساعدة البائسين. أو زيارة الأقربين، أو الجهاد في سبيل الله ونشر دينه ومطاردة أعدائه وجب عليه الوفاء بما نذر، ومن نذر النكاية بعدوه، بإراقة دمه أو اغتصاب ماله أو نذر الانضمام لحزب مبطل، أو انتخاب شخص مجرم، أو شرب خمر، أو لعب ميسر، أو إقامة ليلة ساهرة، تنتهك فيها الحرمات. ويعصي الإله حرم عليه الوفاء. والطاعة تشمل الواجبات كالصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام رمضان، والحج الواجب، والنفقة على الزوجة والولد، وتشمل المندوبات كصلاة النافلة، والصدقة الجارية، والصيام المستحب وحج التطوع، فالواجبات إذا كانت عينية لا ينعقد نذرها لأنها واجبة بدون إيجاب العبد. بل تدخل تحت عنوان النذر لأنه إيجاب ما ليس بواجب وهذه واجبة. أما الواجب على الكفاية كالجهاد ورد السلام. والمندوب فينعقد نذره. ويجب الوفاء به. وأما نذر المباح كلبس الثوب وركوب الدابة والتروض فقد استدل لصحته بحديث عائشة: «لا نذر في معصية. وكفارته كفارة يمين» ، رواه أصحاب السنن «2» . وجمهرة المحدثين على تضعيفه فلما نفي نذر المعصية أفاد صحة ما عداه. وبحديث بريدة عند أحمد والترمذي: أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: «أوف بنذرك» ، وكان ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت الضرب بالدف إن رده الله تعالى سالما. وقال مالك والشافعي: لا ينعقد نذر المباح واستدلا بحديث ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم؛ فسأل عنه؛ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس؛ ولا يقعد؛ ولا يستظل ولا يتكلم؛ وأن يصوم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروه

_ (1) سورة الحج، الآية: 29. (2) رواه النسائي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر (3845) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3290) . ورواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألانذر في معصية (1524) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية (2125) .

فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه» ، رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه «1» ؛ فأمره بفعل الطاعة؛ وأسقط عنه المباح؛ وأصرح من هذا ما رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» «2» ، في سند هذا الحديث عند أحمد عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف، وأجابا عن حديث عائشة بضعفه؛ وعن حديث بريدة بأنه لا مانع من أن يكون من قسم المباح ما يصير مندوبا إذا قصد به القربة كالنوم في القائلة «3» للتّقوي به على قيام الليل؛ والسحور للتّقوي على صيام النهار، فيجوز أن يكون إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصودا يثاب عليه؛ فيكون مندوبا. وقد اختلف الفقهاء في نذر المعصية هل تجب فيه كفارة أو لا تجب؟ فقال بوجوبها الثوري وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وبعض الشافعية؛ وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين؛ وسمرة بن جندب؛ وقال بعدم الوجوب مالك والشافعي والجمهور؛ وهو رواية عن أحمد؛ واستدل الأولون بحديث عائشة السابق «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» ، وبحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين» ، رواه أبو داود «4» ؛ وبحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفارة النذر كفارة يمين» ، رواه مسلم «5» وأحمد؛ فعمومه يشمل نذر المعصية؛ وبأن النذر يمين؛ ومن حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها، والدليل على أنه يمين حديث ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية (6704) . ورواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3300) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: من خلط في نذره طاعة بمعصية (2136) . (2) رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين في قطيعة الرحم (3273) . ورواه أحمد. (3) القائلة: الظهيرة. (4) رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر نذرا لا يطيقه (3322) . (5) رواه مسلم في كتاب: النذر، باب: في كفارة النذر (4229) . ورواه أحمد.

فقال: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا؛ لتخرج راكبة؛ ولتكفر عن يمينها» ، رواه أحمد وأبو داود «1» . واستدل الجمهور بأنه نذر غير منعقد، فلا يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة، بل لا يسمى نذرا لأن النذر التزام الطاعة، وهذا التزام معصية؛ وبالأحاديث التي أبطلت نذر المعصية ولم تذكر فيه كفارة؛ كحديثنا؛ وحديث مسلم «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» «2» . وأجابوا عن أدلة الأولين بضعف حديث عائشة، وبأن الأصح في حديث ابن عباس أنه موقوف عليه؛ وأما حديث عقبة ففيه زيادة تمنع العموم. إذا رواه الترمذي بلفظ «كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين» ، ورواه ابن ماجه بلفظ «من نذر نذرا لم يسمه» «3» إلخ. فكفارة اليمين في النذر المبهم. كأن يقول: لله عليّ نذر. ولا يزيد. ولا يعلم خلاف في ذلك إلا عن الشافعي فإنه قال: لا ينعقد النذر المبهم ولا كفارة فيه؛ والحديث حجة عليه. وبماذا يجيب الجمهور عن كون النذر يمينا؟ أيقولون: نذر المعصية يمين غير منعقدة؟ وبهذا عرفت حكم نذر الطاعة. ونذر الواجب. ونذر المعصية. ونذر المباح والنذر المبهم. وبقي نوعان: هما نذر اللجاج والغضب. ونذر المستحيل فالأول ما أخرج مخرج اليمين بأن يراد به الحث على فعل شيء. أو المنع منه من غير أن يقصد به النذر والقربة. كالذي يقول في حال الغضب لخصمه إن لم أرفع عليك قضية فداري صدقة. أو يقول: إن عاشرت فلانا فعلي مائة جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية. يريد الأول حث نفسه على رفع القضية وبالثاني الامتناع عن معاشرته. وهذا حكمه حكم اليمين. فإن رفع القضية أو ترك العشرة فلا شيء عليه وإن لم يرفع أو عاشر لزمته كفارة يمين. وهو مخير بين الأمرين. وهذا رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره، أما نذر المستحيل كصوم الأمس

_ (1) رواه أبو داود في كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية (3295) . (2) رواه مسلم في كتاب: النذر، باب: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد (4221) مطولا. (3) رواه الترمذي في كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسمّ (1528) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الكفارات، باب: من نذر نذرا ولم يسمّه (2127) .

74 - باب: الأخذ بالأيسر وترك الانتقام للنفس

فلا ينعقد، لأنه لا يتصور الوفاء به، ولا يوجب شيئا. كما لو حلف على فعله، فإنه لا تلزمه كفارة. فالنذر من باب أولى. 74- باب: الأخذ بالأيسر وترك الانتقام للنفس عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قطّ إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد النّاس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قطّ إلّا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الانتقام: المبالغة في العقوبة. مأخوذ من نقم ينقم- كضرب وعلم- إذا بلغت به الكراهة حد السخط. والنقمة العقوبة. والحرمة ما وجب القيام به من حقوق الله وحرّم التفريط فيه، وتقال لما لا يحل فعله. وانتهاكها: تناولها بما لا يحل. الشرح: للرسول صلى الله عليه وسلم الأدب الكريم، والخلق العظيم، وفي هذا الحديث تقص علينا عائشة الصديقة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأكرم نسائه عليه. ومن أعلمهن بادابه خلقين من أخلاقه العالية، هما اختيار الأسهل الأيسر. ما لم يكن محرما، وعدم الانتقام لنفسه ما لم تغش «2» محارم الله. فينتقم لله. فمثل خيّره ربه بين الإفطار والصيام في السفر أو المرض. فاختار الأيسر، وخيره بين مقابلة السيئة بمثلها والعفو فاختار العفو، وخيّره فيمن تحاكموا إليه غير مخلصين في الحكم بينهم أو الإعراض عنهم، فاختار ما رآه أسهل، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل أو ثلثه، أو يزيد على النصف فكان يختار ما يراه أيسر على نفسه، وخيّره بين أن يفتح له كنوز الأرض أو يجعل رزقه الكفاف فاختار الكفاف ليتفرغ

_ (1) رواه البخاري في كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3560) . ورواه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: مباعدته للآثام واختياره من المباح أسهله و ... (5999) . (2) تغش: تنتهك.

لعبادة ربه، والدعوة إلى دينه، وكذلك إذا خيّره أهل بيته بين أمرين اختار أيسرهما، فإذا خيّروه بين طعامين اختار أدناهما كلفة. وإذا استشار أصحابه في أي الطرق يسلك في سفرة أو غزوة، وفي أي الأماكن ينزل، أو في أي البقاع تكون المعركة، فأشاروا بأمرين اختار الأيسر منهما، وهكذا دأبه، ما لم يكن أحد الأمرين معصية، فإنه يكون أبعد الناس منه، وكيف لا تنفر نفسه الطيبة الطاهرة بما يخدش طاعته لربه، وحرصه على شرعه ولن يخيره بين طيب وخبيث. كماء وخمر إلا جاهل بالدّين، أو منافق. أو كافر لا يعلم أحكام الشريعة، ذلك الخلق الأول. أما الخلق الثاني فكان صلى الله عليه وسلم لا يناله أمر يمضه من جفاة الأعراب أو من ضعفة الإيمان، أو من أعدائه فينتقم لنفسه. فالأعرابي الذي جفا عليه في صوته، والآخر الذي جذبه من ردائه حتى أثر في كتفه، وذلك الذي اتهمه بالظلم في القسمة، وذلك الذي أخذ منه سيفه على غرة وأراد الفتك به، فسقط من يده، وتناوله الرسول صلى الله عليه وسلم. كل أولئك وأمثالهم صفح عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما لم يكن الإيذاء له انتهاك لحرمة من حرمات الله، واعتداء على شرعه فإنه ينتقم لله، انتصارا لدينه، وقياما بواجب النهي عن المنكر. ولذلك أقام حد القذف ثمانين جلدة على من رمى زوجه البتول بالإفك، وآذاه في أهل بيته وأهدر دماء جماعة من المشركين لما فتح مكة ممن كانوا يؤذونه لأنهم كثيرا ما انتهكوا حرمات الله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» . والحديث يحثنا على أخذ اليسر، والرغبة عن العسر، ويدعونا إلى الأخذ بالرخص إن كانت على النفس أسهل. والعفو عن المسيئين إلا أن ينتهكوا حرمات هذا الدّين، ويندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذنا في ذلك هوادة «2» .

_ (1) سورة النور، الآية: 2. (2) الهوادة: اللين والرفق.

75 - باب: تقاتل المسلمين وعقابه

75- باب: تقاتل المسلمين وعقابه عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار» ، فقلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصا على قتل صاحبه» . [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي «1» ] . اللغة: البال: الحال الذي يهتم بها، يقال: ما باليت بكذا بالة أي ما اهتممت به ويطلق على الخاطر، وعلى القلب، والحرص فرط الشره، وفرط الإرادة. الشرح: القتل العدوان إثم كبير، وجرم عظيم. توعد الله عليه بالعذاب الشديد في قوله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً «2» ، وما كانت يد المؤمن الذي ملأ الإيمان قلبه لتمتد إلى أخيه بسفك دمه، وإزهاق حياته وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً «3» ، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه إذا تلاقى مسلمان بسيفيهما، أو بندقيتيهما، أو مسدسيهما، أو مديتيهما «4» ، أو نبوتيهما «5» ؛ أو غيرها من آلات القتل، فذكر السيف على سبيل التمثيل وأعمل كل منهما ما في يده للقضاء على صاحبه، والإيذاء بحياته فالقاتل والمقتول في النار. فسأل أبو بكرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: هذا القاتل الذي أودى بحياة صاحبه يستحق النار كما نطق بذلك القرآن، ولكن ما شأن القتيل الذي أريق دمه حتى يكون مع قاتله في النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه كان حريصا على قتل

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها ... (6875) . ورواه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة: باب: إذا تواجه المسلمان بسيفهما (7182) . ورواه أبو داود في كتاب: الفتن والملاحم، باب: في النهي عن القتال في الفتنة (4268) . ورواه النسائي في كتاب: تحريم الدم، باب: تحريم القتل (4133) . (2) سورة النساء، الآية: 93. (3) سورة النساء، الآية: 92. (4) مديتيهما: المدية: الشفرة الكبيرة وهي السكين. (5) نبوتيهما: النّبوت: العصا الطويلة المستوية.

صاحبه» ، وشارعا فيه، ومتلبسا بأسبابه المباشرة، ولولا أن ضربة صاحبه عجلت بحياته، وجدلته مضرجا «1» بدمائه لكان هو السافك، وقرينه القتيل. فكل منهما باء بإثمه، واستوجب العقاب بجرمه. فإن رفعت سيفك بحق على من رفعه عليك عدوانا وظلما. أو حسدا وبغيا، فلا حرج عليك ولا ملامة، ولن تمسّك النار، بل ربما كنت مأجورا إذا قضيت به على المجرمين السفّاكين. فإذا قام نزاع بين طائفتين من المسلمين حتى اشتعلت نار الحرب بينهما وعملنا ما نستطيع للقضاء على الخصومة. وإحلال السلم محل الحرب. فأبتا أو أبت إحداهما وجب علينا الإنضمام للمحقة «2» وقتال الباغية. وإشهار سيوفنا على سيوفها حتى نفلها. ونذهب بشوكتها وتفيء إلى أمر الله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «3» ، وإذا أرادك باغ على نفسك، أو مالك أو عرضك فدافعته بسيفك فلست للنار بأهل. إذا كنت لا تستطيع دفعه إلا بالسيف، ولكن استعمله بنية الدفاع لا بنية القتل. فإن قضت عليه ضربة الدفاع فعلى شر قضيت، وإن أصابتك ضربة ففي سبيل الله قتلت، وفي سجل الشهداء كتبت. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه» ، قال: فإن قاتلني قال: «فاقتله» ، قال: فإن قتلني، قال: «فأنت شهيد» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «فهو في النار» «4» ، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود والترمذي وصححه «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد،

_ (1) مضرّجا: ملطخا. (2) للمحقة: صاحبة الحق. (3) سورة الحجرات، الآيتان: 9، 10. (4) رواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد ... (358) .

ومن قتل دون أهله فهو شهيد» «1» . وظاهر الحديث أن درجة القاتل والقتيل في العذاب بالنار سواء، لأن كلا منهما بذل منتهى جهده لقتل صاحبه، غاية الأمر أن ضربة أحدهما نفذت قبل الآخرى. وقيل: بل درجتهما مختلفة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل؛ والقتيل يعذب على القتال فقط؛ فعذاب القاتل أطول أو أشد. وقد اختلف العلماء سلفا وخلفا في القاتل إذا تاب أتنفع توبته، فتدرأ عنه العذاب أم لا تنفع؟ قال جماعة بالثاني منهم ابن عباس وزيد بن ثابت؛ مستدلين بقوله تعالى في سورة النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... «2» إلخ، وقال كثيرون بالنفع لقوله تعالى في صفة عباد الرحمن وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «3» ، وقالوا: إن هذا الاستثناء مراعى في آية النساء، وكذلك اختلفوا في القصاص. فمن قائل: إنه لا يدفع الإثم مستدلا بقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «4» ، فإنه يفيد أن القصاص لمصلحة الناس فحسب، وذلك بردع «5» بعضهم عن بعض؛ أما القتيل المظلوم فلا يزال حقه باقيا يأخذه يوم القيامة، ومن قائل: إنه يدفع الإثم لأن جزاء السيئة سيئة مثلها، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت بعد ذكر القتل وجرائم أخرى «ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له» . رواه البخاري. وقد استدل بالحديث على أن قصد الجريمة، والعزم عليها والتصميم يعاقب به المرء وإن لم تقع منه الجريمة. إذ علل عقاب القتيل في الحديث بأنه كان حريصا على قتل صاحبه، والحرص فرط الإرادة كما بينت لك في اللغة. وفي رواية: إنه أراد قتل

_ (1) رواه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في قتال اللصوص (4772) . ورواه الترمذي في كتاب: الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1421) . (2) سورة النساء، الآية: 93. (3) سورة الفرقان، الآيتان: 68- 70. (4) سورة البقرة، الآية: 179. (5) بردع: زجر ومنع.

صاحبه، وقد اعترض على هذا الاستنباط بما جاء في حديث ابن عباس عند البخاري «ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة؛ فإن هو همّ بها، فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» «1» . ومثل ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري أيضا «إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها له بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة» «2» ، فلم يجعل في الهم بالسيئة عقابا إذا لم يقترن بعملها. وجعل في تركها خشية الله ثوابا. إذ جاهد باعث الشر حتى غلبه. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «3» ، وقد دفع هذا التعارض بعض العلماء بالتفرقة بين الهم والعزم. فالأول: مرور الفكرة بالنفس من غير استقرار فيها. والثاني: التصميم على المعصية وتوطين النفس عليها. فالعقاب على الثاني دون الأول. وهو دفع مدفوع. وتفريق مردود. ولم يقم عليه دليل ثم إنه صرح بالإرادة في حديثنا وفي حديث أبي هريرة المعارض. فالصواب من القول إنه لا تعارض أصلا. فإن حديثنا لم يرتب العقاب فيه على مجرد الحرص أو الإرادة بل هو مرتب على أمرين. الأخذ في تنفيذ الجريمة برفع السيف والتقاتل به. وسبق الإصرار عليها. وبعبارة أخرى: الشروع في الجريمة والقصد الجنائي كما يقول رجال القانون. أما مجرد الشروع في الجريمة والقصد الجنائي كما يقول رجال القانون. أما مجرد العزم بدون تنفيذ فلا يدل حديثنا على المؤاخذة به وظاهر حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة أنه لا عقوبة فيه. بل التعبير بصيغة الافتعال في جانب الشر دون جانب الخير في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «4» ، يشعر بأن الشر لا بد فيه من المعالجة والمخالطة ليحسب على المرء فلا يكفي فيه مجرد النية. أما الخير فالنية فيه لها ثواب بقدرها: ويؤيد هذا حديث أبي هريرة عند الشيخين «إن الله تجاوز

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491) . (2) رواه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ... (7501) . (3) سورة النازعات، الآيتان: 40، 41. (4) سورة البقرة، الآية: 286.

76 - باب: نعمة القرآن والمال

لأمتي ما حدثت به أنفسها. ما لم تعمل به أو تتكلم» «1» . وقد احتج بالحديث من لم ير القتال في الفتن. كسعد بن أبي وقاص. وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم، ممن لم يتدخلوا في الشجار الذي كان بين عليّ وشيعته، وعائشة وأنصارها. وقدمنا لك واجب المسلمين في الفتن، الذي أمر به القرآن في جلاء لا غموض فيه. وهو الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين فإن أبتا الصلح. أو أبته إحداهما فواجب قتال التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. وبعد: فالحديث ينعى «2» على المسلمين ما بينهم من شجار. وما يقوم بين أممهم من حروب. لا باعث عليها إلا الاستئثار بالملك. والتعصب للجنس. دون الانتصار للحق. ولقد شربت هذه الحروب من دماء المسلمين عبّا حتى أضعفت شوكتهم وزلزلت سلطانهم، وطأطأت رؤوسهم لخصومهم، وأخضعت رقابهم لسيوفهم. فانتقصوا بلادهم من أطرافها، بل جاسوا خلالها «3» وأصبحت لهم الكلمة في أكثرها. فهل من مدّكر؟ لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. 76- باب: نعمة القرآن والمال عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل علّمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النّهار فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا، فهو يهلكه في الحقّ، فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أتي فلان فعملت مثل ما

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيا في الأيمان (6664) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر (328) . (2) ينعي: يعيب. (3) جاسوا: فسدوا.

اللغة:

يعمل» ، [رواه البخاري والنسائي «1» ] ، وفي رواية للشيخين «2» : «لا حسد إلّا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يفضي بها ويعلّمها» . اللغة: الحسد: أن يرى المرء نعمة على أخيه فيتمنى زوالها عنه إليه أو إلى غيره. وقد يضيف إلى التمني السعي في زوالها. والغبطة: أن يتمنى مثلها ولا يتمنى زوالها عن أخيه، والتلاوة: القراءة؛ ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى. والأصل لمعنى «ت ل و» اتبع؛ ولذلك قيل لولد الشاة والناقة «تلو» إذا فطم وصار يتبع أمه، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال هو تلوه، وسميت قراءة القرآن تلاوة لأنه مثاني كلما قرىء منه شيء يتبع بقراءة غيره أو بإعادته؛ أو لأن شأنه أن يقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به، بل فسرت تلاوة القرآن باتباعه والعمل به، والآناء: الساعات، الواحد أنى مثلت الهمزة والتسليط التمكين من القهر والإخضاع. والهلكة: الإهلاك. والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل. وبعبارة أخرى: وضع الأشياء مواضعها. ولذلك قيل لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم، والمراد بالحكمة هنا القرآن بدليل الرواية الآخرى. والقرآن مبيّن للحق، مؤت للحكمة. الشرح: الحسد رذيلة ممقوتة. لأنه كراهية الخير للناس، وتمني زوال النعم عنهم، ولا يتخلق به إلا ذوو النفوس الخبيثة، والقلوب الأثيمة. التي مات فيها داعي الخير، وحي مكانه باعث الشر. فإن انضم إلى ذلك السعي في زوال النعم بوشاية أو عمل تضاعف المقت. وتزايد الفحش. وقد نهى الله عنه بقوله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «3» ، وأمر بالتعوذ منه في سورة الفلق وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ «4» .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: فضائل القرآن، باب: اغتباط صاحب القرآن (5026) . (2) رواه البخاري في كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة (73) . ورواه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة ... (1893) . (3) سورة النساء، الآية: 32. (4) سورة الفلق، الآية: 5.

فالخلة حفظ القرآن وفهمه

وإذا كان الحسد كله شرا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين من قبيل الاستثناء المنقطع. فلا حسد محمود أو جائز مطلقا، لا في مال أو علم، ولا في منصب أو جاه ولا في غير ذلك من أنواع النعم. سواء رجوت النعمة الزائلة لك أو رجوتها لغيرك. ولكن هناك خصلتان محمودتان ليستا من وادي الحسد. أو نقول: إن الحسد هنا يراد به الغبطة مجازا. فمعنى العبارة لا غبطة إلا في هاتين الخلتين. فحصر الغبطة فيهما مع أنها تكون في غيرهما بيانا لعلو درجتهما وعظيم منزلتهما. وأنهما وحدهما الجديرتان بالغبطة دون غيرهما من صنوف النعم. فالخلة «1» [حفظ القرآن وفهمه] الأولى الجديرة بالتمني، الحقيقة بالجدّ في إدراكها، والسعي في نوالها خلة رجل من الله عليه بالقرآن، فوهبه حفظه، وعلم ما تضمنه. من حلال وحرام وحكم وأحكام، وقصص وأخبار، وآداب وأخلاق. فذاق حلاوته وعرف مكانته، فحرص عليه الحرص كله، وعض عليه بالنواجذ واتخذه سميره وجليسه وخليله وأنيسه، فهو يتلوه آناء الليل. وآناء النهار. فلسانه به رطب، وقلبه حي، وعقله في نمو وعلو، ونفسه مهتدية بهديه، ومقتفية لأثره، يفصل به في المشكلات ويحكم في المنازعات، ويقضي على الشبهات، يفتي به المستفتين، ويفض شجار المتنازعين يدعو الناس إليه. ويحثهم على أن يقرئهم آيه، ويعلمهم أحكامه، يعظهم بعظاته: ويهداهم بكلماته. يبشرهم بما فيه من النعيم ويحذرهم عذاب الجحيم، فهو به عليم، ولأمره سميع، ولآيه قارىء، وبأحكامه فاصل، ولما فيه ناشر. فأورثه ذلك الحكمة التي يزن بها الأمور بميزان الحق. ويقول فيها القول الفصل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «2» . نعم من أوتي القرآن أوتي خيرا كثيرا. أوتي صحة في جسم وطهارة في نفس، وكمالا في عقل، وسعة في مال، وعزة في تواضع. وشدة في رحمة، ورسوخا في علم، وصدقا في قول، وما يذكر بما يسمع إلا ذوو العقول الراجحة، والألباب الناضجة، فأولئك إذا سعد جدهم بجار علّمه الله القرآن، ووفقه لتلاوته ليله ونهاره يتمنون أن يؤتوا مثل ما أوتي من الذكر الحكيم، وأن يوفقوا لتلاوته كما وفق،

_ (1) الخلة: الخصلة. (2) سورة البقرة، الآية: 269.

والخلة الثانية: الاعتدال في إنفاق المال

ويعملوا به كما عمل، فهذا منهم رجاء مشروع، وتمن محمود، جدير بالمسابقة إليه، والتنافس فيه. والخلة الثانية: [الاعتدال في إنفاق المال] الخليقة بالرغبة، الحرية «1» بالغبطة خلة رجل وهبه الله مالا، فلم يكن فيه قتورا بخيلا، ولا مبذرا سفيها، يبدده بين الكأس والطاس، وينثره تحت اقدام المائلات المميلات الفاتنات الراقصات، ويرمي بيده على مناضد الميسر، ويهلكه في ولائم الرياء والشهرة، ولكن في سبيل الله ينفقه. وفي إقامة الحق يهلكه، وفي سبيل العزة لقومه، والاستقلال لبلده ينثره، يهذّب به نفسه ويرقى، ويعلم أولاده ويثقف، يصل به أقرباءه، ويواسي أصحابه، يفتح به المدارس، وينشىء المصحات والملاجىء، ويقيم المصانع، ويؤلف به الشركات النافعة، وينهض بالمشروعات المثمرة، ويعطف به على الأرامل والأيتام، والمساكين والفقراء يساعد به الغارمين، ويقضي به على الظالمين وينصر المظلومين، يفك به العانين «2» ، ويحرر المستعبدين. فيده في إنفاقه مطلقة، ولا لآفة مهلكة؛ ولكن في سبيل الله؛ لا في سبيل الشيطان، وفي سبيل الحق والشرف. لا في سبيل الترف والسرف. فمن تمنى مثل هذا المال، ورجا الله أن يوفقه لمثل هذه الأعمال: كان ذا الخلة المحمودة. والغبطة المشكورة. تانك هما الخلتان الخليقتان بالتمني، وإنهما لأس الفضائل. وجماع المكارم ثروة في العلم وثروة في المال. وقفهما على الخير؛ وجدّ بهما في النفع، فأي فضل بعد هذا في ذلك فليتنافس المتنافسون. ولمثل هذا فليعمل العاملون. 77- باب: النصح للرعية وعقاب المقصرين فيه عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصحه إلّا لم يجد رائحة الجنّة» ، وفي لفظ آخر عنه: «ما من وال يلي رعيّة من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلّا

_ (1) الحرية: الجديرة. (2) العانين: المأسورين والذليلين.

اللغة:

حرّم الله عليه الجنة» . [روى ذلك البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الرعية: ما يرعاه المرء ويحفظه. ويسوسه ويدبره، واسترعاه الرعية طلب منه رعايتها وحفظها؛ والنصح: تحري الأقوال والأفعال؛ التي فيها صلاح المنصوح؛ وهذا أثر الإخلاص له. فالنصح: من ناصح العمل أي خالصه، وحاطه يحوطه كلأه وصانه، والإسم الحياطة. وأحاط به مثله وغشه، أظهر له غير ما أضمره وزين له غير المصلحة. الشرح: الرعية أمانة في يد الراعي، يجب عليه القيام بحفظها، وحسن التعهد لها، والعمل لمصلحتها، فمن ولاه الله شؤون الخلق من ملك وأمير، ورئيس ووزير ومدير ومأمور ... إلخ. يجب عليه أن يحوطهم بنصحه. ويخلص لهم في حكمه، فيكون لهم كما يكون لنفسه، يحب العدل معه والصدق فليكن معهم عادلا. وفي معاملتهم صادقا، يحب لنفسه السلامة والعافية، والعلم والثروة، فليعمل على سلامتهم من الأمراض، ووقايتهم من الأضرار وليقم بينهم دور العلم، ويسهّل السبل «2» إليه، ولينمّ ثروتهم، بالجد في ترقية الصناعة، وإقامة التجارة، وتحسين الزراعة، يجب الأمن على نفسه، وماله وعرضه، فليكن لنفوسهم واقيا. ولمالهم راعيا ولعرضهم صائنا، فيضرب على أيدي المفسدين بيد من حديد. لا يحركها إلا التربية والتأديب، يحب لنفسه مجدا وعلوا. فليعمل لمجدهم وعزتهم. وشرفهم وكرامتهم. وبعبارة وجيزة: ليفرض نفسه واحد منهم وليعاملهم بما يحب أن يعامل به، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من لم يحط رعيته بنصحه، ولم يحفظها بقوله وفعله بل كان فيها الحاكم الخامل، أو الوالي الظالم، أو الراعي الغاش. الذي يعطي من طرف اللسان حلاوة، وقلبه مفعم بالعداوة، يتظاهر بالجد في المصلحة. وهو يضمر المفسدة، يبدو للناس الشاب العابد، والورع القانت وبين جنبيه لئيم ماكر، وعدو غادر- من كان كذلك إذا استمر على غشه ولم يرعو عن غيه؛ حتى بغتته المنية حرّم الله عليه الجنة. فلا يدخلها.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح (7150) و (7151) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار (361) . (2) السّبل: جمع السبيل: السبب والوصلة أو الطريق.

78 - باب: اللدد في الخصومة

بل لا يراح «1» رائحتها العبقة الذائعة المنتشرة؛ إنما مأواه النار: وما للظالمين من أنصار. وإن هذا لوعيد شديد، وعذاب أليم. وإنه للحق. والإنصاف والعدل فإن من غش الآلاف أو الملايين، وسامهم الهوان «2» والذل عشرات السنين. وحرمهم لذة الحياة ليستحق النكال أضعافا مضاعفة وما ربك بظلام للعبيد (انظر الحديث 21) . 78- باب: اللدد في الخصومة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم» . [أخرجه البخاري ومسلم «3» ] . اللغة: الألد: الأكثر لددا. واللدد: الخصومة الشديدة. مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، والخصم: الشديد المنازعة الذي يحج مخاصمه ويغلبه. الشرح: بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبعد الناس من رحمة الله ومحبته ومودته ومعونته. بل أحقهم بغضبه ولعنته، وعذابه وعقوبته، الذي يشتد في خصومته. ويجادل حتى يجدل خصمه. والحديث بإطلاقه يشمل من يجادل لاستيفاء حق. ولكن ذلك لا يدخل فيه فإن لصاحب الحق مقالا. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما المراد به من يخاصم في باطل. أو يجادل بغير علم. كالمحامين الذين لم يدرسو القضية أو درسوها وعرفوا باطلها، ودافعوا فيها، وكالجدليين الذين يحامون عن الآراء الباطلة، والعقائد الزائغة، حتى يضل بهم العامة، أو ذوو العقول الصغيرة، سواء كان ذلك بالتأليف. أو بالحديث في المجالس. ويدخل في الذم من يخاصم في الحق، ويتجاوز في الخصومة قدر الحاجة: فيسب ويكذب لإيذاء خصمه. أو يخاصمه عنادا ليقهره ويذله. وفي الدفاع بالباطل جاء قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ

_ (1) يراح: يشم. (2) الهوان: الذل. (3) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: الألد الخصم (7188) . ورواه مسلم في كتاب: العلم، باب: في الألد الخصم (6722) .

79 - باب: قارىء القرآن

كانَ خَوَّاناً أَثِيماً «1» . (انظر الحديث 5؛ والحديث 28) . 79- باب: قارىء القرآن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الّذي يقرأ القرآن كالأترجّة، طعمها طيّب، وريحها طيّب، والّذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيّب؛ ولا ريح لها، ومثل الفاجر» ، وفي رواية: «المنافق الّذي يقرأ القرآن كمثل الرّيحانة ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل الفاجر» - وفي رواية «المنافق الّذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مرّ، ولا ريح لها» - وفي رواية «المؤمن الّذي يقرأ القرآن ويعمل به ... والمؤمن الّذي لا يقرأ» ... [رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي «2» ] . اللغة: الأترج: نوع من الفاكهة. متوسط الحجم. واحدته أترجة. وقد تخفف جيمه وتزاد ساكنة قبلها. وقد تحذف همزته مع الوجهين. والأترج: مركب من أربعة أشياء قشر ولحم وحمض وبزر. لكل منها مزايا خاصة بسطت في كتب المفردات الطبية. وهو حسن المنظر. لين الملمس. لذيذ الأكل. يطيب نكهة «3» الفم، تصلح رائحته فساد الهواء، ويذكر أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء فأمر بحبسهم، وخيّرهم أدما لا يزيد لهم عليه، فاختاروا الأترج فقيل لهم: لم اخترتموه على غيره؟ فقالوا: لأنه في العاجل ريحان. ومنظره مفرح، وقشره طيب الرائحة، ولحمه فاكهة وحمضه أدم، وحبه ترياق، وفيه دهن، والريحان: كل نبت طيب

_ (1) سورة النساء، الآية: 107. (2) رواه البخاري في كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام (5020) . ورواه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضيلة حافظ القرآن (1857) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4830) . ورواه الترمذي في كتاب: الأمثال، باب: ما جاء في مثل المؤمن القارىء للقرآن وغير القارىء (2865) . ورواه النسائي في كتاب: الإيمان، باب: مثل الذي يقرأ القرآن من مؤمن ومنافق (5053) . (3) نكهة: رائحة.

الشرح:

الرائحة، واحدته ريحانة، والمعروف منه عند العرب الأس ويقال. إن رائحته تقتل الجراثيم الجوية. والحنظل: نبات يمتد على الأرض كالبطيخ وثمره يشبه ثمر البطيخ. ولكنه أصغر منه بكثير، ويضرب المثل بمرارته. الشرح: الإيمان طريق السعادة، والفجور أو النفاق وسيلة الشقاوة؛ والقرآن دوحة «1» هذا الدّين، منه تفرعت فنونه، وأخذت علومه، من فقه وتوحيد، وتصوف وحكمة، وأصول وأخلاق، ووعظ وقصص، وبمقدار اتصال القلب به، وتفكير العقل فيه تكون درجة الإنسان في الهدى والعلم ولقد مثّل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأربعة أصناف من الناس لهم صلة بالقرآن. وباعتباره كتابا ينتمون إليه. ويؤمنون به ولو إيمانا ظاهرا. فأولهم شخص أو فريق ملأ الإيمان قلبه ، وفاض على جوارحه، فهو بالله موقن وبرسوله مؤمن، وبكتابه مصدق، وبدينه عامل. جعل لنفسه حظا من القرآن، يتلوه آناء الليل في تهجده، أو مضجعه، أو جالسا على فراشه أو مكتبه، ويتلوه في ساعات النهار قائما وقاعدا، راكعا وساجدا، كلما سنحت له فرصة لقراءته انتهزها حتى لا يغافل قلبه عن ذكر الله، فتخطفه الشياطين وتضله عن سواء السبيل. وليست قراءته من طرف لسانه وشفته، وشدقه وحنجرته، بل قلبه الذي يقرأه ولبه الذي يردد. ولذلك أثمرات الخشية والهداية، وأنتجت العمل والاستقامة، فهذا مثله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأترجة ذات الطعم اللذيذ، والرائحة الطيبة: فإن بلوته واختبرته وعاشرته وعاملته، لم تجد إلا امرآ وفيا، برا تقيا، يقدس الحق تقديسا، ويشنأ «2» الباطل مشنا، وإن شممته فرائحة طيبة، ذكية عبقة، تحي القلوب، وتنعش النفوس، وتذكي العقول، وكيف لا تكون كذلك وهي نفحة القرآن ومسكه الذي انبعث من لسانه الرطب المعطر، وقلبه الحي المطهر. وثانيهم: شخص أو فريق، بالقرآن مؤمن ، وبأحكامه عامل، وبإرشاده مهتد، وبأخلاقه متخلق، ولكن لم يؤت القرآن تلاوة وحفظا، وإن أوتيه تطبيقا وعملا، فهذا

_ (1) دوحة: الدّوحة: الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة من شجر ما. (2) يشنأ: يبعض ويتجنب.

وثالثهم - فاجر أو منافق:

كالتمرة حلو الطعم لذيذه، وطيب الخلق جميله، صادق النية حسن الطوية، أما الرائحة فمفقودة، إذا لم يطيب بمسك القرآن، وإن غسل قلبه بمائه السلسبيل «1» ، ومثله في عمله الجليل. وثالثهم- فاجر أو منافق: ليس له من الإيمان إلا اسمه ولا من الدّين إلا رسمه يقرأ القرآن، وقد يجيد حفظه، ويتقن طرقه ويعرف قراءته وتوقيع ألفاظه ونغماته ولكن لا تجاوز التلاوة حنجرته، ولا تعدو ترقوته «2» فإن بلوته تكشف لك عن قلب أسود، وفؤاد مظلم، وخلاق مر، وعمل ضر، وهذا مثله الرسول صلى الله عليه وسلم بالريحانه، وإن شممت فرائحة ذكية. وإن ذقت فمرارة لذعة، كذلك هذا يقرأ القرآن، فتستريح له النفوس كما تستريح للروائح العطرة، ولكن قلبه ونفسه منطويان على السوء، تذوق مرارته؛ وتحسن قذارته؛ إن عاشرته أو عاملته. ومثل هذا لا أثر للقرآن في نفسه، لأن فجوره ونفاقه ختم على قلبه، فلا تؤثر فيه نصيحة ولا تنجح معه موعظة. ورابعهم- منافق أو فاجر: لا صلة له بالقرآن، لا علما ولا عملا؛ ولا تلاوة ولا حفظا، وهذا شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالحنظلة، لا ريح لها وطعمها مر بشع، كذلك هذا، يحمل نفسا خلقت من الفجور، ونبتت في النفاق، إن تذوّقها الناس آذت ألسنتهم ودنست نفوسهم؛ ولا يشم منه خير؛ إذ حرم من طيب الطيوب، وعطر العطور: كتاب الله؛ جلاء العيون. وشرح الصدور. وحياة النفوس؛ وطب القلوب. وشنف «3» الآذان وسراج الألباب. تلك هي الأصناف الأربعة. التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان والتمثيل. فيا ترى في أيها وضعت نفسك؟ ظني أن تكون المؤمن المخلص. والقارىء المتدبر. والعامل الورع.

_ (1) السّلسبيل: الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته واسم عين في الجنة. (2) ترقوته: التّرقوة: عظّمة مشرفة بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان، الجمع تراق. (3) الشّنف: ما يعلق في أعلى الأذن من حلي.

80 - باب: تسبيح الله وتقديسه

80- باب: تسبيح الله وتقديسه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . [رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه «1» ] . اللغة: الرحمن: صيغة مبالغة تفيد الإمتلاء من الصفة كريّان وعطشان، وقد عرفت الرحمة بأنها رقة تقتضي الإحسان إلي المرحوم، وتطلق على مجرد الرقة، وعلى مجرد الإحسان، ويقال إنها في جانب الباري بمعنى الإحسان فقط، وخير من هذا ألا نؤول الصفات، بل نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير تشبيه ولا تمثيل ونكل العلم بالحقيقة إليه. وما نعرفه من صفاتنا مقرب إلينا صفاته، وإن كان الفرق بين صفات الله وصفاتنا كالفرق بين ذاته وذواتنا، وسبحان: في الأصل مصدر بمعنى التسبيح كغفران، ومعناه التنزيه عن النقائص، وأصله الجد في عبادة الله تعالى مأخوذ من السبح وهو المر السريع في الماء أو الهواء، ويقول النحاة: سبحان واقع موقع المصدر منصوب بفعل محذوف، تقدير: سبحت الله سبحانا، أي تسبيحا وأكثر ما يستعمل بالإضافة، والحمد لله الثناء عليه بصفاته العليا، وقد قالوا: إن الواو في «سبحان الله وبحمده» للحال، والتقدير. أسبح الله متلبسا بحمده. أو للعطف والتقدير: أسبح الله، وأقوم بحمده، والأول أظهر لاتفاقه مع أسلوب القرآن كما سنذكر. الشرح: ذكر الله تعالى يحيى ميت القلوب، ويذكي «2» فاتر «3» الهمم، ويحوط

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل التسبيح (6406) . ورواه مسلم في كتاب: الدعوات، الذكر والدعاء باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء (6786) . ورواه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: - 60- (3467) . رواه ابن ماجة في كتاب: الأدب، باب: فضل التسبيح (3806) . (2) يذكي: ينشط. (3) فاتر: ضعيف.

المرء بسياج من العصمة، ويقيه نزعات الشيطان. ويباعد بينه وبين المعاصي إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» . وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صيغة من صيغ الذكر لا مشقة في حفظها ولا صعوبة في استيعابها، وهي مع ذلك عظيمة الأثر كبيرة الجدوى «2» ، تغدق على المؤمن من فيض الله الخير الكثير، والأجر الوفير، تثقل من الطيبات حسناته، وتمحو من أوزاره وسيئاته، ولئن كانت سائر التكاليف شاقة على النفس. فإن الذكر بها هين سهل لا يستعدي قوة ولا استعدادا وإنما يوجب إخلاصا وتفريغا للنفس من شواغل الدنيا وهواجس «3» القلب. وليس بكثير على الله الذي وسعت رحمته كل شيء أن يجزل الثواب العظيم على العمل القليل. لما في هذه الصيغة من تنزيه الله عن الشريك والنظير، وتحميده على سوابغ النعم وجزيل الفضل. وتعظيمه بما هو أهله. وأنت خبير أن هذه الفضائل إنما هي لمن أخلصوا في دعائهم. وكملوا في إيمانهم، وتجنبوا المعاصي والحرام، ونأوا عما يغضب الله من الآثام. ولا تظن أن من أدمن «4» الذكر. وأصرّ على ما شاء من شهواته وانتهك حمى الله يلتحق بالمقدسين الطاهرين ويبلغ منازلهم بكلمات يجريها على لسانه. لا يتجاوز أثرها فمه. يرشدك هذا الحديث إلى أن للأعمال والأقوال ثقلا وخفة يثقل منها ما كان خالصا لله ويخفّ ما شابه الرياء والغافلة. ولم يكن في حضور القلب وانتباهه. وإن الأعمال صور ماثلة وأرواحها وجود الإخلاص فيها ولقد قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «5» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» «6» .

_ (1) سورة العنكبوت، الآية: 45. (2) الجدوى: العطية. (3) هواجس: ج الهاجس: الخاطر. (4) أدمن: دوام عليه. (5) سورة البقرة، الآية: 152. (6) رواه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل التسبيح (6405) . ورواه مسلم في كتاب: الدعوات، الذكر والدعاء، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء-

81 - باب: ثمرة إفشاء السلام

81- باب: ثمرة إفشاء السلام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابّوا: ألا أدلّكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السّلام بينكم» . [هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الإيمان وكذلك رواه أبو داود والترمذي «1» ] . الشرح: يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بمن نفسه بيده وهو: الله سبحانه على ثلاث قضايا. الأولى: دخول الجنة بالإيمان. الثانية: الإيمان بالتحاب. الثالثة: إفشاء السلام سبيل التحاب، وإيثار هذه الصيغة في القسم زيادة تأكيد لصدقه صلى الله عليه وسلم فيما أقسم عليه وبيان لعظمة المقسم به وسلطانه على المقسم. أما القضية الأولى [: دخول الجنة بالإيمان] فيدل عليها كثير من آي القرآن مثل قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ «2» ، وقوله: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ «3» ، والإيمان: هو التصديق القلبي الذي يحرك الأعضاء بالأعمال الصالحة فالمؤمن حقا لا يمسه عقاب، أما من دنّس إيمانه بالأعمال السيئة فيدخل الجنة بعد أن يلقى جزاء ما اقترف.

_ - (6783) مطولا. ورواه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: - 60- (3466) . (1) رواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ... (193) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في إفشاء السلام (5193) . ورواه الترمذي في كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في إفشاء السلام (2688) . (2) سورة المائدة، الآية: 72. (3) سورة طه، الآيتان: 75، 76.

وأما القضية الثانية: الإيمان بالتحاب.

وأما القضية الثانية: [الإيمان بالتحاب.] فلأن الله تعالى وصف المؤمنين بأنهم إخوة في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» ، والمحبة شأن الإخوة. ثم المعروف أن الشخص إذا أمكنت العقيدة من نفسه أحب من على شاكلته «2» ، فالمؤمن الذي جرت أعماله وأخلاقه على سنن الشريعة يحب من ماثله في ذلك، وها نحن أولاء نرى التالف والتحاب بين من ينتمون لحزب واحد أو يتفقون في المبدأ. وأما القضية الثالثة: [إفشاء السلام سبيل التحاب] فلأن إلقاء السلام يشعر بميل ملقيه إلى من سلم عليه فإذا تبادلا ذلك فقد تبادلا الميل، وإذا تكرر السلام نما الميل فكان محبة وإذا عمّمه بين الناس اكتسب محبتهم ولذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على بذله لمن عرفت ومن لم تعرف، والأمر بالسلام في الحديث يدل على وجوبه ولكن نقل ابن عبد البر وغيره أن الإبتداء بالسلام سنة وأن رده فرض وأقله أن يقول: السلام عليكم، وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله وبركاته، فإن كان المسلّم عليه واحدا وجب الرد عليه عينا، وإن كانوا جماعة فالرد فرض كفاية في حقهم. وفي الحديث «يجزىء من الجماعة أن يرد أحدهم» رواه أحمد والبيهقي، وكما يكون السلام عند اللقاء يكون عند الفراق لحديث «إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم وليست الأولى بأحق من الآخرة» . وقد قالوا: إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فمعنى السلام عليكم: أنتم في حفظ الله كما يقال: الله معك والله يصحبك، وقيل السلام بمعنى السلام أي سلامة الله ملازمة ذلك. واعلم أن السلام شعار المسلمين فلا ينبغي لمسلم يعرف قيمة المحافظة على شعائر دينه ومقومات أمته أن يستبدل به كلمة أخرى. مثل «نهارك سعيد» ، «ليلتك سعيدة» ، «بنجور» ، «بنسوار» ، إلخ ...

_ (1) سورة الحجرات، الآية: 10. (2) شاكلته: الشّاكلة: السجية والطبع.

82 - باب: فضل ستر العورة

82- باب: فضل ستر العورة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤدة» ، [الحديث أخرجه أبو داود والنسائي «1» ] . اللغة: العورة: كل ما يستحيا منه إذا ظهر، وكل عيب وخلل في شيء هو عورة، والموءدة: التي تدفن في التراب حية، وإحياؤها: إنقاذها مما يراد بها. الشرح: ستر العورات والعيوب من الأمور المرغب فيها لأن كشفها وإفشاءها مما يورث الضغينة «2» ويقطع الصلات. والعورات التي تستر هي التي في سترها مصلحة فوق مصلحة كشفها أما إذا كان في الستر مفسدة دينية كشخص رأى آخر يسفك دما وكان الستر عليه مما يجعله يتمادى في الشر، فالواجب التبليغ عنه بل والكشف الذي يترتب عليه حفظ الأموال وحقن الدماء أمر مطلوب. وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ساتر العورة بمن أحيا موؤدة أي أنقذها من الوأد الذي كان يحيق بها كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «3» ، ووجه الشبه بينهما أن من ستر العورة أحيا صاحبها حياة أدبية فلم يشع عنه السوء ولم يثلم شرفه بين صحبه وقومه. وإحياء الموؤدة إحياء روحي وقد تهون الحياة الحقيقية في سبيل الشرف والكرامة فمن أجل ذلك شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ساتر العورة بمحيي الموؤدة لأن في كلّ إنقاذ حياة. والغرض من الحديث الحث على ستر العورة إذا لم تترتب عليه مفسدة راجحة.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الستر على المسلم (4891) . (2) الضّغينة: الحقد الشديد. (3) سورة المائدة، الآية: 32.

83 - باب: القصد في الطعام والشراب

83- باب: القصد في الطعام والشراب عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شرّا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» ، [أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه «1» ] . اللغة: بحسبه: أي كافية أو يكفيه، الصلب: العمود الفقري. الشرح: يدعو الحديث إلى ذم الشبع والإسراف في تناول الطعام والشراب وقد نهى عن ذلك القرآن بقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2» . وإنما كان ملء البطن شرا لما فيه من المفاسد الدينية والدنيوية فالشبع يورث البلادة «3» ويعوق الذهن عن التفكير الصحيح وهو مدعاة الكسل والنوم الكثير ومن نام كثيرا قتل وقته الذي هو رأس ماله في الحياة العملية فيخسر كثيرا من مصالحه الدينية والدنيوية وكم من أكلة كانت عاقبتها الكظة «4» . وجلبت من الأضرار والأمراض ما لا قبل للإنسان به. ومن وصايا لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة، ولا كذلك الحال في الإقلال من الطعام والشراب فالقلب صاف والقريحة «5» متقدة والبصيرة نافذة والشهوة مغلوبة. والنفس مقهورة، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقدار المناسب في الطعام وهو ما يقيم الحياة

_ (1) رواه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الأطعمة، باب: الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349) . ورواه ابن حبان في صحيحه. (2) سورة الأعراف، الآية: 31. (3) البلادة: بلد: ضعف ذكاؤه وقلّ نشاطه. (4) الكظّة: البطنة. (5) القريحة: طبيعة الإنسان التي جبل عليها.

84 - باب: فضل الدعوة إلى الخير

ويحفظ الصحة ويمكن الإنسان من القيام بواجبه وإن كان لا بد مكثرا جعل للطعام والشراب ثلثي المعدة وترك ثلثها الباقي خاليا حتى يتمكن من التنفس بسهولة. وذلك أن البطن إذا امتلأت ضغطت على الحجاب الحاجز فضغط على الرئتين فضاقت مجاري التنفس الذي هو ضروري لإصلاح الدم الفاسد وتحويله إلى دم صالح تقوم به حياة الإنسان. فمحور الحديث مدح الاقتصاد في الطعام والشراب وذم الإسراف فهما وهو ما يطلبه الطب ويقوم به نظام العمل وتتوفر به للإنسان مصالحه الدينية والدنيوية. 84- باب: فضل الدعوة إلى الخير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتّبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتّبعه لا ينقص من آثامهم شيئا» . [الحديث أخرجه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي «1» ] . اللغة: الهدى: الدلالة والرشاد والضلالة ضده، والمراد بالهدي هنا: ما به يكون المرء سالكا الطريق المستقيم من خير يعمله أو شر يتجنبه، والمراد بالضلالة: ما به يتنكب الإنسان جادة الحق كصالح يدعه وسيء يعمله. الشرح: بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي إلى الهدى له من الأجر والثواب مثل من اتبعه مع استيفاء التابعين أجورهم كاملة وأن الداعي إلى الضلالة كعقيدة فاسدة وجريمة منكرة وخلق مرذول عليه من الإثم مثل آثام من اتّبعه مع استيفائهم آثامهم كاملة والسبب في ذلك أن المرشد إلى الخير كانت كلمته سببا في وجود هذا الخير في

_ (1) رواه مسلم في كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (6745) . ورواه أبو داود في كتاب: السنة، باب: لزوم السنة (4609) . ورواه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة (2674) .

85 - باب: وصف المؤمن

المجتمع الإنساني من هؤلاء التابعين فما فعلوه من الطيبات كأنه هو الذي فعله فله جزاؤه موفورا. وكذلك داعي الضلالة كأنه الذي ارتكب جرائم تابعيه فعليه عقاب ما اجترموا. والحديث فيه ترغيب عظيم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو وظيفة الرسل والمصلحين كما فيه إنكار شديد وويل عظيم للذين يضلون الناس عن طريق الحق ويزينون لهم اجتراح السيئات أولئك الذين يخرجون على إجماع المسلمين ويلبسون الحق بالباطل ليضلوا عن سبيل الله ويفرقوا الكلمة ويشتتوا الجمع زاعمين أنهم مجددون باحثون والله يعلم أنهم ما الخير قصدوا ولا الفهم والحق طلبوا، فكن للخير داعيا، وعن الشر منفرا وفي كنف «1» الجماعة مستظلا. 85- باب: وصف المؤمن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بطعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء» . [أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه «2» ] . اللغة: الطعان: الذي يقدح «3» في الأعراض، واللعان: السباب الشتام، واللعن من الله الإبعاد من الرحمة. والفاحش: الذي ينطق بهجر الكلام وقبيحه، وكذلك البذيء الذي يسف في القول ويخرج فيه عن دائرة الأدب وهو من البذاء بمعنى: الكلام القبيح. الشرح: المؤمن طهّر الإيمان قلبه ودفعه إلى الخير وسما به عن الدنيا، عفّ اللسان فلا يقول إلا جميلا وطاهر السريرة «4» ولا يعمل إلا حسنا.

_ (1) الكنف: الجانب. (2) رواه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (1977) . رواه الحاكم (1/ 12) . (3) يقدح: يعيب. (4) السريرة: ما يكتم ويسر.

86 - باب: الكيس والعاجز

فإن رأيت في المتسمين بالإسلام من ينطلق لسانه بالشتائم ويخوض في الأعراض وينطق بالهجر فهذا ناقص الإيمان لم تملأ العقيدة قلبه بل لا زال فيه حظ للشيطان فينطق على لسانه بالكلمات البذيئة والعبارات المستهجنة «1» . والحديث يبين أن الأخلاق لها مكانة عالية في الإيمان وأن من لم يحسن خلقه ويتأدب لسانه ضعيف الإيمان أو ناقصه وإن صام وصلّى وحج وزكى فلا يتم للمرء إيمان إلا إذا قام بكل ما أمر الله من عبادات وأخلاق وحسن معاملة للناس. والله يقول في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2» . 86- باب: الكيّس والعاجز عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني» . [رواه الترمذي وأحمد والحاكم وابن ماجه «3» ] . اللغة: الكيّس: العاقل المتبصر في الأمور الناظر في العواقب وقد كأس يكيس كيسا، والكيس: العقل. ودان نفسه: قهرها وأذلها، والهوى: ميل النفس إلى الشهوة. قيل سمّي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية. والأماني: جمع أمنية وهي: ما يتخيله الإنسان فيقدر وقوعه من لذائذه وشهواته وبعبارة أخرى ما يتمناه الإنسان. الشرح: ما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «4» .

_ (1) المستهجنة: المستقبحة. (2) سورة القلم، الآية: 4. (3) رواه الترمذي في كتاب: صفته القيامة والرقائق والورع، باب: - 25- (الحديث 2459) .. ورواه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4260) . ورواه الحاكم (1/ 57) . (4) سورة العنكبوت، الآية: 64.

فالعاقل حقيقة من قهر نفسه وأخضعها لحكمة عقله وشريعة ربه فهو يحاسبها على كل ما تأتي وما تذر. فإن خيرا ازداد منه وحمد الله وإن كان شرا أناب إليه وعاد على نفسه بالقهر والإذلال حتى تسلك الإمام «1» المبين ولا تحيد عنه يمنة أو يسرة. وسلوكه بالقيام بالواجب عليه لربه ونفسه وأهله وقومه فذلك ما ينفع لما بعد الموت من بعث وحشر وحساب ونعيم، وعقاب، والحازم من يستعد لهذه الرحلة الطويلة ولذلك اليوم المشهود ولتلك الدار الباقية بنفس يطهرها وخلق طيب يتجمل به وعمل صالح يقدمه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «2» ، ذلك الكيس الحاذق «3» . أما العاجز المقصّر في الواجب فهو ذلك الذي يأتم بهواه فنفسه أسيرة شهواته كلما أهابت به «4» لاقتراف فاحشة لبّى نداءها وكلما أخذت به عن سنن الحق سار وراءها غير مبال بما هو صائر إليه وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ «5» ، أما عقله ودينه فمقهوران لشهوته، فهي صاحبة الأمر تصرفه كما تريد فبحق ذلك هو الأحمق وإنه ليزيده حمقا تمنيه على الله الأماني الكاذبة فهو يعلل نفسه بعفو الله ومغفرته وسعة رحمته أو باستدراك ما فاته آخر حياته ولم يدر هذا العاجز أن رحمة الله كتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين يؤمنون بايات الله ويتبعون الرسول النبي الأمي. لم يدر هذا العاجز أن الموت غائب لا يدري متى يقدم وأنه قد يباغت «6» الناس في ريعان الشباب حيث البنية سليمة والقوة موفورة، فالعاقل يجعل هواه خاضعا لعقله ومن وراء إذن ربه وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» . والعاقل لا يتمنى من المكافات إلا ما يتناسب مع عمله الذي قدمه إن كان له عمل والجنة ثمنها الإيمان والعمل الصالح وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ

_ (1) الإمام: الطريق المستقيم. (2) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89. (3) الحاذق: الماهر في عمله. (4) أهابت به: دعته. (5) سورة القصص، الآية: 50. (6) يباغت: يفاجىء.

87 - باب: الاستشارة

فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى «1» ، فمن لاحظّ له منها فلا نصيب له فيها ولكن في جهنم إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «2» وفي الحكم (لا تتكلوا على الأماني فإنها بضائع النواكى) «3» . إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر 87- باب: الاستشارة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمّن» . [رواه الترمذي وأبو داود «4» عن أبي هريرة] . الشرح: ومعنى الحديث أن المستشار أمين لمن استشاره فإن أفشى سره أو لم يمحض له الرأي ولم يخلص له في النصيحة فقد خانه وإذا كان المستشار أمينا فلا تضع سرك إلا عند من يرعاه ولا تستشر إلا من لهم خبرة بالأمور وفكر ناضج وقلب مخلص فأولئك الذين يرجى خيرهم وينتفع برأيهم. 88- باب: المؤمن القوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدّر الله وما شاء الله فعل فإنّ لو تفتح عمل

_ (1) سورة طه، الآية: 75. (2) سورة طه، الآية: 74. (3) النوكى: الحمقى. (4) رواه الترمذي في كتاب: الأدب، باب: إن المستشار مؤتمن (2822) . ورواه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في المشورة (5128) .

الشرح:

الشيطان» . [أخرجه مسلم «1» ] . الشرح: في الحديث حث على أمور ثلاث: 1- تقوية الإيمان. 2- الحرص على النافع. 3- الاستعانة بالله. والنهي عن أمرين: 1- العجز. 2- وقولك إذا أصابك مكروه، أو فاتك محبوب، لو أني فعلت كذا كان خلاف ما حصل. فإن هذا القول فتح بابا للشيطان ولكن تقول قدّر الله وما شاء فعل فتلك خمسة أمور نبينها فيما يأتي: 1- الإيمان محور السعادة في الدنيا والآخرة متى أتبع بالعمل الصالح مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» ، والناس متفاوتون في الإيمان فمنهم قوي تدفعه عزيمته إلى الأعمال الصالحة فتراه مقداما في الجهاد أمّارا بالمعروف: نهاء عن المنكر لا يبالي بالأذى يناله في سبيل الدعوة إلى الخير، صبورا على القيام بحقوق الله من صلاة وصوم وزكاة وحج وحسن معاملة للناس لا تفتر همته في ذلك ولا يدع للخور «3» إلى نفسه سبيلا. ومنهم ضعيف الإيمان تراه يعكس سابقه، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأول خير من الثاني لأنه دائب في طلب السعادة لنفسه كاملة، أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فسعيه مشكور، والثاني آمن وقصر في السعي فهو لنفسه عند تقصيره وكما أن الأول خير فهو أحب إلى الله من الثاني. لأنه أتي من الأعمال بما يقربه إليه ويستدعي

_ (1) رواه مسلم في كتاب: القدر، باب؛ في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله و.. (6716) . (2) سورة النحل، الآية: 97. (3) للخور: الضعف.

2 - أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع

عطفه عليه ولا كذلك الثاني. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفي كل خير» لأن الإستعداد بالإيمان عند كل منهما، ولكن الأول: نماه بالعمل الطيب فازداد رسوخا وثباتا، وأتي أكله عند كل منهما، ولكن الأول: نماه بالعمل الطيب فازداد رسوخا وثباتا، وأتي أكله كل حين بإذن ربه، وأما الثاني فإنه أهمله، وإن لم يتداركه بالعناية وصالح العمل خشي عليه الذبول فالموت فعقد الخير. فالغرض من هذه الجملة الحث على العناية بشجرة الإيمان بسقيها والقيام عليها وإبعاد الحشرات منها حتى يثمر للعبد عزة في دنياه وسعادة في أخراه. 2- أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع في الدنيا والآخرة، فالمؤمن لا يدع فرصة يستطيع فيها كسب مال أو جاه أو علم نافع من علوم الحياة كرياضة أو هندسة أو طب أو تربية أو كسب خلق طيب أو تنميته أو أداء عمل يقرب إلى الله وينفع في الآخرة كقراءة قرآن ومدارسة ودين وصلاة أو صيام. لا يدع فرصة يستطيع فيها شيئا من ذلك إلا انتهزها. 3- ولا ينسى ربه عند مباشرة الأسباب فإن العوائق جمة «1» والحاجة إلى مدده في كل لحظة دائمة فإن لم يستعن به ربما وقف عن غايته. إذا كان عون الله للمرء مسعفا ... تأى له من كل أمر مراده وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده فليستعن بالله الذي بيده كل شيء ومنه التيسير وبه التوفيق إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «2» . 4- ولا ييأس من الوصول إلى غرضه وقد ملأت الثقة بالله نفسه بل ليطرح عنه الكسل جانبا والتقاعد والخمول ظهريا وليقل كما كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» «3» وفي هاتين الجملتين (2 و 3) إرشاد إلى ما به يقوى الإيمان فإن قوة العزيمة والجد في مباشرة العمل بعد بحثه وتبين الصالح منه مع الثقة

_ (1) جمّة: الكثيرة. (2) سورة الفاتحة، الآية: 5. (3) سيأتي تخريجه ص 218 (89) .

5 - نشرح لك الأمر الخامس بما قاله ابن القيم

بالله والإستنجاد به مما يزيد الإيمان قوة في النفس كما أن الجملة الآتية إرشاد لترك التمنيات الباطلة وترك الكلام الذي لا يجدي بل يقول حسنا ويفعل طيبا. 5- نشرح لك الأمر الخامس بما قاله ابن القيم في زاد المعاد قال: قوله لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره وغير مستقيل عثرته بلو وفي ضمن (لو) ادّعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدره ومشيئته. فإذا قال: لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع فهو محال إذ خلاف المقدّر المقضي محال فقد تضمن كلامه كذبا ومحالا وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله: لو أني فعلت كذا لدفعت ما قدّر عليّ. فإن قيل ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر فهو يقول لو وفقت لهذا القدر لا ندفع به عني ذلك القدر فإن القدر يدفع بعضه ببعض كما يدفع قدر المرض بالدواء وقدر الذنوب بالتوبة وقدر العدو بالجهاد فكلاهما من القدر، قيل: هذا حق ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه، وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه وإن كان له سبيل إلى دفعه بقدر آخر فهو أولى به من قوله لو كنت فعلته بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه فإنه عجز محض والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به والكيس: هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده فهذه تفتح عمل الخير؛ وأما العجز فيفتح عمل الشيطان لأنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأماني الباطلة بقوله: لو كان كذا وكذا فتح عليه عمل الشيطان لأن بابه العجز والكسل. وربما يشكل على هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت» ، رواه البخاري ومسلم «1» . والجواب أن كراهة استعمال «لو» في التلهف والتحسر على أمور الدنيا إما طلبا وإما هربا لما في ذلك من عدم التوكل وأما إذا استعملت في تمني القربات كما في

_ (1) رواه البخاري في كتاب: التمني، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» (7230) . ورواه مسلم في كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقرآن وجواز ... (2935) .

89 - باب: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم

هذا الحديث فلا كراهة. فما مضى نسلّم الأمر فيه لله ونقول قدّر الله وما شاء فعل والمستقبل نعد له عدته معتبرين بالماضي متجنبين الأسباب التي أدت إلى وقوع المكروه أو دفع المحبوب ولباب الحديث تقوية الإيمان والجد في الأعمال والاعتماد على الله وترك الأماني الباطلة والكلمات غير المجدية والأخذ فيما يفيد. 89- باب: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . [رواه مسلم «1» ] . الشرح: تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله من أمور سبعة: أولها وثانيها: العجز والكسل والفرق بينهما: أن العجز عدم القدرة والكسل: عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة فيه مع إمكانه وكلاهما داء يقعد الإنسان عن القيام بالواجبات ويفتح عليه أبواب الشرور وكما أن العمل والجد فيه مناط «2» السعادة في العاجلة «3» والقابلة «4» ، فكذلك العجز والتكاسل طريق الشقاوة وقد أمر القرآن بالعمل في مثل قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ «5» ، والقيام بالعمل يستدعي القدرة عليه والإنتفاع وإذا كان العمل واجبا كان الترك محرما والترك إما للعجز وإما للكسل ففي الآية ذم لهما فلذلك تعوذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم وإبعاد العجز عن المرء إما بإدامة القدرة إن كانت موفرة أو بتيسير أسبابها إن كانت مفقودة. وثالثها ورابعها: الجبن والبخل والأول يتعلق بالنفس والثاني بالمال فمن فقد

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن (2823) . ورواه مسلم في كتاب: الدعوات، الذكر والدعاء، باب: التعوذ من العجز والكسل وغيره (6812) . (2) مناط: موضع التعليق. (3) العاجلة: الدنيا. (4) القابلة: الآخرة. (5) سورة التوبة، الآية: 105.

وخامسها: الهرم

الشجاعة على مقاومة الشهوات النفسية والخواطر الشيطانية أو مكافحة العدو أو مدافعة الخصم المجادل بالباطل فهو الجبان ومن لم يواس بماله الفقراء والمساكين ويقدمه للغزاة والمجاهدين وينفقه في وجوه المصلحة فلذلك البخيل الذي يقول الله فيه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وأمر الله في آيات كثيرة بالجهاد بالنفوس والأموال. هو نهي عن الجبن والبخل وليس برجل في الحياة من لا يقدم نفسه وماله في سبيل إعزاز دينه وإسعاد أمته وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» . وخامسها: الهرم والمراد به الرّدّ إلى أرذل العمر كما صرح به في رواية أخرى وسبب الإستعاذة منه ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المنظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها ويكفي للتعوذ منه أن الله سماه أرذل العمر وأن المرء فيه لا يعلم من بعد علم شيئا. وسادسها: عذاب القبر وقد استدل لثبوته بمثل قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» ، وقوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ «4» ، وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ «5» ، ولكن ليس في هذه الآيات ما هو نص في عذاب القبر وإنما العمدة في إثباته ما ورد في السنة من مثل هذا الحديث وحديث عائشة عند البخاري: «أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: «نعم عذاب القبر» قالت عائشة فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلّى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر «6» ، وفي البخاري أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم

_ (1) سورة التوبة، الآية: 34. (2) سورة الحشر، الآية: 9. (3) سورة غافر، الآية: 46. (4) سورة التوبة، الآية: 101. (5) سورة الأنعام، الآية: 93. (6) رواه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من عذاب القبر (6366) بنحو آخر.

وسابعها: فتنة المحيا والممات

مرّ على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» : ثم قال بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول» «1» . وإلى إثبات عذاب القبر ذهب جميع أهل السنة وأكثر المعتزلة «2» ونفاه بعض الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمر وبشر المريسي ومن وافقهما، وحجة النافين له أن عمدة ما ورد فيه أحاديث آحاد وهي إنما تفيد الظن دون القطع الواجب في باب العقائد، وليس في القرآن ما هو نص فيها. وسابعها: فتنة المحيا والممات وأصل الفتنة الامتحان والاختبار ومنه: فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته والمحيا زمن الحياة والممات وقت الموت والمراد بفتنة المحيا ما يعرض للإنسان في حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات أو الابتلاء مع زوال الصبر والمراد بفتنة الممات ما دل عليه مثل قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «3» ، وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ «4» ، أي بالإيذاء، أو المراد بها السؤال في القبر مع الحيرة. فتلك الأمور السبعة التي تعوذ منها صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من شرها وسوء أثرها. 90- باب: النظر لمن هو أسفل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» . [رواه مسلم، ولفظ البخاري] «5» : «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه في

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: النميمة من الكبائر (6055) . (2) المعتزلة: فرقة من المتكلمين يخالفون أهل السنة في بعض المعتقدات، على رأسهم واصل بن عطاء الذي اعتزل بأصحابه حلقة الحسن البصري. (3) سورة الأنفال، الآية: 50. (4) سورة الأنعام، الآية: 93. (5) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: لينظر إلى من هو أسفل منه ولا ينظر إلى من هو فوقه (6490) .

اللغة:

المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممّن فضّل عليه» . اللغة: الإزدراء: الاحتقار والانتقاص يقال زريت عليه زراية وأزريت به إذا انتقصته وعبته. وازدراء واستزراره: احتقاره واستخف به. الشرح: رضا المرء بما ناله من متاع هذه الحياة أساس السعادة فيها والرضا يدعو إلى شكر الله على ما وهب قليلا كان أو كثيرا وفقد هذا الرضا مؤلم للنفس موقع لها في الهم والحزن مذك «1» فيها نار الحسد. فالنفس التي لا ترضى شقية في هذه الحياة ولن تكون يوما سعيدة مهما حصلت من أعراض هذه الحياة فإنها كلما بلت درجة تعودتها فملتها وتطلعت إلى غيرها فلم ترض بحالها فتألمت وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريق الذي يورثنا القناعة ويملأ نفوسنا بالرضا ويعرفنا نعم الله علينا لنقوم بشكرها الواجب فيزيدنا من نعمه، ذلك الطريق أن ننظر إلى من هو دوننا في أعراض الحياة الدنيا دون من هو فوقنا فيها لأن ذلك يدعو إلى الاعتراف بنعمة الله علينا وإكبارها والشكر عليها، لا احتقارها والإستهانة بها، وما من حال للمرء إلا وفي الناس من هو دونه فيها كما فيهم من هو أعلى منه فيها فالعاقل ينظر إلى المبتلى بالأسقام وينتقل إلى ما فضل به عليه من العافية التي هي أساس التمتع بطيبات الحياة، وينظر إلى من في خلقه نقص من عمي أو صمم «2» أو بكم «3» أو تشويه في الشكل ويزن ذلك بسلامته من هذه العاهات وأشباهها، وينظر إلى من ابتلي بالدنيا وجمعها مع إهماله القيام بحق الله فيها ويعلم أنه قد رجحه بالإقلال وبقلة التبعة في الأموال وبسلامة دينه، وينظر إلى من بلي بالفقر المدقع «4» والدّين المثقل وينتقل إلى سلامته منهما وهكذا يوازن بين حاله وأحوال من دونه فيرى تفضيل الله له على كثير من خلقه ويستعظم نعم الله عليه فيلهج «5» بشكره ويجدّ في عبادته ويرضى بمعيشته فيسعد في أولاه وآخرته.

_ (1) مذك: منم، من ذكى الشيء إذا نما وكبر. (2) صمم: صمّ صمّا: ذهب سمعه. (3) البكم: العجز عن الكلام خلقة. (4) المدقع: الشديد المذلّ. (5) يلهج: يثابر ويعتاد.

91 - باب: التعوذ من الهم والدين

أما إذا اقتصر نظره على من علاه فهنالك الحسد والغم وهناك ازدراء النعم وهنالك التقصير في شكر الله والولوع بغاية الغايات من وسائل هذه الحياة وستنفد حياته دونها. أما النظر إلى من فوقه في العالم والخلق والأعمال الطيبة ووسائل الشرف والعزة فهو نظر محمود يدعو إلى الترقي في مدارج الكمال وذلك خليق بكل إنسان يبغي مجدا في دنياه ونعيما في أخراه. وفي هذا المعنى قول الشاعر: من رام «1» عيشا رغيدا «2» يستفيد به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا فلينظرن إلى من فوقه أدبا ... ولينظرن إلى من تحت مالا 91- باب: التعوذ من الهم والدّين عن أبي سعيد الجدريّ رضي الله عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالسا فيه» ، فقال «يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في غير وقت صلاة» ، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. فقال: «ألا أعلّمك كلاما إذا قلته أذهب الله عزّ وجلّ همّك وقضى دينك» . فقال: بلى يا رسول الله. قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن. وأعوذ بك من العجز والكسل. وأعوذ بك من البخل والجبن. وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرّجال» . قال: فقلت ذلك فأذهب الله همّي وقضى عنّي ديني. [رواه أبو داود «3» ] . الشرح: الأنصار: هم أهل المدينة الذين هاجر إليهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاووهم ونصروهم، رأى الرسول عليه السلام أحد صحابته في المسجد في غير وقت

_ (1) رام: طلب. (2) الرّغيد: العيش الطيب الواسع. (3) رواه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة (1555) .

أولها وثانيها - الهم والحزن:

صلاة، وشأن المسلم الجد والعمل لا الضعف والكسل، والمساجد ليست بيوتا للسكنى ولكن للذكر والعبادة في أوقاتها. فسأله عما أقعده في المسجد، فأجابه بأن ديونا لزمته، وهموما أحاطت به جعلته يترك الناس ويأتي المسجد في غير وقت صلاة، فعرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلمات إذا قالها في الصباح وفي المساء زالت همومه وأحزانه، وقضيت ديونه التي شغله التفكير فيها فنغص «1» عيشه وأقض «2» مضجعه وأذهب عن نفسه انشراحها وسرورها فقال: يا رسول الله أحب أن تعلمني هذه الكلمات فعلمه الرسول أن يتعوذ بالله من ثمانية أمور: أولها وثانيها- الهم والحزن: أما الهم والقلق فإنه يكون في الأمور المهمة المقبلة التي يرجو الإنسان حصولها أو يخاف شر وقوعها كطالب في مدرسة شغل الهم قلبه وملك منافذه بسبب إقباله على امتحان ينال به الإجازة، فتراه في شغل دائم وتفكير مستمر في صعوبة الامتحان وأحوال الناجحين والراسبين. وما يؤول إليه أمره لو قدر له الرسول، أو بماذا يشتغل لو كان من الفائزين، وهكذا يضيع وقته في غير فائدة بدلا من أن يجدّ في دروسه ويحصل علومه ويستعد لما هو مقدم عليه ويدع النتائج لله وحده وهو معتقد أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وكصاحب خصومة مطروح أمرها أمام القضاء تراه مهموما من نتيجتها يخاف أن يحكم عليه فيها لخصمه فيطلق للتفكير العنان، ولا يكتم اضطرابه وقلقه عن الناس ويقصر فيما يجب عليه ويتقاعد عن العمل الذي يقيه شر القضاء، وكان أولى به أن يفكر في توكيل من يحسن الدفاع عنه بالحق والمحافظة عليه وإعداد البراهين والبينات التي تغلب حقه على باطل خصمه، كما يعد العدة حتى إذا حكم عليه ما يخفف وقعه ويذيب ألمه، لا أن يترك لخصمه كل فرصة يتمكن بها منه ويحوك له الحبائل «3» والمكائد «4» للإيقاع به لأن ذلك ليس من شأن المسلم، وقل مثل ذلك في سائر الناس الذين لهم آمال شغلوا بالكلام فيها والتحدث عنها عن العمل لنيلها والجد في سبيلها

_ (1) فنغص: كدّ عيشه. (2) أقضّ: لم ينم ولم يطمئن به النوم. (3) الحبائل: المصائب. (4) المكائد: المكيدة: الخديعة.

الثالث والرابع: مما تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم العجز والكسل

أو يخشون قوارع «1» تحل بهم أو نوائب تصيبهم فتطير قلوبهم هلعا ونفوسهم جزعا، وخليق بهم أن يعدوا لكل أمر عدته، ولكل شدة وقايتها وأن يكون تفكيرهم في الوسائل المنجية من البلاء أو المبعدة عنه أو المخففة من وقعه. فمن أجل أن الهم مضيعة للوقت في غير جدوى، وأنه داع إلى التقصير في الواجب وأنه تقاعد عن التدبير النافع لنيل الخير المرجو، أو تجنب الشر المحذور، من أجل ذلك تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم منه كما تعوذ من الحزن الذي يكون على أمر محبوب فات نيله. أو ضر نزل لا يقلع، فهذا أيضا مذموم. وقد نهانا الله عنه بقوله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «2» ، وبقوله حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» . ولو كان الحزن يرد فائتا، أو يدفع واقعا لكنا فيه معذورين، ولكنه مضيعة للوقت وسخط على القضاء، وتعلق بما لا سبيل له وتكاسل عن اتخاذ الأسباب لدفع المصيبة أو تخفيف ألمها، فمن أجل ذلك أيضا تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم منه. وعلى المؤمن أن يدرع بالصبر ويأخذ لنفسه من حوادثه وحوادث غيره عظات لما يستقبل من أيامه حتى لا يقع فيما وقع فيه من قبل «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» ، والله سبحانه يختبر بالمصائب عباده، ليميز الخبيث من الطيب ويستبين من كان قوي العزيمة كثير الجلد والتصبر من الخائر «4» الهلوع قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ «5» . وقال عز شأنه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «6» . الثالث والرابع: مما تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم العجز والكسل والأول: عدم القدرة على الشيء، والثاني: التقاعد عنه مع استطاعته، وإذا علمت أن بالعمل مكانة الإنسان في هذه الحياة وعلوه ورفعته، وأن به السعادة في الآخرة والفوز بالنعيم المقيم، وأن

_ (1) قوارع: جمع القارعة: وهي المصيبة. (2) سورة آل عمران، الآية: 139. (3) سورة التوبة، الآية: 40. (4) الخائر: الضعيف المنكسر. (5) البقرة، الآية: 155. (6) سورة العنكبوت، الآيتان: 2، 3.

والخامس والسادس: الجبن والبخل.

العجز والكسل شر ما يبتلى بهما المؤمن أدركت أنهما داء وبيل «1» من أصيب بهما خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ «2» . هذا ومجانبة العجز تكون بمجانبة أسبابه فلا يعمل الإنسان عملا شاقا أو يأتي أمرا خطيرا من شأنه أن يذهب ببعض أعضائه العاملة، أو يسلبه القدرة ويجعله من العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فالذي يجهد نفسه ويحمّلها فوق طاقتها ولا يعطيها قسطها من الراحة وحظها من الطعام والشراب الحلال الطيب، والذي لا يداوي علل جسمه ويترك الدواء لمرارته أو يبخل عن نفسه بأجر طبيب أو بثمن دواء هو ساع نحو العجز جان على نفسه شر جناية ومن يتعوذ بالله من العجز وهو سائر نحوه في أحد هذه الطرق فإنه يطلب ما لا يجد ويقول ما لا يفعل كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «3» وأما الكسل فمجانبته تكون بتقوية الإرادة ومعاشرة المجدين العاملين ومباشرة الأسباب واستشارة لذة العمل وحلاوة بلوغ الآمال وتمثل الخيبة والفشل، ومعرفة أن المجد في العمل والمغامرة، والتعس في الكسل وملازمة الراحة. والخامس والسادس: الجبن والبخل. والأول: شح بالنفس، والثاني: شح بالمال. فالذي يبخل بنفسه عن بذلها في سبيل الدين، في سبيل إقامة معالم الحق، في سبيل حفظ البلاد ورد عادية المعتدين عليها والمنتهكين حرمتها والسالبين حقوقها، والقاسرين «4» أهلها، على الذل والاستعباد، والمستبدين بهم شر الاستبداد؛ الذي يبخل بنفسه عن بذلها في هذه السبل، المذللة طريق الكرامة والعزة، الموطدة «5» للشرف والرفعة، الذي يبخل عن ذلك يميت نفسه، ويشتري نحسه «6» ، لأنه إن حيي جسمه فقد ماتت روحه، ماتت نفسه العالية، وذهبت حياته الطيبة، وكم من حي بين الناس هو في عداد الأموات وكم من ميت في عداد الأحياء وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ

_ (1) وبيل: شديد. (2) سورة الحج، الآية: 11. (3) سورة الصف، الآية: 3. (4) القاسرين: المجبرين والمكرهين. (5) الموطدة: المثبة والمقوية. (6) نحسه: النّحس: الجهد والضّر.

فَضْلِهِ «1» ، إذ الحياة الحقة أن تعيش مرفوع الرأس موفور الكرامة في قولك وتصرفك وقلمك ورأيك واعتقادك، أن تعيش في أمة لا سلطان لأحد عليها. ولا من يتحكم في رقابها وحقوقها وأموالها رأيها المحترم وقولها النافذ، ومصلحتها المقدسة، ولن يعيش في أمة هذا وصفها إلا من بذل نفسه في الذود «2» عنها وكرّس حياته في جلب الخير لها، ودفع الضرر عنها. هذا هو الكريم حقا، هذا هو الشجاع صدقا، هذا هو الجواد بلا ريب. والجود بالنفس أقصى غاية الجود. تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما أما الذي يبخل بماله عن نفسه فلا ينفقه في سبيل ترفيهها وإسعادها وتهذيبها وسد حاجتها وتقديم الطيبات لها، أو يبخل به عن الفقراء والمساكين، والعجزة والمقعدين، والمنكوبين والملهوفين، أو يبخل به عن الجهاد، ومناجزة الأعداء، ومصالح الأمة العامة، الذي يبخل بماله عن ذلك ويحبسه في خزائنه إنما يسعى في هلاك نفسه والقضاء على أمته. وما يبغي من يكنز أمواله عن حقوقها؟ أفيطمع أن يأخذه معه إلى جدثه «3» ؟ أو ينفق منه في عالم الغربة والوحدة؟ أينفعه إذ ما وقف أسرع الحاسبين. واشتد الكرب وهال «4» الخطب؟ كلا لن ينفع الإنسان بعد وفاته ما له إذا لم يكن من عمله منقذ وناصر، بل يكون شرا عليه ونكالا لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «5» ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «6» والمؤمن الصادق من بذل في سبيل الدين نفسه وفي إعلاء شأن أمته ماله.

_ (1) سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170. (2) الذود: الدفاع والتضحية. (3) جدثه: قبره. (4) مال: خاف ورعب وفزع. (5) سورة آل عمران، الآية: 180. (6) سورة التوبة، الآيتان: 34، 35.

السابع والثامن: غلبة الدّين وقهر الرجال: والدّين- أعاذك الله- إذا غلب الإنسان ذهب بعزه، وأودى بنعيمه وأنسه وأتى على طارفه «1» وتليده «2» وقديمه وجديده. إذا غلب الإنسان ملك عليه فكره وعقله، وصوابه ورشده فلا يذوق طعم الهناءة ولا يحسن التفكير ولا يهتدي إلى الصواب. وإنما يغلب الدين إنسانا استدان بلا بصيرة ولم يدبر أمره وينظم شأنه. ويجدّ في طلب وتلمس الطرق المشروعة إليه ليقوم بالسداد، وإنما يغلب من استدان ولم يعزم على الوفاء بل كانت نيته التقصير. إنما يغلب من استدان لغير حاجة ماسة بل لارواء شهوة أو ابتغاء الشهرة والملق «3» والرياء وحب الظهور الكاذب والمدح بالباطل. أما من استدان لضرورة ملجئة عازما على الوفاء فهذا الله ضامنه، وموفقه للسداد ورازقه من حيث لا يحتسب حتى يخلصه مما أهمه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «4» . وغلبة الرجال إما بالإذلال والاستعباد لغيرهم: أو انتصارهم عليه في مواطن النزاع والخصومة، أو في ميادين الحرب والطعان فنعوذ بالله من أن يستبد بنا فرد فيستخدمنا لماربه، ويا بني على رؤوسنا عظمة كاذبة ومجدا موهوما، ويطمس معالم مجدنا وسؤددنا «5» ، كما نعوذ به من أن يغلبنا خصمنا فينصر باطله على حقنا وتكون له الكلمة علينا، ويقتل رجالنا ويسلبنا أموالنا ويسبي نساءنا وذرارينا «6» ويدوس عزتنا وكرامتنا، نعوذ بالله من كل ذلك ونسأله القوة والعدة حتى يرهبن الأعداء وأن يهبنا أسباب السعادة والعزة حتى لا يستبد بنا فرد أو أمة. تلك هي الأمور الثمانية التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة فلنتخذ منها غذاء في الصباح وعشاء في المساء حتى نجمع إلى تغذية الجسم تغذية الروح فلنضمن لنفوسنا

_ (1) طارفه: الحديث المستفاد من المال ونحوه وهو خلاف التالد. (2) تليده: التّلاد: المال الأصلي القديم. (3) الملق: الكلام. (4) سورة الطلاق، الآية: 2- 3. (5) سؤددنا: السّؤدد: المجد والشرف. (6) ذرارينا: مفرده: ذرّية. وهي: ولد الرجل.

92 - باب: أفضل الصدقات

اللذة الكاملة والسعادة الشاملة. وإياك أن تعوذ بالله من هذه الثمانية وأنت لسبيلها سالك وفي التلوث بها مقيم بل الواجب عليك أن تجتنبها أو تأخذ في التقصي عنها وإياك أن تلوكها «1» بلسانك ولا تمرها بقلبك فإن الدعوة الطيبة ما صدرت عن القلوب قبل أن تلفظ بها الأفواه. 92- باب: أفضل الصدقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: «أن تصّدّق وأنت صحيح، حريص» . وفي رواية «شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم» ، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان. [رواه البخاري «2» ] . اللغة: الحرص: الجشع. والشح: منتهى البخل، تأمل الغني: تطمع فيه بلغت الحلقوم: قاربت الروح الموت، إذ لو بلغت حقيقة الموت لم يصح شيء من تصرفه ولا إقراراته. ولم يتقدّم للروح ذكر اكتفاء بدلالة السياق، الحلقوم: مجرى النفس لفلان: المراد منه في الأولى والثانية الموصي له أي أوصيت لفلان بكذا ولفلان بكذا. وفي الأخيرة للوارث أي وقد صار المال للوارث. أو أنها في الأوليين للموصى له وفي الثالثة للمقرّ له أي وكان علي لفلان كذا دينا. الشرح: كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرون أفضل أنواع الطاعات وأعظمها عند الله أجرا؛ ولا يأبون أن يسألوا الرسول عنها ليتقربوا بها إلى الله، وينالوا الدرجات العلا. فسأله أحدهم عن أكثر الصدقات أجرا، فقال له عليه الصلاة والسلام: أن تتصدّق وأنت صحيح الجسم معافى في بدنك لم ينقطع أملك من الحياة، ولم تقف بك القدم على حافة القبر، إذ المرض يقصر يد المالك عن ملكه، وسخاوته بالمال إذ ذاك لا تمحو عنه سمة البخل ولا تدل على طيب نفسه بالعطاء لأنه يكون قد مل

_ (1) تلوكها: لاكها لوكا: أدارها في فمه. (2) رواه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419) .

93 - باب: ما تجوز الصدقة به في مرض الموت

الحياة، وسئم العيش، ورأى ماله قد صار لغيره بخلاف ما إذا كان صحيحا يكون للمال مكان في قلبه وحب من نفسه، لما يأمل من البقاء ويخشى من الفقر فالشح به غالب والسماح به حينئذ أصدق في الإخلاص وأعظم في المثوبة. وكذا إذا تصدق وهو حريص على جمع المال قد توافرت لديه أسباب إدخاره كان ذلك دالا على الرغبة في الخير وابتغاء ما عند الله. ولا يتأخر بالتصدق حتى يكون الموت منه قاب قوسين لأنه يكون مغلولا «1» عن التصرف في كل ماله إذ أن المريض لا يجوز له أن يتبرع إلا بثلث ماله فقط، وما زاد على ذلك يكون من حق الورثة إن شاؤا أجازوا تصرفه وإن شاؤا لم يجيزوه. ويدل الحديث على أن تنجيز وفاء الدّين والصدقة في حال الصحة أفضل منه في حال المرض لأنه في الأولى يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه الشيطان من الفقر، ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال، كما قال تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ «2» ، وقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ «3» الآية. وفي الحديث: «مثل الذي يعتق ويتصدّق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع» . 93- باب: ما تجوز الصدقة به في مرض الموت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذني من وجع اشتدّ بي، فقلت يا رسول الله: قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلّا ابنة أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قلت فالشّطر يا رسول الله؟ قال: «لا» ، قلت فالثّلث؟ قال: «الثّلث والثّلث كثير،

_ (1) مغلولا: مقيدا وممسوكا. (2) سورة البقرة، الآية: 268. (3) سورة المنافقون، الآية: 10.

اللغة:

إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون النّاس، وإنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى مّا تجعله في فيّ امرأتك» . [رواه البخاري «1» ] . اللغة: الوجع: اسم لكل مرض وجمعه أوجاع ووجاع، اشتد: قوى بلغ بي: أثر فيّ ووصل غايته، ذو مال: أي كثير فالتنوين للتكثير كما صرح بذلك في رواية أخرى، (إلا ابنة) اسمها عائشة ولم يكن لسعد رضي الله عنه في ذلك الوقت من الولد إلا هذه البنت، ثم عوفي بعد ورزق أولادا كثيرين منهم أربعة ذكور واثنتا عشرة انثى، ومعنى لا يرثني أي من الذرية وإلا فقد كان له عصبة، الشطر: النصف، الثلث بالنصب على الإغراء أو بفعل محذوف وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي كافيك. والثلث كثير، ويحتمل أن يكون مسوقا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهذا هو المتبادر. أو يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل الكثير أجره، أو يكون معناه كثير غير قليل في نفسه. تذر: تترك، عالة: فقراء جمع عائل من عال يعيل إذا افتقر، يتكففون الناس: يسألون الناس بأكفهم، يقال تكفف واستكف إذا بسط كفه للسؤال أو سأل ما يكف عنه الجوع أو سأل كفافا من طعاما. الشرح: يشير هذا الحديث إلى نوع مما كان المسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يبتغون من تخير أفضل القربات إلى الله. فسعد رضى الله تعالى عنه لما أحس بثقل المرض وخشي أن يكون قد دنا أجله ثم رأى أن ماله كثير لا يأمن إذا تركه لابنته التي ليس له وارث سواها أن يطغيها أو لا تحسن تدبيره وربما جرّ إلى ما لا يؤجر هو ولا هي عليه فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالتصدق بالثلثين حيث يرى أن ثلثه الباقي يكفي ابنته سواء أبقيت من غير زوج أم تزوجت وإن في ذلك القدر صلاحها وخيرها ويكون قد قدم لنفسه ما يجعل له عند الله منزلة رفيعة، فلم يجز له النبي صلى الله عليه وسلم التصدق بذلك، فاستأذنه في النصف فلم يأذن له به أيضا. فاستأذن في الثلث فأذن له. ثم أبان له عليه الصلاة والسلام والحكمة السامية من ذلك تلك أن المسلم لا

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: اناء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة (1295) . ورواه مسلم في كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث (4185) بنحوه.

هذا ويؤخذ من الحديث سوى ما تقدم:

يقتصر ثوابه على ما يقدمه قبل وفاته من صدقته بل أنه يثاب أيضا على أن يجعل أولاده في غنى عن سؤال الناس بما يقيهم عوز «1» الدهر ويدفع عنهم غائلة «2» الأيام وبؤس الفقر وذله، بل ليس ذلك فقط هو الذي يؤجر عليه المؤمن، فإن أقل الحظوظ الدنيوية إذا قصد به وجه الله كان طاعة يثاب عليها كما يشير إلى ذلك قوله: «حتى ما تجعله في فيّ امرأتك» . فانظر كيف أن البر الرحيم ذا الفضل العظيم يرضى من المسلم ببعض ماله ويجزيه عليه متى كان خالصا له وحده لا رياء فيه ولا نفاق، ويفيض عليه من رحمته على أدنى الخيرات يأتيها. وقد عبر الرسول بقوله: «ورثتك» ليكون الجواب كليا مطابقا لكل حال يموت عليها سعد، سواء أورثه ابنته وحدها أم مع غيرها أم ورثه غيرها، ولم يخص ابنته دون سواها ليشمل جميع الورثة وأنه مطالب بأن يغنيهم بما يقيهم ذل السؤال. وهناك لطيفة في نهاية الحديث. تلك هي قوله: «وإنك لن تنفق» ... إلخ، فإن سؤال سعد رضي الله عنه يشعر بأنه رغب تكثير الأجر فلما منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الزيادة عن الثلث قال له على سبيل التسلية والترضية إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة ومن نفقة ولو كانت واجبة تؤجر عليها ابتغيت بذلك وجه الله تعالى. هذا ويؤخذ من الحديث سوى ما تقدم: 1- أن الوصية لا تجوز بأزيد من الثلث إن كان هناك وارث. وقد اختلف فيمن ليس له وارث، فذهب جمهور الأئمة إلى منعه من الزيادة عليه، وقال الحنفية يجوز الزيادة إذ ذاك مستدلين بأن الوصية في الآية مطلقة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ «3» ، فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على اطلاقه. وبهذا الحديث أيضا لأن من لا وارث له لا يترك من يخشى عليه الفقر. 2- أن السنة تقيد القرآن كما تقدم.

_ (1) عوز: العوز: الحاجة واختلال الحال. (2) غائلة: الفساد والشر. (3) سورة النساء، الآية: 12.

94 - باب: القصد في العبادة

3- أن خطاب الشرع للواحد يعم من كان على صفته من المكلفين لإجماع العلماء على أن هذا الحكم عام وليس مختصا بسعد. 4- إباحة جمع المال من طرقه المشروعة والحث على صلة الأقارب. 94- باب: القصد في العبادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا كأنهم تقالوّها، فقالوا وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فقال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتّزل النّساء فلا أتزوّج أبدا فبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فحمد الله وأثنى عليه. وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . [رواه البخاري «1» وغيره] . اللغة: الرهط: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، والنفر: من ثلاثة إلى تسعة. والثلاثة الذين في الحديث هم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم تقالوها: رأى كل منهم أنها قليلة- أخشاكم لله وأتقاكم: أكثرهم خشية لله وتقوى منه، ما بال أقوام: ما شأنهم وما حالهم، الرغبة عن الشيء: كراهيته والإعراض عنه. والرغبة فيه: حبه والميل إليه، السنة: الطريقة. الشرح: كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتحرون «2» عبادة النبي عليه الصلاة والسلام ومقاديرها رجاء أن يكون لهم حظ مقاربته في الدرجة والمنزلة عند الله

_ (1) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063) . (2) يتحرون: يقصدونها ويجتهدون في طلبها.

تعالى فجاء ثلاثة منهم إلى أزواجه يسألون عن كيفية عبادته في السر ومقاديرها، فلما علموا أنها لا تزيد على عبادتهم وجدوها قليلة بالنسبة إليهم. لا تفي بما يبغون الحصول عليه من الزلفى ورأوا من وعد الله غفران ذنوب الرسول صلى الله عليه وسلم ما تقدم منها وما تأخر ما يغنيه عن كثرة العبادة، وأنهم دونه في ذلك بمراحل كبيرة، وفي حاجة إلى مداومة الطاعة والإكثار منها. فأخذ كل على نفسه أن يلازم نوعا من العبادة لا ينقطع عنه، فرأى أحدهم أن يجافي جنبه عن المضاجع ليلا ويصرف جميع لياليه أبدا في العبادة فلا يعطي نفسه حظها من النوم والراحة، لأن السهر في ذكر الله يصفي الفكر، ويرفق الذهن، والنوم يدعو إلى الكسل والتراخي ويبلد النفس. ورأى آخر أن يصوم الدهر ولا يفطر، لأن الصيام يكبح «1» جماح «2» شهواته ويكسر شره نفسه وينفي ما خبث من طباعه ويغسل ما دنس من أخلاقه، ويجعله يستشعر الرحمة والرأفة بالضعفاء والفقراء والمساكين. ورأى آخر أن يعتزل النساء فلا يتزوج، لأن ذلك يبعده عن الاشتغال بالدنيا وملاذها وينسيه عبادة الله حيث يشغله أمر معاشه والسعي على أولاده وتربيتهم والنظر في أمورهم من التفرغ للطاعة. فلما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين منبها إلى خطأ ما عزم عليه هذا النفر؛ وإلى أن التقرب إلى الله لا يكون بتحميل النفس فوق طاقتها وإجهادها بالشاق من الطاعات بل إن خير الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وأنهم يوشكون أن يوقعوا أنفسهم في عجز وضعف لا يقوون معهما على أدنى أنواع العبادات فضلا عن أعلاها فيكونون كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وخير لهم أن يترفقوا بأنفسهم ليستديموا الطاعة ويتمتعوا بما أحله الله لهم من الطيبات، إذ لا رهبانية «3» في الإسلام. ولقد كان من آدابه صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا يكرهه وخطب في شأنه ألا يعين فاعله ولا يواجهه بما يكره ولا يسميه باسمه على رؤوس الملأ. بل يقول: ما بال رجال أو ما بال أقوام لأن المقصود وهو الزجر عما اعتزموا عليه يحصل لهم ولغيرهم ممن سمع

_ (1) يكبح: يمنع ويرد. (2) جماح: جمح الرجل: ركب هواه فلا يمكن رده. (3) رهبانية: هي التخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها والعزلة عن أهلها.

ويؤخذ من هذا الحديث سوى ما تقدم:

الخطبة أو بلغه أمرها بدون الالتجاء إلى توبيخهم، وهذا من مكارم أخلاقه عليه الصلاة والسلام وحسن آدابه وجميل عشرته، ولقد قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» ، وقال عليه الصلاة والسلام «أدبني ربي فأحسن تأديبي» . وفي الحديث إشارة إلى أن الحنيفية «2» السمحة لا تدعو إلى الرهبانية وحرمان النفس مما أحله الله، ولكن ترغب في الإفطار ليقوى المؤمن على الصيام، وفي النوم ليتقوى على القيام. وفي التزوج ليكسر شهوة نفسه ويعفها ويكثر النسل. ومن رغب عن ذلك، فإن كان لنوع من التأويل والفهم لا يعدّ ذلك خروجا عن الملة ولا كفرا، ويكون معنى (فليس مني) أي ليس من طريقتي وإن كان إعراضا وتنطعا «3» يفضي إلى اعتقاد صواب ما عمل ورجحانه كأن معنى (فليس مني) فليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك كفر، وإن كان تورعا لشبهة في ذلك لم يكن ممنوعا ولا مكروها. ويؤخذ من هذا الحديث سوى ما تقدم: 1- التنبيه على فضل النكاح والترغيب فيه. 2- وعدم الغلو في الإنقطاع عن الملاذ وما أحله الشرع. 3- فيه رد على منع استعمال المباحات والحلال من الأطعمة الطيبة والملابس اللينة وآثر عليها غليظ الطعام وخشن الثياب من الصوف وغيره قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «4» ، لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا «5» . والحق: العدل، والقصد في جميع الأمور، فإن ملازمة الطيبات تقضي إلى الترفه والبطر «6» ، ولا يؤمن معها من الوقوع في الشبهات، كما أن منع النفس من

_ (1) سورة القلم، الآية: 4. (2) الحنيفيّة: ملة الإسلام. (3) تنطّعا: تكلفا ومغالاة. (4) سورة الأعراف، الآية: 32. (5) سورة المائدة، الآية: 87. (6) البطر: بطر فلان: غلا في المدح والزهو، فهو بطر.

95 - باب: جزاء العجب والخيلاء

تناولها يؤدي إلى التنطع المنهي عنه، وملازمة الاقتصاد على الفرائض مثلا وترك النفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة، وربما يؤدي إلى التكاسل عن الفرائض. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين وشارك في الوجهين، فلبس مرة الصوف والشملة الخشنة، ومرة البردة والرداء الحضرمي، وتارة كان يأكل القثاء بالرطب وطيب الطعام إذا وجده، ومرة كان يأكل الدجاج. 4- يؤخذ من الحديث أيضا مشروعية التوصل إلى العلم لكل أحد حتى النساء إذا تعذر أخذه من أصل محله. 5- وعلى تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم، وإزالة الشبهة عن المجتهدين. 6- الحث على متابعة السنة والتحذير من مخالفتها، وهذا من أهم الأمور التي تركت ونشأ عن تركها مفاسد عظيمة في الدّين والدنيا. 95- باب: جزاء العجب والخيلاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . [رواه البخاري «1» ] . اللغة: جرّ ثوبه: أسبله وأطال، المخيلة، والخيلاء: العجب، والكبر عند فضيلة يتراآها الإنسان في نفسه، لم ينظر الله إليه: لم يرحمه ولم يحسن إليه لأن النظر وهو تقليب الحدقة محال على الله تعالى لما يلزمه من المماثلة للحوادث. الشرح: أحل الله سبحانه وتعالى لنا الطيبات من الرزق من مأكل ومشرب وملبس لنتمتع بها في غير معصية ولا طغيان. ومن شر المعاصي الكبر والإعجاب لأن الكبر يسلب الفضائل، ويكسب الرذائل، ويباعد بين المؤمن وبين التواضع وهو رأس أخلاق المتقين، ويورث الحقد

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء (5791) .

أسباب الكبر

والغضب والإزدراء بالناس واغتيابهم ويجافي بين المرء وبين الصدق وكظم الغيظ وقبول النصح، والوقوف على ما يكون فيه من عيب. واستفادة العلم والانقياد للحق، ومنشأ ذلك استحقاره واستصغاره ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطر الحق وغمص الخلق» أي رد الحق والمماراة فيه وازدراء الناس. [أسباب الكبر] وللكبر أسباب كثيرة: منها العلم: وما أسرع الكبر إلى العلماء، فلا يلبث أحدهم أن يستشعر في نفسه كمال العلم فيستعظم نفسه ويستحقر الناس ويستجهلهم، وذلك بأن ما هو عليه ليس بعلم حقيقي لأن العلم الحقيقي ما يعرف العبد ربه ونفسه وخطر أمره وهذا يورث الخشية والتواضع قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» أو بأنه سيء النحيزة «2» خبيث الدخلة «3» فلا يزيده العلم إلا خبثا وسوآ. ومنها الحسب والنسب: فيتكبر من يعرف له علو نسب على من دونه وربما يأنف «4» من مخالطة الناس ومجالستهم، ويجري على لسانه التفاخر بنسبه، ولقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه قال: قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: «يا أبا ذر ليس لإبن البيضاء على ابن السوداء فضل» . ومنها المال والقوة والاتباع والعشيرة: ففي هذا الحديث يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم سببا من أسباب الخيلاء، والعجب وهو جر الثوب وإطالته تيها من الرجل أو المرأة ولو كان اللبس مع التشمير لأنه يضر بالنفس في الدنيا حيث يكسب المقت من الناس وإضاعة المال، وفي الآخرة حيث يكسب الإثم. أما من قصد إظهار نعمة الله عليه شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس مثله فلا يضره ما لبس من المباحات قال عليه الصلاة والسلام: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة» «5» ، وقال ابن عباس: «كل ما شئت والبس ما

_ (1) سورة فاطر، الآية: 28. (2) النحيزة: الطبيعة. (3) الدّخلة: الباطن. (4) يأنف: يستكبر ويتعالى. (5) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ. معلقا.

96 - باب: بيع الرجل على بيع أخيه

شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف ومخيلة» «1» . ولا شك أن ما هو في حكم جر الثوب إطالة الأكمام وتوسيعها عن المعتاد وقدر بعضهم المذموم بما نزل عن الكعبين إلا إذا كان المداراة عيب أو عاهة فلا بأس بها وقيل بكراهتها لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا قد أسبل إزاره فقال: «ارفع إزارك» ، فقال: إني أحنف «معوج الرجل إلى الداخل» تصطك ركبتاي فقال: «ارفع إزارك فكل خلق الله حسن» ، ولأنها تدعو إلى الخيلاء وتعلق النجاسات بالثواب. فعليك أيها المؤمن بالتواضع تزدد رفعة وبالعمل باداب الدّين تزدد من الله قربا ومحبة، وتذكر مبدأك وهو نطفة مذرة، ومنتهاك وهو جيفة قذرة «2» ، فإنك إن عرفت ذلك لم تأخذك العزة في غير الحق، ولم تتعاظم على إخوانك المؤمنين، وإذا ذكرت لله عليك فضلا ونعمة فاذكر أن لذلك نهاية ومتحولا. فإياك والبطر والخيلاء فإنها ممحقة للبركة، مذهبة للنعمة، تأكل الحسنات كما تأكل النار الخطب. 96- باب: بيع الرجل على بيع أخيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرّجل على بيع أخيه وأن يخطب الرّجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب» . [رواه البخاري «3» ] . اللغة: الخطبة: بكسر الخاء: طلب الزواج بالمرأة. الشرح: اشتمل هذا الحديث على النهي عن أمرين: بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبة الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللباس، باب: قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ ... معلقا. (2) جيفة: جثة الميت إذا أنتنت. (3) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5142) .

أما الأول: فصورته أن يبيع شخص لآخر شيئا ويكون للمشتري الخيار فيأتي ثالث ويقول للمشتري في مدة الخيار افسخ لأبيعك مثله بأنقص من الثمن. وإنما نهي عن هذا النوع من البيع لأنه يجلب العداوة والبغضاء بين البائع الأول والثاني وربما جرّ ذلك إلى أضرار لا تنتهي عند حد كما هو مشاهد معلوم. فلعرض قليل من متاع الدنيا لا يليق بالمسلم أن يسبب من الشرور والإحن لأخيه ولنفسه ما يغضب الله ورسوله ويزرع الحقد في القلوب. وبناء على القاعدة القائلة: (إن النهي عن الشيء يقتضي فساده) يكون بيع الرجل على بيع أخيه فاسدا وبذلك قال المالكية والحنابلة. أما جمهور الفقهاء فيقولون بصحة هذا البيع مع الإثم لأن النهي هنا ليس لذات المنهي عنه بل لأمر خارج. وأما الثاني: فهو أن يطلب الرجل من امرأة أو من وليها التزوج بها فتقبل هي أو الولي بزواجه فيجيء آخر ويخطبها لنفسه مع علمه بخطبة الأول وهو حرام بالإجماع إذا قبلت المخطوبة أو وليها الزواج من الخاطب الأول أما لو ردّ أحدهما فلا تحرم خطبة الثاني. وهل الحرمة تفسد زواج الخاطب الثاني؟ قالت الظاهرية «1» يفسخ نكاحه سواء قبل الدخول أم بعده. وقال الجمهور لا يفسخ لأن النهي عن الخطبة، وهي ليست شرطا في صحة النكاح فلا يفسخ لوقوعها غير صحيحة. وهذا الحكم عام يشمل عدم جواز الخطبة على خطبة الأول ولو فاسقا أو كافرا وهو رأي عامة العلماء. وقيل: لا تحرم الخطبة على خطبة الفاسق والكافر لأن الحديث مقيد بعد خطبة الرجل عن خطبة أخيه. ولا أخوه بين المسلم والكافر وبحديث: «المؤمن أخو المؤمن» «2» فيخرج بذلك الفاسق ورد ذلك بأن التعبير بالأخ

_ (1) الظاهرية: من الفقهاء: منسوبون إلى القول بالظاهر، وهم أتباع داود بن علي بن خلف الأصبهاني، المعروف بالظاهري. (2) رواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك-

97 - باب: ما ينبغي اعتباره في اختيار الزوجة

هنا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وقوله في الحديث: «حتى يأذن له الخاطب» يدل بنصه على جواز الخطبة له بعد الإذن وبمفهومه على جواز ذلك لغيره لأن إذن الخاطب الأول قد دل على عدوله «1» فتجوز خطبتها لكل من يريد نكاحها. 97- باب: ما ينبغي اعتباره في اختيار الزوجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدّين تربت يداك» . [رواه الجماعة إلا الترمذي «2» ] . اللغة: الحسب: الشرف بالآباء والأقارب مأخوذ من الحساب لأن العرب كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم وماثر آبائهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره، وقيل المراد به هنا الأفعال الحسنة. تربت يداك: لصقت بالتراب بسبب الفقر. وهذه جملة خبرية بمعنى الدعاء لكن لا يراد بها حقيقته بل يراد بها الحث والتحريض، وقيل إنها مثل على حد قولهم للشاعر: قاتله الله لقد أجاد. الشرح: الزواج سنة من سنن الهدى حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب فيه بأنواع الترغيب، والناس في اختيارهم الزوجة وتفضيلهم بعض النساء على بعض مختلفون. منهم من يرغب في ذات الغنى الوافر والثروة الواسعة لكي تعينه على مطالب الحياة ومشاق الزوجية ومرافق الأولاد، أو توفر عليه بعض مطالبها الخاصة أو يتمتع في مالها وينعم به.

_ - (3449) . (1) عدوله: رجوعه عن رأيه. (2) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين (5090) . ورواه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين (3620) . ورواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: ما يؤمر به من تزويج ذات الدين (2047) . ورواه النسائي في كتاب: النكاح، باب: كراهية تزويج الزناة (3230) . ورواه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: تزويج ذات الدين (1858) .

ومنهم من يرغب في ذات الحسب العالي والعدد الكثير يتخذ منهم عصبة ويعتز بهم عن قلة ويقوى عن ضعف. ومنهم من يرغب في ذات الجمال البارع يمتع بمنظرها نفسه ويستروح بها «1» قلبه. ومنهم من يرغب في ذات الدّين الحصان، يأمن بدينها أن يثلم شرفه، أو تزل قدمها في مهواة المعاصي والشرور، إن غاب حفظت غيبه، وإن حضر لم تقع عينه منها على ما يكره وكل له وجهة، يدفعه إلى الاختيار ما يرى أنه الجدير بالطلب أو يحقق رغباته ويسد نهماته «2» ؛ فلا يزال يسعى وراء بغيته ويدأب للحصول على طلبته، لا يرضى بديلا عما رسمه لنفسه ولا يقنع بغير ما يرى أن سعادته في العثور عليها وتحصيلها حتى ينال أمنيته ويقنع ما تيسر له؛ غير أن الرسول عليه الصلاة والسلام اختار من بين هؤلاء الجديرة بالبحث والطلب القمينة «3» بأن تقتني وتدخر وتكون شريكة الرجل في حياته، تلك هي ذات الدين؛ إذا وجدت لا ينبغي العدول عنها، لأنها ضجيعة الرجل وأم أولاده، وأمينته على ماله وسره وشرفه، فدينها يجعل الرجل مطمئنا يفضي إليها بذات نفسه ويطلعها على مكنون أمره، وتكون الحفيظة على ماله ومنزله، المربّية أولاده على التقوى والصلاح فهو بها سعيد وهي به سعيدة. أما ذات المال التي لم تعتصم بالدّين ولم تتحل بالتقوى فقلما يدوم له صفاؤها ويساس «4» قيادها وترعي حقوقه، وتكون له البارة المطيعة، وإنما تعتز عليه بمالها وتفخر بثرائها، ترى أن لها من غناها ما يجعلها النافذة الكلمة المطاعة الأمر، ذات الحرية المطلقة فيخرج من يده زمامها؛ ويفلت من حكمته وطاعته قيادها وتكون البلية عظمى إذا كان دونها في الثروة أو كان هو معدما، هنا تكون هي السيدة وهو المسود، هي الآمرة وهو المطيع، هي المالكة لأمره وتسيّره كما تحب وتهوى، فينقلب الأمر وتعظم المصيبة كما هو مشاهد بين ظهرانينا مما تئن منه الحياة الزوجية ويهدم في

_ (1) يستروح: يريح ويفرح ويرضى. (2) نهماته: حاجاته وشهواته. (3) القمينة: الجديرة. (4) يساس: ساس الأمر: دبّره وقام بإصلاحه.

كيان الأسر، وينشىء الأبناء على أسوأ المثل وأدنى الصفات ويجعل المنزل مباءة «1» مقت وكره، ومثابة شرور وآلام، ونزاع وخصام. وأما ذات الحسب فإنها تدل على زوجها بحسبها؛ وتفخر عليه بعديدها وبخاصة إذا كان أقل منها عددا؛ فلا يشعر معها بهناءة ولا سعادة، أو يطأطىء لها رأسه، ويذل نفسه. وأما ذات الجمال فتكون مبعث ظنة، ومجلبة ريبة، ولقد استشار رجل حكيما في الزواج فقال افعل وإياك والجمال البارع فقال فكيف ذلك؟ فأجابه: ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا ... إلا وجدت به آثار منتجع ولقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك: «لا تزوجوا النساء لحسنهن فلعل حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهم فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدّين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل» . وليس المراد من ذلك أن يعرض المرء عن ذات المال والحسب والجمال، ويقبل على المعدمة الوضيعة الدميمة، بل المراد ألا يجعل الإنسان نصب عينه في اختيار الزوجة وتفضيلها المال أو الحسب أو الجمال غير آبه بما عساه يكون لها من صفات أخرى، ولا ينقب «2» عما تتحلى به من خلال قد تفضل ما نظر إليه منها وليبدأ بذات الدّين والتقوى فإذا ضمت إلى ذلك خلة من الخلال المرغوبة كان خيرا وأفضل. وإلا فلا يضيره «3» كثيرا أن تفقد مع دينها وصلاحها مالا ينفد وحسبا يزول، وجمالا يذبل وتذوي نضرته بعد حين، أما الدّين فلا يزيد مع الأيام إلا جدّة. ولا يأتي إلا بخير دائم وسعادة مستمرة.

_ (1) مباءة: المباءة: المنزل. (2) ينقب: يبحث ويفحص فحصا بليغا. (3) يضيره: يضرّ به.

98 - باب: الحث على الزواج

98- باب: الحث على الزواج عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء» . [رواه الجماعة «1» ] . اللغة: المعشر: جماعة يشملهم وصف واحد. الشباب: جمع شباب (ولم يجمع فاعل على فعال غيره) وهو اسم لمن بلغ ولم يجاوز الثلاثين وقيل الأربعين ثم يسمى كهلا إلى الأربعين، ثم شيخا. الباءة والباء: الجماع. وأصله الموضع يتبوؤه الإنسان ويأوى إليه، وقيل: معناه في الحديث مؤنة النكاح. ويصح حمله على كلا المعنيين ويكون المعنى من قدر على الوطء ومؤن التزويج، كما يشهد لذلك رواية «من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج» . ورواية «من كان ذا طول» - قدرة- «فلينكح» ، أغض للبصر: أشد كفا له عن النظر إلى المحرم، أحصن للفرج: أشدّ منعا له من الوقوع في الفاحشة. وجاء: أصله الغمز ومنه وجأ في عنقه: إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف: إذا طعنه به، ووجأ أنثييه: غمزهما حتى رضهما، وتسمية الصوم وجاء من باب الاستعارة لعلاقة المشابهة، لأن الصوم لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح شبه بالوجاء. الشرح: يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام شباب أمته الذين هم غرسها النامي، وعتادها «2» في مستقبل أيامهم أن يبادر الشباب منهم إلى التزوج متى كان

_ (1) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066) . ورواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه ... (3386) . ورواه النسائي في كتاب: النكاح، باب: الحث على النكاح (3210) . ورواه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحث عليه (1081) . ورواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: التحريض على النكاح (2046) . ورواه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح (1845) مطولا. (2) عتادها: العتاد: عدة كل شيء.

قادرا على أمور الزواج من النفقة وما يتبعها، وكان به توقان «1» إلى النساء حتى لا تزل به القدم في مهواة المعاصي وحمأة الشرور فإن للشباب فتوة «2» ونزوة تدفع الشاب إلى إطاعة شهوته وتقهره على إرضائها بدون أن يبالي سوء مغبة أو حسنها، وكم جر ذلك من ويلات وأعقب من أدواء استفحل فيما بعد شرها، وعم ضررها وأصبحت ملافاتها عسيرة وتدارك أخطارها في غير الوسع والطاقة، وكم من شاب أغرته شهوته واستبعدته لذته فاتى نفسه من المعاصي حظها وأروى من الموبقات «3» غلتها فكان عاقبة ذلك أن افتقر بعد يسر ومال عريض، وضعف بعد قوة وصحة شاملة، وانتابته الأمراض والعلل فصار حليف الهم والسهاد، ينام على مثل شوك القتاد «4» ، قد أقض مضجعه، وذبلت نضرته وتنكرت له الحياة بعد إقبالها، وكشرت له الأيام بعد ابتسامها، وكلبه الزمان «5» وقد كان له مواتيا «6» مطيعا، ونفر منه الأصدقاء، وكان قرة أعينهم وموضع الغبطة والسرور منهم. ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمة المبادرة إلى الزواج بعد القدرة والاستطاعة بأنها تحصن الفرج عن الوقوع في المحرمات وملابسة ما يغضب الله ويزري بالشرف» والكرامة، وتدعو إلى العفة وغض البصر عما لا يجعل من محارم الله، أضف إلى ذلك أن المبادرة إلى الزواج تمكن المرء إذا رزق أولادا من تربيتهم والقيام بشؤونهم وإعدادهم لمستقبل حياتهم وجعلهم رجالا صالحين ينفعون أنفسهم وأمتهم، ويجعل منهم عمادا لها وقوة، يرهب بهم جانبها، وتقوى شوكتها وتحفظ هيبتها وكرامتها، ويدفع من يريد إذلالها واستعبادها. وأما إذا أبطأ في الزواج حتى تقدّم به العمر فقد لا يستطيع تربية أولاده لضعف قوته وعجزه عن تحصيل ما به حياتهم وتوفير أسباب السعادة لهم، وربما أدركه الأجل فيتركهم كزغب القطا «8» مهيضي

_ (1) توقان: اشتياق. (2) فتوة: الفتوّة: الشباب بين طوري المراهقة والرجولة. (3) الموبقات: المهلكات. (4) القتاد: نبات صلب له شوك كالإبر. (5) كلبه الزمان: وثب عليه. (6) مواتيا: مطاوعا. (7) يزري: يعايب ويعتب. (8) كزغب القطا: أي يتركهم صغارا ضعافا.

99 - باب: استئذان المرأة في الزواج

الجناح «1» ضعيفي المنة. لا يقدرون على دفع عوادي الأيام وكلب «2» الزمان. زد على ذلك أيضا أن الإبطاء في الزواج يزيد في كثرة الفتيات العانسات «3» ويفوت عليهن زمن نضرتهن، وجني ثمارهن في إبانه وليس لهن القوة على مدافعة الشهوة كالرجال فتطغى عليهن وتجبرهن على سلوك طريق الغواية والفساد وهناك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، من اختلاط الأنساب وانتهاك حرمة الأعراض وتمزيق ثوب الحياء، والاستهتار بما يزيل الكرامة ويذل الشرف والعزة ويقضي على الإباء والمروءة والنخوة «4» . وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم العلاج لغير القادر على الزواج وهو الصوم فإنه يكسر الشهوة ويقتل الميل والرغبة في النساء لأنه يضعف البدن وينقص من الدم الذي يبعث الحرارة والقوة فتقل دوافع الشهوة وتضمحل «5» شدتها. 99- باب: استئذان المرأة في الزواج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا البكر حتّى تستأذن» ، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» . [رواه الجماعة «6» ] .

_ (1) مهيضي الجناح: مكسوري الجناح. (2) كلب الزمان: أذاه وشره. (3) العانسات: الفتيات الأبكار اللواتي فاتهن سن الزواج. (4) النخوة: الحماسة والمروءة. (5) تضمحل: تضعف. (6) رواه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (5136) . ورواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (3458) . ورواه النسائي في كتاب: النكاح، باب: إذن البكر (3267) . ورواه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: استئمار البكر والثيب (1871) بنحوه. ورواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في الاستئمار (2092) .

اللغة

اللغة - الأيم: كل مذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا مذكر معها بكرا أو ثيبا، يقال آم الرجل، وآمت المرأة إذا لم يتزوجها، وقيل الأيم: التي لا زوج لها وأصله التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء «1» طرأ عليها، ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها. والمراد بها هنا الثيب بدليل مقابلتها بالبكر تستأمر: يطلب وليها أمرها قبل أن يزوجها. البكر: التي لم تزل بكارتها والمراد بها هنا البالغة، تستأذن: يطلب إذنها بالزواج. الشرح: يستأثر بعض الأولياء بتزويج من يكون تحت كنفهم من النساء أبكارا كن أم ثيبات صغيرات كن أم كبيرات بمن يشاؤن لا يرجعون إليهن برأي ولا يعتدون منهن بقول. فيملّكونهن ممن لا يرغبن ويسلّمون قيادهن لمن لا يحببنه ولا يرضين عشرته فيشجر الخلاف والشقاق، وتنمو البغضاء والحقد ويحل الكره محل الحب، والخصام محل الوئام «2» ، وقد يكون الباعث الأولياء على ذلك رغبة في مال الزوج أو اعتزاز بجاهه، فأرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين إلى أنه لا يصح أن ينفرد الولي بتخير الزوج لموليته والعقد عليها بدون رضاها، لأنها ستكون في مستقبل الأيام شريكة للزوج في حياته. وأمّا لأولاده ومدبرة لمنزله. فينبغي أن يكون لها رأي في اختياره فإن كانت ثيبا فلا بد من تصريحها بالإذن ولا يكفي السكوت منها وإن كانت بكرا اكتفي بسكوتها عن صريح الرضا، بدليل التعبير بالإستئمار في جانب الأيم وهي الثيب، وبالإستئذان في البكر، والأول يدل على تأكيد المشاورة، ذلك بأن الثيب قد قل حياؤها بممارستها الرجال فلا تستحيي من التصريح بالرضا. أما البكر فيغلب عليها الحياء فلا تصرح فيكتفي بالسكوت في الدلالة عليه، ولو ردت واحدة منهما الزواج فلا يصح من وليها العقد عليها، والمراد من البكر التي أمر الشارع باستئذانها هي البالغة إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة لأنها لا تدري ما الإذن. هذا وقد ذهب الحنفية إلى أنه يشترط في صحة زواج الولي الكبيرة إذنها، فلو

_ - ورواه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب (1107) بنحوه. (1) برزء: المصيبة. (2) الوئام: الوفاق.

واستدل الحنفية:

عقد عليها بدون استئذان لم يصح، سواء أكان الولي أبا أم جدا أو غيرهما بكرا كانت، أو ثيبا إذ لا ولاية عندهم على البالغة لأن علة الولاية هي الصغر. وقال الشافعي ومالك وأحمد: يجوز للأب أن يزوج البكر ولو كانت بالغا بغير استئذانها. لقوله عليه الصلاة والسلام: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها» «1» ، فقد جعل الثيب أحق بنفسها من وليها ومفهومه أن ولى البكر أحق بها منها. وبما روي أن ابن عمر والقاسم وسالما كانوا يزوّجون الأبكار لا يستأمرونهنّ. واستدل الحنفية: 1- بما رواه أحمد وأبو داود «2» : أن جارية بكرا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام. 2- بأن الوالي ليس له أن يتصرف في مال البكر البالغة إلا بإذنها والمال دون النفس، فكيف يملك أن يتصرف في نفسها ويخرجها إلى من قد يكون أبغض الناس إليها. 3- أن جميع ما في السنة من الأحاديث الصحاح والحسان المصرّحة باستئذان البكر ومنع العقد عليها إلا بإذنها لا يعقل له فائدة إلا العمل على وقفه لاستحالة أن يكون الغرض من استئذانها مخالفتها. فلو كان للولي إجبار عليها لم يكن للأمر باستئذانها فائدة. واختلف في المراد من البكر التي يعتبر سكوتها رضا فمذهب الحنفية أنها من

_ (1) رواه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (3462) . ورواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في الثيب (2098) . ورواه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب (1108) . ورواه النسائي في كتاب: النكاح، باب: استئذان البكر في نفسها (3260) بنحوه. ورواه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: استئمار البكر والثيب (1870) بنحوه. (2) رواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في البكر يزوجها أبوها لا يستأمرها (2096) . ورواه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: من زوج ابنته وهي كارهة (1875) .

100 - باب: إحداد المتوفى عنها زوجها

لم يمسها إنسان ويكون مصيبها أول مصيب سواء بقيت عذرتها «1» أم زالت بسبب غير الوقاع كمرض أو وثب أو لم يكن لها عذرة أصلا، ومن زالت بكارتها بوطء حلال فهي ثيب، ومن رميت بزنا فإن تكرر منها ذلك أو أقيم عليها الحدّ فهي ثيب، وإن لم يتكرر ولم تحد فهي في حكم البكر من حيث اعتبار سكوتها رضا عند أبي حنيفة لأن الناس عرفوها بكرا ولم يشتهر أمرها فلا يزال لها حياء الأبكار. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي إنها ثيب فلا يكتفي بسكوتها عند استئمارها بل لا بد من الإفصاح منها لأنها ثيب لغة وشرعا ولا يعلم بقاء حيائها من ذكر الزواج. وفي هذا الحديث تقرير لمبدأ جليل ذلك هو اعتبار المرأة إنسانا كامل الإرادة والاختيار لا حق لأحد عليها في إكراهها على ما لا تحب وترضى متى كانت عاقلة فقد جعل لها اختيار الزواج الذي سيكون شريك حياتها تشاطره الحياة الزوجية، وما تتطلبه من تكاليف ومهام، ولم يبح لأحد من ذوي قرابتها، ولو كان أباها أن يكرهها على الزواج ممن لا ترغب. بل جعل تزويجه إياها من أي شخص كان موقوفا على إذنها وإجازتها، فإن أجازته ورضيت عن فعله بعد علمها بما يلزم العلم به انعقدت رابطة الزواج متينة غير منقوضة «2» ، وإلا فلا سلطان لأحد عليها، ذلك بعد أن كانت المرأة في الجاهلية وضيعة الشأن قليلة الخطر تكاد تكون من سقط المتاع، لا رأي لها ولا إرادة في أمر من أمورها، جلّ أو هان، وكان لوليها أن يزوجها بمن يشاء وبما يشاء أو يعضلها «3» عن الزواج لا رادّ لقوله ولا معقب لعمله. فجاء الإسلام وفك عنها قيود العبودية والإذلال وأنالها قسطها «4» من الحرية والاستقلال حسبما تقتضيه طبيعتها الخلقية ووظيفتها في المجتمع. 100- باب: إحداد المتوفى عنها زوجها عن زينب ابنة أبي سلمة عن أمّ حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) عذرتها: بكارتها. (2) منقوضة: مفسودة. (3) يعضلها: يمنعها. (4) قسطها: حقها.

اللغة:

يقول: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . [رواه البخاري «1» من حديث طويل] . اللغة: تحد: فعل مضارع إما بفتح التاء مع ضم الحاء أو كسرها، من حدت المرأة حدا وحدادا، وإما بضم التاء وكسر الحاء من أحدت إحدادا إذا امتنعت عن الزينة من طيب ولباس لموت زوج أو قريب. وأصل الحد في اللغة: المنع ومنه سمي البواب والسبحان حدادا، وسميت العقوبة حدا، والمراد هنا منع المتوفى قريبها أو زوجها نفسها من الزينة والطيب، ومنع الخطاب خطبتها والطمع فيها، ثلاث ليال: أي مع أيامها، وقوله وعشرا: أي ليال مع أيامها كذلك. الشرح: الحزن على القريب أو الزوج أو الصاحب غير محظور «2» وربما كان مشكورا بل قد يكون إظهاره واجبا مراعاة لحق القرابة ووفاء لواجب الصحبة. ولكنه متى خرج عن هذا القدر صار مذموما لأنه يبعث السأم «3» إلى القلب والغم إلى النفس، ويدعو إلى تعطيل الأعمال وتحريم ما أحل الله وربما جر إلى السخط من قضاء الله. والحديث يدلنا على القدر الذي يباح للمرأة فيه أن تبدي الحزن على من يموت من زوج أو غيره، وقد بين أن لها الإحداد على غير الزوج من أب أو ابن أو أخ أو غيرهم إلى ثلاثة أيام، أما على الزوج فإلى نهاية العدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، فتمتنع من التزين والتطيب والظهور بمظهر الفرح أو السرور وكذا تمنع خطبتها والتكلم في شأن زواجها حتى تنتهي عدتها. وقد أشار بقوله: لا يحل إلى أن مجاوزة الإحداد من ثلاثة أيام على غير الزوج حرام تغضب الله ورسوله. ولذا فإن كثيرا من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة كن

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: تحدّ المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا (5334) . ورواه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام (3710) . (2) محظور: ممنوع ومحرّم. (3) السأم: الملل.

101 - باب: تخير الأوقات للمواعظ

يكففن عن الإحداد على من يموت من أقاربهن ويبدين أمارات التزين بعد ثلاثة أيام امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقياما عند تعاليمه. واستدل الحنفية بكلمة (امرأة) على أنه لا يجب الإحداد على الصغيرة لأن (المرأة) لا تطلق إلا على البالغة. وقال غيرهم بوجوب الإحداد عليها إذا توفي زوجها كما تجب العدة. والتقييد في الحديث بلفظ (امرأة) لأنه خرج مخرج الكثير الغالب ويطالب وليها بمنعها مما تمنع منه البالغة- واستدلوا أيضا بتنكير امرأة على وجوب الإحداد سواء دخل بها أم لا، حرة كانت أو أمة أو كتابية أو أم ولد إذا مات زوجها لا سيدها. واستدلوا بقوله: «تؤمن بالله» إلخ على أنه لا إحداد على الذمية وبذلك قال بعض المالكية. وقال الجمهور: إن قيد الإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر تأكيدا للمبالغة في الزجر؛ ولأن الإحداد من حق الزوج وهو ملتحق بالعدة في حفظ النسب فتطالب به الكافرة. واستدل بقوله: «على ميت» على ألاإحداد على امرأة المفقود لأنه لم تتحقق وفاته- وبقوله: «إلا على الزوج» على أنه لا يزاد على الثلاث في غير الزوج أبا كان أو غيره وعلى أنه لا إحداد على المطلقة مطلقا وبه قالت الشافعية والجمهور. أما الحنفية فقالوا بذلك في المطلقة رجعيا والمطلقة قبل الدخول أما المبانة فعليها الإحداد قياسا على المتوفى عنها زوجها. هذا ولم تظهر للتحديد بأربعة أشهر وعشر حكمة جلية فنكل ذلك إلى العليم الحكيم. 101- باب: تخير الأوقات للمواعظ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يتخوّلنا بالموعظة في الأيّام كراهة السّامة علينا» . [رواه البخاري «1» ] .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا-

اللغة:

اللغة: يتخولنا: يتعهدنا بتنويع المواعظ ولا يثقل علينا بمتابعتها، السامة: الملل والشجر. الشرح: خير الواعظين وعظا وأجداهم نفعا وأكثرهم تأثرا من يتفقد أحوال الناس وأنسب أوقاتهم فيلقي إليهم بمواعظة وينشر بينهم ماثره. كما أن أحسن العلماء أثرا من اختار للناس مسائل العلم؛ وانتقى ما يفيدهم في دنياهم وآخرتهم؛ وكان في كل ذلك حسن العبارة فصيح القول يخلط الجد بالمزاح الطريف والحكمة بالفاكهة الشيقة «1» ، وينتهز تشوقهم إلى ما يبين لهم وخلوهم من شواغل الدنيا، واستجمام «2» قواهم ورغبتهم في التفقه والتعلم، فهناك يكون لوعظه وعلمه أبين الأثر وأنجح الفائدة. وهذا قدوة المؤمنين صلى الله عليه وسلم كان يتفقد الأوقات المناسبة للصحابة فيعظهم ويعلمهم؛ ويجعل من حوادثهم وأحوالهم عظات بالغات، ودروسا جمة المنافع وما كان يداوم عليهم بذلك مخافة أن يلحقهم الملل والضجر فيسأموا وينصرفوا عن سماعه وقبول قوله؛ ولكنه كان كالطبيب يعطي من الدواء بالمقدار الملائم للمرض ويتمشى معه في طريق العلاج مترقيا في مقادير الدواء حتى لا يمل المريض ويكره الدواء فيصعب علاجه ويستفحل «3» داؤه ويعز شفاؤه، وفي الحق أن للنفوس أوقاتا تكون فيها راغبة في العلم تواقة «4» إلى سماع الموعظة وذلك عند صفائها واستراحتها من العناء والمشقة؛ وحين ذاك ينبغي أن تتبلغ «5» منهما بما يناسب مقدارا ومادة وأن لها أوقاتا تكون فيها مكدودة ضجرة، قد أثقلتها متاعب الحياة وشغلتها صوارف «6» الأيام فلا تقبل علما ولا تقبل على عالم، بل تنفر وتفر هاربة لا تلوي على نصح

_ - ينفروا (68) . ورواه مسلم في كتاب: صفات المنافقين، باب: الاقتصاد في الموعظة (7060) . (1) الشّيّقة: المشتاقة والمشوقة. (2) استجمام: تجمع وكثر. (3) يستفحل: يتفاقم ويشتد. (4) تواقة: مشتاقة. (5) تتبلغ: تكتفي. (6) صوارف: نوائبه وحوادث.

102 - باب: ما يكره من التمادح

ناصح، ولا تصيخ «1» إلى وعظ مرشد، ومن الخطل «2» في الرأي أن يبتغي الناصح لها في تلك الأوقات رشدا أو يرقب إصلاحا، فعلينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يكون الواعظ أو المرشد كخاطب ليل لا يدري ما يلقي على الناس، ولا من يلقي عليه موعظته، ولجهل كثير بطرق الوعظ والإرشاد اختيار مسائل العلم وتثقيف الناس وبخاصة العامة. منهم قلّت الفائدة منهم على كثرتهم؛ وانصرف الناس على الاستماع إليهم والركون إلى قولهم؛ وفضّلوا الجلوس في مجالس اللهو عن دروس العلماء والواعظين، اللهم إلا قليلا أحسنوا الوعظ فأحسن القوم الاستماع والعمل، وأجادوا في القوم وتخيروا أساليبه فكان لهم التأثير الحسن والسلطان على القلوب فألانوا قاسيها؛ وأسلسوا «3» عصيها، وملكوا زمامها فكانوا من الصالحين المصلحين الذين عملوا بقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» «4» . 102- باب: ما يكره من التمادح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة- (وفي رواية) : في المدح. وفي أخرى في مدحه- فقال: «أهلكتم أو قطعتم ظهر الرّجل» . [رواه البخاري ومسلم «5» ] . اللغة: يطريه: يبالغ في مدحه، المدحة: بكسر الميم: كيفية المدح وهيئته أهلكتم أو قطعتم: كذا بأو، شك من الراوي. الشرح: المدح على الشيء قد يكون من إشارات الاستحسان ودواعي التشجيع والإجادة واستحثاث «6» الهمم إلى جلائل الأعمال والإشادة بذكر المجد العامل،

_ (1) تصيخ: تستقمع. (2) الخطل: الخطأ الفاحش. (3) أسلسوا: سهلوا وألانوار. (4) تقدم تخريجه ص 102 (2) . (5) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ما يكره من التمادح (6060) . ورواه مسلم في كتاب: الزهد، باب: النهي عن المدح إذا كان فيه افراط و ... (7429) . (6) استحثاث: استعجال.

103 - باب: جزاء النميمة وعدم الاستتار من البول

وحفز العزائم على الدأب والسعي لتحصيل المحامد وابتناء المكارم، كما أن السكوت عنه غمط من شأن أولى الهمم وتثبيط لهم، وفتّ في عضدهم، وإماتة لما عساه يكون عندهم من غرائز يدفعها التنشيط، ويعبرها الغمص والزراية كل هذا خير ما دام القصد ما ذكر. أما إذا كان المدح للتملق «1» وإسناد الأعمال إلى غير أربابها فإنه مجلبة الطغيان وباعث النفاق والذلة، ومحيي المهانة والحقارة وموجب المقت والسحت والكذب؛ لأن المادح يضطر إلى الإفراط وقوله غير الحق وإلى إظهار ما لا يضمر للممدوح واعتقاده أنه كما يقول مادحه وقد يكون فاسقا أو ظالما وهذا غير جائز. ففي حديث أنس «إذا مدح الفاسق غضب الرب» ، وقال الحسن رضي الله عنه. من دعا لظلم بطول البقار فقد أحب أن يعصي الله في الأرض. فإذا ما سلم المدح من تلك الآفات كما تقدم لم يكن به بأس ولقد كان سيدنا علي رضي الله عنه إذا أثني عليه يقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون. 103- باب: جزاء النميمة وعدم الاستتار من البول عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: مرّ النّبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذّبان في قبورهما فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يعذبان وما يعذبان في كبير» ، ثمّ قال: «بلى كان أحدهما لا يستتر» - وفي رواية: «لا يستبرءى» . وفي أخرى «لا يستنزه من بوله وكان الآخر يمشي بالنّميمة» . [رواه البخاري «2» وغيره] . اللغة: الحائط: البستان، في كبير: في أمر يشق عليهما اجتنابه والابتعاد عنه،

_ (1) التملق: التودّد بكلام لطيف وتضرع فوق ما ينبغي. (2) تقدم تخريجه ص 219 (2) .

الشرح:

بلى: أي إنه لكبير خطره تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ «1» يستتر: يجعل بينه وبين بوله، سترة: أي لا يتحفظ منه ويستبرىء: يتطهر ويستنزه: يبعد عن أن يصيبه البول أي لا يتوفى منه النميمة: هي نقل الكلام بين الناس لإيقاع الأذى وإلحاق الضرر بهم. الشرح: ينبئنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنوب ما يعده الإنسان صغيرا لا يبالي أن يقترفه ولا يأبى ارتكابه ويظنه هين الشأن. وهو سيء المغبة «2» مؤلم العاقبة وأن من ذلك عدم الاستتار وقت قضاء الحاجة فتبدو للناس عورته كالحيوان البهيم. مع أن الله كرمه على سائر الخلق وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «3» ، ويفقد حياءه وتضيع كرامته ويصبح حقيرا شأنه شأن الدواب. أو ألا يحترز من البول فتصيبه النجاسة وتتناثر على جسمه وملابسه فتلوثها وتجعله مستقذرا في أعين الناس وتفسد صلاته وعبادته- ومن ذلك أيضا. السعي بالنميمة ونقل الكلام بين الأصدقاء والخلان بقصد الإضرار بهم وإفساد صداقتهم ومودّتهم، وكشف ما يكره كشفه من أمورهم سواء أكان ذلك بالقول أم بالكتابة، وسواء كان المنقول من الأعمال أم من الأقوال ولذا كان خطبها «4» جسيما «5» وعاقبتها سيئة. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام» . وقال: «أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقا المواطئون أكنابا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم على الله المشاؤن بالنميمة المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات» . وقال الحسن: من نمّ إليك نمّ عليك. ومعنى هذا أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا وهو لا ينفك عن الغدر والخيانة والإفساد بين الناس وهذا من آفات اللسان التي يجب

_ (1) سورة النور، الآية: 15. (2) المغبّة: العاقبة والآخرة. (3) سورة الإسراء، الآية: 70. (4) خطبها: الخطب: الحال والشأن. (5) جسيما: عظيما.

104 - باب: تعاهد القرآن

على المسلم أن يحذر منها ويأخذ نفسه ولسانه على الحق ومحبة الناس والعمل لخيرهم والبعد عما يضرهم ويسيء إليهم. 104- باب: تعاهد القرآن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا القرآن. فوالّذي نفسي بيده لهو أشّد تفصّيا من الإبل في عقلها» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: تعاهدوا القرآن: حافظوا عليه وتقلدوه حينا بعد حين بملازمة تلاوته تفصيا: تخلصا وتفلتا، يقال تفصيت من الشيء تفصيا إذا تخلصت وخرجت منه. العقل: بضمتين جمع عقال بكسر العين وهو الحبل يشد في ركبه البعير. الشرح: القرآن هو قانون شريعتنا الإسلامية؛ وقاموس لغتنا العربية وقدوتنا وإمامنا في حياتنا؛ به نهتدي وإليه نحتكم وبأوامره ونواهيه نقتدي، وعند حدوده نقف، سعادتنا في سلوك سننه واتباع مناهجه. وشقوتنا في تنكب تعاليمه والبعد عن شرعته، ومن الواجب أن نتعهده ونتفقده بالحفظ ومداومة التلاوة والمدارسة حتى لا ينسى. ولقد شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعير الذي يخشى منه الشراد فما دام تعاهده بالعقال أمن نفوره؛ أما إذا أهمل شرد وند وصار من الصعب إمساكه ورياضته. وكذلك القرآن فمتى كان المسلم شديد العناية به لا يترك تعاهده بالتلاوة بل يجعله سميره في خلوته وجليسه في وحدته ومؤنسه في وحشته، لا يستبدله بلغو القول فيما لا يفيد، دام حفظه وطال مقامه، أما إذا أهمل شأنه وشغلته الصوارف عنه نسيه، وكلما طال العهد بتركه ازداد نسيانا؛ ووجد مشاقّا جسيمة في استعادة حفظه وثقل عليه استدراكه.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: فضائل القرآن، استذكار القرآن وتعاهده (5033) . ورواه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول: نسيت آية كذا و ... (1841) .

105 - باب: التعوذ من الإثم والدين

وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1» . ويحض على مداومة تلاوة القرآن ويفيد إباحة القسم عند الخبر المقطوع بصحته مبالغة في تثبيته في صدر سامعيه. 105- باب: التعوذ من الإثم والدّين عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصّلاة ويقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من المأثم والمغرم» ، فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم؛ فقال: «إنّ الرّجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف» . [رواه البخاري «2» ] . اللغة: أعوذ: ألجأ وأستجير. المأثم: الإثم والذنب. المغرم: بفتح الميم والراء الغرم وهو: الدين، وفعله غرم كشرب. الشرح: المعاصي محارم الله التي نهى عباده المؤمنين عن اقترافها «3» وحذرهم من انتهاكها وأن يحوموا حولها. والدّين- وقاك الله ذله- مثقل الأعناق، وطريق المنة والأذى وسبيل الفقر ومورث المهانة في أكثر أحواله؛ فلا غرو «4» أن استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم منهما وأكثر من استعاذته في صلواته حتى أدرك ذلك الصحابة فسأل أحدهم عن الباعث على كثرة تعوذه. من الدّين. فقال: إن الرجل إذا أدان اضطر إلى أن يخفي معسرته وبؤسه حتى لا يشمت فيه عدوه ولا يلحف «5» في مطالبته غريمه، فيظل يملأ ما ضغيه بزخرف من القول، يموه به على سامعيه، ويجافي بينهم وبين الإطلاع على حقيقة أمره، ودخيلة نفسه، ويظل يقول إن لي عقارا بجهة كذا، وتجارة لن تبور في أصناف كذا وكذا، تدر عليّ من الأرباح كل عام القناطير المقنطرة من

_ (1) سورة المزمل، الآية: 5. (2) رواه البخاري في كتاب: الاستقراض، باب: من استعاذ من الدّين (2397) . (3) اقترافها: ارتكابها وإتيانها. (4) لا غرو: الغرو: العجب، أي لا أعجب. (5) يلحف: أي يلح.

الذهب والفضة، ولي ديون على فلان وفلان ولكم سخوت على الفقراء، وجدت على المساكين، وأبرأت مدينين من ديون كانوا عن أدائها عاجزين، وهكذا لا يبرح يقول إن لي ولي وهو في كل ذلك كاذب مائن ومنافق مخادع حتى ينكشف للناس أمره ويبدو لهم عواره «1» فيطالبوه ويلازموه فيعدهم ويمنيهم ويضرب لهم الآجال ويتملقهم رجاء أن يمهلوه حتى إذا جاءت مواعيده، وحلت النجوم، استمهلهم وطلب منهم أن ينسئوه «2» مرة أخرى وهو في كل ذلك يماطل ويراوغ «3» . لأن الدّين بهظه «4» وضاقت عليه موارده وخانه حظه وعثر به جده، وألفى يديه صغرا بما كان يؤمله. فالتمس الخلاص لنفسه من الناس وإذا بالسبل كسم الخياط «5» أو هي أضيق، وبالأبواب قد أرتجت دون تنفيس كربته أو تفريج غمته فسقط في يده وأسلم نفسه للمقادير تناوشه فتصرعه فلا يجد منها مفرا ولا ملتحدا «6» . ذلك شأن الذي يستدين فيما يكرهه الله أو فيما لا يكون له حاجة للاستدانة فكم من بيوت عامرة خربت، وثروات طائلة ذهبت وبادت، ونفوس كانت كريمة عزيزة ذلت وهانت، وحرمات استطالت على الدهر خضعت وأنوف عزت على الإحن والحوادث أرغمت بالدّين ومهانته. كل ذلك لدّين لم تمس إليه الحاجة ولم تدع إليه ضرورة ملحة. بل لمظهر كاذب ونفاق مزر، وابتغاء الزلفى لحاكم أو ولي والجري وراء عرض زائل أو إشباع شهوة مرذولة «7» ، وإطفاء غلة ممقوتة. وهذا هو الذي يستعيذ منه الرسول صلوات الله عليه. أما الاستدانة لحاجة ماسة مع القدرة على الأداء فلا يستعاذ منه، ولا يستغني عنه إلا القليل من الناس لأن بعضهم محتاج إلى بعض ولا غنى لأحدهم عن الآخر- وما أحوجنا إلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في استعاذته والبعد عما يوجب الذلة ويزري

_ (1) عواره: ضعفه وجبنه. (2) ينسئوه: يؤخروه. (3) يراوغ: يخادع ويوعد. (4) بهظه: غلبه وشقّ عليه. (5) سم الخياط: السّم: كل ثقب ضيق كثقب الإبرة أو غيرها، وسم الخياط ثقب الإبرة. (6) ملتحدا: الملجأ. (7) مرذولة: الرذيلة: الخصلة الذميمة.

106 - باب: الحلف بغير الله

بالكرامة ويريق ماء الحياة ويضيع المروءة وما أحوجنا إلى ابتغاء العزة، والمحافظة على الشمم «1» والإباء، ولا يكون ذلك إلا بتمسكنا باداب ديننا والعمل بها وخاصة في هذه الأيام التي قلّ المعين والمناصر وكثر العدو وأحكم فينا حبائله وأعمل في هدم كيان وحدتنا وديننا وكل عزيز علينا جهده ومكايده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 106- باب: الحلف بغير الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطّاب وهو يحلف بأبيه فقال: «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . [رواه البخاري] «2» . الشرح: قد يلقي إنسان لآخر قولا أو يذكر له خبرا فلا يصدقه السامع، إما لمخالفته لما يعلمه من موضوع الحديث، أو لغرابته عنده، أو لغيره، ذلك من البواعث التي تحول دون وقوع ذلك الخبر موقع القبول، أو يصدقه، ولكن يحتاج من القائل إلى ما يؤكده ويزيده ثبوتا وتحققا، فيضطر المتكلم إلى أن يؤكد قوله ويوثق خبره بأنواع المؤكدات، ومنها اليمين. فالحلف على الشيء يفيد توكيد المحلوف عليه باقترانه بما يعظم عند السامع والمتكلم. وفي هذا الحديث يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم بمن نحلف ونؤكد أقوالنا إذا أردنا الحلف، ومن نعظّم، ويبين لنا أن نحلف بالله ولا نحلف بابائنا، لأن التعظيم الحقيقي لا يكون إلا له سبحانه وتعالى وهو الجدير بالإجلال والإكبار. ولما كان النهي يقتضي الحرمة. فقد أفاد الحديث حرمة الحلف بالآباء وبكل ما سوى الله من نبي أو ولي وتخصيص الحلف بالله خاصة، ولكن اتّفق العلماء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية. والمشهور من مذهب المالكية أن النهي عن الحلف بالآباء للكراهة لا للتحريم،

_ (1) الشّمم: الارتفاع. (2) رواه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بابائكم (6646) . ورواه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى (4233) .

107 - باب: النية في الحلف

وعند الحنابلة للتحريم لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» . ويرى بعض الأئمة أنه لا إثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم، أو كان الحلف متضمنا كفرا أو فسقا. وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله كالشمس والقمر والنجوم والطور، ففيه جوابان: أحدهما أنه على حذف مضاف والتقدير ورب الشمس إلخ. والثاني أن ذلك مختص بالله سبحانه وتعالى فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك. 107- باب: النية في الحلف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اليمين على نية المستحلف» . [رواه مسلم وابن ماجة «1» ] . الشرح: يتخاصم اثنان أمام القاضي في حق لأحدهما على الآخر وليس لصاحب الحق منهما بينة فيطلب يمين خصمه فيحلف بأمر القاضي ناويا خلاف ما يحلف عليه. ويكلف رجل آخر عملا من الأعمال فيزعم أنه قام به ويقسم على ذلك ناويا في يمينه عملا آخر، أو معرضا بشيء سوى ما حلف عليه، فهل تعتبر في ذلك نية الحالف أو نية المحلف؟ يدلنا الحديث على أن المعتبر ما نواه المحلف لا الحالف، والحنث وعدمه على ما نواه المستحلف، فمن حلف ناويا خلاف ما طلب منه الحلف عليه حنث في يمينه وعليه كفارة اليمين. وقد فصّل العلماء في ذلك: وخلاصة التفصيل أن المحلف إن كان ظالما أو

_ (1) رواه مسلم في كتاب: الأيمان، باب: يمين الحالف على نية المستحلف (4260) . ورواه ابن ماجة في كتاب: الكفارات، باب: من ورّى في يمينه (2120) .

108 - باب: كراهة الحلف في البيع

كاذبا في دعواه فالعبرة بنية الحالف وإلا فبنية المحلف، وكذا إذا كان المحلف هو القاضي أو نائبه فعلى نية المحلف، أما إذا كان بغير طلب أو بطلب غير القاضي أو في موضع لا تعلق لأحد بحق قبل الحالف فعلى نية الحالف. والحاصل أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف. وهذا مراد الحديث سواء كان اليمين بالله تعالى أم بالطلاق أم بالعتاق إلا إذا حلفه القاضي بالطلاق أو العتاق فتنفعه التوراة ويكون الاعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بهما وإنما يستحلف بالله تعالى. 108- باب: كراهة الحلف في البيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلف منفقة للسّلعة ممحقة للبركة» (وفي رواية للرّبح) . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الحلف: القسم والمراد اليمين الكاذبة كما صرح بذلك في رواية الإمام أحمد. منفقة: مصدر ميمي من النفاق بفتح النون وهو: الرواج «2» ضد الكساد. السلعة بكسر السين: واحدة السلع بكسر ففتح وهي: المتاع وما أعد للتجارة. ممحقة: بوزن منفقة من المحق وهو: النقص والإبطال، والهاء فيهما للمبالغة، البركة: الزيادة والنماء. الشرح: تساوم تاجرا في شراء شيء وتختلفان في الثمن فيقسم لك الأيمان المغلظة أنه لا يربح فيها شيئا إذا باعها لك بما ذكر من الثمن أو أن غيرك قد عرض

_ (1) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ ... (2087) . ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: النهي عن الحلف في البيع (4101) . (2) الرواج: راجت السلعة: نفقت وكثر طلّابها.

عليه فيها أكثر مما تعرض أنت وأن في بيعها لك بما رغبت غبنا «1» عليه وخسارا كبيرا. أو تختلف معه في نوع السلعة أو جنسها فيلقاك باليمين أنها من الصنف الفلاني أو من نوع كذا، ولا يزال ينمق «2» لك الكلام ويغريك بالأيمان، حتى تغتر وتصدقه، فتشتريها كما قال بما طلب من الثمن، حتى إذا فحصت عنها لم تجدها كما كنت ترغب أو وجدتها لا تساوي ما دفعت فيها، بينما يكون البائع قد ظفر منك بالثمن الذي أراده. وهكذا يصنع مع غيرك فتنفق بضاعته وتزداد ثروته، وكلما وجد الربح قد نما بين يديه ولمع بريق الذهب والفضة أمام عينيه استمرأ «3» هذا السبيل الذي يرى أنه يدر عليه الربح الوفير، من غير كبير مجهود ولا خسارة مادية، ويظن أنه بذلك قد أمن البوار وسلم من الخسران، حتى إذا ظن أن الدنيا قد واتته «4» ، وأن السعادة أقبلت عليه وسالمته الأيام: نزلت به مصيبة في جسمه أو ماله أو ولده ذهبت بوافر ثرائه. واجتاحته جائحة أودت «5» بما جمع واقتنى. من مرض ممض، أو فقد ولد، أو سرقة، أو حريق، أو نحو ذلك من البلايا التي يصيب بها الله من لا يرعون لدينه حقا، ولا يخشون لبطشه بأسا ولا عقابا، ومن يتخذون اسمه هزؤا ولعبا، ويشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، فيصبح صفر اليدين يندب حظه، ويلقي على الدهر تبعة ما أصابه، وما درى أنه هو الذي خاط لنفسه ثوب الفقر وما نزل به وهو الذي حفر لنفسه تلك الهوة «6» السحيقة التي تردّى فيها لا إلى نجاة أو قرار بما خفر من ذمته وكذب في قوله، ونقض من يمين الله واجب الوفاء بها، لازم رعايتها وهكذا يصدق عليه قول الله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «7» . فواجب المؤمن في تجارته أن يكون صادقا، أمينا لا خائنا ولا غاشا، وأن يقنع بالربح القليل من حلال طيب عن ربح كثير من حرام خبيث، لأن الأول كثير البركة

_ (1) غبنا: بخسا. (2) ينمق: نمق: الكتاب: كتبه فأحسن. (3) استمرأ: وجده مريئا. (4) واتته: واتاه على الأمر: طاوعه. (5) أودت: أودى: هلك. (6) الهوّة: الحفرة البعيدة القعر. (7) سورة القلم، الآيتان: 44، 45.

109 - باب: شراء المصراة

مأمون الفائدة، بعيدة عنه الغوائل بمنجاة عما يذهبه من النوائب. أما الثاني: فسبيل أن تأخذه النازلات «1» الفادحات «2» فتقل بركته وتمحق زيادته، ولمال قليل في صحة وطمأنينة وراحة بال، خير من غنى كثير في مرض واضطراب فكر ووساوس وهموم. 109- باب: شراء المصراة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اشترى غنما مصرّاة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر» . [رواه البخاري وأبو داود «3» ] . اللغة: المصراة: الدابة التي ربط ضرعها ليجتمع اللبن، من قولك صريت الماء في الحوض وصريته بالتخفيف والتشديد إذا جمعته. سخطها: كره شراءها ولم يرد بقاءها عنده. الصاع: قد حان وثلث. الشرح: كان بعض الناس- ولا يزالون- إذا أراد بيع شاة أو بقرة ربط أثداءها يومين أو أكثر حتى يجتمع اللبن فيها ثم يخرج بها إلى السوق ليبيعها فيظن من لا يعرف حقيقة أمرها أنها غزيرة اللن حافلة الضرع وأن ذلك عادتها فيغتر بذلك ويشتريها بثمن غال. حتى إذا ما عاد إلى بيته واحتواها منزله وحلب ذلك القدر الذي كان قد اجتمع في ضرعها، وجدها قد صارت عجفاء «4» لا تدر أخلافها «5» ولا تعطيه من اللبن إلا اليسير، فيعرف أنه قد خدع بظنه أن ورمها شحم، وأن تصريتها «6» اكتناز باللبن، فيسقط في يده ويصبح في حيرة من أمره، وغم وبؤس مما صار إليه.

_ (1) النّازلات: المصيبة الشديدة ج (نازلة) . (2) الفادحات: ج فادحة: وهي النازلة وفدحه الأمر: أثقله. (3) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: إن شاء رد المصراة في حلبتها صاع من تمر (2151) . ورواه أبو داود في كتاب: البيوع والإجارة، باب: من اشترى مصراة فكرهما (3445) . (4) عجفاء: عجف عجفا: هزل فهي عجفاء. (5) أخلافها: الخلف: حلمة الضرع أو ضرع الناقة ج (أخلاف) . (6) تصريتها: صرى الناقة: حبس لبنها في الضرع.

ومن هذا الحديث تستبين أمور:

فبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن من حدث له ذلك واشترى دابة مصراة فهو بالخيار بعد أن احتلبها إن شاء أمسكها ورضي بها على ما فيها من عيب وغرر، وإن شاء ردها على بائعها ورد معها قدحين وثلثا من التمر، لقاء ما احتلبه من لبنها واسترداد الثمن الذي دفعه، لأن البائع غرر به وخدعه واستغل طيب نفسه ونقاء سريرته من اتهام غيره بالغش وعدم احتياطه. ومن هذا الحديث تستبين أمور: 1- أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب ، والجمهور على أن المشتري إذا علم أنها مصراة ثبت له الخيار على الفور ولو لم يحلب، ولكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب جعل الحلب قيدا في ثبوت الخيار. 2- أن المصراة يحل بيعها مع ثبوت الخيار ولا مدة له بل يثبت عقب الحلب ثلاثة أيام بعد الحلب كما يدل على ذلك بعض الروايات التي روي بها الحديث. 3- أن هذا الحكم لا يختص بالغنم بل يشمل الإبل والبقر من كل مأكول اللحم. أما غير مأكوله كالجارية والأتان «1» فلا يرد للبن عوض، وإن ثبت له خيار ردها لفوات أمر مقصود منها. وهل يثبت الخيار بمجرد الحلبة الأولى أو أن له الثانية والثالثة؟ اتفق العلماء على أن له الحلبة الثانية ولا يسقط خيار بسكوته بعد الأولى. واختلفوا في الثالثة، فقال الجمهور: إن له الثالثة لأن الحلبة الأولى لا يتحقق معها معرفة التصرية. وكذا الثانية لجواز أن يكون نقصها عن الأولى لاختلاف المرعى أو لأمر غير التصرية فإذا حلب الثالثة تحققت تصريتها فكان له ردها. 4- يفيد الحديث أن الصاع يرد مع الشاة. ويلزم من ذلك عدم رد اللبن ولو كان باقيا أي لا يلزم البائع بقبوله لأن نص الحديث أثبت له حقا هو صاع التمر وهل يتعين التمر أو يجوز غيره مما يقتات به أهل البلد أو قيمته؟ مذاهب. ويدل الحديث أيضا على وجوب الصاع قل اللبن أو كثر حسما للنزاع في قلته

_ (1) الأتان: الحمارة.

110 - باب: ثبوت خيار المجلس في البيع والشراء

وكثرته، إذ قد يحصل البيع في صحراء، أو بادية حيث لا يوجد من يعتمد قوله في المقدار والقيامة. هذا وقد خالف الحنفية بالحديث ولم يعملوا به، فلم يثبتوا الرد بعيب التصرية، ولم يوجبوا رد الصاع من التمر. وحجتهم على ذلك: أن حكم هذا الحديث مخالف للأصول المعلومة، وما كان كذلك لا يلزم العمل به، أما المقدمة الأولى فإن المعلوم من الأصول أن المثليات تضمن بمثلها والقيميات بقيمتها من النقدين. وههنا إن كان اللبن مثليا فضمانه بمثله لبنا وإن كان قيميا فضمانه بقيمته من النقدين، وهو في الحديث مضمون بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا. وأيضا أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف من المضمون وهنا قدر الضمان بالصاع مطلقا قل اللبن أو كثر. وأيضا أن الحديث يقضي برد الصاع ولو كان اللبن ناقيا، وفي ذلك ضمان الأعيان «1» مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا إذا هلكت كالمغصوب وسائر المضمونات. وأما المقدمة الثانية فإن هذا الحديث خير آحاد فيفيد الظن، والأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع. والمظنون لا يعارض المقطوع. وقد نوقشت هذه الحجج ورد عليها بما لا يتسع المقام لبسطه. 110- باب: ثبوت خيار المجلس في البيع والشراء عن حكيم بن حزام: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» . [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد «2» ] .

_ (1) الأعيان: العين: ما ضرب نقدا من الدنانير (9/ 641) . (2) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: إذا بيّن البيعان ولم يكتما ونصحا (2079) . ورواه مسلم في كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان (3836) . ورواه أبو داود في كتاب: البيوع والإجادة، باب: في خيار المتبايعين (3459) .

اللغة:

اللغة: البيعان: البائع والمشترى، ويسمي المشتري، بيعا من باب التغليب لأن البيع هو البائع. الخيار: اسم من الاختيار أو التخيير وهو: طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. والمراد به خيار المجلس في الفسخ لأن الإمضاء لا يحتاج إلى شيء زائد على الإيجاب والقبول ويكفي فيه السكوت. يتفرقا: يفترقا بأبدانهما، وقيل: يفترقا بالأقوال أي ما لم يتم البيع بالإيجاب والقبول. وزعم بعضهم أنه يقال افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان ورد ذلك بقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» فإنه ظاهر في التفرق بالكلام لأنه المخالفة في الاعتقاد. ويرجح حمل التفرق في الحديث على تفرق الأبدان ما رواه البيهقي بلفظ «حتى يتفرقا من مكانهما» وبأن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا باع أو اشترى شيئا ولم يشأ الرجوع، قام من مجلسه ومشي هنيهة «2» ، صدقا وبيّنا، أي صدق البائع المشتري في نوع المبيع وسلامته من العيوب وبين له ما فيه. وصدق المشتري البائع في نوع الثمن وجنسه وبين له ما فيه من عيب أو نحوه كتما وكذبا. أي أخفى كل منهما عن الآخر ما في البدل الذي يكون من جهته وغش كل الآخر فيما عليه البدل. محقت بركة بيعهما: أي قلت وضاعت الزيادة والفائدة التي كان يرجوها كل منها البائع في الثمن والمشتري في المبيع بما يبتليهم الله به من الجوانح «3» والمصاب التي تذهب بما في أيديهما. الشرح: قد يشتري الإنسان شيئا من آخر لحاجة له فيه ثم يندم على الشراء لطروء ما يدعو للندم من رغبة عما اشتراه أو استكثار الثمن أو بدو أمر لم يكن باديا من قبل، يقتضي رد المبيع، وقد يبيع شيئا من ماله لحاجة عرضت ثم يتبين له أفضلية بقائه، إما لتبين خسارة في البيع، أو اهتدائه إلى مخلص سوى البيع من الحاجة التي دعت إليه، فيود كل منهما أن لو أقاله «4» صاحبه وفسخ ما بينهما من عقد أو وجد

_ - ورواه النسائي في كتاب: البيوع، باب: وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما (4476) . ورواه أحمد. (1) سورة البيّنة، الآية: 4. (2) هنيهة: قليلا من الزمان. (3) الجوانح: مفردها جانحة وهي المصائب. (4) أقاله: فسخ العقد الذي بينهما.

سبيلا يحله من هذا التعاقد. لذا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن كلا من البائع والمشتري بالخيار بعد الإيجاب والقبول بين إمضاء البيع أو فسخه ما داما في مجلس البيع فلكل منهما أن يفسخه بدون رضا الآخر، ويسمى هذا (خيار المجلس) . أما إذا ترك أحدهما صاحبه فلا خيار لهما ولا لأحدهما لأن ما كان بينهما من عقد قد تأكد بالمفارقة فلا سبيل إلى العدول عنه إلا برضا الطرفين بالإقالة. فالتفرق المذكور في الحديث هو التفرق بالأبدان لأنه المفهوم عند الإطلاق إذا قيل تفرق الناس ولأن البيّعين (بتشديد الياء) هما البائع والمشتري على ما تقدم، ولا يسمى أحدهما بيّعا حقيقة إلا بعد حصول العقد منهما، ومتى حصل العقد لا يكون منهما تفرق بالأقوال لا بالأبدان. ولأن كل واحد يعلم بداهة علما عاما أن المشتري بالخيار ما لم يوجد منه قبول المبيع، وأن البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع. فلو كان المراد من التفرق الإختلاف في الأقوال وهي الإيجاب والقبول- إذ ليس بينهما أقوال سواهما- لخلا الحديث عن الفائدة ولم يكن له معنى- وبهذا تمسك من أثبت لكل من المتبايعين خيار المجلس، وهم جماعة من الصحابة والتابعين منهم: علي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وشريح، والشعبي، وعطاء- وذهب مالك وأبو حنيفة إلى عدم القول بخيار المجلس وإلى أن الصفقة متى تمت بالإيجاب والقبول فلا خيار إلا بالشرط. ولم يعملوا بهذا الحديث لمعارضته ما هو أقوى منه من نحو قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «1» لأن الآية تدل على طلب الإشهاد عند البيع فإن وقع قبل التفرق لم يكن له فائدة مع ثبوت خيار المجلس. وإن وقع بعد التفرق، لم يصادف محله لأنه وقع بعد تمام البيع. وقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» والراجع عن موجب العقد قبل التفرق لم يكن

_ (1) سورة البقرة، الآية: 282. (2) سورة المائدة، الآية: 1.

111 - باب: النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها

موفيا به. وقوله عليه السّلام: «المسلمون عند شروطهم» ، الخيار بعد العقد بدون شرط مفسد للشرط وهو العقد الذي بينهما- وفي بعض هذه الأقوال مقال يرجع إليه من شاء في المطولات. والمشهور أن حدّ التفرق بالأبدان موكول إلى العرف فما عدّه العرف تفرقا حكم به وإلا فلا. وفي الحديث دلالة على شؤم التدليس والكذب ويمن الصدق والإرشاد. 111- باب: النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتّى تزهي، فقيل وما تزهي؟ قال: «حتّى تحمرّ» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إذا منع الله الثّمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه» . [رواه البخاري ومسلم] «1» . اللغة: تزهي في القاموس: زها النخل طال كأزهى، والبسر تلون كأزهى وزهى. الشرح: كان الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يبيعون ثمار نخلهم أو بساتينهم قبل أن يظهر نضجها وأمانها من العاهات «2» بل قبل أن يبدو الثمر من أكمامه فتجتاحه الجوائح وتذهب به العاهات والأمراض بأن يعفن الطلع أو يفسد الثمر حتى إذا جاء الجداد «3» لم يجد المشتري ثمرا مما رغب فيه وقت لشراء فيختصم مع البائع ويكثر بينهما اللجاج والشحناء، البائع يقول بعتك وما ضمنت لك السلامة من الآفات، والمشتري يقول ما اشتريت إلا لكي أنتفع بما دفعت ثمنه. وبم تستحل الثمن الذي أخذته إذا كنت لم أقبض شيئا مما اشتريته وفي ذلك من العداوة والبغضاء ما فيه.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم (2198) . ورواه مسلم في كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع (3840) عن ابن عمر رضي الله عنه بنحوه. (2) العاهات: العاهة: ما يصيب الزرع والماشية من آفة أو مرض. (3) الجداد: الجداد: أوان قطع ثمر النخل.

112 - باب: فضل التجاوز عن المعسر

فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم البائعين والمشترين عن بيع الثمار قبل أن تعقد ببدو صلاحها، وتظهر حمرتها وصفرتها، وتصير بمأمن من الآفات التي تهلكها لكيلا يحصل بينهم الاختلاف إلا المخاصمة إذ قد عرف كل منهم ما هو مقدم عليه وأمن على البدل الذي يأخذه من الآخر. ولظاهر النهي قال بعض العلماء: ببطلان البيع قبل أن تزهي الثمار سواء قبل وجودها أم بعده وقبل ازدهائها. وقيل: إن البيع جائز ... هذا ونهاية الحديث تدل على العلة في النهي، وأنه مخاطب به البائع لئلا يأكل مال أخيه بالباطل، والمشتري لئلا يضيع ماله، ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضا قطع أسباب النزاع بين المسلمين. وهل يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار؟ حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد جاز بيع ثمرة جميع البساتين، وإن لم يبد الصلاح فيها، أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة. أو لا بد من صلاح كل جنس على حدة أو في كل شجرة على حدة. قال مالك: يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار لجواز البيع في الجميع وإن لم يبد صلاحها ولو كانت من أنواع مختلفة. وقال الإمام أحمد: لا بد من بدو صلاح كل بستان على حدة. وقال الشافعي: يشترط لصحة بيع كل جنس بدو الصلاح في ذلك الجنس بصلاح بعضه ولا يشترط صلاح الجميع لأن الإزهاء متلاحق واشتراط الكل يؤدّي إلى إفساد أكثره، وقد منّ الله تعالى على عباده بكون الثمار لا تطيب دفعة واحدة ليطول زمن التفكه والتلذذ بها فيشكروا الله على ما آتاهم. 112- باب: فضل التجاوز عن المعسر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان تاجر يداين النّاس، فإذا رأى

الشرح:

معسرا قال لفتّيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا فتجاوز الله عنه» . [رواه البخاري «1» ] . الشرح: التجاوز عن المعسرين وتفريج كرب المكروبين من أعظم الأعمال مثوبة، وأكثرها عند الله أجرا، وعند الناس حمدا وشكرا. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» «2» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» «3» ، وقد يأتي على المرء شدّة ومسغبة «4» يضيق بها واسع رحابه، وتمسك بتلابيبه وتصبح الدنيا أمامه كسم الخياط، يودّ الخلاص منها بأي ثمن وإن غلا، ويودّ أن لو ابتلعته الأرض، لديون تراكمت، وأزمات به حلت لم تبق على رطب ولا يابس، ولا صامت من ماله ولا ناطق. فإذا ما أنقذه دائنه مما هو فيه وحط عنه بعض دينه أو تجاوز له عما شغلت به ذمته. كان كمن ردّت إليه الحياة وقد كادت تزهق «5» ، أو انتشل من براثن «6» الهلاك وقد أوشك أن يغرق، وناهيك إذا كان المتجاوز تاجرا شأنه البيع والشراء للربح والكسب، فهو جدّ حريص على زيادة ماله. وإنما ثروته، وتقليب تجارته في الأسواق يبتغي المال الوفير، والربح الكثير، فإذا ما وضع عن غريمه بعض ما عليه دل ذلك على إخلاصه وسلامة نفسه من الشح ورغبته في الخير وابتغاء الأجر؛ فلا غرو أن يتجاوز الله عن سيئاته ويحط من أوزاره ويعفو برحمته عن هفواته «7» وهو الغفور الرحيم.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: من أنظر معسرا (2078) . (2) رواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر (3976) . (3) تقدم تخريجه ص 54. (4) المسغبة: المجاعة. (5) تزهق: خرجت. (6) براثن: البرثن: مخلب السبع أو الطائر الجارح، ج براثن (9/ 46) . (7) الهفوة: السقطة والزلة.

113 - باب: الاستقراض وحسن القضاء

113- باب: الاستقراض وحسن القضاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه فإنّ لصاحب الحقّ مقالا» ، ثمّ قال «أعطوه سنا مثل سنّة» قالوا يا رسول الله لا نجد إلّا أمثل من سنّه، فقال: «أعطوه، فإنّ خيركم أحسنكم قضاءّ» . [رواه البخاري ومسلم «1» بألفاظ مختلفة] . اللغة: يتقاضاه: يطلب منه قضاء الدين. أغلظ: شدد في المطالبة. فهم به أصحابه: أراد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤذوه مقالا: صولة في الطلب وقوة الحجة. سنا مثل سنّة: جملا سنه مثل الذي له. أمثل: أفضل وأحسن. الشرح: اقترض الرسول صلى الله عليه وسلم من أعرابي بعيرا، فلما حل أجل الأداء جاء الأعرابي ليستوفي ماله، ولكنه لم يجمل في الطلب ولم يحسن، بل شدد في المطالبة على عادة الأعراب من الجفوة؛ فأساء ذلك بعض الصحابة الذين حضروا المطالبة وأرادوا أن يؤذو الأعرابي لسوء أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يفعلوا أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه ولا تأخذوا عليه القول حتى يبين حقه ويطلب ماله، فإن صاحب الحق ذو صولة «2» وقوة وبيان، فإذا حيل بينه وبين المطالبة به ضاع حقه، وعدّ كاذبا أو محتالا، ولا شك أن هذا من حسن أخلاق المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكأنه يبدي عذر الأعرابي في تشديده في الطلب، ويكف عنه عاديه الصحابة، ويكبح من غيظهم، الذي أثاره جفاء ذلك الأعرابي وغلظته، ويسري عنه ما يعتريه من الخوف والفزع لإرادتهم الإيقاع به. ثم أمر بأن يشتري له بعيرا يقضي به حقه فقالوا لم نجد إلا أفضل من الذي

_ (1) رواه البخاري في كتاب الاستعراض باب: الاستقراض الإبل (2390) . ورواه مسلم في كتاب المساقاة باب: من استسلق شيئا فقضى خيرا منه (4086) . (2) صولة: يقال هو ذو صولة: مقدام.

يدل هذا الحديث على أمور:

يستحقه فقال صلى الله عليه وسلم: اشتروه وأعطوه إياه يكن لكم فضل حسن القضاء. يدل هذا الحديث على أمور: جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله. وحسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه. وقبح مجافاة صاحب الحق وإن أساء في الطلب. وجواز استقراض الإبل ويلحق بها جميع أنواع الحيوان وعلى هذا أكثر العلماء، أما الحنفية فلم يجوزوه، لأن فيه بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو منهي عنه في جملة أحاديث صحيحة رجالها ثقات فهي ناسخة لما في هذا الحديث، ولأن الحيوان مما تختلف أفراده اختلافا كبيرا، ويقع بينها تفاوت كبير، يؤدي إلى الخصومة والمنازعة. ويدل على جواز الوفاء بما هو أفضل من المثل المقترض، إذا لم يكن ذلك مشروطا في العقد، وإلا فهو حرام لأنه ربا، ويستوي في الزيادة القليل والكثير والصفة والمقدار. 114- باب: النهي عن القضاء حين الغضب عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضينّ حكم» ، وفي رواية «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» . [رواه الجماعة «1» ] . اللغة: الحكم: الحاكم. ويطلق على القيم بما يسند إليه وعلى ما يرتضيه

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأحكام باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (7158) . ورواه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (4465) . ورواه أبو داود في كتاب: الأقضية، باب: القاضي يقضي وهو غضبان (3589) . ورواه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان (1334) . ورواه النسائي في كتاب: آداب القضاة، باب: ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه (5421) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الأحكام، باب: لا يحكم الحاكم وهو غضبان (2316) .

الشرح:

الخصمان للفصل بينهما. الشرح: العدل دعامة العمران وباعث الطمأنينة إلى النفوس، به يحق الحق ويزهق الباطل، يأمن في ظلاله الخائف، ويرتدع من جبروته وسطوته الظالم، ويقوي الضعيف المحق، ويضعف القوي المبطل، وتستنير بضوئه مسالك الحياة الوادعة «1» السعيدة، ويضمحل على صخرته صخب البطش والجور. وأحرى بمن نصب للفصل بين الناس في الخصومات، واستجلاء الحق في ثنايا الدعاوى والأباطيل، أن يكون جد حريص على وضع الأمر في نصابه وتفرس الصواب، من بين عريض الأقوال والمزاعم، ولا يتحقق ذلك، إلا بأن يكون حاضر الذهن، واعيا لكل ما يقال بين يديه، يزنه بميزان الصيرفي «2» الناقد «3» ، والعبقري «4» الحاذق، مالكا زمام أمره، خالي الذهن من الصوارف، التي تحول بينه وبين ما جعل له، رزينا لا تستفزه الأهواء، ولا يأسر لبه الملق «5» والإطراء، حليما لا تحل حبوته المكدرات، ولا تهيج طائره «6» المفزعات، فارغ النفس من الهموم والشواغل. هنالك يتحقق منه العدل، ويرتضي الحكم، وتخضع الهامات العاصية، وتذل النفوس الطاغية ويمتد ظل الأمن على الناس، وتسكن ثورة الأهواء، ويقضي على نزوات العبث والفساد. أما إذا كان القاضي، أو الحكم على غير ذلك اختل نظره وربما تجاوز الحق إلى الباطل في حكمه، كأن يكون حال غضب استولى على نفسه، وصعب عليه صرفه ومقاومته. وكان سائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر ودقة البحث، لاستيضاح الصواب. ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يقضي القاضي بين الناس وهو غضبان، وقاس العلماء على الغضب كل ما من شأنه أن يؤثر على العقل ويغير الفكر

_ (1) الوادعة: وادع فلان فلانا: تاركه. (2) الصّيرفي: الصّيرف: المتصرف في الأمور المجرب لها. (3) الناقد: الذي يميز الجيد من الرديء والصحيح من المزيف. (4) العبقري: صفة لكل ما بولغ في وصفه وما يفوقه شيء. (5) الملق: اللين من الكلام. (6) طائرة: يقال: طار طائرة: غضب وأسرع وهو ساكن، الطائر: حليم هادىء وقور.

115 - باب: التعريف باللقطة وحكمها

من جوع أو مرض أو هم أو نحو ذلك. 115- باب: التعريف باللقطة وحكمها عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثمّ عرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلّا شأنك بها» ، قال: فضالّة الغنم، قال: «هي لك أو لأخيك أو للذّئب» ، قال: فضالّة الإبل؟ قال: «مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يلقاها ربّها» . [رواه البخاري «1» وغيره بألفاظ مختلفة] . اللغة: اللقطة: (بضم اللام وفتح القاف على المشهور) : كل مال معصوم معرض للضياع لا يعرف مالكه، وأكثر ما تطلق: على ما سوى الحيوان، أما الحيوان فيقال له ضالة. العفاص: الوعاء الذي يكون فيه الشيء من جلد أو نسيج أو خشب أو غيره، أو مأخوذ من العفص وهو: الثني، لأن الوعاء يثني على ما فيه، وأصل العفاص: الجلد الذي يكون على رأس القارورة، يقال عفصتها عفصا: إذا شددت العفاص عليها وأعفصتها إذا جعلت لها عفاصا. الوكاء: (بكسر الواو) وهو ما يشد على رأس الصرة والكيس من خيط ونحوه، وفعله أوكى كأعطى. والمراد من معرفة العفاص والوكاء تمييزهما عن غيرهما حتى لا تختلط اللقطة بمال الملتقط، وحتى يستطيع إذا جاءه صاحبها أن يستوصفه العلامات التي تميزها عن غيرها، ليتبين صدقه من كذبه. عرفها سنة: انشر خبرها بين الناس بقدر استطاعتك، حتى يعلم صاحبها أمرها. شأنك بها: تصرف فيها، لأخيك: المراد به صاحبها أو ملتقط آخر. الذئب: المراد به كل حيوان مفترس. ما لك ولها: دعها وشأنها. سقاؤها: السقاء وعاء الماء والمراد به هنا كرشها لأنها تخزن فيه الماء فتقوي على السير عدّة أيام دون أن تشرب.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللقطة، باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها (2429) . ورواه مسلم في كتاب: اللقطة، باب: معرفة العفاص والوكاء وحكم ضالة الغنم والإبل (4473) .

الشرح:

حذاؤها: المراد به أخفافها أي أنها تقوي على السير وقطع البلاد ورعي الشجر والامتناع على السباع المفترسة. ربها: صاحبها. الشرح: اشتمل هذا الحديث على حكم ثلاثة أشياء سئل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1- اللقطة: وقد تقدم تعريفها وأنها أكثر ما تطلق على غير الحيوان. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمها بأنه يجب على ملتقطها أن يتبين علاماتها التي تميزها عما عداها من وعاء ورباط، وكذا كل ما اختصت به من نوع وجنس ومقدار (كيل أو وزن أو ذرع) ويحتفظ عليها احتفاظه على ماله، ولا يعتدها غنيمة ساقها الله إليه، فيعمل فيها يد الإتلاف والإنفاق، كأنما هي مال مملوك له سواء في ذلك الحقير والجليل، ثم يعرّفها وينشر نبأها بما يستطيع في مجتمع الناس وعقب الصلوات في المساجد، وحيث يظن أن ربها هناك، وما يعتقد أنه يذيع أمرها حتى يصل إلى صاحبها. ومدة التعريف سنة، وتلك في ذات القيامة غير التافهة. وقال جمهور العلماء إن التعريف سنة واجب، إذا أراد تملكها ولم يرد حفظها على صاحبها أما إذا أراد حفظها لمالكها فالأصح أنه يلزمه التعريف أيضا لئلا تضيع على صاحبها فإنه لا يدري أين هي حتى يطلبها. أما القليل التافه الذي يعلم أن صاحبه لا يطلبه عادة فإنه لا يعرف أصلا ويملك بأخذه وإن كان يتبعه صاحبه يعرف أياما، إلى أن يغلب على الظن أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك. وإن كانت اللقطة مما يتسارع إليه الفساد كالطعام فللملتقط أن ينتفع به ويضمنه لصاحبه، وله أن يتصدق به ولا ضمان عليه هذا حكم تعريفها. أما أخذها والتقاطها فهو مستحب، وقيل يجب، وقيل إن كانت في موضع يأمن عليها إذا تركها استحب الأخذ؛ وإلا وجب، وإذا علم من نفسه الطمع فيها حرم عليه أخذها. وهذا كله في غير لقطة الحرم، أما لقطته فيحرم أخذها إلا لتعريفها لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يلتقط لقطتها- مكة- إلا من عرفها» «1» .

_ (1) رواه البخاري في كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرّف لقطة أهل مكة معلقا.

2 - ضالة الغنم:

ولما فقدت الأمانة، وغلب الطمع على الناس سنت الحكومات في قوانينها أن من وجد شيئا وجب عليه تسليمه إلى رجال الحكومة وإلا عد سارقا يعاقب بما يستحق، وهذا لا بأس به. واللقطة في مدة التعريف: وديعة عند الملتقط لا يضمنها إذا هلكت إلا بالتعدي، وعليه ردها لصاحبها متى بيّن من العلامات والأمارات ما كان خاصا بها يميزها عما عداها ولا يشترط أن يقيم البينة. وإذا انقضت المدة ولم يطلبها صاحبها كان للملتقط الانتفاع بها وعليه ضمانها إن عاد يطلبها. 2- ضالة الغنم: وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يجوز أخذها بقوله: «هي لك أو لأخيك» إلخ فكأنه قال هي ضعيفة معرضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك وهو صاحبها أو ملتقط آخر، أو أن تفترسها الوحوش وفي ذلك حث على أخذها. وهل يجب تعريفها أولا؟ الجمهور على الوجوب. فإن لم يطلبها صاحبها كان للملتقط أن يأخذها وغرم لصاحبها. وقال المالكية: إنه يملكها بمجرد الأخذ ولا ضمان عليه، ولو جاءها لأنه سوى في الحديث بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط. واجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط ردت إليه. 3- ضالة الإبل: وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها مستغنية عن الملتقط وحفظه بما ركب في طباعها من الجلادة «1» على العطش والقدرة على تناول المأكول من الشجر بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط وبخاصة أن بقاءها حيث ضلت يسهل على صاحبها العثور عليها بدل أن يتفقدها في إبل الناس.

_ (1) الجلادة: جلد جلادة: قوي وصبر على المكروه.

116 - باب: النهي عن عقوق الأمهات وكثرة السؤال وإضاعة المال

116- باب: النهي عن عقوق الأمهات وكثرة السؤال وإضاعة المال عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله حرّم عليكم عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال» . [رواه البخاري «1» ] . اللغة: عقوق الأمهات: إيذاؤهن وعدم القيام بحقوقهن- وأد البنات: دفنهن أحياء. منع: مصدر منع يمنع. هات: اسم فعل بمعنى أعطني. والمراد بهما منع ما أمر الله بإعطائه وطلب ما لا يستحق- قيل وقال: وفي رواية قيلا وقالا: وهما إما اسمان. يقال كثر القيل والقال، وإما: مصدران لقال يقول والمراد كثرة الكلام المفضي إلى الخطأ والزلل، وكرر للمبالغة في الزجر عنه؛ وإما فعلان محكيان والمراد حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليحدث بها. فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا. الشرح: اشتمل هذا الحديث على ستة أشياء يجب على المسلم اجتنابها. أولها: عقوق الأمهات وعدم القيام بحقوقهن والوفاء لهن بما يجب من حسن الطاعة والإنفاق والمعونة: وطيب القول والبعد عما يغضبهن أو يسبب سخطهن، فطالما شقيت الأم بابنها حملا وفصالا «2» ورضاعا وتربية وحياطة من كل أذى وضرر. تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، وتشقى ليسعد، ابتسامته وهو صغير أشهى لديها من الدنيا وما فيها، وصحته وسروره أغلى ما تبغي الحصول عليها، تفتديه بكل مرتخص وغال، وتقيه بما تستطيع وتملك من كل غائلة وشر، إن بكى طارت نفسها شعاعا،

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5975) . ورواه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات (4458) . (2) الفصال: فطام المولود.

وثانيها: دفن البنات وهن أحياء:

وإن مرض تقرحت جفونها التياعا «1» ، فليس من حسن الصنيع أن يقابل ذلك بالجحود والكفران أو يجعله في مطارح النسيان. وقد خص الأم في هذا الحديث لأن العقوق إليها أسرع لضغفها ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو. وثانيها: دفن البنات وهن أحياء: وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة الفقر أو العار، لأن البنت ضعيفة المنة، عاجزة عن مزاحمة الرجال في كسب مادة الحياة فتكون عبئا على أبيها وحملا ثقيلا، فكان بعضهم يقتل البنات لتخف عنه ثقل معيشتهن، وبعض آخر يئدهن مخافة أن يجلبن عليه العار بزلة تجعل أهلها سبة الدهر. وثالثها: منع وهات: والمراد بهما البخل بالمال عن الواجبات الشرعية وما تقتضيه المروءة من زكاة وبر وإعانة محتاج وغوث مستغيث، ونحو ذلك والطمع فيما ليس أهلا له، من ابتغاء أجر بدون عمل، أو زيادة على استحقاق لما في ذلك من إضاعة المروءة وإذلال النفس وأكل المال بالباطل. ورابعها: قيل وقال: والمراد تتبع أخبار الناس وأحوالهم للتحدث بها وإشاعتها وربما كان في شيء منها ما يغضب المقول فيه، من أمور كان يود إخفاءها، وأسرار لا يحب إذاعتها، فتنشأ العداوة وتنمو الضغينة ويعم الفساد والأذى. أضف إلى ذلك ما يوصم «2» به من كانت هذه صفته من المذلة والصغار، وما يلقاه من الناس من الإهانة والاحتقار. وخامسها: كثرة السؤال: والمراد بذلك إما سؤال المال والصدقة، وفي ذلك من إراقة ماء الوجه وإذلال النفس ما يربأ أن يدنس به نفسه، وإما السؤال عن المشكلات والمعضلات وأخبار الناس واختراع الأحاجي والألغاز للتعجيز والإرهاق، لما يترتب على ذلك من إضاعة الوقت في غير المفيد. وربما كان في الجواب عن السؤال ما يؤلم السائل ويسيء إليه أو إلى غيره على حدّ قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ

_ (1) التياعا: لاعه الهم والحزن والشوق: أحرقه. (2) يوصم: وصمه: عابه.

وسادسها: إضاعة المال:

أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ «1» . وسادسها: إضاعة المال: بالإسراف في إنفاقه أو إنفاقه فيما يغضب الله من المحرمات. وعلى الجملة إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعا مما يجلب مصلحة دينية أو دنيوية، أو يدفع مضرة كذلك. ذلك بأن المال قوام الحياة ومادة الدنيا التي هي مزرعة الآخرة. وإضاعته تورث الندم والفقر والذل. انظر إلى ما يصنع في الأفراح والماتم وجهاز العروس والمنازل، وما ينفق في الملاذ والملاهي والرياء والملق للحكام، والظهور في المظاهر الكاذبة الخادعة وما يجلب ذلك من الخراب العاجل وقانا الله شر هذه الآثام ووفقنا للعمل بسنّة خير الأنام. 117- باب: قبض العلم بموت العلماء عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالم اتخط النّاس رؤوسا» . وفي رواية: «رؤساء جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا» . [رواه البخاري ومسلم «2» ] . الشرح: العلماء هم مصابيح الهداية. ورسل الرشاد، وأمناء الله في خلقه، يهدون الضال، ويأخذون بيد المسترشد إلى حيث السداد والصواب، آتاهم الله من بسطة الفهم، وسعة العقل ونفاذ البصيرة ما يكون عصمة لهم من الزلل في الرأي، والخطل في الفهم، وعونا على استكناه الحقائق، وكشف غوامض العلوم، فصدورهم أوعية المعارف، وعقولهم خزائن الحكم، يفيض منها على الناس ينبوع لا

_ (1) سورة المائدة، الآية: 101. (2) رواه البخاري في كتاب: العلم، باب: كيف يقبض العلم (100) . ورواه مسلم في كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (6737) .

118 - باب: مضار الاختلاف وكثرة السؤال

ينضب «1» ومعين لا يغيض «2» وعلى مقدار كثرتهم في الأمة واسترشاد الناس بهم يكون رقيها وعزها. كما أن في قلتهم وانقضاض الأفراد من حولهم أو ابتعادهم عن الناس يكون انحطاطها وتأخيرها. وانغمارها في جهالة جهلاء، وفشوا الأكاذيب والأضاليل فيها. وبموت العالم يخبو مصباح يضيء ظلمات الحياة، ويثلم سيف كان للحق ماضيا، وينهدم ركن من أركان عظمة الأمة ومجدها، فإن لم يخلفه غيره بقي ذلك الجانب مهيضا «3» . وظل ذلك الركن مظلما، واستولت من بعده على العقول الأوهام والخرافات، وثارت من مكامنها هوام الفتنة والزيغ «4» ، وتصدر المجالس من ليس لها بأهل، وأفتي من ليس بينه وبين العلم نسب ولا صهر فأذاع الأساطير، وملأ الأفئدة والآذان بما ينبو عنه العلم الصحيح. ويجافي الحق والصواب ولا يزال سادرا في ظلماء الزيغ حتى يضل من حوله بضلاله ويعمي البصائر عن سواء السبيل. فواجب على العلماء أن يذيعوا ما ائتمنهم الله عليه من مسائل العلوم وأبكار الفنون وأن ينشروا بين الناس نور الهدى ولا يستأثرون به دونهم، وعلى العامة أن يحرصوا على تفهم ما يحتاجون إليه في حياتهم حتى لا يصبحوا في بيداء لا هدى فيها ولا رشاد. 118- باب: مضار الاختلاف وكثرة السؤال عن أي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» . [رواه البخاري ومسلم «5» ] .

_ (1) ينضب: نضب الماء: غار وقل. (2) يغيض: يقال: غاض الكرام: ذهبوا وقلوا. (3) مهيّضا: هيّض فلانا: هيّجه. (4) الزيغ: زاغ زوغا: مال عن القصد. (5) رواه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم-

الشرح:

الشرح: لهذا الحديث سبب. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» ، فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» ثم قال: «ذروني ما تركتكم» إلخ الحديث. يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين الاقتصار في السؤال على ما لا بد لهم منه، وعدم الإلحاح فيما لا فائدة فيه مخافة أن تقع الإجابة بأمر يستثقل فيؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة والمعصية فيكون العذاب؛ وهذا إذا لم يكن المقام مقام استفهام واسترشاد حيث يحمد السؤال ويذم السكوت، وربما تفضي كثرة السؤال إلى مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، إذ أمروا أن يذبحوا بقرة. فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. ثم أرشدهم إلى أنه يجب عليهم أن يقفوا عند نواهي الرسول صلى الله عليه وسلم ويجتنبوا كل ما حظر عليهم فعله فلا يسوغ لهم الإتيان بشيء منه. وقد استدل بعض العلماء بعموم النهي في هذا الحديث على أن الإكراه أو الضرورة لا تبيح فعل المنهي عنه كالتداوي بمحرّم أو دفع العطش به. وأن الشرع لم يكلفهم إلا بما يطيقونه، فلا يكلفهم بما فوق طاقتهم ولا بما يستحيل عليهم فعله، ويدخل في ذلك كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بما في مقدوره، وكذا الوضوء وستر العورة وحفظ بعض الفاتحة. وقد استدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع مشقة الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وقد يقال إن النهي يقتضي الكف عن الشيء، وهذا مقدور لكل أحد ولا مشقة فيه، فلا يتصور عدم الاستطاعة، بخلاف الأمر فإنه يقتضي الفعل، وقد يعجز عن مباشرته كما هو مشاهد فلذا قيد الأمر بالاستطاعة دون النهي.

_ - (7288) . ورواه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثاره سؤاله عما لا ضرورة إليه أو ... (6068) .

واستدل به على ذم كثرة السؤال والتعمق في المسائل إذا كان على وجه التعنت والتكلف، أما إذا كان على وجه التعلم والتعليم لما يحتاج إليه من أمر الدّين أو الدنيا فذلك جائز بل مأمور به لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» . أضف إلى هذا أن كثرة السؤال عما لا يعني مضيعة للوقت واشتغال بما هو عبث وداعية إلى الاختلاف والمجادلة بالباطل. ومثل ذلك كثرة التفريع على مسائل لا أصل لها من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع فيصرف فيها زمان كان صرفه في غيرها أولى. ومن ذلك البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك البحث عن حقيقتها. وعما لم يثبت فيه دليل صحيح كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل ويوقع التعمق فيه في الشك والحيرة؛ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يتسائلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله» «2» . وضابط القول في ذلك. أن المذموم من البحث والسؤال هو الإكثار فيما لا يأتي بفائدة: وتفريع المسائل وتوليدها لا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، وبخاصة إذا كان الحامل على ذلك المباهاة والمبالغة. وكذا إغلاق باب البحث والمناقشة حتى يفوت الإنسان كثير من الأحكام التي يحتاج إليها في حياته. أما إمعان النظر والبحث في كتاب الله تعالى والمحافظة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا السنة وما دلت عليه فإن ذلك محمود نافع مطلوب، وهو الذي كان عليه عمل الفقهاء من التابعين، أما من جاء بعدهم، فقد كثر بينهم الجدال والمراء «3» وتولدت الشحناء والبغضاء، وهم أهل دين واحد حتى

_ (1) سورة الأنبياء، الآية: 7. (2) رواه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه و ... (7296) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: في الأمر بالإيمان (341) . (3) المراء: ما راه مراء: ناظره وجادله.

119 - باب: فضل الصدقة والاستعفاف عن السؤال

صدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث «فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» . 119- باب: فضل الصدقة والاستعفاف عن السؤال عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السّفلى وابدأ بمن تعول» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: اليد العليا: اليد المتصدقة المنفقة. اليد السفلى: اليد الآخذة تعول: يكون في عيالك وتلزمك نفقته. الشرح: من أفضل نعم الله على عبده سعة الرزق وبسطة المال، وخير المال ما وقى به المرء نفسه ذل السؤال، وحفظ به ماء وجهه؛ فمن عرف لنفسه حقها، وبغي لها السعادة دأب وسعى في تحصيل ما يوفر كرامته ويغنيه عن سؤال الناس وجعل له يدا عندهم، ولم يجعل لأحد عليه فضلا، وأما من رضي بالهوان وقنع بالدوان، واستطاب الراحة والدعة لا يبالي أن يعرض أديم وجهه للامتهان ولا يؤلمه أن تستباح كرامته، وتراق على ما في أيدي الناس عزته وإباؤه. فالرسول صلى الله عليه وسلم يرغبنا في السعي لجلب الرزق من طرقه المشروعة وليكون لنا فضل التصدق على البؤساء والمعوزين ولا نكون ممن يمدون أيديهم لسؤال الناس ويقنعون بما يلقى إليهم من فتات الموائد، ويحثنا على الإنفاق في سبيل الخير مما أفاء الله علينا: وأن نبدأ بذوي القربى منا ومن تلزمنا نفقتهم حتى يكون ثواب الصدقة مضاعفا وأجرها عظيما. 120- باب: التحلل من المظالم في الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1427) مطولا. ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى و.. (2383) .

اللغة:

مظلمة لأخيه فليتحلّله منها فإنّه ليس ثمّ دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات أخيه فطرحت عليه» . [رواه البخاري «1» ] . اللغة: مظلمة: بكسر اللام مصدر ظلم كضرب: وهو الجور والإيذاء يتحلله منها: يستبرئه منها بإيفائه إياها أو إبرائه- ثم: في اليوم الآخر يؤخذ من حسناته: من ثوابها. الشرح: ما أجمل العدل وإيتاء كل ذي حق حقه، وما أحسن الوئام يجمع شمل المسلمين، ويقوي رابطتهم ويشد أواصر «2» وحدتهم، وما أجدرهم أن يصدروا في أعمالهم عن حب يتبادلونه، وإخلاص يفيض عليهم هناءة وسعادة، وما أشقاهم إذا لبسوا ثياب النمور، واضطغنوا «3» بالإحن والبغضاء واستشعروا الغل والضغن كل يبغي الشر لأخيه ويود لو التهم ما في يده وأودى بطارفه وتالده واستأثر دون الآخر بالخير ومرافق الحياة. ماذا يرجو الظالم من ظلمه؟ وماذا يرتجي لعاقبته؟ وما الذي أعدّه يوم يقتص منه ويؤخذ للمظلوم بحقه، لئن غره إقبال الأيام وابتسام الدهر له فليحذر تقلباته فإنها شديدة قاسية؟ ولئن اعتز بقوة جسمه، وامتداد سلطانه فسيذوق لطغيانه وتجبره مرارة الصاب والعلقم «4» . يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، هنالك تنجاب «5» عن العيون الغشاوة «6» ويتفرق عن العاصي الأصحاب والأنصار، ولا يبقى إلا ما أسلف من خير أو شر.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: القصاص يوم القيامة (6534) . (2) أواصر: الآصرة: ما عطفك على غيرك من رحم أو قرابة أو معروف. (3) اضطغنوا: انطووا على الأحقاد. (4) العلقم: كل شيء مر. (5) تنجاب: تنكشف وتنقطع. (6) الغشاوة: الغشاء وهو الغطاء.

121 - باب: في بطانة الخير وبطانة الشر

ويؤخذ بيد العاصي فينصب على رؤوس الناس؛ وينادي مناد هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق فليأت، فيأتون. فيقول الرب: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؟ فيقول للملائكة خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟» ، قالوا: «المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع» ، فقال: «إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل ما لهذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» . [رواه الإمام مسلم «1» ] . 121- باب: في بطانة الخير وبطانة الشر عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبّي ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان! بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه؛ وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى» . [رواه البخاري «2» ] . اللغة: البطانة: خاصة الرجل، الذين يبطنون أمره ويخصهم بمزيد التقريب يسمى به الواحد والجمع. يقال: بطن فلان بفلان يبطن به بطونا وبطانة، إذا كان خاصا به داخلا في أمره تحضه عليه: ترّغبه فيه وتحببه إليه. الشرح: من ولي أمور الناس ومهامهم فقد تعرض لخطير العظائم، وحمل جسيمات الأمور، وصار مرهوب البطش مأمول النوال «3» ، ومن شأن ذلك أن يترقب الناس أحواله. ويطرقون أبوابه، كل يبغي عنده الزلفى. ولهم في ذلك مارب شتى وهم في ذلك فريقان: فريق ناصح يبصره بمعايب الأمور ونقائص الأعمال، ويرشده

_ (1) رواه مسلم في كتاب: البر والصلة الآداب، باب: تحريم الظلم (6522) . (2) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: بطانة الإمام وأهل مشورته (7198) . (3) النّوال: النصيب والعطاء.

إلى مزالق الأقدام ومطارح الهلكة فيجنبه إياها، ويهديه السبيل الأقوم ويأخذ بيده إلى حيث السلامة والنجاة، فيكون الناصح الأمين، والصادق الوفي وإن أصابه في ذلك مكروه احتمله. وفريق يزين له كل ما صدر منه، ويموه أمام عينيه حقائق الأشياء فتبدو على صورة مستعارة، ويجعل كل ما يعمله أو يقوله كأنه إلهام أو وحي متلو لا يتطرق إليه الخطأ من ناحية من نواحيه. كما يهون له ما يكون من خطل في رأيه، أو فساد إدارة حكمه، ويخفي الضرر الذي تبدو أعلامه في سبيله فلا يلبث حتى يرتطم في سوء عمله، وتشتبه عليه مصادره وموارده، ويرتبك «1» في سيئات ما صنع، فلا هو بمستطيع أن يتقدم فيزداد سوآ. ولا أن يتأخر إذا ضلت به السبل. ضم إلى ذلك تخلي الأوفياء المخلصين عنه، وانقضاضهم من حوله، فيعيا عليه الأمر ويعز «2» الهدى والسداد. والشواهد على ذلك كثيرة في كل عصر وأمة، وما أخذ المسلمون من جميع نواحيهم إلا بتقريبهم بطانة الشر ورجال السوء وتوليتهم شئونهم غير الأمناء الصادقين، وتشريدهم أولي الرأي والحزم، وإقصائهم» الصالحين الأكفاء، وتصديقهم ما يوسوس به إليهم شياطين الإنس، من زخرف القول والغرور، حتى ظنوا في السراب، شرابا، وفي الجديب «4» نضرة وريّا، فهلكوا وأهلكوا من تبعهم وتخطفتهم الأمم من كل جانب، وسامهم كل مفلس. وتكلم عنهم من لا يحسن لهم قولا، ولا يرعي لهم مصلحة ولا كرامة، وقديما كانت بطانة السوء وبالا على الأمراء والخلفاء والأمم، ونكالا «5» على الصالحين أولي القدرة على كفاء الأمور وتصريف الشؤون. أجل: إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ له من يكشف أحوال الناس في السر. ولكن يجب ألايعتمد إلا من كان مأمونا ثقة فطنا «6» عاقلا، وأن يكون هو

_ (1) يرتبك: ارتبك الأمر: اختلط عليه ووقع فيه ولم يكد يتخلص منه. (2) يعزّ: يشتد ويشق. (3) إقصائهم: إبعادهم. (4) الجديب: جدب المكان جدبا: يبس لاحتباس الماء عنه. (5) نكالا: الجزاء والعقاب. (6) فطنا: فطن الأمر: تبيّنه وعلمه.

122 - باب: ثواب الخوف من الله وصدقة السر

حازما ناقدا متدبرا في أحوال أعوانه، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، فمتى كان ذلك عصمة الله بمشيئته من الزلل، وأمنه العثرات. هذا وقد يقال إن هذا التقسيم لا يمكن انطباقه على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وإن جاز عقلا أن يكون فيمن يتودد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون من بطانته من هو من أهل الشر فلا يتصور منه أن يصغي إليه ويعمل بقوله لوجوب العصمة للرسول. والجواب: أن في نهاية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهي قوله: «فالمعصوم من عصمه الله تعالى» . وفي معنى الحديث ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه» . 122- باب: ثواب الخوف من الله وصدقة السر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلّهم الله يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلوة ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه» . [رواه البخاري ومسلم «1» بترتيب وألفاظ مختلفة] . الشرح: يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ما أعده الله سبحانه وتعالى لسبعة من عباده المؤمنين الذين صفت عقيدتهم وزكت نفوسهم وراقبوا الله في سرهم وعلانيتهم وصدروا في جميع أعمالهم عن رهبة منه وخوف وطمع، فهم يوم

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الصدقة باليمين (1423) . ورواه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة (2377) .

أولهم: إمام نصب ليرعى مصالح المسلمين

القيامة في كنفه «1» وحياطته حيث لا ناصر لهم ولا معين. أولهم: إمام نصّب ليرعى مصالح المسلمين وينظر فيما يرقيهم ويرفع شأنهم، فسار بينهم بالقسطاس «2» المستقيم، وانتصف للمظلوم من الظالم، ولم يخش ضعيف من جوره، ولم يطمع قوي في جاهه وسلطانه، قد أخذ الناس بالحزم على الجادة، ومهد لهم سبل إقامة الدّين، ومعرفة حدوده في غير إفراط ولا تفريط فأمن الناس في غدوهم ورواحهم على أنفسهم وأموالهم. وفي الحق أن العدل دعامة الملك، ووسيلة التقدم والعمران، وسير الأمم في سبيل الرقي بخطوات واسعة في جميع مرافق حياتها ووسائل نهضتها وسعادتها. ويدخل في ذلك أيضا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه. وثانيهم: [شاب ملازم لعبادة الله عز وجل] شاب امتلأ فتوة ونشاطا، واكتمل قوة ونموا، لازم عبادة الله وراقب في سره وجهره مولاه، لم تغلبه الشهوة. ولم تخضعه لطاعتها دوافع الهوى والطيش «3» . وثالثهم: رجل خلا إلى نفسه فذكر عظمة ربه وقوة سلطانه، ورحمته على عباده وجزيل إحسانه، فاغرورقت عيناه بالدموع وفاضتا طمعا في ثوابه وغفرانه، ورهبة من عذابه وأليم عقابه، لم يفعل ذلك رياء وخديعة على ملأ من الناس ومشهد منهم، مما يدل على صدق تأثره وعمق رهبته. ورابعهم: من حبب إليه المساجد فيظل متعلقا بها يسرع إليها إذا حان وقت الصلاة ويحافظ على أوقاتها، وليس المراد حب الجدران ولكن حب العبادة والتضرع إلى الله فيها وهذا يستلزم تجافيه عن حب الدنيا واشتغاله بها وهي رأس كل خطيئة. والمساجد بيوت الله ومجتمع المسلمين ومناط وحدتهم، والتأم كلمتهم، شرعت فيها الجماعات في الجمع والأعياد لما في ذلك من حكم جمة وفوائد لا تحصى.

_ (1) كنفه: الكنف: جانب الشيء. (2) القسطاس: اضبط الموازين وأقومها. (3) الطيش: طاش طيشا: اضطرب وانحرف وزلّ.

وخامسهم: رجلان تمكنت بينهما أواصر المحبة الصادقة

وخامسهم: رجلان تمكنت بينهما أواصر المحبة الصادقة . والصداقة المتينة، الخالصة لله من شوائب النفاق وابتغاء النفع، لا يؤثر فيها غني ولا فقر ولا تزيدها الأيام إلا وثوقا وإحكاما. سرهما في طاعة الله، وجهرهما في مرضاته لا يتناجيان في معصية ولا يسران منكرا. ولا تسعى أقدامهما إلى فسق أو فجور، تجمعهما رابطة الدّين وحبه. وتفرقهما الغيرة على الدّين والذياد «1» عن حرمته، لا لعرض زائل أو متاع من الدنيا قليل. وسادسهم: [رجل دعته إلى منكر امرأة ذات مال وجمال فأعرض عنها من خشية الله تعالى] رجل دعته إلى منكر امرأة اجتمعت لديها كل دواعي الغي والعصيان من جمال رائع، وحسب ومال يغري ذوي النفوس المريضة والإيمان الضعيف. ويهيب بأولي السهوات «2» الجامحة «3» . وقلّ من يجتمع فيها ذلك من النساء فسرعان ما تلبي النداء وترعى في خضراء الدمن «4» ، ولكن هذا الرجل صدها عن غيها وزجرها عما تبغيه منه؛ وذكرّها بقوة الله وشدة بطشه وأنه منه جد خائف لا يقوى على عصيانه ولا يطيق عذاب نيرانه. وهذا إنما يصدر عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء. وسابعهم: رجل ينفق في سبيل الله لا يبتغي من الناس جزاء ولا شكورا فهو من المراآة بعيد، وعن الزلفى «5» والمخادعة للناس ناء «6» ، يكاد لإخفائه الصدقة ألا تعلم شماله ما تنفق يمينه، فأين نحن من مثل هذا؟ ترى الواحد إذا حدثته نفسه بعمل بر زفت أمامه البشائر ودقت حوله الطبول، ويأبى إلا أن يقرن اسمه بألقاب التعظيم والتبجيل، وينعت بنعوت الإحسان والبر ما ينوء بها عمله ولا يقوى على حملها ما اعتزمه؛ حتى إذا أتى وقت العمل، وإبراز ما نواه إلى عالم الظهور، خارت تلك العزيمة وتضاءلت هذه الهمة ونسي ما كان منه في

_ (1) الذّياد: ذاده ذيادا: دفعه وطرده. (2) السهوات: الغفلات. (3) الجامحة: الهائجة المائجة. (4) الدّمن: السماد المتلبد. (5) الزلفى: الزّلفة: القربة والمنزلة. (6) ناء: بعيد.

123 - باب: جزاء الانتحار وقتل النفس

سالف الزمان؛ حتى يصير في خبر كان. ولذا محقت البركة من الأموال وسلطت عليها الأرزاء والأدواء وصارت منبع آلام وشقاء، بدل أن تكون سبيل سعادة وهناءة. فكل واحد من هؤلاء السبعة في الذروة من التقوى والصلاح والمنزلة العليا من منازل الأبرار والمتقين؛ فلا غرو أن كلأهم الله بحفظه وحاطهم بحياطته؛ ومن كان في كنف الله لم ترهقه النوائب ولم ترق إليه الخطوب والأهوال «1» . 123- باب: جزاء الانتحار وقتل النفس عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيه خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه، فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا» . [رواه البخاري «2» ] . اللغة: تردى: سقط، والمراد أسقط نفسه- خالدا مخلدا: يطول مقامه ويدوم عذابه. تحسى: تجرع وشرب. يجأ: يطعن. الشرح: إن الصبر على المكاره من علامات قوة العزيمة، والجزع واليأس من صفات أهل الضعف والخور، فالعاقل من رضي بالعيش حلوه ومره وقابل الشدائد بعزيمة ثابتة وجنان «3» قوي، علما بأن الأمور بيد الله، وأن العسر يعقبه اليسر، والضيق يأتي بعده الفرج، والفقر يزول بالغنى؛ لا دوام لحال ولا استمرار. فمن حدّثته نفسه بالانتحار لضيق معيشته، أو مرض طالت مدته؛ أو إخفاق في امتحان، أو ضياع مال، أو فقد حبيب فيسعى للتخلص من الحياة بأن يلقي نفسه من

_ (1) الأهوال: الهول: الأمر الشديد والمخيف المفزع. (2) رواه البخاري في كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به وما ... (5778) . ورواه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن ... (297) . (3) الجنان: القلب.

124 - باب: النهي عن سب الدهر

جبل، أو يتناول سمّا، أو يبقر بطنه بمدية «1» أو خنجر؛ أو يطلق على رأسه الرصاص، أو يرمي بنفسه تحت قطار فلا يظن أنه بذلك قد نجا وتخلص من العذاب بل تعرض لعذاب طويل الأمد، شديد الألم بما قتل به نفسه في الدنيا، فلا هو أبقى على حياته ولا هو بالناجي يوم القيامة من عذاب الله. فالحازم المفكر، والبصير المتدبر لا يستسلم لليأس؛ ولا يقنط من رحمة الله ولا يلجأ إلى مثل هذه النقائص، بل يثابر ويصبر ويكل إلى الله تصريف الأمور فالمريض يشفي. ومن رسب في الامتحان هذا العام فقد ينجح في العام القابل، ومن نزلت به كارثة في صحته أو ماله فإن الله قادر على أن يزيلها ويعوضه خيرا منها. 124- باب: النهي عن سب الدهر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: يسبّ بنو آدم الدّهر وأنا الدّهر بيدي اللّيل والنّهار» . [رواه البخاري] «2» . الشرح: تنزل بالمرء حوادث، وتحل به كوارث. وتجري تصاريف القدر على غير ما يرغب؛ فيشتد همه؛ وتصبح الدنيا في وجهه أضيق من كفة الحابل «3» فيسخط ويتبرم ويضطرب حتى يخرج عن جادة العقلاء، ويحيد عن سبيل الحازمين الحكماء، كأنما أخذ على الأيام عهدا ألا تجري ريحها له إلا رخاء حيث أصاب، وعقد بينه وبينها ميثاقا، أن تكون على ما يهوى في جميع الأوقات والأزمان. فإذا لم تكن على ما يشتهي، وسب الزمان وتصاريفه. ولعن الأيام وما أحدثت وما درى أن الأيام مسخرة ممن بيده تقليب الليل والنهار وأنها تسير بقدر معلوم ليس له فيه اختيار.

_ (1) بمدية: المدية: الشفرة الكبيرة. (2) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا تسبوا الدهر (6181) . ورواه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب، باب: النهي عن سب الدهر (5823) . (3) الحابل: الصائد بالحبلة.

125 - باب: المبادرة إلى الإيمان والإقلاع عن المعاصي

فالسخط عليها سخط على من بيمينه زمامها؛ وبقدرته تصريفها لحكمة يريدها، ونظام وإيداع يجريه لا طاعة لمخلوق ولا وقوفا عند رغبة إنسان؛ فمن ألمّت به نازلة أو حلت بواديه فادحة «1» ، فلا يضيق بها صدره، ولا يكفر بجزيل نعم الله عليه وليصبر، فإن الأيام لا تبقى على حال ولا يدوم بؤس ولا حزن، فإن مع العسر يسرا؛ وبعد الضيق فرجا. 125- باب: المبادرة إلى الإيمان والإقلاع عن المعاصي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتّى قوما فقال رأيت الجيش بعيني، وإنّي أنا النّذير العريان، فالنّجاء النّجاء فأطاعه طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذّبته طائفة فصبّحهم الجيش فأجتاحهم» . [رواه البخاري «2» ] . اللغة: مثلي: صفتي وحالي العجيبة. النذير: المخبر فيه شر وسوء، العريان: ضد المكسو؛ والنذير العريان: كان رجلا من خثعم «3» متزوجا في بني زبيد فأراد بنو زبيد أن يغيروا «4» على قبيلته فخافوا أن ينذر قومه فجعلوا عليه حراسا بعد أن خلعوا ثيابه، فصادف منهم غرة وفرّ إلى أهله فأنذرهم وكان مما قاله لهم: أنا المنذر العريان ينبذ ثوبه ... إذا الصدق لا ينبذ لك الثوب كاذب فكان مثلا لكل أمر تخاف مفاجأته؛ ولكل رجل لا ريب في كلامه- النّجاء: الهرب وهو منصوب على الإغراء. أدلجوا: ساروا من أول الليل وساروا الليل كله. صبحهم: أغار عليهم في الصباح، اجتاحهم: استأصلهم فلم يبق على أحد. الشرح: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بالهدي ودين الحق بشيرا ونذيرا، وداعيا

_ (1) فادحة: الفادحة: النازلة. (2) رواه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الانتهاء عن المعاصي (6482) . (3) خثعم: إحدى قبائل العرب. (4) يغيروا: يشنوا الحرب.

126 - باب: محاسبة الوالي لعماله والتشديد عليهم

إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأمده ربه بالمعجزات الباهرة «1» ، والآيات البينة التي تؤيد صدقه، ولم يقو أحد من معانديه على إبطال براهينه، ولائل حججه مع كثرة المعاندين وتوافر الوسائل لديهم، وتمكنهم، من كل ما ينيلهم ما يبتغون، فقامت له الكلمة عليهم ودحضت مفترياتهم، فمرة قالوا إنه ساحر، ومرة قالوا إنه شاعر، وأخرى قالوا إنه يتلو أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا. وهم في كل ذلك كاذبون مجادلون بالباطل بعدما تبين لهم الحق، وقد هدى الله به للإيمان قوما أخلصوا لله فنجوا وفازوا، وأضل آخرين بكفرهم وعنادهم فباؤا بالخزي «2» والعذاب الأليم. ولو أطاعوه لما أصابهم ما لحقهم من الذل والهوان بالفشل والهزيمة في الحرب تارة؛ والقتل والأسر تارة أخرى، وبالعجز المبين عن أن يقفوا في سبيل دعوته ويمنعوا انتشارها، في أقطار المعمورة؛ ويحولوا دون دخول الناس في دين الله أفواجا؛ وما كان عنادهم ولا مجادلتهم عن يقين يعتقدونه ولا شبه، لم يجل الشك عنها ولكن تكبرا وعتوا «3» . مخافة أن تزول عنهم مناصب توارثوها. ومظاهر تخيلوا أن العز والمجد في المحافظة عليها. فشبه الرسول صلى الله عليه وسلم حاله وحالهم بالمنذر المخوف الذي بدت عليه جميع إمارات الصدق وجاء يحذر قومه غارة العدو المهلكة فأسرع إلى تصديقه طائفة واستعدت للنجاة فنجت في سعة من الوقت وفازت؛ وتباطأت في تصديقه طائفة غرتهم الأماني. ولم يتخذوا لأنفسهم الحيطة من عدو قوي وجيش جرار حتى صبحهم العدو وأغار عليهم فأهلكهم ولم يبق منهم أحدا. 126- باب: محاسبة الوالي لعماله والتشديد عليهم عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية على

_ (1) الباهرة: بهره الأمر: أدهشه وحيره. (2) الخزي: خزي خزى: وقع في بلية وشر وافتضح فذلّ بذلك وهان. (3) عتوا: عتا: استكبر وجاوز الحد.

اللغة:

صدقات بني سليم، فلمّا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال: هذا الّذي لكم وهذه هديّة أهديت لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلّا جلست في بيت أبيك وبيت أمّك حتى تأتيك هديّتك إن كنت صادقا» ، ثمّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أمّا بعد فإني أستعمل رجالا منكم على أمور ممّا ولّاني الله فيأتي أحدكم فيقول هذا لكم وهذه هديّة أهديت لي، فهلّا جلس في بيت أبيه وبيت أمّه حتى تأتيه هديّته إن كان صادقا، فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئا بغير حقّه إلّا جاء الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنّ أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه- ألا هل بلّغت» . [رواه البخاري ومسلم «1» بروايات مختلفة] . اللغة: الرغاء: صوت البعير والخوار؛ صوت البقرة أو الثور- واليعار: صوت الشاة. الشرح: يضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه من نفسه مثلا للولاة والخلفاء في محاسبة عمالهم ومرؤوسيهم، على ما ولوهم عليه، فلا يناموا عنهم ولا يتركوهم يجمعون الثروات. ويبتزون «2» أموال الرعية. متخذين من سلطانهم أداة لذلك، ويسلطون أذنابهم وأتباعهم يظلمون الناس في جباية الأموال منهم بغير حق وإرهاقهم، ويتخذون منهم ومن بيوتهم وسطاء ومدخرات لجلب الإتاوات «3» لهم، كما هو الشأن في بعض الحكام في جميع الأمم، ترى الواحد يتولى إمارة مقاطعة «4» أو ولاية وهو رقيق الحال، يكاد يكون من المعدمين الذين يحل إعطاؤهم من الزكاة، فلا يلبث عاما أو عامين حتى يعود أبجر «5» الحقيبة، مكتنز

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: هدايا العمال (7174) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال (4717) . (2) يبتزون: بزّ قرينه: سلبه. (3) الإتاوات: الإتاوة: الجزية والخراج وما يؤخذ كرها. (4) مقاطعة: الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصاديا واجتماعيا وفق نظام جماعي مرسوم. (5) أبجر: بجر بجرا: انتفخ جوفه ومنه بجرت حقيبته.

الجعبة» متضخما ثراء ومالا وفيرا. فالوظيفة تدر عليه أخلاف النعم من هدايا يتقى بها شره أو يجتلب نفعه وبره، ورشاوى يشترى بها ظلمه وجوره، ويدفع بها عن المفسدين بأسه وحزمه. فسرعان ما يدب الفساد في أمر ولايته ويتشبه به عملاؤه فيعيثون «2» عيث الذناب «3» في الغنم ويذوق الناس منهم كل سوء وأذى. وينظرون إليهم نظر الطائر إلى الصائد فزعين وجلين، وعلى أنفسهم وأموالهم خائفين مذعورين، ويتمنون الخلاص من حكمهم ولو بذلوا في سبيل ذلك ما بذلوا فتكثر الثورات، وتعصي الأوامر وتستأسد النفوس الشريرة، وتسري في القلوب روح الفوضي والاضطراب والتمرد «4» ، وما شأن حكم يكون ذلك أساسه؟ لا شك أنه سريع الانهيار قريب الزوال. فمحاسبة الخلفاء والملوك لولاتهم ومؤاخذتهم على ما يرتكبون من المخالفات تجعلهم حريصين على إقامة العدل والقسطاس بين من هم تحت رعايتهم، والعمل على تأمينهم من كل مخوف والسهر على راحتهم وما فيه رقيهم وسعادتهم، وعدم الاستكانة إلى الراحة والتواني «5» ؛ وكف أيديهم وألسنتهم عن تناول ما ليس لهم بحق، فتسود الطمأنينة في القلوب وينصرف الناس إلى إتقان أعمالهم. وإجادة مصنوعاتهم وترقية شؤونهم في ظل السكينة والأمن. ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سوء العاقبة من يأخذ ما ليس له بحق من الحكام والولاة وبيّن له مصيره بأن يأتي يوم القيامة حاملا ما أخذه على كتفيه مفتضحا أمره، ذائعا بين الخلائق ظلمه وجرمه. أما بعد: فمن يرى هذا المال الوبيل «6» والمرتع الوخيم ويرضى لنفسه ذلك الخزي والهوان، بسبب مال زائل، وعرض فان، ومتاع من الدنيا قليل؟

_ (1) الجعبة: وعاء السهام والنبال. (2) فيعيثون: عاث: أفسد. (3) الذّناب: خيط يشد به ذنب البعير إلى حقبه لئلا يخطر بذنبه فيلطح راكبه. (4) التمرد: تمرّد على القوم: عصى عنيدا مصرا. (5) التواني: توانى في العمل: لم يبادر إلى ضبطه ولم يهتم به. (6) الوبيل: الشديد.

127 - باب: أخذ الزوجة نفقتها من زوجها بدون إذنه

127- باب: أخذ الزوجة نفقتها من زوجها بدون إذنه عن عائشة رضي الله عنها أن هندا بنت عتبة قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلّا ما أخذته منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . [رواه البخاري ومسلم «1» ] . اللغة: الشح: البخل مع حرص وهو يعم منع المال وغيره. والبخل يختص بالمال وقيل: إن البخل إذا صار طبيعة وخلقا سمي شحا. المعروف: ما جرى العرف بكفايته. الشرح: هند هي زوج أبي سفيان صخر بن حرب وأم معاوية. قتل أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد يوم بدر، فشق ذلك عليها فلما كان يوم أحد وقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فرحت بذلك وعمدت إلى بطنه فشقته وأخذت كبده فمضغتها ثم لفظتها «2» . أسلمت بعد فتح مكة واستقرار النبي بها بعد إسلام زوجها وقيل قبله، وأبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية، رأس قريشا بعد وقعة بدر وسار بهم في أحد وساق الأحزاب يوم الخندق ثم أسلم ليلة الفتح بعد أن أسرته طلائع المسلمين وأجاره العباس بن عبد المطلب. جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه تقتير «3» أبي سفيان عليها وعلى أولادها في الإنفاق مع يساره وغناه وأنها لا تستطيع أن تنال منه ما يرفه عيشتها وأولادها إلا إذا أخذت من ماله سرا بدون علمه، واستفتت الرسول صلى الله عليه وسلم هل يكون عليها من إثم في ذلك؟ فأفتاها عليه الصلاة والسلام بأن تأخذ من ماله ما يكفيها وأولادها بما جرت به عادة أمثاله.

_ (1) رواه البخاري في كتاب: الإحكام، باب: القضاء على الغائب (7180) . ورواه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: قضية هند (4452) . (2) لفظتها: لفظ الشيء: رماه وطرحه. (3) تقتير: قتّر: بخل وضيّق عليهم في النفقة.

وفي هذا الحديث أحكام منها:

وفي هذا الحديث أحكام منها: 1- القضاء على الغائب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى لهند باستحقاقها النفقة وأمرها بأن تأخذها من مال أبي سفيان بدون أن يسمع قول أبي سفيان، وفيه خلاف للفقهاء. فالحنفية لا يجوّزون القضاء على الغائب إلا بحضور وكيله أو وليه ليسمع الدعوى وتقام البينة في مواجهته فعسى أن يكون له دافع أو اعتراض يبطل دعوى خصمه. ولما ورد من الآثار المفيدة عدم الحكم بقول أحد الخصمين حتى يسمع القاضي كلام الآخر؛ ولم يفرق الحنفية في ذلك بين النفقات وغيرها ولكن الإمام زفر أجاز القضاء على الغائب في النفقات عملا بهذا الحديث ولأنه من باب الإعانة لوصول الزوجة إلى حقها على زوجها. وهذا هو ما عليه العمل في مذهب الحنفية لأنهم عدوا القضاء في هذه الحال من باب الفتوى كما يشعر به الحديث لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منها إثبات ما به تستحق النفقة هي وأولادها من بقاء الزوجة ولزومها طاعة زوجها وأن ما يعطيها زوجها لا يكفيها وأن أولادها الذين تطلب لهم النفقة ليسوا أغنياء وقد قيل إن من أولادها الذين عنتهم معاوية وكان وقتذاك ابن ثمان وعشرين سنة ومثله لا ولاية لها في طلب نفقته. كل ذلك يدل على أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبيل الفتوى لا الحكم القضائي؛ وإلا لوجب ثبوت هذه الأمور كلها قبل القضاء. 2- أن القول قول الزوجة إن الزوج لم يعجل لها النفقة وأن النفقة مقدرة بالكفاية وإن كان الحنفية- على المفتى به عندهم- ضموا إلى هذا الحديث قوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ «1» ، الآية وقالوا إن النفقة تقدر بحال الزوجين معا. 3- جواز ذكر الإنسان غيره بما لا يحب إذا كان على وجه الإستفتاء والإشتكاء ولا يعد ذلك غيبة محرمة. 4- وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة والفقر.

_ (1) سورة الطلاق، الآية: 7.

128 - باب: الرشوة ومضارها

5- أن لمن وجبت له النفقة شرعا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه الامتثال وأصر على الامتناع. 6- أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه- وهذا قول الشافعي. وعند الحنفية عدم جواز ذلك. 7- أن للأم ولاية قبض نفقة أولادها والإنفاق عليهم وحضانتهم. 8- اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من الشرع. 128- باب: الرشوة ومضارها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على الرّاشي والمرتشي» . [رواه الخمسة إلا النسائي «1» ] . اللغة: العنة: الطرد والبعد من رحمة الله. الراشي: من يعطي الرشوة وهي بتثليث الراء، ما يعطى لذي نفوذ تزلفا أو لقضاء غرض. والمرتشى: آخذ الرشوة. الشرح: تبتلى الأمم في أيام محنتها وانتقاص أطرافها وضعف نفوس أبنائها بكثير من الأمراض التي تضعف شأنها وتقضي على نظامها وتقوض دعائم الطمأنينة والأمن فيها، وإن من شر ما تصاب به أمة من الأمم فشو الرشوة فيها وامتداد يد الحكام ومن إليهم الأمر إلى تناول ما ليس من حقهم، فلا ترى صاحب حق ينال حقه إلا إذا قدم جعلا «2» لمن عنده وسيلة الحصول عليه ولا ترى ذا ظلامة يطمع في رفع ظلامته عنه إلا برشوة من يقدر على رفعها وقد يبلغ الأمر بالمرتشي إلى مساومة الراشي في مقدار الرشوة. بل والجهر بذلك بدون حياء ولا خجل، ولا تسل عما ينجم من الأضرار التي لا عداد لها في ذلك، فالكرامة ضائعة والحقوق مهضومة،

_ (1) رواه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1336) . ورواه أبو داود في كتاب: الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3580) . ورواه ابن ماجه في كتاب: الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2313) . (2) جعلا: الجعل: الجعالة: ما جعل على العمل من أجر أو رشوة.

والنبوغ «1» مقبور، والجد في العمل مضمحل والغيرة على أداء الواجب والدأب في سبيل مصلحة الأمة والأمانة في خدمتها وتقدير العاملين. كل ذلك يتلاشى «2» ولا تجد له أثرا في حياتها ويحل مكانه الخمول والضعف وتصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغين بالعقم، ومواهب المفكرين بالجمود، وعزائم المجدين بالخور والفتور. وأي خير يرجى من قوم يكون مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرؤس من قرابين؟ وأي إنتاج يترقب من هيئة حكومية لا يرقى فيها إلا من قدم بين يدي رقيه أنواع الهدايا والرشا لرؤسائه؟ وقد تلبس الرشوة ثوبا مستعارا ولكنه يشف عن حقيقتها بأن تكون على صورة هدية أو محاباة في بيع أو شراء أو إبراء من دين أو نحو ذلك وهي في جميع الصور رشوة بشعة المنظر سيئة المخبر، كريهة الرائحة، ملوثة للشرف والكرامة، مضيعة للعفة والمهانة. ولذا كان الراشي والمرتشي ملعونين من الله ومن الناس، لأن الراشي يساعد المرتشي على تضييع الحقوق ويسهل له أكل أموال الناس بالباطل، وينمي فيه الخلق السيء، وييسر له التحكم فيما هو حق لغيره، فيستمرىء هذا المرعى الوبيل، والمرتشي قد أخذ مال غيره ومنع الحق عن صاحبه حتى يأخذ الرشوة منه، وربما كان الراشي في حاجة ماسة إلى ما يقدم إليه. والرشوة محرمة حتى ولو كانت في سبيل إيصال الحق إلى صاحبه لأنها مال بدون عوض، فما بالك إذا كانت لأجل ظلم شخص، أو منع المستحق عن حقه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» . ولقد قال العلماء: إن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم، هي نوع من الرشوة، لأن المهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته، لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوى به على الباطل أو التوصل بالهدية إلى حقه، وأقل الأحوال أن يكون طالبا الزلفى إليه وتعظيمه والاستطالة على خصومه أو الأمن من

_ (1) النبوغ: نبغ المرء في العلم: برع وأجاد. (2) يتلاشى: يذوب ويختفي.

129 - باب: طلب الولاية

مطالبتهم له فيحتشمه من كان له عليه حق، وهذه الأغراض كلها تؤول إلى ما آلت إليه الرشوة فضلا عن أن للإحسان تأثيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفس الحاكم أو القاضي إلى المهدي ميلا يدفعه إلى إيثاره المهدي عند المخاصمة على خصمه وهو لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب والحق، بسبب ما غرسته الهدية في قلبه، والرشوة لا تفعل أكثر من هذا. أما بعد: فالرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة والشرف، لا يقدمها إلا مبطل خائن وضيع «1» ، ولا يقبلها إلا دنيء النفس سافل المروءة مساوم في دينه وكرامته، ولا أدري بأي شيء بعد ذلك يعيش الإنسان. ولقد روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد يقال له ابن الأتبية (وفي رواية اللتبية) على صدقة، فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقا النبي صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتى فيقول هذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر- اليعار صوت الشاة- ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه (بياضهما) - ألا هل بلغت» - ثلاثا «2» . 129- باب: طلب الولاية عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرّحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» . [رواه البخاري «3» ] . اللغة: الإمارة: ولاية أمر المسلمين. مسألة: طلب وسعي في الحصول عليها.

_ (1) وضيع: الدنيء المحطوط القدر: ضد الشريف. (2) تقدم تخريجه ص 292. (3) رواه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها (7146) . ورواه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (4692) .

الشرح:

وكلت إليها: روي بتشديد الكاف مكسورة وبتخفيفها مع ضم الواو فيها والمعنى: أسلمك الله إلى مشاقها وأعبائها. أعنت عليها: هداك الله إلى الصواب وأعانك على متاعبها. الشرح: من الناس قوم أغرموا بالمناصب والرياسات، يسلكون إليها كل سبيل، ويلجون «1» كل فج، فلا يهنأ بالهم ولا يقر قرارهم، إلا إذا ظفروا بما يؤملون وما يدرون، أن الولاية ثقيلة المحمل، كثيرة التبعات «2» ، تتطلب جهدا وعناء وتقتضي يقظة وانتباها وتستدعي الوالي أن يسوي بين الأفراد في توزيع العدالة والبر والقسط، وتيسير المطالب والأخذ بالرفق، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين من ينتمي إلى فريق من الناس، ومن ينتمي إلى فريق آخر، وكل ذلك يحتاج إلى مزيد حزم وفطنة. حتى إذا نال طلبته نسي تكاليف الولاية واتخذ منها وسيلة لإشباع أطماعه ونيل أمانيه وإغداق الخير على أشباعه وأنصاره، وصب جام غضبه وانتقامه على خصومه وأعدائه، ينكل «3» بهم ويسومهم الخسف، ويشاركهم في أقواتهم وربما حال بينهم وبين الانتفاع بأموالهم. ويفتري عليهم الجرائم والآثام. وما تلوثت أيديهم بجريمة، ولا يزال يحكم فيهم حيله ويحوك لهم الشباك، حتى يشفي غلته. فهؤلاء لا يلبثون أن تولي عنهم الدنيا وتزول عنهم المناصب، فينزلون إلى حضيض الذل والمهانة. وينصرف الناس عنهم. فلا يعودون يسمعون ألفاظ التملق وعبارات الرياء والنفاق وينالهم من الإزدراء والتحقير ما هم أهل له لأنهم نسوا تلك العاقبة المحتومة فلم يعملوا لها أيام ولايتهم ولم يصغوا إلى قول القائل: واصنع من الفعل الجميل صنائعا ... فإذا عزلت فإنها لا تعزل فهذا الحديث يشير إلى وجوب التباعد عن طلب الرياسات، ولو كان الطالب قادرا على تحمل أعبائها، لأنها لا تخلو من عناء ومشقات. ويفيد أن من أسندت إليه ولاية عمل بدون طلب منه، فإنه جدير بعناية الله به، وإعانته عليها؛ ولا شك أن كل وال محتاج إلى معونة الله وإرشاده، فمن سلب الإعانة

_ (1) يلجون: يدخلون. (2) التبعات: ج تباعة: عاقبته وما يترتب عليه من أثر. (3) ينكل: نكل بفلان: أصابه بنازلة.

130 - باب: رضا الله وسخط المخلوق

وتورط ارتبك في أموره واختلط عليه وجه الصواب، وأفلت من يده زمام الحق، وجانبه السداد فخسر دنياه وآخرته. وقد يقال إذا كان طلب الولاية بهذا القدر من الخطورة ومجانبة الحق فكيف طلبها يوسف عليه السّلام بقوله: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «1» ، وطلبها سليمان عليه السّلام بقوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً «2» ، والجواب أنه إنما حسن ذلك من الأنبياء لأنهم معصومون لا يزلون ولا يخطئون ولا يظلمون. وعناية الله معهم في كل لحظة فهم معانون منه تعالى. ألا فليتق الله أولئك الذين يحرصون على تولي الأمور وهم يعلمون أنهم ليسوا لها بأهل. وليعدل بين الأفراد من ولي شيئا منها فإنما هو راع وهو مسؤول عن رعيته، وحملها ثقيل والحساب عسير والمحاسب هو الحكم العدل اللطيف الخبير. 130- باب: رضا الله وسخط المخلوق عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسخط الله في رضا النّاس سخط الله عليه واسخط عليه من أرضاه في سخطه ومن أرضى الله في سخط النّاس رضى الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتّى يزيّنه ويزيّن قوله وعمله في عينه» . [رواه الطبراني] . الشرح: إن أحق من نعمل جاهدين لمرضاته، ونسعى لنيل ثوابه ومغفرته هو الله جل وعلا، بيده أزمة قلوبنا، وتصريف أمورنا يعز من يشاء ويذل من يشاء. مالك الملك، ذو الجلال والإكرام. وما الناس مهما علا شأنهم وارتفع أمرهم إلا عبيد له أذلة، وضعفاء عجزة يد الله آخذة بنواصيهم، وحكمه العدل ماض فيهم.

_ (1) سورة يوسف، الآية: 55. (2) سورة ص، الآية: 35.

فمن خذلان الله للعبد أن يعمي بصيرته فيتقرب إلى الرؤساء والعظماء بفعل ما يحبون، وإن أغضب المولى واستوجب مقته وعقابه، ابتغاء وظيفة أو مال أو جاه، ولا يدري أن الله يحرمه ما رغبه ويحول بينه وبين أمنيته، فلا دنيا أصاب ولا دينا أقام، وقد يجلس إلى عظيم أو رئيس فيفيض في الحديث فإذا سمع منادي الصلاة فضّل الاستمرار في حديثه على إجابة دعاء الله، وربما تمادى في السمر «1» حتى يؤذن الوقت بالخروج فيرضي المخلوق ويغضب الخالق وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ «2» وقد يجلس في حفل من الأصدقاء والخلان لا ينطقون إلا بفاحش القول ولا يتناجون إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وقد يلعبون الميسر أو يحتسون «3» الخمر فيغالي في ملاطفة إحساسهم، وإقرارهم على سوء ما يفعلون، وقد يحبذ «4» لهم ما يصنعون، وكان الواجب أن ينكر عليهم آثامهم، أو يفارق محلهم لعلهم يرعوون وإلى ربهم يتوبون؛ ولكنه يراعي جانب العبد ويهمل جانب الرب. وقد يدعوه رئيسه إلى عمل يتقرب به إلى رؤسائه وفيه إثارة فتنة، ومجلبة محنة من انتقاص لحق، أو ظلم لخلق، فيسارع إلى تنفيذه ويبادر إلى إجابة وحيه، وإن كان في ذلك إهلاك الحرث والنسل والشر المستطير «5» . ألا وأن علامة الإيمان أن تفعل ما يرضي الله، وإن أسخط المخلوق وأن تكون أوامره أول ما تسمع وتلبى، ونواهيه في مقدمة ما تجتنب، فإن من سعى في مرضاة الله كان الله في عونه، وكفاه شر خلقه. ومن سعى في مرضاة خلقه باغضاب ربه حجب عنه معونته، وأسلمه إلى نفسه، وقد قال تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «6» وصلّى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ (1) السّمر: الحديث بالليل والحكايات التي يسمو بها. (2) سورة التوبة، الآية: 62. (3) يحتسون: حسا الرجل الحساء ونحوه: تناوله جرعة بعد جرعة. (4) يحبذ: حبذ الأمر: مدحه وفضّله. (5) المستطير: الكبير والعظيم. (6) سورة التوبة، الآية: 13.

تم بحمد الله وحسن توفيقه

تم بحمد الله وحسن توفيقه ملاحظة: وصل المؤلف في تأليفه إلى الحديث الثمانين وبينما هو في أثناء شرحه: اختاره الله إلى جواره فتوفي إلى رحمة ربه يوم الثلاثاء 26 ذي القعدة سنة 1349 الموافق 14 إبريل سنة 1931، وقد أكمل التأليف فضيلة الشيخ مصطفى خفاجي أستاذ الشريعة بمدرسة دار العلوم. والحمد لله أولا وآخرا.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1- جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير- دار إحياء التراث العربي- بيروت. 2- التاج الجامع للأصول ناصيف- دار إحياء التراث العربي. 3- صحيح البخاري تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربي. 4- صحيح مسلم تحقيق خليل مأمون الشيحا- دار المعرفة- بيروت. 5- سنن النسائي تحقيق خليل مأمون الشيحا- دار المعرفة بيروت. 6- سنن الترمذي- تحقيق أحمد شاكر- دار إحياء التراث العربي- بيروت. 7- سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربي. 8- سنن أبي داود، تحقيق محي الدين عبد الحميد- دار إحياء التراث العربي. 9- الموطأ- تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي. 10- فتح الباري للعسقلاني- دار إحياء التراث العربي. 11- المستدرك للحاكم- دار المعرفة- بيروت. 12- المعجم الوسيط. 13- المطالب العالية لابن حجر- دار المعرفة- بيروت. 14- فيض القدير.

15- القاموس المحيط- دار إحيار التراث العربي- بيروت. 16- نور اليقين للخضري- مكتبة أسامة بن زيد- حلب. 17- تنوير القلوب للكردي- مكتبة أسامة بن زيد- حلب.

الفهرس

الفهرس الموضوع الصفحة مقدمة المحقق 5 مقدمة المؤلف 7 1- باب: أثر النيات في الأعمال 9 2- باب: دعائم الإسلام 12 3- باب: بيان المسلم والمهاجر 15 4- باب: علامة المؤمن 16 5- باب: علامات النفاق- 1- 17 6- باب: علامات النفاق- 2- 20 7- باب: الدين النصيحة 20 8- باب: أثر العلم في النفوس 22 9- باب: الهلع عند المصائب 25 10- باب: أنواع الصدقة 26 11- باب: ترك المشتبهات 28 12- باب: فضل الكسب باليد 32 13- باب: تفضل الحرفة على السؤال 33 14- باب: السماحة في المعاملة 34 15- باب: فضل الغرس والزرع 36 16- باب: الإخلاص والمساعدة 37

17- باب: الرفق بالحيوان 40 18- باب: عقاب من آذى الحيوان 42 19- باب: أداء الحقوق 43 20- باب: المماطلة في أداء الحق 45 21- باب: واجب الرؤساء نحو مرؤسيهم 48 22- باب: وجوب صلاة الجماعة 51 23- باب: معاونة الإخوان في الدين 54 24- باب: نصر الظالم والمظلوم 57 25- باب: تعاون المؤمنين 59 26- باب: دعوة المظلوم 61 27- باب: جزاء من اغتصب أرضا 63 28- باب: لا يحل القضاء حراما ولا يحرم حلالا 65 29- باب: حق الطريق 69 30- باب: إكرام المماليك والخدم 73 31- باب: أكبر الكبائر 76 32- باب: اليمين الفاجرة 79 33- باب: الوصية بالمال 82 34- باب: الجرائم الموبقة والسبع المهلكة 86 35- باب: أداء الصلاة لوقتها، وبر الوالدين والجهاد 92 36- باب: طاعة الأئمة والرؤساء في المعروف 96 37- باب: من يضاعف الله لهم الأجر 99 38- باب: التيسير والتبشير 102 39- باب: إطعام الجائع وعيادة المريض 106 40- باب: ائتلاف الأرواح واختلافها 108 41- باب: بر الوالدين 110 42- باب: سب الرجل والديه 112 43- باب: ثمرات صلة الرحم 113 44- باب: فضل كفالة اليتيم 115

45- باب: السعي على الأرملة والمسكين 116 46- باب: إيذاء الجار 117 47- باب: إكرام الضيف والإحسان إلى الجار 118 48- باب: وحدة المسلمين وتراحمهم 121 49- باب: الرحمة وعقاب مجانبها 122 50- باب: الصدقة بالمال وطيب الكلام 123 51- باب: حسن الخلق 125 52- باب: مداراة الأشرار 128 53- باب: النميمة وعقابها 131 54- باب: ذو الوجهين 133 55- باب: الظن والتجسس والتحاسد 134 56- باب: المجاهرة بالمعاصي والمجون 138 57- باب: التواضع والكبر 141 58- باب: حرمة الخصام والهجر 143 59- باب: الصدق والكذب وأثرهما 146 60- باب: ضبط النفس 151 61- باب: الحياء وأثره 152 62- باب: مفاسد من حرموا الحياء 155 63- باب: حذر المؤمن 156 64- باب: التشهير بالغادر 158 65- باب: السلام ومن يبدأ به 159 66- باب: استعمال الذهب والفضة والحرير 160 67- باب: اطعام الطعام وإقراء السلام 172 68- باب: أدب المناجاة 173 69- باب: الاحتراس من النار وتغطية الآنية 175 70- باب: الغنى غنى النفس 178 71- باب: الاعتدال ومداومة الأعمال 180 72- باب: حق الله على العباد وحقهم عليه 182

73- باب: نذر الطاعة ونذر المعصية 185 74- باب: الأخذ بالأيسر وترك الانتقام للنفس 189 75- باب: تقاتل المسلمين وعقابه 191 76- باب: نعمة القرآن والمال 195 77- باب: النصح للرعية وعقاب المقصرين فيه 198 78- باب: اللدد في الخصومة 200 79- باب: قارىء القرآن 201 80- باب: تسبيح الله وتقديسه 204 81- باب: ثمرة إفشاء السلام 206 82- باب: فضل ستر العورة 208 83- باب: القصد في الطعام والشراب 209 84- باب: فضل الدعوة إلى الخير 210 85- باب: وصف المؤمن 211 86- باب: الكيس والعاجز 212 87- باب: الاستشارة 214 88- باب: المؤمن القوي 214 89- باب: دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم 218 90- باب: النظر لمن هو أسفل 220 91- باب: التعوذ من الهم والدين 222 92- باب: أفضل الصدقات 228 93- باب: ما تجوز الصدقة به في مرض الموت 229 94- باب: القصد في العبادة 232 95- باب: جزاء العجب والخيلاء 235 96- باب: بيع الرجل على بيع أخيه 237 97- باب: ما ينبغي اعتباره في اختيار الزوجة 239 98- باب: الحث على الزواج 242 99- باب: استئذان المرأة في الزواج 244 100- باب: احداد المتوفى عنها زوجها 247

101- باب: تخير الأوقات للمواعظ 249 102- باب: ما يكره من التمادح 251 103- باب: جزاء النميمة وعدم الاستتار من البول 252 104- باب: تعاهد القرآن 254 105- باب: التعوذ من الإثم والدين 256 106- باب: الحلف بغير الله 257 107- باب: النية في الحلف 258 108- باب: كراهة الحلف في البيع 259 109- باب: شراء المصراة 261 110- باب: خيار المجلس 263 111- باب: النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها 266 112- باب: فضل التجاوز عن المعسر 267 113- باب: الاستقراض وحسن القضاء 269 114- باب: النهي عن القضاء حين الغضب 270 115- باب: التعريف باللقطة وحكمها 272 116- باب: النهي عن عقوق الأمهات 275 117- باب: قبض العلم بموت العلماء 277 118- باب: مضار الاختلاف وكثرة السؤال 278 119- باب: فضل الصدقة والاستعفاف عن السؤال 281 120- باب: التحلل من المظالم في الدنيا 281 121- باب: في بطانة الخير وبطانة الشر 283 122- باب: ثواب الخوف من الله وصدقة السر 285 123- باب: جزاء الانتحار وقتل النفس 288 124- باب: النهي عن سب الدهر 289 125- باب: المبادرة إلى الإيمان والإقلاع عن المعاصي 290 126- باب: محاسبة الوالي لعماله والتشديد عليهم 291 127- باب: أخذ الزوجة نفقتها من زوجها بدون إذنه 294 128- باب: الرشوة ومضارها 296

129- باب: طلب الولاية 298 130- باب: رضا الله وسخط المخلوق 300 المصادر والمراجع 303 فهرس الموضواعات 305

§1/1