الأدب المقارن - جامعة المدينة (بكالوريوس)

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 الأدب المقارن نشأته وتطوره.

الدرس: 1 الأدب المقارن نشأته وتطوره. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (الأدب المقارن نشأته وتطوره) تعريف الأدب المقارن ونشأته الأدب المقارن نشأته وتطوره: الأدب المقارن فرع من فروع المعرفة، يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر من أدبين، ينتمي كلٌّ منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا, وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر أو أكثر من عناصر أدب قومي ما، ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بُغية الوقوف على مناطق التشابه، ومناطق الاختلاف بين الآداب، ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك. كذلك قد يكون هدف هذه المقارنة كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره, وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى, وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب ... إلخ. هذا؛ وقد وقف الدكتور "طاهر مكي" في شيء من الأناة عند مصطلح القومية الذي يدخل في تعريف الأدب المقارن، في قولنا: إن الأدب المقارن يقوم على المقابلة بين الآداب القومية المختلفة، محاولًا أن يستكشف أبعاد هذا المصطلح، وما يمكن أن يثيره من مشكلات، وأطال وأجاد؛ لكنه في نهاية المطاف ترك الأمر دون حسم.

لقد تسائل قائلًا: ماذا نفهم من مصطلح أدب قومي؟ ما الحدود التي إذا تعديناها جاز لنا أن نتحدث عن أدب أجنبي، وعن تأثر به أو تأثير فيه؟ هل يقوم التحديد على أسس سياسية وتاريخية، أو على أسس لغوية خالصة؟ ليجيب بأنه: بعد ت أمل جاد، يُمكنُ القول إن الاحتمال الثاني أكثر قربًا، وأدق منهجية، وأسهل تطبيقًا؛ لأن الحدود اللغوية كانت على امتداد التاريخ أكثر ثباتًا، وأقل تقلبًا مدًّا وجزرًا من الحدود السياسية. ثم ضرب مثالًا من ألمانيا التي كانت كيانًا سياسيًّا واحدًا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم قسمت إلى دولتين بعدها؛ لكنهما ظلتا مع هذا تتكلمان لغة واحدة، ومن ثم لا يُمكن أن نقارن بين أدبهما بمفهوم الأدب المقارن. إلا أنه برغم ذلك لم يتوقف عند هذه النتيجة بل استمر يستعرض أوضاعًا أخرى تختلف عن وضع الألمانيتين، منها مثلًا: وضع الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية، رغم أنهم ليسوا فرنسيين. ومنها وضع الهنود الذين يكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، ومنها وضع الأدباء الأمريكان فهم يكتبون أدبهم بالإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزا، وكذلك معظم أدباء أمريكا اللاتينية فهم يكتبون آدابهم باللغة الأسبانية، رغم أنهم ليسوا أسبانًا. ومنها أيضًا وضع الأدباء الكنديين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية، وهي ليست اللغة الوحيدة التي يتحدثها أو يكتب بها الكنديون، بل تشركها في ذلك اللغة الفرنسية، ومثلهم الأدباء السويسريون الذين لا يكتبون أدبهم بلغة واحدة بل بلغات ثلاث هي: الفرنسية، والألمانية، والإيطالية ... وهكذا. وهو يشير هنا إلى أن عددًا من الباحثين الأمريكان يرى: أن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي ليسا أدب ًا واحدًا بل أدبين مختلفين؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين

ثقافيًّا، ومن ثَمّ أدبيًّا، والدّكتور "طاهر مكي" بهذا وإن بدأ بجعل اللغة هي الفيصل في تحديد الهوية القومية، وهو ما قاله قبلًا الدكتور "محمد غنيمي هلال" الذي يؤكد أن الحدود الأصيلة بين الآداب القومية هي اللغات؛ فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا، مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه. وما زال يقول به كذلك المقارنون العرب عمومًا كالدكتور "محمد سعيد جمال الدين" مثلًا الذي يقرره ما قرره المرحوم "هلال" من أن الحدود الأصلية بين الآداب القومية هي اللغات؛ فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه, ولذلك يعد ما كتبه المؤلفون الفرس الذين دونوا مؤلفاتهم، وآثارهم باللغة العربية داخلًا في دائرة الأدب العربي لا الفارسي. أقول: إن الدكتور "طاهر مكي" بهذا قد عاد فتركنا في حيرة من أمرنا، بل ربما في عماية منه، حين أثار المشكلات السالفة الذكر دون أن يجيب على الأسئلة الشائكة التي طرحها, إن الأدباء العرب على سبيل المثال الذين يصطنعون في إبداعهم لغة القرآن، لا يمثلون فيما أتصور أدنى مشكلة في تطابق اللغة والقومية؛ فنحن كلنا ندين بدين واحد، ونصطنع لغة واحدة في كتابتنا، وفي حياتنا اليومية على السواء، بل إنّ الأقليات التي لها لغة أخرى إلى جانب العربية تتكلم هي أيضًا لغة يَعْرُب فضلًا عن أن التاريخ القريب والبعيد واحد أو متشابه على الأقل. وبالمثل فإن العادات والتقاليد هي أيضًا واحدة، إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل أنها في معظمها مستمدة من الإسلام، كما أننا نعيش في منطقة واحدة متلاصقين لا متقاربين فقط؛ إلى جانب أننا جميعًا نتطلع إلى إن تقوم بيننا في يوم

من الأيام وحدة تجمعنا وتقوينا، وتكفل لنا الاحترام الدولي مثلما كان الحال من قبل، حينما كانت هناك دولة واحدة أو عدة دول تخضع ولو خضوعًا اسميًّا لخليفة واحد. وفوق كل ذلك، فإن الإسلام الذي ندين به، يدعونا ويلحف في الدعاء إلى أن نعتصم بالتعاون والتساند والتواصل والأخوة الدينية، وأن نبتعد عن أي شيء يمكن أن يهدد هذه الوحدة، أو يلحق بها الضرر، ونحن بحمد الله ما زلنا نستمسك بديننا رغم وجود أقلية دينية هنا، أو جماعة تختلف في اتجاهاتها الفكرية أو السياسية عن التيار العام الهادر هناك، مما لا يمكن أن يَخْلُو منه أي بلد لأنّ النّقاء مستحيل، وبخاصة في هذا العصر الذي زاد فيه تجاور الاتجاهات الثقافية، وتعايش الديانات داخل حدود الوطن الواحد. هذا؛ عن الأدباء العرب الذين يعيشون في الوطن العربي، ويبدعون أدبهم باللغة العربية, لكن ماذا عن العرب الذين يعيشون في أمريكا مثلًا، ويكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية؟ أو في فرنسا ويكتبون أدبهم باللغة الفرنسية؟ وماذا عن الكرد الذين يعيشون في العراق مثلًا، ويبدعون أدبهم باللغة الكردية؟ أو البربر الذين يعيشون في بلاد المغرب العربي، ويكتبون أدبهم بالأمازيغية؟ وماذا عن الفرس الذين يكتبون أدبهم باللغة العربية؟. إن المسألة في كل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى تأنٍٍ في التحليل، ومرونة في التفكير، وربما لم نصل بعد ذلك كله إلى حل مرضٍ، إذ دائمًا ما تُوجد على الحدود الفاصلة بين المفاهيم والمبادئ، حالاتٌ تُشكل علامة استفهام وقلق، ولا يَصِلُ الباحثُ بشأنها إلى شيء حاسم, فأما في حالة الكُرد الذينَ يكتبونَ أدبهم

باللغة الكردية، فأرى أن يطلق على ما يكتبون الأدب الكردي؛ حيث تتطابق في حالتهم اللغة والعرق. ومثلهم في ذلك البربر الذين يكتبون أدبهم بالأمازيغية؛ فيسمى هذا الأدب بالأدب الأمازيغي. لكن الأمر يختلف في حالة العرب الذين يعيشون في فرنسا، ويصطنعون لآدابهم الفرنسية، ولكنهم لا يكتبون إلا عن بلادهم الأولى، ومشاكل المجتمعات التي وفدوا منها، ولا ينتمون إلى القومية الفرنسية، ولا يشعرون من الناحية السياسية أنهم فرنسيون؛ حتى لو تجنسوا بالفرنسية. والدليل على هذا: أنّ أعمالهم إنما تتناول أوطانهم، وأوضاع شعوبهم التي نزحوا منها؛ سواء كان ذلك النزوح نزوحًا أبديًّا أو مؤقتًا, إن العبرة هنا بمضمون الأدب وروحه وطعمه، وتوجهاته واهتماماته، وعلى هذا نقول عن ذلك اللون من الكتابة: إنه أدب عربي مكتوب بالفرنسية، وهذا الأدب يمكن أن يكون محل دراسة مقارنة مع الأدب الفرنسي، ولكن من ناحية أخرى هدفها التعرف إلى مدى اختلاف أسلوب الكاتب عن الأسلوب الفرنسي الأصيل، أو اتفاقه معه في نكهته ومفرداته، وتراكيبه، وعباراته، وصوره. ومِثلُه ما يَكتبه الأدباء الهنود، أو أدباء جنوب أفريقيا في بلادهم بالإنجليزية، إذ أن أعمالهم في هذه الحالة إنما ترتبط ببلادهم، ومجتمعاتها وتاريخها، وتطلعاتها ومشاكلها، وعاداتها وتقاليدها وأديانها، وحياتها اليومية لا ببلاد "جون بون". لكن إذا كان الأديب من هذا النوع يعيش في فرنسا مثلًا أو بريطانيا، واندمج اندماجًا تامًّا في الوسط الجديد، وأضحي يعتنق ما يعتنقه أصحاب ذلك الوسط، ويُردد آراءهم ويتخذ مواقفهم، وينطلق من رؤيتهم الحضارية والقومية، وينصبغ

بصبغتهم الاجتماعية، ونسي وطنه وقوميته القديمة، ولم يعد يهتم بمشكلات الأمة التي كانت ينتسب إليها من قبل ... إلخ. فعندئذ فالمنطق يقتضي إلحاقه بالأدب الذي يصطنع لواقعه إذًا. أما أمريكا التي يُدرس أدبها عادة على أنه جزء من الأدب الإنجليزي، فهناك من باحثيها -كما رأينا- من يُناضل ضِدّ الفكرة القائلة بأن ما يكتبه الأمريكان والإنجليز هو أدب واحد؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين، سلكتا منذ القرن التاسع عشر طريقًا ثقافيًّا، وبالتالي أدبيًّا متباعدًا تمامًا، ويرون أنّ إنتاجهم الأدبي يدخل في مجال الأدب المقارن، على رغم أنهما مكتوبان في اللغة نفسها كما نقل عنهما الدكتور "طاهر مكي". ولا شك أن أمامنا في هذه الحالة قوميتين مختلفتين لا تتطلعان إلى قيام وحدة بينهم، إن لم يكن بسبب أي شيء آخر؛ فبسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بين الشعبين، كما أن بينهما تاريخًا من الصراع والحروب؛ فضلًا عن الاختلاف في مضمون الأدبين وروحيهما، واهتمامات كل منهما وطعمه؛ مما عليه المعول الأكبر في مثل هذا التمييز كما قلنا من قبل، ومثل أمريكا في ذلك الأمر في القارة الاسترالية. باختصار؛ نخرج من هذا: بأنه في حالة تطابق اللغة والقومية، أو الوطن لدى الأديب؛ فحينئذ فلا مشكلة، أما إذا كان ثمة تعارض فالعبرة بالشعور القومي للكاتب، واتجاهاته وهمومه، وبمضمون العمل الإبداعي وروحه, لكن هل تراني قلت كلمة الفصل في هذا السبيل؟ لا أظن، بل هي مجرد وجه نظر ينبغي أن تدرس وتحلل، وتبدى فيها الآراء، وهذا كل ما أستطيع أن أقوله ولا أزيد.

ميادين الأدب المقارن ومدارسه.

ميادين الأدب المقارن ومدارسه وميادين الأدب المقارن مُتعددة؛ فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبي كالقصة أو المسرحية في أدب ما، ونظيره في أدب آخر, وقد يكونُ ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبي من هذه الأجناس في أدب ما، ونظيراتها في أدب آخر. وقد يكون ميدانه الصورة الخيالية كالتشبيه، والاستعارة، والكناية والمجاز, وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية في الأعمال الأدبية, وقد يكون ميدانه التأثير الذي يحدثه كتاب أو كاتب ما في نظيره على الناحية الأخرى، أو مجرد الموازنة بينهما لما يلحظ من تشابههما مثلًا. وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية، والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك, وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما في أدب أمة أو أمم أخرى وهكذا. وهناك عدة مدارس في ميدان الأدب المقارن منها مثلًا: المدرسة الفرنسية, والمدرسة الأمريكية، والمدرسة الألمانية، والمدرسة الإيطالية، وكذلك المدرسة السلفية التي سوف تحتاج منا إلى وقفة خاصة فيما بعد. وتشترط المدرسة الفرنسية أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارناتهما، بيد أن هذا شرط تَحَكُّمي أو قل: إنه شرطٌ غير مُلزم ولا لازم, والمُهم: أن تكون المقارنة بين أدبي أمتين مختلفتين, إن المُراد هو تمكين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة، واكتشاف أوجه التشابه

والاختلاف لديها في الذوق والإبداع، وتتبع المسارات التي انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى في حالة وجودها، وإمكان تتبعها. وإذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التي ثبت وجودها فعلًا بين الأمم والشعوب؛ فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل، فنستشف وجود مثل هذه الصلات، أو نعمل على خلقها خلقًا إن لم تكن موجودة؟ ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون "موليير" على سبيل المثال قد سمع بـ"بخلاء" الجاحظ بطريقة أو بأخرى حين ألف مسرحيته الشهيرة "البخيل". وربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا, كذلك هل كان قبل "أسين بلاتيوس" بل إلى ما بعد وفاته ببضعة أعوام من كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوربية، منها اللاتينية قبل أن يكتب "دانتي" كوميدياه الإلهية؟ لقد تعرض "بلاتيوس" إلى هجوم شديد ومعارضة عنيفة، عندما طلع على الناس بأن "دانتي" قد تأثر بتلك القصة، إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير إن تلك القصة قد ترجمت فعلًا قبل وضع "دانتي" عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل. ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة ولو على سبيل الاحتمال، أفلا تستحقُّ المُقارنة بين الذوقيين والأسلوبين، وتقويم العناصر الفنية في الأثرين الأدبيين مثلًا: أن نقوم بمثل تلك المقارنة على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين، وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال في الآخر، وإغناءً لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تخلق خلقًا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التي تقف خلف نقاط القوة أو الضعف, وهل

هي راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هي بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التي ينتسب إليها. أما أنا فأحبذ مبادرة الأمور، والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الإستباقية هذه, ومن ثَمّ لا أجدُ أية غضاضة في ما صنعه "شفيق جبري" مثلًا في مقالاته في "مجلة الثقافة المصرية" سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف من المقارنة النقدية بين "بحيرة البحتري" و"بحيرة لامارتين" ولا ما صنعه دكتور صفاء خلوصي من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه دكتور عبد الرزاق حميدة في كتابه (الأدب المقارن) حين وازن بين (رسالة الغفران) للمعري و (الكوميديا الإنسانية) لدانتي مقارنة جمالية خالصة؛ فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين. لقد كان المرحوم "محمد غنيمي هلا ل" و"أنور لوقا" مثلًا من المتشيعين للمنهج الفرنسي في الأدب المقارن، وما زال هناك من يأخذ بوجهة نظر هذه المدرسة، لا يرى مما عداها شيئًا وهم كثر, وهناك على العكس من هذا من يتشيع للمنهج الأمريكي متمثلًا فيما كتبه "رينيه ويلك" الذي وسع دائرة ذلك الحقل كما تعكسه الفصول الخاصة بهذا الموضوع في كتابه (مفاهيم نقدية) فلم يقصرها على مجالات التأثير والتأثر، التي تقتضي وجود صلات تاريخية بين طرفي المقارنة. إن ما يقوله هذا أو ذاك من الباح ثين الغربيين، ليس قرآنًا مقدسًا، ينبغي أن نخر عليه صمًّا وعميًا وبكمًا، بل إن القرآن نفسه لا يطالب البشر بأن يخروا عليه مؤمنين دون تفكير أو إعمال عقل، فما بالنا بنظريات في الأدب والنقد، هي من نتاج العقل البشري غير المعصوم.

وعلى هذا؛ فإني لا أقصر مجال الأدب المقارن على الأدبين اللذين قد ثبت أن بينهما صلات تاريخية، بل أنادي بتمديده؛ ليشمل دراسة أي أدبين بينهما وجه أو أكثر من وجوه الشبه أو الاختلاف، لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء ذلك التشابه أو هذا الاختلاف, كما أرى أيضًا توسيع آفاقه؛ ليشمل مثلًا الموازنة الأدبية بين عملين من أعمالهما، وتحليل كل واحد منهما، والاجتهاد في تذوق كل منهما؛ لتوسيع مجال الاستمتاع الأدبي والنقدي، عند الدارس والقارئ جميعًا، ومحاولة تقويم كل منهما فنيًّا ومضمونيًّا، والوصول إلى معرفة أي منهما أجمل وأقوى وأشد تأثيرًا من الآخر ولماذا؟ وذلك من أجل اكتساب نظرة أكثر رحابة، وأوسع إنسانية، وأعمق حكمًا، وأحرى أن تكون أقوى انفتاحًا على ما عند الآخرين من آثار الخير والجمال والجلال. ولسوف نرى إن هناك كتابات مقارنية في التراث العربي، وعلى مدى زمن طويل في العصر الحديث، لم تكن تهتم بتاتًا بالبحث عما إذا كان هناك صلة تاريخية بين الأدبين، أو الأديبين، أو العملين الأدبيين محل المقارنة, بل يكفي أن يكون هناك وجه مشابهة أو أرض مشتركة بين الطرفين؛ حتى تقوم دراسة مقارنة بينهما. أي: أنّ الاتجاه الأمريكي ليس بدعًا جديدًا في الأدب المقارن، ولسوف نرى أن "فخري أبو السعود" مثلًا في مقالاته التي كتبها في الثلاثينات من القرن المنصرم عن الأدب المقارن، إنما ينطلق من رؤية أفسح، وأرحب وأجدى من الرؤية التي تنطلق منها المدرسة الفرنسية بوجه عام، وأنه قد سبق بصنيعه هذا "رينيه ويلك" الأستاذ السابق الأدب المقارن بالجامعات الأمريكية. وعلى نفس هذا المنوال قارن الدكتور "إبراهيم سلامة" في كتابه (التيارات الأدبية في الشرق والغرب دراسة في الأدب المقارن) بين الأدبين العربي والإغريقي في كل

الفنون تقريبًا حتى ما لم يكن بين الأدبين فيه صلة، أو في أقل تقدير لم يثبت أنه كانت هناك بينهما تلك الصلة كما في فن "الملحمة" و"الشعر التعليمي الحكمي". وعلى نفس المنوال أيضًا ضمن الدكتور جمال الدين الرمادي كتابه (فصول مقارنة بين أدبي الشرق والغرب) عددًا من المقالات عن مقارنة هذا الموضوع أو ذاك، بين الأدب العربي وبعض الآداب الأوربية، فتحدث مثلًا عن فصول السنة الأربعة واحدًا واحدًا، وكذلك عن الليل والقمر والبحر والحرب، والموت والزهور والرومانسية، وفن القصة والمسرح في أدبنا، وفي أدب الإنجليز، وفي غيره من الآداب الأوربية أحيانًا. كما قارن بين "اللورد بيرون" وشاعر الغزل الأموي عمر بن أبي ربيعة سواء في حياتهما الأسرية والشخصية، أو في منحاهم الغزلي، وبين خليل مطران، و"ألفريد دي موسيه" وهي فصول شائقة وكاشفة، ومثيرة للخيال والعقل، رَغم إيجازِهَا، واكتفائها ببعض الخطوط العامة، وعدم وجود صلات معروفة بين الأدبين المذكورين في الموضوعات التي تناولها المؤلف. ومن شأن هذه الفصول وأشباهها أن تدفع إلى مزيد من الدرس، والتعمق، والانطلاق إلى أفاق أرحب، ودراسات أكثر تفصيلًا وإحاطة، أما بالنسبة للقارئ العام؛ فإنها ذات قيمة عظيمة، لأن مثل هذا القارئ لا يحتاجُ إلى التعمق والتفصيل. ثم إنها فوق هذا كله، وقبل هذا كله تساعد على خلق الوعي المقارني بين الجمهور العريض غير المتخصص في الأدب المقارن، وهو هدف جدير بالتنبه له،

والاجتهاد في توفير العوامل التي تؤدي إلى بلوغه، إذ ليس بالقليل أن نفكر في الارتفاع بالذوق الأدبي، وتوسيع الأفق الثقافي بوجه عام، والمقارنة بين ما عندنا وما عند الآخرين؛ لفرز الغث من الثمين، والعمل على تنقية ما نملكه وما نفكر في استعارته أو استلهامه من الأوضار والشوائب. بيدَ أنّني أجدُ لِزامًا عليًّ بعد ذلك كله التوضيح بأني لست من أنصار توسع نطاق الأدب المقارن بحيث يشمل أيضًا المقارنة بين الأدب، وغيره من ألوان الإبداع والمعارف، طبقًا لما ينادي به "رينيه ويلك" وكذلك "ريماك H H" بل أرى في هذا تمييعًا للأمور، إذ من الواضح أنه لا يوجد في الواقع تجانس بين هذا اللون من الدراسة والمقارنة بين أدبين مختلفين. إننا في الأدب المقارن ندرس وجوه الاختلاف أو الاتفاق، أو الصلة بين أدب وأدب؛ فلنبق داخل دائرة الأدب، ولا نوسع الخرق على الرّاقع، وإلا لم تعُد هناك حدود تميز هذا الميدان عن غيره من الميادين, ونحن بطبيعة الحال لا ننكر على أحدٍ أن يدرُس ما يشاء، بل كل ما نقوله: هو أننا لا نريد تمييع الحدود؛ حتى يكون للأدب المقارن شخصيته، مثلما لكل علم آخر من العلوم المتصلة بالأدب وغير الأدب، شخصيته الواضحة المحددة. وعلى هذا فإن مقارنة العقاد والمازني في شبابهما في عشرينات القرن البائد مثلًا بين الشعر وبين الفلسفة، وبين الفنون الجميلة على ما فيها من حساسية فنية، وعمق في التحليل، وسعة في الأفق لا تعد في رأيي من الأدب المقارن، على عكس ما حاول الدكتور علي شلش أن يصنفها, لقد كان الدكتور شلش بإلماحاته للعقاد والمازني وغيرهما يرد على كمال أبو ديب، في دعواه بأن

محاولات تجاوز تحديد الأدب المقارن بدراسة التأثر والتأثير في الغرب غير موجودة في العربية. ومع هذا فقد انتقد الدكتور حسام الخطيب في كتابه (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة) الذي رأى النور بعد صدور كتاب شلش بست سنوات كاملات ضآلة الاهتمام بين النقاد العرب، بالربط بين الأدب والفنون الأخرى، بما قد يرجح أنه لم يتنبه إليه، وإلى ما رد به على بلديه الدكتور أبو ديب. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد يكون من المفيد أن أسجل هنا أنني أصدرت منذ عدة أعوام كتابًا بعنوان: (التذوق الأدبي) خصصت فيه فصلًا من بضع عشرات من الصفحات، للمقابلة بين الأدب والفنون الأخرى، من خيالة، ونحت، وتصوير، وكاريكاتير، وموسيقى وعمارة, سواء من ناحية الوسائل التي يتذرع بها كل من الطرفين في التعبير عما يريد، أو من ناحية قوة التأثير، والإمكانات التعبيرية التي يوفرها. ومع هذا لم يخطر ببالي أن أعد ما فعلته من الأدب المقارن في شيء، وأرى من الأوفق وضعه في خانة التذوق الأدبي كما عنونته, كذلك أحسبُ أنّ الدكتور حسام الخطيب، وغيره من المقرين على حق في قلقهم على مستقبل الأدب المقارن من هذه الناحية، إذ يُنادي في مقال له عنوانه: "الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات بتجاه المستقبل" بوجوب حل مشكلة التسارع في توسيع الأدب المقارن من ناحية المقارنة المعرفية، مع مختلف الفنون والعلوم إلى درجة اهتزاز بؤرة الارتكاز فيه، وصعوبة حصوله على الاعتراف الفكري، والقوة المؤسسية في الإطار المعرفي العام، وينتج عن ذلك عادة تقسيم أقسام أو برامج الأدب المقارن مقابل ما تتمتع به الآداب القومية من قوة ومكانة.

الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة.

الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة ورغم ذلك فقد يكون من المُستحسن أن نلقي نظرة على الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة، والواقع أن في الأدب ملامح من كل فن من تلك الفنون, ونبدأ بالموسيقى فنرى أن في الشعر العروض والقافية؛ فضلًا عن السجع والجناس، والتشريع، والترصيع والموازنة، ورد الأعجاز على الصدور، وتكرير حرفٍ أو كلمة أو أكثر في بيت واحد أو أكثر، وهو ما يُحدِث تجاوبًا صوتيًّا أشبه بالرنين. وإذا كان النثر يخلو من العروض والقوافي، فإن فيه مع ذلك السجع والجناس والموازنة ورد الأعجاز على الصدور، وغير ذلك من المحسنات البديعية اللفظية، التي من شأنها إحداث التوقيعات وما إليها، علاوة على ترديد حرف أو لفظة أو عبارة كاملة كما أشرنا آنفًا في كلامنا عن الشعر. وهذا العُنصر المُوسيقي إلى جانب ما في الإبداع الأدبي من خيال وعاطفة، يعْمَلُ عمل السِّحر في القلوب؛ فيفتح مغاليق حصونها أمام الأفكار والمعاني، فتكونُ النشوة العلوية التي نعرفها للأدب، ولا نعرفها لغيره من الكتابات التي لا تتغيا إلا العقل، ولا وظيفة لها إلا إقناعه إقناعًا علميًّا باردًا ليس فيه حرارة الأدب، ولا تحليقه ونشوته. وبسبب هذا التأثير الساحر للموسيقى في الشعر نجد النقاد قد اصطلحوا على أن يغضوا الطرف على ما يقع فيه من هنات نحوية وصرفية، مما يسمى بالضرورات الشعرية؛ لمعرفتهم أن الشعر مقيد بقيود العروض والقافية، وهي قيود ليست بالقليلة، وإن كان الشاعر الفحل لا يُحِسُّ أو لا يكادُ يُحِسّ بها فضلًا عنْ أن

ذلك العنصر الموسيقي نفسه، من شأنه أن يغطي على تلك الهنات، بما فيه من توقيع ورنين أخاذ. ولنَفس هذين السببين يغتفر النقاد للشعراء بعض ألفاظهم وصيغهم، التي لا تشيع شيوع غيرها من الصيغ والألفاظ، وكذلك تركيباتهم التي لا تجري تمامًا على ما تجري عليه الجملة العربية النثرية الحرة. وننتقل إلى فن التصوير حيث نجد أن إمكانات الأدب في هذا المضمار، أكبر من إمكانات الريشة، إذ لا يستطيعُ الرَّسم أن ينقل لنا في أية لوحة إلا لقطة واحدة، ومِن ثَمّ لا يُمْكن أن يكون المَشهد المرسوم إلا مشهدًا ساكنًا, ففن التصوير فنٌ مَكاني بخلاف الأدب الذي هو فن جمالي مكاني معًا، وبالتّالي كان بإمكان الأدب أن يُصَوِّر لنا معركة كاملة مثلًا من أولها إلى آخرها، بكل ما تعج به من كر وفر، وضرب وقتل، وجري وقفز على مدى ساعات وساعات. كذلك فالتصوير قد يقتصر في الألوان على الأبيض والأسود، أما الأدب، فالألوان كلها حاضرة دومًا في يديه، لا يغيب منها لونٌ أبدًا, ليس ذلك فقط بل يستطيع الأديب في لوحته أنْ يَنْقُل لنا الأصوات أو المشمومات، وخلجات النفوس، مفصلة بكل دقائقها علاوة على أسماء الأشخاص وأنسابهم، وأسماء بلادهم، وماضيهم وحاضرهم وعلاقاتهم بغيرهم من البشر، وهو ما لا يستطيعه شيء منه فن الرسم كما هو معروف. وفوق هذا ففي الرسم يرى المشاهد اللوحة دفعة واحدة، فلا يحس من ثم بذلك التشويق الذي يشعر به قارئ الأدب؛ حيث تنبثق الأسرار واحدًا وراء الآخر مثيرة بهذه الطريقة تطلعاتنا ولهفتنا؛ مما لا يعرفه مشاهد اللوحة, كما أنّ اللوحة تقف عاجزة تمامًا عن أن تنقل مثلًا عبارة تهكمية، كقول أحد الأدباء عن بطل من أبطال قصته: "إنه لم يمت تمام الموت".

كذلك فاللوحة لا تترك للذهن فرصة لإضافة شيء إلا ما يراه المشاهد أمامه، إذ كل شيء حاضر تلقاء عينيه؛ بخلاف قارئ الأدب، حيثُ يترك الكاتب كثير من الفراغات التفصيلية، ينشط الخيال إلى ملئها مستمعًا بهذا النشاط الذهني العجيب. ولدينا أيضًا: التشبيهات والاستعارات مما لا تستطيع اللوحات إيذائه شيئًا إذ هي لا تُرينا إلا الشيء ذاته فحسب، على عكس النص الأدبي الذي يرينا الشيء، ويرينا في ذات الوقت الشيء المشبه به وهكذا. ومثلما هو الحال في العلاقة بين الأدب والتصوير، فكذلك الحال في العلاقة بين الأدب والنحت، إن الكلمات قادرة على وصف الأشياء ذات الحجوم وصفًا مجسمًا؛ ثم تزيدُ على ذلك وصف الحركة، والصوت، والرائحة كما أشرنا قبلًا, وكذلك التقاط دبيب المشاعر والأفكار، والنيات أيضًا، لا الحركة وحدها كما ظن الفيلسوف الألماني "ليسنج" في دراسته عن التمثال "لاوكون". وفي شِعْرنا القديم أمثلة كثيرة جدًّا على هذا اللون من الإبداع، إذ يعكف الشاعرُ على ناقته أو فرسه مثلًا، يَصِفُها عضوًا عضوًا بكل ما لديه من تحديد وتدقيق، كما يُقابلنا في شعر الغزل أحيانًا مثل ذلك الوصف للمرأة التي يتدله في هواها الشاعر؛ شعرها وعينيها ووجنتيها، وفمها وأسنانها وعنقها، وصدرها وقوامها، وخصرها وساقيها ... إلخ. ولقد أذكر مثلًا أنني قرأت كثيرًا من الصفحات التي تتجلى فيها هذه السمة التعبيرية في كتابي (ولدي) وفي (منزل الوحي) للدكتور محمد حسين هيكل حين يصف بعض شوارع باريس، أو الكعبة المشرفة فتتجلى براعته في تدقيق الوصف، وتحليله، وتفصيله؛ بحيث يبدو لك كأنه نحات مدهش.

ولا تقتصر المقارنات بين الأدب والفنون الجميلة عند هذا الحد، بل هنالك أيضًا البناء والعمارة، ومن يمر بعينيه على الأرفف المخصصة لكتب تاريخ الأدب والنقد؛ فسوف يعثر على عناوين مثل: بناء القصيدة عند الشاعر الفلاني أو في العصر العلاني أو بناء الرواية, وفي العقود الأخيرة كانت هناك ضجة تتحدث عن البنيوية منهجًا في نقد الأدب، وبِخَاصّة في مجال الأسطورة والقصة، مِمّا يدلُّ على أن ثمة علاقة بين الأدب وفن العمارة أيضًا. وكلنا يعرف ما كتبه ابن قتيبة في القرن الثاني الهجري يصف التصميم البنائي الذي كانت تجري عليه كثيرٌ من القصائد العربية القديمة، إذ لاحظ أن الشعراء الجاهليين عادة ما يفتتحون قصائدهم بالوقوف على الأطلال، والبكاء عندها، جاعلين ذلك سبب لذكر أهلها الظاعنين عنها بحثًا عن الماء والكلأ، ثمّ ينْتَقِلون من هذا إلى النسيب، وشكوى الوجد وألم الفراق؛ بُغية استمالة الأسماع والقلوب، ثم يُعَقِّبون بذكر ما لاقوه في رحلتهم إلى ممدوحهم من مشاقّ ومصاعب؛ ليدخلوا بعد هذا في مديحه وتفضيله على كل من عاداه وهكذا. ويُنَبّه ابن قتيبة الشاعر إلى أنه ينبغي أن يعدل أثناء هذا بين أغراض القصيدة وأقسامها، فلا يُطيل الكلام في قسم على حساب الآخر، إلى آخر الشروط التي طالب بها ناقدنا الكبير شعراءنا القدامى كي يحوزوا قبول الممدوحين والنقاد على السواء، وابن قتيبة هنا مجرد مثال. على أنّ بناء القصيدة لا يتعلق بموضوعاتها فحسب؛ بل هناك بناؤها الموسيقي بدءًا من شكلها التقليدي، الذي يعتمد الوزن الواحد، والقافية الواحدة من أولها إلى آخرها، مع تقسيم كل بيت إلى شطرين متساويين، مرورًا بالمزدوجات والموشحات، والمصمتات والرباعيات، وانتهاء بالقصيدة التفعيلية؛ حيثُ يتَحَرّرُ

الشّاعِرُ من كثير من القيود العَروضية، فنراه لا يساوي بين الأبيات، ولا يُقَسّم كلًّا منها إلى شطرين متساويين، بل يعتمد السطر وحدة عروضية، مع اعتماد التفعيلة لا البحر أساسًا لموسيقاه, ومع اختلاف عدد التفعيلات من سطر إلى سطر دون نظام مطرد. ونفس الشيء قل في نظام التقفية؛ إن جاز لنا أن نسمي عدم النظام الذي يجري عليه الشاعر هنا نظام. وكما أن هناك بناءً للقصيدة، كذلك هناك بناء للعمل القصصي، فهو مجموعة من الحوادث آخذ بعضها برقاب بعض، بحيثُ يكون كل منها نتيجة طبيعية لما سبقه، وعلة منطقية لما يليه، وهذه الحوادث تقع من أشخاص لهم صفاتهم وقدراتهم، وتُحَرّكهم بواعث ودوافع كسائر البشر، ولا بد أن يكون ثم اتساق بين تصرفات هؤلاء الأشخاص وأفكارهم وكلامهم، وبين ظروفهم الاجتماعية والنفسية، ومستواهم العقلي والذوقي. كذلك ينبغي مراعاة مبدأ الاختيار والتركيز، إذ يستحيل نقل الحياة كما هي في الواقع اليومي بكل تفاصيلها، ومن هنا قيل: إن المطلوب هو الإيهام بالحياة لا نقلها نقل أمينًا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ذكرها. وينبغي بالإضافة إلى هذا: العمل على إقامة توازن بين عناصر الفن القصصي؛ من سرد وحوار، ووصف وتحليل، وكذلك بين بدايته ووسطه وخاتمته, ومن الأعمال القصصية ما يكون تصميمه مطابقًا لمجرى الزمن الطبيعي، بادئة من أقصى نقطة في الماضي، ومتقدمة مع الحوادث إلى الأمام. وهناك تصميم آخر يسير بعكس هذا الاتجاه، أي من نهاية القصة إلى بدايتها؛ ليعود في خاتمة المطاف إلى نهايتها تارة أخرى.

ومن التصميمات ما يتخذ شكلًا حلزونيًّا، إذ تتفرع من القصة الرئيسية قصة أخرى، وهذه تتفرع منها قصة ثالثة. هذا عن الأدب المقارن، لكن كانت قبل الأدب المقارن دعوات إلى ما يسمى بالأدب العالمي، ويذكر الدكتور طاهر أحمد مكي، في كتابه (الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه) أن المحاولات الأولى في سبيل الوصول إلى أدب العالمي، بدأت في ألمانيا منذ قرن الثامن عشر، وانتقلت منها إلى بقية الدول الأوربية، ثم استمرت في القرنين التاليين. وكان المُؤَلّفُون يقومُون بتلخيص تاريخ الأدب على نطاق العالم بعامة، أو تواريخ الآداب الأوربية بوجه خاص على الأقل، ومن ذلك على سبيل المثال كتاب (تاريخ الشعر والبلاغة منذ القرن الثامن عشر) لـ "بتروفت" الألماني الذي ظهر في بداية القرن الثامن عشر في اثني عشر جزءًا، وكتاب (الأدب العالمي) للإيطالي "دي بوبر ناتس" وهو يقع في ثمانية عشر مجلدًا، وصدر في نهاية القرن المذكور، ويمكن أن نضيف أيضًا المحاولة العربية التي قام بها دكتور أحمد أمين، ودكتور زكي نجيب محمود في كتابهما (قصة الأدب في العالم) الذي بزغ إلى الوجود خلال أربعينات القرن الماضي في ثلاثة مجلدات. وكذلك المعاجم والموسوعات الخاصة بالبحث في مختلف آداب العالم كمعجم "جوزيف شبلي" وموسوعته المعروفين في هذا المجال. ولست من رأي الدكتور مكي الذي يُقلل تمامًا من شأن مثل تلك المؤلفات إذ يرميها بأنها تملؤ رُفوف المَكتبات بدون جَدوى، وما هي إلا خلاصة مُخِلّة، أو تَرديدٌ مُمِلّ لتواريخ مختلف الكتب والكتاب، التي تمثل اتجاهًا واحدًا في شتى البلدان, وعنده أن ذلك كله ليس هو المقصود من تاريخ الأدب العالمي؛ لأن خلاصة العناصر شيء يختلف تمامًا عن اختصارها.

وفاته أنه ما كان للأدب العالمي أن يوجد إلا بعد قيام أولئك المؤلفين وأمثالهم بوضع كتبهم تلك، إذ إنهم بتلك المحاولات قد لفتوا الأنظار إلى أن هناك صلة بين الآداب العالمية أو الأوربية بعضها ببعض، ويكفيهم أنهم أعطونا صورة بانورامية لآداب الدنيا، أو آداب جزء كبير منها، وليكُن في الصورة بعد ذلك ما يكون من عيوب ونقوص، فمن سنن الحياة ألا يخلو عمل إنساني من العيوب، وأن تكون تلك العيوب على أشدها في البدايات الأولى. والمهم أنهم لفتونا إلى فكرة عالمية الأدب، التي ما كان يمكن أن تظهر إلى الوجود إلا بعد تشبع القائلين بها، والعاملين على إبرازها بما في تلك الكتب الآنفة الذكر من معنى، ذلك أنه ما من شيء في الدنيا يتم دفعة واحدة، بل لا بد له من مقدمات وتمهيدات. وعلى هذا ففي قوله عن تلك المؤلفات: إنها محاولة تركيبية أولى، لا تمت بصلة إلى ما نعنيه الآن بالأدب العالمي، ذلك إن إعداد أكوام الحجارة أو الأسمنت أو الحديد وتنظيمها لا يعني أن البناء قد ارتفع، في قوله هذا كثير من التجني، وإلا فهل يمكن قيام أي بناء وارتفاعه دون أن نعد لذلك أولًا أكوام الحجارة والأسمنت والحديد وننظمها، إن هذا لهو المستحيل بعينه. ولكن ما هي عالمية الأدب التي نتحدث عنها؟ إنها باختصار العمل بكل سبيل على تعرف الآداب المختلفة بعضها إلى بعض، ومن ذلك قراءة الآداب الأجنبية في لغتها الأصلية، أو في لغات وسيطة أو في ترجماتها إلى اللغة القومية؛ فيسهل حينئذ إفادة الآداب الضعيفة الآسنة من الآداب القوية المتوثبة حيوية وإبداعًا، كما يسهل تنبه الأمم المتقدمة إلى قيمة آداب الأمم التي لم تصل بعد إلى درجة تقدمها، والتي قد يكون لآدابها قيمة فنية، وإنسانية كبيرة رغم ذلك.

وهذا الانفتاح من شأنِهِ أنْ يُوَسّع آفاق إنسانيتنا، ويجعل أذواقنا وأفكارنا أكثر عمقًا، وأرحب مدى، ولا ينبغي الاعتصام بالحاضر المبالغ فيه؛ خوفًا من الذوبان في ثقافة الآخرين، كما لا ينبغي الانفتاح على تلك الثقافات دون الحرص على ما تتمتع به الثقافة القومية من خصوصية، ومذاق متميز، ما دامت تلك الخصوصية قد أثبتت في المناسبات المختلفة أنها عاصم هام، بدونه تضيع الشخصية القومية، وتذوب الأمة في محيط الأمم الأخرى. إن الاعتدال مطلوب، ولا بد من الموازنة بين الانفتاح على ثقافات الآخرين، والحرص على الثقافة القومية من الضياع، وهذا التوازن هو الذي يغني تلك الثقافة، وفي ذات الوقت يتمسك بما فيها من عناصر الخير والنفع، وإذا كان الإخلاص في الترجمة، والوفاء للأصل المترجم مطلوبًا بمنتهى الشدة؛ فما أكثَرَ ما يَفْهَمُ المُترجم من العمل الذي ينقله إلى لغته رغم هذا شيئًا لا يراه أصحاب الأدب واللغة، اللذين ينتمي إليهما العمل المذكور، بل ربما لم يستطع مبدعه هو ذاته أن يراه فيه، وقد يكون هذا الفهم الجديد إغناءً للعمل المترجم، وقد يكون إساءة فهم له. وإلى جانب الترجمة في تمهيد الطريق إلى العالمية الأدبية المنشودة، هناك الهجرات التي يقوم بها الأفراد والجماعات، ينتقلون بها من مكان إلى مكان جديد؛ حيث يختلطون بأمم أخرى، ويتعلمون لغات أخرى، وينفتحون على ثقافات أخرى، أو يكون لأصحابها من قوة التأثير بحيث يكون الانفتاح والانتفاع من جانب أهل الأرض المهاجر إليها. ويلحق بهذه العوامل: عامل الغزو؛ كما في حالة الفتوح الإسلامية التي تمت غب عند ظهور الإسلام، حيث استطاع العرب نشر لغتهم وثقافتهم، وذوقهم

الأدبي؛ فضلًا عن استفادتهم من آداب الأمم التي فتحوا بلادها، لقد تركت كثير من الأمم التي فتح العرب بلادها لغاتها وآدابها، وأقبلت على لغة العرب وأدبهم، وأصبحوا عربًا بدورهم، لغة وأدبًا وذوقًا. في الوقت الذي دخلت لغة العرب وآدابها أشياء غير قليلة، من لغات تلك الأمم، وفنونها الأدبية كما هو معروف؛ كالكلمات الفارسية التي تشير إلى مدلولات ومفاهيم لم يكن العرب بها عهد قبل هذا، مثل: "النوروز والدستور والكامخ والفيروز والفالوذج، والصولجان والخوان والجلاد، لقاء ما لا يكاد يحصى من كلمات وتعبيرات عربية غزت اللغة الفارسية، التي كانت لسان القرآن قد حل محلها في كتابة الأدب الفارسي عدة قرون. وككتاب (كليلة ودمنة) الذي أدخله ابن المقفع بين الأدبين الفارسي والهندي جميعًا، وكالرّسائل الديوانية بتقاليدها المعقدة، التي لم يكن العرب ينتهجونها في رسائلهم قبل اتصالهم بالفرس. بهذه الطريقة تتعرف الأمم والشعوب بعضها إلى آداب بعض، وتنفتح الطرق فيما بين تلك الآداب، ويتم تلاقحها فتقوى، وتدب فيها الحيوية، أو في أقل تقدير تزداد قوة إلى قوتها، وحيوية إلى ما كانت تتمتع به قبل من حيوية. وهذا الانفتاح ميدان من ميادين الأدب المقارن، إذ يتيح الفرصة للدارس المقارن كي يتتبع سبل الاتصال بين الآداب بعضها ببعض، والعوامل التي ساعدت على هذا الاتصال، والثمار التي ترتبت عليه؛ فضلًا عن المقارنات الفنية بين الأعمال الأدبية، وهذا طبعًا إذا كان ذلك الدارس من أتباع المدرسة الفرنسية التي تتشدد في عملية المقارنة الأدبية؛ فلا تقدم على الإفتاء إلا إذا تبين بيقين أن ثمة اتصالًا وتأثيرًا وتأثرًا بين الطرفين الأدبيين؛ سواء كان كل من الطرفين عملًا أدبيًّا أو تيارًا أو جنسًا، أو كان هو كان الكاتب المبدع ذاته ... إلخ.

أما أتباع ما يسمى بالمدرسة الأمريكية، فهم لا يرون أية غضاضة في المقارنة بين أي طرفين أدبيين بينهما وجه من وجوه التشابه، سواء كان هناك اتصال أو لم يكن، وهذا إن كان صحيحًا أنّ هذا المنهج هو منهج أمريكيٌّ حقًّا، إذ قد لاحظتُ أن العرب القدماء مثلًا في مقارنتهم الأدبية العفوية، لم يكونوا يلتفتون إلى شرط قيام مثل تلك الصلات، ولم يعرفوا أنهم يمارسون شيئًا اسمه الأدب المقارن، أو يستخدموا مصطلحاته. والمأمول أن يكون في الدراسات الأدبية المقارنة معوان على التقارب بين الأمم، والتخفيف ولو قليلًا من غلواء العصبيات القومية، واحترام المبادئ، والقيم الإنسانية المشتركة بين البشر على اختلاف أوطانهم وحضاراتهم، والمأمول بالذات أن تتعلم الدرس الأمم الغربية التي تتخيل أنها قد جبلت من طينة أخرى غير الطينة التي جبل منها سائر الناس، وأنها إنما وجدت لتسود وتقود، وتتمتع بخيرات الكون دون سواها من البشر. نقول: هذا هو المأمول، وإن كان المتحدث إليكم لا يعول كثيرًا على ذلك، فالنّفس البشرية ليست مطواعًا في الخير والسمو بهذ هـ السهولة، ولا يمكنها فيما أتصور أن تتخلى على العصبيات المذكورة تمام التخلي. أما ما يقوله الدكتور حسام الدين خطيب من أن فكرة العالمية ليست جديدة في التار يخ الإنساني، بل لعل الإنسان خلق في الأصل عالميًّا؛ فالواقع يؤكد خلافه؛ لأنه إذا كان الإنسان مكونًا من عدة جوانب؛ كالجانب الفردي والجانب الوطني، والجانب الديني، والجانب العالمي؛ فان الغلبة في حالات التصادم بين الجانب الفردي أو القومي، والجانب العالمي تكون للجانب الأول.

بل إن الجانب القومي؛ ليتلاشى أمام سطوة الجانب الفردي، اللهم إلا في حالات الأفراد الأفذاذ عادة، وبالذات في لحظات التوهج والسمو النادرين، كما في أوقات الحروب مثلًا حيث يمكن في ظل ظروف معينة أن يقدم الفرد على التضحية بمصالحه الخاصة، بل بحياته ذاتها فداء لوطنه أو دينه مثلًا. ويتصف ما نحن بصدده هنا من عالمية الأدب ما كان يأمله "جوته" ويتوقع تحققه هو ومن يتابعونه، من أن الأدب العالمي معناه أن الآداب العالمية حين يتم تجاوبها، بعضها مع بعض، لم تلبث أن تتوحد جميعًا في سوى حدود اللغة، وما يُمكن أن توحي به البيئة والإقليم، وهو ما نفى دكتور/ محمد غنيمي هلال إمكان تحققه تمامًا؛ لأن فكرة الأدب العالمي في رأيه مستحيلة التحقيق، ذلك إن الأدب -كما يقول- هو قبل كل شيء استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية للوطن والقومية، وموضوعه تغذية هذه الحاجات، فهي محلية أولًا، وهي تشف حتمًا عن غايات عالمية. ولكن؛ من وراء التعبير عن المسائل والآمال القومية، وما يتبع ذلك من المواقف النفسية والخواطر الذاتية، التي لا بُدّ أن تَدُلّ أولًا على حال المؤلف، بوصفه مواطنًا أو فردًا من جماعة كبيرة، ومن وراء الموقف المحدد الذي يتوجه به الكاتب إلى جمهوره الخاص، تتراءى المعاني الإنسانية العامة, فالآداب في رأيه وطنية قومية أولًا، وخلود الآثار الأدبية لا يأتي من جهة عالمية دلالاتها، ولكنه ينتج عن صدقها وتعميقها في الوعي الوطني والتاريخي، وأصالتها الفنية في تصوير آمالها وآلامها النفسية، والاجتماعية المشتركة بين الكاتب وجمهوره. والحق أنه لا يوجد خلاف بين ما يقوله هلال وما نادى به "جوته" ورجا وقوعه؛ فكلاهما يؤكد أن الخطوط العالمية العامة، وبخاصة من حيث الموضوعات

والأشكال الفنية لم تلغ الخطوط الفردية والقومية الخاصة أبدًا كما هو واضح، إلا أن دكتور هلال قد تسرع في الاعتراض على كلام "جوته" دون مسوغ. على أن لي تعليقًا سريعًا على قوله: "إن الآداب وطنية قومية أولًا" وهذا التعليق يتلخص في أنها في الواقع الحي فردية، قبل أن تكون وطنية أو قومية، ومع هذا فإن ما يضمن لها الخلود، هو ما فيها من نزعة إنسانية تخاطب البشر على اختلاف أديانهم، وأوطانهم، وعاداتهم وتقاليدهم، إلى آخره بشرط أن يتحقق لها الإبداع الفني الراقي بطبيعة الحال. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 2 التأثر والتأثير في الأدب المقارن.

الدرس: 2 التأثر والتأثير في الأدب المقارن.

التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة السلافية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (التأثر والتأثير في الأدب المقارن) التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة السلافية التأثير والتأثر في الأدب المقارن: إذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارنة تشترط لإجراء عملية المقارنة: أن تكون هناك صلات تاريخية بين طرفي المقارنة؛ فإن ثمة مدارس أخرى تشترط وجود مثل تلك الصلات، بل تكتفي بوجود المشابهات أو الاختلافات بينهما، ومن هذه المدارس: المدرسة الأمريكية، والإيطالية، والألمانية، والسلافية. كما أشرنا قبلًا. وسوف نتريث هنا قليلًا لنقول كلمة عن المدرسة السلافية لما فيها من خصوصية تميزها عن بقية المدارس المذكورة آنفًا، وهي المدرسة التي كان ينتمي إليها الدارسون المقارنون في الاتحاد السوفيتي، ودول شرق أوربا الدائرة أوان ذلك في فلكه، إذ تكتفي تلك المدرسة بأن تكون هناك تشابهات بين الأديب أو الجنس الأدبي أو الاتجاه الفني مثلًا المراد درسه، وبين نظيره لدى أمة أخرى، وسواء بعد ذلك أكانت هناك صلات بين الطرفين أم لا. وتزيد المدرسة السلافية على ذلك: أنها ترجع تلك التشابهات إلى تشابهات في البنية التحتية، التي أفرزت الإبداع الأدبي على منهجها في رد كل شيء في دنيا الفكر والذوق، إلى وسائل الإنتاج وعلاقاته. كذلك لاحظت حين كنت أنَقِّر في تراثنا العربي بغية العثور على نصوص في المقارنة الأدبية؛ فوجدت منها الكثير أن علماءنا القدامى من مقارني الأدب، لم يكونوا يضعون نُصب أعينهم شرط وجود الصلات التاريخية بين طرفي المقارنة، إذًا فالتأثير الخارجي الذي ينسب له أنصار المدرسة الفرنسية عادة الدور الأكبر في المشابهات بين الآداب القومية المختلفة، ويشترطون تحققه كي تتم المقارنة الأدبية

بين عملين أو أديبين مثلًا، ليست له تلك الأهمية بالنسبة لأنصار المدرسة السلافية. بل إن هذا الدور غدا محكومًا في نظرهم بتطور المجتمع المنتج للأدب، ويكتب "جيرمونسكي" موضحًا الشرط الاجتماعي الذي يحكم التأثير الخارجي؛ فيؤكد أنه لا يُمكن لأي تأثير ذي أهمية أن يكون مصادفة أو دفعة آلية من الخارج، أو واقعة ميدانية في سيرة خاصة بأحد الأدباء، أو في سير عدد منهم، أو نتيجة تعارف بالمصادفة مع كتاب جديد، أو انجرافًا وراء أنموذجات، أو تيارات أدبية تمثل السائد الأدبي. فالأدب مثله مثل الأشكال الأيدلوجية الأخرى، يتشكل قبل كل شيء على أساس تجربة اجتماعية محددة، بوصفه انعكاسًا للواقع الاجتماعي، وأداة لإعادة بنائه؛ لذا فإن إمكانية التأثير ذاتها، مشروطة في بعض جوانبها بالقوانين الطبيعية؛ لتطور مجتمع معين، وأدب معين، على اعتبار الأدب أيدلوجية اجتماعية، تتولد في إطار واقع محدد تاريخيًّا. إنّ أي تأثير هو أمر ممكن تاريخيًّا لكنه مشروطٌ اجتماعيًّا؛ فلكي يصبح التأثير ممكنًا، يجبُ أن تكون ظروف البلد المتأثر أو المستقبل مهيئة ومشابهة في الأفكار والأخلاق والموضوعات، والصور للاتجاهات المؤثرة. ثم يلخص "جيرمونسكي" وجهة نظر علم الأدب المقارن الم اركسي في مسألة التأثير قائلًا: "يمكن أن يكون التشابه بين الظواهر الأدبية، ولا سيما التشابهاتُ ذاتِ الطّابع العام، كالتَّشابه بين الاتجاهات أو الأنواع الأدبية، أو المبادئ الجمالية، أو التوجهات الأيدلوجية، الذي تتكشف عنه آداب مختلفة في وقت واحد، قائمًا على مقدمات اجتماعية تاريخية واحدة، في مرحلة واحدة من

مراحل التطور، أو على التشابه في الواقع الاجتماعي، وفي أيدلوجية طبقة اجتماعية في حالة تاريخية معينة". هذا الضرب من التشابه في تطور الآداب، لا يقتضي حتمًا وجود تأثير مباشر؛ لأن وجود التوجهات المتشابهة في الآداب القومية، هو بحد ذاته شرط رئيسي لإمكانية قيام التأثيرات الأدبية الدولية، ليس التأثير دفعة آلية من خارج أو دفعة بالمصادفة، وليس واقعة تجريبية في سيرة الحياة الذاتية لكاتب، أو فئة من الكتاب، وليس نتيجة لتعارف بالمصادفة، أو لولع بأنموذج أدبي دارج، أو اتجاه أدبي, إن أي تأثير هو أمر خاضع للقوانين، ومشروط اجتماعيًّا، ويحدد هذه المشروطية التطور الطبيعي القانوني في المجتمع المتأثر وفي أدبه, كما يحددها اتساق الأيدلوجية الاجتماعية مع قوانين الصيرورة التاريخية. وثم ناحية أخرى مهمة يتطرق إليها "جيرمونسكي" مؤكدًا أنّها مما يميز المدرسة السلافية عن مدارس الأدب المُقارن الأخرى في الغرب، ألا وهي: أن تلك المدارس إنما تنطلق من مما يسمونه بالمركزية الأوربية، تلك المركزية إلي لا ترى إلا أوربا والغرب، ولا تتصور للحظة أن الغرب أن يكون مدينًا لأحد خارج نطاقه. يقول الرجل عن المدرسة السلافية: "إنها تتغيا فيما تتغياه مناهضة نزعة المركزية الغربية، التي سادت ولا تزال سائدة في كثير من أوساط الدارسين المقارنين الغربيين، التفكير النظري الغربي، والتفكير المنضوي تحت لوائه، والممارسات المقارنية الغربية سيادة تامة، حتى عهد قريب. وعلى الرغم من تنوع مناهج الدرس المقارن للأدب في الغرب الأوربي والأمريكي، واختلافها فيما بينها في التركيز على هذا العنصر أو ذاك، من عملية التفاعل الأدبي بين الأمم والشعوب؛ فإن ما يجمعُ بينها من جانب، ويُمَيّزُها من

جانب آخر عن غيرها من مناهج الدرس المقارن الأخرى، خارج العالم الغربي، هو نزعتها الواضحة وضوح الشّمس نحو التمركز المسرف حول الذات الغربية، أو ما بات يعرف بـ" Euro-centrism ". صحيح أن هذه المناهج أو المدارس كما يحلو لبعض الدارسين أن ينعتها، تقر بدين الآداب الأوربية الحديثة للموروث الكلاسي -اليوناني والروماني-، والموروث الديني -التوراتي أسفار العهدين القديم والجديد-، ولكنها لا تحاول الخروج من دائرة الافتتان بالذات الأوربية، بغرض تلمس ديون أخرى لهذه الآداب، واعتزازهم الأجوف بالتميز الأوربي، الذي يكاد أن يبلغ درجة التعصب العنصري البغيض إلى كل من يعمل في دوائر الدرس المقارن للأدب. ففضلًا عن دين الموروث الكلاسي في شقه اليوناني، لحضارة الشرق القديم، وحضارة مصر القديمة، ودينه في الشق الروماني، لحضارات حوض البحر المتوسط شماله وجنوبه وشرقه وغربه، ودين الموروث الديني إلى الشرق العربي، مهد الديانتين اليهودية والمسيحية؛ فثمة دين أوربا عصر النهضة للحضارة العربية الوسيطة التي حفظت لأوربا موروثها الكلاسي، وأغنته ونمته، وطورته، ومضت به أشواطًا بعيدة جعلت من العصور الوسطي عصورًا في غاية التألق، والغنى، والعطاء. ولم تكن في يومٍ عصورًا للظُلمات إلا في أوربا التي استكانت لنسختها الخاصة، التي ارتضتها من الديانة الشرقية السامية المسيحية، التي تبنتها الإمبراطورية الرومانية، وسهلت انتشارها في أوربا كلها. وقد تجَلّت هذه النزعة المحفوظة بالنّظرة الدونية إلى سائر آداب العالم، التي لم تكن لترقى في عيون المصابين بفيروس السلطان أو القوة إلى معارج الآداب الأوربية.

وهكذا اعتقد الأوربيون أن الشعوب الإفريقية أو الآسيوية بوصفها بدائية أو طفولية يُمكن استبعاد آدابها وفنونها بطرق مختلفة، دون أن يُخامر المرء أدنى شعور بالخسارة أو مجافاة شروط البحث العلمي، وأن الثقافات الشفوية هي بالتأكيد دون الثقافات الأوربية الغربية المدونة، وهي لذلك تصلح للمتاحف والدراسات الأنثروبولوجية، والدراسات التاريخية المتصلة بنشوء الإنسان وتطوره وارتقائه، كما هو الشأن في نظرة الأوربيين إلى الملاحم الشفوية. وأن الأجناس الأدبية التي لا تتفق والتصنيفات الأدبية الأوربية، يُمكن أن تُهمل دون شعور كبير بالإثم، ما دامت خارجة عن القانون الأدبي الغربي، كما هو الشأن في نظر الأوربيين إلى المقامة، أو الشعر الغنائي في الآداب الشرقية، وأنّ الأعْمَال الأدبية العظيمة في نظر الأمم والشعوب التي أنتجتها تقاس بما يُسمى "روائع الأدب الغربي" وتنال من الدرجات بمقدار قربها أو بعدها من النماذج الغربية. وكانت حصيلةُ هذه المظاهر العنصرية في جوهرها، والعابثة في موقفها: إن بعض الآداب كان يساوي أقل من الآداب الأخرى, وبعضها كان فريدًا في امتلاكه أهمية عالمية, وبعضها الآخر يمكن أن يهمل بوصفه بدائيًّا أو عاديًّا، ولذلك وجدنا أنّ المقارنين في القرن التاسع عشر بكامله مضوا في إلحاحهم على أن المقارنة تكون على محور أفقي، أي: بين الأنداد, وإحدى نتائج هذا المنظور. كما تلاحظ "سوزان بازنت" أن باحثي الأدب المقارن ومنذ البداية مالوا إلى العمل مع الكتاب الأوربيين فقط, ولهذا دعا "جيرمونسكي" كبير مناظري هذه المدرسة إلى ضرورة توسيع دائرة البحث في الأدب المقارن، بغرض الوصول إلى نتائج أكثر مصداقية، وحقائق أكثر رسوخًا وموضوعية.

وهذه الدعوة تضعه إلى الطرف النقيض للدرس المقارن الغربي، القائم على المركزية الغربية، التي ينبغي أن ترفض في رأيه، ورأى الكثيرين من المؤمنين بالرسالة السامية للأدب المقارن رفضًا قاطعًا مستشهدًا على ذلك بمقولة رائد الدرس المقارني الروسي "فيسلو فيزكي" الذي كان يعكس في عصره أفكارًا أكثر تقدمية في مجال علم الأدب، من أفكار "هيلدر" وغيره. بِقَدْر ما تكثُر المُقارنات والمقابلات، وبِقَدر ما يكون ميدانها واسعًا، تكون النتائج أكثر رسوخًا, يَكتُب "جيرمونسكي": "وإذا كان علم الأدب في الغرب قد تخلى عن دراسة القضايا الواسعة، والآفاق العريضة لتطور الأدب العالمي، واتجه نحو التخصص الضيق محددًا أطر بحثه داخل الحدود القومية، وفي أحسن الأحوال معتمدًا على الأعمال الأوربية؛ فإننا في الاتحاد السوفييتي ذي القوميات؛ حيث تعيشُ شُعوب الشّرق والغرب في وحدة وتآخ؛ لتبني ثقافة جديدة قومية في شكلها، واشتراكية في محتواها، تُسَلّم تلقائيًّا بضرورة تناول مسائل التطور الأدبي من خلال الدراسات المقارنية التاريخية الأرحب أفقًا، وضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار اكتمال هذه الدراسات على الأعمال الأدبية الغربية والشرقية". هذا ما تقوله المدرسة السلافية، ولا ريب في أن تلك الدعوة الأخيرة هي دعوة الأرحب أفقًا، وأكثر إنسانيةً، وأمعن في العلمية من تلك المركزية الأوربية، وما يترتب عليها من تداعيات منهجية وإنسانية خطيرة, وأن كان من الواجب علينا مع ذلك أنْ نُضيف في ذات الوقت ما نعرفه من أن هناك في الغرب ناس شرفاء، لا يحجمون عن التصريح بما يصلون إليه من نتائج، مهما كان تعارضها بل تصادمها مع هذا الإحساس الغربي المريض، ومنهم أولئك المستشرقون الذين أبرزوا تفوق الحضارة العربية الإسلامية، وآدابها أيام كانت أوربا تسبح في ظلام

العصور الوسطي الدامس، وكذلك الدين الذي تدينه أوربا لتلك الحضارة، وما أثمرته من آداب. وعدد هؤلاء المستشرقين ليس بالقليل في ذاته، وإن كانت نسبتهم إلى المتعجرفين الذين لا يُريدون الإقرار بالحقيقة في هذا المجال غير كبيرة؛ لكنّنا لا ينبغي أيضًا أن نستنيم لهذا الكلام إلى الحد الذي ينسينا أن الاتحاد السوفيتي زعيم الكتلة الشرقية، التي يتغنى بإنسانيتها الكاتب، كان دولة استعمارية تسعى للسيطرة والهيمنة على الدول الصغيرة، مثله في هذا مثل الاستعمار الأوربي والأمريكي سواء بسواء، وأن ما يُرصفه الكَاتِبُ من ألفاظ وعبارات جميلة، إنّما هو جزء من خطة التسلل إلى قلوب أبناء العالم الثالث، الذي كان السوفيت يتصارعون مع الغرب على السيادة عليه، والفوز بخيراته. كذلك لسنا نشاطر المدرسة السلافية كل مل تردده من أفكار وتفسيرات، وبخاصة ما تقوله من أن المُشابَهات التي تكون بين الإطراف الأدبية، لا بد أن يكون مَرْجِعُها مشابهات مثلها بين البنى التحتية لها, ذلك أن مثل تلك الدعوى إنما تقوم على أساس من الفلسفة الماركسية المادية، وهي فلسفة مُتعسفة ضيقة الأفق؛ فكثيرًا ما يُلاحظ أنّ التّشابهات بين طرفين أدبيين ترتد إلى أشياء مختلفة تمامًا عن ما تقوله تلك المدرسة. ولقد تأثرت مثلًا آدابنا العربية في العصر الحديث بآداب أوربا الغربية وما زالت، رغم اختلاف الأوضاع الاقتصادية هنا عنها هناك، بل إنّ آدابنا كانت تتأثر في ذات الوقت بآداب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، رغم اختلاف علاقات الإنتاج والأوضاع الاقتصادية بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية اختلافًا شديدًا، والواقع أن كثيرًا من تلك الترجمات والمقالات.

والدراسات التي مهدت الطريق إلى تأثر أدبنا العربي بالآداب الغربية، سواءٌ تِلك التي تنتمي للكتلة الشيوعية أو الكتلة الرأسمالية، إنّما ترجعُ في جانب منها إلى المبادرات والاهتمامات الفردية للكتَّاب والمترجمين، الذين قد يكونوا بعضهم مقتنعًا بما يدعو إليه، ويعمل على نشره أو قد تكون له مصلحة في ذلك. وفي جانب آخر إلى الدعاية والتخطيط المنظمين، الذين كانا يقوم بهما الاتحاد السوفيتي، والدول الرأسمالية؛ حيث يتم تشغيل كثير من الكتاب والأدباء والنقاد بالمناصب والأموال والرحلات والهدايا وغير ذلك، بِغَرض القِيام بالدعاية لآدابهم، ونشر قيمها بين العرب، وطبع آدابهم وعقولهم وأذواقهم، ومن ثم اتجاهاتهم السياسية والخلقية والاقتصادية بطابعه، فضلًا عن تَوفير المجلات والمطبوعات والكتب المترجمة بسعر زهيد. ولقد انقلب مثلًا كثيرٌ من الكتاب والأدباء المتحمسين للاشتراكية، فأصبحوا متحمسين بنفس القوة إلى كل ما هو غربي أو الأمريكي منه بالذات، رغم أنه لم يتغير شيء يذكر في أوضاع العرب، والبركة طبعًا في أجهزة الدعاية الأوربية والأمريكية، وما تنفقه في هذا السبيل من أموال، وتضعه من خطط، وتغرق السوق العربية من مطبوعات وصحف ومجلات، وكتب تمجد ثقافة بلادها وقيمها وأذواقها. وأنا حين أقول ذلك لا أنفي أن يكون تشابه الظروف الاقتصادية، وعلاقات الإنتاج ووسائله، سببًا في تشابه الأشكال الفنية، أو الموضوعات الأدبية بين أدبين من الآداب أو أكثر، بيدَ أنني لا أقصر تلك المشابهات على هذا العامل وحده، أو أجعله عاملًا حتميًّا بالضرورة، إنّما هو عاملٌ واحد بين عوامل متعددة؛ قد يكون له تأثيره، وربما لا يكون له شيء من تأثير على الإطلاق.

التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة الفرنسية.

التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة الفرنسية هذا؛ عن المدرسة السلافية؛ بيد أن لواء الغلبة كان وربما لا يزال حتى الآن معقودًا للمدرسة الفرنسية، ذلك أن دخول مادة الأدب المقارن إلى جامعاتنا إنما تم في البداية على يد الأساتذة الذين كانوا قد بعثوا إلى الجامعات الفرنسية، وعلى رأسهم: الدكتور محمد غنيمي هلال، والدكتور أنور لوقا. ولأن فرنسا هي فيما نعرف أول بلد استخدم فيه مصطلح الأدب المقارن عام سبعة وعشرين وثمان مائة وألف. ولقد بلغ من تأثير تلك المدرسة أن واحدًا مثلي، ظَلّ إلى وقت قريب، يَظُنّ أنّ الدِّرَاساتِ المُقارنة لا تصح ولا تجوز، إلا إذا كانت هناك علاقات تاريخية بين الطرفين المراد المقارنة بينهما، وثبت أن لأحدهما تأثيرًا على الآخر، وإلا إذا استطعنا أن نَرصد المسار الذي اتخذه هذا التأثير، وتحققنا من وقوعه، وأقمنا الأدلة عليه. لكنني الآن بعدما اطلعت على تراثنا العربي في ميدان المقارنة، مع معرفتي بأن أجدادنا لم يكونوا متنبهين إلى أنهم يمارسون ما نسميه الآن الأدب المقارن، بل كانت جهودهم في ذلك الميدان جهودًا عفوية فطرية؛ لم أعُد أتَشَدّدُ تَشدد الفرنسيين، ولا آخذ أخْذَهم، وبخاصة أنني اطلعت على أفكار مدارس مقارنة أخرى. وكنت أيضًا قد وقعت على ألوان مقارنة بين آدابنا وآداب غيرنا في العصر الحديث لم يهتم أصحابها الذين لم يكونوا قد سمعوا شيئًا اسمه الأدب المقارن بمسألة التأثير والتأثر على الإطلاق، وتركوا رغم هذا وراءهم بعض من أمتع المقارنات

كرفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، وروح الخالدي، وقسطاق الحمصي مثلًا. بل إن هناك دراسات مقارنة شائقة قام بها بعد ذلك الدكتور جمال الدين الرمادي، وشفيق جبري على سبيل المثال لا تستند إلى أي اهتمام بتأثير أو تأثر. وبغض النظر عن اختلاف مدارس المقارنة الأدبية في هذه النقطة؛ فإن التأثير والتأثر بين الآداب أمر لا محيص عنه، ولا يمكن نكرانه، إذ هو واقع يدركه كل من له معرفة بطبيعة أي أدب من آداب العالم وتاريخه، وكما أن الفرد منا أو الشعب من الشعوب لا يمكنه العيش وحده في هذه الدنيا، ولا القيام وحده بحاجاته بل لا بد له من التعاون مع غيره من الشعوب والأفراد؛ فكذلك الحال في ميدان الآداب، إذ لا يوجد أدب يستطيع أن يحيى وحده دون الأخذ من الآداب الأخرى وإعطائها، وإلا ركدت الحياة الأدبية وأسنت وفسدت، وانحط مستواها فنيًّا ومضمونيًّا على السواء. وهذه سنة الحياة؛ فالحياة تقوم على الصراع من جانب، وعلى التعاون من جانب آخر، وعملية التأثر والتأثير قد تكون هي ذاتها لونًا من ألوان الصراع، أو لونًا من ألوان التعاون، أو مزيجًا من اللونين جميعًا بدرجات متفاوتة؛ حسب ظروف كل أدب، وحسب ظروف المرحلة التاريخية التي تتم فيها تلك العملية. والشعوب والأمم التي على ظهر البسيطة، تنتمي كلها إلى جنس واحد هو الجنس البشري رغم اختلافها في أشياء كثيرة، ورغم أن الغلبة في معظم الأحيان تكون لتلك الأشياء الفارقة، على حساب ما هو مشترك بينها كما قلنا في موضع آخر من هذه الدراسات.

ومن ثم كان لا بد من الأخذ والعطاء بينها في الأدب كما في الاقتصاد والسياسة والعلم، وغير ذلك، فاليد الواحدة لا تصفق كما يقولون. ولسوف يكتشف الدارس المقارن كيف أن كثيرًا من الآداب الكبيرة العالمية، التي لا يظن للحظة أنها مدينة في شيء لآداب الأمم الصغيرة، التي لا تتمتع بالشهرة العالمية، بل قد يظن كثيرٌ من الدارسين أنها ليست آدابًا ذات قيمة، أنّها على العكس من ذلك، قد أفادت من تلك الآداب قليلًا أو كثيرًا، دونَ أن يتنبه بذلك أحد من قبل؛ لحرص رجالها على أن لا يعرف الناس شيئًا عن هذا الأخذ الذي يرون أنه يحط من قدرهم. ومن الناحية الأخرى يجد الدارس المقارن متعة عقلية ونفسية لا تقدر بثمن، حين يعمل على تتبع العلاقات بين الآداب المختلفة، ومظاهر التأثر والتأثير بينها، والسبل التي تسلكها هذه العملية. وتتنوع عوامل التأثير والتأثر بين الآداب؛ فقد يكون غزو شعب لبلد شعب آخر أو احتلاله إياه سببًا من أسباب تأثير أدب الفاتحين في أدب المغلوبين، ومثالًا على هذا نشير إلى تأثير الأدب العربي في آداب البلاد التي فتحها المسلمون عند ظهور الإسلام، وكذلك تأثير الأدب الإنجليزي والفرنسي في البلاد المختلفة، التي احتلتها بريطانيا وفرنسا أيام المد الاستعماري. وقد تكون الرحلات والبعثات الدراسية سببًا آخر في التعرف على آداب الأمم الأخرى، والإعجاب والتأثر بها, ولدينا أيضًا الترجمة التي قد تقوم بها الأمم المتأثرة من تلقاء نفسها، أو يخطط لها، ويوجهها ويشرف عليها ويمولها أصحاب الأدب القوي، الذي يراد له أن يكون مؤثرًا.

وهناك كذلك الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية، التي تتحدث عن أدب شعب من الشعوب، مروجة وممجدة له، ومقدمة إياه في صورة براقة تسحر النفوس، وتسبي العقول. وقبل ذلك لا ننسى أنه كثيرًا ما يتم تعرفنا إلى الآداب الأجنبية، وتأثرنا بها، عبر قراءتها في لغتها الأصلية, وقد يكون التأثر عن طريق الندوات والمؤتمرات ومقابلة الأدباء الأجانب. وقد يقع من خلال أدب وسيط تأثر من قبل بأدب أمة ما، ثم أثر بدوره في أدب أمة ثالثة حاملًا إليه أثناء ذلك العناصر التي استقاها من الأدب الأول. ومن أهم هذه العوامل حاليًا الدراسة المنظمة للآداب الأخرى في أقسام اللغات الأجنبية، كما هو الحال في جامعاتنا التي لا تخلو إحداها من أقسام لدراسة اللغة الإنجليزية والفرنسية على الأقل، وآدابهما, وقد ينضاف إلى ذلك الأدب الألماني، والأدب الإيطالي، والأدب الأسباني؛ فضلًا عن آداب الأمم الإسلامية كالأدب الفارسي والأدب الأردي، والأدب التركي. وبالمثل يوجد في بريطانيا، وأمريكا، وكندا، واستراليا، وفرنسا، وسويسرا، وروسيا، وأسبانيا وايطاليا واليابان وإيران، وباكستان، وتركيا والهند والصين، ونيجيريا، وكثير من البلاد الأخرى وبخاصة الإسلامية أقسام لدراسة اللغة العربية وآدابها. وينبغي أن لا نغفل عن الدور الذي قامت به المكتبات العامة ولا تزال، في توفير الكتاب إلى من يريد أن يقرأ، ودون أن يدفع مقابل لذلك إلا في الحالات الشاذة التي لا يقاس عليها.

وقد جد في الفترة الأخيرة عامل آخر فائق الأهمية ألا وهو المشباك "الإنترنت" حيث يتوفر الكتاب والمجلة، والصحيفة بلغات العالم المختلفة، في دقائق معدودات؛ وبدون تكلفة على الإطلاق في معظم الحالات وهكذا. ولكن كيف يتسنى للدارس المقارن معرفة المصادر التي تأثر بها الأديب أو الأدب الذي يدرسه؟ إنها في الواقع مسألة اجتهاد قبل كل شيء، وكلما كان المقارن الأدبي واسع القراءة، عميق الإطلاع، واعيًا بما يقرأ، قوي الذاكرة، كان ذلك أعون له على الوصول إلى تلك المصادر، على أن يكون واضحًا منذ البداية أننا مهما نقبنا وسعينا في هذا السبيل؛ فلن نصل يومًا إلى معرفة كل المصادر التي أثرت في كل أديب أو أدب, إن هذا بكل يقين أمر مستحيل. وغاية ما يمكننا أن نقوله هو أننا كلما أمطنا اللثام عن مصدر من تلك المصادر، كان ذلك مكسبًا عظيمًا، ولسوف تبقى الغالبية العظمى من مصادر التأثير مجهولة رغم ذلك. ومن الممكن مثلًا أن يكتب الأديب عن الكتب التي قرأها أو الأدباء والمفكرين الذين تأثر بهم، بيد أن هذا لا يحدث دائمًا، وإن حدث فربما لا يذكر الأديب إلا بعض من تأثر بهم من أعمال أو أشخاص، ويضرب صفحًا عن الباقي لسبب أو لآخر ليس أقلها النسيان، أو تصوره أنّ الأمر ليس بتلك الأهمية التي يتصورها الآخرون، أو خشية من اتهامه بعدم الأصالة مثلًا. كذلك لا ينبغي أن يؤخذ كلامه في كل الأحوال على محمل التصديق حتمًا, ذلك أن الأديب قد ينسى أو يسهو أو يكذب أو يبالغ، أليس هو بشر يجوز عليه ما يجوز على سواه؟.

ومن هنا كان على الدارس المقارن أن لا يسلم ما يقوله الأديب دون تمحيص أو مراجعة، وإذا كان القانون الذي يقره هو نفسه أن الاعتراف سيد الأدلة، لا يصدق اعتراف المتهم مباشرة؛ بل يعمل بكل ما أوتيه من قوة وخبرة، ومهارة على التحقق من صدق ما أدلى به من اعتراف، وكثيرًا ما يعدل عن الأخذ بتلك الاعترافات، بعد أن يتضح له أنها ملفقة لسبب أو لآخر، كما نعرف جميعًا فما بالنا بالأدب المقارن! إنه لأحرى أن نكون فيه على يقظة وحذر، ومن ثم ينبغي أن يراجع المقارن الأمر بنفسه، كي يتأكد من صحته، أو يتبين له أن فيه ما يبعث على الريبة إن لم يكن التكذيب. كذلك بمكنة الدارس المقارن أن يُدلي بدلوه مباشرة في هذا المجال، وذلك يتوقف على مدى اتساع قراءته، وقوة ذاكرته، وشدة يقظته لما يقرأ إذ قد يتذكر مثلًا بعد قراءته رواية من الروايات أنه اطلع من قبل على رواية أو قصيدة، أو مذكرات شخصية تشبهها؛ لكن عليه في تلك الحالة أيضًا أنْ لا يتعجل الحكم بالتأثير والتأثر، بل لا بد له من بذل جهده في التحقق مما خطر له، وذَلك من خلال إعادة قراءة العملين من جديد، مع تسجيل نقاط التشابه والاختلاف، كُلّما مضى في القراءة واكتشف شيئًا يتعلق بهذا الموضوع. ولكن مهما تكن سعة اطلاع المقارن، ووعيه ويقظته، وقوة ذاكرته؛ فإن مدى هذا الاطلاع وتلك الذاكرة جد محدود, ومن ثم فلا مناص من الاستعانة بما كتبه الآخرون عن الصلة بين العمل الأدبي الذي يكون بصدده، وبين سواه من الأعمال السابقة عليه، مع وجوب الاجتهاد في التحقق من سلامة ما كتبه الآخرون، بذات الطريقة التي يتحقق بها مما يخطر له هو نفسه في هذا الباب.

إنّ الوَضع ليُشبه إلى حد كبير وضع المنهج العلمي التجريبي، حيثُ يبدأ الأمر بفرضية تحتاج إلى تمحيص وتثبت، وبعد التمحيص والتثبت يمكن للعالم أن يعلن صحة الفرضية أو خطأها، أو على الأقل حاجتها إلى مزيد من التحقيق والتدقيق، مع تقديم الحيثيات التي استند إليها في هذا الحكم أو ذاك أو ذلك. على أن يكون معروفًا أن التشابه بين عملين أدبيين مثلًا في بعض السمات أو الشيات، لا يعني على سبيل الحتم أن بينهما تأثرًا وتأثيرًا أو على الأقل أن بينهما تأثرًا وتأثيرًا مباشرًا؛ فكثيرًا ما يقع الحافر على الحافر -كما يقول البلاغيون- دفعًا لتهمة السرقة عن بعض الشعراء، وهو ما يعني أن التشابه قد يكون ثمرة من ثمرات المصادفة، أو راجعًا إلى اتفاق الجو الأدبي العام في الأدبين الذين ينتمي إليهما العملان، أو يكون سببه تأثر أحدهما أو كليهما بمصدر ثالث، تصادف أن قراءه صاحب العملين جميعًا؛ فكان هذا التشابه الذي لا يعني في هذه الحالة أنه كانت هناك صلة مباشرة، أو تأثر وتأثير بينهما. ثم إن صور التأثر متعددة ومتنوعة، فقد يكون محصورًا في بعض الألفاظ أو العبارات أو التراكيب أو الصور البيانية؛ فيكون مجال التأثر والتأثير أسلوبيًّا, وقد يكون هناك تأثر من ناحية الجنس الأدبي أو الاتجاه المذهبي، أو مضمون العمل أو موضوعه أو العاطفة السائدة أو الوزن الشعري أو بناء القصيدة أو المقال أو الرواية ... إلخ. وقد يكون التأثر من ناحيتين أو أكثر من هذه النواحي. وبالمناسبة؛ فكثيرا ما يكون التأثر سلبيًّا بمعنى أن الأديب المتأثر قد يفهمه نظيره المؤثر فهمًا خاطئًا، أو يكون تأثره به عكسيًّا كأن يكون في الطرف الأول تشاؤم شديد، وتكون شخصية الثاني شخصية ناجحة مرحة مقبلة على الحياة، فيكون رد فعله هو الرغبة في إثبات أن في الدنيا موجبات كثيرة للابتهاج والسعادة مثلًا.

بعض الشواهد على عملية التأثير والتأثر في بعض مجالات الأدب المقارن.

كذلك مادمنا في موضوع التأثر والتأثير؛ فعلى الدارس المقارن أن يجتهد في تتبع المسار الذي اتخذه العمل، أو الأدب أو الأديب المؤثر حتى استطاع أن يؤثر في الطرف الآخر, وليس معنى هذا أننا إذا لم نستطع تتبع هذا المسار لم يبق إلا أن نجزم بأنه لم تكن هناك صلة تاريخية بين الطرفين، ومن ثَمّ نقول: إنه ليس ثمة تأثير وتأثر ذلك أن عدم استطاعة الباحث إثبات الصلة المذكورة شيء، والجزم بنفي وقوعها شيء آخر؛ فما أكثر ما تقع الجرائم وتحوم الظنون والشبهات حول أحد الأشخاص إلا أن البحث والتحري ليمكناننا من إثبات التهمة عليه؛ فلا يملك له القانون حينئذ شيئًا رغم أنه قد يكون هو فعلا مرتكب الجريمة. بعض الشواهد على عملية التأثير والتأثر في بعض مجالات الأدب المقارن والآن إلى بعض الشواهد على عملية التأثير والتأثر في بعض مجالات الأدب المقارن على اختلافها؛ فمثلًا هناك موضوعات تقليدية غاب أصلها الأدبي في غياهب الزمن؛ فلم نعد نعلم عن انتقالها من بلد إلى بلد شيئًا ذا بال، مثل (أسطورة خاتم سليمان) و (أسطورة طاقية الإخفاء) و (أسطورة الشحاذة الطيبة الجميلة التي تتزوج ملكًا) فكل واحدة من هذه الأساطير كانت موضوعة لكاتب أو أكثر من كاتب في الأدب العالمي، خلع عليها من فنه الكثير؛ فحملت خصائص إبداعه، وللموضوع مواقف عامة، ومواقف خاصة، تقوم على التفصيلات التي يبتدعها كل كاتب من عنده، وتعد تجديدًا للموضوع الذي يتناوله. ويمكن أن تقوم المُقارنة الأدبية بين عدة كتاب تناولوا هذا الموقف أو ذاك، ومن الممكن أن يكون أحدهم قد أثر في الآخر بطريقة أو بأخرى، وذلك أمر مشروع لا ضرر فيه.

وفي وسع أمثال هذه الدراسات المقارنة إذا تناولت مثلًا موضوع الغيرة أو الانتقام أو التضحية في سبيل الواجب، أن تلقي ضوءًا قويًّا كاشفًا على عبقرية مختلف الكتاب وفنهم، كما تلقي نفس الضوء على تطور العواطف في جمهورها، وبالمثل فإن بعض الدراسات المقارنة في الأدب تتناول الصور المختلفة لمعالجة الأدباء لشيء من الأشياء، أو عادة من العادات، أو سلوك من السلوكيات، أو معتقد من المعتقدات أو قيمة من القيم، أو عرف من الأعراف خلال العصور المختلفة في مختلف الآداب مثل: الانتقام أو الأخذ بالثأر أو لعبة الشطرنج أو عادة التدخين أو تعاطي المخدرات، أو غير ذلك من النواحي الايجابية أو السلبية. مثال ذلك مسرحية "فاوست" للشاعر الألماني "جوته" التي تتناول قضية عامة هي التردد بين العقل والقلب, ففي أول المسرحية نرى "فاوست" شقيًّا كل الشقاء بعقله ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل ويأخذ في نشدان السعادة، عندما يبدأ في التفكير في التقدم والمستقبل، ويظل على هذا طوال الجزء الأول من المسرحية، وينتهي هذا الجزء بنجاة "مارجريت" منه ومن روح الشر المسيطرة عليه، وتفضل البقاء في السجن والبعد عن حبيبها. وفي الجزء الثاني من المسرحية يظل "فاوست" منغمسًا في تجارب الحياة المادية إلى أن يتعرف على "هيلين" رمز الجمال الخالص، فيهتدي عن طريقها إلى الخير والعفة والفضيلة. وهذه القصة نفسها هي التي تمثل محور الموقف العام في مسرحية توفيق الحكيم (شهر زاد) فقضية العقل والقلب ذات أثر واضح فيها، بما يوضح ويبين لنا التأثر الأدبي من جانب الحكيم بالشاعر الألماني "جوته" ومسرحية "أوديب الملك" الذي كتبها الشاعر اليوناني "سوفوكليس" الذي عاش في الفترة ما بين أربع مائة وستة

وتسعين، وأربع مائة وستة قبل الميلاد، والتي التي تدور حول سلطان القادر الساحر الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات. ومادة موضوع "أوديب" أسطورة يونانية شهيرة، ولقد تأثر بها توفيق الحكيم في مسرحيته التي نشرها سنة تسع وأربعين وتسع مائة وألف، بعنوان "الملك أوديب" وإذا كان "أوديب / سوفوكليس" يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن "أوديب / توفيق الحكيم" يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع. ومن المعروف أن لعلي أحمد باكثير، مسرحية عنوانها "أوديب" قال: إنّ هدفه من كتابتها محاولة تشخيص مشكلة سياسية وطنية، هي مشكلة فلسطين, وهدف "باكثير" مِن هذه المسرحية هدف ديني بحت، فهو يهاجم البدع التي أخذت تشيع، وتنتشر في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على رعايتها والترويج لها طبقة من المتاجرين، الذين يجمعون الأموال من السذج باسم الدين، أو باسم الدفاع عنه. وهناك كذلك النماذج الأدبية الإنسانية، ومنها نماذج الشعوب أو السلالات البشرية كالفرنسي والإنجليزي والمصري والمغربي، ونماذج المهن الوظائف كذلك يمكن أن ندرس جوانب التأثر والتأثير بين الكتاب، الذين تناولوا شخصية "البغي" حيث اختلفت صورته باختلاف الكتاب، فبعضهم عدها امرأة فاضلة، بل قدمها في صورة ملاك يساعد، ويعطي دون أي مقابل؛ مما لا يفعله كثير ممن يتشدقون بالأخلاق الفاضلة. ولعل خير مثال على ذلك مسرحية "غادة الكاميليا" للكاتب الفرنسي "ألكسندر دوماس" التي عربها المنفلوطي بعنوان "الضحية" وضمنها كتابه (العبرات) وشخصية "نور" في "اللص والكلاب" وشخصية "لولا" في "السمان والخريف"

لنجيب محفوظ, كذلك صور بعض الكتاب البغية في صورة ضحية مغلوبة على أمرها؛ فلا ذنب لها في نظرهم في سقوطها، بل المسئول عن ذلك المجتمع الذي قد يكون قد دفعها للرذيلة أو الهاوية دفعًا, وبعض ثالث عدها آفة اجتماعية لا سبيل إلى إصلاحها، بل هي خطر داهم على المجتمع الذي تعيش فيه. وكان لمسرحية "غادة الكاميليا" أثر كبير على الكتاب العرب الذين تناولوا شخصية "البغي الفاضلة" ومنهم نجيب حداد الذي قلد الرواية الفرنسية شكلًا وموضوعًا، وخاصة في "إيفون مونار" أو "حواء الجديدة" التي تدور حول فكرة رد اعتبار العاهرة، وليس نجيب حداد بالغريب على الرواية الفرنسية، فقد قراها وترجم بعضا منها، وبذلك يعد أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث. وفي مجال القصص يشير عبد الواحد عرجوني في مقال له بعنوان: "من مظاهر تأثير الثقافة العربية الإسلامية في آداب الشعوب: مباحث في الأدب المقارن" منشور في موقع الورشة الثقافية إلى قصة "البلبل والوردة" التي تتردد في آداب عدد من الأمم والشعوب المختلفة، كالأدب الفارسي والهندي والآداب الأوربية متسائلًا: ما الذي يجمع بين هذه الآداب جميعًا؟ هل يعود الأمر إلى ما يسميه "فان تيجيم" موضة أدبية عالمية؟ وبالنسبة لنص "أوسكار وايد" "البلبل والوردة" ترى هل هناك مصدر شرقي له؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مشتركًا إنسانيًّا عامًّا أوحت به العاطفة الشعرية تجاه الطبيعة؟!. وقد تناول القصة ذاتها كاتب غربي آخر هو "جيون ديو ري" ليتمها كاتب ثالث هو "جان دي مين" في رواية بعنوان "الوردة" كما قام بنظمها في سبع مائة واثنين وعشرين ألف بيت من الوزن الثماني، بقافية تجمع كل بيتين منها الشاعران

"جيون ديو ريس" الذي نظم القسم الأول، وهو أربعة ألاف ومائتان وستون بيتًا في النصف الأول من القرن الثالث عشر، و"جان دي مون" الذي أتمها بعد مرور خمسين عاما حوالي سنة سبعين ومائتين وألف للميلاد فضلًا عن حضورها في إبداعات أخرى كقصيدتي: "بوشكين" "آه يا فتاة يا وردة أنني في الأغلال" و"البلبل والوردة" وقصيدة ثالثة لـ"جوته". وإذا كان هذان الأخيران لا ينفيان تأثير الأدب الشرقي في إبداعهما، فإن "وايلد" لا يورد أي أشارة صريحة في هذا المجال، وخلاصة القصة لديه أن تلميذًا أراد أن يقدم وردة لحبيبته كي ترقص معه في حفلة الأمير، فلم يجد في حديقته وردة حمراء؛ فسمعه العندليب الذي أدرك سر حزن العاشق الشاب، وطار باحثًا إلى أن وجد شجرة وردها أحمر اشترطت عليه أن يضحي بحياته من أجل الحصول على ما يريد، وذلك بأن يغني طوال الليل، وهو يضغط بصدره على شوكة من أشواكها، ثم يظل يضغط إلى أن يسقيها بدمه، إذ ماذا يساوي قلب العندليب إزاء قلب الإنسان. وقد ضحى العصفور بحياته مقابل حصول الشاب على وردة حمراء يقدمها لحبيبته، إلا أن الفتاه لم تولِ الشاب حين قدم لها الوردة أي اهتمام؛ لأنّ حفيد الملك أرسل لها مجوهرات نفيسة، فعند ذلك رمى التلميذ بالوردة إلى الشارع؛ لتدوسها عربة خيل كانت مارة من هناك وقرر الانصراف إلى دراسته. ويبدو من القصة أن "وايلد" وظفها من أجل تأكيد مذهبه الفن للفن؛ فموت البلبل كان تضحية لإرضاء الشاب، وهذا الشاب الذي كان مزجًا على العشب، يذرف الدموع؛ لأنّ حبيبته لن ترقص معه إن لم يقدم لها وردة حمراء، كان من المنتظر أن يأخذ هذه التضحية بعين الاعتبار، لكن الذي حدث كان نوعًا من اللامبالاة.

أما في التراث الإسلامي؛ فقد وظفت القصة توظيفًا رمزيًّا راقيًا؛ خاصة عند المتصوفة، ويُشير الأستاذ "إيه دي ديريجوري" إلى أن البلبل والوردة من أهم العناصر الشعرية الصوفية, إذ وقع البلبل الأخرس في حب وردة زرقاء، ولما اقترب منها حيته فلم يرد التحية، وهو ما أغضبها غضبا شديدًا، دعاها إلى عدم الكلام إليه؛ فأحزنه منها هذا السلوك ودعا الخالق أن يمنحه صوتًا يعبر به عن ما يجيش في قلبه، فاستجاب الله له ووهبه أجمل صوت في الكون. وعند ذاك عاد إلى الوردة، وغنى لها تعبيرًا عن حبه الكبير؛ لكن هذه الأخيرة لم تعره سمعًا؛ فانسحب كسير القلب، وهنا شعرت الوردة بالندم، ومن ثم حين عاد في الصباح رأى الدموع على أوراقها، فأسرع لمعانقتها لكن أشواكها طعنته طعنة أماتته، وأسالت دمه فوق أوراقها التي أضحت بسبب ذلك أوراقًا حمرًا. هذه هي الأسطورة التي أترعت خيال كثير من الشعراء الفرس والأتراك والعرب والهنود، فأبدعوا لنا منها أشعارًا خالدة تتغنى بمعاني الحب والجمال والموت، متمثلة في البلبل والوردة. وممن كتب من الشعراء العرب عن البلبل والوردة أيضًا: الشاعر العراقي المعروف بالرصافي والشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ... إلخ. أما بالنسبة للأجناس الأدبية: فلاشك إننا في العصر الحديث قد أخذنا الفن المسرحي من الغرب، رغم أنه كانت لدينا بعض الأشكال التمثيلية البدائية، أرقاها "خيال الظل" الذي كان مع ذلك فنًّا شعبيًّا, وقد تعرف المصريون إلى المسرح أثناء الحملة الفرنسية، حين كان الغزاة الفرنسيون يمثلون بعض المسرحيات لأنفسهم، ثم لما ازداد اتصالنا بأوربا بعد ذلك في عهد "محمد علي" وأولاده نقل بعض الشوام المتمصرين هذا الفن إلى بلادنا وكان في أوله مجرد تقليد ضعيف لما كانوا يشاهدونه في أوربا.

ثم سرعان ما استحصدت الإبداعات المسرحية تمثيلًا وتأليفًا, وبالمثل فإن فن الملحمة لم يكن معروفًا للعرب القدماء، ولم يدخل شعرنا إلا في عصرنا هذا، رَغم أن هناك مقارنة أدبية قام بها ابن الأثير اتهم فيها شعرنا العربي بالتقصير عما هو معروف في الشعر الفارسي، غب استقلاله عن أدب العرب عن وجود ما يسمى الآن الملاحم. إذ أشار في كتابه (المثل السائر) إلى "الشهنامة" التي نظمها "الفردوسي" في ستين ألف بيت، وهو ما لا وجود له في شعرنا القديم. وقد ظن صلاح الدين الصفدي أنّ الأمر مجرد طول في القصائد؛ فذكر في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) بعض أمثلة من الشعر العربي ذي النفس الطويل، دون أن يتنبه إلا أنه بصدد فن أدبي خاص، وليس مجرد قصائد طويلة. ومن الأعمال الملحمية أو شبه الملحمية التي نظمها شعراؤنا في عصرنا الحالي، مع وجوب التنبه إلى ما حدث في للملاحم القديمة عبر التاريخ الطويل من تطور "ترجمة شيطان" للعقاد، و"عبقر" لشفيق المعلوف و"على بساط الريح" لفوزي المعلوف، و"على طريق إرم" لنسيم عريضة، و"الإلياذة الإسلامية" لأحمد محرم و"العلوية" لعبد المحسن الأنطاكي، و"الغدير" لبولس سلامة و"عين جالوت" لكامل أمين. ويضيف بعض الباحثين إلى هذين الفنين فنين آخرين هما: المقال، وقصيدة النثر, وقد أوردت في كتابي (فنون الأدب في لغة العرب) نصوص كثيرة من تراثنا ينطبق عليها مواصفات الجنس الأول تمامًا رغم أن أسلافنا لم يكونوا يسمونها مقالات، بل يطلقون عليها رسائل أو فصولًا، ورغم أنهم لم يكونوا يعرفوا شيئًا اسمه الصحافة، وبالمثل لم يكن نقادنا القدماء يستخدمون مصطلح قصيدة النثر، رغم وجود كثير من النصوص التي تدخل بكل قوة تحت هذا البند، دون أن يتنبه

مبدعوها أنهم يمارسون فنا مستقلًّا، بل دون أن يدور في خلدهم أن مصطلح القصيدة يمكن أن يطلق على شيء من النثر. وما يقال عن المقال وقصيدة النثر، يصح قوله بالنسبة للمذاهب الأدبية من رومانسية وواقعية وبرناسية وطبيعية، إذ ما أكثر النماذج الشعرية والنثرية التي تدخل بكل سهولة تحت لواء كل هذه المذاهب، دون أن يعني قدماؤنا أنفسهم بتصنيفها، وتخصيص مصطلحات معينة لها، إذ كان يفعلون ذلك بعفوية، وكأنهم يمارسون أمرًا فطريًّا. ولقد أخذنا في العصر الحديث هذه التسميات وفلسفاتها وتنظيراتها، من الأدب والنقد الغربيين، واجتهدنا في تطبيق ذلك على إبداعنا الأدبي في القرن العشرين، والقرن الحادي والعشريين تقليدًا منا لما قراناه في آداب الغرب ونصوصه القديمة. وتبقى العبارات التي نقلناها نقلًا من عن اللغات والآداب الغربية، ولم تكن تعرفها لغتنا وآدابنا من قبل ومنها قولنا: "أعطاه الضوء الأخضر" و"سلمه صكا على بياض" و"سقط بين كرسيين" التي أدخلها فيما أذكر الدكتور "طه حسين" أي: "لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن", و"يفعل كذا في الساعة الرابعة عشر" أي بعد فوات الأوان, و"أحس بالألم يتغلغل حتى النخاع" أي بلغ ألمه أقصى مداه. علاوة على الإكثار من الصور البيانية التي تتراسل فيها الحواس أو تشبهها مثل: "السكون المشمس" و"اللون الصارخ" و"الرائحة النفاذة" و"الشعارات الزاعقة" و"الابتسامة الصفراء" و"الكلام اللزج" و"ضوء القمر الهامس" و"الشفق الباكي" و"الصفصافة الحزينة" و"الحزن العذب" و"قلب من ذهب" وما إلى هذا. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 3 الأجناس الأدبية القديمة والحديثة والتفاعل فيما بينها.

الدرس: 3 الأجناس الأدبية القديمة والحديثة والتفاعل فيما بينها.

تعريف الملحمة، وأهم أنواعها، وسماتها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الأجناس الأدبية القديمة والحديثة والتفاعل فيما بينها) تعريف الملحمة، وأهم أنواعها، وسماتها الأجناس الأدبية القديمة والحديثة والتفاعل فيما بينها في المادة المخصصة لـ" Epic poetry " - أي: الشعر الملحمي- في موسوعة "الويك ي بيديا" يُعر ّ ف كاتبها الملحمة بأنها: "قصيدة قصصية شديدة الطول، تدور عادة حول أعمالٍ بطولية، ووقائع ذات دلالة لأمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات". ويفرق الكاتب بين نوعين من الملاحم: النوع القديم، كملحمة "جلجامش الصومالية" وملحمة "الإلياذة" لـ"هوميروس الإغريقي" والنوع الأحدث أو الثانوي مثل: "الإلياذة" لـ"فيرجين الروماني" و"الفردوس المفقود" لـ"جون ميلتون الإنجليزي" وهذا الأخير هو من إبداع كتاب كبار معروفين استعملوا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على منوال تلك الملاحم القديمة، التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة، وإن كان قد تم تسجيلها كتابة بعد ذلك، ووصلت من ثم على هذا النحو إلينا. ويَمضي كاتب المادة مسجلًا، الخصائص التي تميز الملحمة عن غيرها، من الإبداعات الأدبية قائلًا: "إنه لا بد أن يكون بطل الملحمة شخصًا جليلًا ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه، أو في العالم أجمع، ويَحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية، كذلك ينبغي أن يكون ميدان الأحداث شديد الاتساع، بحيث يشمل كثيرًا من الأمم والبلاد المختلفة، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة؛ حتى لتكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلًا عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين

فيها، مع حرص المؤلف على فخامة الأسلوب والموضوعية في رواية الوقائع، ورسم الشخصيات بكل سبيل. وعلى وجه العموم؛ نرى البطل يقوم برحلة يلقى فيها خصومًا يحاولون إنزال الهزيمة به؛ ليعود في نهاية المطاف إلى بلاده وقد تغير، فلم يعد كما كان وهو في كل ذلك يعْكِسُ الملامح القومية والخلقية، التي تميز أمته، ويأتي من الأعمال ما يمثل أهمية قصوى لتلك الأمة". وقد قام كاتب "الويكيبيديا" في نهاية المادة بتزويدنا بقائمة لأهم الملاحم المعروفة في العالم كله، مرتبة ترتيبًا تاريخيًّا بدءًا من القرن العشرين قبل الميلاد حتى عصرنا هذا، وتتوالى في تلك القائمة عشرات بعد عشرات بعد عشرات من أسماء الملاحم، بعضها لا يزال موجودا حتى الآن، وبعضها مفقود، فعدد الملاحم إذًا أضخم كثيرًا جدًّا مما يُظَنّ عادة، وبخاصة إذا عرفنا أن هذه القائمة لا تَضُمّ كل الملاحم المعروفة، فضْلًا عن أن هناك ملاحم لا تزال مجهولة حتى الآن. ولعل ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية يوم الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة ألفين وأربع تحت عنوان "اكتمال أقدم ملحمة صينية" يعطينا لمحة في هذا الصدد، إذ جاء في الخبر أن الصين أعلنت عن اكتمال أطول ملحمة شعرية على مستوى العالم، وهي الملحمة المعروفة باسم: "ملك قصار" التي لا أذكر أن أحدًا أورد اسمها مجرد إيراد بين ملاحم العالم، وذلك إثر العثور على الجزء الناقص منها، ويستغرق ألف كلمة منقوشة على الأحجار والتماثيل الكائنة بمعبد "السمكة الذهبية" جنوب الصين. وقد وصفت الملحمة بأنها أطول ملحمة شعبية عرفها العالم، إذ تقع في ست وثلاثين مجلدًا، وتضم قرابة مليوني بيت من الشعر، كما وصفت أيضًا بأنها

تضاهي في قيمتها الأدبية أشهر الملاحم الغربية؛ حتى ليطلق عليها "الإلياذة الشرقية". وهذه الملحمة -كما جاء في الخبر- تُدَرّس في عشرات المعاهد والكليات في أرجاء العالم, وبالمُناسبة فقد ذكرت صحيفة "الشعب الصينية" على الإنترنت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة ألفين وثلاث، أن صبيًّا صينيًّا عمره ثلاث عشرة سنة يحفظ هذه الملحمة عن ظهر قلب، وأنّ عملية الحفظ قد تمت على نحو خارق، إذ كان الصبي نائمًا ذات ليلة، ثُمّ استيقظ فوجد نفسه يحفظ تلك الملحمة، التي تشتمل على عشرة ملايين كلمة، دون أن يبذل في حفظها أي جهد، بل دون أن تكون عنده النية أصلًا في هذا الحفظ. وفي موقع "مجلة الصين" المصورة على "الإنترنت" وتحت عنوان: "نظرة تاريخية للشعب والأرض" نقرأ أنه في عام تسعة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد أسست الصين معهدًا أكاديميًّا لحفظ تلك الملحمة، وأنه يوجد حاليًا في أرجاء الصين أكثر من مائة من رواة الشعر ينشدون الملحمة المذكورة بعضهم يبلغ من العمر تسعين عامًا. والسؤال الآن: هل في أدبنا العربي ملاحم كتلك التي يعرفها الكثير من الآداب الأخرى؟ فأما في الأدب الفصيح القديم؛ فلا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه: إنه ملحمة بالمعنى الذي شرحناه هنا, ولقد أشاد "ابن الأثير" من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) بما يوجد في آداب الفرس من القصائد الطويلة، التي تبلغ الواحدة منها عدة آلاف من الأبيات كـ"الشهنامة" وما إليها؛ فكان رد صلاح الدين الصفدي من أهل القرن الثامن الهجري في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) هو التذكير بما في أدبنا من منظومات وقصص طويلة أشار إلى بعضها كما سوف نرى بعد قليل.

ومن الواضح أنه ظَنّ المسألة في الطول وحده، وإلا فإن الأمثلة التي ضربها على ما في بعضها، من إبداع أدبي جميل، ورائع ليست من سبيل الملحمة، ولا الملحمة من سبيلها, وكان ابن الأثير في كتابه المذكور يوازن بين فني النثر والشعر، ويرصد الفروق بينهما إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير، فقال: "إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطول الشاعر قصائده، ويُشقق المعاني ويستوفي الكلام فيها، مما هو أليق بالنثر". ثم انطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة قائلًا: "إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت، أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك؛ فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يُجِيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة، تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله. وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه، وسمعناه، وقلناه. وعلى هذا؛ فاني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها؛ فإنّ شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بـ (شهنامة) وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها، وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر".

فكان من جراء ذلك أن ألف صلاح الدين الصفدي كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) للرد على بعض ما جاء في كتاب ابن الأثير السابق الذكر، كما هو واضح من عنوانه. وهذا الرد يجري على النحو التالي: "قد ختم ابن الأثير -رحمه الله تعالى- كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى، ولا سهل بن هارون، ولا ابن غرثية في رسالته مثل هذا. وقد وُجِد في أهل اللسان العربي من نظم الكثير أيضًا، وإنْ عد هو "الفردوسي" عددت له مثل ذلك جماعة منهم من نظم (تاريخ المسعود) نظمًا في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة) في عشرة آلاف بيت، ونظمها "أبان اللاحقي" أيضًا، وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ "شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي" أن "مكي بن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي" الذي كان يعرف بـ"ابن الدجاجية" نظم كتاب (المهذب) قصيدة على روي الراء، سماها "البديعة في أحكام الشريعة" انتهى. قلت -هذا كلام الصفدي-: و (المهذب) في أربع مجلدات، وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت, ولابن الهبارية كتاب (الصادح والباغن) في ألفي بيت كل بيت منها قصر مشيد، ونكته عليها من الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة، ليس فيها لو ولا ليت. وأما من نظم الألف وما دونه؛ فكثير جدًّا لا يبلغهم الحصر. وأما (الشاطبية) وما اشتملت عليه معرفة القراءات السبع واختلافاتها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، وأما أراجيز النحو والعروض، والفقه كالذي نظم (الوجيز)

ومنظومة (الحنفية) وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم، فكثير جدًّا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف". إذًا؛ ففي أدبنا الفصيح القديم لا وجود لهذا الفن الشعري، ولكنا لدينا مع هذا ما يسمى بالسير الشعبية كـ"سيرة عنترة" و"سيرة سيف ابن ذي يزن" و"السيرة الهلالية" و"سيرة ذات الهمة" و"سيرة حمزة البهلوان" و"سيرة فيروز شاه" و"سيرة علي الزيبق" و"سيرة أحمد الدنف" وهي تقترب جدًّا من فن المَلحمة؛ فهي قصص، وهي شديدة الطول حتى لا تتجاوز سيرة عنترة مثلًا ثلاثة آلاف صفحة وخمسين. إلا أن هذه السير ليست مصوغة كلها شعرًا بل هي عمل نثري في المقام الأول، تكلله الأشعار على ألسنة بعض أبطالها، مع تفاوت في مقدار هذا الشعر بين سيرة وأخرى, ومع هذا؛ لا يَصِحُّ أنْ نُغفل أنها مصبوبة في قالب السجع الذي يقترب خطوة من الشعر، أي أن أسلوب السيرة النثري ليس خاليًا من النغم هو أيضًا، كذلك لا يوجد لها مؤلف معين؛ إذ هي من إبداع المخيلة الشعبية. ولعلنا لم ننسَ أن الملاحم الأولى الموغلة في القدم هي أيضًا عارية عن أسماء مؤلفيها، بل إن من الدارسين من ينفي أن يكون "هوميروس" هو صاحب "الإلياذة" قائلًا: إنها عمل شعبي عام اكتمل على مدار الزمان, ومن هنا كان أسلوب السير الشعبية مختلفًا عن أسلوب الأدب الرسمي، رغم أنها مكتوبة بالفصحى؛ إذ هي فصحى تنفح بالنكهة الشعبية من حيث بساطتها، وعدم احتفالها بالصياغة اللغوية بوجه عام. وفوق ذلك: ففي السير تداخل بين الأماكن والأحداث، والأزمنة التاريخية، كما هو الحال مثلًا في "سيرة عنترة" حيث نرى "عنترة" في اليمن، وفارس، والشام

ومصر، وحيث تستغرق الأحداث ما يقرب من ستة قرون، وكما هو الحال أيضًا في "سيرة الظاهر بيبرس" حيث يشتبك العصر العباسي، والعصر الأيوبي، والعصر المملوكي. ووجه الشبه بين السير الشعبية والملاحم: أنها شديدة الطول، وأن الأبطال فيها يتميزون بالشجاعة الخارقة، كما تختلط الأحداث التاريخية بكثير من الخرافات والأساطير؛ فضلًا عن اتساع رقعة الميدان الذي تتحرك فيه الوقائع والشخصيات، كذلك فللجن والسحر، والمعجزات والكرامات والرؤى، والنبوءات الصادقة وجود في تلك السير، وقد أشار لها "روجر ألن" في كتابه ( an intrudaction to arabic literature) بوصفها ملاحم شعبية. وللدكتور "عبد الحميد يونس" والدكتورة "نبيلة إبراهيم" والأستاذ "فاروق خورشيد" وغيرهم دراسات هامة حول تلك الأعمال. أما في العصر الحديث: فقد ظهرت بعض الأعمال الشعرية العربية التي أطلق عليها ملاحم، رغم أنها لا تتطابق والملاحم القديمة التي نعرفها، إلا أنّ فيها مع ذلك بعض السّمات التي تصلها على نحو ما بها, فهي أعمال قصصية طويلة يقع بعضها في عدة آلاف من الأبيات كملحمة "الغدير" لـ"بولس سمير اللبناني النصراني" الذي لم تمنعه نصرانيته من الإعجاب ببطولة ختن الرسول الكريم -صلوات الله عليه- والعكوف على سيرته، وشخصيته يدرسهما ويستوحيهما؛ حتى أخرج لنا في نهاية الأمر عملًا ملحميًّا يصور بطولاته وإنجازاته الخارقة. على حين يكتفي البعض الأخر بعدة مئات من الأبيات كـ"ترجمة شيطان" التي صور بها العقاد ما حاق بنفسه عقب الحرب العالمية الأولى من شكوك في القدرة

البشرية على مصارعة عوامل الشر والانتصار عليها، ويأس من انتصار الخير في دنيانا هذه، بسبب الأهوال وألوان الدمار، والتقتيل التي أنزلتها تلك الحرب بجنس الإنسان. والأولى تتناول سيرة بطل عربي مسلم، مشهور بالشجاعة غير الاعتيادية، وله إنجازاته الحربية، التي أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وهو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على حين تحكي الثانية قصة الشيطان في تمرده المستمر على رب العباد، وعمله على بث الغواية في كل مكان، رغم معرفته بما ينتظره من عقاب رهيب في نهاية المطاف, فهي إذًا تدور حول قضية فلسفية ودينية خطيرة، هي قضية الخير والشر والصراع بينهما، ووقوع الإنسان بين شقي الرحى. وكما يرى القارئ فإن في هاتين الملحمتين العنصر الخارق. وهناك أيضًا ملحمة "عبقر" لشفيق المعلوف و"محمد" العلي شلق و"الإلياذة الإسلامية" لأحمد محرم الذي جاء عمله أقرب إلى السرد التاريخي منه إلى الملحمة، رَغْمَ أنّ الأسلوب الذي كُتب به ذلك العمل أسلوب شعري، إذ ينقصه الوحدة العضوية التي يتطلبها البناء القصصي. ولا مانع أن تُعدّ تلك الأعمال الحديثة بوجه عام من الملاحم، ولا ريب أن من الصعب استمرار ملامح جنس أدبي ما دون تغيير أو تعديل أو تطور، طوال كل هاتيك القرون الشاسعة, وهناك مقال لـ"ماتيا كافانيا" يتناول بعض الأعمال الأدبية الفرنسية المعاصرة؛ فيعدها من الملاحم رغم أنها لا تتوفر فيها كل العناصر الملحمية, ذلك أن هذه الأعمال قد ساهمت في إحداث ذلك التغيير الذي كان من جرائه أن أصبحت الملاحم تكتب نثرًا، بعد أن كانت على الدوام تصب في قالب الشعر؛ علاوة على غلبة الطابع العاطفي عليها.

وقد كانت ترجمة "سُليمان البستاني" الشعرية لـ"إلياذة هوميروس" إلى لسان العرب ونشره إياها في أول القرن العشرين خير دافع لشعرائنا المحدثين إلى دخول هذا الميدان، الذي كان الشعر العربي يخلو منه قبله, وكان الدكتور "يعقوب صروف" قد شجع "البستاني" على ترجمة الإلياذة أثناء زيارته لمجلة المقتطف بالقاهرة سنة سبع وثمانين وثمانمائة وألف للميلاد. وكان "البستاني" من جانبه مشغوفًا بالشعر القصصي، هائمًا بأساطيره وخرافاته، وكان ينظم المقطوعات الشعرية، فاختمرت الفكرة من يومها في ذهنه، وأخذ يطلع على ترجمة الإلياذة باللغات الإنجليزية والفرنسية، والإيطالية، فضلًا عن قيامه بتعلم اليونانية التي كتب ذلك العمل بها، ثم قام بتعريبها شعرًا مع آلاف الهوامش التي يشرح فيها كل ما يحتاج إلى توضيح، وصدرت الترجمة بالقاهرة سنة أربع وتسعمائة وألف، فأقام له المفكرون والأدباء في مصر حفلة تكريمية بـ"فندق شبر" بذلك العام. ولم يكتف "البستاني" بترجمة "الإلياذة" وشرح ما يحتاج فيها إلى شرح، بل زاد فوضع معجمًا ملحقًا بها، كما كتب مقدمة مطولة عرف فيها بفن الملاحم، وقام ببعض المقارنات بين الشعر العربي، وأشعار الأمم الغربية، وغير ذلك من الموضوعات شديدة الأهمية, وهذه المقدمة هي في واقع الأمر بمثابة كتاب قائم بذاته. وفي النهاية لا ينبغي أن يفوتنا النص رغم ذلك كله على أن ترجمة "البستاني" لـ"ملحمة هوميروس" قد غلب فيها النظم على النفس الشعري. ويجدر بنا في هذا السياق أيضًا أن نبرز الدور الذي نهض به "محب الدين الخطيب" صاحب مجلة "الفتح القاهرية" في حث الشعراء المسلمين على أن يجتهدوا في إبداع

ما سَمّاه "إلياذة إسلامية" إذ بعث للشاعر "أحمد مُحرم" برسالة الخامس من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة. يقول فيها: "سيدي الأستاذ الجليل مفخرة البيان العربي، وشاعر مصر الكبير الأستاذ: أحمد محرم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: فكنت هممت أكثر من مرة أن أكتب إليكم اقترح عليكم مشروعًا، كنا نحاول إقناع شوقي بك -رحمه الله- به، ولكني خشيت أن يصرفكم ذلك عن معاني الجهاد الأخرى، وهذا المشروع هو إرسال نظركم الكريم بين حين وآخر إلى مفاخر التاريخ الإسلامي الخلقية والعمرانية والسياسية والإصلاحية والحربية ... إلخ. ونظم كل مفخرة منها في قطعة خالدة تنقش في أفئدة الشباب؛ فإذا ذخر أدبنا بكثير من هذه القطع، على اختلاف أوزانها وقوافيها، أمكن بعد ذلك ترتيبها بحسب تاريخ الوقائع، وتأليف إلياذة إسلامية من مجموعها. أليس من العار أن يكون للفرس الذين حفل تاريخهم زمن جاهليتهم بالشنائع، ديوان مفاخر يغطي فيه البيان على العيوب؟ -يشير بذلك إلى شهنامة الفردوس- وأن يكون لليونان زمن وثنيتهم وأوهامهم الصبيانية ديوان مفاخر "كالإلياذة" تتغنى بها الإنسانية إلى يوم الناس هذا". وكان هذا الخطاب الذي كتبه "محب الدين خطيب" لأحمد محرم هو الشرارة التي أججت شعلة الحماس في نفس الشاعر؛ فكان أن نظم "الإلياذة الإسلامية" التي عرض فيها خلاصة التاريخ الإسلامي، في قالب شعري قوي التعبير؛ كي يلفت شباب الإسلام إلى مفاخر تاريخهم، ويدفع عنهم الشعور بالضآلة تجاه آداب الأمم الأخرى، وما تشتمل عليه من ملاحم. وكان الخطيب قد ذهب قبل هذا إلى "أحمد شوقي" عارضًا عليه فكرة نظم ملحمة إسلامية، إلّا أنّ "شوقي" صمت ولم يعلن قبوله أو رفضه؛ فقصد عندئذ

المسرحية، ودورها كجنس أدبي.

أحمد محرم، وأعاد عرض الاقتراح فقبله على الفور، وبدأ في نظم "الإلياذة الإسلامية" أو مجد الإسلام، ناشرًا إياها على أجزاء في "مجلة الفتح"؛ ليكون بذلك أول من راد هذا الطريق، وعبده لغيره من الشعراء العرب المحدثين، رغم ما تفتقر إليه إلياذته من الوحدة العضوية القصصية كما أشرنا. ثم فاجأ "شوقي" الناس بعد ظهور إلياذة محرم، بنشر مطولته "دول العرب وعظماء الإسلام" التي يرصد فيها تاريخ الإسلام منذ فجر الدعوة حتى أيامه, فكما نرى كان الشعور بأن أدبنا ينقصه هذا الفن، هو السبب الرئيسي في التحمس في إدخالها عندنا، كي لا يكون أدبنا أقل من الآداب الأخرى. ومِن نَاحية ثانية فإن هذا الأمر دليل على ما يمكن أن يؤدي إلى التفاعل بين الآداب، وتَعَاوُنها فيما بينها، واستعارة بعضها من بعض من نتائج طيبة. المسرحية، ودورها كجنس أدبي وهذا الكلام يصدق أيضًا على جهود رواد المسرح العربي في أن يدخلوا عندنا هذا الجنس الأدبي، الذي يقوم بوجه عام على الصراع؛ الصراع بين دولتين أو طبقتين أو فكرتين أو أسرتين أو شخصين، أو بين العقل والعاطفة، أو بين عاطفتين كالرغبة في عمل شيء ما، والخوف من الفضيحة الاجتماعية أو من العقاب الإلهي. وفي المسرح اليوناني الوثني قد يكون الصراع بين الآلهة والبشر, ومن ناحية أخرى قد يكون الصراع خارجيًّا، كما في حالة الصراع بين شخص وآخر، أو بين دولة وأخرى، وقد يكون داخليًّا، وهو ما يحدث عندما يكون الصراع في داخل الشخص نفسه بين عقله وعاطفته مثلًا.

كذلك يمكن النظر إلى الصراع من زاوية أخرى؛ فثم صراع اجتماعي، وصراع سياسي، وصراع ديني، وصراع عسكري، وصراع نفسي، وصراع فكري, ومن ناحية رابعة قد يكون هذا الصراع مستمدًّا من التاريخ، وقد يكون مستمدًّا من الأساطير، وقد يكون مستمدًّا من واقع العصر الذي كتبت فيه المسرحية وهكذا. وهذا الصِّراع يتم دائمًا من خلال الحوار، إذ المسرحية هي الفن الوحيد الذي يكتب كله حوارًا؛ فلا سرد ولا وصف، ولا تحليل، بل حوار وحوار فقط، مع بعض التعليمات التي يُسَجّلها المؤلف في أول بعض المشاهد، كي يراعي المخرج عند تحويل المسرحية من كتاب يقرأ إلى تمثيل يشاهد. ولا يُمكن حصر الغاية من التأليف المسرحي في شيء واحد، بل هنالك أهداف متعددة منها: التسلية والمتعة، ومنها الإثارة وإبعاد الملل، ومنها تمجيد بعض القيم الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية، أو حتى اللا أخلاقية, ومنها كذلك إفشاء المعرفة. فكاتب المسرحية أراد أم لم يرد يطلع قراءه ومشاهديه على تجارب مطالعات وأفكار وتحليلات، كثيرًا ما لا يدرون عنها شيئًا أو لا يدرون عنها شيئًا ذا بال، أو يدرون لكنه يعرضه عليهم من زاوية جديدة لا عهد لهم بها، أو على نحو أعمق، أو بطريقة أبهر أو أكثر تأثيرًا، وهذا كله علاوة على ترقية الذوق الأدبي والفني بطبيعة الحال. وفي المسرحية شخصيات، وثم مواصفات ينبغي أن تحقق في رسم هذه الشخصيات المسرحية، إذ لا بد من أن تكون كل شخصية من التمايز بحيث تبقى في الذهن بعد انتهاء القارئ أو المشاهد من المسرحية، وهو ما يتحقق برسم معالمها

الخارجية من ملامح وملابس، وطريقة مشي ونطق, وكذلك عناصرها الداخلية من تفكير ومشاعر وانفعالات وأخلاق، وخلفيتها الاجتماعية، مثل كونها أبًا أو أمًّا أو ابنًا أو بنتًا أو عاملًا أو مديرًا أو مدرسًا أو شحاذًا ... إلخ. ولا بد في كل ذلك من الإقناع أي: أن تسير الشخصية طبيعية لا تصنع في رسمها، ولا إكراه لها على التصرف بطريقة لا تتسق معها، وأن تكون حية متطورة لا ساكنة جامدة، لا يعتريها التغير مهما مر عليها من أحداث، واشتبكت فيه من صراعات. ثم عِندنا الحوار، وما أدراك ما الحوار في المسرحية؛ فهو كما وضحنا كل شيء تقريبًا في فن المسرح، فعن طريقه نلم بكل ما يريد المؤلف تعريفنا به، إذ نحن لا نعرف أي شيء عن أي شخص، أو عن أي أمر إلا من خلال الحوار, أي: أن الحوار المسرحي يقوم بوظيفة السرد والوصف والحوار في القصة، فإذا أراد المؤلف أن يتحدث عن شخص ما فليس أمامه إلا أن يسوق لنا ما ينبغي لنا أن نعرفه عنه، على السنة المتحاورين. ونفس الشيء إذا كان هناك حادث وقع وأراد أن يُطلعنا عليه إذ لا سبيل له إلا أن يُنطق بالحديث عنه إحدى الشخصيات، على أن يتم الأمر بتلقائية، أي: بطريقة تستلزمها الأحداث والصراعات التي في المسرحية لا أن يؤتى به مجتلبًا دون أن يكون هناك ما يدعو إليه. ومن خلال الحوار تتضح شخصية المتكلم أول ما تتضح, كذلك ينبغي أن يكون الحوار محكمًا لا ثرثرة فيه، بل ينبغي أن يكون لكل كلمة وكل جملة دور في دفع حركة المسرحية إلى الأمام؛ حتى تبلغ تمامها، أما الفضول فلا مكان له هنا. وعلاوة على هذا لا بد من إتاحة فرصة عادلة لكل الشخصيات للحوار، وإلا أصيب الحوار بالترهل أو الشلل.

وهنا نصل للهجة الحوار في المسرح؛ فهل يا تُرى يَنبغي أن يتحدث المحاورون في المسرحية بالفصحى أو العامية؟ فأمّا المسرحيات التاريخية والفكرية المترجمة والمنظومة شعرًا؛ فهي عادة ما تكون فصحاوية الحِوار, لكن المشكلة والخلاف في المسرحيات العصرية، ففريق يجري في حواره على الأسلوب الفصيح كمسرحية أحمد شوقي "الست هدى" ومسرحيات "باكثير" ومسرحيات "ونوس" ومعظم مسرحيات الحكيم. وقد استعرض الدكتور "ممدوح" في الفصل الذي خصصه للمسرح في كتابه (الأدب وفنونه) حُجَج الفريقين، ويبدو من كلامه أنه يميل نحو استعمال الفصحى؛ بُغية الارتقاء بمستوى الجمهور الثقافي واللغوي، بدلًا من تركه حيث هو بعيدًا عن ذلك الرقي اللغوي والثقافة الرفيعة التي ترتبط به. وهو يَسْتَشهدُ في هذا المجال بما هو موجود في بريطانيا وفرنسا وغيرها من بلاد أوربا التي لا تختلف فيها لغة الكتابة عن لغة الحديث، كل ذلك الاختلاف الحاصل في بلاد العرب. إذ لا يقدم المؤلفون المسرحيون هناك على الكتابة باللهجات العامية، اللهم إلا عند تطعيم بعض المتحاورين من العوام بمصطلح أو تعبير ذي نكهة عامية؛ للإيحاء بالبيئة التي أتوا منها، وبمستواهم الفكري والنفسي، وهو ما يدعو إلى استلهامه في مسرحياتنا التي من هذا النوع، مع الإبقاء على الفصحى وسيلة للحوار بوجه عام. وكانت المسرحيات في بُُداءة أمرها تنظم شعرًا، ثم تحولت مع مرور الزمن فصارت تكتب نثرًا في العصور الحديثة، إلى جانب كتابتها شعرًا، وإن كان الغالب عليها الآن النثر لا الشعر. وتتكون المسرحية من فصول ومشاهد، وكانت قديمًا تشتمل على خمسة فصول لا تزيد ولا تنقص، كما كانت تلتزم بما يسمى بالوحدات الثلاث, أي: أن يكون

لها موضوع واحد، وأن تقع في يوم وليلة لا تزيد عليهما، وأن تدور أحداثها كذلك في مكان واحد؛ فلا تزيد دائرة المكان الذي تجري فيه الوقائع، عن المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها الشخص خلال يوم كامل. إلا أن ذلك كله قد تغير مع القرون، فلم يعد هناك حد أعلى لشيء من هذا، على ما هو معروف في المسرحيات الحديثة؛ إذ لم يعد هناك داع للاستمساك بها، بعد أن تطورت وسائل المواصلات، بحيثُ يستطيع الإنسان أن يتنقل خلال الأربع والعشرين ساعة في مساحة من الأرض، لم تكن تخطر على بال الأقدمين الذين وضعوا هذا القيد على المؤلفين المسرحيين. ولا بد كذلك أن يكون للمسرحية نهاية؛ فلا تبتر بترًا، بل ينبغي أن يشعر القارئ والمشاهد أن الأمور قد وصلت إلى نهايتها الطبيعية، بغض النظر عن أن تكون تلك النهاية مريحة أو مزعجة, سعيدة أو شقية, تتفق مع ما يريده المستقبل للعمل أو لا، وإلا أحس أنه أخذ على غرة، وبقي فضوله قلقًا ومقلقًا له، وهذا أمر جد مزعج. إن المسرحية تقوم على عنصر التشويق، وهو العنصر الذي يدفع مستقبل العمل إلى متابعته، بغية الوصول إلى نهاية شافية مريحة؛ فإذا بتر المؤلف المسرحية بترًا كان هذا بمثابة حرمان الظامئ من كوب الماء الذي أعطيته إياه ليشرب، ثم لم تتركه يطفئ غوار عطشه، بل انتزعته منه قبل أن يفعل. ومن أقدم المسرحيات في الآداب العالمية المسرحيات الإغريقية، التي كان لنشأتها علاقة بعقائد اليونان الوثنية, إذ كان الإغريق يؤمنون بآلهة متعددة كـ"دونيزيوس" إله النماء والخصب، وقد اعتادوا أن يقيموا له حفلين:

أحدهما في أوائل الشتاء بعد جني العنب وعصره خمرًا، حيث يسود المرح وترتل الأناشيد الدينية، وتعقد حلقات الرقص ويصدح الغناء، ومن هذا الدرب المرح نشأة "الملهاة" أي الكوميديا. أما الحفل الثاني: فكان يقام أوائل الربيع، حيث يكون الكرم كان قد جف، واتخذت الطبيعة وجهًا متجهمًا، وهو حفل حزين تطور فيما بعد إلى "المأساة" أي: التراجيديا. وكان التمثيل في أول نشأته يتكون من الرقص، وبعض الأناشيد والأغاني التي تعبر عن حزن الناس لغياب الآلهة، والابتهال له لكي يعود سريعًا, ثم تقمص أحدهم شخصية "دونيزيوس" فكانت الجوقة تشير إليه، وهو في مكان مرتفع ثم أدخل الحوار بينها وبين الجوقة, وكان الممثلون يظهرون وسط المشاهدين في أشكال نصفها العلوي بشري، ونصفها السفلي معزي، ومن هنا اشتق كلمة تراجيدي، إذ هي مركبة من كلمة أغنية وكلمة جدي باليونانية. وأخيرًا وضع "أسخيلوس" في القرن الخامس والسادس قبل الميلاد أول مسرحية شعرية بعنوان "الضارعات" وكان فيها ممثلان رئيسيان إلى جانب الفرقة, ثم ظهر "سوفوكليس" فادخل ممثلًا ثالثًا إلى المسرحية، وقوّى جَانِبَ التمثيل على حساب الغناء، وهو ما أدى إلى تقدم سريع في الحوار المسرحي بدل ترانيم الجوقة, وكان أول من مثل بنفسه هو "تسبس" سنة خمس وثلاثين وخمسمائة قبل الميلاد. وعن اليونان أخذ العالم هذا الفن، وهو يعد "أسخيلوس" و"سوفوكليس" و"يوربيدس" أعظم رواد التراجيديا في اليونان القديمة، في حين يعد "ارستوفانيس" قائد الكوميديا عندهم.

والسؤال الآن هو: هل عرف أدبنا العربي القديم هذا الفن الأدبي؟ والجواب هو أنه لم يعرف فن المَسرح الذي نعرفه الآن، وإن كان قد عرف بعض أشكال أخرى ساذجة، لا تخلو من بعض العناصر التمثيلية كالذي كان يصنعه أحد المتصوفة في عصر المهدي الخليفة العباسي، إذ كان يأتي برجال فيجلسهم أمامه، واحدًا بعد الآخر بوصفهم صحابة رسول الله، ثم يأخذ في تعداد أعمال كل صحابي جالس أمامه، ومآثره لينتهي قائلًا لمن حوله: اذهبوا به إلى أعلى عليين. وفي القرن الثالث الهجري أيام "المعتضد بالله العباسي" كان هناك اسمه "المغازلي" يستطيع تقليد الشخصيات المختلفة "كالإعرابي" و"الزنجي" مع تقديم بعض المشاهد الصادقة من حياتهم وتصرفاتهم, ولدينا أيضًا "خيال ظل" الذي برع فيه "ابن دانيال" في القرن السابع الهجري، وهو لون من الفن التمثيلي، وإن لم يكن الممثلون بشرًا بل أشكال على هيئة الرجال والنساء، مصنوعة من الجلد أو من الورق المقوى، ووراءها نورٌ يُظهر ظِلالها على ستارة تنصب بينها وبين المشاهدين، في الوقت الذي يُحرك تلك العرائس الورقية أو الجلدية رجل ماهر على النحو الذي يتطلبه الدور. وكان هُناك في مصر قبل ابتلائها بالحملة الفرنسية ممثلون مسرحيون فكاهيون، هم الحكاواتيون يؤدون أدوارهم في الأماكن العامة، أو في بيوت الكبراء, كما اكتشف نصان مسرحيان عاميان بعنوان: "سارة وهاجر" و"سعد اليتيم" ما زالا يُقدمان حتى اليوم في قرى الفيوم عند الاحتفالات الشعبية. ولا ننسى تمثيلية خروج "الحسين" من المدينة قاصدًا العراق، ذلك الخروج الذي انتهى بمقتله في كربلاء -رضي الله عنه- إذ كانت الشيعة منذ القرن السابع الهجري تحتفل به، وتمثل ما حدث في تلك الواقعة، وهو ما يطلق عليها التعازي الشيعية, وفيها

يقوم بعض الأشخاص بأدوار "الحُسين" وآله وخصومهم، وكانت تلك المشاهد تمثل كل عام في ذكرى كربلاء. فهذا وأمثاله ما كان موجودًا في تراثنا، وهو الذي عبد الطريق إلى دخول المسرح كما تعرف أوربا عندنا في العصر الحديث. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر هو: ما العوامل المسئولة عن عدم ظهور فن المسرح في أدبنا القديم، كما ظهر عند الإغريق والرومان مثلًا؟ هناك نظريات متعددة في هذا التعليل؛ فبناء على أن المسرح هو فن الصراع، وأن الحرية الإنسانية أساس ذلك الصراع الذي قد يكون صراعًا عموديًّا أي: صراعًا بين الإرادة البشرية، والإرادة الإلهية، أو صراعًا أفقيًّا بين الفرد والمجتمع، أو صراعًا ديناميكيًّا بين العفوية البشرية والقدر، أو صراعًا داخليًّا بين الإنسان ونفسه, ينفي "محمد عزيزة" الباحث التونسي صاحب هذه التقسيمات إمكانية أن يكون هناك صراعًا عموديًّا عند المسلمين، إذ لا يتصور وجود إرادة بشرية إلى جانب الإرادة الإلهية. وبالمثل نراه يزْعُم أنّ المُسلم لا يستطيع أن يواجه مجتمعه، ويدخل في صراعٍ معه، وإلّا عُدّ كافرًا. أما اللونُ الثالث من ألوان الصراع؛ فيستلزم حسبما يقول، أن يكون شعورنا بالتاريخ شعورًا دراميًّا، على حين أن كل شيء لدى المسلم هو أمر حتمي مكتوب، لا سبيل إلى تغييره، وبخاصة أنه يؤمن بأن تلك الحتمية هي حتمية عادلة. أما النوع الرابع فلا بد له -كما يقول "عزيزة"- من شعور الشخص بالفردية، تلك النّزعة التي لا وجود لها عند المسلم في رأيه، وهذا الكلام موجود في كتابه (الإسلام والمسرح) الذي ترجمه عن الفرنسية الدكتور "وفيق الصبان".

والناظر في هذا الكلام يدرك لأول وهلة ما فيه من سذاجة مضحكة، أو استبلاه مدهش، إذ يكفي أن ينظر الإنسان حوله في معظم بلاد المسلمين، وبالذات في البلاد العربية؛ ليرى أن عندنا الآن مسرحًا وكتابًا مسرحيين ومسرحيات من كل نوع، رغم أننا لا نزال بحمد الله مسلمين، كما كان أجدادنا مسلمين, فكيف يفسر "عزيزة" ومن نقل عنه ذلك من المستشرقين، هذا الوضع الذي يكذب كل ما زعمه وادعاه؟. وبالنسبة للنوع الأول: ألا يمكن أن يكون الصراع بين إرادة المشركين وبين دين الله مثلًا؟! أو بين شهوة الإنسان المسلم، وخوفه من عقاب ربه؟ أمّا الصِّراع الثاني؛ صراع الفرد المسلم مع مجتمعه، فهو لم يتوقف يومًا, فقد نشذ الخوارج مثلًا عن ذلك المجتمع ولم يكفرهم أحد، وبافتراض أنه كان هناك تكفير، فهل منعهم ذلك أو منع سواهم من التمرد والخروج؟. وحتى ولو تحرج الكاتب المسرحي المسلم من طرق ذلك الموضوع، ألا يمكنه أن يؤلف مسرحية تقوم على صراع بين شخص مسلم ومجتمعه غير المسلم، كما كان الوضع مثلًا أيام محاكم التفتيت في أسبانيا قبل عدة قرون، عِندما كان المسلمون يسامون سوء العذاب ويقتلون, بل إنه لمن الممكن أيضًا أن يتخذ هذا اللون من الصراع مسارًا معاكسًا؛ إذ كان في المجتمع المسلم على عهد النبي منافقون ويهود، يعملون دائمًا على تقويم ذلك المجتمع، ومن ثم يمكن تأليف مسرحية تدور على الصراع الذي كان بين كل من هاتين الطائفتين من ناحية، والرسول ومعه جماعة مؤمنة من ناحية أخرى. كذلك كيف يقال: إن الضرب الثالث من الصراع لا يتصور وقوعه في مجتمع مسلم، مع أن المسلم مطالب أن يبذل دائمًا أقصى جهده لتغيير المنكر؟ إن هذا

معناه بكل بساطة أن سبب اعتقاد المسلم أن كل شيء حتمي ومقدر سلفًا، ومن ثم لا يجوز دينًا أن يحاول تغييره، هو زعم سفيه، وهذا من الناحية الشرعية، وإلّا فالمُسلم ككل إنسان كثيرًا ما يسخط على وضعه، ويتمرد على الظروف التي خلقت هذا الوضع، ويعمل بكل ما في وسعه على تغييرها إلى الأفضل, وإلا فكيف نفسر كل ما بذله المسلمون على مدار تاريخهم الطويل من جهد لتحسين أحوالهم؟. إنّ القول بغير هذا هو في الواقع خلل في المنطق والتفكير, أما تصوير المسلم على أنه هادئ النفس أبدًا، لا يعرف التناقضات الداخلية ولا الصراع بين مطامحه وقدراته، أو بين عواطفه والشعور بالواجب مثلًا؛ فهو تصوير يدل على سطحية الفهم, ثم إن حصر الصراع في هذه الألوان الأربعة هو تضييق وضيق أفق؛ لأن أنواع الصراع لا تنتهي, فصراع بين الزوج والزوجة، وصراع بين الحماة وكنتها، وصراع بين الطلبة وأستاذهم، وصراع بين حزب سياسي وآخر، وصراع بين دولتين وصراع بين طبقتين، وصراع بين طائفتين، وصراع بين حاكم وشعب، وصراع بين اثنين من مهنة واحدة، وصراع بين الجيران، وصراع بين مذهبين أو فكرتين أو ذوقين ... إلى آخره. بل يمكن أن تقوم مسرحية من دون صراع, فقد يؤلف أحدهما مسرحية تدور على التوتر الذي يصطلي ناره شخص ما في موقف من المواقف. وهناك سبب آخر في نظر "عزيزة" أيضًا وهو: الادعاء بأن اللغة العربية لغة متجمدة لا تلائم متطلبات الدراما؛ فهي حين تُعَبّر عن تجربة ما، إنّما تلجأ إلى القوالب التعبيرية المحفوظة، ولا تهتم بنقل التجربة كما يعيشها صاحبها, وهذا كلام فارغ كله تنطع وتفاهة، فليست هناك لغة يمكن اتهامها بتلك التهمة؛ فضلًا

عن أن تكون تلك اللغة بالذات هي اللغة العربية المشهورة بغناها ومرونتها، وإبداعاتها الغزيرة المتنوعة. لكن قد يكون هناك في بعض العصور الأدبية طائفة من المؤلفين تبرز في كتاباتهم القوالب المحفوظة على حساب غيرها من التعبيرات التلقائية، وهذا شيء آخر غير ما يتحدث عنه "عزيزة" وهو موجود في كل اللغات والآداب في بعض الفترات التاريخية، وعلى أية حال فقد عرفت اللغة العربية في العصر الحديث فن المَسرح؛ فهل تغيرت بحيث أصبحت الآن تتسع للإبداع المسرحي؟ إنها بكل يقين لم يطرأ عليها شيء جذري البتة؛ فماذا يقول المتنطعون السطحيون في هذا؟. وهناك من يقول: إن العقلية العربية نزاعة إلى التجريد لا التفصيل، هذا التفصيل الذي تستلزمه الدراما، وقائل هذا هو الدكتور "عز الدين إسماعيل" ولا أعرف على أي أساس استند في دعواه العجيبة تلك، وكنت أود لو أنه بدلًا من إرسال القول على هذا النحو المتعسف، قد ساق على دعواه تلك ما يلزمه من الأدلة والشواهد، طبقًا لما يقضي منهج العلم، ولكنه لم يفعل, ومن ثم فرأيه بهذا الشكل لا قيمة له، وبخاصة أن العرب قد تركوا وراءهم شعرًا وقصصًا، ورسائل، ورحلات، وتجارب ذاتية وغيرية مملوءة بالتفصيلات الحية، والدقائق الملونة، والصور الواقعية مما يعرفه من له أدنى تماس مع نتاجهم الأدبي الغزير. ويجد القائل لرأي الدكتور "عز الدين إسماعيل" في كتابه (قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر). وهناك من يرى: أنّ السبب في عدم معرفة العرب بفن المسرح، يَكْمُن في أن الإسلام قد منع نقل المسرح الإغريقي القائم على الوثنية وآلهتها، وعلى الصراع بين الآلهة والبشر، وهو رأي قال به الدكتور "محمد مندور" في كتابيه (المسرح)

و (الأدب وفنونه) وكذلك توفيق الحكيم في مقدمة مسرحيته "الملك أوديب" ومعنى هذا الكلام: أن المسلمين اطلعوا على المسرح الإغريقي، وما فيه من وثنية تخالف الإسلام؛ فنفروا من ترجمته. لكن لم يحدث أن ساق "مندور" أو "الحكيم" أو غيرهما أي شيء يدل على معرفة المسلمين للمسرح الإغريقي، ولو كانوا عرفوا ذلك المسرح ما أخطأ كبار تراجمتهم وفلاسفتهم كـ"متّى بن يونس" و"ابن رشد" و"ابن سينا" في ترجمة مصطلحي التراجيديا والكوميديا فقالوا: إنّ المقصود بهما المدح والهجاء. ولمندور تعليل آخر ذكره في كتابه (المسرح) ملخصه: أنه قام بالمقارنة بين الشعر العربي القديم وأشعار الأمم الأخرى؛ فوجد أن ذلك الشعر يتميز بخاصتين كبيرتين، هما الخطابية والوصف الحسي، وهاتان الخاصتان لا تصلحان للدراما؛ التي تحتاج إلى الحوار مختلف النغمات، لا الخطابة الرنانة، وإلى خلق الحياة الشخصية وتصوير المواقف والأحداث، لا مجرد الوصف الحسي كما كتب. ويحق لنا أن نتساءل إزاء هذا الغلو الخطير، متى وكيف وأين يا ترى قام "مندور" أو غير "مندور" بمثل تلك المقارنة؟ وما عدد اللغات التي كان يعرفها سيادته؟ إنه لم يكن يعرف إلا الفرنسية وإلا الإنجليزية إلى حد؛ فهل يستطيع من هو في مثل وضعه هذا، أن ينهض بتلك المقارنة التي تحتاج إلى طوائف من النقاد ومقارني الآداب، تعرف كل لغات العالم، وتجمع أشعار العرب ونظيراتها لدى الأمم الأخرى، وتعكف على كل هذا إلى أن تخرج بما تضع عليه يدها من نتائج. وأين دكتور "مندور" من هذا كله؟. ثم من قال: إن الشعر العربي جميعه شعر خطابي ذو وصف حسي؟ إنه كأي شعر في العالم فيه الخطابية، وفيه الهمس والنجوى، وفيه الانعزال عن الحياة،

وفيه الانغمار في الحياة والانشغال بمشاكلها، وفيه الوصف الحسي، وفيها الوصف الباطني، وفيه التأمل الفكري، وفيه التحليل العاطفي، وفيه القصص والحوار. أما ما يقوله "مندور" فهو كلام في الهواء لا يثبت شيئًا، ولا يدل على شيء، سوى أن صاحبه لا يبالي بما يقول، وهو مسلك خطير. وكثير من الشعر العربي القديم يفيض بالقصص والحوار الذي يعكس نفسية كل متكلم. إن دكتور "مندور" حين يقول ما قال، إنّما يُوحي بأنه لا علم له بالشعر العربي؛ إذ لا يمكن أن يصدر قوله هذا عن رجل يعرف هذا الشعر ولو معرفة بسيطة، وهذا أمر لا يليق. والواقع أن حسم القضية الخاصة بعدم معرفة العرب للمسرح، هو أمر ليس من السهولة بمكان؛ فلم يعد هناك عَربٌ يُمكن أن نسألهم عن السر في ذلك مثلًا؛ فأصبح البحث في المسألة كأنه بحث في ما وراء الطبيعة. وربما كان لصعوبة ظروف المعيشة التي كان يعيشها العرب دخل في ذلك، إذ لم تكن تدع لهم فرصة لالتقاط الأنفاس، والاهتمام بمثل ذلك الفن المعقد؛ لأنهم كانوا في حل وترحال، جريًا وراء الماء والكلأ، وكانت المعارك تشتعل بينهم لأتفه الأسباب؛ كما كانت النزعة الفردية متسلطة عليهم، اللهم إلا فيما تمليه عليهم الحياة إملاء لا معدى عنه كالحرب، وتنظيم القوافل مثلًا. والمسرح يحتاج إلى جهود في الإخراج والتمثيل، وإعداد المسرح ومستلزماته، وفوق هذا فالتمثيل يقتضي اختلاط الرجال بالنساء، ولا أظن النفسية العربية في ذلك الوقت كانت تسيغه أو تسيغ قيام الرجل بدور المرأة على المسرح.

ثم إن عدم وجود مواد سهلة ورخيصة للتدوين -وهذا لو أغضينا الطرف عن انتشار الأمية فيهم إلى مدى بعيد- من شأنه أن يقوم عقبة دون ظهور المسرح؛ إذ تحتاج المسرحية الواحدة في كتابتها إلى عشرات الصفحات. وهناك رأي آخر ظهر في الفترة الأخيرة، يقول: بأن العرب عرفوا فن المسرح منذ الجاهلية، وصاحب هذا الرأي هو الكاتب الإسرائيلي ذو الأصل العراقي "شموئيل" أو "سامي موريه" ففي كتابه (المسرح البشري في البلاد العربية خلال القرون الوسطى) يرفض "موريه" ما يقوله معظم الباحثين من أن العرب لم يعرفوا فن المسرح إلا في العصر الحديث، جراء احتكاكهم بالثقافة الأوربية؛ مؤكدًا على العكس من ذلك أنهم عرفوا هذا الفن منذ الجاهلية، وكان يسمى عندهم بالخيال, وذلك قبل انتقال "خيال الظل" إلى البلدان الإسلامية بقرون. كما عرفوا مسرحًا يقوم فيه الممثلون بعروض أمام الجمهور يختلف عن في شكله عن المسرح الأوربي، فهو نوع خاص من العروض المسرحية التي تعتمد في الأساس على الحوار والأزياء والحركة وغيرها من عناصر المسرح. ثم يتابع كلامه قائلًا: إن المستشرقين نظروا إلى المسرح العربي من وجهة نظر أوربية؛ فكانوا يبحثون عن الشكل المسرحي الأوربي في الثقافة العربية. ومن هنا كان إنكارهم معرفة العرب قديمًا لهذا الفن. ثم تابعهم الباحثون العرب في هذا الرأي دون أي محاولة للتعرف إلى المصطلحات المسرحية العربية التقليدية بصورة دقيقة؛ غافلين بذلك عن أن فن المسرح هو ابن البيئة والثقافة والدين. ومن ثم كان لكل شعب شكل خاص منه، لا يتطابق بالضرورة مع غيره من الأشكال المسرحية.

كذلك يؤكد الباحث الإسرائيلي أنه في الوقت الذي تطور فيه المسرح الأوربي، عن الطقوس الدينية، فإن المسرح العربي تطور عن اللهو والتقليد، والسخرية من الخصوم ونقد تصرفاتهم، ثم انتقل إلى نقد تصرفات القضاة والحكام. وعلى أية حال؛ فقد عرفت البلاد العربية فن المسرح كما يعرفونه في الغرب، بدءًا من دخول الفرنسيين مصر في أواخر قرن الثامن عشر، إذ أقاموا بعض المسارح الخشبية للترويح عن جنودهم وضباطهم, وكان بعض المصريين يسترقون النظر من خلال الأخصة، التي بين تلك الألواح، وإن كان كل ذلك قد انقضى بخروج أولئك المجرمين من مصر أوائل القرن التاسع عشر. ويقول المؤرخون: إن "مارون النقاش الشامي" هو مؤسس المسرح العربي، وربما سبقه "يعقوب صنوع" الملقب بـ"أبو نظارة" إلى هذا الأمر, وقد كان "مارون" قد زار إيطاليا، واطلع على فن التمثيل هناك فأعجب به إلى حد بعيد، وفكر في نقله إلى بلاده, وبين رواد هذا الفن في مصر "سليم النقاش" الذي أنشأ مسرحًا في الإسكندرية عام ستة وسبعين وثمانمائة وألف للميلاد. وتلا ذلك ظهور فرق شامية أخرى منها: "فرقة أبو خليل القباني" و"فرقة يوسف خياط" و"فرقة إسكندر فرح". ثم ظهرت فرق مصرية صميمة كـ"فرقة سلامة حجازي" و"فرقة جورج أبيض" و"فرقة محمد تيمور" و"فرقة عبد الرحمن رشدي" و"فرقة نجيب الريحاني" و"فرقة يوسف وهبي" و"فرقة فاطمة رشدي" ثم أنشأ معهد التمثيل بالقاهرة في أوائل الثلاثينات من ذلك القرن، وبعده بعدة سنوات تكونت الفرقة القومية، ثم تتابع المطر واستمر مريره في أرض الكنانة، وفي بلاد العروبة كلها تقريبًا. وقد بدأت الكتابة المسرحية أيضًا باستيحاء المسرح الفرنسي والإيطالي والأخذ عنهما، مع إجراء بعض التعديلات التي تتقارب مع ذوق الجمهور وثقافته، كما

ظهرت بعض الأعمال المسرحية المؤلفة، مع وضوح تأثرها بالأسلوب الأوربي في رسم الشخصيات، وتطور الأحداث وغير ذلك من أساليب الكتابة المسرحية. وقد استمرت هذه البدايات وهكذا إلى ما يقرب ثلاث أرباع القرن تقريبًا، ثم جاء الاقتباس عن اللغة الإنجليزية متأخرًا, حيث احتلت مسرحيات "شكسبير" مكان الصدارة في هذا المجال، وكانت أولى مسرحياته التي قدمت على خشبة المسرح العربي هي: "روميو وجولييت" عام ألف وثمانمائة وواحد وتسعين للميلاد, ثم "هاملت" عام ألف وتسعمائة وخمسة للميلاد, ثم "عطيل" عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد, ثم كثر المؤلفون المسرحيون تباعًا. ومن أهم المؤلفين المسرحيين "أحمد شوقي" و"عزيز أباظة" وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، و"باكثير" و"محمود دياب"، و"مصطفى الحلاج"، و"سعد الله ونوس"، و"ممدوح عدوان"، و"رشاد برغوث"، و"سهيل إدريس"، و"برهان الدين العيوشي"، و"سميح القاسم"، و"يوسف العاني"، و"نور الدين فارس"، و"سعد الفرج"، و"صقر الرشود"، و"إبراهيم العريض" و"عبد الرحمن المعودة"، و"خالد أبو الروس"، و"عبد الله القويري"، و"الأظهر أبو بكر حميد"، و"أحمد إبراهيم الفقيه"، و"عز الدين المدني " ... إلى آخره. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 4 الرواية والقصة القصيرة، ودلالات التأثر والتأثير فيها.

الدرس: 4 الرواية والقصة القصيرة، ودلالات التأثر والتأثير فيها.

الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الرواية والقصة القصيرة، ودلالات التأثر والتأثير فيها) الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية الرواية والقصة القصيرة، ودلالات التأثير والتأثر فيها: القصة -طويلة كانت أو قصيرة- فن من الفنون الأدبية القديمة، إذ لا أظن أن مجتمعًا بشريًّا -قديمًا أو حديثًا- يمكن أن يخلو من هذا الفن، فحُبّ القصص نزعة فطرية في النفس الإنسانية، ولعل أقدم كتابة نقدية في هذا الموضوع هي ما كتبه أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند كلامه عن الملحمة والمسرحية، ذلك أن الملحمة والمسرحية كلتاهما فن قصصي، كل ما في الأمر أن الملحمة كانت تنظم شعرًا، وأن المسرحية تقوم على الحوار، فلا سرد فيها إلا في أضيق نطاق، وذلك حين يضع المؤلف ملاحظاته السريعة الموجزة قبل بعض المشاهد كي يهتدي بها المُخرج لدن تحويلها من عمل مكتوب إلى تمثيل حي على المسرح، فضلًا عن أن المسرحية كانت تكتب أيام أرسطو شعرًا، وإن كتبت بعد ذلك نثرًا أيضًا. وفي كل من الملحمة والقصة والمسرحية، الحوادث والشخصيات والحوار والعقدة والحل والبناء الفني، كما أن المواصفات التي يراعيها المبدع في كل فن من هذه الفنون، لا تكاد تختلف بشكل جذري عما ينبغي مراعاته في الفنين الآخرين. وقد قال أرسطو في كتابه (فن الشعر): " إنّ كُلّ ما يَصْدُق على المَلحمة يصدق على المأساة، اللهم في أنّ المَلحمة لا تنظم إلا في بحر واحد من بحور الشعر، كما أنها تتخذ الشكل السردي، علاوة على أن المأساة محكومة في طولها الزمني، بدورة الشمس حول الأرض مرة واحدة، أي: بأرْبع وعشرين ساعة أو أزيد قليلًا إن كانت ثمة حاجة إلى ذلك، على حين أن زمن الملحمة مفتوح. ولأن العناصر الموجودة في الملحمة هي نفسها تقريبًا العناصر الموجودة في المسرحية؛ نجده يؤكد أن من يستطيع الحكم الفني على إحداهما يستطيع الحكم

على الأخرى، وبالمثل نراه يذكر أن المؤلف -أي: مؤلف- قد يروي قصته من خلال ضمير الغائب، أو من خلال ضمير المتكلم، أو من خلال ترك الشخصيات تتصرف أمامنا مباشرة. والأسلوب الأخير هو أسلوب المسرحية، أما الأسلوب الأول فأسلوب "هومر في شعره الملحمي"، إلّا أنه لم يضرب لنا مثلًا يوضح به كيفية تقديم الشخص نفسه من خلال ضمير المتكلم. والمسرحية تتكون عنده من: الحبكة، والشخصية، واللغة، والفكرة، والمنظر، والأغنية، وفي رأيه أن الحبكة أهم من رسم الشخصيات، وأساسها عدم تضمين العمل المسرحي والملحمي أي عنصر لا يضر العمل حذفه، وألا نحذف من العمل أي عنصر من شأنه أن يصيب العمل بالتفكك والانهيار عند هذا الحذف، كذلك لا بد في رأيه أن يكون كل حدث مترتبًا على الحدث السابق عليه. وبالنسبة إلى الشخصيات ينبغي أن تكون شخصيات حقيقية ممن نقابلها في الحياة، وأن ينم كلامها وسلوكها عليها وينسجم معها، وأن تكون متسقة مع نفسها ... إلى آخر ما كتب ذلك الفيلسوف عن المواصفات التي لا بد من مراعاتها في كتابة المسرحية والملحمة، وهو أساس النقد القصصي عند الأوربيين وعند غير الأوربيين. ومما قرأناه في المادتين الخاصتين بالقصة القصيرة والرواية في بعض المعاجم الإنجليزية والفرنسية، يتبينُ لنا أن فن القصص قديمٌ قدم الإنسان لم تخلُ مِنه أمّة، وأنه يقوم على سرد الأحداث، وتصوير الشخصيات والحبكة، وأنه كان يعتمد في انتشاره على الحكي الشفاهي، ثم تَدخل الرسم والكتابة في عملية التسجيل.

وكانت الأدوات المستخدمة في هذا قديمًا هي الحجر، وجدران الكهوف، والجلود، وجذوع الأشجار، وكل ما يمكن الاستعانة به في هذا الصدد، وأنه كان وما زال يتغي التسلية والتعليم والدعاية ونشر القيم التي يتمسك بها المجتمع، فضلًا على التضليل أيضًا في بعض الحالات، وأن الرواية فن مرن منفتح غير جامد، فهي كما تكتب نثرًا قد تكتب شعرًا، وهي قد تكون طويلة كما قد تكون قصيرة أيضًا. والمهم ألا تبلغ من القصر ما يحول دون إصدارها في كتاب على حدة، وهي تتأبى على الشكل المحدد، والأسلوب المحدد والموضوع المحدد على عكس الأشكال الأدبية الأخرى، فضلًا على أنها تتسع لعناصر غير قصصية: كالرحلات والتراجم، والتاريخ والصحافة، وهذا هو السبب في أنها استطاعت أن تزيح الأجناس القصصية الأخرى، وتحل محلها. لكني لا أحب أن يكون الكلام هكذا، وأوثر أن يقال: إن الرواية مجرد شكل من أشكال الفن القصصي المتعددة؛ كالملحمة والرومانس التي تشبه عِندنا السيرة الشعبية، إذ العناصر في كل هذه الأشكال -ولا أقول الأجناس- واحدة، ألَا وهِي الأحداث والشخصيات، والحوار، والزمان والمكان، والحبكة. أما أن الملاحم مثلًا كانت تقوم على الخرافات والخوارق وما إلى هذا، على حين أن الرواية وهي فن علماني لمجتمع علماني، كما جاء في المادة المخصصة لها في قاموس "أكسفورد" الأدبي تتغي الواقعية، فالرد على ذلك شديد السهولة؛ إذ إن القدماء لم يكونوا ينظرون إلى تجسد الآلهة وتعددهم، وتصرفهم كما يتصرف البشر، وتخلقهم بأخلاق البشر، وتزاوجهم فوق ذلك مع البشر، ولا إلى الخوارق والمعجزات، والغرائب والوقائع، والشخصيات الأسطورية على أنها أمور غير حقيقية، بل على أن هذا هو الواقع الفعلي.

وإذا اعترض بأن الملاحم كانت تصاغ شعرًا، فها هو ذا كاتب المادة يقول: إنّ الرِّواية قد تصب في قالب الشعر هي أيضًا، ثم ها نحن ذا نعود هذه الأيام؛ فنكتُب الرِّواية على مذهب الواقعية السحرية، وواقعية الخرافات والخوارق والعجائب والغرائب، كما كان الحال في السير الشعبية وألف ليلة وليلة مثلًا. بل إنّ الكَاتِب ليذهب إلى أن العمل مثل "ساتر الكون" الذي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد لـ"بترونيا سنوماني" بمكن أن يعد رواية، وإن أضاف أن العرف قد استقر على أن "دونك شو" التي صدرت في أول القرن السابع عشر الميلادي للكاتب الأسباني "سيلفنس" هي أول رواية بالمعنى الحقيقي. وفي التفرقة بين الرواية والقصة القصيرة رأينا كتاب هاتين المادتين يستندون أساسًا إلى معيار الطول، إذ ينبغي ألا تزيد القصة القصيرة في الحجم بحيث يمكن أن تطبع في كتاب مستقل كما هو الحال مع الرواية، وهو ما يَستتبعُ أن تكونَ المِسَاحَةُ التي تتحرك فيها القصة القصيرة أَضيق، ومن ثم يهبط عدد الأحداث والشخصيات فيها إلى أقل حد ممكن، حدث واحد وشخصية أو شخصيتان. كما ينسب فن الرواية إلى أصله البعيد وهو الحكايات الشفوية التي كانت أساسًا لملحمتي "هوميروس" وهي نقطة جد هَامّة يسرني أن يتلاقى معها رأيي الحالي، الذي انتهيت إليه بعد تفكير طويل في هذه المسألة، وهو أن كل ما نعرفه من أشكال قصصية، فمرجعه إلى القصص والحكايات البَعِيدة الضّاربة في أعمق أعماق التاريخ، تلك القصص والحكايات التي تتخذ في كل عصر، وربما أيضًا بين الشعوب والطبقات المختلفة في العصر الواحد شكلًا مختلفًا، فيظن بعض الدارسين إننا إيذاء جنس جديد، وما هو بالجنس الجديد في حقيقة الأمر بل شكل من الأشكال التي اعتورت ذات الجنس على مدار تاريخه الطويل.

وفي مادة "روما" من قاموس "لاروس" العالمي الكبير طبعة باريس، سنة 1865م، نقرأ أن الرواية فن قديم قدم الإنسانية نفسها، وإن تغير شكله من عصر إلى آخر، ويقول دكتور "محمد غنيمي الهلال" في كتابه (الأدب المقارن): "إن النّثر القصصي في الآداب العالمية قد تأخر ظهروه بالنسبة إلى المَلاحِم والمسرحيات، وإنه كان أقل الأجناس الأدبية خضوعًا للقواعد وقيود النقد". وهذا معناه: أنّه يُفرق تفرقة جوهرية بين الملاحم والقصص، وهو ما لا أوافقه عليه، علاوة على أنني لا أظن أنه قد أتى على الناس حين من الدهر، لم يكونوا يعرفون رواية القصة والاستماع إليها، والاستمتاع بها، كذلك نراه يبدأ كلامه عن تاريخ الفن القصصي النثري بالكلام عن الإغريق وكأنهم هم رواد هذا اللون من الأدب، مع أن القصص المصري القديم يسبق ما وصلنا عنهم بزمن طويل. إذ نرى كاتبنا يرجع أول النثر القصصي اليوناني إلى القرن الثاني قبل الميلاد، على حين يعود القصص المصري إلى ما قبل هذا التاريخ بأشواط طوال، كما يعرفُ ذلك كل من له أدنى اتصال بالتاريخ المصري القديم، وبِمَا بَلغنا عنه من قصص كقصة "سنوحي" و"الفلاح الفصيح" و"الأخوان" و"الأميرة والشحاذ" وفيها شيء غير قليل من التماثل مع قصة "حسن ونعيمة" المشهورة. و"الملاح التائه" وهي تذكرنا بما سوف نقرؤه في قصتي "حي بن يقظان" و"روبونسون كروزو" بعد ذلك، من عيش أحد الأشخاص وحده لفترة طويلة على جزيرة غير مأهولة، وقصة الاستيلاء على يافا التي كتبت في عهد "تحتمس الثالث" وتتضمن حيلة للاستيلاء على المدينة، تشبه الحيلة التي لجأ إليها فيما بعد أصحاب "حصان طروادة"، إذ وضع بطل القصة جنوده في براميل مثقوبة للتهوية

محمولة على ظهور البغال، وما إن دخلت البغال المدينة حتى قفز من داخل البراميل الجنود المختفون واستولوا عليها. وكذلك القصص الشعبية التي تتناول الصراع الأبدي بين القط والفأر، ولكن على طريقة "توم وجيري"، حيث يغلب الفأر القط في كثير من الأحيان، وهو ما سبق به المصريون القدماء رسامي "الكرتون" الأمريكيين المعاصرين صاحبي فكرة توم وجيري ... إلخ. ولا يعني هذا أن القصص المصري هو أقدم قصص في الدنيا، بل كل ما أقصده أنه قد وصلنا عن المصريين القدماء قصص سابق في الزمان عن القصص الإغريقي، والسؤال هو: منذ متى عرف الأدب العربي فن القصص؟ وفي الجواب عن هذا نقول: إن بعض الدارسين يميلون إلى القول بأن القصة أحد الفنون الأدبية الطارئة على الأدب العربي، استمدها من الآداب الغربية في العصر الحديث. وهذا رأي خطير، ففي التراث الأدبي الذي خلفه لنا أسلافنا قصص كثير: منه الديني، ومنه السياسي، ومنه الاجتماعيُّ، ومنه الفلسفي، ومنه الوعظي، ومنه الأدبي، ومنه ما وضع للتسلية ليس إلا، ومنه الواقعي ومنه الرمزي، ومنه المسجوع المجنس، ومنه المترسل، ومنه المحتفى بلغته والبسيط المنساب، ومنه الطويل مثل رسالة "النمر والثعلب" لسهل ابن هارون، ورسالة "التوابع والزوابع" لابن شعيب، و"رسالة الغفران" ورسالة "الصاهب والشاهب" للمعري، و"سلامان وأبسال" ورسالة "الطير" لابن سينا، ورسالة "حي ابن يقظان" لكل من ابن سينا وابن الطفيل والسهروردي، وقصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة وسيرة سيف بن ذي يزن.

ومنه القصير كالحكايات التي ترص بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة، وجمع طائفة كبيرة منها "محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البيجاوي، ومحمد أحمد جاد المولى" في أربعة مجلدات كبار، و"كليلة ودمنة" لابن المقفع، و"البخلاء" للجاحظ، و"الفرج بعد الشدة" و"مشوار المحاضرة" للقاضي التنوخي، و"المقامات" و"عرائس المجالس" للثعالبي، و"مصارع العشاق" للسراج القاري، و"سلوان المطالع في عدوان الأتباع" لابن ظفر الصقلي، والمكافأة لابن الداية، و"غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة" للوطواط، و"المستطرف من كل فن مستظرف" للإبشيهي، و"عجائب المقدور في أخبار تيمور"، و"فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عرب شاه، وبعض قصص ألف ليلة وليلة أيضًا. وما ذكره ابن النديم في (الفهرست) من كُتب الأسمار الخرافية التي تُرجمت عن الفارسية والهندية واليونانية، أو رُويت عن ملوك بابل، أو ألفت بالعربية؛ فكانت حوالي 140 كتابًا، المؤلف منها بلسان العرب فقط نحو 80 كتابًا، كلها في أخبار العشاق في الجاهلية والإسلام، ودعنا مما ألف بعد ذلك. ومنه النثري كالأمثلة السابقة، والشعري كشعر الشنفرى عن لقائه بالغول، وقصيدة الحطيئة و"طاوي ثلاث عاصب البطن مرمل"، وكثير من قصائد عمر بن أبي ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائية بشار، ومغامرات أبي نواس الخمرية، وقصيدة المتنبي عن مصارعة بدر بن عمار للأسد، وهلم جرة. على أن ليس معنى ذكر الكتب والمؤلفات في هذا السياق أن الفن القصصي لم يعرف عند العرب إلا في عصر التدوين، بعد أن انتشر نور الإسلام، وتخلص العرب من الأمية، وأصبحوا أمة كاتبة قارئة مثقفة كأحسن ما تكون الأمم ثقافة وتحضرًا، بل كان هذا الفن معروفًا قبل ذلك في الجاهلية.

وهذا الحكم يستند: أولًا: إلى أن حب القصص نزعة فطرية لا يمكن أن يخلو منها إنسان، فضلًا عن مجتمع كامل كالمجتمع العربي قبل الإسلام. وفي مادة " Story Telling " في "الويكيبيديا" يؤكد كاتبها عن حق أن جميع المجتمعات البشرية قديمًا وحديثًا قد عرفت رواية القصص. وثانيًا: إلى أن لدينا قصصًا كثيرًا تدور وقائعه في الجاهلية، وينتسب أبطاله إليها، وقد اقْتَصَر دَورُ الكُتّاب الأمويين والعباسيين على تسجيل ذلك القصَص، وقد يكُونون تدخلوا بأسلوبهم في صياغته، وهذا أبعد ما يمكن أن تكون أقلامهم قد وصلت إليه، ومن الواضح أن هذا القصص يصور المجتمع العربي قبل الإسلام تصويرًا لا يستطيعه إلا أصحابه. أما ما يقوله بعض المستشرقين، ويتابعهم عليه بعض كتاب العرب من أن العرب ينقصهم الخيال والعاطفة، وأنهم من ثم لم يعرفوا فن القصص؛ فأقَلُّ مَا يُقال فيه: هو أنه سخف وتنطع، إذ الميل إلى القصص هو ميل غريزي لدى كل البشر، كما أن الخيال والعواطف هي هبة من الله لم يحرم منها أمة من الأمم، بل كل الأمم فيها سواء. ومن ذلك ما زعمه المستشرق البريطاني "ديلاسي أوليري" في كتابه ( Arabia before Mohammed) من أن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف، وإن كان الدكتور أحمد أمين قد عقب على ذلك في كتابه (فجر الإسلام) بأن الناظر في شعر العرب، وإن لم ير فيه أي أثر للشعر القصصي أو التمثيلي، أو الملاحم الطويلة التي تشيد بذكر مفاخر أمة كـ"إلياذة هوميروس" و"شهنامة الفردوسي"، سوف يلاحظ رغم ذلك براعة الشاعر العربي في فن الفخر والحماسة والغزل والوصف والتشبيه والمجاز، وهو مظهر من مظاهر الخيال.

كما أن بكاء ذلك الشاعر للأطلال والديار، وذكره للأيام والحوادث، ووصفه لشعوره ووجدانه، وتصويره لالتياعه وهيامه كل ذلك دليل على تمتعه بالعواطف الحية. ويُردد أحمد حَسن الزيات في (تاريخ الأدب العربي) شيئًا قريبًا مما قاله "أوليري" وإن اختلفت مُسَوّغاته، إذ من رأيه أن مزاولة هذا الفن تقتضي الروية والفكرة، والعرب أهل بديهة وارتجال، كما تتطلب الإلمام بطبائع الناس، وهُم قد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيمن عاداهم، فضلًا عن احتياج ذلك الفن إلى التحليل والتطويل، على حين أنهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلهم تعمقًا في البحث، مع قلة تعرضهم للأسرار البعيدة والأخطار الشديدة. ثم إنّ هذا الفن هو نوع من أنواع النثر، والنثر الفني ظل في حكم العدم أزمان الجاهلية وصدر الإسلام؛ حتى آخر الدولة الأموية حين وضع ابن المقفع الفارسي مناهج النثر، وفكر في تدوين شيء من القصص. بيد أن عددًا من كبار النقاد ومؤرخي الأدب عندنا تولى تفنيد هذه المهمة المتسرعة، التي أن صحت، وهي لا يمكن أن تصح، كان معناها أن الله -سبحانه وتعالى- حين خلق الخيال والروية كتب على كل منهما لافتة تقول: ممنوع اللمس، للأوربيين فقط. والحق أنني لا أدري كيف فكر أصحاب هذا الزعم العجيب الذي لا يقول به العقل، ولا الذوق ولا التاريخ، ولا الواقع ولا الشواهد. وثمة خبرٌ أورَده المسعودي في (مروج الذهب) عن معاوية يدل على أنه كان هناك منذ خلافته على الأقل تدوين كتابي لما كان الجاهليون يروونه من قصص وحكايات وأسمار، وأنّ هذا التدوين من ثم لم ينتظر حتى مجيء العصر العباسي -كما يقول الدكتور شوقي ضيف- وهذا هو النص المذكور، وقد ورد في

سياق كلام المسعودي عن المنهج الذي كان معاوية يتبعه في إنفاقِ سَاعاتِ يومه نهارًا وليلًا، وهو خاص بسماع العاهل الأموي أخبار العرب وأيامها في الجاهلية. يقول: "ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسِيَر ملوك الأمم وحروبها، ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطُّرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك، وأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتَّبون، وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها، فتمرّ بسَمْعه كلَّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم". ولدينا أيضا كتاب (أخبار عَبِيد بن شَرِيّة الجُرْهُمِيّ في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها) الذي سَجّل فيه مؤلفه ما كان يقع بينه وبين معاوية بن أبى سفيان من حوادث تاريخية، وكان معاوية قد استقدمه؛ ليستمع منه إلى أخبار ملوك اليمن. ويذكر ابن النديم أن عَبِيدًا وَفَد على معاوية؛ فسأله العاهل الأموي عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة وأَمْر افتراق الناس في البلاد، وكان قد استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يدوَّن ذلك ويُنْسَب إلى عبيد. وهو الكتاب الذي يؤكد المسعودي أنّ صاحبه هو الوحيد الذي صَحّ وفوده على معاوية من رواة أخبار الجاهلية". واللّافِتُ للنّظر أنّ الأغلبية من كُتّاب القِصّة ونقادها في بدايات العصر الحديث بأرض الكنانة مثلًا، لم ينظروا إلى القصة على أنها شيء جديد، بل على أنها امتداد للقصص العربي القديم إن لم تكن هي هو، وهذا واضح مما كتبه رفاعة

الطهطاوي في مقدمة ترجمته لرواية "فلينون" التي عنوها بـ" مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" إذ قال: إنها موضوعة على هيئة مقامات الحريري في صورة مقالات". كما يقارن عبد الله النديم في مقال له بمجلة "الأستاذ" بتاريخ 10 يناير 1893م الأسلوب الذي كتبت به رواية سعيد البستاني "ذات الخدر" بأسلوب السير الشعبية، ويدافع عنها على هذا الأساس، كذلك كان حظ إبراهيم حين ترجم رواية "هوجو" "البؤساء" لينظر إلى عملِه على أنه امتداد لما كان العرب يعملونه في العصر العباسي، من نقل القصص الأجنبي القديم إلى لسانهم. وهذا الكلام متاحٌ لِمن يَطْلُبه في مقدمة الترجمة المذكورة، وهو نفسه ما قاله تقريبًا جورج زيدان في الجزء الرابع من كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية)، وإن أضاف أن القصص العصري ينحو نحو الواقعية التي تلائم روح العصر. وها هنا نقطة لا أريد أن أفوت الفرصة دون التعرض لها، وهي قول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن): "إنه لم يكن للفن القصصي في الأدب العربي القديم شأن يذكر، وإن كبار الأدباء كانوا يتركونها لغيرهم من الوعاظ، وكتاب السير والوصايا، وهذا كلام غير صحيح بالمرة، ويكفي في تفنيده أن ننظر في أسماء كتاب القصة في أدبنا القديم التي أوردتها آنفًا لنجد أسماءً كسهل بن هارون، وابن المقفع، والمعري، وابن شعيب، والهمذاني، والحريري، وابن طفيل، والقاضي التنوخي، والثعالبي، وابن عرب شاه. أفليس هؤلاء من كبار أدباء العرب في تلك العصور، بل من كبار كبارهم؟!. والطريف أنه هو نفسه سوف يذكر بعد قليل بعض تلك الأسماء في سياق حديثه عن تأثير القصص العربي القديم في الأدب الأوربي.

كذلك لا نستطيع أن نوافقه -رحمه الله- على نسبته فضل التأليف القصصي، أو على الأقل الريادة فيه إلى مسلمة الفرس، ممن كانوا -كما يقول- يعرفون اللغتين، مشيرًا إلى أنهم كانوا يفيدون من اطلاعهم على قصص "الشهنامة"، وهو بطبيعة الحال يقصد تاريخ ملوك فارس القديمة لا "الشهنامة" التي ألفها الفردوسي في ذات الموضوع؛ لأن هذه "الشهنامة" ما كان لها وجود في ذلك الوقت بعد كما هو معروف، إذ لم يبدأ الفردوسي تأليفها إلا في الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري. ويلاحظ هنا أنّ هِلال لم يحاول أن يُقَدّم لنا ولو شاهدًا واحدًا على دعواه إفادة أولئك الكتاب من سير ملوكهم، وبالمناسبة نراه يشير ضمن هذا السياق بالهامش إلى ما وردت به أسباب النزول الآيتين السادسة والسابعة من سورة لقمان اللتين تتحدثان عن النضر بن الحارث، وما كان يصنع في التشويش على الدعوة الم حمدية في أوائلها، إذ كان يأتي بقصص رستم واسفنديار، حتى أذا وجد النبي في مجلس من مجالس قريش يدعوهم إلى دينه الجديد، جاء هو وقرأ عليهم تلك القصص زاعمًا أنها أفضل مما جاء به الرسول عليه السلام. فهلال يتخذ من هذا شاهدًا على تسرب قصص "الشهنامة" إلى بلاد العرب في تلك الفترة المبكرة من تاريخها. وفي حديثه عن "ألف ليلة وليلة" نجده يشير إلى ما استقاه كتابها من العناصر الفارسية، والهندية والإغريقية، مع تغليب العناصر الفارسية، وإن يكن قد أبرز أيضًا ما يفيض به ذلك العمل من إبداعات عربية ومصرية، أضيفت إلى أصله الأجنبي. وفي المقالة الثامنة من كتاب (الفهرست) لابن النديم، وتحت عنوان "الفن الأول في أخبار المسامرين، والمخرفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار"، يطالعنا هذا

النص المهم الذي يتحدث عن الأصل الفارسي لألف ليلة، إذ نقرأ أن: " أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتبًا، وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفرسُ الأُوَل ثم أرخ في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الث الثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء، فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عُمِلَ في هذا المَعنى كتاب (هزار أبسان) ومعناه: ألف خرافة. وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية، يقال لها: "شهرزاد"، فلما حصلت معه، ابتدأت تخرّفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل، بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدًا فأظهرته، وأوقفته على حيلتها معه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها "دنيازاد" فكانت موافقة لها على ذلك". وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لحمان ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا، والصحيح -إن شاء الله- أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب (هزار أفسان) ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات". ومع هذا كله فقد حكم ابن النديم على كتاب (ألف ليلة) بأنه "بالحقيقة كتاب غثّ بارد الحديث".

وبالنسبة إلى (رسالة الغفران) نرى الدكتور محمد غنيمي هلال يسوق احتمالًا مرسلًا لم يعضده بأي شاهد ولا بأي دليل أو مرجع، وهو: أنّ أبا العلاء قد يكون متأثرًا بكتاب "أرده ويراف نامة" الفارسي الذي يحكي رحلة موبذان من "زرادشتي" إلى الجحيم، وبالمثل يرى من المحتمل أن يكون لقصة "أبسال وسلامان" المتصلة بقصة "حي بن يقظان" لابن سينا أصل يوناني. أما فن المقامة، فهو كما يؤكد فن عربي أصيل، على أنه لم يكتف بهذا بل مضى، فتناول انتقال تلك الأعمال بدورها إلى اللغات والآداب الأخرى، وتأثيراتها فيها، وبخاصة الأوربية منها، فقد تُرجمت "حي بن يقظان" لابن الطفيل إلى العبرية في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم إلى اللاتينية في القرن السابع عشر، ثم إلى الإنجليزية، كما ترجمت في سنة 1920م إلى الروسية، ثم إلى الفرنسية أوائل الثلث الثاني من القرن العشرين، وكان لهذه القصة تأثير شديد في قصة "كريتيكود" للكاتب الإسباني "جراسيان" الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر. وإن أضاف أننا لا نعرف الطريق الذي تأثر من خلاله "جراسيان" بالقصة العربية؛ لأنها لم تترجم إلى أي لغة أوربية قبل عام 1671م، أي: بعد وفاة "جراسيان"، إلا أنه مع هذا يستبعد أن تكون وجوه التماثل بين العملين مجرد مصادفة، وبخاصة أن المستشرق الإسباني "جارسيا جوميز" يؤكد أن قصة ابن الطفيل اكتسبت شعبية كبيرة في عهد "جراسيان" من قبل ترجمتها إلى اللاتينية، ومن ثم يقرر أن الكاتب الإسباني لا بد أن يكون قد اطلع على القصة في أصلها العربي. كذلك يضيف هلال أن قصة ابن الطفيل قد لقيت رواجًا كبيرًا لدى الفلاسفة الأوربيين، خصوصًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك "الرومانتيكيون" في القرن التاسع عشر، إذ كان هؤلاء وهؤلاء يعتقدون أن

الإنسان قادر بفطرته وحدها على الاهتداء للفضائل، وهي الفكرة التي تدور حولها "حي بن يقظان" كما هو معروف. كذلك ترجمت "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية في أوائل القرن الثامن عشر، ثُمّ تُرجمت إلى سائر اللغات الأوربية بعد ذلك تاركة آثارًا متنوعة في فنون الأدب المختفلة هناك، إذ شَدّ الأُدباء "الرومانتيكيين" إليها ما كانت تشتمل عليه من موضوعات كانت تشغلهم، كالهروب من واقع الحياة إلى عالم السحر، والتهكم على الملوك، وترجيح العاطفة على العقل متمثلة في "شهرزاد" التي ردت "شهريار" الملك عن وحشيته لا بالمنطق العقلي بل بالعاطفة. ثم يزيد الدكتور هلال قائلًا: "إنّ حكايات ألف ليلة وليلة بعيدة في مستواها الفني عن القصة في معناها الحديث"، وهذه الملاحظة الأخيرة لا داعي لها حتى ولو كانت صادقة، إذ ليس مطلوبًا من أي فن أو شخص أن يسبق عصره، وأن يمتثل بدهر الغيب لمواصفات عصر مقبل لا يزال في ضمير الغيب، وإلا لم يكن هناك عمل جديد بالرضا لأن ما هو مقبول اليوم سوف يتغير الرأي فيه غدًا حين تجد على الساحة مواصفات فنية أخرى. على أن كلامي هنا لا يَعني أن أدبَ كُلّ عصر لا يمكن أن يلبي متطلبات العصور المقبلة بالضرورة، إذ لا يمنع هذا من تحقق تلك المتطلبات المستمرة في كلها أو بعضها، وهذا لو كانت ملاحظته صحيحة، وهي للأسف ليست كذلك، إذ إن من بين حكايات ألف ليلة ما يصمد بالمقارنة مع القصة الحديثة قصيرة كانت أم طويلة. ولا ننسى ما أخذنا نسمع به منذ عدة عقود من الواقعية السحرية، ذلك المذهب الذي أتانا من أمريكا الجنوبية، واستقاه أدباؤها من ذلك العمل الساحر. فإما المقامة فهي كما يقول: "حكاية يسودها شبه حوار درامي وتحتوي على مغامرة يرويها أحدهم عن بطلها الذي قد يكون شجاعًا متقحمًا للأخطار، أو

ناقدًا للأوضاع والاجتماعات والسياسية، أو عالمًا متضلعًا بمسائل الدين أو اللغة، لكنه في كل الأحوال تقريبًا متسول ماكر مستهتر، ولوع بالملذات، يحتالُ للحصول على مال ممن يخدعهم، فضلًا عن أنه أديب مجيد". وفي المقامة أيضًا وصف للعادات والتقاليد السائدة حينذاك في الطبقتين الدنيا والوسطى، وقد تأثر الأدب الفارسي بالمقامات متمثلًا في القاضي "حميد الدين البلخي"، وإن لم يحتذ في مقاماته مقامات البديع والحريري احتذاءً امسترة، وبخاصة في اشتمالها على المناظرات، واتسامها بالطابع الصوفي. كما أثرت المقامات العربية في الآداب الأوربية أيضًا على نحو واسع، إذ غزت قصة "الشطار" الإسبانية سواء من ناحية الفن أو من ناحية الوزن نزعة الواقعية التي تسودها، ثم انتقل تأثيرها إلى سائر الآداب في القارة العجوز، فساعدت الكتاب على هجر قصص الرعاة لتحل محلها القصص التي تتناول العادات والتقاليد، وتنحو نحو الواقعية والقضايا الاجتماعية. وفي هذا السياق يحسُن أن نورد ما كتبه "صلاح الدين الصفدي" في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) عن مقامات الحريري إذ قال: "ويحكى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم، ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها". وما ذَاك إِلّا أن هذا الكتاب أحد مظاهر تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب (كليلة ودمنة) وإلى ما فيها من أنواع الأدب، وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة. وبالنسبة إلى التشابه القوي الحاصل بين "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي " دانتي أليجيري" ذلك العملين الذي يصور كل منهما رحلة إلى العالم الآخر؛ فإن الدكتور "محمد غنيمي هلال" يعزوه إلى تأثر دانتي

الموضوعات التي تناولتها القصة العربية القديمة.

بحكاية الإسراء والمعراج، التي من الممكن أن يكون المعري هو أيضًا قد استلهمها، فكان هذا التّشابه بين عمله وعمل الشاعر الإيطالي، إذ لم يثبت أن دانتي قد اطلع على رسالة المعري، وإن كان هلال قد خلع على الشاعر العربي الكبير قصب السبق عليه في تناول مثل تلك الرحلة؛ نظرًا للمسافة الزمنية الطويلة التي تفصل بين الشاعرين. والمقرر الآن فعلًا بين الباحثين: أن دانتي قد اطلع على قصة المعراج قطعًا، لكن هل معنى هذا أنْ نَجْزِمَ بأنّه لم يتأثر بالمعري؟ الحق أنّ ذلك غيرُ لازم، فمن المحتمل أن يكون قد قرأ المعري لكن لم يخلف وراءه أثرًا يدل على ذلك الاطلاع. الموضوعات التي تناولتها القصة العربية القديمة ونصل الآن إلى الموضوعات التي تناولتها القصة العربية القديمة، ولسوف نسترشد بما اشتمل عليه كتاب (قصص العرب) ومن ينظر في فهرس هذا الكتاب، يجد أن أصحابه قد قسموا القصص العربية إلى: - قصص تستبين بها مظاهر حياة العرب، وأسباب مدنيتهم، بذكر أسواقهم، وأجلاب تجارتهم، والمساكن التي كانت تؤويهم، وسائر ما كان على عهدهم من دلائل الحضارة، ووسائل العيش. - وقصص تتضمن معتقداتهم، وأخبار كهانهم وكواهنهم، وتبسط ما كانوا يعرفون من حقائق التوحيد، والبعث والدار الآخرة، وما كانوا يتوسلون به من إقامة الأوثان، وتعهدها بألوان الزلفى والقربان. - وقصص تجلو علومهم ومعارفهم، وتتوضح منها ثقافتهم، وما كان متداولًا بينهم من مسائل العقل والنقل، التي هدتهم إليها فطرهم، أو أنهتها إليهم تجاربهم.

- وقصصٍ يُرَى مِنها ما كانوا يتغنون به من المكارم والمفاخر، وما كانوا يتزممون به من المناقص والمعرات، سواء أكان ذلك متصل بكل منهم في نفسه، أم فيما يتصل بالأقربين من ذويه، أم فيما يضم أهل قبيلته، أم فيما يشمل الناس جميعًا. - وقصص تعدد غرائزهم وخصالهم، فتكشف ما طبع عليهم من وفرة العقل، وحدة الذكاء وصدق الفراسة، وقوة النفس، وما أهلتهم له طبيعة بلادهم، وأسلوب حياتهم من شريف السجايا، وممدوح الخصال. - وقصص تشرح ما أثر عنهم من عادات وشمائل في الأسباب الدائرة بينهم، وتبين ما انتهجوه في مواسمهم وأعيادهم، وأفراحهم، وأعراسهم، مما يمثل حياتهم الاجتماعية أصدق تمثيل. - وقصص تمثل أحوال المرأة العربية، وما تجري عليه في تربية أطفالها، ومعاشرتها زوجها، ومعاونتها له في الحياة الاجتماعية والمدنية، بالسعي في سبيل الرزق، والاشتراك في خوض معامع الحروب، والأخذ بالقسط من الثقافة الأدبية السائدة في ذلك العهد. - وقصص تمثل ذلاقة لسانهم، وحكمة منطقهم، وما ينضاف إلى ذلك من فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى، وجمال الأسلوب، وحسن التصرف في الإبانة والتعبير. - وقصص تسرد بارع ملحهم، ورائع طرفهم في جواباتهم المسكتة، وتصرفاتهم الحكيمة وتخلصاتهم اللبقة، مما يدل على حضور الذهن، وسرعة البديهة، وشدة العارضة. - وقصص تُعرب عما يقع بين العامة والملوك والقواد، والرؤساء، والقضاة ومن إليهم من كل ذي صلة بالحكم والحكام، مما تناول حيلهم في المنازعات

والخصومات، ويوضح طرائقهم في رفع الظلمات، ورجع الحقوق، وما يجري هذا المجرى. - وقصص تصور احتفاظهم بأنسابهم، واعتزازهم بقبائلهم، وتمجيدهم للأسلاف، وتعديدهم ما تركوا من مآثر، وما أدى إليه ذلك من مفاخر ومنافرات. - وقصَصٍ تنقل ما كانوا يتفكهون به من أسمار، ومطايبات ومناقضات وأفاكيه، مما نال به المحدثون والندماء ثني الجوائز والخلع من الخلفاء والوزراء، وما ارتفعت به مكانتهم عند السادة والوجوه في المجتمعات والمنتديات. - وقصص تؤرخ مذكور أيامهم، وتفصل مشهور وقائعهم، ومقتل كبائرهم، وتصف الحروب والمنازعات التي كانت تدور بين قبائلهم، أخذًا بالثأر وحماية للذمار. - وقصص تحكي ما كان للجند من أحداث، وأحاديث الغارات والغزوات والفتوح مصورة نفسيتهم وأحمالهم، واصفة تطوراتهم العقلية والخلقية بنشأة الدولة العربية، وانفساح رقعتها، مفصلة عددهم وآلاتهم وأسلحتهم في حياتهم الجديدة. لكن الملاحظ مع هذا كله أن العرب القدماء لم يهتموا بالتقعيد لفن القصص، كما صنعوا مع الشعر والرسائل والخطب، رغم أنهم أبدعوا قصصًا كثيرًا ومتنوعًا، ورائعًا، وهو أمر يبعث على الاستغراب، ولعل السياق هنا يتطلب مناقشة ما قالته الدكتورة "ألفت الروبي" في الصفحات الأولى من كتابها (بلاغة التوصيل وتأسيس النوع) من أن الفن القصصي كان مهمشًا، وغير معترف به عند العرب، ذلك أن حكمها هذا حكم خاطئ تمامًا، ولو أنها قالت أنه كان

مهمشًا في كتابات النقاد القدماء، فلم يتناولوه بالتحليل الفني، واكتفوا في الحالات التي وقعت لنا على الأقل بالأحكام الانطباعية التي يبدون فيها إعجابهم بالعمل الذي يتحدثون عنه، لكان في كلامها صحة. وكيف يكون القصص لدى العرب مهمشًا، وغير معترفًا به، وقد تركوا لنا كل هذا الكم الوفير من القصص؟ وكذلك كيف يكون هذا الفن مهمشًا، وغير معترف به عندهم، وقد ألف فيه كبار الكتاب كابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني، وابن شريد وأبي علاء المعري وبديع الزمان الهمذاني، وياقوت الحموي والزمخشري، وابن الجوزي، والقاضي التنوح والإبشيهي، وابن عرب شاة؟. وكيف يكون هذا الفن مهمشًا، وغير معترفًا به، وها هم هؤلاء الكتاب الكبار يبدون إعجابهم بالأعمال القصصية؟ والعجيب أنها تعود فتقول في الفصل الثاني من الكتاب: "إن الكتابة النثرية العربية قد اتخذت مسارات قصصية متعددة، فكيف يصح هذا مع قولها: إن هذا اللون من الكتابة كان مهمشًا، وغير معترفًا به عند العرب؟ وبالمثل قد أخطأت خطأ آخر حين زعمت أن الشكل القصصي قد تولد من رحم الرسالة في نصي "رسالة الغفران" و"رسالة التوابع والزوابع"، إذ الفن القصصي كما رأينا كان معروفًا عند العرب منذ الجاهلية، وبعد الإسلام نجد لدينا عبيدة بن شرية، وابن المقفع، وسهل بن هارون والجاحظ ... إلخ. وكل هؤلاء سابقون على المعري وابن شهيد كما هو معلوم، ولن نتحدث عن القرآن والأحاديث، وما فيهما من قصص، فما قالته إذًا هو حكم متعجل لا عمق، ولا روية فيه.

شبه ما يعترضون على وجود القصص العربي القديم.

شبه ما يعترضون على وجود القصص العربي القديم والآن بعد أن فرغنا من موضوع القصص العربي القديم، واتضحت قضيته تمامًا، أحب أن أعود مرة أخرى، ولكن بالتفصيل إلى النظر في شبه ما يعترضون على وجوده، وذلك لأهمية الموضوع، وقد سبق في ردنا على من يقولون إن شكل القصة الغربية يختلف عنه في القصص العربي القديم، أن أوضحنا أن هذا الاعتراض ليس بشيء؛ لأنّ الفن القصصي تتغير أشكاله مع الزمن، والقصص الغربي نفسه في بدايته يختلف عنه الآن من هذه الناحية اختلافًا شديدًا، وليس هذا بمسوغ عند أحد للقول بأن الغرْبَ لم يكن يعرفوا القصة من قبل. بل إن الشعر العربي نفسه قد تغير الآن تغيرًا هائلًا عن الشعر الذي كان ينظمه العرب القدماء، فهل يصح الزعم بأن العرب لم يعرفوا الشعر في الماضي؟ إن هذا مثل ذاك، بل إن عددًا كبيرًا مما تركه العرب من قصص لا يصمدُ لمحك الشكل الفني الحديث، رغم أن هذا ليس بشرط أبدًا، فلكل زمان، ولكل مكان دولة ورجال، وكثير من النقاد العرب الكبار في عصرنا، قد أثبتوا هذا، وأطالوا القول فيه، والمهم أن يتألف العمل القصصي من أحداث تقع في زمان ومكان معينين وشخصيات، وحوار وسرد وموضوع تدور عليه القصة، وشكل فني محكم يتكون من بداية وعقدة ونهاية. أما التفصيلات فتختلف من زمن إلى زمن، ومن أمة إلى أمة، تبعًا للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والذوقية وما إلى ذلك، وما يُعجبنا اليوم رُبّما لا يعجب أبناءنا وأحفادنا غدًا؛ مثلما لا يُعجبنا بعض ما خلفه لنا أسلافنا، وهل تجري الحياة على وتيرة واحدة؟ فلماذا يشذ الفن القصصي على

هذه السنة؟ وتكون القصة الغربية في العصر الحديث هي القصة بـ"ال" الماهية وما سواها ليس بقصة. وإذا كان الأوربيون في غمرة غرورهم، وتصورهم الأحمق أنهم مركز الكون، وأن ذوقهم هو المعيار الذي ينبغي أن يأخذ به العالم أجمع، فما عذر بعضنا في ترديد هذا السخف الذي يراد به أول ما يراد الفت في عضدنا، وتوهين عزائمنا، وإشعارنا بالقلة والنقص إيذاءهم. وإذا كنا قد ترجمنا ولا نزال نترجم الأعمال القصصية التي يبدعها الغربيون، فقد ترجموا هم بدورهم كثيرًا من الأعمال القصصية التي أبدعها أجدادنا، وتأثروا بها مثلما تأثرنا نحن بهم، ترجموها إلى اللغات الأوربية المختلفة، بل كثيرًا ما ترجموا العمل الواحد إلى اللغة الواحدة عدة مرات، وهي سنة كونية لا تتخلف أبدًا، كل أمة تأخذ من غيرها وتعطيها، فليردد الغربيون ما يشاءون في تمجيد أنفسهم، وتفخيمها فكل إنسان حر في أن يقول عن نفسه ما يريد، لكن العبرة بالمستمع الذي ينبغي أن يكون عاقلًا، فلا يصدق كل ما يقع على أذنه من كلام، حتى لو كان كلامًا مزقًا تافهًا لا يقبله العقل، ويتناقض مع معطيات الحياة. كذلك قد يحتج الذين ينفون عن العرب القدامى معرفتهم بالفن القصصي، بأن ألف ليلة وليلة والسير الشعبية مثلًا تقوم على حوادث مغرقة في الخيال لا علاقة لها بالواقع اليومي، إلا أن هذا احتجاج خاطئ، ففي كثير من قصص ألف ليلة وليلة تصوير حي للواقع العربي والإسلامي، في الفترة التاريخية التي تدور فيها. أما الجانب المغرق في الخيالات والغرائب، فهي ذي الواقعية السحرية تعيده لنا اليوم من جديد، وكثير من القصاصين والنقاد يتحدثون عنها حديث المبهور؛

فهل نَستطيعُ القول بأنّ الرِّوايات التي يكتبها قصاصو أمريكا الجنوبية، ومن يتبعون سنتهم، وكثير ما هم على أساس من هذا الواقعية السحرية لا تمت بصلة إلى فن القصة. وهناك أيضًا من يحاولون التهوين من شأن المقامة، بدعوى أن كتباها كانوا يتغيون استعراض عضلاتهم اللغوية فحسب، وهذه في واقع الأمر دعوى منكرة؛ لأن المقامات ليست براعة لغوية فقط، بل في كثير جدًّا مما ترك الهمذاني والحريري مثلًا الحكاية الشائقة، والتصوير العجيب والحوار الخلاب، والعقدة المحكمة، فإذا أضفنا إلى ذلك كله الأسلوب اللغوي المزخرف الذي كان يستخدمه كاتب المقامة، أدركنا إلى أي مدى كان المقامي متقنًا لفنه، ممسكًا بخيوطه بغاية الإحكام. وأين هذا من بعض كتاب القصة الحاليين عندنا ممن يعانون من فقر المعجم، ورَكاكة الأسلوب والجهل بقواعد النحو والصرف، صحيح أن الذوق الأدبي قد تغير الآن، بيد أن هذا لا ينبغي يدفعنا إلى الافتئات على ذلك الفن وأصحابه، الذين كانوا في إبداعهم أبناء عصرهم الأوفياء. أما الجَديدُ حقًّا الذي عرفه القصص العربي في العصر الحديث، ولم يكن له وجود في فيما خلفه لنا العرب القدماء في حدود ما نعلم، فهو رواية القصة على لسان عدة أشخاص من أبطالها، كل يراها من زاويته، ويفسر ما يراه تفسيرًا يختلف كثيرًا أو قليلًا عن تفسير الرواة الآخرين، وهذا الشكل الفني أساس فكرة النسبية التي أفرزها العصر الذي نعيش فيه. ومن ذلك أيضًا طيار الوعي، وهو أحد مظاهر التأثر بالدراسات النفسية، ومن هذا الجديد كذلك المزج بين القصة والمسرحية، هذا المزج الذي تمثل في "بنك القلق" لتوفيق الحكيم، وسماه صاحبه "مسرواية" وإن لم ينتشر كما كان يرجى

له، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر؛ فإن السيرة الشعبية مثلًا كانت تمزج أيضًا بين الشعر والنثر، وإن اختلفت في هذا المزج عن طريق "المسرواية" التي تتألف من فصل قصصي يتلوه فصل مسرحي، وهكذا دواليك. أما السيرة فيرد الشعر فيها السرد والحوار كجزء منهما لا كشيء منفصل، وهذه السمة موجودة لكن على استحياء في بعض قصص يوسف السباعي مثلًا. وهناك أيضًا النقد القصصي، والتأريخ للروايات، والقصة القصيرة، والترجمة لأعلامهما، وهو أمر لم يعرفه الأدب العربي القديم، إذ كان النقد آنذاك منصبًّا على الشعر بالدرجة الأولى، ثم الخطابة، والرسائل الديوانية بعد ذلك، وها هو ذا مثلًا كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، و (الصناعتين) لأبي هلال العسكري، وكتاب (نقد النثر) المنسوب لقدامة بن جعفر، و (المثل السائر) لابن الأثير، فلنقلب فيها كما نحب، فلم نجد أي كلام في النقد القصصي. أما الآن، فالدراسات النقدية والتاريخية التي تدور حول فن القصة، وأعلامه، واتجاهاته وأشكاله، قد بلغت من الكثرة والتنوع مدى بعيدًا، وهذا من شأنه أن يساعد أدباء القصة على التجويد والتطوير المستمر، ولا شك أننا مدينون في هذا المجال للنقد القصصي الغربي الذي قرنه في رواية أصلية أو مترجمة، وهذا النقد يرجع في أساسه إلى ما كتبه أرسطو على المسرحية والملحمة حسبما أوضحنا. أما كتب النقد والأدب، والتراجم التراثية المعروفة؛ فالموجودُ فيها عن الفن القصصي هو كلام انطباعي، أو نقد لغوي بلاغي ليس أكثر، كما أن كلمات الحكاية، والقصة، والرواية لا تُستخدم فيها إلا بالمعنى اللغوي العادي كما في قولنا: "شرح فلانٌ القصة أو حكى الحكاية، أو هكذا كانت الراوية بالكلام، أي: الخير ليس إلا، ولا تستخدم كمصطلح أدبي.

ولقد كان لترجمة الروايات الغربية دور مهم قي تطوير القصص العربي في العصر الحديث، وكان رفاعة الطهطاوي -فيما نعرف- أو مصري يقوم بترجمة رواية غربية، وهي رواية القس الفرنسي "فلينون لزافنتور دو تليماك" التي أعطاها عنوانًا مسجوعًا هو "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك"، اقتضاءً بالطريقة التي كانت شائعة في كثير من المؤلفات العربية في العصور المتأخرة. وقد ظهرت هذه الترجمة عام 1867م، وإذا كان عدد من المترجمات القصصية قد صُبّ في أسلوب سليم متين؛ فإن كثيرًا منها لم يعن به العناية اللازمة، فجاءت لغته هزيلة ركيكة مبتذلة لا تخلو من الأخطاء الصرفية والنحوية، وكان بعض المترجمين لا يهتم إلا بتأدية المعنى كيفما اتفق، إذ كلما قرأ فصلًا من الرواية التي يترجمها نحاها جانبًا، ثم شرع يترجم من الذاكرة ناسيًا أشياء ومضيفًا أخرى، ومقدمًا ومؤخرًا حسبما يحلو لذاكرته، ودون أن يراجع ما كتب، إذ كثيرًا ما كان المترجمون يتخذون من ذلك العمل محترفًا لكسب الرزق، فلم يكن لديهم وقت للتدقيق والتجويد، وإحسان التعبير. كما كانوا يحولون الحوار في كثير من الأحيان إلى سرد، مضيفين إليه بعض محفوظاتهم من الشعر العربي مما يناسب الموقف، فضلًا عن أن كثيرًا من الروايات التي عربوها لم تكن من روائع القصص في كثير أو قليل، بل من الروايات الشعبية التي يراد بها التسلية، والتي لا تهتم إلا بالتشويق والمغامرات وحيل اللصوص والمجرمين وما إليه. وإلى جانب القصص المترجم، كانت هناك الروايات والقصص القصيرة العربية المؤلفة، وكانت في كثير من الأحيان، تتأثر خطى القصص الغربي حتّى في موضوعاته، بعد أن كانت في بداءة أمرها تجري في أثر القصص العربي القديم،

وقد مضى بعضهم في هذا الطريق شوطًا طويلًا، حتى إنهم ليقلدون الغربيين حتى في وضع عبارات لتقديم الحوار عقب أقوال المتحاورين، لا قبلها كما يقتضي الأسلوب العربي. وكذلك في الإكثار من الجمل الاسمية اتباعًا أعمى للأساليب الغربية التي لا تعرف من الجمل إلا ما كان اسميًّا، بخلاف اللغة العربية التي تراوح بين الجمل الاسمية والفعلية، وأضحى لدينا قصص رومانسي، وآخر واقعي، وثالث طبيعي، ورابع رمزي وهكذا، وظهر من بين القصاصين عمالقة يمكنهم أن يسامتوا نظراءهم الغربيين بل وأن يتفوقوا على بعضهم كجبران ونعيمة وإبراهيم رمزي وعلي الجارم، وأحمد طاهر لاشين والعقاد براويته الوحيدة "سارة" التي بلغت أفقًا من الإبداع شاهقًا. وإبراهيم المازني، والحكيم، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد سعيد عريان، ومحمود تيمور، ووداد سكاكيني، وبنت الشاطئ، وعلي أحمد باكثير، ويحيى حقي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وعبد الكريم غلاب، ومحمود المسعدي، وعبد السلام العجيل، ويوسف إدريس. وثم تلا هؤلاء جيل جديد لم يستطع التحليق في الآفاق السامقة التي كان يحلق بها ذلك الجيل. بل إن كثيرًا منهم يضاف إلى انحطاط مستواه الفني ضعفًا مخزيًا، ومحزنًا في اللغة، علاوة على مغازلة بعضهم شهوة القارئ بالإسراف في العنصر الجنسي دون أن يكون هناك ما يستدعيه كي يعوضوا بذلك تفاهة موهبتهم، والمرجو أن يعود الأمر إلى سابق عهده فنرى كتابًا قصصيين عربًا من طراز عالٍ مرة أخرى. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 5 الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه.

الدرس: 5 الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه.

معنى الشعر الغنائي وماهيته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه) معنى الشعر الغنائي وماهيته الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه: نبدأ أولًا بتحديد مصطلح الشعر الغنائي، يقول الدكتور "محمد مندور": إن كلمة "غنائي- Lyric " مشتقة من " Lyre " أي: العود، وفي رأيه أن هذا اللون من الشعر كان يتغنى به منذ فجر الإنسانية، سواء عند الأوربيين أو عند العرب، ولست في الواقع أدري الأساس الذي استند إليه الدكتور مندور في الجزم القاطع بأن الشعر الغنائي كان يتغنى به منذ فجر الإنسانية، أي: منذ خلق الله البشر على سطح الأرض، إن ذلك أمر من أمور الغيب التي لا يمكن الحكم عليها إلا على سبيل الظنون والظنون فقطـ. كذلك يفهم مما قال؛ أن كل شعر من هذا النوع كان يتم التغني به في ذلك الزمن، فهل هذا صحيح؟! إننا الآن نرى بأم أعيننا كيف أن أقصى ما يناله الشاعر المحظوظ في هذا المجال، أن يتحمس له أحد المطربين أو الملحنين، فيغني له بضع قصائد رغم سهولة التلحين والغناء الآن، وازدياد الطلب عليه، واهتمام الناس كلهم تقريبًا به، وإقبالهم عليه، وإنفاقهم الكثير في سبيل التلذذ بمتعته. فهل يمكن القول بأن الوضع في فجر الإنسانية كان أفضل مما هو الآن، وأن كل قصيدة تنظم في ذلك الحين كان يتغنى بها؟! ثم أن كلمة " Lyre " ليس معناها العود، بل الهارب الصغير، كذلك في الشعر الغنائي لم يكن هو وحده الذي كانت تغنى بعض نصوصه، بل كان يشركه بذلك الأمر الشعر الملحمي، إذ قيل: إن الشاعر الإغريقي كان يتجول في البلاد، ويحمل آلته الموسيقية منشدًا ملحمته عليها، مثلما كان يصنع الراوي الذي يروي سيرة أبي زيد الهلالي وأمثالها حتى وقت قريب.

بل كان الشاعر الملحمي لينشد الملحمة كلها بهذه الطريقة، بخلاف الحال في القصائد التي لا يغني المغني من أي من دواوينها إلا بعض النصوص ليس إلا، إن حدث أن غُني شيء منها أصلًا، وربما يصح الكلام لو قيل إن كلمة " Lyric " كانت تطلق في بلاد الإغريق على الأغنية التي تغنى على القيثارة أو على الهارب الصغير، ثم توسع في استعمال الكلمة للدلالة على الأشعار التي يمكن أن تغنى لا التي تغنى فعلًا فحسب. وعلى هذا فقد يكون تعريف المصطلح في طبعة سنة 2500 من " Britannica Councile Encyclopaedia" دائرة المعارف البريطانية الموجزة هو التعريف الصحيح، إذ نقرأ أن الشعر الغنائي هو الشعر الذي يمكن غناؤه أو يفترض أنه يمكن غناؤه، على آلة موسيقية كانت في الماضي البعيد -هي الهارب الصغير عادة- أو هو الشعر الذي يعبر عن العواطف الشخصية المكثفة على نحو يوحي بأننا إيذاء أغنية. ولكي نزيد الأمر إيضَاحًا نورد تعريف ( The Penguin Dictionary of literary terms and literary theories- معجم البينجوين لمصطلحات الأدب ونظرياته) لذات المصطلح لما فيه من توازن ووضوح، وبعد عن الحذلقة والإغراب اللذين نجدهما في بعض التعريفات الأخرى. فالشعر الغنائي نوع من القصائد يتميز عن شعر الملاحم والمسرحيات، ويتسم بالقصر حتى إن القصيدة منه لا تزيد طولًا عن بضع عشرات من الأبيات، وغالبًا ما تعبر عن مشاعر فرد ما أو أفكاره على نحو شخصي وذاتي، وهذا اللون من الشعر يستغرق معظم الشعر الموجود في أي أدب.

بعد ذلك ينتقل الدكتور مندور إلى قضية أخرى هي: هل الشعر الغنائي محاكاة أو تعبير عن الوجدان؟ ثم هل هو تعبير عن الوجدان الفردي أو عن الوجدان الجماعي؟ وينتهي أخيرًا إلى أنه تعبيرٌ عن الوجدان الفردي والجماعي على السواء، وإن كان قد عاد فقال عن الشعر الجاهلي إنه قد نشأ مطابقًا مُطابقة عجيبة لنظرية "المحاكاة الأرسطوطاليسية"، فهل نَفهم من هذا أنه يقصي هذا الإبداع مملكة الشعر الغنائي أم ماذا؟. وهذا إن صح أن الشعر الجاهلي كان كله شعر محاكاة، وتصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل، بحيث لا نستطيع أن نقول عنه: إنه تعبير عن الوجدان ذاته، فالشعراء قد وصفوا في دقة حسية بالغة الناقة، والحصان، وحمار الوحش، والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمنة، والأثافي وبعض الآرام والهضاب والدروب، وأعشاب الصحراء. وبالمثل وصفوا المرأة وصفًا حسيًا دقيقًا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي، ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام، وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي، حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس وسيد عزة حسب كلامه نصًّا. والواقع أنّ الشعر الغنائي يمكن أن يكون شعرًا تعبيريًّا أو شعر محاكاة أو مزيج من هذا وذاك، ويُمكن أن يكون شعرًا واضحًا أو شعرًا رمزيًّا يبرز فيه دور الموسيقى والإيحاء لا التعبير المباشر، ويُمكِنُ أن يكونَ شعرًا فرديًّا أو شعرًا يُعَبّر فيه صاحبه عن مشاعر الجماعة وآمالها وآلامها وقيمها، ومخاوفها ومفاخرها، ويمكن أن يكون وجدانيًّا أو واقعيًّا، ويمكن أن يكون واقعيًّا متشائمًا أو واقعيًّا متفائلًا،

ويمكن أن يكون هامسًا أو مجلل النبرة، ويمكن أن يكون تأمليًا أو وصفيًا، ويمكن أن يكون سلطانيًّا أو قصصيًّا، ويمكن أن يكون موضوعيًّا أو ذاتيًّا. ولا تناقض في شيء من هذا الكلام، فالحياة لا تعرف هذه الحواجز المصطنعة، التي تقول: إما هذا وإما ذاك، ولقد رأينا الكاتب نفسه يقرر أن الشعر الجاهلي كان مطابقًا مطابقة عجيبة لنظرية "المحاكاة الأرسطو طاليسية" وهذا شيء مخالف لما قرره قبلًا من أن الشعر الغنائي هو شعر الوجدان. ومع هذا فإننا لا نوافقه على القول بأن شعرنا الجاهلي كان كله أو معظمه شعر محاكاة، إذ فيه وجدان كثير، وهذا الوجدان ليس وجدانًا غراميًّا فحسب؛ لأن الكلام عن الحروب وصف الحال مثلًا يدخل فيه الوجدان كما يدخل في النسيب للمرأة، ذلك أن العواطف والانفعالات الإنسانية ليست مقصورة على ميدان الحب وحده، بل هي أوسع من ذلك مدىً وأكثر تنوعًا. وإن تتابع المدارس الشعرية المختلفة الاتجاهات، والميول والاهتمامات على مدى تاريخ هذا الفن، لهو دليلٌ لا يُصَدّ ولا يرد على صحة ما نذهب إليه، ذلك أن هذه الاتجاهات، لا تكره الشعر على غير طبيعته بل تستعمل إمكاناته الموجودة فيه على سبيل الفعل، أو على سبيل القوة، معتدلة في ذلك أحيانًا ومتطرفة أحيانًا أخرى، ولهذا نرى النقاد والشعراء يختلفون في تعريف هذا الفن تبعًا لتركيزهم على هذه الناحية أو تلك منه. وهذا يفسر لنا تعدد التعريفات التي نجدها مثلًا في ( Encyclopedia of literature and criticism - موسوعة الأدب والنقد) حيث تورد لنا مادة " Lyric" خمسًا من تلك التعريفات عازية كل منها إلى صاحبه أو صاحبته، ويذكر كاتب مادة " Lyric" في (معجم "بينجوين" لمصطلحات الأدب ونظرياته"

أن الشعر الغنائي في مصر القديمة هو أقدم شعر في العالم، إذ يعود إلى نحو2600 قبل الميلاد، ثم يأتي الشعر العبري والإغريقي بعده، وأن هذه الأشعار جميعًا قد نشأت في أحضان الاحتفالات الدينية. وأنا وإن كان الجزء الأول من هذا الكلام يدغدغ مشاعري الوطنية، أرى أنه لا يصح إلا على أساس أن هذا الشعر المصري هـ وأقدم ما وصلنا فعلًا من شعر، أما أن يكون أول شعر غنائي في العالم على الإطلاق؛ فلا أظن أنه يمكن البرهنة عليه، فنحن نعرف أن عمر الجنس الإنساني على وجه الأرض أقدم من ذلك كثيرًا جدًّا، ومن المستحيل أن يبقى البشر قبل التاريخ المذكور صامتين لا يتغنون بما يجيش في قلوبهم، وعقولهم من أفكار وأحاسيس، ولا بما تعرضه أمور الطبيعة على أعينهم آذانهم من صنوف الجمال والمتعة. لهذا فإننا نقبل كلام كاتب المادة عن أقدمية الشعر الغنائي المصري في الحدود التي عيناها. أما أن يكون فن الشعر قد نشأ ضربة لازب في ظلال الاحتفالات الدينية؛ فمن الصعب الموافقة عليه، ذلك أن الدين إنما يمثل جانبًا من جوانب الحياة، مهما تكن ضخامة هذا الجانب، وإلا فهناك أيضًا لذة الحب ومرارة الحزن، وآلام المرض، ونشوة الخمر، وعواصف الحرب وفورة النصر، وانكسارة الهزيمة، والانتشاء بالجمال المبثوث في أرجاء الكون، ومشاعر الحِقْد، والقهر والغيظ، وهلم جرة. وكل واحد من هذه الملابسات أو المشاعر هو في الواقع باعث قوي لنظم الشعر بغض النظر عن تدين الشخص أو عدمه، بل بغض النظر عن إيمانه أو أكفره أصلًا، ولا يعقل أن الإنسان القديم لم يكن يحث بدافع لقول الشعر إلا في أزمان الاحتفالات الدينية فحسب.

أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر.

أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر ومن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر؟ وكثير من النقاد على أن الشعر سابق على النثر، ومن هؤلاء الدكتور "طه حسين" في محاضرته التي ألقاها سنة 1930م، بقاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة بعنوان "النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة"، ثم نشرها بعد ذلك في كتابه (من حديث الشعر والنثر)، وكذلك كاتب الفصل الخاص بفن الشعر من كتاب (التوجيه الأدبي) الذي اشترك في تأليفه طه حسين وأحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، ومحمد عوض محمد، ونشر في بداية الأربعينات من القرن الفائت. والعقاد في فصل عنوانه "الشعر أسبق من النثر" من كتابه (حياة قلم). إلا أنّ الناظر في المسألة يتحقق بكل بساطة أنّ الشِّعر أعقد من النثر، إذ لا يكفي أن يمسك الأديب بالقلم، ويقرر أن ينظم شعرًا، فيفعل، بل لا بد أولًا أن تكون لديه موهبة الشعر، كما لا بد أن يهبط عليه ما يسمى بالإلهام أيًا كانت حقيقة ذلك الإلهام، بخلاف الأمر في كتابة مقالة، أو تأليف قصة مثلًا حيث يكون للتنظيم والإرادة مدخل كبير فيهما. كذلك فإنه إذا كان الأدباء قلة بين البشر؛ فإن الشعراء هم قلة القلة. وينبغي ألا نغفل عن ذكر الحقيقة التي يعلمها كل إنسان، وهي أن قيود الشعر كثيرة وصعبة، فعندنا الوزن، وعندنا القافية، وعندنا قصر البيت الذي ينبغي أن يضع فيه الشاعر فكرته، أو قطعة مستقلة من تلك الفكرة، ويفرغ منها فيه، وهذا أشبه من يحجل في القيود ويمتع بحركات هذه المقيدة من يشاهدونه مع ذلك،

أو من يمشي على حبل في الهواء مع احتفاظه باتزانه وإيهامنا أنه يتصرف بتلقائية وثقة تامين. ومعلوم أيضًا أن الإبداع الشعري بطبيعته قليل، وأن مداه قصير، وحصاده محدود على عكس النثر، ولعلنا لم ننس ما يقال عن الشعراء الحوليين المحككين في الجاهلية، وهم الشعراء الذين كان الواحد منهم يصرف عامه أو حوله كله في نظم قصيدة واحدة من بضع عشرات قليلة من الأبيات وتنقيحها. وسواء صح هذا على حرفيته أو كان تعبيرًا مجازيًّا عن شدة اهتمام تلك الطائفة من الشعراء بتجويد إبداعهم واجتهادهم في إظهاره على أجمل صورة، فإن المغزى واضح في أن الشعر ليس في صورة النثر أبدا، وهو ما عبر عنه الحطيئة مثلًا حين قال: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه ز لت به إلى الحضيض قدمه ... ..... ..... .... ... وكذلك قول الفرزدق مثلًا؛ إنه قد تأتي عليه أوقات يكون خلع ضرسه فيها أهون عليه من نظم بيت واحد من الشعر. وهذا بالتأكيد هو السبب فيما يروى من أن العرب كانت تحتفي بشعارئها، وتحتفل بهم أيما احتفال، مما لم يرد مثيله عن الخطيب أو القصاص، كما أنه هو السبب في أن الشعراء وحدهم كانوا يتصلون في اعتقاد الناس بعالم الجن والشياطين عند العرب، أو بعالم الآلهة عند الإغريق، مما لم يقال شيء منه عن سائر الأدباء. ولقد عرفنا في عصرنا شعراء تحولوا إلى كتابة الرواية أو المقال الأدبي مثلًا، لكننا لا نعرف روائيين أو كتاب مقالات تحولوا إلى كتابة الشعر، إذ الشعر يقوم على

الموهبة -كما هو معروف- بخلاف غيره من فنون الأدب التي يمكن بشيء من الإرادة والاهتمام ممارسة كثير من الأدباء لها، فمن لم تكن لديه تلك الموهبة لن يكون شاعرًا، وإن أمكن في بعض الحالات أن يكون ناظمًا. لكن هل معنى ذلك أن النثر أسبق من الشعر؟ صعب أيضًا القول بهذا، وإن كنت أظن أن الشعر والنثر ظهرا جميعًا في ذات الوقت، فكلاهما أدب من الأدب، كل ما هنالك أن الشعر لا يستطيعه إلا الشعراء، أي: أولئك الفئة من البشر الذين أصبغ الله عليهم عطية الشعر، وأن النثر كان يستطيعه فئات كثيرون منهم. ولسنا نقصد هنا النثر بإطلاق، بل النِّثر الأدبي الذي يتميز بدفء الوجدان، ويحرص مبدعه على توفير الإيقاع والتعبير التصويري ما أمكن، وإلا فالناس كلهم يستطيعون كما كان يظن "مسيو جوردان" في مسرحية "موليير" ( Le Bourgeois gentilhomme) أن يكونوا ناثرين مادام النثر هو أن يتكلم الإنسان بغير الشعر حتى لو كان هو الكلام اليومي الذي لا صلة بينه وبين الأدب والفن، إذ كان تعليق "مسيو جوردان" حين عرف أن اللغة إما نثر، وإما شعر لا تخرج عن ذلك أبدًا، أنه قد ظل إذًا أربعين سنة كاملة يتكلم النثر دون أن يدري. والحق أن لو كان القائلون بسبق الشعر على النثر، يقصدون النثر الفكري، والعلمي لا النثر الأدبي، لوافقناهم على ما يقولون، فهذا الضرب من النثر يحتاج إلى أن تكون الأمة قد قطعت مرحلة طويلة من التطور العقلي والفكري، قبل أن تظهر تلك الكتابة النثرية لديها، أما إذا أريد النثر الفني فلا مشاحة في

مواكبته الشعر إن لم يسبقه ولو اعتباريًّا على الأقل، وإن كنا نتحرج من القول بسبق النثر الفني على الشعر؛ لأن النثر الفني والشعر كليهما أدب. كُل ما في الأمر أن الله قد يسر كل أديب من الأدباء لما خلق له، فهذا شاعر، وهذا قصاص وهذا كتاب الرحلات، وهذا مؤلف مقالات وهلم جرة، وقد أكد كاتب فصل الشعر في كتاب "التوجيه الأدبي" أن الشعر أقدم دروب الأدب جميعًا، أما الأدب المنثور فهو أحدث من الشعر كثيرًا، وهو يستشهد بقصائد "هوميروس" التي كانت -حسب قوله- تنشد ويتغنى بها قبل أن يُؤلف كتاب أو يظهر أثر فني. وكذلك بالشعر الجاهلي الذي كان -كما قال- ينشد في المجامع والمحافل، وتتداوله الرواة وتتناقله الأفواه، وله في الحياة الاجتماعية آثار واضحة قوية، ثم نبحث عن نثر جاهلي فلا نكاد نجد له أثرًا، فإذا أمعنا في البحث ألفينا نتفًا من سجع الكهنة والحكماء يشك كثيرًا من صحة نسبتها إلى قائليها، بل إلى العصر الجاهلي نفسه، ثم هي فوق هذا ليست بالأثر الأدبي الخطير. ثم يمضي الكاتب فيضرب مثلًا ثالثاُ من الأدب الإنجليزي، حيث نجد أن أقدم الآثار الأدبية هي القصائد التي تصور أعمال "بيولف" وترجع إلى القرن السادس أو السابع الميلادي، وبالمثل فقصائد "تشوسر" في قصص "كانتربري" هي أجل الأعمال الأدبية لدى الإنجليز المحدثين -حسبما ورد في كلامه- وهو يعزو هذه الظاهر إلى أن الأدب المنثور يتطلب معرفة بالكتابة، والكتابة اختراع متأخر في تاريخ كل أمة. بيد أنه من المفيد هنا الإشارة إلى أن "تشوسر" صاحب قصص "كانتربري" كانت يكتب النثر أيضًا ترجمة وتأليفًا، بل إن له كتابًا عن "الأسطرلاب" ألفه لابنه

الصغير "لويس" الذي كان يدرس حينها في أكسفورد، بما يفيد أن الكتابة النثرية كانت متقدمة في عهده حتى لتوضع بها المؤلفات العلمية أو شبه العلمية، وهذا أقوى رد على استشهاد الكاتب بهذا الأديب الإنجليزي لتعضيض رأيه في سبق الشعر على النثر. بل إن "تشوسر" في بعض حكاياته متأثر بقصص " بوكاشيو " وهي قصص نثرية لا شعرية، ليس ذلك فحسب، بل إن إحدى تلك القصص (وهي القصة الأخيرة) قد كتبت نثرًا، وهذا رد آخر على دعوى الكاتب، ومن معاصري "تشوسر" يمكن أن نذكر "جون ويكلف" المصلح الإنجليزي المشهور، وصاحب الخطب الكنسية المتقدة حماسًا، والخطب أحد فنون النثر، ولدينا قبله المؤرخ " جيفري أوف مونماوث " ابن القرن الحادي عشر، وعندنا أيضًا ناثرون في اللغة "الأنجلو ساكسونية" السابقة على الإنجليزية. أما بالنسبة إلى "هوميروس" فمن أين يا ترى استمد موضوعاته التاريخية الخرافية التي أدار عليها ملحمتيه المعروفتين؟ أليس مما كان الناس قبله وفي عصره يرونه نثرًا في مجالسهم ومنتدياتهم قبل أن يحولها هو شعرًا؟ أم ترى الكاتب يقول: إنهم لم يكونوا يتحدثون طوال حياتهم إلا بالشعر المنظوم؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه، ذلك أن تأخر معرفة الأمم بالكتابة والقراءة ليس بمانع من ظهور الإبداع النثري، إذ إن البشر لا يملكون فقط أيديًا للكتابة، بل قد زودهم الله بأفواه للكلام أيضًا. وإذا كانوا في فترة من فترات تاريخهم لا يستطيعون أن يكتبوا، فإن هذا لا يمنعهم من الإبداع النثري شفاهة، أترى الأمم الجاهلة بالقراءة والكتابة لم تكن تخطب مثلًا أو تحكي قصة أو تضرب الأمثال؟ فإن قيل: إنه لم تصلنا تلك الإبداعات

النثرية، فمن السهل تفسير ذلك بأن الذاكرة لا تقدر على الاحتفاظ بالنصوص النثرية، مقدرتها على الاحتفاظ بنصوص الشعر، لما فيه من أوزان وقواف تساعد على ذلك الحفظ كما هو معلوم. و"طه حسين" وهو واحد ممن اشتركوا في وضع الكتاب الذي نحن بصدده، إن لم يكن هو كاتب الفصل الخاص بالشعر، يقول بوجود خطب جاهلية تجمع بين الإقناع والإمتاع، ومن ثم كانت تتسم بالجمال الفني، كل ما هنالك أنها لعدم شيوع الكتابة بين العرب آنذاك لم تصلنا؛ لأنها لم تعتمد على الوزن والقافية، فكان من الصعب على الذاكرة أن تحتفظ بها احتفاظها بالشعر، وهذا الكلام موجود في محاضرته "النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة" المنشورة في كتابه (من حديث الشعر والنثر). ثم إن المنطق يقول بما قلناه من أن الأمر كله أدب، ثم بعد ذلك يكون هذا شعرًا، وذاك قصصاّ مثلًا، ولدينا في الجاهلية إلى جانب الشعر المثل والقصة والخطابة، وسجع الكهان، لا الشعر وحده فقط، أما إذا قمنا بالشك في تلك الفنون فقد قام " ديفيد صمويل مرجليوث " المستشرق البريطاني أيضًا بالشك في الشعر الجاهلي كله على بكرة أبيه، كما تبعه "طه حسين" فأعلن ارتيابه في معظم ذلك الشعر على الأقل إن لم يكن فيه جميعًا، أي أن هذا باب لا يمكن إغلاقه في وجه محبي الجدل، المولعين بالخصام. ثم إننا لا نقول بأن كل ما وردنا عن الجاهلية من نثر قد آتانا على صورته الأصلية، إذ إن الذاكرة البشرية لا تستطيع مهما كانت قدرتها على الاستيعاب، والحفظ كالذاكرة العربية قبل الإسلام، أن تحفظ كل شيء لا تخرم منه حرفًا، حتى لو كان المحفوظ شعرًا تساعد موسيقاه، وقلة نصوصه على المحافظة عليه أفضل من سواه، فما بالنا بالنصوص النثرية التي تخلو من ذلك العامل المساعد.

أما قوله: إن الشِّعر في صدر الإسلام كان أغزر من النثر، فماذا تراه فاعلًا أمام أحاديث النبي -عليه السلام- وخُطبه وهي تكافئ وحدها عدة دواوين شعرية من حيث الحجم، رغم أنها لا تغطي كل ما قاله النبي -عليه السلام- في هذا الصدد كما هو معروف، وكذلك لا ينبغي أن ننسى خطب الخلفاء والولاة والقادة العسكريين، والعلماء وأئمة المساجد، وما كان القصاص يروونه من قصص في المساجد وغير المساجد. وكتاب (أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها)، الذي سجل فيه صاحبه ما كان يقع بينه وبين معاوية بن أبي سفيان من حوارات تاريخية، وكان معاوية قد استقدمه؛ ليستمع منه أخبار ملوك اليمن. ويذكر ابن النديم أن عبيدة وفد على معاوية، فسأله عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان قد استحضره من صنعاء لليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يدون ذلك وينسب إلى عبيد. وعندنا فضلًا عن هذا ما تركه لنا عروة بن الزبير، والزهري، وأبان بن عثمان، وغيرهم من كتابات في السيرة النبوية، ولا ننسى قبل كل هذا كتاب الدواوين، وما كان يحضرونه من رسائل، وبيانات رسمية، وهذا كله ليس إلا أمثلة على ما وراءه. كذلك إن قلنا: إن الشعر أسبق من النثر الفني، فمعنى هذا أن من كانوا يريدون أوان ذاك أن يعبروا عن مشاعرهم، ويصوروها بصورة فنية، إما أن يكونوا كلهم شعراء، وأما أن يتكلم الشعراء وحدهم، ويخرس من لا يتصفون بموهبة الشعر، وكِلا الأمرين لا يمكن أن يكون، وأما إن مضينا خطوة أخرى وشبهنا الشعر بالطوابق العلوية من البيت، والنثر بالطابق الأرضي منه.

فلنا أن نقول حينئذ: إنه لا بد من إقامة الطابق الأرضي أولًا حتى يمكننا بناء الطوابق الأخرى، وقد قال بذلك الرأي بعض الباحثين كـ" MARGOLIOUTH " الذي أكد في دراسته المشهورة المسماه بـ" The Origins of Arabic Poetry " وهي الدراسة التي شكك فيها في وجود الشعر الجاهلي كله، أن السجع العربي قد ظهر أولًا قبل أن يظهر الرجز، وهو أبسط ألوان النظم، ثم تأتي في النهاية قصائد الشعر كما نعرفها في الأوزان الأخرى الأكثر تعقيدًا، أي أن النثر عنده سابق على السجع، وهذا سابق على الرجز، وذاك سابق على سائر أوزان الشعر، وقد قال "بروكلمان" من قبله بذات الرأي، ويجد القارئ كلام المستشرق الألماني في مقدمة الفصل الثالث من الجزء الأول من كتابه (عن تاريخ الأدب العربي) وهو الفصل المسمى "قوالب الشعر العربي". كذلك لا بأس من إعادة القول بأننا في الشعر أمام فن أدبي أكثر تعقيدًا وقيودًا من فن النثر، فكيف يكون ذلك الفن أسبق من تلك الفنون الأكثر سهولة، وفي بداءة الفصل الأول من الباب الثاني من كتابه (الأدب فنون) يؤكد الدكتور "عز الدين إسماعيل" أيضًا أسبقية الشعر على النثر إسنادًا إلى "سام بيولوجي" ونفسه، إذ الشعر تعبير عن الانفعالات كما يقول، على حين أن النثر هو وسيلة التعبير عن الأفكار. وإنّ الإنسان ليتساءل: ألم يكن الإنسان القديم يفكر حتى يقال: إنه ابتدع الشعر أولًا وظل لا يعرف غير الشعر إلى أن عرف التفكير فابتدع النثر بدوره للتعبير عنه؟ ثم ألا يقبل النثر أيضًا أن يكون أداة للتعبير عن الانفعالات؟ فماذا يصنع من لا يستطيعون الشعر إذًا؟ أيكبتون انفعالاتهم ويتخلصون منها فتؤذيهم في نفوسهم أذى شديدًا؟ ثم أليس هناك الشعر التعليمي، وهو يعبر عن الأفكار؟.

عمر الشعر العربي.

ولقد فهمنا أن يقال: إن الشعر مرتبط بحاجة نفسية رغم تأكيدنا أن النثر هو أيضًا مرتبط بهذه الحاجة، كما أن الشعر مرتبط بالأفكار مثلما النثر مرتبط بها، لكننا لا نفهم كيف يكون الشعر مرتبطًا بحاجة الإنسان البيولوجية؟ أتراه يؤكل؟ أتراه يشرب؟ أتراه يساعد على التخلص من فضلات الأكل والشرب مثلًا؟ فكيف يقال: إنه يقوم بحاجة الإنسان البيولوجية إذًا؟ والكاتب ذاته لم يوضح ماذا يقصد بهذا بل ألقى كلمته، ومضى وكأنها مسألة بديهية لا تحتاج إلى توضيح أو حجاج رغم أنها بكل تأكيد ليست كذلك. عمر الشعر العربي كذلك من القضايا أيضًا التي تهمنا أيضًا في هذا السياق "عمر الشعر العربي": يقول الجاحظ في كتابه (الحيوان): "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه "امرؤ القيس بن الحجر" و"مهلهل بن ربيعة"، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام". لكن الجاحظ لم يقدم دليلًا هذا الذي قال، إذ كيف يمكننا الاقتناع بأن الذي مهد السبيل للشعر هو امرؤ القيس والمهلهل بما يعني أنهما أول من قالا الشعر من العرب، وأن شعرهما من ثم يتسم بما يتسم به أول كل شيء، من البدائية وقلة الفن والسذاجة بالنسبة لما جاء بعده، على حين أن ما خلفه لنا "الملك الضليل" من شعر سواء من ناحية المقدار أو من ناحية القيمة الفنية، حتى لقد جعلوه أميرًا للشعراء الجاهليين، يكذب ذلك تكذيبًا شديدًا.

وعلى أية حال فهناك أشعار تروى على أزمان أبعد كثيرًا من هذه المدة التي حددها الجاحظ، كتلك التي تُنسب لعاد وثمود مثلًا، صحيح أن ابن سلام في مقدمة كتابه (طبقات الشعراء) قد نفى أن تكون مثل تلك الأشعار حقيقية، إلا أنّ الحُجّة التي استند إليها في ذلك النفي ليست بالحاسمة، ذلك أنه اعتمد فيها على ما جاء في القرآن الكريم عن أولئك القوم من أنهم لم تبق منهم باقية، وهو ما أدى به إلى التساؤل قائلًا: إذا كانت عاد وثمود قد استؤصلتا كما جاء في القرآن، فمن الذي أدى لنا تلك الأشعار يا ترى؟. لكن فاته أن القرآن لم يقل إنهم جميعًا استؤصلوا، بل الذين استؤصلوا منهم هم الكافرون فقط، كما جاء في الآيات من (50 - 68) من سورة هود، كذلك من الممكن جدًّا أن يكون غيرهم من العرب ممن كانوا يحفظون تلك الأشعار هم الذين أدوها لنا، ولست أقصد بذلك أن هذه الأشعار وأشباهها صحيحة بالضرورة؛ فليس ذلك همي هنا، بل كل ما أريد أن أوضحه هو أن الحجة التي ساقها "ابن سلام" لا تستطيع أن تحسم المسألة، وبخاصة أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون عاد وثمود قد قالوا شعرًا، ولا أن يكون ذلك الشعر قد بقي تلك المدة التي تفصل بينهم وبين الإسلام، إذ هي ليست بالمدة الطويلة، فها نحن أولاء ما زلنا نهمتم بأشعار الجاهلية التي يقر بها الباحثون، ونقرؤها وندرسها، ونحفظ كثيرًا من نصوصها رغم انصرام كل هاتيك القرون التي تبلغ ال 1600 من السنين. وكان "ابن سلام" يظن أن عادًا وثمود كانتا قبل زمنه بآلاف السنين، وأنه لم يبق منهما شيء، لكن ثمود لم يكن يفصل بينها وبين الإسلام في الواقع أكثر من ألف سنة أو أقل، إذ يعود تاريخ الثموديين إلى المسافة الزمنية الممتدة من قبل الميلاد

بعدة قرون إلى ما بعده بفترة، وكانوا يسكنون مدائن صالح، وما حولها، وجاء في القرآن الكريم أنهم قد أخذتهم الرجفة، إلا أنهم رغم هذا قد خلفوا لنا كثيرًا من النقوش في بلادهم وخارج بلادهم، مما يدل على أن فهم ابن سلام للآية الكريمة الخاصة باستئصالهم لم يكن فهمًا دقيقًا، كذلك اللغة التي كتبوا بها نقوشهم لا تختلف عن العربية الفصحى كما نعرفها اللهم إلا فيما لا يقدم، ولا يؤخر. وبالإضافة إلى ذلك فقد تنبه الباحثون إلى أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون أول ما نظمته العرب من أشعار بل لا بد أن تكون قد سبقته أشعار أخرى على مدى زمني طويل، حتى استوى الفن الشعري على سوقه. أما إلى أي مدى يمتد هذا الزمن في الماضي بالضبط، فعلمه عند الله، إذ لم يستطع حتى الآن أي باحث الإتيان بما يشفي ويكفي في هذا السبيل. وهناك من الباحثين من يرجع الشعر العربي إلى ما قبل الإسلام بزمن كبير، فمثلًا يشير " La poésie " في كتابه ( arabe anté - islamique) " طبعة باريس، سنة 1080م، إذ يتحدث المستشرق الفرنسي عما كتبه "سوزومين" المؤرخ الإغريقي الكنسي من أهل القرن الخامس الميلادي، من أن إحدى ملكات العرب في القرن الرابع قد انتصرت على القوات الرومانية الموجودة في فلسطين وفينيقيا، فأخذت الرعية تحتفل بهذا الانتصار مرددة الأغاني الشعبية، وإن لم يصلنا من ذلك شيء ولو عن طريق الترجمة، وهو ما أسف له " poésie ". ومعنى هذا لديه أن هناك شعرًا عربيًّا يعود إلى القرن الرابع الميلادي، أي: أن الشعر الجاهلي لا يعود إلى ما قبل الإسلام بقرن أو قرن ونصف فقط كما كنا نردد، بل لا بد أنه امتد إلى ما وراء القرن الرابع نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يكون

العرب قد وصلوا إلى نظم مثل تلك الأغاني إلا بعد أن كان فن الشارع قد نضج عندهم تمامًا. وعند الدكتور "عمر فروخ" أن الشعر الذي وصل إلينا من الجاهلية يمثل دورًا راقيًا لا يمكن أن يكون الشعر قد بلغ إليه في أقل من ألفي سنة على أقل، غير أنه لم يصل إلينا من ذلك الشعر الأول شيء، وهذا موجود في كتابه (تاريخ الأدب العربي) في الجزء الأول. أما من ناحية التأثير والتأثر في ميدان الشعر الغنائي، فمثلًا نرى أن عدد البحور الشعرية التي كان ينظم عليها الإيرانيون القدماء قصائدهم كان محدودًا، إذ لم تكن تزيد عن بضعة أبحر تشبه بحور الهزج، والرجز والمتقارب، والدوبيت العربية، إلا أن الأمر اختلف بعد الإسلام وانتشار اللغة العربية وآدابها في بلادهم، فقد رأيناهم ينقلون جميع الأوزان العربية لأشعارهم، مع اختلاف مساحة انتشار كل منهما هنا عنها هناك، فعلى حين يشيع في الشعر الفارسي بحور الهزج والرمل، والخفيف، والمتقارب، نرى أن الطويل، والكامل، والوافر والسريع والبسيط، والمتقارب هي أشيع البحور في شعر العرب. وهناك القافية أيضًا، وقد أخذها الشعر الفارسي من نظيره العربي، كما أن كثيرًا من الألفاظ والصور البيانية قد انتقلت من الشعر العربي إلى الفارسي، وكان هناك رأي يقول بأن الشعراء الفُرس القدامى لم يكونوا يعْرِفُون الأوزان في نظم قصائدهم، بل كانوا ينظمونها مطلقة من الأوزان والتفاعيل، ثم نقلوا هذا عن العرب بعد الإسلام، إلا أنه ثبت أن الأمر خلاف ذلك، وأنهم كانوا يعرفون بعض الأبحر حسبما مر آنفًا.

وعلى الناحية الأخرى رأينا بعض الشعراء العرب يدخلون في أشعارهم ألفاظًا فارسية ككقول أحدهم: وولهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجر قفد بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسومونني مردا وما أنا والمرد والذي يفسره دكتور "محمد غنيمي هلال" بأن هناك في الغالب تحريف من الناسخ جعله يكتب "يسومونني" بدل من "يسمونني"، ويكون المعنى إذًا هو أنهم حين رأوه قالوا هذا رجل؛ لأن "مرد" معناها عندهم رجل، على حين ظن هو أنهم يظنونه واحدًا من المرد -أي: الغلام الأمرد. ومن شواهد ذلك أيضًا قول "العماني الشاعر" في مدحه لهارون الرشيد: لمّا هوى بين غياض الأُسْدِ ... وصار في كفِّ الهِزَبْر الوَرْدِ آلى يذوق الدَّهْرَ آبِ سَرْدِ ... ...... ..... ...... ..... أي: حلَفَ ألّا يذوقَ الماءَ البارِدَ أبد الدهر، وهو ما أرجعه الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) هو أن الأعرابي قد يحب أن يتملح بإيراد شيء من كلام الفارسية في قصائده. وهناك الموشحات ذلك الجنس الشعري الذي اشتهرت به الأندلس، وكانت تدور في كثير من نماذجها حول الغزل، كما كانت تخرج عن النظام العروضي والقفوي التقليدي الذي يجري على وتيرة واحدة ووزنًا وقافية من أول القصيدة إلى نهايتها حسبما هو معروف، والمعروف أن الموشحات تنتهي بما يسمي "الخرجة"، وكانت الخرجة تستعمل في كثير من الأحيان كلمات من اللغة الأوربية من أهل البلاد، فهذا تأثر من جانب الموشحات باللغة الأعجمية التي كان يتكلمها سكان الأندلس من أصل أوروبي.

ولكن من الناحية الأخرى نجد شعراء " التروبادور " قد تأثروا بالموشحات تأثرًا شديدًا بعيد المدى سواء في مضمون قصائدهم أو في نظامها الموسيقي، وكان شعراء التروبادور يعيشون في بلاط الملوك والأمراء، ويتغنون بالحب على نحو يذل فيه المحب لمحبوبته، ولا يجد في ذلك ما ينال من عزة نفسه. وقد لوحظ أن شعراء "التروبادور" يبنون قصائدهم في المتوسط من سبع مقطوعات كما يفعل الوشاحون، وهو العدد الغالب على الموشحة، كذلك نجد في قصائد شعراء "التروبادور" ما يقابل المطلع والغصن والقفل في الموشحات، كما أن المصطلح الذي يطلق على مجموع الغصن والقفل معًا هو البيت، بالضبط مثلما هو الحال في هذه الموشحات. ثم إن نظام القافية في شعر شعراء "التروبادور" يسير على نفس المنوال الذي تسير عليها قافية من ذلك الفن، وبالمثل يقابلنا في غزل شعراء التروبادور شخصية الرقيب، والواشي والعاذل والحاسد، والجار، وكذلك الرسول الذي يستخدم في مهمته خاتمًا، كما في الموشحات فضلًا عن استعمال ضمير المذكر للحبيبة في كثير من الأحيان. وهناك محاضرة على جانب كبير من الأهمية ألقاها عام1981 م في ندوة بكلية الآداب جامعة الخرطوم، دكتور "عبد الله الطيب" عن "أثر الأدب العربي في شعر تي إس إليوت" وتتلخص فكرتها في أن الشاعر الإنجليزي المعروف قد تأثر في شعره، وبالذات في أشهر قصائده وهي "الأرض خراب" بالشعر الجاهلي في وقوفه على الأطلال الخربة المقفرة، رغم عدم وجود أي ذكر للعرب والمسلمين في التعليقات التي ذيَّل بها "إليوت" قصيدته، في الوقت الذي كان حريصًا على الإشارة إلى كل ما أخذه من هذه الأمة أو تلك، أو من هذا الكتاب المقدس أو

ذاك، وهو ما أثار الدكتور الطيب، ودفعه إلى تقصي البحث في تلك المسألة، إذ عزز عليه -حسبما فهم- أن يتجاهل "إليوت" ثقافة العرب والمسلمين كل هذا التجاهل، وكأنها لم تكن إحدى دعائم النهضة الأوربية. ورأي الدكتور الطيب أن "إليوت" قد استوحى الروح العامة لقصيدته من معلقة "لبيد بن ربيعة"، ذلك أن الشعر الإنجليزي من "بريمستون"، "بريمستون" دائمة المطر والخضرة فلا شأن له إذًا بالأرض الخراب، اللهم إلا إذا كان قد قرأ مُعَلّقة "لبيد" التي يبدأ صاحبها كلامه بوصف بعض المواقع التي أصبحت خربة مقفرة، بعد أن غادرها أهلوها، بل إنه في الصورة التالية من القصيد المشار إليها " april is the cruelest month breathing relax " إنما يتابع لبيدًا في تصوره للربيع الذي يسقط فيه المطر، ويزدهر النبات مثلما يتابع كذلك وصف فصلي الصيف والشتاء. وعلى نفس الشاكلة يرى الدكتور الطيب أن الشاعر الإنجليزي يحتذي امرأ القيس أيضًا حتى في الواقعة الماجنة التي ذكر فيها أنه دخل الخضر على عنيزة، فاشتكت جرأته، وتهوره وحذرته أنه إذا لم يكف عن عبثه ذاك، فإنه مرجلها عن بعيرها عما قليل. ولم يكتف الأستاذ الدكتور برصد هذه التشابهات بين "إليوت" وبعض الشعراء العرب الجاهليين، بل مضى فتحدث عن ترجمة المعلقات قبل "إليوت" إلى الإنجليزية على يدي "السير ويليام جونز" الذي لم يكتفِ بالترجمة بل صدر كل معلقة منها بمقدمة تحليلية، كما كتب دراسة بالفرنسية عن لبيد وامرئ القيس وغيرهما من شعراء العرب والمسلمين، فوق ما وضعه من مؤلفات عن ديانة الهندوس، والمقارنة بينها وبين الإسلام.

ومن شأن هذه الكتابات أن تلفت انتباه "إليوت" الذي كان مهتمًا بـ " sense cretianot" لغة الهندوس، الذي كان يتعلق بها، وأي شيء يتعلق بها أشد مما كتبه "جونز" في المقارنة بين ديانة الهندوس والدين الإسلامي، علاوة على أن "إليوت" كان يتردد على ذات المكتبة التي تضم بحوث جونز في الأدب العربي، وترجمته للمعلقات. بيد أنه رغم ذلك كله كان حريصًا على إبراز أصالة فكره، ومصدر إلهامه، وأنه لا يدين العرب والمسلمين بشيء، انطلاقًا من التعصب الديني والقومي لديه، حتى لقد تجاهل عن عمد الإشارة إلى اثنين من الشعراء الإنجليز الذين تأثر بهم تأثرًا لا يمكن إغفاله وهما " Walter de la Mare " و " wazwears " وذلك إمعان منه في التنكر لفضل العرب إذ أن كل من هذين الشاعرين قد ذكرهم في الصورة التي أخذها "إليوت" عنه. بل إنه إمعان منه في التضليل والتجاهل قد أشار إلى أنه إنما أخذ صورته التالية أن " Dry stons gives no Sound Of Water " من سفر حزقيال، رغم أنها لا وجود لها في السفر المذكور بل في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74). وواضح من التشابه بين النصين. هذا ما جاء في كتاب (فصول في الأدب المقارن) للدكتور "شفيع السيد"، وقد عَلّق الدكتور شفيع بأنه ينبغي أن تكون هذه المحاضرة، وما جاء فيها عن "إليوت" وإمكان تأثره في شعره بمصادر عربية وإسلامية، منطلقًا لمراجعة مسلماتنا عن كثير

من الشعراء الأوربيين، فلعلهم قد تأثروا بتراثنا وآدابنا، على أن يكون الفيصل في هذا كله هو التأكد من وقوع مثل ذلك التأثر فعلًا، لا القفز بمجرد التشابه إلى القول بالتأثير دون برهان. وهذا كلام متزن تمام الاتزان، إلا أنه لا ينفي عن محاضرة الدكتور الطيب أنها من الأدب المقارن في الصميم، إذ ليس بلازم أن تكون هناك صلة بين الأدبين أو النصين أو المبدعين اللذين نريد أن ندرسهما دراسة مقارنة كما تشترط المدرسة الفرنسية بوجه عام، بل يكفي مثلًا أن نلمح فيهما تشابهًا أو تناقضًا أو ما إلى ذلك، مما من شأنه أن يبعثنا إلى القيام بمثل تلك الدراسة، وهو ما فعله هنا الدكتور الطيب، وسواء بعد ذلك أثبت مثل ذلك التأثير أم لا. وأخيرًا فلعل من المفيد أن يرجع القارئ إلى ما جاء عن مصادر القصيدة "الإليوتية" في المقال الخاص بها في الموسوع ة المشباكية " wikipedia" وعنوانه " The West Land" ولسوف يرى بنفسه صحة ما نبه إليه الدكتور الطيب من أنه لا توجد أدنى إشارة إلى أي شيء عربي أو إسلامي بين تلك المصادر، بل إن في نهاية الكلام إشارة إلى أن "إليوت" قد استوحى فكرة "الأرض الخراب" من الدراسة التي قامت بها " Jessie Weston " في كتابها " From Ritual to Romance " عن نفس الموضوع في الأساطير الكلتية. أما بالنسبة لتأثر شعرنا الحديث بالشعر الغربي، فقد لاحظ "جبرا إبراهيم جبرا" مثلًا أن الأساطير والإشارات التي انطوت عليها "الأرض اليباب" مثل فيلبس الفنيقي، وتموز، والملك الصياد) وغيرها من الأساطير وجدت سبيلها إلى أعمال الكتاب العرب؛ لما فيها من أصل محلي كان عاملًا في تقريب أرض "إليوت" من محاولتهم الشعرية والنسج على منوالها.

وإن لم يتجاوز الأمر السطح الخارجي في رأي "عمر أزراج" الذي شرح ذلك في الجزء الأول من مقال له بعنوان "حول تأثير إليوت على الشعر العربي- السياب وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش كنماذج"، قائلًا أن عدم تفاعل النقاد والشعراء العرب الحيوي والإبداعي مع شعر "إليوت" يعود إلى عدة أسباب بعضها يتصل بشعر "إليوت" ومرجعياته الفلسفية والرمزية والأسطورية والتاريخية، وبعضها يتصل بالترجمة العربية، وبالنقد العربي في صلتهما بإنتاج "إليوت" الشعري والنقدي والفلسفي، إذ من المعروف أن شعر "إليوت" لم يكن سهلًا للقارئ الأوربي نفسه، ولا للشعراء والنقاد والدارسين الغربيين أنفسهم أيضًا سواء في الماضي أو في الحاضر، وأن صدور شعر "إليوت" عن مرجعيات الفلسفة و"المثيولوجيا" والتاريخ، وعن المصادر الشعرية الغربية القديمة والمختلفة والديانات وغيرها من المرجعيات، هو العائق أمام التفاعل الأفقي المعتاد في الثقافة العربية من أشعار "إليوت". وإلى جانب ذلك؛ فإن الترجمات المتوفرة منذ عدة عقود إلى الآن عن شعر "إليوت" هي تَرجمات أفراد، وغالبًا ما تكون ناقصة وأحيانًا خاطئة، وأكثر من ذلك فإن الذين ترجموا بعض أعمال "إليوت" لم يعملوا مع هذا الشاعر عن قُرب حينما كان على قيد الحياة على تذليل الصعوبات التي تعترض ترجمة هذا النص أو تلك الكلمة أو تلك الإشارة الرمزية، علمًا أن مثل هذا العمل المشترك والجماعي هو الذي يضمن إنجاز الترجمة الأمينة والمطابقة للأصل كما قال. ومثالًا على تأثر بعض الشعراء العرب المحدثين بـ"إليوت" نسوق ما ذكره الدكتور "شاهين" في كتابه (تي إس إليوت وأثره في الشعر العربي، السياب، صلاح عبد الصبور ومحمود درويش- دراسة مقارنة) من أن "قصيدة لحن" الموجودة في

ديوان صلاح عبد الصبور "الناس في بلادي "إليوتية" في مظهرها" موضحًا أن قصائد إليوت التي تأثر بها عبد الصبور هي صورة سيدة، وأغنية العاشق ألفريد بروفروك، والرجال الجوف. ومما ذكر دكتور شاهين أيضًا أن الشاعر العراقي "بدر شاكر السياب" فد أفلت من سطوة هذا التأثير؛ لتشكل أنشودته -يقصد أنشودة المطر- صورة قائمة بذاتها، ومستقلة تمامًا عن المصدر، رغم كل ما في أنشودته من ظلال استشفها من رائعة "إليوت" "الأرض اليباب"، وقد قام المؤلف بالمقارنة بين قصيدة أنشودة المطر، وبين الأرض اليباب مركزًا في أثناء هذا على المقاطع التي يلاحظ فيها تأثر السياب بـ"إليوت"، مستنتجًا رغم ذلك أن السياب لم يحاك "إليوت" محاكاة خارجية شكلية، بل كانَ تأثره يتميز بأصالة تغني القارئ عن الرجوع إلى مصدر التأثير من أجل تذوق النص الجديد. وعن قصيدة " أنشودة المطر" للسياب أيضًا، وتأثرها بشعر "إليوت" روحًا وألفاظًا، يقول "عبد المنعم عبد الله عجب الفيا" في مقال له عنوانه "مأساة تموز -دراسة في تأثير إليوت على شعر السياب": لقد اتخذ السياب في هذه القصيدة من سيمة المطر ناظمًا جماليًّا، أو معادلًا موضوعيًا حسب المفهوم "الإليوتي" للتعبير عن الجفاف المادي والمعنوي، ورغبة منه في إحياء الموات الذي يسود العالم، وذلك مثلما فعل "إليوت" حينما وظف ثيمة الماء للتعبير عن ذات الفكرة في الأرض الخراب، لذلك نجد أن مفردة (مطر) تكررت في قصيدة السياب كثيرًا، وقد وردت أحيانًا في صيغة لازمة موسيقية توالت في إيقاع منتظم "مطر- مطر- مطر" أكثر من مرة. وبهذه الطريقة التي تكررت به مفردات "ماء" في قصيدة إليوت، فقول السياب:

دغدغ صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر مطر .... مطر .... مطر ... وفي الواقع محاكاة لقول "إليوت" بالقسم الخامس والأخير من الأرض الخراب المُسَمّى "ماذا يقول الرعد" حيث يصور "إليوت" رحلة البحث الصحراوية عن الماء بمعناه المادي والمعنوي، تصويرًا رائعًا تتقطع له الأنفاس: "لا ماء هنا وإنما صخر" لو كان هنالك فقط صوت الماء، حيث تغرد عصافير السمان على أشجار الصنوبر طك- طك- طك، "قطرة .. قطرة .. قطرة"، لكن لا ماء. حتى الخليج الذي يتكرر ذكره في قصيدة السياب أكثر من مرة، والذي صار لا يهب سوى الموت وعظام الغرقى، فيه إشارة إلى خليج الدردنيل الذي غرق فيه "جان فيردنان" صديق "إليوت" في الحرب العالمية الأولى، وقد وردت إليه الإشارة في قول إليوت في الأرض الخراب: I think we are in rats' alley Where the dead men lost their bones " أفكر أنا في ممر الجرذان حيث فقد الموتى عظامهم" ويأتي ذكر الخليج في أنشودة المطر في مقطع شعري يتكرر من نحو ثلاث مرات في صورة لازمة موسيقية، حيث ينادي الشاعر الخليج بقوله: يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار فيرتد إليه صدى النداء خاسئًا حسيرًا:

يا خليج يا واهب المحار والردى مستبدلًا كلمة لؤلؤ بالردى، إن الموت بالماء أو الموت غرقًا هو عنوان الجزء الرابع من "الأرض الخراب"، ويمثل هذا العنوان خاصية من خصائص "إليوت" الأسلوبية الساخرة، وهي توظيف المفارقة كقيمة جمالية للتعبير عن رؤاه الشعرية، فالماء العنصر الأساسي والوحيد في انبعاث الموات، وإعادة الحياة إلى الأرض الخراب، يتحول إلى عامل من عوامل هذا الموات نفسه، ويعبر الجزء الرابع الموت بالماء أقصر أجزاء قصيدة "إليوت"، وقد خَصّصَه "إليوت" للحديث رمزًا عن صديقه "جان فردينال" الذي مات غرقًا في خليج الدردنيل، وذلك من خلال توظيف أسطورة الإله الفنيقي "فيلباس" حيث يقول: "فيلباس الفنيقي ميت منذ أسبوعين، نسي صوت النوارس، ولجة البحر العميق والربح والخسارة، تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق، وإذ صار يعلو ويهبط، وهو يلج الدوامة مر بمراحل طفولته والشباب". استلهم السياب في "أنشودة المطر" صورة هذا الملاح الغريق الذي تناثرت عظامه في قاع البحر، بعد أن ظلت طافيًا بفعل الموج لبعض الوقت؛ ليُعيد صياغتها لوصف الخليج العربي الذي صار لا يلقي باللؤلؤ كما كان يفعل من قبل، وإنما يلقي بالزبد، وجثث الغرقى من البحارة والمهاجرين البائسين الفقراء حيث يقول: وينشر الخليج من هباته الكثار على الرّمال رغوة الأجاج، والمحّار وما تبقّى من عظام بائس غريق

من المهاجرين ظل يشرب الردى .. من لجة الخليج والقرار لاحظ التناص في قوله: "من المهاجرين ظل يشرب الردى، من لجة الخليج والقرار" وقول "إليوت": "تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق وإذ راح يعلو ويهبط ويلج الدوامة". كذلك استعار السياب في "أنشودة المطر" صور شعرية أخرى لـ"إليوت" من غير الأرض الخراب، ومن ذلك تشبيه المساء بإنسان، وهو من التشبيهات المستحدثة، التي أدخلها "إليوت" ووقف عندها النقاد، وقلده فيها الشعراء، وقد ورد هذا التشبيه في أول قصيدة أغنية حب "ألفريد جي بروفروك"، ومن ذلك أيضًا تشبيه "إليوت" الشهير للمساء المتردد على الكون كتمدد مريض مخدر على منصة طبيب جراح، والوارد في مطلع القصيدة المذكورة، وقد استعار السياب هذه التشبيهات في أنشودة مطر في قوله: "كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء" وقوله "تثاءب المساء". والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 6 خصوصية الأدب العربي وميزاته الحضارية.

الدرس: 6 خصوصية الأدب العربي وميزاته الحضارية.

نشأة الأدب العربي وسماته الخاصة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (خصوصية الأدب العربي وميزاته الحضارية) نشأة الأدب العربي وسماته الخاصة خصوصية الأدب العربي وميزاته الحضارية: للأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- عليه كتاب بعنوان (خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث)، وهو كتاب يثير الفكر، ويحرك العقول ويستفزنا إلى البحث عن ما يغني أدبنا، ويحافظ على أصالته وقيمه الخيرة، وينفي عنه أوضار التقليد الضار الذي يضيع معالمه ويفسده ويحمِلُه ما لا نرضاه له من مضامين مؤذية تتنافي، وقيمنا الإسلامية الكريمة. وإن كنا لا نتفق معه في كل ما قال، ولعل أول ما يثيره الكتاب من قضايا هو قوله "إن الأدب العربي لم يتشكل في صورته الحقيقية إلا منذ ظهور الإسلام الذي جمع العرب في الجزيرة العربية، فكان عاملًا في تحويل العرب إلى أمة تامة". ومعنى هذا: أنه يلغي تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام تمامًا، وهو ما لا نستطيع تقبله إذ لا يمكن إلغاء كل ذلك التاريخ دفعة واحدة كأنه لم يكن، فضلًا عن أن تجاهلنا لتلك الفترة التي لا يعلم مقدار طولها الحقيقي إلا الله -سبحانه وتعالى- إذ إن أدب تلك الفترة ماثل أمام أعيننا طوال الوقت، متمثلًا فيما يسمي بالأدب الجاهلي، كما أن ذلك الأدب يتضمن كثيرًا من القيم الكريمة التي لم يلغها الإسلام، بل باركها ورحب بها وأبقاها، كقيمة العفاف والكرم والنجدة والمروءة مثلًا. كذلك فإن اللغة التي كتب وما زال يكتب بها الأدب العربي منذ سطوع شمس الإسلام إلى يوم الناس هذا، إنما قد ورثناها عن ذلك الأدب، علاوة على أنه يعطينا صورة دقيقة للمجتمع العربي في ذلك الحين، فهو إذًا وثيقة لغوية وتاريخية، واجتماعية في غاية الأهمية، فكيف نتنكر بهذه السهولة للأدب الذي أورثنا تلك اللغة العبقرية، وقدم لنا تلك الصورة الصادقة للمجتمع العربي في فترة الجاهلية؟.

وإذا كان الرسول الكريم وصحابته الأطهار لم يتنكروا لذلك الأدب أو يديروا ظهورهم له جميعه عاطلًا مع باطل، فكيف يتصور متصور أن نصنع نحن ما لم يدر لهم ببال؟. لو أنه قال: إننا حين ندرس الأدب الجاهلي ينبغي أن نكون على ذكر من اعتماد ما فيه من قيم كريمة، ونبذ عكسها لما يحتويه من قيم ضارة، لكنا نوافقه تمام الموافقة، وهذا بالمناسبة هو موقفنا من الأدب العربي جميعه، حتى في مرحلة صدر الإسلامي، وهي المرحلة التي قد يظن أن أدبها صورة مطابقة تمامًا للقيم الإسلامية، ألا وهو وجوب وضع هذا الأدب في كل عصوره تحت المجهر، فما كان في مضامينهم متفقًا مع قيم الخير والجمال والحق قبلناه، وما لم يكن قلنا فيه رأينا بمنتهى الصراحة، واستنكرنا ما تضمنه من قيم الزيف والتشويه والأذى، على أن يكون مرجعنا في هذا هو الإسلام وقيمه ومبادئه. وليس معنى ذلك أننا ننادي بتحويل الأدب العربي إلى مواعظ ونشرات دينية. بل معناه أن نترك للأديب الحرية كاملة داخل ذلك النظام القيمي الإسلامي، فلا يناقِ ض هـ ولا ينقضه، وهو حر بعد هذا يتناول من الموضوعات ما يشاء على النحو الفني الذي يشاء، أي: أننا في نفس الوقت الذي لا نوجب على الأديب مثلًا أن يأمر الناس بالصلاة، لا نقبل منه أن يكتب قصيدة أو قصة أو غير ذلك من الإبداعات الأدبية، يحرض الناس فيه على ترك الصلاة، أو يسخر من المصليين وهكذا. قد يقال: إنّ الأدَبَ والفن لا يزدهران إلا في جو الحرية، فنجيب بأن الحرية المطلقة لا وجود لها في أي مكان في العالم، والذين ينادون بهذا إنما يريدون التفلت من قيم الإسلام إلى قيم أخرى، يريدون نشرها تحت ستار حرية التعبير،

وهذا واضح مفهوم رغم كل الغبار الذي يثيره هؤلاء في أعيننا كي لا نطلع على ما يخططون له. وهذا كله إن كان قصدنا أن نرسم الأدب العربي شيئًا يستأنس به الأدباء في إبداعاتهم، أما إن كان المراد رسم صورة الأدب العربي في مسيرته الطويلة كما هو، فهذا موضوع آخر، وهو ما نرد الحديث فيه الآن، فأما من الناحية اللغوية فكانت العربية الفصحى هي أداته التي لا يعرف أداة غيرها، اللهم إلا في الزجل الأندلسي تقريبًا. وفي بعض خرجات الموشحات الأندلسية التي قد تختلط فيها بعض الكلمات الأجنبية بالكلمات العامية، ثم جاء العصر الحديث، فأثيرت مسألة الكتابة بالعامية، وتولى كبر الدعوة إليها على حساب الفصحى طائفة من عتاة المستشرقين، الذين لا تهمهم المسألة بذاتها قليلة أو كثيرة، لكنهم إنما كانوا يرمون من وراء ذلك إلى القضاء على لغة القرآن، لتمزيق الروابط التي تصلنا بالتراث، وبكتاب الله وأحاديث رسول الله، ومن ثم ننسلخ عن ماضينا وهويتنا، ونُضحي أمساخًا مشوهة لا هم لها إلا تقليد الغرب في كل شيء. ثم سرعان ما رأينا بعض الكتاب من الأدباء والنقاد، يزينون لكتاب القصص والمسرحيات اصطناع العامية في الحوار، بحجة الحفاظ على الواقعية، وصدق التصوير. ثم تتابعت الكتابات التي تفعل ذلك، وكثرت نسبيًّا، وإن كان هناك في ذات الوقت أدباء كثيرون وبخاصة ذوي المقامات والمواهب العالية لا يزالون يلتزمون الفصحى في كل شيء، سردًا وحوارًا ووصفًا.

الشعر كجنس من أجناس الأدب العربي.

وأما من ناحية الأجناس الأدبية، فلدينا الشعر والقصة والمقامة، والخطبة والرسالة والرحلة ... إلخ، ولسوف نقصر الكلام على الشعر والقصص مجتزئين بهما عن سائر الفنون. الشعر كجنس من أجناس الأدب العربي ونبدأ بالكلام عن الشعر، الذي كان كله حتى العصر الحديث شعرًا غنائيًّا كما هو معروف، وكانت القصيدة في بداية أمرها ولعدة قرون تتكون من أبيات كل منها ينقسم إلى شطرين متساويين، ويختلف عدد أبيات كل قصيدة عن أخرى بدءً من سبعة أبيات إلى بضع عشرات منها غالبًا، وإن أطال بعض الشعراء كابن الرومي قصائدهم أحيانًا إلى بضع مئات من الأبيات. كما كانت القصيدة تجري من أولها إلى آخرها على وزن واحد في شكل واحد من أشكاله وعلى قافية واحدة مهما طالت أو قصرت، ثم ظهرت الموشحات بعد بضعة قرون، وازدهرت في الأندلس ازدهارًا واسعًا، وظهرت كذلك الرُّباعيات والمزدوجات، والمخمسات وما إلى ذلك، ولكن الشعر العربي في كل ذلك كان يصب في البحور الخليلية أيًّا كان الشكل الفني الذي يصب فيه، سواء كان قصيدة أو موشحة أو رباعية. ثم عرفنا في العصر الحديث ما يسمى بـ"الشعر الجديد أو شعر التفعيلة" الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكون كل سطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا، فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ستًّا أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعنُّ للنّاظم أن يقف ويستأنف نظمه في سطر جديد.

وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة أكثر من تفعيلة، وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قفوي معروف، إذ الشاعر حر في أن يقفي متى شاء، وأن يترك التقفية متى يشاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء. ومن هنا خفت نغم القصيدة، وظل يخفت رويدًا رويدًا حتى مات في كثير من القصائد، فانتفى عنها الشعر، وأضحينا أمام جثث يزعم أصحابها، ومن يوافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا إيذاء تلك الجثث التي خلت من الحياة والحيوية، فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا من ملامح كثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي يبلغ حد الاستغلاق، تبين لنا حجم الكارثة التي نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتدمير والتجريف في الوقت الذي يملئون الدنيا صياحًا، بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشعر ومصيبته وبلواه. إذ صار الشعر على أيديهم فاقد للمعنى واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات، فإذا اعترضت بأنّ هذا ليس بشعر، أجابوك بأن الشعر لم يخلق ليقول شيئًا، بل يلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا تراهم مغرمين غرام عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل ولا للتواصل، وهم يزحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى، وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهم عن فن الشعر.

أما في نُصوص هذا الصنف من الشعراء التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا، فقد انحدرت في كثير من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية، التي نعتز بها كل الاعتزاز، نعم قد انتهى الشعر العربي -أو كاد أن ينتهي- في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود، بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنى ولا نغم، ولا فيه شعور، وأضحى كنشارة الخشب على القارئ أن يمضغها ويتجرعها ويعمل المستحيل كي يسيغها، وهيهات ثم هيهات. وبالنسبة لموضوعات القصيدة كان هناك المديح والهجاء والرثاء والخمر، والحماسة، والغزل والغلمان ... إلخ. ولم تكن كل هذه الموضوعات موجودة منذ البداية، فالمديح مثلًا لم يظهر إلا في أواخر العصر الجاهلي، على حين أن شعر الغلمان لم يعرفه العرب إلا في العصر العباسي بتأثير فارسي حسبما لاحظ الدارسون، كذلك فقد جد في العصور العباسية المتأخرة شعر التصوف والمدائح النبوية، وهو ما لم يكن يعرفه الشعر العربي قبل ذلك تقريبًا. ولم تعرف القصيدة العربية الاقتصار على الغزل أو وصف الخمر إلا في العصر الأموي، كما غَلب على القصيدة العربية في نصوصها المبكرة تعدد الموضوعات، أما بعد ذلك فما أكثر أن وجدنا القصيدة تنفرد بموضوعها لا يشرك فيها موضوع آخر، لكن ذلك لم يضح ملمحًا ثابتًا للقصيدة العربية إلا في العصر الحديث. ومن ناحية تمييز القصائد بعضها عن بعض، لم يكن هناك عناوين للأشعار على خلاف النثر من كتب ورسائل وقصص، وكانوا إذا أرادوا أن يشيروا إلى قصيدة من القصائد المشهورة، قالوا: بائية أبي تمام، وسينية البحتري، ونونية ابن زيدون، وميمية المتنبي، على رغم أنه قد يكون للشاعر أكثر من قصيدة على هذا

الحرف، ذلك أن شهرتها تدفع الذهن إلى ناحيتها دفعًا، فيعرف السامع أو القارئ أن المقصود بها هو تلك القصيدة لا غيرها من القصائد التي على نفس رويها. أما في القصائد الأخرى؛ فكان يقدم لها عادةً بعبارة: "وقال يمدح أو يهجو أو يرثي فلانًا" وهذا كل ما هنالك، ولكن الأمر اختلف في العصر الحديث بتأثير الشعر الغربي الذي كانت قصائده تعرف العناوين من قبل اتصالنا بهم، فعرفت قصائدنا عناوين هي أيضًا، وبخاصة أنها أمست لا تدور حول أكثر من موضوع واحد. كذلك دخل شعرنا ما يُسَمّى بـ"القصائد والأناشيد الوطنية"، وهو موضوع لم يعرفه الشعر العربي إذ لم يكن المسلمون ينظرون لأنفسهم بوصفهم شعوبًا وأوطانًا متميزة، بل على أنهم جميعًا يمثلون أمة واحدة رغم اختلاف الديار والحكام أحيانًا. وبالمثل استجد شعر التأملات الفكرية والاستبطانات النفسية، والتهاوين الذهنية، وكذلك الاستعانة بالأساطير الوثنية الشرقية والإغريقية، مما لم يكن الشعراء العرب يفكرون فيه. وفي ميدان الغزل كان هناك الغزل العفيف، والغزل المفحش، والغزل المعتاد الذي يتغنى بالمرأة وبجمالها، وما يفعل هذا الجمال بالقلوب واصفًا كل شيء في جسدها دون إفحاش رغم ذلك، وكان هناك كذلك الغزل بالغلمان الذي قد يكتفي فيه الشاعر بالحديث عن هيامه بغلام من الغلمان، وتصوير صدود الحبيب عنه، والعذاب الذي يقاسيه جراء ذلك، غير متحرج في تلك الأثناء من وصف جماله، ووجه الفتنة فيه.

وقد يمضي أبعد من هذا كما فعل أبو نواس فيصل إلى حد التقزيز، ومثله الهجاء إذ كان من الهجاء بالأحساب وبالعيوب النفسية والخلقية كما كان الحال في الجاهلية، ومنه الهجاء بالعيوب الجسدية، ومنه الهجاء السياسي، وقد بدأ في العصر الأموي، ومنه الهجاء بالكلام البذيء وهو ما عرفه الشعر العربي في العصر العباسي. وفي ميدان الخمر كان هناك من يجاهر بشربها، وبأنه يجد لذة في ارتكاب معصيتها غير مبال بشيء، ومن كان يلم بالإشارة إليها مكتفيًا بذلك مما يمكن أن يكون معناه أنه لم يكن من شاربيها، بل يجري على تقليد فني لا أكثر ولا أقل، ومن لا يأتي على ذكرها من قريب أو بعيد، وفي ميدان المديح كان هناك الشعراء المعتدلون كما كان هناك المغالون الذين قد يخرجون بممدوحهم من نطاق البشرية؛ فيخلعون عليهم بعض الصفات الإلهية كما هو الحال في "مدائح بن هانئ الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي" بتأثير العقيدة الإسماعيلية التي كان الشاعر وممدوحه يعتنقانها، وإن لم ينتشر هذا اللون الجامح السخيف من المدائح. لكن الغالب في كل ذلك هو التمسك حقيقة أو إدعاء، صراحة أو ضمنًا بقيم الإسلام ومبادئه، حتى إننا لا نجد شيئًا من الشعر يعلن فيه الشاعر كفره أو ينال من الإسلام وتاريخه، فضلًا عن أن يصدر منه في حق النبي والصحابة أية إساءة. أما من كان يصر على معرفة الناس عنه أنه يشرب الخمر، ويتفانى في شربها، فإنه كان يريد استفزاز الناس من حوله لوجدانه لذة في ذلك، لا إعلان تمرده على أحكام الدين، ورغبته في التفلت من شرائعه. وهذا في الإسلام، أما في الجاهلية فقد كانت القيم عربية جاهلية بما فيها من خير وشر، وعقل وحمق، كان الناس يتفاخرون مثلًا بالكرم والمنعة، وحماية الجار

والقدرة على ظلم الآخرين دون أن يستطيع أولئك الآخرون ردًّا على هذا الظلم بظلم مثله، وكانوا يرون شرب الخمر ولعب الميسر مكرمة يتغنون بها، لما يرتبط به من نشوة تبعث الأريحية والسخاء. كما كانت العصبية القبلية على أشدها حتى لتجر وراءها من الكوارث ما لا يخطر على بالنا الآن، كاشتعال حرب طحون بسبب تافه تستمر سنوات وسنوات دون أن يهدأ لها أوار، ولكن بالنسبة إلى الدين لم يظهر الاعتقاد في الأوثان، والتعبد لها والقيام بشعائرها في شعر تلك الفترة مثلما لم يتحدث الشعراء عن النصرانية إلا في أضيق نطاق ممكن، اللهم إلا إذا قيل إن هذا وذاك كان موجودًا على نحو كاف، لكن المسلمين حذفوه وهو ما لا أظنه صحيحًا رغم ما يردد في هذا الصدد فريق من الباحثين. على أن الشاعر في هذا كله كان حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاق في شعره ولا إلغاز، اللهم إلا في العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا، أما في العصر الحديث، فكما سبق القول أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي يرجعها المرحوم "أنور الجندي" إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوم والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير الرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب التي ينتشر فيها النور، والشمس، والضوء وينكشف فيها الأفق تمامًا. ومن ثم عجزت الأساطير، والرمزيات، وأدب الظلال أن تجد لها مكان عندها. ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرءونه في النقد الغربي، أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من

القصص كجنس أدبي.

المعاناة في قراءة الشعر وفهمه، بل لقد يقولون أن الشعر لا يكتب؛ ليفهم بل ليشعر به ليس إلا، وليت شعري كيف يستطيع الإنسان أن يتمتع بشعر لا يمكن فهمه! إن مثل تلك المزاعم العجيبة تناقض طبيعة العقل البشري الذي يقول: إنه في مجال الأدب لا يمكن أن يتذوق القارئ والسامع أي إبداع ما لم يفهمه أولًا ولو على نحو مقارب، أما مع غموضه واستغلاقه، فهذا ما لا يمكن أن يكون. وقامت طوال التاريخ الأدبي العربي حركة نقدية ناشطة حول الشعر؛ فكان عندنا كتب تصنف الشعراء، وتجعلهم طبقات، وكان عندنا كتب الموازنة، وكان عندنا كتب النقد التطبيقي والتفسيري، وكان عندنا الكتب التي تتناول التصوير البياني، وتحاول أن تفض أسراره، وكان عندنا نقاد كـ" عبد القاهر الجرجاني " صاحب "نظرية النظم". القصص كجنس أدبي أما الفن القصصي، وكان مزدهرًا في الأدب العربي على مدار تاريخه الطويل؛ فلم تقم حوله حركة نقدية كالتي قامت حول الشعر، بل ليس هناك فيما نعرف كتاب واحد مخصص للنقد القصصي، وكل ما يمكن أن نخرج به في هذا المجال لا يعدو شذرات، ونظرات عارضة هنا وهناك، إن العرب القدماء لشديد الأسف لم يهتموا بالتقعيد لفن القصص كما صنعوا مع الشعر والرسائل والخطب، رغم أنهم أبدعوا قصصًا كثيرًا متنوعًا ورائعًا. ولسنا ندري السبب في أن الجاحظ أو أبا هلال العسكري أو قدامة بن الجعفر أو ابن الأثير أو الصفدي أو أحدًا من أدباء المقامة، لم يحاول أن يقنن لنا المواصفات والقواعد التي تحكم ذلك الفن مثلًا، لقد كانوا يعرفون الفن القصصي من قبل

الإسلام؛ فضلًا عن أنهم قد ترجموا بعد الإسلام كثيرًا من القصص الأجنبي من الفرس والهند مثلًا، إلى جانب ما أبدعته براعتهم إبداعا، ليس ذلك فقط، فقد رأيناهم يعجبون بالمقامات وغيرها من ألوان هذا الفن إلا أن ما كتبوه في باب الإعجاب لا يزيد عن العبارات الانطباعية التي تخلو من التقعيد والتحديد والتفصيل. ولعل هذا الصمت النقدي هو الذي دعا بعض الكتاب منا، ومن المستشرقين إلى الادعاء بأن العرب لم يعرفوا قبل العصر الحديث أن الفن القصصي قبل أن ينقلوه عن الغرب إثر اتصالهم به في نهضتهم الحديثة، وهذا الرأي رأي متسرعًا، ففي التراث الأدبي الذي خلفه لنا أسلافنا قصص كثير منه الديني، ومنه السياسي، ومنه الاجتماعي، ومنه الفلسفي ومنه الوعظي ومنه الأدبي، ومنه ما وضع للتسلية ليس إلا، ومنه الواقعي، ومنه الرمزي، ومنه المسجوع المجنس، ومنه المترسل، ومنه المحتفى بلغته، والبسيط المنساب، ومنه الطويل مثل: "رسالة النمر والثعلب" لسهل بن هارون و"رسالة التوابع والزوابع" لابن شهيد و"رسالة الغفران" و"رسالة الصاهل والشاحج" للمعري و"رسالة حي بن يقظان" لكل من ابن سينا وابن الطفيل والسهروردي، وقصص ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن. ومنه القصير كالحكايات التي تغص بها كتب الأدب التاريخ المختلفة، وجمع طائفة كبيرة منها محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أحمد جاد المولى في أربعة مجلدات كبار بعنوان: (قصص العرب) و (كليلة ودمنة) لابن المقفع، و (البخلاء) للجاحظ، و (الفرج بعد الشدة) و (نشوار المحاضرة) للقاضي التنوخي، والمقامات، و (عرائس المجالس) للثعالبي، و (مسار العشاق) للسراج

القاري، و (سلوان المطاع في عدوان الأتباع) لابن ظفر الصقلي، و (المكافأة) لابن الداية، و (غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة) للوطواط، و (المستطرف من كل فن مستظرف) للأبشيهي، و (عجائب المقدور في أخبار تيمور) و (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) لابن عرب شاه، وبعض قصص ألف ليلة وليلة أيضًا. وما ما ذكره ابن النديم في (الفهرست) من كُتب الأسمار الخرافية التي تُرجمت عن الفارسية والهندية واليونانية، أو رُويت عن ملوك بابل، أو ألفت بالعربية؛ فكانت حوالي 140 كتابًا، المؤلف منها بلسان العرب فقط نحو 80 كتابًا، كلها في أخبار العشاق في الجاهلية والإسلام، ودعنا مما ألف بعد ذلك. ومنه النثري كالأمثلة السابقة، والشعري كشعر الشنفرى عن لقائه بالغول، وقصيدة الحطيئة و"طاوي ثلاث عاصب البطن مرمل"، وكثير من قصائد عمر بن أبي ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائية بشار، ومغامرات أبي نواس الخمرية، وقصيدة المتنبي عن مصارعة بدر بن عمار للأسد، وهلم جرًّا. على أن ليس معنى ذكر الكتب والمؤلفات في هذا السياق أن الفن القصصي لم يعرف عند العرب إلا في عصر التدوين، بعد أن انتشر نور الإسلام، وتخلص العرب من الأمية، وأصبحوا أمة كاتبة قارئة، مثقفة كأحسن ما تكون الأمم ثقافة وتحضرًا، بل كان هذا الفن معروفًا قبل ذلك في الجاهلية. وهذا الحكم يستند: أولًا: إلى أن حب القصص نزعة فطرية لا يمكن أن يخلو منها إنسان، فضلًا عن مجتمع كامل كالمجتمع العربي قبل الإسلام. وفي الفقرة التالية يؤكد كاتب مادة

" Story Telling " في "الويكيبيديا" عن حق أن جميع المجتمعات البشرية قديمًا وحديثًا قد عرفت رواية القصص. وهذه عبارته نصًّا " people in all times and places have told stories. وثانيًا: إلى أن لدينا قصصًا كثيرًا تدور وقائعه الجاهلية، وينتسب أبطاله إليها، وقد اقْتَصَر دَورُ الكُتّاب الأمويين والعباسيين على تسجيل ذلك القصَص كما وصلهم، وربما تدخلوا بأسلوبهم في صياغته، وهذا أبعد ما يمكن أن تكون أقلامهم قد وصلت إليه، ومن الواضح أن هذا القصص يصور المجتمع العربي قبل الإسلام تصويرًا لا يستطيعه إلا أصحابه. وبالنسبة إلى الموضوعات التي تناولتها القصة العربية القديمة، فيمكن تصنيف ما تركه لنا العرب بهذا المجال إلى: - قصص تستبين بها مظاهر حياتهم، وأسباب مدنيتهم، بذكر أسواقهم وأجلاب تجارتهم، والمساكن التي كانت تأويهم، وسائر ما كان على عهدهم من دلائل الحضارة، ووسائل العيش. - وقصص تتضمن معتقداتهم، وأخبار كهانهم وكواهنهم، وتبسط ما كانوا يعرفون من حقائق التوحيد والبعث والدار الآخرة، وما كانوا يتوسلون به من إقامة الأوثان، وتعهدها بألوان الزلفى والقربان. - وقصص تجلو علومهم ومعارفهم، وتتوضح منها ثقافتهم، وما كان متداولًا بينهم من مسائل العقل والنقل، التي هدتهم إليها فطرهم، أو أنهتها إليهم تجاربهم.

- وقصصٍ يُرَى مِنها ما كانوا يتغنون به من المكارم والمفاخر، وما كانوا يتذممون به من المناقص والمعرات، سواء أكان ذلك يتصل بكل منهم في نفسه، أم فيما يتصل بالأقربين من ذويه، أم فيما يضم أهل قبيلته، أم فيما يشمل الناس جميعًا. - وقصص تعدد غرائزهم وخصالهم، فتكشف ما طبع عليهم من وفرة العقل وحدة الذكاء، وصدق الفراسة وقوة النفس، وما أهلتهم له طبيعة بلادهم، وأسلوب حياتهم من شريف السجايا، وممدوح الخصال. - وقصص تشرح ما أثر عنهم من عادات وشمائل في الأسباب الدائرة بينهم، وتبين ما انتهجوه في مواسمهم، وأعيادهم، وأفراحهم، وأعراسهم، مما يمثل حياتهم الاجتماعية أصدق تمثيل. - وقصص تمثل أحوال المرأة العربية، وما تجري عليه في تربية أطفالها، ومعاشرتها زوجها، ومعاونتها له في الحياتين الاجتماعية والمدنية، بالسعي في سبيل الرزق، والاشتراك في خوض معامع الحروب، والأخذ بقسط من الثقافة الأدبية السائدة في ذلك العهد. - وقصص تمثل ذلاقة لسانهم، وحكمة منطقهم، وما ينضاف إلى ذلك من فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى، وجمال الأسلوب، وحسن التصرف في الإبانة والتعبير. - وقصص تسرد بارع ملاحهم، ورائع طرفهم في جواباتهم المسكتة وتصرفاتهم الحكيمة وتخلصاتهم اللبقة، مما يدل على حضور الذهن، وسرعة البديهة وشدة العارضة.

- وقصص تُعرب عما يقع بين العامة والملوك، والقواد والرؤساء والقضاة ومن إليهم من كل ذي صلة بالحكم والحكام، مما يتناول حيلهم في المنازعات والخصومات، ويوضح طرائقهم في رفع الظلمات، ورجع الحقوق وما يجري هذا المجرى. - وقصص تصور احتفاظهم بأنسابهم، واعتزازهم بقبائلهم، وتمجيدهم للأسلاف، وتعديدهم ما تركوا من مآثر، وما أدى إليه ذلك من مفاخر ومنافرات. - وقصَصٍ تنقل ما كانوا يتفكهون به من أسمار ومطايبات، ومناقضات وأفاكيه، مما نال به المحدثون والندماء ثني الجوائز والخلع من الخلفاء والوزراء، وما ارتفعت به مكانتهم عند السادة والوجوه في المجتمعات والمنتديات. - وقصص تؤرخ مذكور أيامهم، وتفصل مشهور وقائعهم، ومقتل كبائرهم، وتصف الحروب والمنازعات التي كانت تدور بين قبائلهم، أخذًا بالثأر، وحماية للذمار. - وقصص تحكي ما كان للجند من أحداث، وأحاديث في الغارات والغزوات، والفتوح مصورة نفسيتهم وأحمالهم، وواصفة تطوراتهم العقلية والخلقية بنشأة الدولة العربية، وانفساح رقعتها، مفصلة عددهم وآلاتهم، وأسلحتهم في حياتهم الجديدة. على أن النهضة الأدبية الحديثة قد أدخلت على القصص العربي أشياء جديدة لم يكن لها وجود فيما خلفه لنا العرب القدماء في حدود ما نعلم، ومن تلك الأشياء رواية القصة على لسان عدة أشخاص من أبطالها كل يراها من زاويته، ويفسر ما

يراه تفسيرًا يختلف كثيرًا أو قليلًا عن تفسير الرواة الآخرين، وهذا الشكل الفني أساسه فكرة النسبية التي أفرزها العصر الذي نعيش فيه. ومن ذلك أيضًا "تيار الوعي" وهو أحد مظاهر التأثر بالدراسات النفسية، ومن هذا الجديد كذلك المزج بين القصة والمسرحية، هذا المزج الذي تمثل في "بنك القلق" لتوفيق الحكيم وسماه صاحبه "مسرواية" وإن لم ينتشر كما كان يرجى له. وهناك أيضًا النّقد القصصي، والتأريخ للروايات والقصة القصيرة والترجمة لأعلامهما، وهو أمر لم يعرفه الأدب العربي القديم، إذ كان النقد آنذاك منصبًّا على الشعر بالدرجة الأولى ثم الخطابة، والرسائل الديوانية بعد ذلك، وها هو ذا مثلًا كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، و (الصناعتين) لأبي هلال العسكري، وكتاب (نقد النثر) المنسوب لقدامة بن جعفر، و (المثل السائر) لابن الأثير، فلنقلب فيها كما نحب، فلم نجد أي كلامًا في النقد القصصي. أما الآن فالدراسات النقدية والتاريخية التي تدور حول فن القصة، وأعلامه، واتج اهاته وأشكاله، قد بلغت من الكثرة والتنوع مدى بعيدًا، وهذا من شأنه أن يساعد أدباء القصة على التجويد والتطوير المستمر، ولا شك أننا مدينون في هذا المجال للنقد القصصي الغربي الذي قرأناه في لغاته الأصلية أو المترجمة، وهذا النقد يرجع في أساسه إلى ما كتبه أرسطو على المسرحية، والملحمة حسبما مر. أما كُتب النقد والأدب والتراجم التراثية المعروفة، فالموجود فيها كلام انطباعي أو نقد لغوي بلاغي ليس أكثر، كما أن كلمات الحكاية والقصة والرواية لا تستخدم فيها إلا بالمعنى اللغوي العادي كما في قولنا: شرح فلان القصة، أو حكى الحكاية، أو هكذا كانت روايته للكلام، بمعنى الخبر ليس إلا، ولا تستخدم كمصطلح أدبي.

وحتى العصر الحديث كانت تكتب إبداعات الفن القصصي العربي كلها بالفصحى كما الحال في الشعر بوجه عام، إلا أن الحال قد تبدل في العصر الحديث كما شرحنا آنفًا، فوجدنا من يكتبون الحوار في القصص والمسرحيات باللهجات العامية بشبهة أن هذا مما تتطلبه الواقعية، كما تناولت القصص كل موضوعات الحياة؛ فلم تترك موضوعًا لم تطرقه، وكان الغالب على لغتها التحوط في اللفظ، فلا بذاءة ولا عري إلا في نطاق ضيق كما هو الحال في بعض قصص ألف ليلة وليلة مثلًا. كذلك كان الإسلام حاضرًا في كل وقت جهارًا أو بين السطور، بحيث لا يوجد شيء من الخروج على مقتضيات الإيمان في أي عمل قصصي؛ مهما كانت جرأة كاتبه، ويرتبط بهذا ما يحسه قارئ هذه الإبداعات من أن اعتزاز المبدعين بالدين والأمة التي تنتسب إلى هذا الدين هو شعور موجود على الدوام صراحة أو ضمنًا. وكما كان البعد عن الغموض والاستغلاق ديدن الشعراء، فكذلك كان الأمر مع القصاصين حتى لو كان قصصهم رمزيًّا، مثلما هو الشأن في رسالة "حي بن يقظان" لابن الطفيل وابن سينا والسهروردي على سبيل التمثيل، إلا أن هذه السمات شرعت تتخلخل في العصر الحديث وبخاصة في الفترة الأخيرة، حيث تلفت النظر ظاهرة الأدباء اللذين يصدمون الأمة بكتاباتهم في عقائدها، وفيما تعتز به من نظام أخلاقي استمدته من قيم الإسلام، ومبادئه الطاهرة النبيلة. هذا عن الشعر والقصة وهو ما ينطبق في خطوط عامة على الخطابة والرسائل الديوانية، وكتب الرحلات وغيرها.

خصائص الأدب العربي.

خصائص الأدب العربي لا بد من التذكير بأن الأدب العربي القديم لم يكن يعرف فن المسرح، كما أخذناه فيما بعد عن الغرب، وإن كان هناك "طيف الخيال" مثلًا لابن دانيال الموصل، وهو فن تمثيلي يقوم بأدوار الأشخاص في صور من الورق المقوى أو الجلد يحركها المخايل كما هو معروف، وبالمثل لم يعرف الأدب العربي القديم فن الملاحم بالمقاييس الغربية طبقًا لما هو موجود في الإلياذة والأوديسة، اللهم إلا إذا وسعنا مفهوم الملحمة، ولم نشترط أن تكون منظومة أو تحتوي على آلهة وثنية مثلًا، فعندئذٍ يمكن أن نقول إن لدينا سيرة عنترة وذات الهمة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن وما إليها. كذلك من خصائص الأدب العربي اتساع المساحة المكانية والزمانية التي يشغلها، إذ يمتد منذ العصر الجاهلي الذي لا ندري بالضبط أوله، وإن كان العرف قد جرى على تحديده بنحو مائتي عام طبقًا للنصوص التي وصلتنا عنه، حتى العصر الحديث، وإلى ما شاء الله، كما امتد لعدة قرون من أواسط آسيا إلى شواطئ أفريقيا على المحيط الأطلسي، ثم تقلصت تلك المساحة المكانية بعد ذلك لتقتصر على ما يسمى الآن بالعالم العربي. وكانت اللغة العربية التي نعرفها اليوم عي لغة ذلك الأدب طوال هاتيك القرون المتطاولة، لم تتغير قواعدها في قليل أو قصير، وإن زاد معجمها بطبيعة الحال تبعًا للمخترعات والمستجدات الحضارية والثقافية، وهو أدب تعاون في إبداعه أدباء من بلاد وشعوب شتى تظللهم جميعًا راية الإسلام.

وفوق ذلك امتاز هذا الأدب بالغنى بحيث لم يترك شيئًا في الحياة أو في النفس البشرية إلا تناوله، ووضعه تحت المجهر؛ ليشرحه بكل حرية وجسارة، ولو نظرنا على سبيل المثال في كتب الرحلات، وما سجله مؤلفوها من مشاهدات وخبرات في أسفارهم وتنقلاتهم، سواء داخل بلاد المسلمين أو في بلاد الكفار، لعرفنا إلى أي مدى كانت هذه الحرية وتلك الجسارة، فضلًا عن الموضوعية الشديدة التي كانوا يلتزمونها في نطاق عصرهم وظروفهم. كذلك يُؤكد الأستاذ "أنور الجندي" رحمه الله أن الأدب العربي القديم كان ملتزمًا الصراط المستقيم منذ أشرقت شمس الإسلام، ثم انحرف الشعر إلى الخمريات، والغزل المكشوف والغلمانيات، بتأثير الشعراء الفرس اللذين تأثروا بالمجوسية من أمثال بشار وأبي نواس، مثلما انحرف النثر إلى الأسجاع والمحسنات البديعية والمقامات، وهذا الكلام موجود في كتابه (خصائص الأدب العربي). ونحن نشكر للأستاذ الجندي غيرته على الأدب العربي، وحرصته على استقامة سبيله، بيد أننا لا نشاركه في تصوير العرب كأنهم ملائكة مبرءون من العيوب لولا الفرس الأشرار الذين أغروهم بالشر والفساد، ذلك أن العرب هم بشر من البشر مثلهم مثل الفرس وغير الفرس، ولقد وقف العرب في وجه الإسلام طويلًا متمسكين بوثنيتهم لا يكفون عن الائتمار بالرسول وأتباعه، غير متورعين عن قتل من يستطيعون قتله من أصحابه، كما أنهم كانوا يعلون في الجاهلية من شأن الخمر والقمار، وتفشو فيهم العصبية القبلية اللعينة التي لم تفارقهم تمامًا بعد الإسلام كما هو معروف. كذلك كان هناك ابن أبي ربيعة في العصر الأموي، ومطاردته للنساء في الطواف حول الكعبة، وفي غير ذلك من مشاعر الحج المقدسة حين لم يكن ثم نفوذ أو

تأثير للفرس، وحتى عندما أصبح الفرس ذوي نفوذ وتأثير في العصر العباسي؛ فإن هذا لا يعفي العرب من المؤاخذة، فهم ليس سذجًا أغرارًا ولا هم معتقون من الحساب كسائر البشر. ثم إنه ليس ثمة دليل على أن بشار بن برد أو أبا نواس كان مجوثيًّا، بل هما -إلى أن يثبت العكس- كانا مسلمين يؤمنان بالله والرسول والقرآن، وإن لم تتطابق تصرفاتهما وقيم الإسلام في كل الأحوال، أي أنها في أسوأ الاحتمالات من المسلمين العصاة. ولقد درست شخصية بشار وشعره منذ وقت طويل في كتاب كبير، فوجدت الرجل مسلمًا مثل أي مسلم آخر، وإن أخذت عليه سفاهته في بعض العبارات، وانحرافه في بعض المواقف والتصرفات، ومن منا يبرأ من العيوب في كل الأحوال! ومع هذا فأنا لا أنكر مثلًا أن أبا نواس هو زعيم الشذوذ الجنسي في الأدب العربي، إلا أن هذا لا يعفي الشعراء العرب الذين جروا في ركابه، واقتفوا سنته الكريهة، كما لا أنكر أن بشارًا هو صاحب الرائية الفاجرة التي نظمها في التفاخر بخداع فتاة صغيرة، والشماتة بما سببه لها من فضيحة والسخرية منها ومن وقوعها في حبائله. أما الشعر الخمري فيرجِعُ إلى الجاهلية إذ كان العرب من المغرمين بشرب الخمر غرامًا شديدًا، حتى لقد احتاج الأمر إلى أن يحرم الإسلام على مراحل ثلاث لا دفعة واحدة، وفي الإسلام أيام الفتوح على عهد عمر، وقبل أن يظهر الشعوبيون أو يكون للفرس تأثير أي تأثير، كان هناك "أبو محجن الثقفي" المعروف

بإدمانه الخمر ومجاهرته بذلك، وهي المهاجرة التي أدت إلى أن يحبسه "سعد بن أبي وقاص" وهو القائل: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي مشاشي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها لكن لا بد أن نردف هذا بأنه -رحمه الله- قد تاب وأناب وصلح حاله، وأخذ يجاهد في سبيل الله، لكن أبا نواس هو أيضًا قد تاب وابتهل إلى الله أن يغفر له ويرحمه ويتجاوز عن زلاته. وقبل العصر العباسي والشعوبيين لدينا "الوليد بن يزيد" الخليفة الأموي، وكان على ما تصوره الروايات وما ينسب إليه من أشعار متهتكًا متهالكًا على الخمر، ينظم فيها الأشعار التي لا يبالي فيها بحرمة أو حياء. وقد قام المرحوم الجندي في كتابه المذكور آنفًا بحملة على استخدام الأدباء العرب للسجع والمحسنات البديعية؛ لكني لا أدري لهذه الحملة وجهًا؛ إذ أن استخدام السجع مسألة فنية ترجع إلى طبيعة اللغة العربية المعروفة بغنى معجمها، وموسيقية ألفاظها وتراكيبها، مما لا وجود له بهذه الدرجة فيما نعرفه من اللغات الأخرى. ورغم أن الأدب العربي في العصور المختلفة قد جنح إلى الإسراف في تلك النزعة، حتى لقد غطى الاهتمام بتلك المحسنات على الاهتمام بالفكرة والشعور؛ فإن عصور القوة قد شهدت أدباء فحولًا كانوا يستخدمون السجع وغيره من الزخارف الأسلوبية استخدامًا عبقريًّا يبرز ما يريدون التعبير عنه من معان وأحاسيس على أبهى ما يكون، ومن هؤلاء الهمذاني والحريري صاحبا المقامات المعروفات.

إذ إنّ تِلك المقامات شاهد قوي على عبقريتهما في تصريف اللغة، وإبداع القصص على أحسن ما يُرام، ولقد قرأنا وقرأ كثير من كبار النقاد والأدباء في العصر الحديث تلك المقامات، فألفيناها بدعًا لا يجارى ولا يمارى، والهمذاني والحريري بالمناسبة عربيان صميمان، كذلك فليس الشعوبيون هم الذين اختطوا أسلوب الأسجاع والزخارف البديعية، وإلا فهل كان أبو تمام وابن زيدون من الشعوبيين؟! لقد كان كلاهما مغرمًا بالسجع والمحسنات، وكان كلاهما عربيًّا وسابقًا على ابن العميد وابن عباد الذين عزا إليهما الأستاذ الجندي "كبر أزمة السجع" كما سماها. بل لقد كان السجع المتكلف المتساخف هو ديدن الكهان العرب في العصر الجاهلي قبل أن يكون ثم فرس وشعوبيون، فما القول في ذلك؟. كذلك لا نستطيع مجاراة الأستاذ الجندي في رفضه تقسيم الأدب العربي على أساس زمني، فنقول: الأدب الجاهلي، والأدب الإسلامي، والأدب الأموي، والأدب العباسي والمملوكي، والعثماني، والأدب الحديث، ذلك أن مثل هذا التقسيم من شأنه تسهيل دراسة الأدب حتى لا يضيع الدارس في خضم الهادر دون صون تحدد له المسارات والطرق، كما أن كل عصر من تلك العصور يتسم بخصائص في الموضوعات، وفي الأساليب وغيرها تميزه عن سواه من العصور الأخرى. وإن كانت هناك في ذات الوقت سمات مشتركة بين تلك العصور أو بين بعضها فقط، فضلًا عن وجوب التنبه إلى أن تلك الخصائص الفارقة لا تبرز بين عشية وضحاها، بل تتشكل وتتبلور قليلًا قليلًا ثم لا تختفي مباشرة مع اختفاء العصر الذي تبلورت فيه بل يأخذ اختفاؤها وقتًا، لقد وصم -رحمه الله- هذا

التقسيم بأنه تقسيم أجنبي ظالم، ولست أدري موقع الظلم في تلك المسألة الاعتبارية التي لا تمنع أحدًا من تقسيم الأدب العربي على أساس آخر يرتضيه. ولقد وجدنا ابن سلام وابن قتيبة في كتابيهما الرائدين في التأريخ للأدب، يصنفان الشعراء ضمن اعتبارات أخرى على أساس الزمن، أي أن التقسيم الزمني ليس وارد الغرب كما قد يُظن، وبالمناسبة فمثل هذا التقسيم لا يراعى في الأدب وحده بل في التأريخ لعلم التفسير والحديث والفقه، والفلسفة أيضًا، ولم يقل أحدٌ أنه تقسيم أجنبي ظالم. ثم إنه ليس كل شيء أجنبي سيئًا بالضرورة، والحكمة ضالة المؤمن يأخذه أن وجدها، فالغربيون بشر لهم حسناتهم مثلما لهم سيئاتهم، أقول هذا رغم أني أقف في طريق كثير مما ينقله الببغاوات العرب من الغرب عن غفلة أو عن رغبة في الإدراك، داعيًا إلى أن ننظر أولًا في الوارد عن الغربيين؛ فإنْ كان نافعًا أخذناه وانتفعنا به وذكرنا فضلهم في ذلك، وإلا رفضناه وحذرنا منه، ووقفنا في وجهه. لكننا مع الأستاذ الجندي في الوقوف بقوة في وجه التيار الإباحي في الأدب العربي الحديث، الذي ينطلق من مفاهيم غربية لا تتناسب والإسلام الذي ندين به، ولا نرضى به بديلًا، إن هنالك كتابًا وكاتبات من العرب يعملون في مؤلفاتهم على إشعال الشهوات بحجة أنهم يمارسون حرية التعبير. بل إنّ مِنْهُم من يتوغل في هذا الاتجاه إلى درجة لا تصدق ولا تطاق، وبعض الكاتبات العربيات الآن يكتبن عن تجاربهن الجنسية بعري مقزز، غير متحرجات من وصف أي شيء، ولا استعمال أي لفظ مهما تكن شناعة هذا أو ذاك. والحجة التي يستند إليها هؤلاء الكتاب والكاتبات هي أن الجسد ملك شخصي لصاحبه يصنع به ما يشاء، وإن حرية الشبان والشابات العرب تبدأ بحريتهم

الجنسية، وتمردهم على الأعراف والتقاليد والقيم الخلقية والدينية، وإلا كانوا متخلفين عن العصر، وهم في هذا إنما يمشون على خطى الغربيين كحذوك النعل بالنعل. وإذا ما وجه أحد إليهم نقدًا على أساس أن هذا يناقد الخلق والدين، كان جوابهم: أنه لا دخل للدين ولا للأخلاق في الإبداعات الأدبية، والواقع أنهم يقولون هذا لا لأن الأدب لا ينبغي أن يخضع لشيء من خارجه كما يزعمون، بل لأنهم يتبنون قيمًا غير القيم التي نتمسك نحن بها، إنها قيم الانحلال، والسعار الجنسي. وما من أدب في الدنيا إلا وهو يعكس ثقافة صاحبه، وفكره وقيمه الخلقية والدينية أو الإلحادية لا مشاحة في هذا، ولا مناص منه، فالأديب لا يأتي بمضامين كتاباته من الهواء بل من داخل نفسه التي بين جنبيه، فهي مستودع العقائد، والنزعات، والتوجهات الخلقية والفكرية. ونحن مع المرحوم أنور الجندي أيضًا في استنكاره الشديد للمحاولات التي يبذلها بعض الكتاب لإحلال العامية محل الفصحى في كتابة الحوار القصصي والمسرحي، وإن زاد بعضهم في الطنبور نغمة، فنادوا بأن تشغل العامية موضع الفصحى في كل مجالات الكتابة، إن هؤلاء إنما يتغيون ما يتغياه أولئك المستشرقون الذين كانوا ينادون بنبذ الفصحى، واصطناع العامية بدلا منها كي نتقدم، ونساير العصر وترتقي العلوم في بلاد العرب. مع أن العامية في كل مكان هي مجرد لهجة للاستعمال اليومي ليس غير، فهي من ثم فقيرة فقرًا شنيعًا بحيث لا تستطيع أن تؤدي شيئًا من العلوم والآداب التي نعرفها، اللهم إلا الأزجال، ومعروف أن هذه الدعوة إنما تقصد ضرب الوحدة

العربية في الصميم، لأنه إذا ما تفرقت الشعوب العربية لغويًّا، وأمسى لكل شعب لغته الخاصة به التي لا يفهمها شعب عربي آخر كان ذلك أول مسمار يندق في نعش العروبة، التي هي محور الإسلام ومادته الصلبة. وحينئذ سرعان ما ينهار عمود الإسلام -أو على أقل تقدير- يتحلحل ولا يثبت على حاله، ولسوف تقوم حينئذ حواجز سميكة من اللغة بيننا، وبين تراثنا وقرآننا وأحاديث نبينا، فنضطر إلى ترجمتها بما يجر ذلك من تغيير في النص المترجم كل حين كما هو الحال مع الكتاب المقدس الذي لا يثبت على حال أبدًا. ونحن مع أنور الجندي كذلك في وجوب الاهتمام بكتابات ابن حزم والغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وأمثالهم بوصفها إبداعات أدبية مثلما هي إبداعات فكرية، بل إن كتابات هؤلاء وأمثالهم لتفوق في الجمال والعمق والروعة الفكرية، والأسلوبية كثيرًا من النصوص النثرية التي درجنا على دراستها في كتب الأدب، وحصصه، ومحاضراته. ولكن لا بد أن نضيف ما هو معلوم من أن قدماء نقادنا هم الذين استنوا سنة استبعاد أمثال الغزالي وابن خلدون من دائرة اهتمامهم، مركزين على ما يسمي بـ"النثر الفني" وهو النثر المنحصر في الرسائل الديوانية، وما إليها. ذلك أن كلام الجندي يفهم منه أن هذه ثمرة من ثمار تقليد المستشرقين في دراستهم للأدب العربي، وهذا غير صحيح في حدود علمي، فالمستشرقون عادة ما يوسعون دائرة الأدب بحيث تشمل أمثال أولئك الكتاب الذين ذكرنا أسماءهم آنفًا، إذ الأدب في الغرب لا يقتصر على النثر الفني كما نعرفه، بل يشمل كل كتابة تتسم بجمال التعبير، ودفئه أيًّا كان موضوعها حتى ولو كان تاريخًا أو جغرافية أو فلسفة. بل كثيرًا ما يقصد بهذا المصطلح هناك كل ألوان الكتابة بإطلاق، وقد درج الكتاب في العقود الأخيرة عندنا على ترجمة هذه الكلمة بمعناها الأخير إلى "أدبيات"، فيقولون: الأدبيات السياسية، والأدبيات القانونية وهلم جرة.

أما أنا فأوثر ببساطة أن أترجمها إلى "كتابة أو كتابات" فنقول: الكتابة أو الكتابات السياسية أو القانونية، وتشرح مادة " Litrature" في الموسوعة البريطانية الأمر بما لا يخرج عما قلناه، وتزيد الموسوعة اليونيفرسالية الفرنسية المسألة إيضاحًا. وعلى نفس المنوال أجدني مع المرحوم الجندي أيضًا في وجوب الاعتزاز بديننا، والمحافظة عليه في كل كتاباتنا وتفكيرنا، لا على أساس إلغاء عقولنا وترديد ما هو موجود في القرآن والسنة دون تفكير، بل على أساس اقتناعنا التام به، وتحققنا أنه من عند الله، ومن ثم فلا مكان عندنا لمن يشككون في القرآن أو في ثوابت الإسلام، ولا لمن ينادون باطراح الدين خلف ظهورنا حين نستقبل البحث الأدبي. وكأن الدين الذي أتى به المصطفى -عليه السلام- ضد البحث العلمي، وهو ما فعله للأسف "طه حسين" حين عاد وهو شاب من أوربا مغترًا بالقليل الذي حصله هناك، فألف كتابه في (الشعر الجاهلي) في عجلة وتسرع دون أن يمحص ما سجله فيه، مما أظهر العلماء الأثبات رعونته، وسطحيته وفساده، وتناقضه مع نفسه، ومع وقائع التاريخ، وشواهد النصوص على السواء. كذلك لا مكان في نفس المسلم الحق للشكوك، ومشاعر اليأس المظلم والإحباط الدائم، والقلق المستمر دون سبب، تلك الشكوك والمشاعر التي تغذيها الفلسفات الوجودية والاعتقادات الإلحادية، ويعتنقها بعض الببغاوات في بلاد العرب والمسلمين عن غير اقتناع، بل عن تقليد، وتصور خاطئ بأن هذا هو ما ينبغي على المثقف العصري أن يعتقده، ما دامت هذه البضاعة قد أتتنا من الغرب. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 7 تأثير المقامات في الأدب الأوربي.

الدرس: 7 تأثير المقامات في الأدب الأوربي.

تعريف المقامة وتاريخ نشأتها وآراء نقاد الأدب فيها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (تأثير المقامات في الأدب الأوربي) تعريف المقامة وتاريخ نشأتها وآراء نقاد الأدب فيها تأثير المقامات في الأدب الأوربي: ينفي الدكتور شوقي ضيف عن المقامة أن تكون قصة قائلًا: "إنها -وإن اشتملت على بعض العناصر القصصية كالحوار والمضمون، وتصوير عناصر الشر والفساد للمجتمع- تفتقر عادة إلى الحبكة، إذ إن بديع الزمان لم يضع في اعتباره أنه يؤلف قصة، بل قصد أن يضع تحت أعين تلاميذه مجاميع من أساليب اللغة العربية المنمقة، كي يقتدر على صناعتها، ويتفوق في كتابتهم الأدبية، ووضع ذلك في صورة قصصية تنحو نحو بلاغة اللفظ، وحب اللغة لذاتها؛ فالقصص فيها ليس أساسًا، وإنما الأساس العرض الخارجي والحلية اللفظية". وهذا كلام غريب مجاف للحقيقة، ذلك أن المقامة يتحقق فيها الجانبان معًا، وعلى أحسن وضع في معظم الحالات، الجانب القصصي، وجانب الزخرف الأسلوبي، ونحن حين نقرأ المقامات الهمذانية مثلًا، نشعر بروعة الأمرين جميعًا، ونقرأ ما كتب الهمذاني في شغف وترقب ونشوة؛ نشوة فنية، ونشوة لغوية في ذات الوقت، وإن كانت النشوة الفنية أقوى وأبرز بما يدل على أن المقامة هي عمل قصصي بالدرجة الأولى، وأن الزخرف البديعي الذي يوشيها، ويغشيها قد زادها فرادة وروعة، إذ كان من شأنه لو لم يكن صاحبها أديبا قصاصا متمكنًا في فن القصص على أرسخ ما يمكن تصوره أن يبوخ الأمر في يده، فتأتي المقامات فاترة متكلفة تكاد تختنق تحت أثقال البديع كما هو الحال في بعض الكتابات البديعية في عصور الأدب العربي المتأخرة.

ويؤكد الباحث الإسباني "إيكناثيو فيراندو" عن حق أن المقامات ليست قالب جميل بدون أي مضمون، كما أدعى بعض الباحثين في الماضي، وما يزالون في الوقت الحاضر، ولدينا قبل هذا بزمن طويل صلاح الدين الصفدي، وله شهادة مهمة في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) يحسن إيرادها هنا، إذ تدل على أن النقاد القدماء أنفسهم كانوا ملتفتين بكل قوة إلى الجانب القصصي في المقامات، وما فيه من تشويق الحبكة، ومتعة الفكاهة؛ حتى ليقبل الفرنج بكل شوق على قراءتها، وهو ما يدل على أن الأمر فيها أمر إنما هو أمر فن قصصي لا أمر لغة وبديع وبلاغة؛ لأن مثل تلك الأشياء لا تظهر في الترجمة كما هو معروف. قال الصفدي في (تقويم مقامات الحريري): "ويُحكى أنّ الفِرنج يقرءونها على ملوكهم بلسانهم، ويُصَوّرونها، ويتنادمون بحكايتها، وما ذاك إلا لأن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب (كليلة ودمنة)، وإلى ما فيها من أنواع الأدب، وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة. وإننا لنتساءل: كيف عرف الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله- أن الهمذاني أو الحريري إنما ألفا مقامته لتعليم الناشئة أساليب البلاغة اللغوية لا ليبدعا فنًّا قصصيًّا يشوق، ويمتع بما فيه من سرد وحوار، ووصف، وحبكة، هل قال أي منهما ذلك، ونفى عن نفسه أن يكون هدفه كتابة شيء قصصي؟ وحتى لو كتب هذا هل يمنع ما كتبه ما نراه أمامنا بأم أعيننا، من واقع لا يمكن أن تخطئه العين،

يقول بأبلغ لسان وأقوى بيان: "إن كثيرًا من المقامات هي أعمال قصصية بالدرجة الأولى. ثم يأتي البديعُ فيزيدُها جمالًا فوق جمال، فليقل الأديب ما يشاء حول ما يكتب ويؤلف، فالعبرة بالمكتوب لا بالمزعوم، ومع ذلك فالهمذاني والحريري لم يقل أيهما بشأن مقامته شيئًا ينفي عنها أن تكون من الفن القصصي في صميم الصميم؛ فأنا لنا إذًا أن نتبرع دون أي سبب بنفي الهوية القصصية عنها. والواقِعُ أنّ جَميعَ العَناصر القصصية؛ من سرد، ووصف، وحوار، وحبكة، متوفرة تمامًا في كثير من مقاماتهما بالإضافة للأسلوب البديعي الذي يدل على أن كل منهما أديب من طراز سامق. إذ لم تشغله البديعيات هنيهة عن إتقان فنه القصصي، ولا جارت عليه، بل زادته رونقًا على رونق، وأضافت إلى روعة إبداعه روعات، وأين هذا من بعض كُتاب القصة الحاليين عندنا، مِمّن يُعَانون من فقر المعجم، وركاكة الأسلوب، والجهل بقواعد النحو والصرف. صحيح أن الذوق الأدبي قد تغير الآن بين جماهير القراء، بيد أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى الافتئات على ذلك الفن، وأصحابه الذين كانوا في إبداعهم أبناء عصرهم الأوفياء، وقد بهر عدد من مشاهير النقاد العربي في العصر الحديث بكثير من نماذج هذا الفن عند الهمذاني، وما فيه من عناصر قصصية جعلته يصمد للمقارنة مع أية قصة قصيرة حديثة؛ فكتبوا عنها في إعجاب ووله وعلى رأسهم: الدكتور شكري عياد، والدكتور علي الراعي.

المقامة المضيرية، كمثال من المقامات.

المقامة المضيرية، كمثال من المقامات ولكي لا يكون الكلام نظريًّا لا علاقة له بالواقع، ها أنذا أسوق إحدى مقامات الهمذاني، وهي المقامة المضيرية؛ حتى يلمس الدارس بنفسه مدى صحة ما قلناه عن الفن القصصي، وتحققه على أحسن ما يرام في هذا الشكل الأدبي على يد الهمذاني، ولسوف يرى الدارس عجبًا من الأمر، إذ إن هذه المقامة تخلو من التقعر اللغوي تمامًا، وليس فيها شيء مما يفد على الذهن حين نشير للأساليب البلاغية، وإن كان السجع والجناس متوفرين لا يغيبان: " حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري، رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار؛ فقدمت إلينا مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية -رحمه الله- بالإمامة، في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف، فلما أخذت من الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها؛ قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها. وظنناه يمزح، فإذا الأمر بالضد، وإذا المزاح عين الجد، وتنحى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان ورفعناها، فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها؛ فقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدثتكم بها لم آمن الوقت وإضاعة الوقت.

قلنا: هاتِ، قال: دعاني بعض التجار إلى مضيرة، وأنا ببغداد، ولزمني ملازمة الغريم والكلب لأصحاب الرقيم، إلى أن أجبته إليها، وقمنا فجعل طول الطريق يثني على زوجته، ويُفَدّيها بمهجته، ويصف حذقها في صنعتها، وتأنقها في طبخها، ويقول: يا مولاي، لو رأيتها والخرقة في وسطها، وهي تدور في الدور، من التنور إلى القدور، ومن القدور إلى التنور، تنفث بفيها النار، وتدق بيديها الأبزار، ولو رأيت الدخان، وقد غبر في ذلك الوجه الجميل، وأثر في ذلك الخد الصقيل، لرأيتَ منظرًا تحار فيه العيون، وأنا أعشقها؛ لأنها تعشقني، ومن سعادة المرء أن يرزق المساعدة من حليلته، وأن يسعد بظعينته، ولا سيما إذ كانت من طينته. وهي ابنه عمي لحى طينتها طينتي، ومدينتها مدينتي، وعمومتها عمومتي، وأرومتها أرومتي؛ لكنها أوسع مني خُلقًا، وأحسن خَلقًا، وصدعني بصفات زوجته، حتى انتهينا إلى محلته. ثم قال: يا مولاي، ترى هذه المحلة! هي أشرف محال بغداد، يتنافس الأخيار في نزولها، ويتغايرُ الكبار في حلولها، ثم لا يسكنها غير التجار، وإنما المرء بالجار، وداري في السطة من قلادتها، والنقطة من دائرتها، كم تقدر يا مولاي أنفق على ك ل دار منها؟ قله تخمينًا إن لم تعرفه يقينًا، قلت: الكثير، قال: يا سبحان الله! ما أكبر هذا الغلط، تقول الكثير فقط، وتنفس الصعداء، وقال: سبحان من يعلم الأشياء. وانتهينا إلى باب داره، فقال: هذه داري، كم تقدر يا مولاي أنفقت على هذه الطاقة؟ أنفقت والله عليها فوق الطاقة، ووراء الفاقة، كيف ترى صنعتها وشكلها؟ أرأيت بالله مثلها؟ انظر لدقائق الصناعة فيها، وتأمل حسن تعريجها،

فكأنما خط بالبركار، وانظر إلى حذق النجار في صنعة هذا الباب، اتخذه من كم؟ قل: ومن أين أعلم؟ هو ساج في قطعة واحدة، لا مأرود ولا عفن، إذا حرك أن، وإذا نقر طن، من اتخذه يا سيدي؟ اتخذه أبو إسحاق بن محمد البصري، وهو والله رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل؛ لله در ذلك الرجل، بحياتي لا استعنت إلا به إلا على مثله. وهذه الحلقة؛ تراها اشتريتها في سوق الطرائف، من عمران الطرائفي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب، بالله دورها ثم أنقرها وأبصرها، وبحياتي عليك إذا اشتريت الحلق إلا منه؛ فليس يبيع إلا الأعلاق، ثم قرع الباب، ودخلنا الدهليز، وقال: عَمّرك الله يا دار، ولا خربك يا جدار؛ فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك، تأمل بالله معارجها، وتبين دواخلها وخوارجها، وسلني كيف حصلتها؟ وكم من حيلة احتلتها حتى عقدتها؟. كان لي جار يكنى أبا سليمان، يسكن هذه المحلة، وله من المال ما لا يسعه الخزنة، ومن الصامت ما لا يحصره الوزن، مات -رحمه الله- وخلف خلفًا أتلفه بين الخمر والزمر، ومزقه بين النرد والقمر، وأشفقتُ أن يسوقه قائد الاضطرار، إلى بيع الدار؛ فيبيعها في أثناء الضجر أو يجعلها عرضة للخطر، ثم أراها، وقد فاتني شراها، فأتقطع عليها حسرات إلى يوم الممات؛ فعمدت إلى أثواب لا تمد تجارتها، فحملتها إليه، وعرضتها عليه، وساومته على أن يشتريها نسية، والمُدبر يحسب النسية عطية، والمتخلف يعتدها هدية، وسألته وثيقة بأصل المال؛ ففعل وعقدها لي ثم تغافلت عن اقتضائه، حتى كادت حاشية حاله ترق، فأتيته فاقتضيته، واستمهلني فأنظرته، والتمس غيرها من الثياب فأحضرته.

وسألته أن يجعل داره رهينة لدي، ووثيقة في يدي؛ ففعل ثم درجته بالمعاملات إلى بيعها؛ حتى حصلت لي بجد صاعد، وبخت مساعد، وقوة ساعد، ورب ساع لقاعد، وأنا بحمد الله مشدود، وفي مثل هذه الأحوال محمود. وحسبك يا مولاي أني كنت منذ ليالٍ نائم في البيت مع من فيه، إذ قرع علينا الباب، فقلت: من الطارق المنتاب؛ فإذا امرأة معها عقد لآل في جلدة ماء ورقة آل، تعرضه للبيع فأخذته منها إخذة خلس، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفع ظاهر، وربح وافر بعون الله تعالى ودولته. وإنما حدثتك بهذا الحديث؛ لتعلم سعادة جدي في التجارة، والسعادة تنبت الماء من الحجارة، الله أكبر لا ينبيك أصدق من نفسك، ولا أقرب من أمسك. اشتريت هذا الحصير في المناداة، وقد أخرج من دور أهل الفرات، وقت المصادرات، وزمن الغارات، وكنتُ أطلب من مثله منذ زمن أطول فلا أجد، والدهر حُبْلَى ليسَ يُدرى ما يلد، ثم اتفقا أني حضرت باب الطاق، وهذا يعرض بالأسواق؛ فوزنت فيه كذا وكذا دينارًا، تأمل بالله دقته ودينه وصنعته ولونه، فهو عظيم القدر لا يقع مثله إلا في الندر، وإن كنت سمعت بأبي عمران الحصين فهو عمله، وله ابن يخلفه الآن في حانوته لا يوجد أعلاق الحصر إلا عنده؛ فبحياتي لا اشتريت الحصر إلا من دكانه، فالمؤمن ناصح لإخوانه لا سيما من تحرم بخوانه. ونعود إلى حديث المضيرة؛ فقد حان وقت الظهيرة: يا غلام، الطست والماء، فقلت: الله أكبر ربما قرب الفرج، وسهل المخرج، وتقدم الغلام، فقال: ترى هذا الغلام، إنه رومي الأصل عراقي النشء، تقدم يا غلام واحسر عن رأسك، وشمر عن ساقك، وامض عن ذراعك، وافتر عن أسنانك، وأقبل وأدبر، ففعل

الغلام ذلك وقال التاجر: بالله من اشتراه! اشتراه، والله أبو العباس من النخاس، ضع الطست وهات الإبريق؛ فوضعه الغلام وأخذه التاجر وقلبه، وأدار فيه النظر؛ ثم نقره فقال: انظر إلى هذا الشبه، كأنه جذوة لهب، أو قطعة من الذهب، شبه الشام وصنعة العراق، ليس من قلقان الأعلاق؛ قد عرف دور الملوك ودارها، تأمل حسنه، وس لني ماذا اشتريته؟ اشتريته والله عام المجاعة، وادخرته لهذه الساعة. يا غلام، الإبريق فقدمه وأخذه التاجر فقلبه ثم قال: وأنبوبه منه، لا يصلح هذا الإبريق إلا لهذا الطست، ولا يصلح هذا الطست إلا مع هذا الدست، ولا يحسن هذا الدست إلا في هذا البيت، ولا يجمل هذا البيت إلا مع هذا الضيف، أرسل الماء يا غلام فقد حان وقت الطعام. بالله ترى هذا الماء ما أصفاه أزرق كعين السنور، وصاف كقضيب البلور، استقي من الفرات، واستعمل بعد البيات؛ فجاء كلسان الشمعة في صفاء الدمعة، وليس الشأن في السقاء الشأن في الإناء، لا يدلك على نظافة أسبابه أصدق من نظافة شرابه. وهذا المنديل سلني عن قصته؛ فهو نسل جرجان، وعمل آل رجان، وقع إلي فاشتريته، فاتخذت امرأتي بعضه سراويلًا، واتخذت بعضه منديلًا، دخل في سراويلها عشرون ذراعًا، وانتزعت من يدها هذا القدر انتزاعًا، وأسلمته إلى المطرز حتى صنعه كما تراه وطرزه، ثم رددته من السوق وخزنته في الصندوق، وادخرته للظراف من الأضياف، لم تذله عرب العامة بأيديها، ولا النساء لمآقيها؛ فلكل علق يوم، ولكل آلة قوم.

يا غلام، الخوان فقد طال الزمان، والقصاع فقد طال المصاع، والطعام فقد كثر الكلام؛ فأتى الغلام بالخوان، وقلمه التاجر على المكان، ونقره بالبنان، وعجمه بالأسنان، وقال: عَمّر اللهُ بغداد فما أجود متاعها، وأظرف صناعها، تأمل بالله هذا الخوان، وانظر إلى عرض متنه، وخفة وزنه وصلابة عوده وحسن شكله، فقلت: هذا الشكل، فمتى الأكل؟ فقال: الآن عجل يا غلام الطعام، لكن الخوان قوائمه منه. قال أبو الفتح الإسكندري: فجاشت نفسي وقلت: قد بقي الخبز، وآلاته والخبز وصفاته، والحنطة من أين اشتريت أصلًا، وكيف اكترى لها حملًا، وفي أي رحًا طحن، وإجانت عجن، وأي تنور سجر، وخباز استأجر، وبقي الحطب من أين احتطب ومتى جلب، وكيف صفف حتى جفف، وحبس حتى يبس، وبَقي الخباز وأصله، والسميز ونعته، والدقيق ومدحه، والخمير وشرحه، والملح وملاحته، وبقيت السكرجات من اتخذها، وكيف انتقذها، ومن استعملها ومن عملها؟ والخل كيف انتقي عنبه؟ أو اشتري رطبه، وكيف صهرجت معصرته؟ واستخلص لبه، وكيف قير حبه؟ وكيف يساوي دنه؟ وبقي البقل كيف احتيل له حتى قطف؟ وفي أي مبقلة رصف؟ وكيف تؤنق حتى نظف. وبقيت المضيرة كيف اشتري لحمها؟ ووفي شحمها، ونصبت قدرها، وأججت نارها، ودقت أبزارها حتى أجيد طبخها، وعقد مرقها، وهذا خطب يطم وأمر لا يتم، فقمت فقال: أين تريد؟ قلت: حاجة أقضيها، فقال: يا مولاي، تريد كنيفًا يزري بربيعي الأمير، وخليفي الوزير، قد جصص أعلاه، وصهرج أسفله، وسطح سقفه، وفرشت بالمرمر أرضه، يزل عن حائطه الذر فلا يعلق، ويمضي على أرضه الذباب فينزلق، عليه باب غير أنه من خليط ساج وعاج، مزدوجين أحسن ازدواج، يتمنى الضيف أن يأكل فيه.

فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب، وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح: يا أبا الفتح، المضيرة. وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي، فصاحوا صياحًا فرميت أحدهم بحجر من فرط الضجر، فلقي رجل حجر بعمامته، فغاص في هامته؛ فأخذت من النعال بما قدم وحدث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس، فنذرت ألا أكل مضيرة ما عشت؛ فهل أنا في هذا يا آل همذان ظالم؟! قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره، ونذرنا نذره، وقلنا: قديمًا قد جنت المضيرة على الأحرار، وقدمت الأراذل على الأخيار". وهَذه المقامة كما يرى القارئ هي قطعة برأسها، تُقرأ دفعة واحدة، ولا يستطيع القارئ أن يفلت من إرسالها، وتشويقها وسحرها، دون أن يتمها في هذه الدفعة الواحدة؛ إذ هي عمل محكم ليس فيه ثغرة، يمكن أن يتعلل بها المتعلل لأخذ نفسه، بل لا بد له أن يمضي حتى يفرغ منها في طلق واحد، وعندئذٍ وعندئذ، فقط يستطيع أن يتنفس. وعلى كل حال فقد عاد الدكتور شوقي ضيف، فقال: "إن المقامات عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي؛ ففي الأدب الفارسي مثلًا: ألف القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثة وعشرين مقامة على نسق مقامات الحريري، وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين للهجرة وكذلك عرفت في الأوساط اليهودية، والمسيحية الشرقية؛ فترجموها، وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية.

أما في أوربا فقد عني المستشرقون بمقامات الحريري؛ فترجمت إلى اللاتينية، والألمانية، والإنجليزية، إلا أنه يؤكد أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة في هذا المجال، ذَلك أنّ المقامات -كما يقول- ليست القصة عمادها، بل عمادها الأسلوب، وما يحمل من زخارف السجع والبديع. ثم يقول: إننا مع ذلك يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني، الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وإن لهذا القصص عندهم بطل يُسمى "بيكارون" يشبه من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان، وأبا زيد السروجي في مقامات الحريري. وفيما يَخُصّ تقليد القاضي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول في فصل منه هذا المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب. والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان، ومن موقف إلى آخر؛ مغيرًا هيئته في كل مرة متخذًا الكدية وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله، وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة، والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع، والجناس، والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية.

ثم تطور ذلك الفن، ودخله التحوير في الموضوعات والأهداف؛ فاتسع لكل شيء؛ حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلى آخره. وبلغ من اتساع انتشار المقامات، واهتمام الكتاب بها، أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها؛ فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا بدءًا من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاءً بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي. أما في الأدب الفارسي؛ فلم يمارسها إلا أديب واحد هو القاضي حميد الدين، من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان؛ فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من براون المستشرق الإنجليزي، وكريم شاورذي الباحث الإيراني. وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمذانية، والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير، هو أبو الفتح الإسكندري عند بديع الزمان، وأبو زيد السروجي عند الحريري، وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو عيسى بن هشام في الأولى، والحارث بن همام في الثانية؛ فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع، فيبقى ثابتًا دون تغيير، كما هو الحال عند الهمذاني، والحريري حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول، وكل مقامات الثاني. وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية، والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز، والحرص على إبراز سعة المعجم اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ؛ فكذلك حاول القاضي حميد

الدين أيضًا الجري في نفس المضمار، وإن لم يكن للفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن، حسبما ذكر المؤلف. ومن مظاهر التأثر الحميدي بمقامات بديع الزمان كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية؛ فضلًا عن الجمل، والعبارات الكامنة المنقولة من لغة الضاد، حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضرب مثل، أو سوق شاهد في أصله العربي. بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان؛ فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية، التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والأشعار، والأمثال العربية كما هي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن، ليس ذلك فقط بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي، بعد ترجمتها إلى الفارسية مع زيادة بعض الإضافات بغية إظهار تفوقه وبراعته، مثلما هو الحال في المقامة السكباجية؛ التي تقوم على المقامة المضيرية لدى الحريري. كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامة. هذه نقاط الاتفاق، أما الاختلافات؛ فتَكْمُن في أن بطل مقامات الحريري يختلفُ من مقامة إلى مقامة، كما أنّ رَاويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا؛ عِلاوةً على أنّ راويها شخص غيره، كذلك ففي الوقت الذي نجد فيه البديعي يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان؛ فإن الحميدي لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلقها على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها.

وإلى جانب ذلك؛ فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب؛ ثُمّ إنه بِسبب انتشار التصوف في إيران، في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين، وجدنا الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف، كما في المقامة "السكباجية" التي تجري في إثر المقامة المضيرية للهمذاني، إذ يوجد فيها شيخ ومريدون. وأخيرًا فقد أذكر أن الدكتور زكي مبارك كتب قائلًا: "إن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبري، وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف كما رأينا منذ قليل، ولعل الله يقيض لمسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي كذلك. وفي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوربا -كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال- جنس جديد من القصص، خطا بالقصة خطوات نحو الواقع، وهو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في أسبانيا، وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتُسَمّى في الإسبانية "بكاريسكا" وتختص بأن المغامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه؛ كأنّها حدثت له. وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومن فيه، ويُسافر فيها البطل المؤلف على غير منهج في سفره، وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع، ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته، ويحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكم تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس، وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث؛ ومن يمنحه الإحسان خير.

تأثر الفن القصصي الجديد في أوربا بفن المقامة.

وأول قصة من هذا الجنس القصصي في الأدب الإسباني هي قصة عنوانها: "حياة لسابيو دوتورموس وحظوظه ومحنه" وهي قصة تنبع من واقع الحياة في الطبقات الدنيا، وتصفها كما يمليها منطق الغرائز الصريح، وهي معارضة تامة لقصص الرعاة، وتسير على نقيضها؛ لأنها تصف واقع لا مثالية فيه ولا أمل. تأثر الفن القصصي الجديد في أوربا بفن المقامة ثم ينتقل الدكتور إلى القضية التي تهمنا هنا ألا وهي: قضية تأثر هذا الفن القصصي الجديد بالمقامة؛ فيقول: "ويوجد وجوه شبه قوية بين قصص الشطار السابقة الذكر، وبين المقامات العربية كما نعلمها عند بديع الزمان الهمذاني، ثم الحريري، ولم تبحث هذه المسألة بحثًا مقارنًا بعد، ولكنّ الأَدِلّة التاريخِيّة تقطع بأن مقامات الحريري عرفت في الأدب العربي في إسبانيا. ومن كتاب العرب الإسبانيين -يقصد الأندلسيين- من ألفوا مقامات على غرارها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، مثل: ابن القصير الفقيه، ومثل أبي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي، وقد شرح مقامات الحريري كذلك كثير من العرب الإسبانيين من أشهرهم: عقيل بن عطية المتوفى عام ألف ومائتين وأحد عشر، ثم أبو العباس أحمد الشليش المتوفى عام ألف ومائتين واثنين وعشرين. ثم إن مقامات الحريري ترجمت إلى اللغة العبرية، ترجمها سالمون بن زقبيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم ترجمها الحريزي وظهرت ترجمته عام ألف ومائتين وخمسة؛ وقد كانت هذه المقامات رائجة كل الرواج، لا بين العرب فحسب بل بين العبريين والمسيحيين أيضًا، ولهذا ترجموها إلى لغاتهم.

وإذًا قد لقيت هذه المقامات حظًّا كبيرًا في الأدب العربي في الأندلس، وغير معقول أن تظل مجهولة لدى كتاب الإسبان، وقصاصيهم بعد ذلك، وهذا التلاقي التاريخي هو الذي يفسر وجوه التشابه الكثيرة الواضحة بين المقامات، وجنس قصص الشطار في الأدب الإسباني، وقد آثر الكتاب الأسبان أن ينحو منحاها الواقعي على أن يسيروا على منوال قصص الرعاة المثالية، فكان جهدهم ذا أثر كبير في القضاء على قصص الرعاة، وفي التقريب بين القصة وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا فيه كتاب القصة للآداب الأوربية الأخرى. ولا يكتفي الدكتور هلال بذلك؛ بل يمضي فيبين امتداد تأثير المقامات، ذلك التأثير الذي يقوم عليه ما بسطه هو من شواهد قوية مقنعة، إلى خارج الأدب الإسباني، فيقول: "وممن تأثر بهم أي: بالأدباء الإسبان المتأثرين بالمقامات العربية، في الأدب الفرنسي "شارل سوريل" في قصته تاريخ "فرانسيون" الحقيقي الهازل، وقد نشرها في باريس عام ألف وستمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا، وهي على لسان شخصية "فرانسيو" يهجو فيها العادات والتقاليد بوساطة أشخاص من المتسولين، ومن يعد في حسابهم في نظر المؤلف، كما يهجو مختلف الطبقات الأخرى. وقد كانت هذه القصة، وأمثالها أصلًا لما سلكه الكاتب الفرنسي "لوساج" في قصته "جون بلا" التي ظهرت طبعتها الكاملة في فرنسا عام ألف وسبعمائة وسبعة وأربعين؛ وفيها يهجو المؤلف العادات والتقاليد على لسان البطل الذي سُمّيت القصة باسمه؛ كما كان قد انتفع بهذا الاتجاه العام الأقرب إلى الواقع الكاتب الفرنسي الآخر "جوتييه" في قصته التي عنوانها (موت الحب) " mart la mour " التي ظهرت في باريس عام ألف وستمائة وستة عشر، وفيها يُصَوّر

حبًّا ماديًّا بين راعٍ نفعي غليظ الطبع، وراعية في صفاتهما الحقيقية بين الرعاة العاديين، وهو حب لا مثالية فيه. ثم يخلص كاتبنا إلى القول بأنه بهذا الجهد المشترك لكتاب القصص في الآداب المختلفة، قضي على قصص الرعاة كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب، وقامت على أنقاضها قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث، وخلت القصة بذلك من العناصر العجيبة الخارقة للمألوف، واتخذت حوادث حياة العادية، مادة خصبة لموضوعاتها. وفي نفس الموضوع يكتب الدكتور جميل حمداوي في منتدى الزوراء قائلًا: لم تظهر لفظة "بيكاريسكا" باعتبارها لفظة إسبانية إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قُبيل ظُهور الرواية الشطارية الأولى في الأدب الإسباني للروائي المجهول، ألا وهي: حياةُ "لفاريو دوترموس" وحظوظه ومحنه، وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكل في أسبانيا لأول مرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا، وإنجلترا وأمريكا، وتعني هذه الرواية ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة "البيكارو" أو الشطاري المهمش. لذلك تنسب هذه الرواية إلى بطلها "بيكارو" الشاطر أو المغامر الذي يقول عنه قاموس الأكاديمية الإسبانية: نموذج شخصية خالعة وحذرة وشيطانية وهزلية، تحيا حياة غير هنيئة، كما تبدو في عيون المؤلفات الأدبية الإسبانية، أو أنه بطل مغامر شطاري، مهمش، صعلوك، محتال متسول. وتعتقد الأكاديمية الأسبانية أن لفظة "بيكارو" مشتقة من فعل "بيكار" في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال، والصيد، واللسع، وتعني "بيكاريسك" في اللغة

الفرنسية الأعمال التي تصف الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة، والمتسولين والأنذال، أو قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى. و"البيكارو" باعتباره بطل رواية "البيكاريسكية" ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين، لا يبالي كثيرًا بالقيم، ومساوئ الأخلاق؛ ما دام الواقع الذي يعيش فيه منحطًّا، وزائفًا في قيمه، يَسُوده النفاق والظلم، والاستبداد والاحتيال، حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء، ومدعي الإيمان، والكرم والثراء، وما هم "البيكارو" سوى البحث عن لقمة الخبز، ورزق العيش، لذلك فهو في حياته مزدوج الشخصية؛ جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته، وذكي يتكلم بالنصائح، ويتفوه بإيمان العقيدة، ولكنه في نفس الوقت يسخر من قيم المجتمع وعاداته، وأعرافه المبنية على النفاق والهراء. وهدف "البيكارو" من اتخاذ عمل منتظم لرزقه، بل يتسكع في الشوارع، ويتصعلق بطريقة بوهمية، وجودية، وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام، منتقلًا من شغل لآخر كصعلوك مدقع، يرفضه القانون وسنة الحياة والعمل، يفضل الارتحال والكسل والبطالة، وعلى رغم من كل هذا يحصل على المال لا باغتصابه، بل بالحيل والذكاء واستعمال المقدرة اللغوية، والحيل والمراوغة، وفصاحة اللسان، وبلاغة البيان، والأدب، ويجعل الناس يقبلون عليه بسلوكياته ومواقفه، ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته إشفاقًا عليه، وعطفًا واستطرافًا. وتعتبر نصوص "بيكاريست" بمثابة قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، أي: إنها قصصُ مُغامرات الشطار، ومحنهم ومخاطراتهم، لذا غالبًا ما تكتب صيغة سيرية أو طبوغرافية، روائية واقعية سواء بضمير المتكلم أم بضمير

الغائب؛ لذا تسمى أيضًا برواية "الأتوبوغرافية البيكاريسكية" التي يؤكد متى اعتماد الرواية على تصوير البعد الذاتي، وتجسيد تقاطعه مع البعد الموضوعي. وتتخذ هذه الروايات صيغة هجائية، وانتقادية لأعراف المجتمع، وقيمه الزائفة المنحطة، فاضحة إياها بطريقة تهكمية ساخرة، منددة بالاستبداد والظلم والفقر. وتتغنى الرواية "البيكاريسيكة" باعتبارها رواية شعبية بالفقراء والكادحين والمهمشين، الذين صودرت حقوقهم، وممتلكاتهم، وحرياتهم، وأصبحوا يعيشون على هامش التاريخ. لم يظهر الأدب "البيكاريسكي" في إسبانيا إلا تأثرًا بالفن الشعبي العربي بالأندلس، ولا سيما ظهور طبقة اجتماعية من الشطار العرب المسلمين المهمشين المشردين، الذين آثروا حياة الصعلكة، والبطالة والتمرد على قوانين المجتمع والسلطة، وكانوا يعيشون على حافة المجتمع سواء بالأندلس، أم في ربوع أخرى من العالم العربي الإسلامي، الذي انفتحت عليها أسبانيا. ويقضي هؤلاء الشطار "بيكاروس" حياتهم في التسول والاتحاد والغناء، وممارسة الكدية، والاحتيال قصد الإيقاع بالآخرين من أجل الحصول على المال، أو الحب أو لقمة العيش، وكان هؤلاء الصعاليك المحتالون المرحون يسمون في الثقافة الإسبانية بالمورو، وتحضر صور هؤلاء كثيرًا في الرواية الشطارية الإسبانية، إذ يقول أستاذي الدكتور محمد آنقار: "لم تكن الرواية الشطارية الأسبانية تتبلور من حيث نوع سردي بعيدًا عن التيارات، والأنواع الأدبية كالغنائية والمسرح الشعري، والقصة الموريسيكية، والقصية العاطفية أو الرعوية، التي حفلت كلها بصور غزيرة للمسلمين والعرب والمغاربة، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.

إلا أن مما يلفت النظر في الرواية "الشطارية" هو ضآلة صور "المورو" على الرغم من أن الظاهرة الموريسكية لم تكن قد تلاشت نهائيًّا خلال تلك الفترة، ويتعلق الأمر على الخصوص بالروايتين النموذجيتين "لافاريو" وتاريخ حياة "البسكو" وتعتبر رواية "لاثاريو دوترموس" نموذجًا "شطاريًّا" في إدانة المسلم، وتصوير وضعيته الرديئة حتى لدى الأوساط الدنيا لكي يعلم الناس أن "المورو" لا يؤدب إلا بعقابه، وتوبيخه، وصده عن غيه. ولكن السؤال الذي ينبغي طرحه كما يطرحه الأدب المقارن، هو: هل تأثرت الرواية "البيكاريسكية" الإسبانية بأدب المقامات؟ للإجابة عن هذا السؤال، انقسم الباحثون إلى قسمين: فريق ينكر هذا التأثير، وفريق آخر يؤكده ويثبته. ومن بين المثبتين هذا التأثير نذكر الدكاترة: محمد غنيمي هلال، وسهير القلماوي، وأحمد طه بدر، وعبد المنعم محمد جاسم، وعلي الراعي الذي يرى أن أثر المقامات الذي يعترف به الدارسون وعرب وغربيون، ربما كان أقوى أثر مفرط تركه العرب في الأدب الغربي. فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا، وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا؛ ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية التي أسهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين، من أمثال: "ديفو" و"فيلدنج" و"ديكنز" في إنجلترا و"لوساج" و"بلزاك" و"فلوبير" في فرنسا، بل لا تزال هذه الرواية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين أولهما: (فيلكس ترول) لـ"توماس مان" الألماني، والثاني (مغامرات أوجيه مارش) للكاتب الأميريكي "سول بريو". ولقد انتقل نموذج بطل المقامات العربية القديمة في العصور الوسطى العصر العباسي، إلى الآداب الأوربية؛ يقول غنيمي هلال: "فأثر فيها بخلق نموذج أدبيّ

آخر، تطورت به القصة الأوربية بعد أن عرفت تلك الآداب المقامات العربية عن طريق الأدب العربي في إسبانيا، وقد أثر نموذج بطل الحريري في الأدب العربي الأندلسي، ثم الأدب الأسباني بعامة، ثم تعاون هذا التأثير كله في خلق قصص الشطار، التي تعد قصة حياة "لاثاريو دوترموس" نموذجًا له. ويؤيد رأي الدارسين العرب باحثون إسبان هم أيضًا ذهبوا إلى تأثر الرواية "البيكاريسكية" بأدب المقامة العربية، ومن هؤلاء مؤلفا دائرة المعارف الوجيزة في الحضارة العربية، حيث يقولان: "إن هذا النوع الأدبي -يعنيان المقامة- قد تَسرّبا للأدب الفارسي، وغيره من آداب شرقية، ويبدو أنه قد أثر أيضًا إلى حد ما على كتاب الرواية الأوائل في كل من إسبانيا وإيطاليا". وينفي الناقلُ الإسباني "آنخرفلورس" التأثير المباشر للمقامات "البيكاريسك" لانعدام الطابع "الأتوبغرافي" في مقامات الحريري باستثناء مقامة واحدة، وهي المقامة "الحرامية" ولأنّ الترحال كان موجودًا في الآداب القديمة: اليونانية والرومانية؛ فإذا سلمنا جدلًا بأن بطل المقامات يقوم في كل مقامة منفردا برحلة تورطه في شتى الملابسات، مع أناس مختلف الأصوات والطبقات الاجتماعية؛ فلا يجب أن ننسى أن هذا التراث القصصي الذي يمثل البطل المتجول، والذي يبدو واضحًا في رواية "البيكاريسك" الإسبانية هو في الواقع سابق لظهور هذه الرواية، وسابق لانتقال أدب المقامات من الشرق العربي إلى المغرب وإلى الأندلس الإسلامي. ويجاري الدكتور عبد المنعم محمد جاسم مذهب المستعرب الإسباني "أنجلف فلورس" حينما قال: والذي أريد أن أقولَه في نهاية هذا المطاف حول إمكانية التأثير العربي في الرواية الإسبانية: إن هذا التيار العميق الغور، والبعيد المدى من

القصص والنوادر، والطرائف الشعبية العربية كان ذا أثر أبعد في التمهيد لظهور رواية "البيكاريسك" الإسبانية من المقامات التي وقف عندها الباحثون مرارًا وتكرارًا، وحاولوا أعطائها دورًا لم تكن بطبيعتها مؤهلة له. فالمقامات كانت تكتب للتداول في صفوف الضالعين والمتبحرين في علوم اللغة، وبما أنها كانت عسيرة اللغة، وعسيرة الفهم، وكثيرة المجاهل؛ فإنها لم تترجم إلى اللغة اللاتينية، أو اللغة الأسبانية. وعلى كل حال فأنا لا أحاول في هذا البحث الاستدلال على أية فصول من الأدب الأسباني، جاءت منقولة أو واضحة التأثر بأصول عربية؛ لكن القارئ قد يجد فيما أردت إثبات جديد لوجهة نظر الكاتب والناقد "آنخرفلورس" القائلة بأنّ الرواية بمظاهرها المختلفة، قد ظهرت في أسبانيا قبل أي بلد آخر بسبب أثر الحساسية العربية في الآداب الإسبانية. ويذهبُ الدُّكتور محمد أنقار إلى ضرورة التريث في الحكم على مدى تأثير المقامة، في "البيكاريسك" الروائي حتى تتوافر الأدلة العلمية الدقيقة، والحجج القاطعة؛ ولكن هذا لا يلغي أمكانية مقاربة "البيكاريسك" على ضوء السرد العربي القديم، ومن خِلال قواعد فن المقامة، تلك صور نادرة "للمورو" في هذه الرواية، أي: رواية "لآثاريو ديترموس" التي لا يعلم بعض النقاد الصلة بينها وبين الحكي العربي القديم، على مستوى العلاقة بفن المقامة أو بعض النوادر والحكايات. وإذا كانت مثل هذه الاحتمالات لا تزال في حاجة إلى تمحيص علمي مقنع؛ فإن ذلك لا يلغي بتاتًا إمكانية قراءة هذه الرواية "الشطارية" بموازاة مع أعراف السرد العربي القديم وأساليبه؛ مثلما هو الشأن في دراسة محمود طرشونة.

وهناك نقطة واحدة لا أُحِبُّ المُضي دون أن أقول كلمة سريعة بشأنها، ألا وهي: زعم المستشرق الإسباني أن البطل الجوال في قصص "البيكاريسك" قد ظهر في الأدب الإسباني قبل انتقال فن المقامة من المشرق العربي للأندلس، وهو زعم خاطئ؛ إذ إن قصة حياة "لوثاريو دوترموس" وحظوظه ومحنه، التي ذكر محمد غنيمي هلال أنها أول قصة من نوع "البيكاريسك" في ذلك الأدب قد ظهرت عام ألف وخمسمائة وأربعة وخمسين على حين انتقلت المقامة للأندلس قبل ذلك بعدة قرون. ويزيدُ الأمرَ إيضاحًا دكتور عيسى الدودي في مقاله: "تأثير المقامة في فن السردي الأوربي المنشور في منتدى المؤتمر" فيقول: اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي، بكون المقامة كانت جسرًا لمرور القصة لإسبانيا وعموم أوربا، وذلك استنادًا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين. بدأ فن المقامة في الانتشار في أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق الحريري والهمذاني، ثم إنه قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون لهذا اللون من الأدب. وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق من رحل إليهم من المشرق، كما قدر للأندلسيين الوافدين المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة من أسعدهم الحظ، وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلدهم، ونشروا هذه المقامات، فلقيت قبولًا من طرف الأندلسيين، ونالت حظّها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق، ونُسجت على منوالها مقامات مشهورة، كـ"مقامة أبي حفص عمر الشهيد"، و"مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي" و"مقامة عبد الرحمن بن فتوح" و"مقامة ابن المعلم".

ثم إن هناك من توجه لشرحها كمحمد بن سليمان المالقي، وعبد الله بن ميمون العبدري الغرناطي، وأبي العباس الشريشي، وعقيل بن عطية، ومقامات البطاليوسي، وابن المرابع الأزدي صاحب مقامة العيد، وابن القصير الفقيه، ولسان الدين الخطيب، بالإضافة إلى مقامتين لمحارب بن محمد الواد آشي، والمقامة الدوحية أو العياضية، ومقامة ابن غالب الرصافي. ويبقى أبرز من تأثر بالمقامات الشرقية السرقسطي، وتُسمى مقاماته بالمقامة السرقسطية، وهي المعروفة باللزومية؛ وهي خمسون مقامة عارض بها مقامات الحريري. والمقامة هي: حكاية عن حيلة تافهة بطلها مُتشرد ظريف، يتقمص في كل مرة شخصية معينة؛ فهو مرة قراد يسير بقرده؛ ليجمع الناس في حلقات، فيضحكهم، ويأخذ من أكياسهم. وهو مرة واعظ محترف يلج المساجد تدمع عينه، ويرتل آيات الذكر ورقائق الوعظ، وسير الصحابة، ومرة ثالثة ينحط لدرجات وبيئة، فيسرق أكفان الموتى، ويجمل خادمه ليوقعه في حبه المتهورين. ويتوخى صاحب المقامة من ذلك: الوصول إلى قلوب الناس، وكسب مودتهم بمقدرته اللغوية، وألاعيبه اللفظية، وذلك بالإغراق في السجع والصناعة البديعية، حتى أن الدكتور عبد الله بن علي بن ثقفان قد سمى المقامة بالقصة اللغوية، وهذا ما جعل الأندلسيين يطلقون اسم المقامة على كل قطعة من النثر المنمق المرصع بالأشعار النفيسة. وإذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثيرها في الأدب الأوربي خاصة السردي منه: فإن كثيرًا من الباحثين تحدثوا عن تأثير فن المقامات في الأدب الأوربي تأثيرًا واسعًا متنوع الدلالة؛ فقد غزت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية، وعناصرها ذات الطابع الواقعي.

وتعلق "حبيبة تلبور قادي" عن هذا اللقاء الأدبي بقولها: "وهذا اللقاء التاريخي هو الذي يشرح وجوه الشبه الكبيرة بين المقامات، وقصص الشطار في الأدب الأسباني، وقد فضل الكتاب الأسبان أن ينسجوا على منوال قصص المقامات الواقعية، عوضًا أن ينسجوا على منوال قصص الرعاة، واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يقربوا بين قصصهم وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا كبيرًا في الآداب الأوربية. ثم إن المقامة حولت الأدباء من الجري وراء الخيال، وذلك بنسجه قصص الحب والفروسية والرعاة إلى الواقعية، وتقريب الفرد من المجتمع، ودعته ليفتح عينيه على واقعه، لذلك اتجه الكتاب الروائيون بإيحائها إلى التحدث عن أحوال المجتمع، وظروف الأغمار من الناس، ثم أبدعوا روائعهم في هذا الاتجاه الواقعي، متناسين هذه الأحلام الهادئة التي كانوا يملئون بها قصصهم الخيالية. وأول قصة من هذا النوع في الأدب الإسباني كان عنوانها "حياة لاثاريو ومحنته" وقد نشرت أول مرة سنة ألف وخمسمائة وخمسة وخمسين، وفيها وصف لطفل بائس كان ابنًا لطحان فقير، سُجنَ وذو جريمة صغيرة كانت منه، ومات في السجن دون عائل يرعاه، فبدأ حياته شحاذًا يتسول، وقد اهتدى في حرفته الفقيرة بأعمى متمرس، كان سيبين له طريق الشحاذة، ثم يختلفان بعد حينٍ لشراهة الأعمى وطمعه في ابتزاز صاحبه، فتركه ليعمل خادمًا لدى قس محترف، يعيش على أموال الصدقات، ويشاهد غرائب عجيبة من بخله، وجشعه، وأثرته. وممن تأثر كذلك بالأدباء الأسبان في هذا المجال "شارل سريل" في قصته "تاريخ فرنسيون الحقيقي الهازل" وقد نشرت باريس سنة ألف وتسعمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص شطار في فرنسا على لسان فرنسيون

يهجو فيها العادات والتقاليد، بواسطة أشخاص من المتسولين، ومن يعد في زمرتهم في نظر المؤلف، كما يهاجم مختلف الطبقات في عهده من خلال أولئك الأشخاص، وقد سار على نهجه لوساج في قصته التي يهجو فيها العادات والتقاليد، على لسان البطل الذي سميت القصة باسمه "فيل بلا". وانتفع بهذا الاتجاه "جوتييه" في قصة "موت الحب" وهذه المقامات زكت الاعتقاد أن قصص الشطار قد حوت نقدًا مريرًا للأنظمة الإقطاعية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، يُشبه ذلك النقد المرير الذي قدمه بديع الزمان للواقع الإقطاعي في العصر العباسي من خلال مقاماته. كما أن هناك من الباحثين من يثير تأثير المقامة في الكوميديا الإلهية، "لدانتي" إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكاتب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو المُلم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك. وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الإسباني "بلاثيوث" في كتابه (المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية) وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عامًا، وازن فيها المؤلف بين قصيدة "دانتي" من جهة، وبين الكتب الدينية الإسلامية وبعض الكتب الدينية العربية كالقرآن الكريم، وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين، ولا سيما كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي و (رسالة الغفران) للمعري، وقصص الإسراء والمعراج، وانتهى المؤلف في دراسة كل هذا إلى القول بأن "دانتي" كان مطلعًا على كثير من نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في الكوميديا الإلهية، مما يتعلق بالبعث والحشر وخلود النفس ومشاهدة الجنة والنار. ونشير إلى أنه وظف هذه المعاني الدينية وفق تصوره، إذ يقول الدكتور نذير طعمة: "لقد تأثر "دانتي" بمعمارية المعراج، فأفرغها من مضامينها الإسلامية، وملأها بمضامين ومواقف تنسجم مع ثقافته ومعتقده.

وهذا يأخذنا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي؛ فقد ذكر "بيير كاركيا" أن الفن الروائي لم يجد متنفسًا له سوى في المقامة، وهي كلمة ترجمت إلى الإنجليزية بلفظة "السنمبيلي" وإلى فرنسية بلفظة "سيونس" مما يفيد أنه يمكن قراءتها في جلسة واحدة. وينقل محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي "آنس درينان" هذا الإعجاب بالمقامة التي آثرها على مجموعة "بلزاك" الأدبية، بحيث أن الحريري قاد شحاذه في خمسين موقفًا مختلفًا، بقوة اختراع عجيبة، ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات؛ لنعلم مهارة الغرابة التي تنطوي عليها فكرة المقامات، أرادوا أن يضعوا في القرن التاسع عشر مهزلة بشرية يشير إلى مجموعة "بلزاك" المسماة بهذا الاسم؛ فلم يعرفوا كيف يجعلونها في قالب مقبول؛ في حين حقق الحريري هذه الفكرة والمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، أما بلزاك فقد نقصته شخصية أبي زيد الذي لا تكاد تلمسها حتى تفلت. وننهي حديثنا عن المقامة بالإشارة إلى أن التراث العربي الإسلامي ليس هو الوحيد الذي أثر في الفن السردي بإسبانيا، بل هناك تأثيرات مسيحية لا يمكن القفز عنها وتجاهلها، ويؤكد هذه الحقيقة عبد العزيز الأهواني بقوله: "وحين نتجاوز الألفاظ، والأخبار، والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال قصة "البيت المقفر" في طليطلة، وكيف أمر "لذريق" آخر ملوك "القوط" بفتحه، فكان نذيرًا بدخول العرب إلى إسبانيا". وقصة بنت ليون صاحب سبته مع ذلك الملك، وكيف غيرت التاريخ، وكلها قصص أخذت بغير شك من التراث الشعبي المسيحي. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 8 قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها.

الدرس: 8 قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها.

تطور قصة حي بن يقظان في الأدب العربي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها) تطور قصة حي بن يقظان في الأدب العربي قصة حي بن يقظان، وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها: في التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان "حي بن يقظان"، وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخصٍ نشأ في جزيرة وحده، وتصور علاقته بالكون والدين. أول منشئ لقصة "حي بن يقظان" هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلفٍ من بين هؤلاء الأربعة هو ابن طفيل، وبسبب من شهرة هذه الرواية قيل إن قصصًا غربيةً مثل قصة "روبنسون كروزو" و"طرزان" قد نسجت على منوالها. وتُعَرِّف مادة "حي بن يقظان" في الموسوعة العربية العالمية برواية ابن طفيل فتقول: "حي بن يقظان اسم قصة عربية أصيلة، تمثل شكلًا باكرًا من أشكال الفن القصصي عند العرب، وتبرز أنماط فهم الناس للدين؛ كما تظهر آراء صاحبها ومفهومه في قضايا العقل والشريعة، كتبها فيلسوف غرناطة في القرن السادس الهجري، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن الطفيل القيسي، توفي سنة خمسمائة وإحدى وثمانين للهجرة، ولم ينقل لنا من أعماله -وهو مقل- غير هذه القصة". وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي. نشأ بطل القصة حي بن يقظان في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها، وبعد أن نمى وترعرع تأمل الكون الذي حوله،

فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة؛ وينتقل إلى جزيرة أخرى فيلتقي بشخصين وهما سلامان وأبسال؛ يعلم الأول منهما أهل الجزيرة الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا الحقائق الإلهية، والوجودية عن طريق ضرب الأمثال. بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي، وفيه نزعة صوفية. ويدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أن ما توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورثه أبسال عن طريق النبوة، إنْ هُو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكونُ واحد، والخالق واحد، وهو رَبُّ السّماوات والأرض، وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرة للعامة على إدراك الحقيقة المجردة، التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي. والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن حيًّا لا يُكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، ويعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليعبدا الله عبادة روحية خالصة، حتى يأتيهما اليقين. وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتؤكد قصة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وترجمة إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة، وكان ابن طفيل أستاذًا لابن رشد الذي سماه "دانتي" الشارح الأكبر، والذي عن طريقه عرفت أوربا في عصر النهضة أرسطو وفلسفته.

وقد حدد ابن رشد ثلاثة مستويات لفهم الشريعة والدين، وهي ليست بعيدة عن جوهر ما ذهب إليه ابن طفيل في (حي بن يقظان) فهناك فهم العامة للدين، وفهم الخاصة، وفهم خاصة الخاصة وإن كان للدين جوهر واحد لا يتغير. وقصة "حي بن يقظان" وضعت أيدينا على تباين المستويات لهذا الفهم، بشكل روائي قصصي يطرح قضية فلسفية، وتتجلى براعة ابن طفيل في مزجه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده؛ لتسويغ هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا، وقد ذكر ابن طفيل تأثره في قصته بفلسفة ابن سينا. وفي قصة "حي بن يقظان" جوانب من النضج القصصي، وإن كان قالب القصة ليس سوى إطار لصب الآراء الفلسفية والصوفية في النص، وقد قدر كثير من النقاد هذا الجهد القصصي لابن طفيل، فعدوا "حي بن يقظان" أفضل قصة عرفتها العصور الوسطى جميعًا. وهناك روايتان تفسران لنا ولادة حي بن يقظان: الأولى: تقول إنه تولد من الطين في جزيرة جنوب خط الاستواء تسمى الوقواق، وهي جزيرة خيالية كما هو واضح. على حين تخبر الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا، فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت وأسلمته لليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة، وتصادف أن مرت في هذا المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته؛ فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه فعثرت على الطفل الرضيع؛ فأخذته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهت.

ويكبر حي بن يقظان، وتمر حياته بسبع مراحل -كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسوعة "الويكيبيديا": أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها له، ورعايتها إياه حتى بلغ سبع سنوات. ثم بعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة. وهنا تأتي المرحلة الثالثة، وكانت في اكتشافه للنار. أما المرحلة الرابعة: فكانت في تصفحه لجميع الأجسام، التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يكتشف الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور. وتلا ذلك المرحلة الخامسة: وكان في اكتشاف الفناء، وهذا شجعه إلى الخروج من رصده إلى معارف في العالم بقدمه وحدوثه. وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ حي مرحلته السادسة: وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد كما شعر داخله بالشوق إلى واجب الوجود. وأخيرًا يدرك حي بن يقظان في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة، لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياةٍ رسمها هو نفسه. وتمثل هذه القصة العقل الإنساني الذي يستطيع بجهده الذاتي، أن يصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، كما تؤكد أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية؛ وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وتُرجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة.

ومن الواضح أن ابن طفيل في إيراده الروايتين اللتين تفسران مولد حي بن يقظان، إنّما يجري على ما جاء في القرآن من أن الإنسان كجنس من أجناس الكائنات، قد جبل من الطين إلا أنه كأفراد لا يتولد من التقاء رجل بامرأة؛ ذلك أن هذه القصة إنما تعكس تطور الجنس البشري على الأرض، منذ خلق الله الإنسان إلى العصر الذي كان يعيش فيه ابن الطفيل، إذ من المستحيل أن يتطور الفرد الإنساني بهذه الطريقة، وبتلك السرعة، وعلى هذا النحو السلس الذي تطورت به حياة ابن يقظان في القصة، فيكتشف النار مثلًا، ويَعرفُ التّشريح والتفكير العلمي المنهجي، والتأمل في الكون، والإيمان بالله وبالآخرة، وبضرورة الأخلاق الفاضلة، وما إلى هذا بتلك البساطة وفي ذلك الزمن القصير. فهي بهذا قصة رمزية؛ ولولا رَمزيتها لما قبلنا أن تقوم غزالة بإرضاع طفل بشري، أو تنظفه من وساخاته وفضلاته، أو تحميه من الآفات الطبيعية، والهوام والحشرات والزواحف التي تعج بها الغابات، أو تحمله على ظهرها من مكانٍ إلى مكان، ببساطة لأن هذا أمر مستحيل، وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشرعية، أو بين الفلسفة والدين -كما سبق أن أومأنا- وهي فكرة كان يتبناها بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، إذ كانوا يقولون إن العقل الإنسان كافٍ وحده لوصول الإنسان إلى الحقيقة، بشأن وجود الله ومعرفة صفاته والإيمان بالآخرة. ومن ثم وجوب تحمل المسؤولية، واستحقاقه للحساب الإلهي، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب. وكانوا يفسرون الرسول في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) بأنه هو العقل، وهذا التفسير يعكس شططًا في التفكير، إذ لا تساعد عليه اللغة العربية، ولا النصوص القرآنية والحديثية، ولا ريب أن نصوصًا قرآنية

مثل قوله تعالى في سور "النساء": {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 163 - 166) أو قوله في سورة "طه": {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 133، 134) هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أنه لا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، دون رسل من البشر لا من العقل؛ حسبما يقول بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين. ثم لو كان العقلُ وحده كافيًا في مثل تلك الأمور؛ فلماذا لم يكل الله عباده إليه؟ كذلك فمعروف لنا جميعًا من تجارب التاريخ الواقع الأليمة، أنه رغم إرسال الأنبياء والرسل، فما زال وسيظلُّ هُناك كفارٌ، ومنافقون، ومتمردون، ومتشككون، ومؤمنون، وعصاة، وظلمة ومستبدون وطغاة، ولصوص وقتلة، وزناة وكسالى، وسبابون، ومغتابون؛ فما بالنا لو ترك الله البشر لعقولهم المجردة دون أن يبعث إليهم برسلٍٍ تأخذ بيد تلك العقول، وتشير لها إلى الطريق، وتعينها على التفكير السليم.

" حي ابن يقظان" وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي.

" حي ابن يقظان" وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي هذا عن حي بن يقظان، فماذا عن صيرورتها خارج النطاق العربي الإسلامي، وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي؟ تجيب على ذلك ذات المادة من موسوعة "الويكيبيديا" في نسختها الإنجليزية، فقد جاء فيها أنه ظهرت لرواية ابن طفيل ترجمة لاتينية عام ألف وستمائة وواحد وسبعين، بقلم "إدوار بكوك" الذي كان قد أعدها منذ عام ألف وستمائة وستين، وأنها قد أوحت إلى المفكرين بمفهوم "التبيولا رازا" أي: العَقل في حالته الأصلية، قبل أن تدخله أي فكرة أو معلومة، وقبل أنْ يَخْبُر الحياة أو يعرف أي شيء فيها، وهو المفهوم الذي طوره "جون لوك" في رسالته " anesa conserning human understanding ". وكان "لوك" تلميذًا لـ"بو كوك" وقرأ ترجمته لكتاب ابن طفيل، وأبدى إعجابه به. كما أوحت حي ين يقظان إلى "روبرت بويل" بكتابة روايته " the Espaliering naturest" التي تقع أحداثها أيضًا فوق جزيرة من الجزر. أما أول ترجمة إنجليزية فقد صدرت عام ألف وستمائة وستة وثمانين بقلم "جورج آشويل" اعتمادًا على الترجمة اللاتينية السالفة الذكر، ثم ترجمت مرة أخرى إلى الإنجليزية من العربية مباشرة، عام ألف وسبعمائة وثمانية على يد "سايمون أوكلي" لتظهر بعدها ترجمتان إنجليزيتان أخريان، كما أشار مُحَرّر المادة إلى اطلاع "إسبينوزل" الفيلسوف الألماني على الرواية، وتشجيعه إلى أحد أصدقائه على ترجمتها إلى الهولندية؛ فكانت الترجمة التي دارت سنة ألف وستمائة واثنتين وسبعين، والتي ظهرت ترجمة هولندية أخرى بعدها بنحو ثلاثة عقود عام ألف وسبعمائة وواحد.

كما ظهرت ترجمتان ألمانيتان أخريان: أولاهما تستند إلى الترجمة اللاتينية، والثانية مأخوذة من النص العربي دون وسيط. وقد اطلع الفيلسوف الألماني "لايف نتس" على إحدى هاتين الترجمتين، وأثنى على ما في الرواية من فلسفة عربية إسلامية ثناءً كبيرًا، وبالمثل اطلع أساتذة السربون على ترجمة "بو كوك" وكانوا مبتهجين بها أشد الابتهاج. وفي سنة ألف وسبعمائة وتسع عشرة ألهمت إحدى الترجمات الإنجليزية لحي بن يقظان، الروائي "دانيل بيفو" فكتَبَ رِوَايتَهُ "ربنسون كروزو" التي جرت وقائعها في إحدى الجزر المهجورة، وهي العمل الذي يعده مؤرخو الأدب أول رواية إنجليزية. ثم ظهرت رواية أخرى عام ألف وسبعمائة وواحدٍ وستين في بريطانيا على نفس الشاكلة تحتوي على أشياء كثيرةٍ جدٍ من ترجمة "بوكوك" لحي بن يقظان، ثم أعيد طبع ترجمة "بوكوك" ثانية عام ألفٍ وثمانمائة وأربعة، أما ترجمة ابن يقظان إلى الأسبانية، فقد تأخر ظهورها إلى بداية القرن العشرين، ثم ظهرت ترجمة فرنسية لها في نفس العام بقلم المستشرق "ليون جوتيه". وفضلًا عن هذا كانت "حي بن يقظان" إرهاصًا على نحو من الأنحاء برواية "جان جاك روسو" المشهورة "إيميل" كما أن بينها وبين رواية "ردير كبلينج" " the jungle book " شبهًا واضحًا، وكذلك بينها وبين رواية "طرزان" التي ألفها "إدجار ريس باروز" وتدور حول طفلٍ رضيع، هجرته أمه في جزيرة استوائية خالية من السكان؛ حيث التقطته، وربته واعتنت به ذئبة من الذئاب. وهناك كتاب مفكرون أوربيون غير قليلين تأثروا بترجمة "بوكوك" لرواية "حي بن يقظان"، منهم "جون ولس" و"روبرت بركلي" و"كارل ماركس" وطائفة "الكويكرز" المعروفة وآخرون.

الصلة بين "حي ابن يقظان" و"روبنسون كروزو".

وفي عام ألف وسبعمائة وواحد وعشرين، ظهر في أمريكا كتاب " the kreshtian fresofr" للكاتب والقسيس الأمريكي البيوريتاري "كوتن ميثر" الذي لم يمنعه وسمه المسلمين بالكفر من استيحاء رواية حي بن يقظان في كتابه هذا، ولا من الاعتراف بتأثيرها عليه، ناظرًا إلى حي بطل الرواية بوصفه نموذجًا للفيلسوف النصراني المثالي، ومحاولًا من خلاله فهم نفسية سكان أمريكا الأصليين -أي: الهنود الحمر- بُغية تحويلهم إلى مذهبه "البيوريتاني". الصلة بين "حي ابن يقظان" و"روبنسون كروزو" وكما نرى؛ فإن مادة "حي بن يقظان" في النسخة الإنجليزية من "الويكيبيديا" تُؤكِّد أنّ تأثيرَ رواية ابن طفيل على الآداب الأوربية تأثير واسع وعميق، وعند هذه النقطة نحب أن نتوقف بشيء من التفصيل إزاء قضية الصلة بين تلك الرواية، وبين رواية "ديفو" "روبنسون كروزو" ولكن علينا أولًا أن نتعرف إلى "روبنسون كروزو" مثلما تعرفنا إلى حي بن يقظان، وسوف يكون اعتمادنا هذه المرة أيضًا على ما جاء في المادة الخاصة بتلك الرواية، في موسوعة "الويكيبيديا". فنقول: إن "روبنسون كروزو" قصة كتبها "دانيال ديفو" ونشرها لأول مرة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، وهي تَحكي قصة شابٍ عاش في جزيرة من الجزر وحيدًا، لمدة طويلة دون أن يُقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات التقى بأحد المتوحشين، فعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكريٍ، واتخذه خادمًا له، ثم يعود في نهاية المطاف مصطحبًا خادمه إلى أوربا حيث العالم المتحضر.

وتبدأ القصة بمغادرة "كروزو" إنجلترا في رحلةٍ بحرية في سبتمبر عام ألف وستمائةٍ وواحدٍ وخمسين، مخالفًا رغبات والديه ويسطو القراصنة على السفينة، ويُصبح "كروزو" عبدًا للمغاربة؛ إلا أنه يتمكن من الهرب في زورق، ويُصادف قائد سفينة برتغالية قادمة من الساحل الغربي لإفريقيا في طريقها إلى البرازيل، وهناك يُصبح "كروزو" مالكًا لإحدى المزارع، وينضَمُّ إلى بعثة لجلب العبيد من إفريقيا. وتغرق السفينة التي كان فيها وقت ذاك، في عاصفة تبعد أربعين ميلًا في البحر في مدخل نهر "أورينيكو" في الثلاثين من سبتمبر عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين؛ فيموتُ جميع رفاقه ما عداه، ويتمكن من استخلاص الأسلحة والأدوات، والتجهيزات الأخرى التي كانت في السفينة قبل أن تتحطم تمامًا وتغوص في الماء، ثم يقوم ببناء صورٍ لمسكنه الذي أقامه في كهف، ويصنع أيضًا تقويمًا يتعرف به على مرور الزمن، من خلال علاماتٍ يرسمها على قطعة خشب، كما يقوم بالصيد وزراعة الذرة ويتعلم صناعة الفخار، وتربية الماعز، ويَقرأ الإنجيل، ويصبح متدينًا فجأة، ويشكر الله على مصيره فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع. وفي يومٍ من الأيام يكتشف "كروزو" جماعة من آكلي لحوم البشر، يقومون بزيارة الجزيرة؛ ليقتلوا ويأكلوا أسراهم، وعندما استطاع سجين من السجناء الهروب انضم إلى "كروزو" الذي سماه "فراي داي" باسم يوم الجمعة الذي قابله فيه؛ فصار يعلمه الإنجليزية حتى يستطيع التفاهم معه، كما نجح إلى تحويله إلى النصرانية. ثم تصل مجموعة جديدة من السكان الأصليين لصنع وليمة أخرى من اللحوم البشرية، ويستطيع جمعة و"كروزو" قتل معظمهم مع الاحتفاظ باثنين من

أسراهم: أحدهما والد جمعة، والثاني أسباني. ويخبر هذا الأخير "كروزو" أن مجموعة من الأسبان الذين غرقوا موجودون على هذه الجزيرة، ويستطيع الثلاثة بمعاونة هؤلاء الإسبان بناء سفينة يبحرون بها إلى إسبانيا. بيد أن سفينة الإنجليزية تظهر، ويقع فيها تمرد يسيطر أصحابه على السفينة، ويتركون قائدهم على الجزيرة، إلا أن القائد يستطيع بمساعدة "كروزو" استرداد السفينة، ثم يسافر "كروزو" بعد ذلك إلى البرتغال للبحث عن قائده القديم، الذي يخبره بأن مزرعته البرازيلية قد جعلت منه رجلًا غنيًّا، ومن البُرتغال يُسافر "كروزو" برًّا إلى إنجلترا عن طريق أسبانيا أو فرنسا، حيث يتعرض هو ورفاقه في جبال "البرنيز" لهجوم من الذئاب، ويقرر "كروزو" بيع مزرعته، إذ إن عودته إلى البرازيل تستلزم تحوله إلى "الكاثوليكية" وهو ما لا يريده. ثم تزوج ليصبح أبًا لثلاثة أطفال، وعندما تموت زوجته يصبح أرمل، يعود إلى جزيرته في نهاية المطاف. هذا وقد سبق أن رأينا كيف تؤكد مادة حي بن يقظان في "الويكيبيديا" أن للرواية العربية تأثيرًا قويًّا على نظيرتها الإنجليزية، وهو رأي من الآراء المختلفة في هذه القضية، التي ينقسم مقارنو الأدب بشأنها، إذ هناك من يتجاهل تلك الصلة، ولا يتحدث عنها بتاتًا، بل لا يومئ إليها مجرد إيماء، وكأنها لم تكن، ولا يمكن أن تكون. وهناك من يؤكد أن "ديفو" إنما سرق ما كتبه "سل كرك" البحار الإسكتلندي عن مغامرته الحقيقة المشابهة لما جاء في قصة "روبنسون كروزو" تلك المغامرات التي نُشرت أكثر من مرة، قبل كتابة "ديفو" لروايته، وهناك من يشير إلى وجود الشبه بين العملين، إلا أنه يردف ذلك بأنه لم يثبت أن "ديفو" قد استوحى كتاب ابن طفيل، إذ ليس هناك أي دليل على أنه وقع في يده فضلًا عن أن يكون قد قرأه.

وهناك من يُوافق على أنه لم يثْبُت تاريخيًّا أن "ديفو" قد اطلع على حي بن يقظان ب يد أنه يحتم مع هذا أن يكون قد قرأها وتأثر بها، أي: أنه يعتمد على البرهان النظري ولا الواقعي. يقول الدكتور سعيد إبراهيم عبد الواحد، في مقال له بعنوان "الترجمة إثراء للثقافات المختلفة" منشور في (مجلة الديوان العربي) الضوئية عن "حي بن يقظان": "إنها من أعظم قصص العصور الوسطى ابتكارًا، وقد كان لهذه القصة الأثر الفعال في الآداب الأوربية بعد عصر النهضة، وذلك بعد أن ترجمة إلى لغاتٍ أجنبية مختلفة، وانتشرت طبعاتها في كل مكان، فقد ترجمة إلى العبرية سنة ألف ومائتين وثمانين، على يد اليهودي إسحاق بن اللطيف، ثم زاد عليها ميشل بن يوشع، الملقب بالشرنوبي بعض الحواشي والشروح، كان هذا عام ألف وثلاثمائة وتسعة وأربعين. وفي العام ألف وستمائة وواحد وسبعين ظهرت طبعة جديدة تحمل النص العربي للقصة، مع ترجمة لاتينية قام بها "إدوار بوكوك" وقد كانت مصدرًا لعدة ترجمات ظهرت بالإنجليزية فيما بعد، كما تنسب إلى "اسبينوزا" ترجمة لقصة "حي بن يقظان" من اللغة اللاتينية إلى اللغة الهولندية، ويذكر فاروق سعد في كتابه عن حي بن يقظان، أنّ "جُورج كيف" قد قدم في العام ألف وستمائة وأربعة وسبعين، ترجمة رائعة باللغة الإنجليزية عن النص اللاتيني المترجم عن العربي أصلًا، وبعدها بعدة سنوات أي في العام ألف وستمائة وستة وثمانين ظهرت ترجمة أخرى للقصة من اللاتينة إلى الإنجليزية، قام بها "جورج آشول". وفي عام ألف وسبعمائة وثمانية نُشرت ترجمة إنجليزية لقصة حي بن يقظان، أعدها "سيمن أوكلي" معتمدًا على النص العربي المحقق من "بوكوك" وتتميز

ترجمة "أوكلي" بأنها كاملة. أما عن الترجمات الحديثة: فقد قام "برومل" بترجمة "حي بن يقظان" إلى الإنجليزية، عام ألف وتسعمائة وأربعة. وعرفت اللغة الألمانية ترجمة لقصة ابن طفيل "حي بن يقظان" قام بها "بارت يوس" ونُشرت في "فرانك فورت" عام ألف وسبعمائة وستة وعشرين، كما أنّ هُناك تَرجمة أخرى لقصة لحي بن يقظان إلى اللغة الألمانية، قام بها "آي كورم" ونشرت في برلين عام ألف وسبعمائة وثلاثة وثمانين. وفي عام ألف وتسعمائة نشرت في سرقسطة الترجمة الأسبانية لقصة "حي بن يقظان"، وقام بها "بونص" وحديثًا في العام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين ظهرت ترجمة أخرى إلى الأسبانية، قام بها "أنخر جنسلس بالانسيا" وترجمها اليوم "جوتيه" قصة حي بن يقظان إلى الفرنسية، وقد صدرت إحدى طبعات هذه الترجمة في بيروت عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين. ولعل "جوتيه" هو أول من بحث علاقة قصة "حي بن يقظان" بقصة "روبنسون كروزو" المكتوبة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر في بريطانيا تحت عنوان "مغامرات عجيبة في قصة حياة روبنسون وكروزو" ووقف "جوتيه" عند حد افتراض اطلاع "ديفو" على قصة ابن طفيل. وفي دائرة المعارف الإسلامية ذهب إلى اعتبار أن "كروزو" تمثل نمطًا للرجل العملي دنيويًّا في حين يمثل حي بن يقظان مثلًا للحياة التأملية التصوفية، ويأتي "آينس بيكر" في كتابه (تاريخ القصة الإنجليزية) الصادر في لندن سنة ألف وتسعمائة وثلاثٍ وأربعين، ليعتبر حي بن يقظان أحد المصادر المحتملة لقصة "روبنسون كروزو" وينضم "وليم كري" و"ليفج أولفسن" إلى أولئك الذين جزموا باطلاع "ديفو" على قصة حي بن يقظان، في حين يقف "أوجستين سيرارو" و"ديرهارو" و"يختو ناش" دون الجزم.

أما الكتاب العرب عمر فاروق، ومحمد غلاب، وعلي المسراتي، وخالد الطوقان، وكمال اليزجي، وأنطوان كرم، وإبراهيم مدكور، ومحمد لطفي جمعة، ولطفي عبد البديع، وسعيد عبد الفتاح عاشور، وكامل الكيلاني؛ فقد ذهب جميعهم على تأكيد أثر قصة حي بن يقظان في قصة "روبنسون كروزو". وممن افترض أيضًا اطلاع "ديفو" على "حي بن يقظان" المستشرق "جيشون" كاتب مادة حي بن يقظان في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية، إذ كتب: "أنه من المحتمل أن تكون قصة "روبنسون كروزو" التي ظهر جزؤها الأول عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، مدينة بعض الشيء لترجمة "أوكلي" لقصة ابن الطفيل. كذلك يقر كامل الكيلاني في مقدمة ترجمته المبسطة للناشئين لكتاب "روبنسون كروزو" أنه قد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة حي بن يقظان، أما الدكتور عمر فروخ، فقال في كتابه (تاريخ الأدب العربي): "لقد قلد هذه القصة كتاب كثيرون أشهرهم، وأقربهم إلي السياسي القصصي الأدبي "دانيال ديفو" في قصته "روبنسون كروزو". كذلك كتب جميل صليبة، وكامل عياد، في مقدمة تحقيقهما لكتاب ابن الطفيل ما يلي: "وتمتاز قصة ابن الطفيل عن قصة "روبنسون كروزو" من الناحية الفلسفية، كذلك تمتاز على غيرها من القصص الفلسفية الشرقية، بالقرب من الحقيقة الواقعة، وبالوصف الطبيعي، وبالتفصيلات الدقيقة عن الحياة العملية، عدا رشاقة الأسلوب، وسهولة العبارات، وحسن الترتيب؛ وهي بهذه المزايا تعتبر في مقدمة الآثار العربية التي تستحق الخلود في تاريخ الفكر البشري. وبالمثل تؤكد مادة "روبنسون كروزو" في ذهلول الموسوعة العالمية المجانية الضوئية أن رواية "ديفو" مستوحاة من حي بن يقظان، إذ نقرأ فيها أن ذلك العمل هو قصة

أوربية مأخوذة عن قصة حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي، وأنّه بعد ترجمة قصة حي بن يقظان بدأ الغربيون ينسجون على منوالها، ولعل أهم ما نسجوه قصة "روبنسون كروزو" للكاتب "دانيال ديفو" ورغم هذا؛ فإن كاتب المادة لا يغفل الفروق التي بين الروايتين بل يرصدها معليًا في الوقت ذاته من شأن الرواية العربية على نظيرتها الإنجليزية. وأما الدكتور محمد غنيمي هلال فيستبعد أن يكون لحي بن يقظان تأثير على قصة "ديفو" لأن التشابه بينهما ظاهري ضئيل -كما يقول- علاوة على أن لقصة "روبنسون كروزو" أصلًا تاريخيًّا يتمثل في مغامرات البحار الإسكتلندي "سلك كيرك" التي كتب عنها زميل له من البحارة عام ألف وسبعمائة وتسعة أي: قبل ظهور "روبنسون كروزو" بعشر سنوات. ومع هذا نرى الدكتور هلال في ذات الوقت، يؤكد أن قصة الكاتب الأسباني "بلتسار جراتسيان الكريتي كوك" التي ظهرت أجزاؤها الثلاثة تباعًا في خمسينات القرن السابع عشر، والتي تشبه قصة ابن الطفيل، لا بد أن تكون قد تأثرت بهذه الأخيرة، إذ من المؤكد في رأيه أن يكون "جرسيان" قد اطلع على قصة ابن الطفيل رغم أنها لم تكن قد ترجمت بعد إلى أية لغة أوربية؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن نرجع هذا التشابه بين العملين إلى مجرد المصادفة. وهناك أيضًا مدني صالح الذي يخلص في مقاله المنشور في العدد التاسع من مجلة الأقلام العراقية، إلى أن قصة "روبنسون كروزو" هي عنصر من عناصر البيئة "ديفو" الثقافية، وهو ما يؤيده فاروق سعد صاحب كتاب (حي بن يقظان لابن طفيل)، وهذا يعني أن ذانك الكاتبين يريان أنه لا وجود لأية صلة أو عملية تأثير وتأثر بين قصة ابن طفيل، وقصة دانيال ديفو.

وبالمِثْل؛ فإن كاتب مادة "روبنسون كروزو" في موسوعة "الإنكارتا" الإنجليزية في طبعة سنة ألفين وتسع، لا يشير إلى أية صلة بين العملين مكتفيًا فقط بلفت النظر إلى ما قيل عن تأثر "ديفو" في كتابه "روبنسون كروزو" بما وقع لـ"ألكسندار سركيك" من مغامرات حقيقية قرأها الجمهور على نطاق واسع قبل الصدور "روبنسون كروزو". ونفس الشيء يُرَدِّده كاتب ذات المادة في النسخة الفرنسية من طبعة سنة ألفين وتسع من "الإنكارتا" إذ يرجع مصدر إلهامها إلى ما وقع "لألكسندر سركيك" البحار الإسكتلندي" الذي غرقت سفينته، واضطر للعيش وحيدًا فوق جزيرة من جزر أرخبيل "خوان فرناندس بشيري"، وعلى نفس الشاكلة تمضي "انسياكلو بيديا بريتانيكا" في طبعات سنة ألف وثمانمائة في ترجمتها لـ"ديفو" إذ كل ما تقوله في هذا الصدد: هو أن المؤلف قد اعتمد جزئيًّا على مذكرات بعض الرحالة والناجين من الغرق من أمثال "سركيك" ثم لا شيء آخر. وتكتفي مادة "دانيال ديفو" في "انسيكو بديا يونيفرسليس" بالقول بأن رواية "ديفو" تستلهم مغامرات البحارة الإسكتلندي "سركيك". وممن وقفوا نفس الموقف الذي وقفه مدني صالح دكتور غسان مرتضى الذي قام بالمقارنة بين العملين، مبينًا أن التشابه بينهما يثير كثيرًا من الأسئلة حول مدى تأثير الرواية الأولى في الثانية، وبخاصة أن "حي بن يقظان" تسبق "روبنسون كروزو" في الظهور بزمن جد طويل، فضلًا عن ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية قبل ظهور رواية مغامرات "روبنسون كروزو". وقد قام دكتور مرتضى بتلخيص قصة "حي بن يقظان" الذي قذفت به الأمواج إلى جزيرة الواقواق الخيالية، فتحدث عما ذكره ابن الطفيل من ولادة حي غير

العادية، وكيف عاش في كنف غزالة أعانته على الحياة كما تعين الأم وليدها، وكيف راعى الفروق الجسدية التي تميزه عن حيوانات الغابة، وكيف أخذ يستر عورته وجسده بأوراق الأشجار، ثم كيف ماتت الغزالة، فحاول معرفة سبب موتها لكن دون جدوى، وكيف دفنها كما تفعل الغربان إلى آخره. وانتقل الباحث بعد ذلك الحديث عن نمو مدارك ابن يقظان وحواسه، واكتشافه للنار، وفهمه لمسألة الجسد والروح، وكيف أخذ يدرك طبيعة الأجسام والأشياء من حوله، ويعرف طبيعة الأفلاك والأجرام السماوية، ليتوصل إلى أن هذا كله لا يصدر عن فاعل مختار في غاية الكمال، وعندما بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين تحول حرصه من معرفة المصنوع إلى معرفة الصانع؛ فزهد في الطعام والشراب، ولجأ إلى كوخ ينفق وقته في التأمل رغبة في الوصول إلى مرتبة مشاهدة الحق، إلى أن تم له ذلك، ففني عن ذاته وعن جميع الذوات، ولم يعد في الوجود إلا الحي القيوم، وبقي كذلك حتى بلغ الخمسين من عمره. ثم أوضح الباحث كيف تعلم حي بن يقظان لغة الكلام، من رجل اسمه "آسال" قدم إلى الجزيرة وكيف اصطحبه "آسال" إلى مدينته لإقناع الناس بأهمية التأمل إلى حياتهم الروحية؛ لكن ذلك لم يجد معهم للنقص الذي كان في فطرتهم؛ فرجعا معًا إلى جزيرة الواقواق حيث أخذا يعبدان الله بطريقتهما حتى أتاهما اليقين. ثم ينتقل الباحث إلى تلخيص رواية "روبنسون كروزو" فيقول: "إنها تتحدث عن مغامرات "روبنسون كروزو" الذي ترك بيته وأهله خلافًا لرغبتهم ورحل طالبًا الثروة والمغامرة؛ فصادف أثناء ترحاله مخاطر وأهوالًا كثيرًا، منها غرق سفينته، ثم نجاته رغم هذا، ووصوله على ظهر موجة إلى اليابسة في جزيرة ليس فيها إلا الأدغال والوحوش؛ ليجد نفسه هناك وحيدًا دون رفيقٍ من بني جنسه.

ثم محاولته التأقلم مع حياته الجديدة مستغلًا كل ما حوله من موجوداتٍ في تدبير مأكله، وصنع ملبسه، ثم تخليصه بعض العبيد من يد جماعةٍ من آكلي لحوم البشر، وتعليمه العبد "فراي داي" اللغة الإنجليزية، ومبادئ النصرانية. بعد ذلك يورد الباحث أوجه الاتفاق بين "حي بن يقظان" و"روبنسون كروزو" على النحو التالي: - رمى القدر كلًا من حي و"روبنسون" في جزيرة لا حياة فيها لبني البشر. -اضطر كلًا منهما أن يتأقلم مع حياته مستخدمًا أدواتٍ بسيطة؛ ليحمي نفسه. - يلتقي حي بآسال، ويلتقي "روبنسون بفراي داي" فيعلم آسال حيًّا الكلام، ويُعلم "كروزو فراي داي" اللغة الإنجليزية ومبادئ النصرانية. - حاول ابن طفيل أن يؤدي عبر "حي بن يقظان" رسالة مفادها أن الإنسان قادر بفضل حواسه وعقله، وحدثه الوصول إلى حقائق الكون كلها، ومعرفة الله بعقله المحض دون الاستعانة بالأديان، أما "دانيال ديفو" فأراد إيصال رسالة مختلفة بعض الشيء. - تتفق القصتان في كثير من الجوانب الفنية، وفي تعليل الحدث، واعتماد الحوار الداخلي، وتصوير شخصية نامية متطورة. ثم يسرد المحاضر أوجه التباين بين الروايتان، وهي كما يلي: - وصل حي إلى الجزيرة وعمره لم يتجاوز اليوم الواحد، على حين وصل "كروز" إليها وهو شاب؛ فتأقلم الأول مع واقعه ذاتيًّا وبالفطرة، فيما استخدم "كروزو" خبراته السابقة في عملية التأقلم.

- حاول الكاتبان إبراز مقدرة الإنسان في التأقلم مع الطبيعة والحياة دون معين، لكن ابن طفيل كان هدفه رمزيًّا يتمثل في إبراز مقدرة الإنسان على التطور ماديًّا وروحيًّا دون شرائع مسبقة، أما ديفو فلم يكن هدفه سوى عرض جانب المغامرة، بما تنطوي عليه من تصعيدٍ قصصي وتشويق. - لقاء حي بآسال كان لقاءً نديًّا بخلاف لقاء "روبنسون بفراي داي" الذي كان لقاء مصلحة ومنفعة. - في رواية "حي بن يقظان" تكثر الأفكار الفلسفية، مما أضعف عنصر التشويق والإثارة، على عكس رواية "روبنسون كروزو" التي اتسمت بالإحكام الفني. - الجانب المهم في شخصية حي هو التأمل، أما في شخصية "روبنسون" فهو الاكتشاف وبناء السلوك وفقًا لهذا الاكتشاف. - تحدث ابن طفيل في الرواية بضمير الغائب، أما رواية "دانيال ديفو" فقد كُتبتْ بضمير المُتكلم مما أعطاها واقعية أكثر. - رواية ابن طفيل رواية عقلية فكرية؛ ليس فيها وجود للعناصر الاجتماعية الأندلسية أو الأسبانية بخلاف رواية "ديفو" التي تمجد الحياة الاجتماعية، وصراع الإنسان عبر العمل للسيطرة على الطبيعة. وهنا يطرح المحاضر السؤال التالي: هل أثرت رواية حي بن يقظان في "روبنسون كروزو"؟ ليجيب موضحًا أن الترجمتين اللاتينية والإنجليزية لرواية حي بن يقظان قد ظهرتا قبل إصدار "ديفو" روايته بأكثر من عشرين سنة، فمن المحتمل إذًا أن يكون "ديفو" قد اطلع على عمل ابن طفيل، وهو أمرٌ قد يؤكده اهتمام الأوربيين عمومًا بالثقافة العربية آنذاك.

لكن المسألة ليست مسألة عواطف ورغبات، لذا لا بد -في رأيه- من التروي قبل إطلاق الأحكام، وإضافة إلى ذلك ثمة اعتقاد متداول بين بعض الباحثين، مؤداه أن "ديفو" قد اعتمد على روايته على حادثة حقيقية معروفة، وقعت لبحار إسكتلندي يدعى "ألكسندر سركيك" وهو ما يعني أن تأثر "ديفو" بالرواية العربية ضعيف جدًّا. وبِخُصوص اتهام "ديفو" بالسطو على ما كتبه "سلكيرك" البحار الإسكتلندي الذي وقع له مثل ما وقع لبطل "ديفود" ثم مقال كتبه الدكتور نجم عبد الكريم بعنوان "روبنسون كروزو سرقة أدبية في سياق المغامرة" نشرته صحيفة الشرق الأوسط العربية اللندنية، بتاريخ الإثنين الحادي عشر من أكتوبر عام ألفين وأربعة، جاء فيه: "ينسب الكثير من النقاد العرب أن رائعة الكاتب الإنجليزي "دانيال ديفو" مغامرة "روبنسون كروزو" إنما هي مأخوذة من تراثٍ عربي، واعتبروها عبارة عن سطوٍ أدبي على قصة ابن طفيل حي بن يقظان، وهناك من يقارن بين أحداثها وبين رحلات السندباد، وفيهم من نسب مغامرات "روبنسون كروزو" إلى تأثرها ببعض الرحالة من العرب. ومما لا شك فيه أن الأعمال الأدبية العظيمة لا تنبع من فراغ، ولا يلزم أن يخوض الكاتب تجربة أبطال روايته أو مسرحيته؛ فهناك دائمًا مؤثرات خارجية تدفع بالعمل الإبداعية إلى البروز؛ وفقًا لمدى قدرات وإبداعات ذلك الكاتب في تصويرها، لكن السيدة "سيلكيرك" التي التقيتها مصادفة في مناسبة اجتماعية بمدينة "مارلو" الإنجليزية تزعم بعكس ذلك تمامًا، فهي ترى أن "دانيال ديفو" مؤلف رواية مغامرات "روبنسون كروزو" ما هو إلا كاتب أفاق، وسارق لأفكار غيره وكان جزاؤه أن مات فقيرًا عندما دفن في مقابر الفقراء.

وتزعم السيدة "سيلكيرك" أنها تحتفظ بالأدلة أكيدة على حقيقة شخصية "روبنسون كروزو" لأنه جدها الرابع، واسمه ألكسندر سيلكيرك" والسيدة "سيلكيرك" هذه قد تجاوزت العقد الثامن من عمرها، لكنها تتمتع بذهنية متوقدة، وتتحدث بحماسٍ عن جدها الذي تعتبره الأب الحقيقي لرواية مغامرات "روبنسون كروزو". عندما علمت بأنني من المهتمين بالكتابة والنقد، وجهت إلي سؤالًا عما هو مضمون رواية مغامرات "روبنسون كروزو"؟ فأجبتها أنها تروي عن ملاح بريطاني "روبنسون كروزو" تحطمت السفينة التي كان يعمل عليها في وسط المحيط الهادي، لكنه تمكن من التشبث بقطعة كبيرة من الخشب؛ ليتخذ منها طوافة تقيه الغرق، إلى أن تقذف به الأمواج على شواطئ جزيرة لم تطأها من قبل قدم إنسان؛ فيجد نفسه مضطرًا للتعايش مع الحياة الجديدة في تلك الجزيرة مع الحيوانات والطيور. وتمر الأيام ويجد "كروزو" نفسه ما إن يخرج من مغامرة مثيرة، حتى يدخل في مغامرة أكثر منها إثارة، وقد اتخذ لنفسه عددًا من الأصدقاء هم عبارة عن بغبغاء وقرد وعنزة، وقد صور "ديفو" حياة "كروزو" في تلك الجزيرة بشكل رائع وشائق؛ إلى أن تنقذه سفينة عابرة وتعيده إلى المدينة. بَعدَ أنْ لخّصتُ رِواية مغامرات "روبنسون كروزو" للسيدة "سيلكيرك" أضفت أن هذه الرواية ضربة رقمًا قياسيًّا في الترجمة عن اللغة الإنجليزية إلى اللغات الأخرى، فأنا مثلًا قرأتها باللغة بالعربية، كما قرأها الملايين من الناس بلغاتهم المختلفة؛ قالت السيدة "سيلكيرك": "ليس هذا فحسب، بل إنها تفوقت على أشهر كتابين ظهرا في العصر الذي كتبت فيه، وهما ألف ليلة ولية المقبلة إلينا

منكم يا عرب، و"دنكي شوت" التي ترجمت إلى الإنجليزية عن الإسبانية، وهي "الاستفانس". فأجبتها: ولعلمك إنك لست الوحيدة ممن يزعمون بسطو "دانيال ديفو" على أحداث "روبنسون كروزو" والبعض منهم لديه مقارنات يدلل بها على ذلك السطو؛ فما هو دليلك على أن مؤلف "روبنسون كروزو" قد سطا على تراث جدك "إلكسندر سيلكيرك" الذي لم يسمع به أحد من قبل، ظهر الانزعاج على ملامح السيدة، وقالت بعصبية: "جدي ولد في قرية "لافيو" الإسكتلندية عام ألف وستمائة وستة وسبعين، وهو يعرف "ديفو" وكانا يلتقيان في حانة واحدة في السنوات الأولى من القرن السابع عشر، وكان جميع الناس يعرفون تلك المغامرة، والتجربة التي مر بها جدي "سيلكيرك" وكان "ديفو" يسمعه منه لعدة أشهر، ويدون بعض أحداثها، ولكنه قد زيف الكثير مما جاء فيها من أحداث. ثم أخذت تروي قصة جدها الذي كان يعمل بحارًا في سفينة تجارية، كان ربانها شديد القسوة على بحارته، وقد بلغت قسوته أن قام بشنق ثلاثة من الرجال أمام زملائهم في وسط البحر، وألقى بجثثهم في المياه في أثناء رحلة لأمريكا الجنوبية، ولم يكن أمام البحارة، وهم يقاسون من عذابات الربان سوى التمرد والثورة، الذي دفعت بهم إلى الفتك بالربان ومساعديه، وفروا بالسفينة يجوبون بحار الجنوب، بينما كانت السفن البريطانية تطاردهم؛ فاتفق "ألكسندر سيلكيرك" -الجد الرابع للسيدة التي تروي الحكاية- مع زميل له على الفرار من السفينة، ونفذا خطتهما في جوف الليل، بعد أن قام بسرقة قارب صغير انطلقا به على غير اتجاه إلى أن قذفت بهما الأمواج على شواطئ جزيرة ذات طبيعة أخاذة مليئة بالطيور والحيوانات الأليفة؛ لأنها -أي: الحيوانات- كانت تقف أمامهما،

ولا تنطلق هاربة خائفة منهما، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تطأها أقدام بشرية من قبل. وفي اليوم الثاني لوجودهما في الجزيرة مات زميل "ألسكندر سيلكيرك" لأنه تناول فراولة مسمومة، وظل "ألكسندر" يعيش في الجزيرة بمفرده، بعد أن هيأ لنفسه أجواءً تسمح له بالعيش فيها طيلة حياته، ومما عثر عليه في أوراقه عن وصفه تلك الجزيرة -كما تقول حفيدته- أنها جنة الله في الأرض؛ فكافة أنواع الفواكه والأطعمة موفورة فيها بكثرة، ومياه غدرانها عذبة كالشهد، وكُنت أصطاد فيها الغزلان والديكة البرية، وإذا رغبت في شرب شيء من اللبن؛ فما ألذه من ضرع "ماري" تلك العنزة التي كانت تتبعني أينما أذهب. وقد بنى "سيلكيرك" كوخًا من عيدان الخيزران وأوراق الشجر العريضة. وقد استرسلت السيدة في وصف تلك الجزيرة، على ضوء قراءتها للأوراق التي خلفها لها جدها، ومن أطرف ما قالت في هذا الصدد: "إن القطط والكلاب لم تكن بينها تلك العداوة التي نعرف عنها في معيشتها بين ظهرانينا؛ فالحيوانات في تلك الجزيرة الساحرة كانت تعيش في بسلام ومحبة" -والكلام ما زال للسيدة "سيلكيرك". ومما ذكره جدي في أوراقه: "كنت أشاهد الحيوانات كيف تقضي وقتها باللعب معًا، فالفئران كانت تركب على ظهر القطط، والقطط تتسابق مع الكلاب، وكثيرًا ما كنت أجدها تنظف جلود بعضها البعض بألسنتها، ولم يحدث أن وجدت عداءً بين أي من الحيوانات التي تعيش على يابسة تلك الجزيرة". ولكن الذي حفز "ألكسندر سيلكيرك" للعودة إلى المدينة، هو عثوره على مجرى للتبر، أخذ يجمع منه ما يستطيع جمعه، وعبأه بأكياسٍ جلدية صنعها من جلود

الحيوانات، وحذر أنّ هَذه الثروة ستمكنه من العيش برغد في حالة عودته إلى العالم المتحضر؛ فصار يجمع الحطب والأخشاب بكميات كبيرة، ويضرم فيها النار ليتصاعد منها الدخان الذي يلفت إليه انتباه السفن البعيدة، وبعد محاولات متعددة أثمرت خطته أن سفينة "ديوك" قد اقتربت من تلك الجزيرة، وكان ذلك في عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين. وما إن تمكن من الصعود إليها، حتى علم من البحارة أن الملكة "إليزابيس" قد أصدرت عفوًا شاملًا عن جميع البحارة الملاحقين من الإنجليز، احتفالًا بانتصار بريطانيا على الأسطول الأسباني؛ فوصل "الإكسندر سيلكيرك" حاملًا أكياس التبر التي كون منها ثروة طائلة، وقد وعدتني السيدة "سيلكيرك" بأن تزودني بنسخ من الصور الأصلية بالأوراق التي كتبها جدها "الإكسندر سيلكيرك" الذي توفي عام ألف وسبعمائة وثلاثة وعشرين من دون أن يعرفه أحد؛ بينما دوت شهرت "دانيال ديفو" في كافة أنحاء العالم، وأصبح من أشهر المؤلفين في التاريخ بينما هو ليس سوى سارق لقصة جدي على -حد تعبير السيدة- التي راجعت معها تفصيل ما أوردته من معلومات في هذه المقالة؛ فوافقت على ما جاء فيها مع بعض التعديلات، التي أشارت إلي بها. ولكن أين هي الحقيقة؟ الحقيقة أن مغامرات "كروزو" صارت أكبر من كل الادعاءات". وتعقيبًا على ما قالته السيدة البريطانية نذكر نبذة عن جدها البعيد، وعن الجزيرة التي عاش فيها، على مدى عشرات الشهور وحيدًا دون أنيس من بني الإنسان؛ فنقول: "إن "إلكسندر سيلكيرك" ولد سنة ألف وستمائة وست وسبعين، ومات سنة ألف وسبعمائة وإحدى وعشرين، وهو رجل "إسكتلندي" عاش وحيدًا في جزيرة معزولة من جزر "شيلي" بأمريكا الجنوبية؛ فكانت له تجربة مثيرة، فعندما

كان يعبر البحار الجنوبية عام ألف وسبعمائة وأربعة في حملة للقرصنة البحرية تشاجر مع قبطان السفينة. وبناء على طلبه ترك في إحدى جزر "خوان فورنانديز" على بعد حوالي ستمائة وأربعين كيلو متر غرب "تشيلي" فعاش هناك وحيدًا لمدة اثنين وخمسين شهرًا، حتى أنقذه القبطان "وولس روجرس" وقد سجل القُبطان تجارب "سيلكيرك" في كتابه (رحلة ممتعة حول العالم) كما وصفه القبطان "إدور كوك" في كتابيه (رحلة إلى البحار الجنوبية) و (حول العالم). أما اسم رواية "ديفو" فمأخوذ من اسم إحدى الجزر التابعة لأرخبيل "خوان فرنانديز" الذي يتبع دولة "تشيلي" وهي "روبنسون كروزو" و"سانتكلارا" و"ريجندو سيلكيرك" ويعش نحو أربعمائة نسمة من المتحدثين بالأسبانية في جزيرة "كروزو" التي اشتهرت بوصفها الجزيرة التي عاش فيه المنبوذ "الإكسندر سيلكيرك" وحيدًا لأكثر من أربع سنوات؛ من عام ألف وسبعمائة وأربعة، إلى عام ألف وسبعمائة وتسعة، وكانت الرحالة الأسباني "خوان فرنانديز" أول من اكتشف هذه الجزر عام ألف وخمسمائة وثلاثة وستين للميلاد. والآن وبعد أن ألممنا جيدًا بشكل القصتين ومضمونهما، واطلعنا على المقارنات المختلفة بينهما، وعرفنا الظروف التي صدرت فيها كل منهما، يمكننا أن نقول: "لا شك أنه كان لمغامرة "سيلكيرك" التي سجلها القبطان الذي أنقذه، ونشرها على الجمهور؛ فضل كبير على رواية "ديفو" إذ لا يعقل أن تنشر تلك المغامرات في العصر الذي يعيش فيه كاتب، وأديب، وسياسي مثله دون أن يدري ويتأثر بها في قصته.

والإجماع منعقد على الاعتراف بهذا التأثير؛ لكن هل هذا يعني بالضرورة أنه لا مكان لأي تأثير من جانب حي بن يقظان في ذلك العمل؟ لقد تمت ترجمة الرواية الأخيرة الإنجليزية واللاتينية، قبل كتابة "ديفو" روايته بزمن غير قصير، وليس من المعقول أيضًا أن يجهل واحد مثله ذلك العمل الذي شد كبار عصره في أوربا كلها، وأعجبهم إعجابًا شديدًا، وكانت له تلك التأثيرات العميقة على عددٍ من مفكري القارة وفلاسفتها، مما سقنا بعضه فيما سبق. ومن هنا فإنني أقول: "إنه من المرجح أن يكون "ديفو" قد تأثر بها أيضًا كما تأثر بمغامرات "سليكيرك" تأثر بها على الأقل من حيث أنها شجعته أن يحول ما قرأه عن مغامرات البحار "الإسكتلندي" إلى عمل قصصي، وعلى تضمين قصته بعض القضايا الفكرية، مثلما اشتملت حي بن يقظان على مثل تلك القضايا، وإن اختلفت نوع قضاياه عن قضايا ابن الطفيل؛ نظرًا لاختلاف شخصيتيهما، وبيئتيهما، وثقافتيهما ووظيفتيهما، صحيح أن أحدًا من المقارنين لم يستطع حتى الآن -في حدود علمنا- أن يضع يده على شيء يثبت أن "ديفو" قد اطلع فعلًا على حي بن يقظان، بيد أن هذا كما قلت لا يستلزم بالضرورة أن لا يكون الاطلاع قد حدث، أو أن التأثر لم يقع إذ الأمران مختلفان تمامًا. وعلى هذا؛ فإنني لا أستطيع الجزم بتأثير القصة العربية على نظيرتها الإنجليزية، كما صنع بعض المتحمسين من الباحثين العرب والأوربيين، بل أكتفي بالترجيح نظرًا لما ذكرته قبل قليل من الأسباب الحاملة على ذلك، بالإضافة إلى وجوه التشابه القوي بين العملين، وقرب الزمنين اللذين ظهرا فيهما، أما الجزم بنفي أي تأثير لرواية ابن الطفيل على "روبنسون كروزو" فأمر لا يمكن الإقدام عليه ولا حتى تقبله. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 9 ألف ليلة وليلة والموشحات وتأثيرهما على الأدب الغربي الحديث.

الدرس: 9 ألف ليلة وليلة والموشحات وتأثيرهما على الأدب الغربي الحديث.

أثر "ألف ليله وليله" في الأدب الغربي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (ألف ليلة وليلة والموشحات وتأثيرهما على الأدب الغربي الحديث) أثر "ألف ليله وليله" في الأدب الغربي ألف ليلة وليلة، والموشحات، وتأثيرهما على الأدب الغربي الحديث: "ألف ليلة وليلة" كما جاء في المادة المخصصة لها في الموسوعة العربية العالمية، هي: مجموعة من الحكايات التي روتها شخصية تُسمى شهر زاد للسلطان شهريار، وشهريار ملك عاين خيانة زوجته؛ فتحول إلى سفاح، يأخذ بكرًا كل ليلة، ويفترعها ثم يقتلها من ليلتها، حتى ضَجّ الناس وهربوا ببناتهم، ولم يبق في تلك المدينة إلا شهر زاد ابنة الوزير. وشهر زاد حاكية هذه القصص شخصية قرأت الكتب، وسِيرَ المُلُوك وأخبارَ الأُمَم، قيل: إنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ والشعر؛ فقالت لأبيها وزير السلطان: زوجني هذا الملك، إما أن أعيش، وإما أن أكون فداءً للبنات، وسببًا لخلاصهن؛ وكانت تَقُصّ عليه كُلّ ليلة حكاية، ثم تسكتُ عندما يُدركها الصباح عند موقف مشوق؛ مما جعل السلطان يستبقيها لسماع حكاياتها الباقيات. وبفضل هذه الحكايات التي روتها شهر زاد، تحولت شخصية شهريار من شخصية شريرة، إلى شخصية خيرة، ومع أنّ المسعودي وابن النديم، يشيران إلى كتابٍ فارسي بعنوان "هزار أفسان" قريب الشبه في عنوانه وشخصياته الرئيسية بألف ليلة وليلة، إلا أنّ ألف ليلة وليلة بتقاليدها القصصية الشفهية التي تناقلتها الأجيال، واحتفاظها بصورة مميزة للحياة العربية ورموزها الحضارية عبر العصور، خصوصًا العصر المملوكي، تؤكد براعة المخيلة العربية، واستمرارية التقليد الشفهي القصصي، إلى أن تم تدوينها.

تعودُ أقدم مخطوطة وصلت إلينا من "ألف ليلة وليلة"، إلى القرن الحادي عشر الهجري، وقد كُتبت بِلُغة أقرب للعامية، ومَسجُوعَة أحيانًا، وتتجه بخطابها القصصي إلى الإنسان العادي، ولم تتقيد بقواعد النحو العربي، ولم يعرف لها مؤلف، ولذلك عُدّت أدبًا شعبيًّا. تُصور "ألف ليلة وليلة" حياة الحكام والتجار، وحياة الفقراء والكادحين، وتشع فيها أجواء العجائب، وعوالم الغرائب، ويشكل انتصار الخير على الشر محورًا أساسيًّا في هذه الحكايات التي تكتظ بأجواء السحر، وعوالم الجن. ففي حكاية "مصباح علاء الدين" يتحول الشاب المتواضع علاء الدين، بمساعدة الجني، إلى ثري يتغلب على الوزير الشرير، ويتزوج من ابنة السلطان، ويتكرر في هذه القصص تحول البشر بفضل السحر إلى حيوانات مختلفة، وتكثر فيها قصص المغامرات المثيرة؛ مثل رحلات السندباد، وما شاهده من عجائب المخلوقات، مثل: طائر الرخ، والسمكة التي التبس أمرها على الملاحين، فرسوا عليها ظنًّا منهم أنها جزيرة في البحر. والملاحظ أن الكلام عن هذا الكتاب في التراث العربي شحيح غاية الشحة، حتى إننا لا نجد حديثًا عنه تقريبًا إلا في كتابين اثنين هما: (مروج الذهب) للمسعودي، و (الفهرست) لابن النديم، والنّصان قصيران نسبيًّا، وإن كان نَص المسعودي أقصر كثيرًا من نص ابن النديم، ولا يشفي غليلًا. فأما في (مروج الذهب) فيقول المسعودي: إنه قد ذكر كثير من الناس، أنّ هَذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأنّ سَبِيلَها الكُتب المنقولة إلينا، والمُترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيلُ تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب

(هزار أفسانة) وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخُرافة بالفارسية يقال لها: أفسانة والناس يسمون هذا الكتاب: (ألف ليلة وليلة) وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما: شيرزاد ودنيا زاد. ومثل كتاب (فرزة وسيماس) وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب (السندباد) وغيرها من الكتب في هذا المعنى. وأما في كتاب ابن النديم؛ فنقرأ تحت عنوان "الفن الأول في أخبار المساومين والمخارفين" وأسماء الكتب المصنفة في الأصناف، أن أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتبًا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان، الفرس الأول؛ ثُمّ أغْرَق في ذلك ملوك الأشغانِيّة، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء؛ فهذبوه ونمقوه، وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب (هزار أفسان) ومعناه: "ألف خرافة" وكان السبب في ذلك أنّ ملكًا من ملوكهم، كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد؛ فتزوج بجارية من أولاد الملوك، ممن لها عقل ودراية، يُقال لها: شهر زاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه، وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة. وهو مع ذلك يطؤها إلى رُزقت منه ولدًا، فأغارته وأوقفته على حيلتها معه؛ فاستعقلها ومال إليها واستبقاها. وكان الملك "قهرمانة" يقال لها: دنيا زاد؛ فكانت موافقة لها على ذلك، وقيل: إن هذا الكتاب ألف لحمانة ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا، والصحيح -إن شاء الله- أنّ أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه

ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب (هزار أفسان) ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر رُبّما حُدّث به في عدة ليالٍ، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد. وابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياني صاحب كتاب (الوزراء) بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم، وغيرهم. كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المُسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلًا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كُل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة، وأقل أو أكثر. ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي. والآن أحب أن نقرأ معًا قصة من كتاب (ألف ليلة وليلة) كي يكون الكلام عن شيء واضح ملموس، لا كلامًا نظريًّا؛ والقصة التي اخترتها لكم هي قصة: "الصياد والعفريت": تقول شهر زاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان رجل صياد، وكان طاعنًا في السن، وله زوجة وثلاثة أولاد، وهو فقير الحال، وكان من عادته أنه يرمي شبكته كل يوم أربع مرات لا غير، ثم إنّه خرجَ يومًا من الأيام في وقت الظهر إلى شاطئ البحر، وحط معطفه وطرح شبكته، وصبر إلى أن استقرت في الماء، ثم جمع خيطانها؛ فوجدها ثقيلة، فجذبها فلم يقدر على ذلك، فذَهب بالطرف إلى البر، ودَقّ وتدًا وربطها فيه، ثم تعرى وغطس في الماء حول الشبكة.

وما زال يُعالج حتى أطلعها، ولبس ثيابه وجاء إلى الشبكة؛ فوجد فيها حمارًا ميتًا، فلما رأى ذلك حزن، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال: إن هذا الرزقَ عجيب وأنشد يقول: يا خائضًا في ظلام الله والهلكة ... أقصر عليك فليس الرزق بالحركة ثم إنّ الصيادَ لمّا رأى الحمار ميتًا خلصه من الشبكة وعصرها، فلما فرغ من عصرها نشرها، وبعد ذلك نزل البحر، وقال: "بسم الله" وطرحها فيه وصبر عليها حتى استقرت ثم جذبها، فثقلت ورسخت أكثر من الأول، فظن أنه سمك فربط الشبكة وتعرى، ونزل وغطس، ثم عالج إلى أن خلصها وأطلعها على البر، فوجد فيها زيرًا كبيرًا، وهو ملآن برمل وطين. فلما رأى ذلك تأسف، ثم إنه رمى الزير وعصر شبكته ونظفها، واستغفر الله، وعاد إلى البحر ثالث مرة، ورمى الشبكة وصبر عليها حتى استقرت، وجذبها فوجد فيها شفافة وقوارير، فأنشد قول الشاعر: هو الرزق لا حل لديك ولا ربط ... ولا قلم يجدي عليك ولا خط ثمّ إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أرم شبكتي غير أربع مرات، وقد رميت ثلاثًا ثم إنه "سم الله" ورمى الشبكة في البحر وصبر إلى أن استقرت وجذبها؛ فلم يُطق جذبها وإذا بها وإذا بها اشتبكت في الأرض، فقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فتعرى وغطس عليها، وصار يعالج فيها إلى أن طلعت على البحر، وفتحها فوجد فيها قمقمًا من نحاس أصفر ملآن، وفمه مختوم برصاص، عليه طابع خاتم سيدنا سُليمان. فلما رآه الصياد، فرح وقال: هذا أبيعه في سوق النحاس؛ فإنه يساوي عشرة دنانير ذهبًا، ثم إنه حركه فوجده ثقيلًا، فقال: لا بد أني أفتحه، وأنظر ما فيه،

وأدخره في الخرج، ثم أبيعه في سوق النحاس، ثم إنه أخرج سكينًا، وعالج في الرصاص، إلى أن فكه من القمقم، وحطه على الأرض وهزه لينكت ما فيه، فلم ينزل منه شيء، ولكن خرج من ذلك القمقم دُخان صعد إلى السماء، ومشى على وجه الأرض؛ فتعجب غاية العجب. وبعد ذلك تكامل الدخان واجتمع، ثم انتفض فصار عفريتًا، رأسه في السحاب، ورجله في التراب برأس كالقبة، وأيدٍ كالمداري، ورجلين كالسواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق، وعينين كالسراجين، أشعثَ أغبر؛ فلما رأى الصياد ذلك العفريت، ارتعدت فرائصه، وتشبكت أسنانه، ونشف ريقه، وعمي عن طريقه. فلما رآه العفريت قال: لا إله إلا الله سُليمان نبي الله. ثم قال العفريت: يا نبي الله، لا تقتلني؛ فإني لا عُدّت أخالف لك قولًا، أو أعصي لك أمرًا؛ فقال له الصياد: أيها المارد، أتقول سليمان نبي الله، وسليمان مات من مدة ألف وثمانمائة سنة، ونحن في آخر الزّمان فما قصتك؟ وما حديثك؟ وما سبب دخولك إلى هذا القمقم؟ فلما سَمِعَ الماردُ كلام الصياد قال: لا إله إلا الله، أبشر يا صياد فقال الصياد: بماذا تُبشرني؟ فقال: بقتلك في هذه الساعة أشَرّ القتلات. قال الصياد: تستَحِقُّ على هذه البشارة يا قيم العفاريت زوال الستر عنك، يا بعيد، لأي شيء تقتلني، وأي شيء يوجب قتلي، وقد خلصتك من القمقم، ونجيتُك من قرار البحر، وأطلعتك إلى البر، فقال العفريت: تمنى علي أي موتة تموتها، وأي قتلة تُقتلها، فقال الصياد: ما ذنبي حتى يكون هذا جزائي منك؟ قال العفريت: اسمع حكايتي يا صياد، قال الصياد: قل وأوجز في الكلام؛ فإن روحي وصلت إلى قدمي.

قال: اعلم أني من الجن المارقين، وقد عصيت سليمان بن داود وأنا صخر الجني، فأرسل لي وزيره آصف بن برخيا؛ فأتى بي مكرهًا، وقادني إليه، وأنا ذليل على رغم أنفي، وأوقفني بين يديه، فلما رآني سُليمان استعاذ مني، وعرضَ عَليّ الإيمانُ والدخولَ تحت طاعته فأبيت، فطلب هذا القمقم، وحبسني فيه، وختم علي بالرصاص، وطبعه بالاسم الأعظم، وأمر الجان فاحتملوني وألقوني في وسط البحر. فأقمت مائة عام، وقلت في قلبي: كل من خلصني أهنيته إلى الأبد؛ فمرت المائة عام، ولم يخلصني أحد، ودخلت مائة أخرى؛ فقلت: كل من خلصني فتحت له كنوز الأرض، فلم يخلصني أحد، فمرت علي أربعمائة عام فقلت: كل من خلصني أقضي له ثلاث حاجات؛ فلم يخلصني أحد، فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت في نفسي: كل من خلصني في هذه الساعة قتلته، ومنيته كيف يموت، وها إنك قد خلصتني ومنيتك كيف تموت. فلما سَمِعَ الصّياد كلام العِفريت قال: يا الله، العجب! أنا ما جئت أخلصك إلا في هذه الأيام، ثم قال الصياد للعفريت: اعف عن قتلي يعف الله عنك، ولا تهلكني يُسلط الله عليك من يهلكك؛ فقال: لا بد من قتلك، فتمنى علي أي موتةٍ تموتها، فلما تحقق ذلك منه الصياد راجع العفريت وقال: اعف عني إكرامًا لما أعتقتك، فقال العفريت: وأنا ما أقتلك إلا لأجل ما خلصتني. فقال الصياد: يا شيخ العفاريت، هل أصنع معك مليح فتقابلني بالقبيح، ولكن لم يكذب المثل حين قال: فعلنا جميلًا قابلوه بضده ... وهذا لعمري من فعال الفواجر ومن يفعل المعروف مع غير أهله ... يجازى كما جوزي مجير بن عامر

فلما سَمِعَ العفريتُ كَلامَه قال: لا تطمع فلا بد من موتك؛ فقال الصياد: هذا جني وأنا إنسي، وقد أعطاني الله عقلًا كاملًا، وها أنا أدبر أمرًا في هلاكه بحيلتي وعقلي، وهو يدبر بمكره وخبثه. ثم قال للعفريت: هل صممت على قتلي؟ قال: نعم، فقال له: بالاسم الأعظم المنقوش على خاتم سُليمان أسألك عن شيء وتصدقني فيه، قال: نعم، ثم إنّ العفريت لما سمع ذكر الاسم الأعظم، اضطرب واهتز، وقال: اسأل وأوجز، فقال له: كيف كنت في هذا القمقم، والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك، فكيف يسعك كلك! فقال العفريت: وهل أنت لا تصدق أنني كنت فيه؟ فقال الصياد: لا أصدق أبدًا حتى أنظرك فيه بعيني، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الرابعة: قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنّ الصيادَ لما قال للعفريت: لا أصدقك أبدًا حتى أنظرك بعيني في القمقم، انتفض العفريت وصار دخانًا صاعدًا إلى الجو، ثم اجتمع ودخل في القمقم قليلًا قليلًا، حتى استكمل الدخان داخل القمقم، وإذا بالصائد أسرع، وأخذ سدادة الرصاص المختومة، وسَدّ بها فم القمقم ونادى العفريت، وقال له: تمن علي أي موتة تموتها لأرميك في هذا البحر، وأبني لي هنا بيتًا، وكل من أتى هنا أمنعه أن يصطاد، وأقول له: هنا عفريت، وكل من أطلعه يبين له أنواع الموت يخيره بينها، فلما سَمِعَ العِفريت كلام الصياد أراد الخروج فلم يقدر، ورأى نفسه محبوسًا، ورأى عليه طابع خاتم سُليمان، وعلم أن الصياد سجنه، وسجن أحقر العفاريت وأقذرها وأصغرها. ثم إنّ الصياد ذهب بالقمقم إلى جهة البحر، فقال العفريت: لا لا، فقال الصياد: لا بد لا بد، فلطف المارد كلامه وخضع، وقال: ما تريد أن تصنع بي يا

صياد؟ قال: ألقيك في البحر إن كنت أقمت فيه ألفًا وثمانمائة عام، فأنا أجعلك تمكث إلى أن تقوم الساعة، أما قلت لك: أبقني يبقك الله، ولا تقتلني يقتلك الله، فأبيت قولي وما أردت إلا غدري؛ فألقاك الله في يدي فغدرت بك، فقال العفريت: افتح لي حتى أحسن إليك. فقال له الصياد: تكذب يا ملعون، أنا مثلي ومثلك، مثل وزير الملك يونان، والحكيم رويان، فقال العفريت: ما شأن وزير الملك يونان، والحكيم رويان؟ وما قصتهما؟ إلى آخره. وإنّ الإنسان ليتساءل عن السبب في هذا الصمت شبه التام الذي أحاط بهذا العمل، في الكتب العربية القديمة، رغم افتتان الأجيال الأخيرة به، وبخاصة في الغرب، ولعلّ المسئول عن ذلك أنّه لا ينتمي لأحد من الكتاب، لا المشهورين ولا غير المشهورين؛ إذ هو نَتَاجٌ شَعبيٌّ ليس له صاحب معين، بل كان كل من يقدر على الإضافة إليه يصنعُ ذلك حسبما تيسر. وأغلب الظنِّ أنّه لم يكن هناك كتاب أصلًا على غرار الوضع الذي أمامنا الآن، وإنّما كانت الليالي تحكى شفاهيًّا، وتتناقل من جيل إلى جيل، على هذا النحو الذي كفل لكل مستطيع حرية الإضافة إليه، دون عائق؛ فهو كلام غير مثبت، ومن ثم لم يكن هناك حرج في الإضافة إليه، إذ من ذلك الذي كان من الممكن أن يعترض على مثل تلك الإضافات، والعمل لم يكن له صاحب كما قلنا. لقد كان الطُّلاب يقصدون مؤلفي الكتب في تلك الأزمان، ويقرءونها عليهم، فيجيزونهم بها، إلا أنّنا في هذه الحالة لم يكن لدينا كتاب، ولا كان للعمل صاحب معين أصلًا، بل لقد ظلّ باب الإضافة مفتوحًا حتى بعد أن تم تسجيل النص كتابةً بزمن طويل، إذ تحتوي مثلًا ترجمة جالان، التي قام بها ذلك

المستشرق الفرنسي في القرن الثامن عشر، على بعض حكايات مثل: "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعين حرامي" لا وجود لها في أية مخطوطة من مخطوطات ذلك العمل، على ما يخبرنا محرر مادة ألف ليلة وليلة، في موسوعة "الوكيبيديا" إذ أدخلها جلال في صلب الكتاب بناءً على ما سماعه إياها من عالم حلبي اسمه "حنا دياب". وبالمثل؛ فإنّ نص الكتاب المنشور بالعربية والألمانية في برسلاو بألمانيا قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل، يحتوي على قصص لم تكن في صلب "ألف ليلة وليلة"، أضافها "كرستيان هبش" من قصص سمعها أو قرأها هنا وهناك. كذلك قد تَصِحُّ الإشَارَةُ إلى أنّ الأسلوبَ الذي صيغت به قصص "ألف ليلة وليلة" ليس من الأساليب الفخمة التي تعود عليها الأدب العربي، كما لم يخل ذلك الأسلوب من الأخطاء اللغوية والنحوية، علاوة على ما يفيض به من نكهة شعبية، وعدم اهتمام بالصحية التاريخية؛ لما يشتمل عليه من أحداث وشخصيات، ودعنا مما تعج به بعض القصص من مجون فاحش. ثم لا ينبغي أن يغيب عن بالنا ما لاحظته منذ وقت طويل، من أن التراث العربي، وإن عَرَف الإبداع القصصي على نطاق واسع مذهل، كان ينقصه للأسف أن تُواكب تلك الحركة الإبداعية حركة نقدية توجهها، وتأخذ بيدها، وتُساعدها على التطوير والتجديد والتحسين، وذلك رغم ما كان هناك من حركة نقدية شعرية نشطة، بل مدوية. وحركة نقد خاصة بالرسائل والخطب، وإن كانت أقل منها نشاطًا وصخبًا. ولا ندري الآن السر في هذا الصمت النقدي تجاه الإبداع القصصي العظيم، الذي خَلّفه لنا أجدادُنَا، ولكن هكذا كانت الأمور، وظَلّت حتى العصر

الحديث، حين تأثرنا بالأدب الغربي؛ فاهتممنا بالنقد القصصي، الذي لم يكن في مبتدئه سوى قطرات من ماء، ثم استحال غربًا متدفقًا آخر الأمر. على أية حال ظل هذا حال "ألف ليلة وليلة" حتى بعدما تحولت إلى نص مكتوب، ولم يقتصر ذلك النص على صورة واحدة، بل تعدد بتعدد البيئات التي سجلته، ومن هنا أصبح لدينا عدد من المخطوطات المختلفة لذلك العمل، حسب البلاد المُختلفة التي وُجدَتْ فيها تلك المخطوطات، إلى أن لفت الكتاب أنظار الغربيين؛ فعندئذٍ تبَدّل الحالُ غير الحال، وكتب لـ"ألف ليلة وليلة" حياة جديدة تختلف عن حياتها السابقة، وبخاصة حين عرفنا في العالم العربي نظام التعليم الجامعي، وبالذات بعد أن أدخلنا دراسة الأدب الشعبي ضمن مقرراته؛ فتتابعت الدراسات التي تُعنى بذلك الكتاب وكثرت. وكانت أول ترجمة لذلك الكتاب على يد "أنطوان جالان" المستشرق الفرنسي، الذي كان يعيش في القرن الثامن عشر، ثم تبعتها ترجمة "إدور وليم لين" ما بين ألف وثمانمائة وثمانٍ وثلاثين، وألف وثمانمائة وأربعين، ثم ترجمة "جون باين" ما بين عامي ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، وألف وثمانمائة وأربعة وثمانين، ثم ترجمة "رتشر برتن" الإنجليزية، التي ظهرت عام ألف وثمانمائة وخمسة وثمانين. وهناك ترجمة فرنسية أخرى قام بها "مار دريه" ثم تُرجمت "ألف ليلة وليلة" منها إلى الإنجليزية، ترجمة ثانية غير ترجمة "برتن" كما قام حسين هنداوي بترجمة النص الذي تولى تحقيقه العراقي محسن مهدي، كذلك ظهرت ترجمة إنجليزية بقلم "ماركلم أورسولا لاينس". سنة ألفين وثمانمائة في ثلاثة مجلدات عن دار "البنجون" المعروفة.

وفي البرازيل شرع "ماميدي مصطفي جاروش" يطبع ترجمته البرتغالية التي ظهر منها حتى الآن ثلاثة مجلدات من نحو ستة مجلدات، طبقًا لما خطط له، إلى آخر ما هنالك من ترجمات إنجليزية وفرنسية وإيطالية، وألمانية وأسبانية وبرتغالية، ورومانية وهولندية ودانيماركية، ويويانية وسويدية وروسية، وبولندية، ومجرية. وكان لقصص "ألف ليلة وليلة" ولا يزال تأثير عظيم على الأدب، وسواه من الفنون في العالم الغربي، وغير العالم الغربي؛ فهي إنجاز أدبي ضخم قدّره الغربيون؛ فترجموه إلى لغاتهم، وأمعنوا فيه دراسة وتحليلًا؛ حتى تحولت الليالي إلى وحي لفنانين كثيرين، ظهر في أعمالهم الروائية والمسرحية والشعرية والموسيقية وغيرها. وتضم قائمة المتأثرين بها من الأدباء وحدهم أسماء مثل: "هنري فلدنج" و"سلمان رشدي" و"خرخلوس برخيس" و"ثاكلي" و"اسكت" و"جوتا" و"جيرال دي نرفال" و"دماس" و"استندال" و"فلبير" و"هلكي كونل" وهلمَّ جرًّا. لقد نسجت قصص على منوالها، واشتهر كثير من شخصياتها "كعلاء الدين" و"السندباد" و"علي بابا" مثلًا كما استوحي جو الغرائب والعجائب الذي يسودها، عند كتابة كثير من القصص في عصرنا هذا، فرأينا فيها الجني والبهموت، والبساط الطائر، وهذا غير استلهامها في ميدان الفنون الأخرى؛ فقد وضع "رامسيكي كورساكوف" مثلًا سيمفونيته الشهيرة "شهر زاد" عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، كما ألهمت الرسام "إدموندولاك" وغيره. وتحولت بعض حكايته إلى أفلام، كفلم "علاء الدين" و"لص بغداد" فضلًا عن كثير من ألعاب الأطفال وبرامج تسليتهم.

ومن الأعمال الأدَبية التي تأثرت بألف ليلة وليلة مسرحية "كالدرون" الكاتب الأسباني "إنما الحياة حلم" إذ استعار مؤلفها هيكل قصة النائم الذي صحا، وتلخص أن ملكًا سمع شحاذًا يشكو سوء حاله، فسقاه شرابًا مخدرًا لينام ثم يستيقظ فيجد نفسه محوطًا بمظاهر الثروة والأبهة، ثم يغلبه النوم مرة أخرى ثم يستيقظ فيجد نفسه في هذه المرة، وقد عاد شحاذًا كما كان. وهناك أيضًا المعجزة الثالثة والعشرون في "ديوان المعجزات" للشاعر الأسباني "جونثالوا ديبرثيوا" وهي تشبه تمام الشبه قصة التاجر البغدادي المسلم، الذي سُرقت منه أمواله في الصين؛ فاضطر إلى استدانة ألف مثقال من أحد التجار هناك، واعدًا إياه أن يردها له في ميعاد وموضع معين، إلا أنه لما اتسع حاله وحلّ ميعاد الدين، استحال عليه أن يكون في الموضع المذكور؛ فما كان منه إلا أن وضع المبلغ في خشبة وألقاها في الماء داعيًا الله أن يوصلها إلى صاحب المال، وهو ما حدث. ولدينا "الأيام العشرة" للكاتب الإيطالي الشهير "بويكاشيو" الذي ضمن عمله هذا مائة حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، وأسندها إلى سبع سيدات، وثلاثة رِجال اعتزلوا المدينة في بعض الضواحي فرارًا من الطاعون، وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه، كل صباح تسجية للفراغ؛ وقد صار "تشوسر" في ضربه؛ فكتب قصص "كانتربري" على المنوال ذاته، كما اقتبس منها الكاتب الانجليزي "شكسبير" موضوع مسرحيته "العبرة بالنهاية" ولسنج الكاتب الألماني مسرحيته "نافان الحكيم". وهناك شبيه لها يتمثل في رواية من روايات القرن الثامن عشر الميلادي، عنوانها " the man skrebt fown en saragosa" لـ"جان بوتوكي"

البولاندي كما استوحاه "وليم تومس بيك فورد" في روايته "فاسك" و"إدجر ألن بو" في قصته " the sothand and saknd tern of shahr zad" الليلة الثانية بعد الألف من ليالي شهر زاد، التي أنهاها بإعدام الملك شهريار زوجته شهر زاد، على خلاف ما في ألف ليلة وليلة الأصلية، وهي تصور الرحلة الثامنة والأخيرة من رحلات السندباد، وما لقيه أثناءها من غرائب مدهشة، ولكن بعد أن حول "بو" بيئة الحوادث إلى بيئة عصرية. وكان من جراء قصة "بو" أن كتبت "كيتلين كير نان" قصة أخرى استوحتها من سلفها الأمريكي، اسمها " the sothand and therd tern of shahr zad" وفي قصته febl one thaothand and one nit of snofol نرى "بل ولينجهام" يتخذ من حكاية شهر زاد أساسًا إذ تقوم "سنو وايت" بقص حكاياتها للسلطان بما فيها من شخصيات سحرية؛ كي تفلت من مصير القتل الذي ينتظرها. ومن الأعمال التي تأثرت بـ"ألف ليلة وليلة" أيضًا: قصة " the story telars dotar". التي كتبتها "كاميرون دوكي" للأطفال" مُستلهمة إياها من "ألف ليلة وليلة" ومن الذين اعتمدوا عليها أيضًا "جون بارت" الذي ذكرها مرارًا في أعماله القصصية، أو أخذ منها بعض عناصرها وشخصياتها "وليجيسون جرت" مسرحية ظهرت عام 2005 بعنوان: "ألف وواحدة" استوحى فيها أشياء من "ألف ليلة وليلة" مع خلطها بعناصر عصرية حقيقية ومتخيلة، وأخرى من كتابات "فلوبير" وثالثة من أفلام "هتشكوك" ورابعة من "مايكل جاكسون". وفي ذات العام نشر الروائي "جوزيف كوفي نو" رواية بعنوان " frest and saknd arebian nit slost slstil verses " وهذا العنوان في حد ذات يكفي للدلالة على ما نريد قوله.

وفي اليابان في أقصى الشرق نجدُ "ألف ليلة وليلة" قد تكررت ترجمتها في القرن التاسع عشر مرتين، وفي القرن العشرين عدد من المرات، وكان لها حضور طويل في أعمال غير قليل من الروائيين والشعراء، الذين ذكر بعضهم فضلها، وأشادوا بها. وفي مَجال الشعر الإنجليزي وحده لدينا قصيدة "ويلز ويرث" " the belud" "tenson the kolekshns" "the arebin nit" وإذا أردنا شيئًا من التفصيل فلنأخذ مثلًا: حكايات "كانتربري" التي ألفها "تشوسر" و"لنجاة مراني" كتاب بعنوان (آثار عربية في حكايات كانتربري) تذكر فيه أن ثلاثًا من حكايات "كانتربري" تشبه بعض قصص "ألف ليلة وليلة" فالقسم الأول من حكايات الفارس الصغير يُقابله الحصان الطائر، والمرآة والخاتم السحريان، وهو يشبه ما ورد في ألف ليلة وليلة عن الحكماء الثلاثة، الذين قدموا للملك نفس هذه الهدايا السحرية. كما أن القسم الثاني من حكاية الفارس الصغير، وهو قصة الأميرة "تكانيس" التي أدركت عدم وفاء الرجال، وعزفت عن الزواج بعد سماعها حكاية في هذا الموضوع على لسان الطيور، هذا القسم يشبه حكاية أخرى من ألف ليلة وليلة، رأتْ الأميرة فيها حلمًا من عالم الطيور، يماثل ما سمعته كانيس على لسان تلك الطير، ولا تكتفت الباحثة بهذا الكلام الموجز المرسل بل تترجم ال حكايات "التشوسرية" الثلاث، ثم تضع إزاءها النصوص العربية، كي يستطيع من يريد المقارنة بينهما بنفسه. ثم تقوم برصد وجوه الشبه تفصيلًا. وأخيرًا تختم كلامها بقولها: "إن الحكايات العربية الموازية لحكايات "تشوشر" سابقة عليها في الظهور إلى عالم الوجود، فضلًا عما ثبت مما لا يدع مجالًا للريب؛

من أنها قد تُرجمت إلى اللاتينية قبل كتابة "تشوشر" لحكاياته، وهو ما يدل على أن الحكايات العربية كانت من المكونات لخلفية حكايات "كانتربري". هذا من جهة المضمون، وتبقى الناحية الفنية، وقبل أن تتناول الكاتبة هذا الجانب تشير إلى ما يسمى في عالم الحكايات الشعبية بقصة الإطار، وهي نوع من القصص يتكون من عدة حلقات، كل منها يشكل حكاية مستقلة؛ إلا أنها مرتبطة في ذات الوقت بالحكايات الأخرى؛ قائلة: إنه كان هناك في أوربا وقت ذاك ثلاث حكايات من ذلك الصنف، هي حكايات "روماي السبعة" و"ألدي كامير" وحكايات "كانتربري". والذي يهمنا من كلام الكاتبة هنا: هو ما قالته عن الحكايات الأخيرة، وخلاصته: أنّ عددًا من الحُجّاج الذين كانوا في طريقهم لزيارة مثوى القديس "توماس بكت" التقوا في إحدى الحانات القائمة في ضاحية من الضواحي اللندنية، وفيهم الفارس والطحان والطباخ والكاتب، والمحامي والبحار، والطبيب والقسيس، والراهب والراهبة؛ فضلًا عن "توباز" راوي القصة ذاته الذي يشرع في وصف الحقول والبساتين، والجو الطبيعي، والحانة وصاحبها، وكل شخص من تلك الشخصيات. ثم يحكي لنا الطريقة التي اتفق هؤلاء الحجاج ليلتهم تلك، في الحانة المذكورة على أن يقطعوا بها رحلتهم إلى المزار الذي كانوا يقصدونه، وذلك بأن يحكي كل منهم قصة ذات مغزًى أخلاقيّ رفيع، تعينهم على قطع الطريق، وتخفف عنهم مشاقه. وهكذا يبدأ كلًا منهم في حكاية قصته مع مقدمة ووصلة تربطها بما قبلها، في الوقت الذي ينصت الجميع بانتباه إلى ما يقول، مع مقاطعة هنا أو هناك، تطفي

قدرًا من الحياة والموضوعية على الموضوع برمته، وقد تتطور المقاطعة إلى خصام وجدال، سَرْعان ما يتدخل صاحب الحانة بفضه بالتي هي أحسن. فإن انتقلنا إلى "ألف ليلة وليلة" وجدناها أيضًا أنها تقوم على حكاية إطار، حكاية شهرزاد وشهريار، إذ تأخذ شهر زاد كل يوم برواية حكاية صغيرة، أو حلقة من حكايات طويلة تشغل بها الملك المتعطش لدماء النساء، عن ممارسة هوايته، وتبقيه متشوقًا، ينتظر الحكاية أو الحلقة التالية، فيبقي هو بدوره على حياتها، حتى تكمل له قصتها المشوقة، ولا تنتهي تلك الحلقات إلا مع انتهاء الكتاب كله كما هو معروف. فضلًا عن أن أبطالَ الكتاب يَظَلّون حاضرون طوال الوقت، منذ أول حكاية إلى أن نبلغ الحكاية الأخيرة. ومن هنا يتبين لنا أن الأبطال في كلا الكتابين، هم الذين يروون الحكايات الموجودة فيه، وإن كانت هناك مع ذلك بعض الاختلافات الفنية، لحساب هذه مرة وتلك أخرى. ولعلنا قد لاحظنا كيف تتطور العناصر المأخوذة أو المستوحاة من عمل ينتمي إلى أحد الآداب القومية، عبر رحلته إلى أدب قومي آخر، ولا يبقى كما هو، بل يتحول في العادة متخذًا أشكالًا مختلفة، ومُكتسبًا طعومًا مُتباينة تبعًا لاختلاف البيئات، وتباين الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية في كل بلد، عنها في البلاد الأخرى غالبًا. لكنّ هذه الحقيقة لا ينبغي أن تلغي فضل الأدب المعطي، ولا أن تسلب حقّ الإبْدَاع عن الأدب الآخذ، إذ لا شيء يأتي من فراغ، بل كل إبداع أدبي أو غير أدبي إنما هو في الواقع حلقة في سلسلة طويلة متشابكة، مكوناتها: ثمرات العقل والخيال البشري على مر العصور، وعبر الأوطان.

ولنأخذ أيضًا قصيدة ألفريد تين سون " collection of the arebin laies " التي يقول النقاد: إنه قد استوح ى أسوارها الساحرة من قراءته في "ألف ليلة وليلة" وبالذات من قصة "نور الدين وأنيس الجليس"، وعلى وجه أخص ذلك الجزء الذي تحكيه شهر زاد في الليلة الثالثة والثلاثين، فضلًا عن تردد ألفاظ مثل: بغداد وهارون الرشيد، والبلبل والخلافة في القصيدة، واستخدام الهلال للإمبراطورية العثمانية المسلمة، مع تكرار عبارة " the golden brim of god haron alrasheed " في آخر كل مقطع. ومما مارسته أيضًا "ألف ليلة وليلة" من تأثير في حقل الأدب الاشتراك في تمهيد السبيل لظهور مذهب الواقعية السحرية "ماجيك ريليزم" في الكتابات الروائية، ذلك المذهب الذي شاع في ثمانينات القرن العشرين، على يد عدد من روائيي أمريكا اللاتينية من أمثال الأرجنتيني "خورخي لويس بوخيس" والكولمبي "يرسيم بركيس" إذ يرسُم الكاتِبُ تفاصيل قصته رسمًا موغلًا في البساطة والألفة، وهو ما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث، حين يجاوره ويشتبك معه. والوَاقِعُ أنّ جُذور هذه الواقعية السحرية البعيدة، موجودة في الأساطير القديمة، وبخاصة في حكايات "ألف ليلة وليلة" وليس أدلّ على ذلك من إعلان "بلخيس" نفسه مرارًا عن تأثره بذلك الكتاب في بناء طريقته الإبداعية، بما تعج به من الخوارق والمعجزات، والدهشة والغرابة، واللا معقول. وبالمناسبة فلـ"بورخيس" مقالٌ عن مترجمي ألف ليلة وليلة ذلك الكتاب الذي كان يحمله معه أينما ذهب، كما أنّ الكثير من قصصه، وبخاصة في مجموعته "المرايا والمتاهات" قد بُنيت على أساس أشياء مستعارة من ألف ليلة وليلة؛ حيث

أثر الموشحات في الأدب الغربي.

تتسمُ الحِكَايةُ بالبَسَاطَةِ والأُلفَة وتُوغِلُ في أمور الواقعي اليومي ثم فجأة ودون تمهيدات، يطير البطل مثلًا، أو تبتلعه الأرض، أو تخرجه الفتاة التي أسرها العفريت سلسلة من خواتم تخصُّ الرجال الذين واقعوها، برغم تحذيراته لها وهكذا. كما قرأ "جابريل جارثيا ماركيس" مختارات من ألف ليلة وليلة في طفولته، وظل مفتونًا بها. أثر الموشحات في الأدب الغربي وإلى جانب "ألف ليلة وليلة" هناك "الموشحات" ذلك الجنس الشعري الذي اشتهرت به الأندلس، وكانت تدور في كثير من نماذجها حول الغزل، كما كانت تخرج على النظام العروضي والقفوي التقليدي، الذي يجري على وتيرة واحدة، وزنًا وقافية من أول القصيدة إلى نهايتها، حسبما هو معروف. ويتركب كل موشح من وحدتين تتكرران عددًا من المرات، وحدة يبدأ بها الموشح في العادة، وتُسمى قُفْلًا؛ فإذا لم يبدأ بها، وبدأ بالوحدة الثانية سُمّي الموشح أقرع، وهذه الوحدة الثانية تُسمى غصنًا. ويتكون الموشح النموذجي في العادة من ستة أقفال؛ تحصر بينها خمسة أغصان، ولكن الوشاح غير ملزم بذلك إن شاء أن يزيد أو ينقص، واجتماع القفل والغصن التالي له يسمى دورًا، وبَعْضُهم يُسَمّيه بيتًا، فالمُوَشّح النّمُوذَجي على هذا الأساس، يتكون من خمسة أدوار، أو أبيات، وقُفل ختامي يدعونه الخرجة، ولكن الأقرع يشذ عن ذلك لأن أحد أقفاله ساقط. وللوشاح أن يجعل عدد أجزاء الغصن حسبما يريد، وأهم هذا التوشيح من حيث النغمة: قيام القفل أحيانًا على وزن، وقيام الغصن على وزن آخر؛ فتسير

الموشحة في وزنين، والغالب أن يتفق القفل والغصن في الإيقاع العام، وقد يختارُ الوَشّاحُ وزنًا مباشرًا أوزان القصيد فينسج عليه موشحته مثل: أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع وهذا ما يسميه "ابن سناء الملك" الموشح الشعري، أو يستخرج وزنًا جديدًا ينظم عليه موشحته، وقد حاولَ المُستشرقُ الأسباني خُليان ريبيرا، وتبعه على ذلك بعض المستشرقين، مثل: جوميس وبلال، وكذلك بعض المؤلفين العرب، مثل: الدكتور عبد العزيز الأهواني، والدكتور مصطفى عوض الكريم، وبطرس البستاني، أن يفسر سببًا بظهور الموشحات في الأندلس، فأرجع أن أهل تلك البلاد كانوا في حياتهم اليومية، يتكلمون العامية الأعجمية؛ في الوقت الذي كان يخصصون العربية الفصحى للأمور الرسمية. ومن ثم نشأ بينهم طراز شعرية جديد يقوم بين المزاوجة بين العربية الفصحى، والعامية الأعجمية، وهو الشكل الذي أثار استياء العلماء المحافظين، فكان من جراء ذلك أن نهض الناس جميعًا -حسب عبارته- يتناقلونه سرًّا، فيما بينهم، وذاع أمره داخل البيوت، وفي أوساط العوام، وما زال يعظم؛ حتى أصبح يومًا من الأيام لونًا من الأدب. وهذه نظرية خاطئة إذ تفترض أنّ أهل الأندلس كانوا يتحدثون بالعامية الأعجمية، وهو ما لم يحدث، ولا قال به أحد، وكيف يمكن أن يقوله أي أحد، بل كيف يمكن أن يخْطُر شَيءٌ من هذا بِبَاله، ولم يحدث يومًا أن اتخذ العرب لغة أهل البلاد التي فتحوها؛ لقد كان العرب أعَزّ من ذلك بآماد لا تتصور. ثم كيف يكون الناس جميعًا يتناقلون هذا الشكل الشعري سرًّا فيما بينهم؟! إنّ السر معناه أن ينفرد به بعض الناس دون بعض، أما أن يكون سرًّا بين الناس جميعًا، فلا أدري كيف يكون؟!

كذلك بأن الموشحة لم تكن تنظم بالعامية الأعجمية، بل كل ما هنالك أن خرجات بعض الموشحات من بعض المئات -البعض فقط- كانت تكتب بالعامية، وبعض هذه الخَرجات المَكتُوبة بالعامية، كان يُكتب بالعامية الأعجمية، علمًا بأن الخرجة لا تمثل إلا جزءًا صغيرًا جدًّا من الموشحة، وأن ذلك النوع من الخرجات لم يكن يكتب جميعه بالعامية، ولا بالعامية الأعجمية؛ إذ قد يقتصر هذا على كلمة أو كلمتين فحسب. وفضلًا عن ذلك فإن الأسجال وهي فن شعري ينظم بالعامية كاملًا، إنما كانت تنظم العامية العربية لا الأعجمية، كما يعرف ذلك كل أحد، ولو كانت عامية أهل الأندلس هي الأعجمية؛ لنظمت الأسجال على الأقل بتلك العامية لا بالعامية العربية، التي يفترض حسب تلك النظرية أنها لم تكن تستعمل هناك. ثم إنّه لم يَحْدُث أنّ أحدًا من العرب القدامى، ممن كتب عن ذلك الطراز من النظم، سواء أكان من أهل الأندلس أو من غيرهم، قد أشار ولو مجرد إشارة، إلى شيء من هذا الذي قاله "ربيرا" أما لو كان هناك من الأندلسيين غير المسلمين، من كتب شيئًا من هذا الذي يقول "رييرا" فليرنا إياه. وقد تعرض العقاد -رحمه الله- إلى موضوع "تأثير الموشحات على الشعر الغربي" فذكر ما قاله "دانتي" من أنّ نظم الشعر بالعامية؛ قد شاعَ في إقليم بلوفَانس؛ حيث تنتقل الأمم اللاتينية إلى الجنوب، فانتشر من ذلك الإقليم أولئك الشعراء الجوالون، الذين عُرفوا باسم "التروبادور" المأخوذ من "طرب أو طروب" في رأي بعض المستشرقين، والذي قال إن اسم "التنزو" الذي يطلق على شعرهم، مأخوذٌ من كلمة تنازع، لأنهم كانوا يلقون الشعر سجالًا، يتنازعون فيه المفاخر والدعاوى، بالإضافة إلى ما لوحظ من شبه شديد بين أوزان هذا الشعر، وأوزان الزجل الأندلسي.

وما وجد في أشعار الأوربيون في شمال الأندلس، من كلمات عربية وإشارات إلى بعض العادات الإسلامية، كتخميس الغنائم، واختصاص الأمير بالخمس منها. كذلك لمس محمد مفيد الشوباشي في كتيبه "العرب والحضارة الأوربية" هذا الموضوع؛ فأشارَ إلى أنّ من درسوا الأدب الأوربي، وتطوره قُبيل العصر الحديث؛ يلاحظون أن الشعراء "التروبادور" هم الذين أحدثوا أكبر أثر فيه، فتبدلت حاله كل التبدل، وعرف السبيل القوايم على حد تعبيره. لقد كانت أشعار هؤلاء الشعراء الجوالين الذين ظهروا في أسبانيا خلال القرن العاشر الميلادي -على ما يبدو- لونًا من الزجل، تطور ودخلت عليه كلمات أسبانية، إلا أنه لم يفقد خصائص الشعر الأندلسي، حسبما يقرر الشوباشي الذي يستند في كلامه هذا إلى ما كتبه بعض من تطرق إلى ذلك الموضوع من الكتاب الأوربيين؛ كـ"إيميل هنريو و"بريفو" و"بربري". والذي يبدو أن تأثير الشعراء التروبادور" قد انتقل بعد هذا إلى ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا؛ وإن لم يدخل في تفصيلات القضية، اللهم إلا في رده على بعض من ينكر من الأوربيين، ما تدين به أشعارهم قبل عصر النهضة إلى الشعر العربي في الأندلس. وفي كتابه (الأدب المقارن) يوضح الدكتور محمد غنيمي هلال موضوع تأثر شعراء التروبادور بالموشحات سواء في مضمون قصائدهم، أو في نظامه الموسيقي، قائلًا: "إنّ شعراء التروبادور" كانوا يعيشون في بلاط الملوك والأمراء، ويتغنون بالحب على نحو يذل فيه المحب لمحبوبته، ولا يجد في ذلك ما ينال من عزة نفسه، وإنه لوحظ أنهم يبنون قصائدهم في المتوسط من سبع مقطوعات، كما يفعل الوشاحون، وهو العدد الغالب على الموشحة.

كذلك نجد في تلك القصائد ما يُقابل المَطْلَع والغُصْنَ والقُفل في الموشحات، كما أن المصطلح الذي يطلق على مجموع الغصن والقفل معًا، هو البيت. بالضبط مثل ما يطلق في الموشحات. ثم إن نظام القافية في شعر شعراء التروبادور يسيرُ على نفس المنوال الذي تسير عليه القافية من ذلك الفن، وبالمثل يقابلنا في غزلهم شخصية الرقيب، والواشي، والعاذل، والحاسد، والجار، وكذلك الرسول الذي يستخدم في مهنته خاتمًا، كما في الموشحات فضلًا عن استعمال ضمير المذكر للحبيبة في كثير من الأحيان. وفي كتابه (دور العرب في تكوين الفكر الأوربي) يبرز الدكتور عبد الرحمن بدوي دور الموشحات في الأسجال الأندلسية في نشأة الشعر الأوربي، مُشيرًا إلى أنّ أوّلَ من قال بهذه النظرية هو "خونيال ربيرا" المستشرق الأسباني الذي عكف على دراسة موسيقى الأغاني الإسبانية، ودواوين الشعراء التروبادور والتروفير، وهم الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوربا، و"الميسنجر" وهم شعراء الغرام؛ فانتهى من دراساته إلى أن الموشح والزجل هما المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكون القوالب التي صبت فيها الطرز الشعبية، التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط. وأثبت انتقاله بحور الشعر الأندلسي فضلًا عن الموسيقى العربية إلى أوربا، عن نفس الطريق الذي انتقل به الكثير من علوم القدماء وفنونهم، من بلاد الإغريق إلى روما، ومن روما إلى بيزنطة، ومن هذه إلى فارس وبغداد والأندلس، ومن ثم إلى بقية أوربا، وكنت أود لو أضاف الدكتور بدوي إلى ذلك أن كتابًا آخرين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، مثل "نيكل وأوفون سلفستر وفيوري وفرانت إيجلي" يعضدون هذه النظرية.

ويمضي الدكتور عبد الرحمن بدوي؛ فيوضح كيف استخدم شعراء التروبادور "البروفانسليون" الأوائل أقدم قوالب الزجل الأندلسي، كما يظهر في شعر أول شاعر تروبادور "بروفن سادي" وهو "جيوم التاسع" "دوخ أكيتانيا" الذي يعدونه أول شاعر في اللغات الأوربية الحديثة، والذي بقي من شعره إحدى عشر قصيدة من بينها خمس كتبت بعد سنة ألف ومائة واثنتين. وتتألف كل منها من فقرات تشبه في قالبها فقرات الزجل، من حيث تأليفها من ثلاثة أشطار متحدة القافية، يتلوها أشطار من قافية واحدة في كل الفقرات، كما نجد هذا النمط من النظم أيضًا عند شاعرين تروبادورين قديمين آخرين هما: "ثركامون ومركابرو" اللذان عاشا في النصف الأول من القرن الثاني عشر، ثم انتشر هذا النمط من النظم في الشعر العربي في أوربا، وفي الشعر الديني الذي ألفه الأدباء الفرنسسكان في القرنين الثالث عشر والرابع عشر وفي أغاني الكرنفانات في فينتسا في القرن الخامس عشر. ويستمر الدكتور بدوي قائلًا: إن الشعراء المتعلمين في أسبانيا نفسها، قد ظلوا يستخدمون أنماط النظم، على طريقة الأسجال العربية، ومنهم "ألفونس" الحكيم في القرن الثالث عشر، ورئيس القساوسة في هيتا في القرن الرابع عشر، و"فياسيندينو وخواندل إنثينا" في القرن الخامس عشر، وأوائل القرن السادس عشر. ولم يقتصر الأمر على طريقة النّظم بل امتد التأثير العربي في نشأت الشعر الأوربي، أيضًا إلى طريقة علاج الموضوعات؛ ففكرة الحب النبيل التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي نجد أصلها في الشعر الأندلسي، وكذلك في أسجال ابن قزمان، كما يؤكد هذا "مينندث بيدال" أشد الباحثين حماسة في توكيد تأثير الموشح والزجل في نشأة الشعر الأوربي في نهاية في العصر الوسيط.

وإذًا فلا يقتصر التأثير على بعض الموضوعات، مثل: المغامرات الغرامية الشائكة أو الفاضحة، والإهداء إلى حامٍ، وافتخار الشاعر بنفسه كما اقتصر على ذلك "ألفريد جانوا" في كلامه عن تأثير الشعر الأندلسي العربي في شعر الشعراء التروبادورا" الأوائل، بل امتد في نظر بيدال إلى جوهر هذا الشعر التروبادوري، وهو فكرته في الحب النبيل إذ يرى بيدال أن هذه الفكرة قد عرضها ابن حزم في (طوق الحمامة) وأنها كانت فكرة سائدة عند أهل الظاهر في نظرتهم إلى الحب؛ فقد كانت موجودة قبل ذلك في كتاب (الزهرة) لابن داود الظاهري صاحب الدعوة الحب العذري، الذي توفي في أواخر القرن الثالث الهجري. وكذلك نجد هذه الفكرة في شعر الحكم الأول الذي توفي في أوائل القرن الثالث الهجري، وفي شعر ابن زيدون، الذي يقول مثلًا في ولادة: ته أحتمل واستطل أصبر وعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع وممن تناول هذه القضية أيضًا الدكتور عبد النبي سطيف الذي يوضح بدوره في كتابه (الموشحات الأندلسية وأثرها في الشعر الغنائي الغربي) كيف كان الشعراء التروبادور الذين ينتمون إلى إقليم "البروفانس" في جنوب فرنسا صلة الوصل بين الشعر الغنائي الأوربي، والشعر العربي الأندلسي، ولا سيما موشحاته وأزجاله. وكان "جيوم التاسع" أول من عرف من شعراء التروبادور الذين تأكدت صلتهم بالموشحات الأندلسية، وتعد حياته مفتاح البحث عن الصلة العربية الأوربية في ميدان الشعر الغنائي، وقد اتصلت حياة أول الشعراء التروبادور بالحضارة الإسلامية اتصالًا مباشرًا، في جنوبي فرنسا، وفي أسبانيا، وفي المشرق العربي، وكان صوتًا معبرًا عن واقع مجتمعه في عصره، مُنفتحًا عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس. وقد بقي من اليوم إحدى عشرة قصيدة تعكس جميعها

تأثره بالموشحات الأندلسية، في العناصر الأساسية المكونة لشعره؛ وهي: اللغة، والشكل، والمضمون، وأسلوب التعبير، ومن شعره: كل فرحة تهون أمام هذه الفرحة الكبرى ... وكل نبالة تتخلى عن مكانها لسيدتي بذا امتازت به من طرف ولطافة، ونظرة بهيجة، وسيعيش مائة عام ذلك الرجل الذي يحالفه الحظ، فيفوز بفرحة حبها، إنّ فَرْحَة حُبّها تشفي السقيم، والغضب منها يميت السليم، إن نفوذ حبها قد يؤدي بالعاقل إلى الحمق، وبالوسيم إلى ضياع وسامته، وبالمتأدب اللطيف إلى الفظاظة والقبح، كما أنه قد يُهذب طباع الفظ من الرجال، وإذا تفضل سيدي ومنحني حبه؛ فإنني مستعد لقبوله اعترافًا بفضله، وأن أكون كتومًا للسر، وملاطفًا ظريفًا، أقول وأفعل ما يريد؛ حتى أستحق رضاه، وأنال منه الثناء. ومن الشعراء التروبادور أيضًا "جيف رودل" وكان عميد منشدي الغزل الروحي العفيف، المعبر عن العشق المثالي للمرأة، وتعبر قصائده الغنائية عن تجربة حبه الفريدة، التي خلفت أثرًا بالغًا في الأدب الرومانسي في فرنسا وإيطاليا وانجلترا، وغيرها. وأصبح منهجه في الحب منارة لكل الشعراء، إذ غدا شعره ومنهجه في الحياة مثالًا يُحتذى للتعبير عن التعلق اليائس بالحبيب البعيد. وكانت أغنيته الخامسة أغنية الحب البعيد، كفيلة بتوضيح بعض قسمات هذا الحب الفريد والغريب في آن مع على الحساسية الأوربية: عندما تطول الأيام في شهر آيار تعجبني أهالي العصافير المغردة من بعيد وحينما أنتهي من سماعه

أتذكر حبًّا بعيدًا فأمشي مطبق الرأس في تأمل غير مهتمٍ بالغناء ولا بآثار البيوت فهي لا تفضل في نظري ثلوج الشتاء ويقول أيضًا: لن أسعد بأي حب غير هذا الحب البعيد؛ لأنه لا توجد امرأة تضاهي محبوبتي في أي مكان قريب أو بعيد؛ لقد بلغت سمو الحسن والنسب والصفاء، ما يجعلني أتمنى أن أكون أسيرًا عند المسلمين لأحس بسعادة الاقتراب منها. كما عكست قصائد "رودن" نظام القوافي المقبوس من الموشحات العربية الأندلسية؛ فضلًا عن مذهب الغزل العذري العربي والبعد عن أساليب التعبير عن التعقيد في اللفظ، والتركيب، والتكرار المستساغ. كذلك يذكر الدكتور سطيف الشاعر "مار كابرو" الذي كان واحدًا من أنجب تلاميذ "جيوم" التاسع؛ فقد عاش هذا الشاعر بين فرنسا وأسبانيا في قصر الأمير "جيوم" العاشر، وترك أربعة وأربعين قصيدة مختلفة الأشكال، متنوعة الأغراض، وإن غلب الهجاء عليها، وكانت حياته حياة لهو وعبث، ومع هذا فقد خصص بعضًا من إبداعه الشعري لهجاء اللهو والفجور. ويعكس شعر ذلك الشاعر جوانب مختلفة من التأثير العربي الإسلامي في شعره؛ في الشكل، والأسلوب، والمضمون في آنٍ معًا، وبخاصة تركيب الأغصان والأقفال، وتوزيع القوافي. وكان "مركابوا" متأثرًا بالشعر الغزالي عند ابن أبي

ربيعة، ولنستمع من شعره إلى هذه السطور من قصيدة، "الزرزور" تلك التي يقول فيها: طر أيها الزرزور محلقًا ... واغدو في الصباح مبكرًا توجه نحو بلد تلتقي فيه ... محبوبة لي هناك تجدها وتراها ومهمتك هي أن تقول له مستفسرًا في نفس الوقت: لماذا خانت عهدها؟ ويمضي الدارس مبينًا كيف كانت الرياح عربية إسلامية، تهب على شبه الجزيرة الإيطالية من الشمال والجنوب معًا، من التأثير التروبادوري أولًا، ومن صقلية حيث النفوذ "النورماندي" وأن ثمة ما يشبه الإجماع بين دارسي "دانتي" على أنه استمد أصول فنه من مصادر عديدة، كان من أبرزها الشعر التروبادوري إذ كان يعرف لغة مبدعيه، معرفة ممتازة، ساعدته على تذوق شعرهم. كذلك كانت المرأة "البروفنسالية" المثقفة كما يقول بريفو: مثل المرأة العربية بعامة تلهم مشاعر الشعراء، وتثير بطولة الفرسان، وتأثر العظماء بأدبها وجمالها، وتقول الشعر، ويحتكم إليها مبدعوه، وتسير بذكرها الركبان؛ فيتمناها كل من أحس بنفسه نخوة الرجولة. وقد أسهمت المرأة "البروفنسالية" إسهامًا قويًّا في نشر تقاليد التروبادور المستلهمة من الشعر العربي الأندلسي، في أنحاء أوربا بين أمثال الأميرة "ألنور" حفيدة "جيوم التاسع التولوذي" والأميرة "كنستانس" بنت ملك "أراجون ألفونصو الثاني" أما الأميرة إيلونور" فكانت وراء قدوم العديد من الشعراء التروبادور "البروفنساليين" إلى انجلترا، وبالتالي وراء التأثير الإسلامي في الشعر الغنائي الإنجليزي في العصور الوسطى، وفتحت قصرها ملتقى للأدباء والشعراء، والفنانين القادمين من

الجنوب يحملون معهم عبق البروفانس. وأما الأميرة "كونستانس" فقد كانت وراء انتشار فن التروبادور في أوربا الشرقية. ولم يقتصر تأثير الشعر العربي الأندلسي على الشعراء التروبادور بل شمل الشعر الأوربي الحديث -كما يؤكد الباحث- وتم ذلك على يد "عزرا بوند" الشاعر المعروف، الذي تسربت عناصر من الثقافة العربية الإسلامية إلى شعره؛ مؤثرًا بدوره في الشعر العربي الحديث، لتكمل بذلك دورة التأثير، التي بدأت بشعر الموشحات، والأزجال في الأندلس. وانتقلت الشعراء التروبادور في مختلف أنحاء القارة الأوربية، ثم إلى "دانتي وسونتاته" لتصل إلى شيخ شعراء العصر الحديث وحواريه في الوطن العربي وفي خارجه. ورغم كل ما تقدم -وهو غيض من فيض- فإن محاور مادة الموشحة من دائرة المعارف الإسلامية "سيكلوبيديا الإسلام" في طبعتها الجديدة، يتجاهل جميع ما سيق في قضية تأثير شعر الموشحات على الشعر الأوربي الحديث، من حيثيات وبينات، وشواهد وتفصيلات، ولا يلتفت إلى الموضوع إلا في الفقرة الأخيرة من المادة المذكورة، وعلى نحو جِدٍّ موجز. وكل ما قاله أن أقدم الشعراء التروبادور وهو وليم الأكويكي الذي ازدهر شعره في القرنين الثاني عشر، والثالث عشر الميلاديين، أيام الموشاحين اليهود قد استعمل نظامًا موسيقيًّا يشبه نظام الموشحات، وأن هذا هو أهم عنصر فيما يُسمى بالنظرية العربية، التي تعمل على تفسير عبقرية الشعر "البروفنسالي" جزئيًّا على الأقل من خلال التأثير العربي. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 10 تأثير الأدب العربي في الشاعر الألماني جوت.

الدرس: 10 تأثير الأدب العربي في الشاعر الألماني جوت.

نشأة جوته وثقافته.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تأثير الأدب العربي في الشاعر الألماني جوته) نشأة جوته وثقافته تأثير الأدب العربي في الشعر الألماني جوته: ولد "يوهان فولف جان جوته" في الثامن والعشرين من أغسطس سنة ألف وسبعمائة وتسعٍ وأربعين في مدينة فرانكفورت، وكان الأب يوهان كاسبر جوته الذي كان مستشار الأسرة الملكية، هاويًا لجمع اللوحات الفنية والنباتات، وتنحدر الأم كاترينا "إلزابس جوته" من عائلة عريقة ذات أصول إيطالية. وقد كان الأب معلمًا لابنه وابنته؛ فدرّس لهُما علومًا كثيرة، وعلمهما لغاتٍ عديدة كالإنجليزية والفرنسية، واليونانية واللاتينية؛ لكن أحب الأشياء إلى نفسه كان الرسم والموسيقى. وفي الدروس الدينية التي كان جوته يستمع إليها من أحد أصدقاء الأسرة ومن خارج القصر "يوهان يعقوب اشتارك" لم يجد إجابة مرضية عن أسئلته التي كانت تملؤ نفسه وروحه حيرة وشكًّا؛ وقد عَبّر عن ذلك فيما بعد قائلًا: "لم تكن الكنيسة البروتسطنطية إلا نوعًا من الأخلاق الجافة، ولم تكن المواعظ الدينية في الكنيسة تثير التفكير، ولم تكن التعاليم تستطيع إرضاء الأرواح". وقد ظلت وجهت نظره نحو الكنيسة وعقائدها تتسم بالحالة والشك؛ حتى وصلت في ما بعد إلى حد الرفض، وقد وصف جوته تاريخ الكنيسة بأنه خليط من التضليل والتسلط، وكان أهم ما زال في نفور من الأرسوزكسية اللوثرية قضية الخطيئة الموروثة. وقد ولد الشغف بالأدب في نفس جوته في طفولته، ونَمّته المَكْتبة الضخمة لوالده، وصاحَبَ هذا الشغف المبكر بالأدب شَغفٌ بالمَسْرَح، وفي الثلاثين مِن سبتمبر سنة ألف وسبعمائة وخمس وستين، غادر جوته فرانك فوت؛ ليبدَأ

دراسة القانون في ليبزك حتى سنة ألف وسبعمائة وثمانٍ وستين، وكانت هذه الدراسة شيئًا ثقيلًا على نفس الشاب المفعمة بحب الأدب والفن؛ لذلك اهتم بالأدب أكثر من اهتمامه بالقانون وعلومه. وفي ليبزك أيضًا تلقى دروسًا في الرسم، كما تَعرّف على فنِّ النّحت الإغريقي، وفي ليبزك كانتْ أُسْطُورة "فوس" الشعبية منتشرة، إذ كانت ليبزك المكان الذي ولدت فيه هذه الأسطورة، وقد تأثر بها جوته تأثرًا كبيرًا، وبعد عودته إلى "فرانكفورت" ظَلّ عامًا ونصفًا في مرحلة نقاهةٍ، تخللتها فترات من الانتكاسات الصحية، وفي إبريل سنة ألف وسبعمائة وسبعين، غَادَر "فرانكفورت" ليغير دِراسته في "استراسبورج" فعاد ثانية إلى الكتب الدراسة الجافة التي يمقتها. وفي منطقة "الألزاز" حيث تقع "استراسبورج" تفتحت مواهبه الفنية، ولم يحب جوته شيئًا كما أحب الطبيعة في "الألزاز" في حوض نهر "الراين" ويبدو ذلك جاليًا في معظم كتاباته في ما بعد، وقد التقى جوته بـ"هلدر" في "استراسبورج" وشكل هذا اللقاء نقطة تحول في حياة جوته الأدبية، وكان "هلدر" الشخصية الأولى التي يجدُ جوته عندها الكثير من الإجابات على ما بداخله من الأسئلة. وكان "هلدر" هو الذي فتح عيون الأدباء الألمان من الجيل الجديد، على العبقرية الدرامية لمسرح "شكسبير" وأنهى جوته دراسة القانون؛ غير أن رسالته التي قدمها للتخرج، لم تنل بعد مناقشتها درجة تؤهله للعمل الحكومي، إذ كانت الدرجة التي حصلت عليها الرسالة ضعيفة؛ إلا أنه أعاد مناقشتها مرة أخرى في السادس من أغسطس سنة ألف وسبعمائة وإحدى وسبعين في "استراسبورج" وحصل هذه المرة على درجة الإجازة في الحقوق، وقرّر بعدها أن يعمل محاميًا في فرانكفورت؛ لكنه ترك مجال المحاماة بعد عدة أشهر.

وعاد جوته بعد هذه الفترة إلى التفكير في مشاريعه الأدبية، ووقع بين يديه كتاب قديم عن فترة حرب الفلاحين؛ فأعجب بقصة أحد قطاع الطرق الذي كان ينتمي إلى عائلة من النبلاء، فقرر تحويلها إلى عمل أدبي مسرحي، وأجرى الكثير من التّعديلات الفنية والدرامية عليها، ووضع لها مخططًا تصويريًّا تمهيديًّا لبعض مشاهدها، وبعد أن أتم المسرحية نسخ منها عدة نسخ وأعطاها لأصدقائه؛ فلاقت منه استحسانًا كبيرًا، وكان عنوان المسرحية "جوت فريج فون بري شنجن ذو اليد الحديدية". ارتحل جوته في مايو سنة ألف وسبعمائة واثنتين وسبعين إلى "فيتسلار" لإكمال تدريبه العملي في المجال القانوني، وفي إحدى الحفلات التقى جوته بصديقه "يوهان كريستين كسنر" وبرفقته خطيبته "شارلوتا بوف" فوقع جوته في حب "شارلوتا" ونشأ صراع نفسي عنيف في نفسه، بين صداقته لـ"كسنر" وحبه لـ"لوتا" جسده بعد ذلك في روايته "آلام الشاب فرتر". ولم يستطع جوته تحمل هذا الصراع النفسي، فقرر العودة إلى فرانكفورت، جاء خبر انتحار أحد أصدقاء جوته بعد عودته إلى فرانكفورت هربًا من حبه للوته، خطيبة صديقه "كسلر" فألهمه كتابة رواية "آلام الشاب فرتر". وبعد نشر الرواية لاقت نجاحًا منقطع النظير، وأحدثت ضجة أدبية لا في ألمانيا فقط، وإنّما في أوربا كلها، وتحول النجاح الأسطوري للرواية إلا ما يشبه الحمى، أو الهستريا بين الجيل الجديد من الشباب؛ حتى إن بعضهم أقدم على الانتحار انبهارًا بشخصية فرتر التي عدت في تلك الفترة مثلًا أعلى، يجسد مشاعر الجيل الجديد من الشباب. وفي تلك الفترة شرع "جوته" في كتابة العديد من الأعمال؛ لكنه لم يكتب منها غير مقطوعات وشذرات قصيرة منها: "أنشودة محمد" ونشأت في تلك الفترة فكرة

كتابة "فوست" وبعد عودته إلى فرانكفورت زاره كارل أوجست الذي أصبح دوقا لـ"فيمر" و"زاكسن"، ورأى فيه الشخص المناسب الذي يصلح أن يكون مستشارًا له في شئون إدارة الإمارة، ودعاه إلى أن يكون مستشارًا له وصديقًا. وفي يونيو عُين مستشارًا رسميًّا في المجلس الوزاري، رغم وجود اعتراضات عليه من جانب الوزراء والموظفين في الحكومة، ثم أخذت الدوق يولي "جوته" المزيد من المناصب في الإمارة، ففي السنوات التالية تَقَلّد جُوته العديد من المناصب، وهي: رئيسُ اللجنة العسكرية، ومدير إنشاء الطرق، ورئيس الإدارة المالية، ورئيس الشئون الثقافية؛ فكان جوته في الواقع بمثابة مدير الحكومة، أو رئيس الوزراء في الإمارة. وفي بداية سبتمبر سنة ألف وسبعمائة وست وثمانين، خَرَج جوته راحلًا من زيمر دون أن يخبر أحدًا برحيله، ولم يكن هناك من يعلم أمر تلك الرحلة، غير الأمير وسكرتيره "فلب زايدل" واتجه مُسافرًا صوب مدينة البندقية عبر "ريجنسبرج" و"ميونخ" و"ميتنفال" و"انسبرك" و"فيرونا" وكانت الوجهة الحقيقية هي روما، التي تعد كعبة للفنانين من كل أنحاء أوربا في ذلك الوقت. ثم قرر جوته إنهاء إقامته في إيطاليا، والعودة إلى "فايمر" في نهاية إبريل سنة ألف وسبعمائة وثمانٍ وثمانين. وفي عام ألف وسبعمائة وواحد وتسعين تولى جوته إدارة المسرح الملكي في "فايمر" وصارت كرستيانة زوجته مُستشارة شخصية له فيه، وفي عام ألف وسبعمائة واثنين وتسعين اشترك جُوته مع صديقه الدوق "كار أوجست" الشغوف بالأمور العسكرية، في الحملة العسكرية في فرنسا، وشهد فشل تحالف قوى الإقطاع والرجعية، وكان في "مينز" عام ألف وسبعمائة وثلاثة وتسعين، وشهد ضرب الحصار على المدينة التي قامت فيها أول جمهورية ألمانية.

وحينَ بدأتْ الإمْبَراطُورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية في التداعي تحت ضربات جيوش نابليون، بدأ "جوته" و"شيلر" مشروعهما الثقافي الإصلاحي؛ فكتب "شلر" رسائله عن التربية الجمالية للإنسان، في عام ألف وسبعمائة وخمسة وتسعين، وأنجز بين عامي ألف وسبعمائة وستة وتسعين، وألف وثمانمائة وخمسة -عام رحيله- أهم أعماله الدرامية. أما جوته فقد أنهى بين عامي ألف وسبعمائة وأربعة وتسعين، وألف وسبعمائة وستة وتسعين، روايته التعليمية "سنوات تعلم فلهم مايستر" التي تُعتبر المِثَال الأعلى للرواية التعليمية. وبتشجيع من صديقه المقرب "شلر" استأنف "جوته" الكتابة في عامه الأكبر "فوست" فأنهى الجزء الأول منه، وكذلك بِضْعة فصول من الجزء الثاني، وحينَ تُوفي "شلر" في عام ألف وثمانية وخمسة شعر جوته بالحزن العميق، والخسارة الكبيرة لوفاة صديقه العظيم. وبرحيل "شلر" يظل الكلاسيكي الكبير "جوته" حتى وفاته عام ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين الوحيد المتبقي من هذه المدرسة، في حين أخذت الرومانسية في الانتشار والسيطرة شيئًا فشيئًا، على الحياة الأدبية؛ لكن جوته ظل هو القمة التي لا تدانيها قمة أخرى، وبقي باعتراف الرومانسيين قلمًا أدبيًّا كبيرًا، ولم تكن خسارة رفيق الطريق "شلر" هي السبب الوحيد في تشاؤم جوته واكتئابه في ذلك الوقت، بل أيضًا الحرب القادمة التي بدأت تتوغل في ألمانيا، وتجتاح في طريقها الدوقيات والولايات الألمانية، وعاثت فيها الفساد والنهب. فمع معركة في الرابع عشر من أكتوبر سنة ألف وثمانية وست، دخل الجنود الفرنسيون فيمر، وأخذوا ينهبون البيوت، وقد بدأ جوته في عام ألف وثمانمائة وستة في إعداد طبعة كاملة من أعمال لدى الناشر كوته في "اشتوتجارت".

وفي تلك الفترة أنجز الجزء الأول ملحمتة الشعرية "فوست" التي صور فيها الرغبة العارمة في الوصول إلى امتلاك الحقيقة، وفي التخلص من القيود البشرية التي تمنع من الكمال، وهذا يمثل الجانب الأبيض داخل "جوته" نفسه، ثم صور في شخصية "مافستو" الجانب الأسود حيث الرغبة في التمرد الأعمى. وقد التقى "جوته" بنابليون بونابرت في إيرفورت في عام ألف وثمانمائة وثمانية، واستقبله نابليون وجلس معه، وأخذا يتناقشان ويتحاوران مواضيع فكرية وسياسية، وبعد أن انتهى الحديث نظر كل إلى من حوله مشيرًا إلى جوته قائلًا: هاكم رجلًا. فقد أعجب نابليون بأفكار جوته وعبقريته، وكان قد قرأ له من قبل أن يلتقيه رواية "آلان فرتر" ودعاه نابليون في ذلك الوقت المجيء إلى باريس، والإقامة بها، غير أنه لم يذهب إلى باريس، ولم يصبح صديقًا لنابليون، وكان هذا آخر لقاء بينهما. وفي عام ألف وثمانمائة وتسعة بدأ جوته يستعيد نشاطه الجسدي والنفسي، وشرع في كتابة سيرته الذاتية، وقد شَهِدَ جُوته موت جميع أصدقائه القُدامَى، ولم يكن يتوقف على التعلم والاطلاع على كافة الأفكار، ولذلك ظَلّ فِكْرُه وفلسفته للحياة تتطور مع كل مراحل حياته. في تلك الفترة التي شهدت صراع القارة الأوربية ضد جيوش نابليون، والمعارك التي استنفدت قواها، بدأ جوته يتجه إلى الشرق والاهتمام بتاريخه وأدبه، فبدأ بدراسة اللغتين العربية والفارسية؛ فقرأ القرآن واستهواه الشعر العربي القديم، وكذلك الشعر الفارسي، وأعجب بشكل خاص بالشاعر الفارسي حافظ شيرازي.

في تلك السن المتقدمة من عمره كان لا بد له من سكرتير، وكان هو "فريدريش رايمر" الذي كان مربيًا لأحد أبنائه، منذ عام ألف وثمانمائة وخمسة، وكذلك كان "كارل فريدريش سلر" يعزف له المقطوعات الموسيقية على البيانو، وكان جوته معجبًا بعزفه إلى حدٍ كبير. وفي عام ألف وثمانمائة وأربعة عشر قام جوته بعدة رحلات إلى المناطق المحيطة بنهري الري، والماين وزار فرانكفورت مسقط رأسه، وفي تلك الفترة توثقت صداقته بـ"كارل فريدريش راين هارد" و"كاسبرفور ترين بيرج" بينما حل "إكرمان" مكان رايمر في العزف على البيانو في "فاين مارك" وصار جوته في ذلك الوقت أكثر زهدًا في الحياة، وبدأ في كتابة الكلمات الأولى الغامضة، واستأنف كتابة الرحلة الإيطالية، وفي عام ألف وثمانمائة وواحد وعشرين أتم كتابة سنواته تجول "فين ماستر". وكتبها في شكل أقاصيص. وفي عام ألف وثمانمائة وثمانية وعشرين مات دوق "كارل أوجست" ثم مات في عام ألف وثمانية وثلاثين أحد أبنائه في روما، وفي العام نفسه أتم كتابة الجزء الثاني من "فاوست". في الثاني والعشرين من مارس سنة ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين لفظ جوته أنفاسه الأخيرة، بينما كان جالسًا في مقعده، وكانت الوفاة بسبب التهابٍ في الرئتين، وشيع جسمانه إلى قبره في يوم السادس والعشرين من مارس. وكان قد ظهرت في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر حركة نادت بالأدب المقارن، حيث تتجمع الآداب المختلفة كلها في أدب عالمي واحدٍ، يبدو وكأنه نهر يرفده كل أدب من الآداب القومية، بأسمى ما لديه من نتاج إبداعي، وقيم إنسانية وفنية.

وكان زعيم هذا الاتجاه الشاعر الألماني جوته، الذي عد نفسه نموذجًا تتجمع فيه صفة العالمية؛ فلقد كان مطلعًا على الآداب الأوربية، متمثلًا قيمها واتجاهاتها، وغض بصره إلى خارج الحدود الأوربية الضيقة المضطربة؛ فوجد في الآداب الشرقية الإسلامية عاملًا رحبًا لا نهائيًّا من الطهر والطمأنينة، بدا له وكأنه قبس من نور النبوة، كما وجد منعًا صافيًا من الإبداع والإلهام المتجدد، عبّر عنه بوضوح في ديوان سماه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". وكتب في مقدمته: هذه باقة من القصائد يرسلها الغرب إلى الشرق. ويتبين من هذا الديوان أن الغرب قد ضاق بروحانيته الضعيفة الباردة، فتطلع إلى الاقتباس من صدر الشرق. وقد استطاع جوته بثقافته العميقة الواسعة، ومكانته البارزة، وقدرته الفذة على الإبداع، أن يجعل فكرة التواصل بين الآداب الأوربية خاصة، والآداب كلها بعامة تستقر في الأذهان، وتصبح من الأمور المسلمة التي لا تقبل الجدل، على الرغم من طغيان العصبية القومية في أوربا. وهكذا بدت دعوة الأدب العالمي، وكأنها كانت بمثابة تمهيد طبعي لنشوء فكرة الأدب المقارن، كما جاء في كلام الدكتور محمد سعيد جمال الدين في كتابه (الأدب المقارن دراسات تطبيقية في الأدبين العربي والفارسي). ويمثل الأديب الألماني "يوهان فلفجان جوته" حالة ساطعة في ميدان الأدب المقارن، إذ يكثر لديه التأثر بالشعر العربي، والاحتذاء بالإسلام عمومًا، والقرآن العربي، والنبي محمد على وجه الخصوص، فضلًا عن إعجابه بحافظ الشيرازي، واستحضاره إياه استحضارًا قويًّا في أشعاره، نصوصًا من إبداعه، ووقائع من حياته.

وقد صدر في يونيه عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين في سلسلة كتاب الهلال، كتاب أكثر من رائع عن هذا الموضوع من المرحوم عبد الرحمن صدقي، مدير دار الأوبرا الأسبق، عنوانه "الشرق والإسلام في أدب جوته" وإن كنا قد قرأناه في طبعة سلسلة المكتبة الثقافية التي صدرت قبل ذلك -فيما أذكر- وفرحنا به كثيرًا، إذ وجدناه يلقي ضوءًا وهاجًا، على قضية أشد لمعانًا وهجًا هي قضية تأثر أديب وعالم ومفكر بقامة جوته الألماني بالإسلام والقرآن والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم. ثم مرت الأيام، ورأيت كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي عن "ديوان الشرقي للمؤلف الغربي" وهو ديوان الشعر للأديب الألماني يتبدى فيه هذا التأثر والإعجاب بالإسلام والرسول، والكتاب الذي أنزله الله عليه، وبعض شعراء أمته. ثم صدر كتاب ثالث في ذات الموضوع، عن سلسلة عالم المعرفة في فبراير سنة ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، بعنوان: "جوته والعالم العربي"، بقلم الكاتبة الألمانية "كاترينا ممزل" وترجمة الدكتور عدنان عباس علي. وتعرض الكتاب الأخير لاهتمام جوته بالثقافة العربية والإسلامية، وبما وضعه المستشرقون من دراسات عنها، واستيحائه بعضًا من عبارات الشعر الجاهلي، وموضوعاته وأساليبه الفنية، وبخاصة في المعلقات، التي أشاد بها في تعليقاته وبحوثه، وكذلك تأثره الغَلّاب بالقرآن الكريم، وروحانيته وعقائده، وبخاصة عقيدة التوحيد، والقضاء والقدر، وإسلام النفس لمشيئة الله، ونفوره من عقيدة الصلب والفداء النصرانية جراء ذلك، وترديده أسماء الله الحسنى في الديوان الشرقي، وإعجابه بالشاعر المسلم حافظ الشيرازي. وتقول الكاتبة: إنّ عَلاقة جوته بالإسلام وبنبيه محمد، ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر، فكل الشواهد تدل على أنه كان في أعماق

وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم كانت بعد معرفته بالكتاب المقدس، أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى. ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام، وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل؛ فقد نظمه وهو في الثالثة والعشرين من عمره، قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وحينما بلغ السبعين أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي. وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة، أعرَبَ الشّاعِرُ خِلالها بشتى الطرق، عن احترامه وإجلاله للإسلام، وهذا ما نجده قبل كل شيء في ذلك الكتاب، الذي يعد إلى جانب "فاوست" من أهم وصاياه الأدبية للأجيال، ونقصد به "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". بل إن دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور هذا الديوان، وقال فيها: إنه هو نفسه لا يكره أن يُقال عنه: إنه مسلم، وتتحدث الكاتبة عن التّحول الذي تم عن أيدي بعض كبار المفكرين في أوربا، في القرن التاسع عشر تجاه الإسلام؛ مِمّا كان من نتيجته تغير النظرة التقليدية العدائية نحوه إلى حد ما، وهو ما أثر على فكر جوته وشخصيته. إلى جانب شعوره بأن عقائد الإسلام ومبادئه، تقترب من اقتناعاته الشخصية إلى حد بعيد؛ كالتوحيد المطلق، والإيمان بدور الرسل في اتصال البشرية بالسماء، ورفض المعجزات الخارقة، والاقتناع بأن الاعتقاد لا يكفي، بل لا بد أن يتخذ التدين الحق صورة البر والإحسان، فضلًا عن حث الفيلسوف "هيلدر" له على قراءة القرآن الكريم، الذي كان هذا الفيلسوف يجله إجلالًا كبيرًا. وهي القراءة التي كان من ثمراتها: احتكاك جوته بأسلوب القرآن، وإحساسه بجلاله وروعته، وإشادته به مرارًا.

ما تركه القرآن في الأثر فيما خططته براعة جوته.

ما تركه القرآن في الأثر فيما خططته براعة جوته والآن إذا ما نظرنا إلى ما تركه القرآن في الأثر فيما خططته براعة جوته، وجدنا شاعرنا مثلًا في خطاب مبكر منه لـ"هلدر" يستشهد بقوله تعالى في سورة "طه" على لسان موسى عليه السلام: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (طه: 25). كما أشارت المؤلفة إلى عدد من الآيات التي اقتبسها في كتاباته وتعليقاته ومنها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115). {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164). {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) وغير ذلك من الآيات التي تلقانا في رسائله الشخصية، ومقالاته وكتبه وأشعاره. وفي شبابه نظم جوته قصيدة بعنوان "أنشودة محمد" مدحه -عليه السلام- فيها مديحًا حارًّا يدل على مدى الاحترام الذي كان يكنه للرسول الكريم، وقد كتبها في سنة ألفٍ وسبعمائة وثلاثٍ وسبعين، بعد أن قرأ كل ما تحت يده من دراساتٍ عنه -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه الأمدوحة، التي بدأها جوته على شكل حوارٍ بين علي وفاطمة -رضي الله عنهما- نَجِدُه يُشبه -عليه السلام- بنهر يتدفق في هدوء، لا يلبس أن يستحل سيلًا هادرًا يكتسح ما أمامه؛ ليصب في نهاية المطاف في المحيط الذي يرمز عنده إلى الألوهية.

وفي "مسرحية محمد" نراه يظهر اهتمامًا خاصًا بعقيدة التوحيد الإسلامية، التي يؤكدها على لسان النبي العظيم في مناجاته لربه تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم، ارتفع أيها القلب العامر بالحب إلى خالقك؛ كن أنت مولاي، كن أنت يا من تحب الخلق أجمعين، يا من خلقتني، وخلقت الشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء. وقد ظل جُوته حتى آخر حياته، يُؤمن بهذا كله، ومن ذلك ما كتبه حين كانت زوجة ابنه مريضة بمرضٍ خَطير لا يسعني أن أقول أكثر من أني أحاول هنا أن ألوذ بالإسلام، ومنه أيضًا رده على صديقة التمست منه النصيحة، بشأن وباء الكوليرا المنتشر آنذاك في مشارق البلاد وغربها: "ليس بوسع امرئ أن يقدم النصح لامرئ آخر في هذا الشأن؛ فليتخذ كل إنسان القرار الذي يناسبه، إننا جميعًا نحيا في الإسلام، مهما اختلفت الصور التي نقوي بها عزائمنا". ومنه كذلك وصفه لكتابٍ كان أحد أصدقائه أهداه إياه بأنه يحفز على التفكير في كل الآراء الدينية الرشيدة، وأن الإسلام لهو الرأي الذي سنقر به نحن جميعًا، إن عاجلًا أو آجلًا. وفي "الدّيوان الشّرقي للمؤلف الغربي" نقرأ هذه الأبيات التالية التي تقترب جدًّا جدًّا جدًّا من القرآن الكريم: "لله المشرق، لله المغرب، والأرض شمالًا، والأرض جميعًا تسكن آمنة ما بين يديه، هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في البر والبحر، ولكي تنعموا برؤيتها، وتنظروا إلى السماء، من حماقة الإنسان في دنياه أن يتعصب كل منا لما يراه، وإذا كان الإٍسلام معناه أن لله التسليم؛ فعلى الإسلام نحيا ونموت نحن أجمعين، ويسوع كان طاهِرَ الشُّعور ولا يؤمن في أعماقه إلا بالإله الواحد الأحد، ومن جعل منه إلهًا فقد أساء إليه، وخالف إرادته المقدسة.

وهكذا فإن الحق هو ما نادى به محمد فبفكرة الله الواحد الأحد ساد الدنيا بأسرها، أيتها الطفلة الرقيقة، هذه الأسماط من اللآلئ، وهبتها لك عن طيب نفس، بقدر ما استطعت كذبالة لمصباح الحب، لكنك تأتين الآن وقد علقت فيها علامة هي ما بين كل قريناتها من التمائم، أقبحها في نظري. وهذا الجنون الحديث المفرط، أتريدين أن تأتي به إلى شيراز؛ أم يجب علي أن أتغنى بالخشبة الجاسية المتقاطعة على الخشبة. والكلام هنا عن صليب كانت فتاته قد علقته على عقد أهداها إياه لتزين به جيدها. لم لا أصطنع من الأمثال ما أشاء، ما دام الله قد ضرب مثل البعوضة للرمز على الحياة. والكلام في هذا يطول كثيرًا، فنكتفي بهذا القدر ولكن بعد أن نقول كلمة في ما كتبه في بعض أشعاره، تأثرًا بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: 15) وهذا نصه: "النبي يقول: إذا اغتاظ أحد من أن الله قد شاء أن ينعم على محمد بالرعاية والهناء؛ فليثبت حبلًا غليظًا بأقوى عارضة في قاعة بيته، وليربط نفسه فيه، فسوف يحمله ويكفيه، ويشعر أن غيظه قد ذهب ولن يعود". ومعنى الأبيات هو: من يظن أنّ الله لن ينصر نبيه؛ فليذهب وليخنق نفسه بحبل، يتدلى من سقف بيته، باعتبار أنّ السبب في الآية معناه الحبل، وأنّ السماء هي السقف. ولكن لي تفسيرًا آخر للآية يبدو أكثر وجاهة، سواء من ناحية منطق العقل، أو من ناحية اللغة وأساليب العرب والقرآن، ذلك أنه لا معنى لأن يقول الواحد منا لمن يُكذبه بأنه سوف ينتصر عليه، أن اذهب وانتحر لترى أيزول سبب سخطك

أم لا؟. كما أننا نقرأ في سورة غافر قوله تعالى على لسان فرعون غيظًا من موسى واطمئنانه إلى نصر ربه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (غافر: 36، 37). فـ"أسباب السموات" وهي مثل "سبب إلى السماء" بالضبط لا تعني الحبال، بل السُّبل التي توصل إلى السماء للاطلاع إلى إله موسى، وعلى هذا فمعنى آية "الحج" هو أن من كان يشُكّ في نصرة الله لرسوله؛ فليحاول إن كان يستطيع ولن يستطيع، أن يثبت صحة ما يقوله، من أن الله لا ينصر نبيه؛ حتى يرتاح ويزيل عن نفسه مشاعر الغيظ والحقد. ثم هل كان الانتحار عن طريق حبل معلق في سقف البيت، من الأمور المعروفة عند العرب، وأيضًا فمد السبب إلى السماء، غير تعليق السبب في السقف؛ فهذا ينزل من فوق إلى تحت، وذاك يصعد من تحت لفوق، ثم كيف يمكن للمنتحر بعد أن يكون قد مات أن ينظر ليرى هل يذهبن كيده ما يغيظ، أي ما يكن؛ فأوجه من هذا التفسير القول بأن المقصود هو: "من كان يستطيع أن يتبين أنّ الله لن ينصر نبيه؛ فليثبت ذلك عن طريق الاطلاع على ما في السماء، وهذا أمر بطبيعة الحال مستحيل تمامًا". ويقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35) فهذه الآية كما نرى تسير في نفس اتجاه آيتي "الحج" و"غافر"، وهو ما يعضد ما طرحته من تفسير الآية الكريمة؛ هذا التفسير

الذي أحسب أنه أقوى من التفسير الذي يقول به المفسرون، وتأثر به مترجم الآية الذي قرأه جوته. وكان من أثر قراءته له كتابة ما كتب؛ لقد ظهر جوته في أوائل القرن الثامن عشر الميلاد، وكان رجلًا نادرًا المثال لم ينحصر في نطاق، ولم يستأثر بأسلوب، ولم ينذر نفسه لمذهب، كان شاعرًا وعالمًا وفيلسوفًا، يناقض أيما مناقضة القول المأثور: "الشرق شرق والغرب غرب، وهيهات يلتقيان". كان مغرمًا بسفر أيوب في صباه، ورأى فيه المثال العربي الأصيل من ناحية الشهامة المروءة والنجدة والفروسية. وعندما كبر اتصل بالأديب "هلدر" فأذكى فيه الغرام بالشرق، وتأثرت له بعض ترجمات القرآن، فتأثر بالقرآن أبلغ تأثير، وحفظ منه ما تيسر، واقتبس آياتٍ كثيرة، وظهرت في شعره الأخير الذي أسماه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" كقوله مثلًا: "قل لله المشرق ولله المغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وفي راحتيه الشمال والجنوب معًا، وهو الحق وما يشاء بعباده الحق سبحانه له الأسماء الحسنى، وتبارك اسمه الحق وتعالى علوًّا كبيرًا آمين. وقوله أيضًا: "وينازعني وسواس الغي وأنت المغيث، المعيذ من شر الوسواس الخناس، اللهم اهدني في الأعمال والنيات إلى الصراط المستقيم". وقوله: "وللناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير، هذا يُفعم الصدر، وهذا يفرج عنه. كذلك الحياة عجيبة التركيب؛ فاشكر ربك إذا بليت، واشكر ربك إذا عُفيت، ويعمد جوته إلى التضمين الصريح، ومن ذلك تضمين الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (البقرة: 26).

فيقول في مقطوعة له بعنوان "التشبيه": لم لا أصطنع من التشابيه ما أشاء، والله يجد لي في جمال عيني الحبيبة لمحة من جماله رائعة عجيبة؟! وتأثر جوته أيضًا بسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يحفل بنزعة التعصب ضد نبينا الكريم، فقال في بعض أشعاره: "من حماقة الإنسان في دنياه، أن يتعصب كل منا لما يراه، وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله؛ فإننا جميعًا نحيا ونموت مسلمين". وقد ألّفَ مَسْرَحِيّة عن محمد -عليه الصلاة والسلام- ونظم منها فاتحة الفصل الأول وعنوانه: "مناجاة محمد" وخَتم مناجاة محمد بقوله: "فارتفع أيها القلب العامر بالحب نحو الخالق، إنك وحدك مولاي يا رب، إنك المحيط بكل شيء، خالق الشمس والقمر والكواكب، خالق السماء والأرض وخالق نفسي". وقوله في بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما يتأمل في الملكوت، جاءه المناخ على عجل، جاءه مباشرة بصوتٍ عالٍ، ومعه النور، اضطرب الذي كان يعمل تاجرًا؛ فهو لم يقرأ من قبل، وقراءة كلمة تعني الكثير بالنسبة له، لكن الملاك أشار إليه وأمره بقراءة ما هو مكتوب، ولم يبالِ، وأمره ثلاثًا اقرأ، فقرأ لدرجة أن الملك انحنى، واستطاع القراءة، واستمع الأمر وبدأ طريقه. كما أعجب جوته بالمعلقات، وعاش مع عرب البادية بشمائلهم وعزهم، من البسالة والإقدام، والبُعد عن العار، والأخذ بالثأر، وطلب المجد والفخار، وفَطِنَ إلى ما في كل معلقة من مزايا وفضائل، وحمله ذلك على القول: دعوني كما أهوى على صهوة جوادي، واقبعوا أنتم في بيوت المدر، وخيام الوبر، إني لأنطلق جذلان في هذا الفضاء الشاسع، وليس فوق عمامتي إلا النجوم الزواهر، وما زينت السماء الدنيا بمصابيح، إلا هدى للناس، ومتعة للناظرين.

وتأثر جوته أيضًا بألف ليلة وليلة، وبشخصية المرأة الشرقية المتمثلة في شهر زاد، تأثر بلباقتها وذكائها، وفطنتها، جذبته فكرة الراوي العربي المربي، شَدّه العرب المغامرون أصحاب العمائم لا التيجان، ساكنوا الخيام لا القصور، حاملوا السيوف لا الحصون. ولقد بهرته بغداد بثقافتها وعلمها وأدبها، ووصل ولعه بها في "ديوان الغرب والشرق" لدرجة قيامه بمساواتها بمدينة "فيم" الألمانية، كما أوضحت "ممزن" بل إنه كتب في وصيته قائلًا: بمجرد أن تأتي بالترياق من بغداد، ينتقل المريض من حال إلى حال، والسؤال الآن: هل أسلم جوته؟ تقول "كاترينا ممزن" أستاذة الأدب الاجتماعي: إنّ علاقة جوته بالإسلام ونبيه الكريم، ظاهرة مدعاة للدهشة في حياته؛ فَكُلّ الشَّواهِد تَدُلّ على أنه في أعماقه شديد الاهتمام بالإسلام، وأنه كان يحفظ عشرات من آيات القرآن الكريم. وردًّا على سؤال يستفسر صاحبه عما أن كان جوته قد أسلم، قالت: إن إعجاب جوته بالإسلام لا يعني بالضرورة أنه اعتنقه، وترى أن جوته كان يكن تعاطفه للإسلام، ولكنها تنفي أن يكون قد تحول إليه. وأما أنا فلا أستبعد أن يكون قد أسلم فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين المقربين جدًّا من أصدقائه، ما دام قد وصل شغفه بالإسلام، واقتناعه بفضائله وقيمه وعقائده إلى الحد الذي نعرف. ويقول الدكتور رفيق أمين في مقال له منشور له بصحيفة الفرات، في الثالث من شهر أكتوبر سنة ألفين وسبع، بعنوان "جوته أحب الشعر العربي وترجمه وهام في دنيا المعلقات": لم يكن جوته في أدبه بالمواطن الألماني وحده، ولا بالأوربي وحده، بل كان العالمي. وبعبارة واحدة تعانق فيه الغرب والشرق.

ونحنُ هنا نقصر كلامنا على جوته الشرق، ونظرته إلى الشعر العربي الأصيل، ومن ذَلك اتّصاله بمكتبة جامعة جوتنجن لتوفيه بالمعلقات العربية في ترجمتها الإنجليزية، التي أصدرها في لندن المستشرق "وليم جونز" وفي ذلك الوقت نفسه، وما كاد الكتاب يرد على شاعرنا، وتحتويه يداه، حتى انكب يطالعه في روية وإمعان. وهكذا عاش الشاعر الألماني في عصر الجاهلية العربي، بفضل ما تُرجم إلى اللغات الأوربية وقتئذ من المعلقات، تلك القصائد المطولات التي أحرزت السبق في المسابقات الأدبية، التي كانت تعقدها القبائل في أسواقها الموسمية؛ ففي هذه المعُلقات العربية عاش جوته مع العرب في البادية، من الرعاة المقاتلة، التي تربط أبناء القبيلة الواحدة، وتدله على ما انطبع عليه العربي من روح الإقدام والبسالة، والتحرر من العار، وطلب المجد والفخار. ويقول: إنّه إذا كان شعراء العرب قد استهلوا قصائدهم بالغزل والنسيب؛ فليس هذا منهم بعجب، فإن ما يعرضون له من صفة الحرب في شعرهم، بفضائلها الصلبة القاسية، ومَناظِرِها الدامية، قد دعاهم أن يقدموا بين هذه الصورة القوية للعنجوية الجاهلية، ما يلطف حدتها، ويخفف شدتها، من وصف محاسن الحبيبة، وبَثّ دواعي الحب وشكوى الجفاء والبعد، وتَرديد الحنين، وتوكيد الحفاظ على الود. ويزيد في قيمة المعلقات السبع عند الشاعر الألمان: أنّ لكل منها صفة غالبة تتميز بها، ويشوق القارئ تنوعها، وهو يرى فيها رأي مترجمها المستشرق الإنجليزي، وخُلاصته أنّ مُعلقة امرئ القيس رقيقة مَرِحة، مشوقة المعنى، رشيقة اللفظ، شتى الفنون، ذات رونق مستحب، وطلاوة مُستطابه.

ومعلقة طرفة تتسم بالجرأة والحيوية والتوثب، ويسري فيها الابتهاج والتطرب، ومعلقة زهير رصينة متزمتة، عفيفة مترفعة، حافلة بالتعاليم الخلقية الراجحة، والحكم الجليلة النافعة، ومعلقة لبيد لطيفة الوقع، بارعة الحكاية، أنيقة الديباجة؛ يشكو الشاعر فيها من جفاء حبيبته؛ ليَخْلُص في ذلك إلى تعداد مناقِبه، والإشهادة بقبيلته، ومعلقة عنترة مستكبرة متفاخرة، متحدية متوعدة، بليغة الدلالة، جزلة العبارة وهي مع ذلك حالمة بمحاسن الوصف والاستعارة، ومعلقة عمرو بن كلثوم التغلبي فيها قوة عارضة، وجلالة مهيبة، وفخامة رائعة، ومعلقة الحارث بن حلزة فيه غزير الحكمة، نافذ البصيرة، ظاهر السمت، وافر الكرامة. وقد بلغ من حماسة جوته وهو يطالع الترجمة الإنجليزية لهذه المعلقات، في عام ألف وثمانية وثلاثة وسبعين أن أرسل إلى صديق له "كار فون كليبول" يُخبره بعزمه على أن يحاول بدوره ترجمة المعلقات، وقد أمكن العثور على هذه المحاولة أخيرًا؛ فأُضِيفَت إلى آثار جوته في طبعة "فيمار". هذا وإن القارئ لا يتمالك نفسه من الدهشة لما يبديه جوته من قبول سخي كريم للتشبع بالروح العربي، فقد اجتمع كتاب الغرب على رأي لا يخلو من شبهة العصبية ذميمة وهو أن الحضارة الحديثة مهدها ينال القديمة غير أن جوته أعلن عن عدوله عنها إلى حضارة الشرق العربي في حضارة العباسيين الزاهرة على ضفاف الفرات على أيام هارون الرشيد وصحبه. وهذا ما قاله جوته في إحدى مقطعات "الديوان الشرقي": دع الإغريق البسال يجبر الطينة ويضع التمثال، وليفتتن ما شاء الافتتان، بالدنيا التي أبدعتها يداه الصناعتان، أما نحن فمتعتنا لجة الفرات، نسبح فيها مسترسلين مع عنصر الماء،

حتى إذا ارتوت ظلة النفس تفجرت أفاويق الشعر فياضة مترنمة، فليغترف الشاعر من هذا الفيض بكفه الطهور؛ فإنه لا يتكون في يديه متلألئًا كالبلور. ويسترسل الشاعر الألماني في حماسته، حتى ينتهي الأمر به إلى النقمة على حياة المدينة، والتكبير والتهليل بما ينعم به الفارس البدوي من الحرية في الصحراء: دعني كما أهوى على صهوة جوادي، واقبعوا أنتم في بيوت المدر وخيام الوبر، إني لأنطلق جزلان في هذا الفضاء الشاسع، ليس فوق عمامتي إلا النجوم الزواهر، وما زينت السماء الدنيا بمصابيح، إلا هدى للناس ومتعة للناظرين. وقد بلغ هذا الشغف بالشرق العربي من جوته غاية بالغة؛ حتى كان يعالج محاكاة الكتابة العربية، وإقامة حروفها، ورسم كلماتها، وتوجيه سطورها من اليمين إلى اليسار، على خلاف الكتابة الأوربية، وقد جره هذا الشغف إلى التغني بالقلم العربي المتخذ من القصب، فنظم في مقطوعة بعنوان القلم: تخرج الأرض من القصب هذه الأعواد؛ للترفيه بها عن العباد، فاللهم اجعل أصدق المشاعر، وألطف الأفكار، تفيض من القلم الذي أخط به هذه الأشعار. وترى المُستشرقة الألمانية أن المتنبي الذي يعده كثيرون أهم شاعر عربي، قد حظي باهتمام خاص من الشاعر الألماني جوته، الذي أعلن إعجابه به، مُتجاهلًا بذلك كون المتنبي شخصية نكرة في أوربا في تلك الفترة، وقالت كتارينا ممزن الأستاذة بجامعة استانفورت الأمريكية في كتابها (جوته وبعض شعراء العصر الإسلامي): "إن المتنبي كاد أن يكون نكرة بالنسبة للقارئ الأوربي في عصر جوته، ولكنهم انتبهوا إليه بعد أن تحدث عن جوته بإعجاب، وإكبار في "الديوان الغربي الشرقي". فبعد سنوات، نشرت ترجمة كاملة لديوان المتنبي، ووصفه الناشر الألماني في العنوان بأنه أعظم شاعر عربي، وأشارت إلى أن للمتنبي ظلالًا في بعض أعمال

جوته، ومنها مشهد فكاهي في مسرحيته "مأساة فاوس" كما استوحى النبرة الغزلية في قصيدته "السماح بالدخول" التي كتبها يوم الرابع والعشرين من إبريل "نيسان" سنة ألف وثمانمائة وعشرين من غزليات المتنبي. وكتب الدكتور عدنان رشيد في صحيفة الرياض السعودية، بتاريخ الحادي والعشرين من أكتوبر سنة ألفين واثنتين، مقالًا عنوانه: "الشاعر الألماني جوته وألف ليلة وليلة" نقتطف منه ما يلي: عكف جوته في "فيمار" على دراسة أدب الشرق؛ فاهتم بالأدبين العربي والفارسي، وكذلك بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وألَمّ بأصُول الدّين الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، وذلك بمساعدة المستشرقين الألمان. كما نشر حوارًا شعريًّا بين علي وفاطمة، ونَشَر أيضًا مسرحية عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه لم يستطع إنجازها إلى النهاية؛ فظلت ناقصة، وذلك بسبب انشغاله بتأليف مسرحية "بوتس" ومسرحية قيصر. وكان "جوته" يتذكر بعض قصص ألف ليلة وليلة، التي كانت جدته تقصه عليه قبل أن ينام، كما قرأ بعض القصص أثناء إقامته في "لايبز" للدراسة عام ألف وسبعمائة وخمسة وستين، وفي عام ألف وسبعمائة وأربعة ظهرت ترجمة ألف ليلة وليلة، في عدة أجزاء باللغة الفرنسية، وقام بترجمتها المستشرق الفرنسي "جالان". ثم قام بعد سنوات عدد من المستشرقين الألمان بترجمتها إلى اللغة الألمانية. لقد انعكس تأثير ألف ليلة وليلة على جوته، في رواية الأولى "ألان فرتر" فقد جاء في الرسالة المؤرخة في الثالث والعشرين من تموز في رواية "فيرتر" ما يلي: كانت جدتي تحدثنا عن الجبل الممغنط، وكيف تتفكك السفن التي يشتد دنوها منه، ويتطاير حديدها فيسقط ملاحوها في البحر بين الألواح المتداعية.

هذه الحِكاية الأسطورية تعود إلى ترجمة "جالا" وهي حكاية الثالثة من حكايات ألف ليلة وليلة بعنوان "ابن الملك" ويقول جوته في رسالة بعث بها إلى صديقته "فريدريكا بريو" في الخامس عشر من شهر أكتوبر، عام ألف وسبعمائة وسبعين: إنّ القلق الذي يَشْغَلُني يُعْزَى سَببَهُ إلى أني بعيدٌ عنك، ويجبُ أن أكون بقربك هنا في "استراسبورج" كما أريد أن أسطر على الورق أسطورة تعزيني في وحدتي، كم تشوقت لأن أصبح كالحصان المجنح؛ لأطير إلى قلبك، وأعزيك في وحدتك، ولكن لا أريد أن أعكر صفوك إذا كان بعدك عن أصدقائك يسليك. فذكر الحصان المجنح يعود إلى قصة وردت في ترجمة "جالا" تحت عنوان: "الجواد الظريف" وكذلك حكاية الجواد الساحر الهندية، التي يطوف بها الحصان من مدينة أخرى بسرعة فائقة، كما كان جوته يقصّ على الأطفال في "فرانكفورت" أساطير وحكايات ألف ليلة وليلة، فمثلًا كان جوته يسرد مثل هذه الحكايات على أطفال عائلة "ديفير أورفيل" التي تتصل بقرابة العائلة صديقته "لليشولمان". وأخرج جوته فيما بعد أعمالًا أدبية عكست تأثير قصة ألف ليلة وليلة على الشاعر وإعجابه بها، ومن هذه الأعمال الأدبية مسرحية "مزاج العاشق" وتصور الغيرة في شخص جوته تجاه "أنيته سونا بويف" ابنة صاحب الفندق الذي كان ينزل فيه أثناء الدراسة في "لايبز" وقد اضطر والدها في النهاية إلى إعلان زواجها من أحد الأطباء في "لايبز". وانفصلت العلاقة بين الفتاة وجوته، وقد تأثر جوته بقصة أمينة في قصص ألف ليلة وليلة، وأطلق على بطلة مسرحيته المذكورة اسم أمينة، وأمينة في كتاب ألف ليلة وليلة أرملة صغيرة السن جميلة وثرية، وقد أحبت رجلًا كان يبدي إعجابه بها من خلال النظرات والإيماءات، وسرعان ما تزوجته أمينة؛ فاضطرت أن

تعيش في ظروف التقاليد القاسية، وكان محرمًا عليها أن تكشف وجهها أمام شخص غريب، وأن تكلم أحدًا غير زوجها. وبعد شهر من زواجهما احتاجت أن تخيط لها ثوبًا، فخرجت إلى السوق لشراء القماش، بعد أن سمح لها زوجها بذلك شرط أن ترافقها خادمة في جولتها، ودخلت أمينة مع الخادمة دكانًا يملكه شاب صغير السن وسيم الوجه، وكان الكلامُ يجري مع الخادمة لأنه كان محرمًا على أمينة أن تكلم أحدًا غريبًا، وقد اختارت أمينة قماشًا أعجبها، غير أن غلاء سعره أحدث بعض الصعوبة في شرائه؛ فقد فرض البائع الشاب هذا السعر الخيالي لكي يساوم مع أمينة، وقبل البائع فيما بعد تخفيض سعر القماش لقاء قبلة من وجنة أمينة. وقبلت أمينة أن تمنح البائع قبلة لقاء تخفيض السعر، فتلفت بعباءتها وقدمت خدها للقبلة غير أن البائع الشاب بدلًا من أن يقبلها، ضغط بأسنانه على خدها فانبجس منه الدم، وقد حاولت أمينة عبثًا إخفاء أثر العضة لإبعاد الشك، وجعلت الغيرة تنهش في صدر الزوج، وأمر عبده بقطع رأسها، وقد حالت توسلات النسوة والجيران دون تنفيذ الأمر. وأراد الزوج أن تبقى ذاكرة أمينة معلقة دائمًا بالجرم والخيانة؛ فأمر بضربها بالسوط حتى ترك آثارًا في جسدها، وقد تأثر جوته بقصة الأمير حبيب، والأميرة دُرّة، ونسج على غِرارها أحداث مسرحية "فاوست" الجزء الثاني والأمير حبيب صبي حاد الذكاء، تولى تعليمه معلم فقيه، وعندما بلغ حبيب السابعة كان يتقن الفقه واللغة، إتقانًا جيدًا، ودرس التاريخ وتعلم فن الشعر وأصوله. وفي أحد الأيام اضطر المعلم إلى السفر؛ فودع تلميذه الصغير حبيب، فبكى حبيب على فراق معلمه، وجاء بعد يوم معلم آخر، لا يقل اطلاعًا ومعرفة عن

المعلم الأول، وبعد فَترة قصيرة غادر هذا المعلم تلميذه حبيب مستأذنًا بالسفر لإنجاز مهمة عائلية، وقبل أن يودعه قال له: إنك ستجتاز يا حبيب مخاطر كثيرة، وتَمرُّ بك مصاعب جسيمة، ستهزك وسيكون الثمن تضحيتك، وصبرك عليها هو زواجك من الأميرة درة حاكمة إحدى المقاطعات في العراق. ثم نشر بعد سنوات رواية تلمذت "وليم مايستر" في ثلاثة أجزاء، وهو تصور نضال الطبقة "البرجوازية" المثقفة في سبيل خلق مسرح وطني في ألمانيا، غير أن اليأس يستولى على وليم؛ فيترك ألمانيا، ويُهاجر إلى أمريكا، أثناء حرب الاستقلال؛ لانضمام إلى المحاربين الجنوبيين، ثم الحصول على العمل هناك. ولعَلّ الجُزء الثاني من الرواية "تجوال وليم مايستر" يتفق كل الاتفاق مع محتوى قصة علي الجوهري من قصص ألف ليلة وليلة، وسيرة علي الجوهري مشابهة لسيرة "وليم مايستر" في بعض الجوانب؛ فهو أيضًا جوال ومكافح، وداعية الإصلاح ومغامرٌ يَجُوب الأصقاع دون خوف أو وجل؛ فهو يسعى لتحقيق مطامعه؛ فيخفق في كثير الأحيان، ويحالفه النجاح في بعضٍ منها؛ فيخرج في النهاية منتصرًا على الفشل والمصاعب. وكتب جوته قصيدة تحت عنوان "دير شاتس بلابر" حفار الكنز؛ استوحاه من حكاية علي بابا والأربعين حرامي، وهي إحدى قصص ألف ليلة وليلة، ويقول فيها: أقضي أيامي الطويلة معدمًا متيمًا، أتَجَرّعُ الفَقر ضِيق أيامي، وأحلم في الثّراء بأيام آمالي، ولما أعياني الألم، ذهبت للبحث عن الكنز المفقود؛ ممنيًا نفسي بالرخاء، وحفرته حتى عفر ترابه دمائي، وتجولت في كل الأصقاع، حاملًا

مشاعر السرور، وكيسًا مملوءًا بعظم الأشباح، عشبًا تفوح منه رائحة ذكية، وبأسلوب المعلم الفهيم، بحثت عن كنزي القديم. وكان الليل حالك الظلام، فرأيت بصير السنور من بعيد، وإذا بنجمة تقترب من بين الظلمة الحالكة، فدقت الساعة معلنة، نهاية الليلة الزائلة، وفجأة قبل أن يحين الأوان، ملأ الضوء جو المكان؛ مُنبعثًا من بريق يومض بعمر الزمان، يحمل صبي له جمال حسان؛ فرأيت تلألؤ العيون الجميلة، من بين أكاليل الزهور الكبيرة، ويَعُبّ من شراب له نقاء السماء. وتقدمت منه بخطى وئيدة، وأنا مبهور لهذا الثناء؛ فقدمه ملطفًا أن اشرب من الكوز بصفاء؛ فزال عني كل عناء، وبدد في نفسي شعور الجفاء، فارتوي يا صاحِ بماء الشجاعة؛ كي تدرك معنى القناعة، وتزود المعرفة، ولا تعد بروح خائفة، لهذا المكان بثروته الزائلة، ولا تحضر هنا بعد بروح بائسة، اعمل في النهار، واستعطف المساء، فمضت أسابيع الجفاء، وأتت أعياد الرّخاء. وتأثر جوته بحكاية البِساط السحري من قصص ألف ليلة وليلة؛ فنسج على غرارها مسرحية "الابنة الطبيعية" عام ألف وثمانمائة واثنين، وافتتح بها مسرح "لاخشند" ونثر46:54 ونشر قصيدة شعرية في كتاب المعاني والحكايات، في الديوان الذي أصدره، وكتب بخط يده عنوانه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". علاء الدين والفانوس السحري: جميع البشر من كبير وصغير، يعملون على بناء المجتمع الكبير، ويعملون جاهدين لاحتلال المنصب الجديد، ويتطاولون على الآخرين، وعندما ترمقهم نظرات الحاسدين، يقيمون الدنيا ويقعدونها وكأنها نهاية العالمين.

وإلى جانب اهتمام جوته بقصص ألف ليلة وليلة، اهتم أيضًا كما رأينا بشعراء المعلقات؛ فاتصل جوته عام ألف وسبعمائة وثلاثة وثمانين، فاتصل جوته بمكتبة جماعة "جوتنج" لتوافيه بالمعلقات العربية في ترجمتها الإنجليزية، التي أصدر المستشرق الإنجليزي "ويلم جونز" وقتذاك. وقد تأثر جوته بهذه الأشعار، وامتدح الشعراء الجاهلين، وأحدثت مطالعة هذه الأشعار في نفسه أثرًا عميقًا، انعكس على عدد من قصائده، التي دونها في كتابه "الديوان الشعري للمؤلف الغربي" وقرأ معلقة امرئ القيس "قفا نبك" بترجمتها الإنجليزية، وقام فيما بعد بترجمتها إلى الألمانية. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 11 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (1).

الدرس: 11 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (1).

أثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (1)) أثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي في البداية أحب أن أشير إلي أن بعض دارسي الأدب المقارن يقولون عن مدارس الأدب المقارن في الغرب: إنها تنطلق مما يسمونه المركزية الأوربية، تلك المركزية التي لا تري إلا أوربا والغرب، إذ يعتقد الأوربيون أن الشعوب الأفريقية أسيويه، هي شعوب بدائية وطفولية، يمكن استبعاد آدابها وفنونها من مجال الأدب المقارن، دون أن يخامر المرء أدني شعور بالخسارة أو مجافاة شروط البحث العلمي، وأما الثقافات الشفوية التي تشيع في تلك البلاد هي بالتأكيد دون الثقافات الأوربية الغربية المدونة، وهي لذلك لا تصلح إلا للمتاحف والدراسات الأنثروبولوجية والدراسات التاريخية المتصلة بنشوء الإنسان وتطوره وارتقائه، وأن الأجناس الأدبية التي لا تتفق والتصنيفات الأدبية الأوربية يمكن أن تهمل دون شعور كبير بالإثم ما دامت خارجة عن القانون الأدبي الغربي، كما هو الشأن في نظر الأوربيين للمقامة أو الشعر الغنائي في الآداب الشرقية، وأن الأعمال الأدبية العظيمة في نظر الأمم والشعوب التي أنتجتها تقاس بما يسمى روائع الأدب الغربي، وتنال من الدرجات بمقدار قربها أو بعدها من النماذج الغربية، وكانت حصيلة هذه المظاهر العنصرية في جوهرها والعابثة في موقفها أن بعض الآداب كان يسالي أقل من الآداب الأخرى، وبعضها كان فريدًا في امتلاكه أهمية عالمية، وبعضها الآخر يمكن أن يهمل بوصفه بدائيًّا أو عاديًا. ولذلك وجدنا أن المقارنين الأوربيين في القرن التاسع عشر بكامله قد مضوا في إلحاحهم على أن المقارنة تكون على محور أفقي -أي: بين الأنداد- وإحدى نتائج هذا المنظور أن باحثي الأدب المقارن ومنذ البداية مالوا إلى العمل مع الكتاب الأوربيين فقط.

ولذلك دعا بعض باحثي الأدب المقارن المنصفين إلى ضرورة توسيع دائرة البحث في الأدب المقارن بغرض الوصول إلى نتائج أكثر مصداقية وحقائق أكثر رسوخًا وموضوعية. وهذه الدعوة تضعه على الطرف النقيض للدرس المقارن الغربي القائم على المركزية الغربية، التي ينبغي أن ترفض من المؤمنين بالرسالة السامية للأدب المقارن رفضًا قاطعًا. .وفي رأيهم أنه إذا كان الأدب في الغرب قد تخلى عن دراسة القضايا الواسعة والآفاق العريضة لتطور الأدب العالمي، واتجه نحو التخصص الضيق، محددًا قطر بحثه داخل الحدود القومية، وفي أحسن الأحوال معتمدًا على الأعمال الأوربية، فإنه ينبغي أن نسلم بضرورة تناول مسائل التطور الأدبي، من خلال الدراسات المقارنية التاريخية الأرحب أفقًا، وضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار اشتمال هذه الدراسات على الأعمال الأدبية الغربية والشرقية كلتيهما. ولا ريب في أن تلك الدعوة الأخيرة هي دعوة أرحب أفقًا، وأكثر إنسانية، وأمعن في العلمية من تلك المركزية الأوربية وما يترتب عليها من تداعيات منهجية وإنسانية خطيرة، وينبغي أن تكون هذه نظرتنا إلى الأدب المقارن نحن العرب والمسلمين؛ إذ الإسلام يعلمنا سعة الأفق، كما ينبهنا إلى ضرورة التعاون والتآلف والتآخي بين المسلمين بعضهم وبعض. وهناك الآن كتب في الأدب المقارن تهتم بالأدب الإسلامي المقارن بالذات، وإذا كانت غاية المسلمين الوحدة الإسلامية فالسبيل إليها هو معرفة بعضنا بعضًا، وهذا لا يتم إلا إذا درسنا كل ما يتعلق بالأمم الإسلامية الأخرى، لأن من العيب الخطير أن نعرف عن أوربا وأمريكا التي استعمرتنا -وما زالت تثير لنا المشكلات وتضع في طريقنا العوائق وتعمل على احتلال بلادنا وتقسيمها

واستعبادنا وإلحاقنا بقاطرة الغرب- أكثر مما نعرف عن إخواننا في البلاد الإسلامية المختلفة. ومن المهم أن نتنبه إلى حقيقة تغيب عن أذهاننا كثيرًا، هذه الحقيقة هي أن تلك البلاد ذوات حضارات عريقة، وكانت متقدمة أيام أن كانت أوربا لا تزال بلادًا متخلفة، وإذا كانت أوربا تتعامل معنا بمنطق السيد، فينبغي أن نتعامل مع بعضنا البعض بروح الأخوة والمساواة والاحترام المتبادل، وإذا كنت قد أشرت إلى أن السبيل إلى الوحدة الإسلامية هو أن يعرف بعضنا بعضًا، ففي مجال الأدب المقارن ينبغي أن ندرس آداب الأمم الإسلامية الأخرى، وأن نقارن بينها وبين الأدب العربي، لنعرف مواطن التقارب ومواطن التباعد، وإذا كان هناك تأثير من طرف على آخر أبرزناه، وهذا كله من شأنه أن يعضد معرفتنا بعضنا ببعض، وأن يساعد على تمهيد الطريق نحو الأخوة الإسلامية، تلك التي ينبغي ألا تقوم على الشعارات والعواطف الهوجاء، بل على الدراسات العلمية الدقيقة. وينبغي في هذا المجال أن نتعلم من أوربا وأمريكا إتباعهما للمنهج العلمي، فهما تقيمان حياتهما على العلم ومناهج العلم وعلى الإحصاءات والدراسات الدقيقة، ولا تدخلان أي ميدان من ميادين الحياة إلا وقد درسته ومحصته وتحققت كل شيء فيه على قدر ما تستطيع، ومن هنا كان نجاح الأوربيين والأمريكان في أمور كثيرة، وفشلنا في هذه الأمور؛ لأننا للأسف كثيرًا ما نهمل المنهج العلمي، ونظن أن العواطف المشتعلة كافية في تبليغنا ما نريد، مع أن الإسلام يحضنا على العلم، ويريد منا أن ندقق كل شيء نعمله، وألا نقدم على شيء إلا وقد عرفنا أين نضع أقدامنا، بحيث لا نسير أي خطوة في الظلام، ولا نسير أي خطوة دون أن نعرف إلى أين نحن ماضون، ودون أن نلم بالنتائج التي نتغياها، ودون أن تكون في أيدينا الوسائل الكفيلة ببلوغنا هذه الغاية.

لو فعلنا ذلك فإن هذا سوف يكون -بمشيئة الله- خطوة صحيحة على الدرب، وسوف يقربنا هذا من الغرض المنشود، ألا وهو أن يعرف المسلمون بعضهم بعضًا معرفة علمية دقيقة ممحصة، وأن تقوم بينهم الوحدة. وسنبدأ أولًا بأثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي: والمقصود بالأدب السواحيلي: ذلك الأدب المسجل باللغة السواحيلية، وهي اللغة المنتشرة في شرق إفريقيا، في تنزانيا وكينيا وأوغندا وجنوب الصومال وشرق زئير وشمال الموزمبيق وشمال زامبيا وشمال المالاوي وجزر القمر، حيث ينتشر الإسلام انتشارًا واسعًا، حتى ليشكل الدين الرئيسي في معظم تلك المناطق، وكانت هذه الدول تخضع للاحتلال الأوربي منذ أواخر القرن الخامس عشر، من قبل البرتغاليين أولًا، إلى أن أخرجه منها العمانيون، تلبية لدعوة أهل البلاد، وحكموها منذ أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. ثم من قبل الأوربيين مرة أخرى منذ أواخر القرن التاسع عشر، إذ أخذ الإنجليز زنجبار وكينيا وأوغندا، والإيطاليون جنوب الصومال، والألمان تنجانيقة وما حولها وهي الآن جزء من تنزانيا، ثم البلجيك حوض الكونغو، الذي يتمثل الآن في شرق زئير، ثم حصلت تلك الدول على استقلالها في بداية ستينات القرن المنصرم. وهناك كلمات وعبارات كثيرة جدًّا جدًّا، استعارتها اللغة السواحيلية من لغة الضاد، ومنها: "بعد ذلك، سلام، عم، أب، بحر، عالم، يغير، عيب، يؤمن، بين، ضحية، أمانة، بطة، يشقى، دفتر، دقيقة، بندقية، إبليس، جمعة، إن شاء الله، فتك، حاج، هيبة، حق، يتجسس، جوهرة، يواجه،

مغرب، نصيب، يصدق، صنف، رمضان، تفضل، عصيان، نظافة، متوسط، صحة، يتشوق ... إلى آخره". ولا بد من لفت النظر إلى أن تلك الكلمات لم تبقَ على حالها الأصلي، بل اعترتها التحويرات والتشويهات، طبقًا لقواعد اللغة المستعيرة وأوضاعها، على ما يحدث في مثل تلك الحالة في كل اللغات. وفي الأدب السواحيلي أمثال كثيرة تتفق إلى حد بعيد والأمثال العربية، من ذلك مثلًا قولهم: الأسد الذي يزأر لا يقتل فريسة، فهو يشبه قولنا: الكلاب النباحة قليلًا ما تعض، وقولهم: علامة الصوت تزول وآثار الشتائم لا تزول، الذي يذكرنا بالمثل العربي الشعري: جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتئم ما جرح اللسان وكذلك قولهم: لا تصلح سور جارك قبل أن تصلح سورك، فهو قريب من المثل العامي، الذي يقول: الذي يحتاجه البيت يحرم على الجامع، وقولهم: بالمال يكسب الرجل النساء، الذي يستدعي إلى الذاكرة، قولنا: لا يعيب الرجل إلا جيبه، وقولهم: نصف رغيف أفضل من لا شيء، فهو مثل المثل الشعبي الذي يقول: نصف العمى ولا العمى كله، وقولهم: الغياب يجعل القلب ينسى، فعندنا نحن أيضًا البعيد عن العين بعيد عن القلب، وكذلك قولهم: اتبع العادات أو اهجر البلدة، فهو كقول العرب: إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم، والإصبع الواحدة لا تستطيع أن تقتل ولو نملة، الذي يذكرنا بقولنا اليد الواحدة لا تصفق. بل إنّ هناك آيات وأحاديث نُقلت كما هي إلى اللغة السواحيلية واستعملت حكمًا، مثل: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 6)، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46)، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35)، ((من حسن

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه عرضه))، ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)) وفي ميدان الفن القصصي، نجد قصصًا سواحيلية مستقاة من كتاب عبد الله بن المقفع "كليلة ودمنة" كقصة"حمار الرسام" وقصة "المعلم جرسوه" وقصة "الصقور والغربان" كما نجد قصصا أخرى مأخوذة من ألف ليلة وليلة كحكاية "محمد الكسلان" وحكاية "حاسب كريم" مع تنوينات محلية بطبيعة الحال، فضلًا عن أنهم يختمون الحكاية بعبارة وعظية مباشرة في بعض الأحيان. وإلى جانب هذا نجد قصصًا دينيًّا إسلاميًّا مستلهمًا من منابع عربية، كقصة سيدنا إبراهيم وزوجتيه وابنه إسماعيل، كذلك فكلمتا قصة وحكاية، قد أخذتا كما هما من العربية إلى السواحيلية، وإلى جانب هذا هناك عناوين قصصية غير قليلة تتضمن كل منها على الأقل كلمة عربية، بل قد يكون العنوان كله عربيًّا، كذلك نراهم يبدءون حكاياتهم بعبارة تشبه قولنا في الحكايات الشعبية: "كان يا ما كان". وفي مجال المقال لا يصح أن ننسى مثلًا مقالات الشيخ الأمين بن علي المزروعي، الذي تأثر في كتاباته بالدعوات الإسلامية الإصلاحية في العصر الحديث، كدعوة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي، إلى نبذ الخرافات والبدع، وكذلك دعوة الأفغاني ومحمد عبده إلى أهمية وحدة الأمة الإسلامية، وكان الرجل يؤمن أنه لا يمكن فهم الإسلام إلا من خلال إتقان اللغة العربية، فهي لغة القران والنبي عليه السلام. وفي فن الشعر، نرى السواحيلية قد أخذت لفظ الشعر العربي، واستعملته بنفس المعنى الذي نستعمله له، وكذلك لفظ التخميسة بمعنى المخمس، وهو الوحدة الشعرية المكونة من خمسة أبيات، يقاس عليها كل الوحدات الخماسية الأخرى

في القصيدة، كذلك فموضوعات الشعر في اللغة السواحيلية، هي ذاتها الموضوعات التقليدية في الشعر العربي، من مديح وهجاء وفخر ونسيب ورثاء ومدائح نبوية، ومن أشهر القصائد الدينية عندهم "قصيدة الوعظ"، وقصيدة "صلاة الاستسقاء"، وقصيدة "الدر المنظوم"، و"طيب الأسماء" في أسماء الله الحسنى، وقصيدة "تبارك"، وقصيدة "تقوى الله"، وقصيدة "القيامة"، وقصيدة "النشور"، وقصيدة "موعظة رمضان"، وقصيدة "الشفقة" التي تشتمل على نحو أربعمائة بيت، وفيها نرى جبريل وميكال عليهما السلام، يقومان بتجربة يختبران بها البشر، ليرايا هل ما زال عند الناس تراحم وشفقة أو لا، فكانت النتيجة إيجابية. وهناك كذلك قصائد خالصة للغزوات الإسلامية في عصر الرسول، إلى جانب شعر السيرة المحمدية، والقصائد التي تستلهم حياة عظماء الإسلام، كقصيدة "عائشة" وقصيدة "فاطمة" وقصيدة "سيدنا علي ومضر" وقصائد المدائح النبوية، تلك التي تتخذ من قصيدة "البصير" الشهيرة مثالًا أعلى. وكثير من القصائد الشعرية السواحيلية تبدأ بالبسملة والتحميد والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام، تعبيرًا عن الإيمان والرغبة في التبرك باسم المصطفى، ومن القصائد السواحيلية التي تلفت نظر الباحث المقارن، القصيدة التي نظمتها "موانا كوبونا" عام ألف وثماني مائة وثماني وخمسين ميلادية في باتي إحدى مدن كينيا حاليًا، وهي عبارة عن نصيحة توجهها أم إلى ابنتها التي توشك أن تتزوج وتنتقل إلى بيت زوجها، والقصيدة تستوحي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ونصوص الأدب العربي النثري، وبخاصة تلك الوصية الشهيرة التي وصت بها قبل الإسلام أم جاهلية ابنتها، قبيل انتقالها إلى عش الزوجية، والتي تقول لها فيها:

"أي: بنية إنك فارقتي بيتك الذي منه خرجتي، وعشك الذي فيه درجتي، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدًا، واحفظي له خصالًا عشرة، يكن لك زخرًا، أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتمخيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة فالاحتراس لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصين له أمرًا ولا تفشين له سرًّا، فانك إن خالفت أمره أوغرتي صدره، وإن أفشيتي سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مغتمًّا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا". ويقول الدكتور الأمين أبومنقة محمد من مقال له عنوانه "التراث العربي الإسلامي في شرق إفريقيا وفي غربها دراسة مقارنة": تعتبر اللغة السواحيلية أكثر اللغات تأثرًا باللغة العربية، حتى ذهب البعض إلى الاعتقاد بأنها نشأت من اللغة العربية، بينما ظن آخرون أنها نسيج من اللغتين العربية والبنتوية. وهناك الآن إدراك واسع أن اللغة السواحيلية لغة بنتوية، تحتوي على قدر كبير من المؤثرات العربية، تكثر هذه المؤثرات لدى سكان الساحل وتقل تدريجيًّا كلما توغلنا إلى داخل القارة. وفي تقديرنا: أنّ ما حدث في زنجبار وغيرها من جزر وسواحل شرق أفريقيا، هو أن العرب هم الذين بدءوا التحدث باللغة البنتوية البسيطة، وكانوا يكملون ما يعوزهم من ألفاظها أو ما يفتقد إليه قاموسها بألفاظ من لغتهم الأم أي: العربية.

فأغلب المؤثرات العربية من أصوات وكلمات وعبارات وحكم وأمثال أدخلها العرب أنفسهم في اللغة البنتوية، من خلال سعيهم للتواصل مع السكان المحليين، ثم تلقاها منهم السكان المحليون بهيئتها الجديدة هذه. وإذا كان هناك اقتراض في الاتجاه المعاكس، فلا بد أنه قد حدث في وقت متأخر، يصعب تقدير نسبة الألفاظ العربية في اللغة السواحيلية، لأن هذا التأثير كما أسلفنا متفاوت بين الساحل والداخل، إلا أنه قد شمل جُل أوجه الحياة لاسيما الممارسات الإسلامية والتجارة والإدارة وبعض العادات والتقاليد. أما في ما يختص بالثقافة السواحيلية، فقد أشار سيد حامد حريز إلى أن ملامح الثقافة العربية للمجتمع السواحلي تختلف من مكان لآخر داخل المنطقة السواحيلية في قوتها وكثافتها، وبالطبع بحسب موقع المكان قربًا أو بعدًا من الساحل والجزر كما أسلفنا، وفي بعض الأماكن تقتصر هذه الثقافة فقط على اللغة والملبس، بينما تنعكس في أماكن أخرى في اللغة والعادات والمعتقدات والأزياء والمسكن والفنون ... إلى آخره. إن من أهم الآثار الإسلامية على الشعوب التي حظيت بنعمة الإسلام في أسيا وأفريقيا، تطور أو نشأة أدب مكتوب بلغات هذه الشعوب يستمد جذوره من الأدب العربي الإسلامي، ونذكر على سبيل المثال في أسيا الأدب الفارسي الحديث والأدب التركي والأدب الأردي، وفي أفريقيا الأدب السواحيلي والأدب الهاوسي والأدب الفولاني، ولكن ما حدث في أسيا كان عبارة عن تطور، لأن لتلك الشعوب أدبا مكتوبًا بأبجديات غير عربية، كان موجودًا قبل تأثرهم بالثقافة العربية الإسلامية، بينما نجد أن الشعوب الإفريقية المذكورة أعلاه لم تعرف أدبًا مكتوبًا قبل دخول الإسلام. وأن آدابها المكتوبة نشأت منذ البداية متفرعة من الأدب العربي الإسلامي ومكتوبة بالحرف العربي.

لقد لاحظ الباحثون المهتمون بآداب الشعوب الإسلامية في إفريقيا، أن النشاط الفكري وسط هذه الشعوب يبدأ دائمًا باللغة العربية نفسها، ثم ينشأ على أثره الأدب المعبر عنه باللغات المحلية، لذلك فإن أقدم المخطوطات التي عُثر عليها في سواحل شرق إفريقيا، كانت مخطوطتي "كلوا" و"باتي" وكلتهما كانت مكتوبة باللغة العربية، كما وجدت عبارات باللغة العربية مكتوبة على شواهد بعض القبور ترجع إلى القرن الثامن الميلادي. ولا يستبعد الباحثون وجود تراث أدبي مكتوب بالخط العربي قبل هذا التاريخ، لم يتم اكتشافه بعد. على أية حال لا شك في أن كل هذه الآثار ترجع للعرب أنفسهم، وليس هناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن للسكان المحليين يدًا فيها. لكن الأسئلة الأهم في هذا السياق: متى ظهر التراث الأدبي السواحيلي المكتوب بالحرف العربي؟ وكيف نشأ؟ ومن هم رواده؟ أهم العرب السواحليون أم السكان المحليون؟. إنّ بداية تأليف اللغة السواحيلية كان بالنظم، والنقد بالنصوص التي تم العثور عليها في هذا الفن، أربع قصائد مطولة ترجع إلى القرن الثامن عشر وكلها قصائد تعليمية، ولعل أهمها وأقدمها كانت قصيدة "الهمزية" للشيخ عيدروس بن عثمان بن علي، وهي عبارة عن ترجمة لقصيدة باللغة العربية لشرف الدين البوصيري، كما وجدت بعض المقتطفات من قصائد المولد مترجمة من القصائد العربية. ولكن لا يستبعد "كنبرت" الباحث الإنجليزي المتخصص في الأدب السواحلي، وجود قصائد ألفت أصلًا باللغة السواحلية، ويحتوي الشعر السواحلي أيضًا

على قصائد مطولة ذات طابع ملحمي ولكن بما أن الملاحم غير معروفة في الشعر العربي، فيرجح "كنبرت" أن السواحيليين قد استلهموا هذا الفن من نماذج من الشعر الفارسي أو الأردي. نشأ الشعر السواحيلي إسلاميًّا وظل هكذا إلى يومنا هذا، وحتى هذا الشعر الذي نظم بعد الاستعمار رغم أن موضوعاته قد لا تكون إسلامية، إلا انه إسلامي الروح والقالب، وقد استخدم الشعر السواحلي عددًا من الأوزان الشعرية العربية، وأهمها حسب "كنبرت اوتنزي شعري، اوكوافي، كسارمبي"، وقد لوحظ أن الوزنين الأولين يستخدمان لنظم الشعر ذو الأغراض الدنيوية، بينما نجد أن معظم مفعل الوزنين الأخيرين كان للأغراض الدينية، ويبدو أن وزن "أوكوافي" كان أقدم هذه الأوزان، إذ عليه نظمت القصيدة الهمزية، ولعل أهم ما آلف على وزن "الكسارمبي" كانت قصيدة الانكشاف للشيخ عبد الله بن علي بن ناصر، وقوام هذا الوزن مقاطع من أربع شطرات تحمل الشطرات الثلاث الأولى قافية مستقلة، وتمثل قافية الشطر الرابع القافية الرئيسية للقصيدة، وقد نظمت هذه الأبيات في وصف الموت وعذاب القبر وأهوال يوم القيامة. وقبل أن نختم هذا الجزء المتصل بنشأة الأدب السواحلي المكتوب نشير إلى أن للنثر أيضًا موقعًا معتبرًا في هذا الأدب، حيث يتمثل الأدب العربي الإسلامي في المقام الأول في السيرة النبوية وقصص الأنبياء وأدبيات العصر العباسي وقصص الألف ليلة وليلة، لم يشر كنبرت 1971 إلى أي عمل باللغة العربية نظمًا كان أو نثرًا، يرجع إلى القرون الماضية أنجزه مؤلف سواحلي حتى من ذوي الجذور العربية، دعك من السكان المحليين.

وقد أكد سيد حامد حريز إلى أن الشعراء في شرق إفريقيا قد نظموا باللغة العربية في أغراض مختلفة ولكن دون الإشارة إلى شاعر بعينه، مما قد يوحي بمحدودية هذا الجانب من النشاط، وقد رأينا أن أولى القصائد السواحيلية التي تم العثور عليها في إقليم شرق إفريقيا، كانت من نظم شعراء ذوو أصول عربية أو فارسية، أما في النثر اللغة العربية فلم يرد السيد حامد حريز في كتابه الجامع حول المؤثرات العربية في الثقافة السواحيلية أي عمل في هذا السياق. وقد أورد عبد الرحمن أحمد عثمان في ثروة المصادر والمراجع لكتابه "المؤثرات الإسلامية والمسيحية على الثقافة السواحيلية" أربعة كتب وخمس مخطوطات لمؤلفين من داخل المنطقة قيد الدراسة أو ما جاورها، والمؤلفون هم: سعيد بن علي المغيري، والشيخ محي الدين الكلوي، وسلمة بنت سعيد بن سلطان، والشيخ الليثي بن محمد القادري وبرهان بن مكلة القمري، وعبد الله محمد باكثير الكندي، وعبد الله بن زين الوهط الثقاف، بالإضافة إلى راشد البراوي الذي كتب عن الصومال الجديد. ويلاحظ من خلال هذه الأسماء أن غالبية هؤلاء المؤلفين ينحدرون من أصول غير محلية، كما يلاحظ غياب الأعمال الفكرية المتعمقة في العلوم الإسلامية كالتوحيد والفقه والتفسير وعلم الكلام، أو أعمال في اللغة العربية، على شاكلة مؤلفات الشيخ عبد الله بن فودي المذكورة أعلاه. ومن المعروف أن أسرتي النبهاني والمزروعي، قد أسهمتا كثيرًا في دفع عجلة الحركة الفكرية في إقليم شرق أفريقيا، وآلف بعض أفرادها كثيرًا باللغة السواحيلية، وكنا نتوقع أن نقف على أعمال لهم باللغة العربية.

تأثير الأدب العربي في لغة الهوسا وآدابها.

تأثير الأدب العربي في لغة الهوسا وآدابها وكانت كلمة "الهوسا" تطلق على الشعوب والقبائل الساكنة بين مملكتي برنو شرقًا والمنطقة الواقعة في الضفة الغربية لنهر النيجر غربًا، ومن حدود مملكة "أهير" شمالًا إلى حدود نهر "البنو" جنوبًا. كما تطلق تلك الكلمة على اللغة التي يتحدث بها هذه الشعوب والقبائل، فهي لغة كانت ولا تزال مُنتشرة على نطاق واسع في غرب أفريقيا كلها، وهي إحدى اللغات الأفريقية الثلاث التي يتكلم بها المسلمون في أفريقيا، وهذه اللغات هي العربية أولًا، ثم الهوسا ثانيًا، فالسواحيلية ثالثًا. وكانت هاتان اللغتان الأخيرتان تكتبان بالحرف العربي، قبل أن يتدخل المحتلون الأوربيون المبشرون بحقبة استعمارية ويحولوهما إلى الحرف اللاتيني، وفي معجم سياقي للكلمات العربية في لغة الهوسا للدكتور مصطفى حجازي السيد نجد نحو ألف كلمة عربية دخلت لغة الهوسا، ولا أظنه قد استقصى كل ذلك الصنف من الكلمات، بل كل ما هنالك أنه اجتهد وأورد ما استطاع ليس إلا، وما يستطيعه أي إنسان ليس هو كل المتاح كما هو معروف. ثم لا ينبغي أن ننسى قلة مفردات اللغة الهوساوية وقصر تاريخها وندرة معاجمها، فهذا يجعل رقم الألف كبيرًا من ناحية، ويبين لنا من ناحية أخرى الصعوبة التي تواجه مؤلف مثل ذلك المعجم، ومن تلك الكلمات المقترضة: "النبي، القاضي، الدين، الغش، الصوم، السارق، النعش، النصف، الطعام، الأمر، العمود، الرعد، الحاج، الصبح، السر، الدعاء، العشاء، الأدب، الآخرة، اللوح، الفخر، البصل، ضرورة، نصيحة، صحيفة، سكر، منافق،

معنى، مكيدة، معاملة، اخذ، جف، مثل، كيف، غرس، شاء، زين، حل، حصد، أبدًا، كذا، فقط، نعم". وكما هو الوضع في مثل تلك الحالة، نجد أن هذه الكلمات كثيرًا ما تدخلها تحويرات صوتيه ودلالية، حتى تناسب بيئتها اللغوية الجديدة، كأن يستبدل صوت بصوت أو تحذف بعض الأصوات من الكلمة، أو تستعمل الكلمة في غير معناها الأصلي، علي سبيل التوسع أو التضييق أو التوهم، وهذا علاوة على العبارات الكاملة مثل: "الله أكبر، الحمد لله، لا اله إلا الله، في سبيل الله، والعياذ بالله، فرض كفاية، بيت المال، البحر المحيط، دفتر الخراج، بلا حد، ساعتئذ ... هكذا". ومما تركته العربية أدبها في اللغة الهوسا، الطريقة التي يصوغ بها أهل تلك اللغة كثيرًا من صورهم البلاغية فتراهم إذا أرادوا أن يضربوا المثل بشخص على فضيلة الشجاعة، ذكروا عنترة، وإذا أرادوا أن يضربوا المثل على الغنى، قالوا: قارون، وإذا أرادوا أن يشيروا إلى تدين شخص ما أو تظاهره بالتدين، أشاروا ألي أنه يحمل المسبحة في يده ويكر حباتها، وإذا أرادوا أن يثنوا على فتاه بالجمال، وصفوها بأنها بنت عرب، وهكذا. كما نراهم في كثير من رواياتهم وقصصهم يستخدمون لأبطالهم أسماء عربيه، مثل سعيد ومحمد وأحمد، بل لقد يستخدمون أسماء رمزيه عربية، بالإيماء إلي ما يتصفون به من مزايا وعيوب، مثل: فصيح، منصور، ظالم، ثقيل، أبو الرءوس. وفي خطابتهم نجدهم يجرون علي سنة الرسائل العربية، وبخاصة القديمة في بدئها بعبارة، من فلان إلي فلان الفلاني تحية وحبا واحترامًا أما بعد، وكذلك في ختامها إذ ينهون رسائلهم بعبارة والسلام، مثلما نصنع في رسائلنا العربية.

كما يبدأ بعض كتابهم قصصهم بالبسملة والحمدلة وما إلى ذلك، وكثير من الأمثال الهوساوية تعكس تأثرًا بنظيرتها العربية أو تشبهها كثيرًا، كقولهم: ما يزرع الإنسان يحصده، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، والظن ذنب حتى لو صار حقيقة، وما يناله الإنسان أو يصيبه مكتوب منذ بدء الخلق، من حام حول البيت يوشك أن يدخله، لا تكون الأمور إلا بالنيات، وكل من يرحم غيره يرحمه الله، والكلام السيئ يفوق طعن السهام، وابن الحلال يلام والعبد ليس له إلا العصا، ولا تعطي الإنسان سهما فيعود ويطلقه عليك، ولا يذوق الإنسان عسل النحل حتى يذوق اللدغ، ومحبك لا يبصر عيبك، والعنزة المذبوحة لا يؤلمها السلخ، واختار الجار قبل الدار، والله أعلم بمن اتقاه. وغني عن القول أن الأمثال المستشهد بها هنا قد ترجمت من الهوسا إلى العربية. وفي الشعر الهوساوي نجد شعرًا تعليميًّا كثيرًا، وهذا النوع من الشعر ترجع بداية ظهوره إلى القرن السادس الهجري، حيث كان العلماء ينظمون العلوم المختلفة من فقه وتوحيد وتجويد ومعاجم، وهم متأثرون في هذا بالمنظومات التعليمية العربية كما هو واضح. كذلك هناك الأشعار الوعظية والزهدية التي تعتمد في مادتها على القرآن المجيد، والحديث الشريف، وكتب التفسير، وتستمد كثيرًا من خيالاتها من الأدب العربي إلى جانب العناصر المحلية الإفريقية، ولدينا أيضًا المدائح النبوية، وهي متأثرة ببردة البوصيري المشهورة، وترتبط بتقاليد معينة وتهتم دائمًا بذكر المعجزات والبطولات الخاصة بنبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم. وعندنا كذلك شعر الاستحثاث الديني والوطني، حيث يعمل الشاعر بكل قواه على إيقاظ الناس وإشعال حماستهم، وإشعارهم بالفجوة الهائلة التي تفصل

المسلمين عن الحضارة الغربية المتفوقة، ويبذل جهده من أجل إيقاظهم ودفعهم إلى العمل العلم. وهناك شعر التوجيه الاجتماعي، وفيه يرصد الشاعر السلبيات الأخلاقية الاجتماعية والسياسية، من ظلم وتباغض وحسد ورشوة وفساد سياسي وفرقة وما إلى ذلك، مبغضًا الناس فيها ومذكرًا إياهم بيوم الحساب. ومن نماذج تأثير الأدب العربي على نظيره الهوساوي الشواهد التالية: فمن الشعر مثلًا نقرأ نائف سليمان والي: أشكر الله الرب ... الذي وهبني البصر والسمع ووهبني التفكير السليم ... تبارك أساله العون هب لي الحظ ... في الفصل مطير وقول صالح كنتا جورا: يرون الآية ويرفضون أمرها ... يتزوجون المرأة ويرفضون حجابها من يرفض حجاب زوجته ... يكن هو والملك في خلاف قال وقرنا فهز رأسه ... لا أملك العبد فلا أطبق الحجاب لا توجد الجارية التي تجلب الماء ... وتروح الغابة لجلب الحطب وقول الحاج "مودي اسبيك" وهو من مواليد سنة 1930 ميلادية: "في اليوم التالي ذهبت إلى مكة؛ لأني قد أحرمت، ذهبت وأديت ما علي من عمل، ومكثت في مكة المكرمة، أعبد الله الملك الأحد، وهنا في مكة صمت، في مكة الصيام ليس صعبًا، يوجد الطعام والشراب والمكرونة، فيها كل ما تهوي إليه النفس، وهكذا ليس في الدنيا مثل مكة حقيقة".

وقول أسماء بنت الشيخ عثمان في مدح المصطفى -صلى الله عليه سلم- وهي من شعراء القرن الرابع عشر: نوره فاق نور القمر ليلة الرابع عشر ... لأنه لا نور مثل نور محمد وهكذا كل الشجعان في شجاعتهم ... لم يبلغوا شجاعة أفضل الخلق أحمد المسك والكفور كلاهما ... لم يصلا إلى رائحة جسم النبي محمد وهكذا جمال خلقته لا مثيل لها ... لأنه لا يوجد أبدا مثل محمد لم يخلق مخلوق مثله ... ولن يخلق أبدا مثل محمد وهكذا في الخلق الجميل لا مثيل له ... ولا في بشاشة وجهه وجمال ابتسامة محمد وقول "معاذ هطبيا" منتقدًا بعض العادات المذمومة: الحمد لله ترك الشعر تأثيره ... سألت الله رزق الدين والدنيا ختم السعادة أن نموت على الإيمان ... اللهم احفظنا من شر الأشرار من الإنس والجن والحيوان وقول سعد زنجر متناولًا بعض الآيات القرآنية في قصيدة له بعنوان الشمال جمهورية أم ملكي: أرى إله الملك هو الواحد، هو له ما يشاء جميعًا؛ فيولي الملك في الدنيا، وهو الذي ينزعه من الخلق فيذوقوا مرارة الحياة، وهو الذي يعز من يشاء جميعًا، ويَجعَلُ البعض يذوق الصعاب، يُخرج الليل من النهار، ويخرج نور الصبح من الليل، يحيي الأموات جميعًا، وهو وحده يميت الحي. وإلى جانب هذا يُلاحظ الدّارسون، أن الكلمات العربية تبرز في قافية القصائد الهوساوية بروزًا واضحًا، وأحيانًا ما يستعير الشاعر الهوساوي بعبارات عربية

كاملة مثل "قف عندك، لا أمان ولا مجالسة، تفسد المال، تنقص الإيمان شارب الخمر، تضر في صدره، تم بحمد الله، ثم بعون الله، سبحان الله، أستغفر الله، إنما الأعمال بالنيات". أما في الفن القصصي؛ فلنأخذ الحاج أبو بكر إمام رائد الأدب الهوساوي الحديث، مثالًا على تأثر الأدب الهوساوي بنظيره العربي، وهو من مواليد سنة 1911 ميلادية، وكان يعتز بثقافته الشرقية أيما اعتزاز، ففي قصة "الكلام رأس مال" نراه قد نصب البغبغاء راويًا للأحداث وسماه وزيري وجعله ذو ثقافة عربية، يقص الحكايات على ألسنة الحيوان والطير على غرار ما يدور في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، إذ ما يكاد ينتهي من حكاية حتى يصيح الديك مؤذنًا، فيؤجل الحكاية الجديدة إلى الليلة التالية. ومن قصصه التي يظهر عليها الأثر العربي بكل وضوح، قصة الثور الذي اشتكى للحمار سوء معاملة صاحبه له وإرهاقه إياه بالعمل الشاق، فنصحه الحمار بالتمارض حتى يريحه صاحبه، وكان الفلاح ذكيًّا يفهم لغة الحيوانات، فلما سمع ذلك، استعمل الحمار الناصح بدلًا من الثور المنصوح، مما كان الثمرة أن عاد الحمار في نصيحته مبينًا للثور أن عليه أن يكف عن التمارض وإلا ذبحه صاحبه، وهكذا عادت الأمور إلى ما كانت عليه. وهذه الحكاية مشهورة في الأدب العربي، وهي مأخوذة من كتاب كليلة ودمنة، وأمثالها كثير في قصص ذلك الكاتب، كما هو الحال في قصة الأرنب المحتال، والقملة والبرغوث، والسائح والصائغ، والبطتان والسلحفاة. فضلًا عن القصص التي استلهمت كتاب ابن المقفع كليلة ودمنة، ثم قصص أخرى استوحت الأحاديث النبوية الشريفة، كقصة الله يعرف ما في قلوب العباد

التي احتذت حديث ثلاثة بني إسرائيل الأبرص والأعمى والأقرع مع بعض التحويرات الطفيفة. على أنّ هُناك شِعر نظمه شعراء هوساويون ولكن بلغة عربية، وهذا الشعر يظهر فيه التأثر بالشعر العربي، الذي نعرفه في البلاد العربية سواء الحديث منه أو القديم، وهو أقوى من ذلك المكتوب بلغة الهوسا، وسوف نركز هنا على ما نظمه من ذلك اللون من الشعر بعض الشعراء النيجيريين. يقول الدكتور محمد سعيد جبران في دراسة منشورة له بمنتديات موقع " takomy.com " عنوانها: "الاتجاه الإسلامي للشعر النيجيري الحديث": إن الشعراء النيجيريين قلدوا في شعرهم العربي، العرب في أوزانهم وقوافيهم، واستخدموا في أشعارهم الوحدات الموسيقية التفعيلات، ولاذوا بالأوزان الخليلية الأوزان القصيرة والأوزان الطويلة، وعولوا كثيرًا على البيت المغلق واستخدام القوافي المختلفة، والتزموا بها في قصائدهم، إتباعًا لبعض شرائط عمود الشعر، ولا يعني ذلك أنهم لم يستخدموا الأوزان المستحدثة، فقد استخدموها ولكن بندرة وقلة ملحوظة. فقد تأثر عمر إبراهيم في موشحة الكون ما مات لولا الحب بهيكلية الموشح الأندلسي، إذ جعل له مطلعًا أو مذهبًا، ثم جعل هذا المطلع بل صدره ملتزمًا مع التغير في الشطر الثاني ليكون قفلًا، ثم أتبع ذلك بما يسمى في الموشح بالدول وأمثل لذلك بقوله: مطلع يا حبيبي يا حبيبي أصغي السمع للحبيب

الدور هل أتاك اليوم أني صرت عظمًا في الشعار ذهب اللحم بخارًا صاعدًا من حل ناري مائلًا فوقي سحابًا لا أرى ضوء النهار وهو لا ينزل مطرًا أو يراك بجواري قفل هل تبالي بنحيبي يا حبيبي يا حبيبي وهكذا إلى أن أتم الموشح الطويل بالخرجه وهي قوله: يا حياتي يا خلودي في مآب المستطاب وعلى ذلك جاء موشحه تيمن لا أقرع، بيد أن تقليد الأندلسيين في هذا الفن المستحدث نادر في الشعر النيجيري، أما الذي تم تقليدهم لهم فيه من الناحية الإسلامية في هذا الشعر، فهو ما شاع في شعر الأندلسيين المتصوفين والزاهدين من استخدام لازمة "صلوا عليه وسلموا تسليمًا" عقب كل بيتين، فقد جاره الشيخ محمد الناصر كبر أو جارى هذا الأسلوب الأندلسي في قصيدته التي مطلعها: الحمد لله الذي منا حبا ... محمدًا أهل الكريم الأطيب خير الورى نسبا ... وخيرهم أبا ولذلك كان السيد المعلوما ... صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الرغم من شيوع العشرينيات لأبي زيد في بلاد نيجيريا منذ القديم، فان هؤلاء الشعراء لم يوفقوا في مجاراة هذا الشعر المبني في كل وحدة من وحدات

حروفه على الثمانية والعشرين على عشرين بيتًا، يبتدئ كل بيت منها وينتهي بالحرف نفسه، كما لم يجاروا المعشرات وكلاهما درب من الشعر الأندلسي المستحدث، كان من أبرز شعرائه في الأندلس الفازاري ومالك ابن المرحل. على أن الدرب الذي أكثروا من ممارسته والقول فيه، إنما هو المخمسات أو التخميس، فلقد أثرت لهم فيه نماذج كثيرة وقصائد وفيرة، نذكر من ذلك هذه المقاطع من تخميس الشاعر مصطفى ابن الحاج عثمان من قصيدة عبد الله بن فودي الحائية التي يقول فيها: ألا يا خليلي صدقتك الروائح ... علمت يقينا هيجتك النصائح ولكن لهت عنها النفوس الجوائح ... طربت فأشجاني الطيور الكوالح وفرحني منها الغيوث الروائح ... ضحكت فأبكاني غراب يصايح سررت فأشجاني الطيور النوائح ... مرضت فأشجاني الفحول النواطح وخوفني أيضا دياب بوارح ... وأمنني منها الظباء السوابح وهو تخليص طويل أحاط فيه بأبيات قصيدة نفوز المشهورة. ومن الذين أكثروا في صياغة هذه التخميسات الشيخ أبو بكر عتيق في ديوانه هدية الأحباب والخلان، فله فيه تخميس تحت هذه العناوين ترحيب وتوديع، الغرر البهية في استعطاف خير البرية، مفاتيح الأقفال في التوسل لأكابر الرجال، المواهب الأحادية في مدح الحضارات المحمدية، المدد الرحماني في مدح سيدي أحمد التيجاني والتوسل إلى الله به وبأكابر أصحابه ذوي القرب والتدالي، ومن

شعراء نيجيريا المتأخرين الذين عالجوا هذا اللون من أشكال الشعر أعني المخمسات، الشاعر محمد الناصر كبر، قال رضي الله عنه مخمسًا قصيدة الشيخ أبي بكر عتيق: سنكة كنوه المعنونة بالأحادية في مدح الحضارات المحمدية: يا أشرف الخلق يا أعلى الورى عرف ... يا أكرم الخلق يا أسمى الورى شرفا يا أعظم الخلق يا أوفاهم مغترفا ... يا رحمة الله يا من قد رمى فصفا ونال ما ليس يدريه الذي وصف ... أتى ببابك المضطر مرتجيا الناصر كونوي يشدوك مستحيا ... يقول ما قال عتيق منك مجتزيا أذكى صلاة وتسليم عليك أيا ... مشكاة مصباح رب العرش يا صدفا وخلاصة ما لاحظناه عن طبيعة الألفاظ والتعابير المستعملة في شعر هذا الاتجاه، أن شعراء هذا الأفق مالوا في غالب النتاج الشعري بما عرف من رسائلهم العقائدية في الإبلاغ والإيصال، إلى البعد عن التصعيب في تناول الألفاظ، وجنحوا إلى استعمال المأنوس من التعابير التراكيب، وهذا لا يعني بالطبع وجود بعض القصائد الحوشية الغامضة، التي مال فيها أصحابها إلى الإغراب والتعمق قصدًا منهم، لإظهار مخزونهم اللغوي أو مجارة الفحول من الشعراء على نحو ما نقرؤه في قصيدة للشيخ عبد الله بن فودي "الجيمية والحائية". أو في بعض قصائد الأمين محمد البخاري وخاصة قصيدة "السينية". وقد حرص هؤلاء الشعراء على أن يزينوا أشعارهم في مختلف الأغراض بالتصوير البلاغي الذي يزيد الشعر وضوحًا، ويضفي على لوحاته رونقًا،

ولكنهم لم يبالغوا ولم يكثروا من هذا الاستخدام، فاستعملوا التشابيه والاستعارات والكنايات، ومن علم البديع القديم التلميح، الذي اصطلح المعاصرون على تسميته الاستدعاء، واستعملوا الاقتباس والتضمين والمبالغة والطباق. أما ألوان البديع المستحدث الذي ظهر شعر أدب الدول المتتابعة، فقد استعملوا شعرًا أو شكل الدائرة في الشعر، وهو الذي يسمى المدور، وبنى بعضهم أوائل أبيات قصائده علي حروف آية من الآيات، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: 257)، أو قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 68) وقوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173). وصفوة القول: إن الشعر العربي الحديث في نيجيريا، أو بعبارة أخرى إن شعر الاتجاه الإسلامي في هذه البلاد، يؤرخ لظهوره وبدئه مع ظهور الحركة الإصلاحية الإسلامية، التي نهض بها الشيخ عثمان ابن فودي والأسرة الفودوية في القرن السادس عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي. وإنه تفاعل خلال القرنين الماضيين مع تعاليم الإسلام وقضاياه ومع عقيدته ورآه وسار شعراؤه من منطقهم العقدي في مسيرة روائع الشعر والأدب العربي الإسلامي من حيث المضامين التقليدية مثل: المدح، والرثاء، والوصف، والهجاء، والشكوى، والحنين، والعتاب. والمضامين التي جَدّت بظهور الإسلام مثل: الشعر النبوي، والأمداح، والحب الإلهي، وذكر المقامات والتشفع والتوسل.

وقد استطاع هؤلاء الشعراء في المدن الإسلامية النيجيرية مثل: سكتوا، برنو، وكشنا، وكانو، جاريه، وغيرها من المدن. وجلهم ينتمي إلى طبقة المصلحين والأمراء والفقراء والقضاة، والي طبقة المثقفين الذين تشربوا روح الدين القويم، أن يطوعوا تلك المضامين الشعرية المختلفة التقليدية والجديدة لهذه الروح الدينية، فجاء عطاؤهم الشعري مكتنزًا بالقيم الشعرية والفكرية والفنية، ملتزمًا بقضايا الدين والأمة، معبرًا عن الخوارج الشخصية والغيرية، متسمًا كنصوص الأدب الإسلامي بعامة بالعفة والطهر بريئة من الفحش والانحراف والعبثية. وقد تأثر شعراء نيجيريا المحدثون بأشعار العرب، من حيث مظهرية بعض الأشكال والصياغة والتراكيب علي نحو ما تأثروا من حيث المضامين، وعلى الرغم من ضآلة صلة الكثير منهم، بالتراث العربي الواسع وشعر الشعراء المشاهير في مختلف العصور الأدبية، فإن جملة منهم تفتحت علي بعض مناحي التراث المتمثلة في شعر بعض شعراء الجاهلية، وشعر صدر الإسلام وبعض شعراء الأمويين والعباسيين علي نحو ما في شعر عبد الله بن فودي، ومحمد بلو، محمد البخاري ويحيى النفاخ وأبي بكر عتيق. كما تأثروا بشيء من أشكال الشعر الأندلسي وشعر الدول المتتابعة فيما ذكرناه من أشكال المخمسات، والموشح، والشعر الهندسي، تلك هي جوانب التأثر في هذا الاتجاه، من حيث المضامين والخصائص الفنية. على أن الملاحظة التي تقرر في هذا الملمح: أن هذا الاتجاه الإسلامي في الشعر العربي الحديث بنيجيريا، لم يكن على الرغم من تحقق ارتباطه بوشائج مع التراث القديم، على صلة وجدل ثقافي مع مظاهر تطور الشعر العربي الحديث في العالمين العربي والإسلامي.

فغاية ما انتهى إليه من تلك الصلة الاستمداد من أدب الدول المتتابعة، إذ لم نجد من خلال الأشعار التي وقفنا عليها أثرًا لتفاعل شعرائه مع الاتجاهات التيارات التي عرفها شعراء العربية المحدثون منذ القرن التاسع عشر، مثل: اتجاه البعث والإحياء الذي يمثله في مصر محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وفي العراق: الزهاوي والرصافي والكاظمي. وفي الشام: شفيق جابري، وخليل مردم والزركلي ومحمد البز. أو جماعة الديوان التي يتزعمها عبد الرحمن شكري وعباس محمد العقاد، وجماعة أبوللو التي كان من شعرائها أحمد ذكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وعلى محمود طه، بل جماعة المهجر الشمالي والمهجر الجنوبي. وما من ريب في أنّ الاستعمار الانجليزي البغيض كان له الدور البارز في تغريب اللغة العربية عن هذه الديار، وفي فصل هؤلاء الشعراء وعزلهم عن تيار الحركة الفكرية والأدبية الإسلامية، وتغييبهم عن تراث أمتهم. وربما أفضت بنا هذه الملاحظة إلى القول: إن شعراء ما قبل استعمار القرن التاسع عشر كانوا أكثر قربًا من التراث، وأشد دنوًّا في القدرة على محاكة الأشعار العربية القديمة من حيث المحتوى والإطار؛ مما جعل شعرهم أقوى نسجًا وأمتن ديباجة من شعراء القرن العشرين. وفوق ذلك هناك كتب أدبية عربية ترجمت إلى لغة الهوسا: إما من العربية مباشرة، وإما من الإنجليزية، مثلًا مثل: ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن، كما يظهر في الأدب القصصي الهوساوي تأثر واضح بقصص كليلة ودمنة التي تتخذ أبطالها من الحيوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (2).

الدرس: 12 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (2).

أثر الأدب العربي في الأدبي الفارسي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (2)) أثر الأدب العربي في الأدبي الفارسي لقد حاكى الشعر الفارسي الشعرَ العربي الذي انفتح عليه شعراء الفارسية وأدباؤها بعد الإسلام بشكل عام في دروبه وقوالبه وأغراضه الشعرية، وحذا حذوه في عروضه وبديعه، وكان أكثر شعراء الفارسية في القرون الإسلامية الأولى ينظمون أشعارهم بالفارسية والعربية، وعرَف الشعر الفارسي لونًا من النظم يسمى "الغزل" وهو شيء يختلف عن الغزل في الشعر العربي؛ لأنه إذا كان هذا المصطلح في العربية يعني محادثة النساء والإفاضة بذكرهن، وينحصر موضوعه في الحب والوجد، فإن الغزل في العرف الشعري الفارسي ليس غرضًا من أغراض الشعر فحسب كما هو الحال في العربية، بل أضحى أيضًا لونًا من ألوان الشعر له ملامح خاصة، ومواصفات محددة. فهو قطعة شعرية يتراوح عدد أبياتها بين خمسة وأربعة عشر، بغض النظر عن غرض تلك القطعة، وقد اعتاد شعراء الفارسية على نظم ثمانية أبيات أو تسعة في الغزل، فإذا تجاوز هذا المقدار كان ذلك أمرًا مذمومًا، ولا بد أن تنظم أبيات الغزل الفارسي على قافية واحدة، فضلًا عن مجيء صدر البيت الأول على نفس القافية، ومع هذا فقد ابتدع الشاعر "نيما" أسلوبًا جديدًا في الغزل الفارسي المعاصر، يتمثل في الخروج على نظام القافية والوزن الواحد، يسمى "الغزيل"، ويمكن تصنيف الغزل الفارسي إلى: - "غزل وطني" وظهر في أشعار عارف القزويني وفروخي اليزدي وأبي القاسم اللاهوتي. - و"غزل تقليدي" وهو الغزل الذي يعد استمرارًا لأسلوب الغزل القديم، ويقف في طليعته شهريار ورهي معيري.

- ثم "الغزل الجديد أو التصويري" ولم تتبلور ملامح هذا النوع من الغزل حتى الآن؛ لكثرة ما يطرأ عليه من تغييرات بفعل الحركة التجديدية الشعرية، ومن أشهر شعراء هذا الغزل حسين منزوي ومحمد ذكائي وولي الله دروديان. ومما تأثر فيه الشعر الفارسي أيضًا بنظيره العربي "شكل القصيدة"، ومعروف أن القصيدة عند العرب هي أرقى النماذج الشعرية، ويعزو "جورج زيدان" ذلك إلى استعداد اللغة العربية لاحتضان هذا القالب، نظرًا لكثرة المترادفات في هذه اللغة مما يسهل عملية التقفية، وهي في الأدب الفارسي درب من دروب الشعر، لا يقل عدد أبياتها عن أربعة عشر بيتًا، وإن لم يكن هناك حد أقصى للعدد رغم أن من النقاد من لا يجيز الزيادة على مائة وعشرين بيتًا، ويشترط فيها: أن تكون على قافية واحدة ووزن واحد، مع ضرورة أن يكون وزن البيت الأول بنفس القافية. وأغراض القصيدة الفارسية غير محدودة كما هو الوضع في الشعر العربي، إذ قد تكون في المدح والذم والهجاء، وقد تكون ذات مضمون فكري أو فلسفي، حتى لو كانت تبدأ بالغزل والنسيب ووصف الربيع، كما هو الحال في غالب الأحيان، وكما هو الحال أيضًا في الشعر العربي نرى أن طريقة الانتقال من الغزل إلى الموضوع الأصلي للقصيدة، وهو ما يدعى "بالتخلص" يتطلب براعة خاصة. ونظرًا لأهمية ذلك الموضوع فقد أدرج حسن التخلص ضمن أصناف البديع، مثلما هو الشأن في البديع العربي، ويمكن أن نستشهد في هذا السياق بالشاعر "فروخي سيستاني" الذي تؤكد الدكتورة "عفاف زيدان" أنه قد تأثر كثيرًا ببعض شعراء العرب، وعلى رأسهم أبو نواس وأبو تمام، وتبرز الدكتورة "عفاف زيدان" أن المتخصصين في الثقافة الفارسية لم يجدوا حرجًا في تحويل مفاهيم البلاغة

العربية إلى لغتهم، كذلك فحين حاول الشعراء الفرس تكوين القصيدة الفارسية لم يجدوا أمامهم تراثًا من لغتهم يمكنهم الاسترشاد به، فاتجهوا نحو النثر والشعر العربيين، حتى إن الشعر الفارسي لينظم حتى الآن على أوزان الشعر العربي، وتضيف في كتابها (فروخي السيستاني، عصره وبيئته وشعره) أن التعصب القومي لم يمنع الفرس أن يأخذوا أشياء كثيرة عن الثقافة العربية، بحكم ضرورة نشأة الأدب الفارسي الوليد بجوار هذا الأدب العريق. وتقول عن "السيستاني" الذي ولد عام 360 هـ وعاش نحو 69 عامًا: إن قارئ قصائده يُصاب بالدهشة، إذ لو حذفنا المسميات الفارسية من شعره لوجدنا أنفسنا أمام شعر عربي مترجم إلى الفارسية، وتدلل على ذلك بأبيات كثيرة من قصائده، فهو يصف ممدوحه بأنه أكرم من حاتم الطائي: يا من أنت في المحافل ... أكرم من مائة حاتم كما يتخذ من "عنترة بن شداد" مثالًا للشجاعة: مبارزون يحاربون بالسيف على قمة الجبل ... ولكل واحد منهم مائة عبد مثل عنترة ويقول لممدوحه: إنه رغم طول معلقة امرئ القيس، فإنها حين تقال في مدحه تصبح قصيرة مثل "قوافي المثنوي" لجلال الدين الرومي: إن الشعر الذي يكون أطولَ من شعر "قفا نبكي" إذا قيل في مدحه يكون قصيرًا، بل أقصر من قافية الشعر المثنوي. وذلك في إشارة إلى مطلع "معلقة امرئ القيس" الذي يقول فيه: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل كما أخذ من أبي تمام فكرة مطلع "قصيدة عمورية":

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب وضمنه بيتًا يقول فيه: أيها الملك أيها السلطان ... أيها الأمير لقد أبطلت البدع وطمستها وأفنيتها ... بسيفك المهند البتار واقتبس أيضًا من النابغة الذبياني قوله: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وصاغ ذلك على النحو التالي: لقد قلت إنهم النجوم ... والأمير يوسف مثل القمر وأنا حينما أرى القمر ... لا أعرف النجوم وتنقل الكاتبة أبياتًا لسيستاني يبدو فيها شديد التأثر بأبي نواس كما في قول الأخير: ولى الصيام وجاء الفطر بالفرح ... وأبدت الكأس ألوانًا من المُلح إذ يقول سيستاني: لقد ولى الصيام أمس من خيمتنا وجاء ... عيد الفطر السعيد بكأسه وشرابه وفي بيت آخر يقول أبو نواس: وإني بشهر الصوم إذ بان شامت ... وإنك يا شوال لي لصديق فيقول السيستاني: يا رفاقي سأقول كلامًا صادقًا فاسمعوه ... إن طبعي يرتاح لشهر شوال كما يقول أيضًا عن شهر رمضان:

ماذا يحدث إذا ذهب قل له .. اذهب وتبختر بدلال فإن ذهابه قد أراح الجميع من العذاب فإذا كانت وجوه الدنيا قد اصفرت من تعبه فشكرًا لله؛ لأن الخمر صافية قد جعلت وجوهنا ناضرةً حمراءَ ثم تعلق الباحثة قائلةً: إن بين الشاعرين شَبهًا كبيرًا، ولعل فروخي كان يعرف الكثير عن حياة نواسي ويعمد إلى تقليده، لقد كان الرجلان مسرفين في المجون، متهالكين على الخمر مشغوفين بوصفها، إلا أن فروخي أنقى من أبي نواس لفظًا وأعف لسانًا، وإن لم يعدل أبا نواس في خفة الروح وشدة المجون أو الاستهتار، وكذلك لم يكن على الرغم من مجونه واستهتاره كافرًا أو جاحدًا. وكان البحتري قد بكَى إيوان كسرى ووصفه وصفًا رائعًا، فحذا حذوه الشاعر الإيراني " منوجهري " -أحد شعراء القرن الخامس الهجري- فوقف على الأطلال ثم تغزل في مطلع القصيدة، ثم انتهى إلى مدح أحد العظماء، وكذلك فعل الشاعر الإيراني "خاقاني أفضل الدين إبراهيم بن علي الشيرواني" -المتوفى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي- إذ وصف هو أيضًا ذلك الإيوان. ولدينا كذلك الحب العذري، وبخاصة قصة عشق "قيس بن الملوح لليلى العامرية" فهي من أعظم القصص في الأدبين العربي والفارسي في موضوع الحب والتدلل والحرمان، وإذا كانت قصة المجنون عند العرب تجسد أخبارًا مثيرةً تناقلها الناس، فقد لقيت لدى أدباء إيران رواجًا لا نظيرَ له، ثم اتخذت شكل العمل الأدبي المتكامل، بعدما كانت مجرد أخبار متفرقة تعبر عن الحرمان والعذاب، والمعاناة

والعشق. وكان فضل الريادة في هذا للشاعر الإيراني "نظامي الكنجوي" وهو من أهل القرن السادس الهجري، وقد نظم قصة "ليلى والمجنون" في 4700 بيت. كذلك كان الحبُّ العذري منطلقًا إلى الحب الصوفي في الأدب الفارسي، وهو ما ظهر في صنيع نظامي، وهذا لا ينسينا أن الأدب الصوفي نفسه قد نشأ في الأدب العربي، وعني به الكتاب عنايةً فائقةً، ثم انتقل بعد ذلك إلى الأدب الفارسي، فعُني به الكتاب هناك، ثم انتقلت تلك العناية إلى الشعراء. وهكذا تطور الأمر في الأدب الفارسي حتى جاء وقت غلبت فيه التأليفات الصوفية الشعرية على النثرية في ذلك الأدب، في حين كان العكس في الأدب العربي، إذ ظلت الغلبة للمؤلفات الصوفية النثرية على المؤلفات الشعرية الصوفية. ويعد الشاعر الإيراني جلال الدين الرومي محمد بن محمد البلخي، وهو من أهل القرن السابع الهجري، من أعظم شعراء التصوف الإسلامي. وقد حدثنا عند كلامه عن عشق المجنون عن "طريق السالكين" المملوءة بالمصاعب والدم، لينتهي أخيرًا إلى ذكر عدد من مقامات الصوفية في قصيدته "شكوى الناي"، فالناي لديه رمز للروح التي كانت في عالم الذَّر، فلمّا تجلى الله للروح سكنت الجسد. وهذه الصيدة تقع في ثمانية عشر بيتًا افتتحها بالمثنوي، فقال ما ترجمته: اسمع النايَ مُعْرِبًا عن شكاتِهْ ... بعد أن بات نائيًا عن لِداتِهْ وهكذا أدّى العشق العذري وما فيه من الحرمان، إلى إثارة خيال المتصوفة، وأوقد مخيلتهم فأبدعت أفكارًا شتى دخلت العِرفان الفارسي من الباب الواسع، على حسب ما جاء في كتاب الدكتور حسين جمعة (مرايا للالتقاء والارتقاء بين الأدبين العربي والفارسي).

وفي كتابها (المقدمة الطللية للعشر الفارسي، دراسة مقارنة مع القصيدة العربي) تقف الدكتورة "سميرة عبد الستار عاشور"، عند واحد من الموضوعات الجزئية، هو مقدمة القصيدة الفارسية التي تأثرت بنظيرتها العربية في شكلها العام، وفي أقسامها وخصائصها الفنية، لقد كانت قصائد المديح في الشعر الفارسي تُفتح بالغزل والتشبيب والوقوف على الأطلال، تمهيدًا لذكر الصبابة، ثم يعقب ذلك الانتقال من مطلع القصيدة الغزلي إلى ما يليه من المدح، ثم تُختتم القصيدة بالدعاء للممدوح. أما عن موضوعات النسيب فتدور حول محنة الأيام، وشكوى الفراق، ووصف الدمن والأطلال، ونعت الرياح والأزهار وغير ذلك، كذلك لدينا مقدمات وصف الخمر التي شاعت منذ بداية الشعر الفارسي بعد الإسلام، كما هو الحال في مقدمات "الرودكي" المتوفى عام 329هـ والمتأثر في خمرياته بفن أبي نواس، وقد بلغ التأثير العربي مداه في هذا الجانب في شعر " منوجهري " الذي توفي سنة 432هـ والذي يعد رائد الوقوف على الأطلال في الشعر الفارسي، فأخذ الشعراء اللاحقون يذكرون الأطلال في شعرهم؛ تقليدًا له، وهناك من يرى أنه اختط تلك الطريقة كي يكون له تميز يبز به شعراء الفرس الكبار المعاصرين له كـ"عنصري" مثلًا، ومن هنا نراه يتغنى بوصف البوادي والصحارى، ويتأسف على الديار الخربة، بل إنه كان يتعمد سوقَ أسماء الشعراء العرب في قصائده، فضلًا عن الأمثال العربية والإشارات التاريخية الخاصة بالعرب، وكثير من الألفاظ والاصطلاحات المهجورة. وتلاحظ الدكتورة "سميرة عاشور" أن جميع الشعراء الفرس الذين استعملوا المقدمة الطللية كانوا يجيدون العربية إلى درجة النظم بها أحيانًا كما كانوا يتباهون

بذلك، لكنها تضيف أن تلك المقدمة لم تلقَ قبولًا واسعًا عند الفرس، فلم ينظمها إلا عدد محدود من الشعراء على رأسهم "منوجهري". أيّما يكن الأمر، فها هم أولئك الشعراء الفرس يقفون على الأطلال في مقدمات قصائدهم، معاكسين ما كان يدعو إليه في فترة من فترات حياته الشعرية الشاعر العباسي أبو نواس ذو الأصل الفارسي، إذ كان يسخر من ذلك التقليد، ومن أصحابه العرب، ومن أسلوب حياتهم البدوي، داعيًا إلى استبدال المقدمة الخمرية بتلك المقدمة؛ لأنها أنسب للعصر الجديد -كما كان يقول- ولا شك أن هذه مفارقة طريفة وعجيبة. ومن شعر "منوجهري" الذي يبدأ بمقدمة طللية، نأخذ هذا الشاهد وهو من قصيدة له يمدح بها السلطان "مسعود الغزنوي": ألا أيها الخيام اطوِ الخيمة ... فإن دليل القافلة قد رحل عن المنزل في البداية دق الطبال طبول الرحيل ... ثم أخذ الحداة في شد المحمل اقتربت صلاة المغرب وهذا ... المساء أرى القمر مقابلًا للشمس لكن القمر يصعد للأعالي بينما ... تهبط الشمس خلف جبل بابل كأنهما الميزان ذو الكفتين الذهبيتين ... تميل إحدى كِفتيه عن الأخرى ومن مقدمات "معزي النيشابوري" وهو من شعراء القرنين الخامس والسادس الهجريين، نلتقط هذه المقدمة: أيها الحادي لا تنزل إلا في ديار محبوبي ... لأنوح زمانًا على الربع والأطلال والدمن وأملأ الربع بدم قلبي ... فأصبغ به أرضَ الدمن

وأجعل الأطلال نهر جيحون من دمع عيني ... إذ أرى خيمة الإيوان خاليةً من وجه الحبيب والمرج مجهون من قده ممسوك اللدنة ... مكان الكأس والدم رتعت حمر الوحش وبدلًا من القيسار والناي والمِزمار ... ارتفع نعيب الغربان فكأن روحي قد هجرت جسدي ... منذ هجرت سُعدَى خيمتها وسنة حجرتها وولت ... ليلى من مخدعها لا يمكن المرور بلا معاناة بمنزل ... حجري القلب عذب الشفاه فضي الظهر ذلك البستان الذي كان ... مقامًا للمحبوب مع الخلان أصبح مرتعًا للذئاب والثعالب ... ووطنًا لحُمر الوحش والعُقاب حل السحاب محل القمر ... والسم موضع السكر والحجر مكان الجوهر ... والشوك محل الياسمين وإذا كنا نقرأ في كتاب ابن قتيبة (الشعر والشعراء) قولًا له: " سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مُقَصّدَ القصيد إنما ابتدأ فيه بذكر الديار والدمن والآثار، فبكَى وشَكا، وخاطب الرَّبْع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العَمَد في الحلول والظغن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماءٍ، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكَا شدةَ الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريبٌ من النفوس، لائطٌ بالقلوب، لما قد

جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسببٍ، وضاربًا فيه بسهمٍ، حلال أو حرامٍ. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عَقَّبَ بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النّصَبَ والسّهَرَ، وسُرَى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمَامَةَ التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكأفاة، وهزَّه للسِّماح، وفَضَّله على الأشباه، وصَغَّر في قدْرِه الجزيل. فالشاعر المجيد مَن سلك هذه الأسالب، وعَدلَ بيْنَ هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يُطِل فَيُمِل السامعين، ولم يَقْطَعْ وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد. وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكيَ عند مُشَيَّدِ البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحلا على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشّيح والحَنْوَةِ والعَرارَة ". إذا كنا نقرأ في كتاب ابن قتيبة ذلك، فإن شمس الدين محمد بن قيس الرزاي صاحب (المعجم في معايير أشعار العجم)، يسوق في كتابه هذا كلامًا يذكرنا بما جاء عند ابن قتيبة، إذ قال: "ذكر جماعة من أهل البراعة، أن النسيب هو غزل يجب على الشاعر أن يجعل مقدمته فيه، وذلك لمَيل النفوس إلى الاستماع لأحوال المحبين، وغزل العاشقين، وعن طريقه يشوق الممدوح، ويحسه على حسن الاستماع له، فيجتذب حواسه،

ولا ينشغل بغيره، وبهذا يدرك مراده من قصيدته فتقع من الممدوح موقع القبول، وإن لم يلتزم الشعراء أصحاب المقدمات الطللية هنا وهناك بتفاصيل ما قاله ابن قتيبة التزامًا، بل كانوا يحومون في كثير من الأحيان حولها، مكتفين بالإتيان ببعض ما أشارت به". وفي موضوع المقامة وتأثيرها على الأدب الفارسي نقف عند ما كتبه الدكتور "بديع محمد جمعة" في كتابه (دراسات في الأدب المقارن) الذي يتناول فيه ضمن ما يتناول طائفةً من قضايا الأدب المقارن المتعلقة بالأدبين العربي والفارسي، وهذه القضايا هي قصص المعراج بين (رسالة الطير) لأبي حامد الغزالي، و (منطق الطير) لفريد الدين العطار، و (قصص الحيوان) في الأدبين العربي والفارسي، وتأثر "لافونتين" الفرنسي بحكايات كليلة ودمنة، ثم أثر حكاياته بدورها على الأدبين المذكورين، والمقامات في الأدبين العربي والفارسي، و (ليلي والمجنون) بين الأدبين العربي والفارسي، وأخيرًا (تحرير المرأة) بين قاسم أمين والشاعرة الإيرانية "بيروين". وسوف نقتصر هنا على الموضوع الثالث الخاص بالمقارنة بين الأدبين المذكورين في فن المقامات، ويبدأ الأستاذ الدكتور بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب، والمقامة في مقاماتها الأولى: هي فن أدبي يقوم عادةً على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد، ينتقل من مكان لمكان، ومن موقف إلى آخر، مغيرًا هيئته في كل مرة، متخذًا الكُديةَ وسيلةً لكسب ما يقيم حياته إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله، وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها؛ لتحصيل مطعمه ومشربه.

كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهه والتهكم، والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوليات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولودعية. ثم نطور ذلك الفن ودخله التحويل في الموضوعات والأهداف فاتسع لكل شيء، حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلخ، وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تألفيها، فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا، بدأً من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بنصيف اليزجي في القرن التاسع عشر الميلادي. أما في الأدب الفارسي: فلم يمارسها إلا أديب واحد هو "القاضي حميد الدين" من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان، فكفَى الباحثين بذلك مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من "براون" المستشرق الإنجليزي و"كريم كشاورزي" الباحث الإيراني. وإذ كان البطل في كل من المقامة الهمذانية والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير هو "أبو فتح السكندري" عند بديع الزمان، و"أبو زيد السروجي" عند الحريري، وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو "عيسى بن هشام" في الأولى، و"الحارث بن همام" في الثانية، فإن البطل لدى القاضي "حميد الدين" يتغير في كل مقامة. أما الموضوع فيبقى ثابتًا دون تغيير كما هو الحال عند الهمذاني والحريري، حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول وكل مقامات الثاني.

وكما قامت المقامات في الأدب العربي على المحسنات البديعية، والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز، والحرص على إبراز سعة المعجم اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ، فكذلك حاول القاضي "حميد الدين" أيضًا الجري في نفس المدمار، وإن لم يكن للفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن حسبما ذكر المؤلف. ومن مظاهر تأثير الحميدي بمقامات بديع الزمان كذلك: كثر استخدامه للألفاظ العربية، فضلًا عن الجمل والعبارت الكاملة المنقولة من لغة الضاض، حتى في المواضع التي لا يكون ثَم تداع لذلك من ضرب مثل أو سوق شاهد في أصله العربي، بل لقد قلد "الحميدي" تركيب اللغة العربية في كثير من الأحيان، فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأشعار، والأمثال العربية كما هي، إضافةً إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن، ليس ذلك فقط بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي بعد ترجمتها إلى الفارسية، مع زيادة بعض الإضافات؛ بُغيةَ إظهار تفوقه وبراعته، مثلما هو الحال في "المقامة السقباجية" التي تقوم على "المقامة المضيرية" لدى الحريري، كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد، إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامةً. فهذه نقاط الاتفاق. أما الاختلافات فتكمن في أن بطل مقامات "الحميدي" يختلف من مقامة إلى مقامة، كما أن راويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا، علاوة على أن راويها شخص غيره، كذلك في الوقت

الذي نجد فيه البديع الهمذاني يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان، فإن "الحميدي" لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلق على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها تلك المقامة. وإلى جانب ذلك، فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب، ثم إنه بسبب انتشار التصوف في إيران في الفترة التي عاش فيها القاضي "حميد الدين"، وجدناه يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية، بتعبير المؤلف، كما في "المقامة السقباحية" التي تجري في إصر المقامة "المضيرية للهمذاني" إذ يوجد فيها أيضًا شيخ ومريدون. وقد لمس الأستاذ الباحث مسألة جدًّا مهمة، وهي أن فن المقامات لم يكتب له الرواج والانتشار في الأدب الفارسي، ذلك أنه لم يكرر المحاولة أحد بعد "الحميدي"، وهو يعلل هذا بأن الفارسية فقيرة في الكلامات المترادفة والمتساجعة، بالقياس إلى لغة الضاض، ومن ثَم لا تصلح كثيرًا لكتابة المقامات التي تقوم أساسًا على السجع والمحسنات البديعية. أما في مجال القصص فقد لاحظ بعض الباحثين أن الفرس في الحكايات التي نقلوها عن العرب، قد أضفوا عليها من الخرافات والأساطير ما حولها عن وضعها الحقيقي، ومن ذلك ما صنعوه مع قصة "كليب وائل" التي ألفوا على مناولها قصة "رستم وسهراب"، فواضح كما يقول الدكتور "خليل عبد المجيد أبو زيادة": إن قصة كليب قصة واقعية قد حدثت فعلًا في الجاهلية، وإن زخرفها خيال المؤلفين اللاحقين، ذلك أن حياة الغرب قد نقلت لنا -حسب كلامه- من خلال تلك القصة فجاءت صحيحةً كما نعرفها، فهم قوم ذو أنفة وإباء، يرفضون الظلم ويحاربونه أينما كان، ولا يخشون إلا الحق، فهذا "جَساس" لم

أثر الأدب العربي في الأدب الملاوي.

يرعَ الصهر الذي كان بينه وبين كليب، وقتله كي يضع حدًّا لبطشه وجبروته، وبالمثل فإن أخته "جليلة" تمثل المرأة العربية التي تقدس الحياة الزوجية، وتخلد إلى جانب زوجها مهما يكن الأمر، ومن ثم رأيناها تحاول منع أخيها كليبًا من قتل زوجها، رغم ما تعلمه من طغيان هذا الزوج وظلمة. كذلك تصور لنا القصة حياة العرب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بخلاف القصة الفارسية التي لم تأتِ بالكثير عن حياة الفرس خارجَ المجال السياسي. ومن ناحية الأم نراها في القصة العربية سيدةً ذات قيم أخلاقية رفيعة، تحب زوجها وتحاول منع الفتنة، فتكتم في ضميرها ما قد يثير القلاقل بين ابنها وأخيها، أما الأم في القصة الفارسية فامرأة مرفهة تعيش في ترف وحرية، لا يهمها من أمر الدنيا سوى العشق والهيام، وتفرط في نفسها في سهولة، إذ تحب رستمَ، وتنام معه وتحمل منه، رغم أنها لم تكن قد رأتْه من قبل، بل إنها لتخبر ابنها بحقيقة أمرها مع رستم دون وازعٍ من الحياء. هذا عن الأدب الفارسي. أثر الأدب العربي في الأدب الملاوي إن العصر الإسلامي في إندونيسا يبدأ حوالي عام 1400م، وفي ذلك الوقت أضحت الملاوية لغة التخاطب بين التجار العرب والهنود وبين سكان البلاد، وكانت في ذلك الوقت تُكتب بالحروف العربية قصرًا، وهذه اللغة الملاوية هي اللغة التي يستعملها الآن أهل إندونيسيا، لغة قومية لهم، وقد دخلتها من لسان الضاد ألفاظٌ وعبارات كثيرة جدًّا دينية وغير دينية، مثل: "بركة - آذان - غيب - جهاد - عبادة - هلال - فتوى - صلاة - مِنبر - مرتد - روح - عالم - حكاية - عبارة - حكمة - حق - هواء - نغم

- علم - فلك - فكر - دليل - دولة - آلة - أدب - قاعدة - دواء - معلم- مجلس - لفظ - فهم - فصل - ديوان -مذهب - حاكم - عسكر - خبر - فلسفة - فصيح - إجازة - مثل - محبة - مبذر - رزق - سلام - مسافر - معشوق - كوفية - غيب - ابن - بنت - صحبة - بطل - هجرة - هبة - أخلاق- خادم - خاص - تام - خيانة - أصيل - عاشق- قبة - خيمة - القيامة - الإيمان - المعصية - الحاج - القاضي - الإمام - المسجد - الآخرة ... إلخ". وبدأً من عام 1930ميلادية، صارت اللغة الإندونيسية -وهي الملاوية سابقًا- هي لغة الجذر الإندونيسية جميعًا، فصار الناس يتعاملون بها في المخاطبات والرسائل، وفي المدارس والصحف والمجلات والكتب، والمصالح الحكومية، وبعد زوال الاستعمار من تلك البلاد، أُنشئ مجمع لغوي يعنَى باللغة القومية، وتكتب الإندونيسية الآن بالحرف العربي والحرف اللاتيني جميعًا، وإن كانت كتابتها بالحرف العربي عمومًا أقل انتشارًا، إلا أنه مستعمل رغم ذلك على نطاق واسع في المناطق الداخلية وفي القرى، حيث يهتم الناس بحفظ القرآن الكريم، ودراسة العلوم الدينية، وقراءة الكتب القديمة. وفي الأدب الملاوي تكثر الحكايات ومنها -بل أشهرها- حكاية "الأمير حمزة" والمقصود حمزة بن عبد المطلب عم الرسول، الصحابي الجليل -رضي الله عنه- وتقصُّ الحكاية سيرته وفروسيته وبطولته في الدفاع عن حوذة الإسلام في بدر وأحد، ونهايته المأساوية على يد "وحشي" الغلام الحبشي الذي استأجره بعض مشركي مكة؛ لقتل الصحابي العظيم، فانتهز منه غرة وهو مشغول بجندلة صناديد المشكرين في غزوة أحد، إذ صوَّ ب إليه سهمًا في موضع قاتل، فجندله.

وهناك حكايات أخرى كثيرة، بعضها مقتبس من كتاب المقفع (كليلة ودمنة)، وبعضها مستوحى من (ألف ليلة وليلة)، سواء من ناحية الوصف أو من ناحية الإغراق في الخيال واختلاط الشخوص والأحداث الواقعية والأسطورية، كـ (الحصان المجنح) و (المصباح السحري) و (الجن والعفاريت) مثل حكاية (سيم سكين ونذير شاه). وإلى جانب هذا هناك لون آخر من الكتابة يمكن أن نذكر منه (سيرة معرفة) و (سيرة نور محمد) و (سيرة حمزة فنتوري). ومن الأدب الإندونيسي الحديث يمكن أن نشير إلى "أسمر إسماعيل" المولود سنة 1921م، وهو شاعر وكاتب مسرحي يستلهم التاريخ الإسلامي ويستمد موضوعاته منه، وهناك أيضًا "جماعة البوسطة الاجتماعية" وكذلك "جماعة جريدة عَلَم الإسلام" التي كان القائمون عليها قد اتجهوا إلى مصر، حيث تعلموا وتأثروا بأجوائها الثقافية والأدبية، وبما يسودها من دعوات إصلاحية إسلامية، وهو ما انعكس في كتاباتهم بعدما عادوا إلى مسقط رأسهم، إذ عبروا في إبداعاتهم عن اتجاه إسلامي واضح. ونتحول إلى ماليزيا لاستكمال حديثنا عن الأدب الملاوي وما بينه وبين الأدب العربي من صلات، حيث تقابلنا من أسماء الشعراء ذوي الاهتمامات الإسلامية، والمتأثرين بالثقافة العربية سحيم الحاج محمد وعبد العزيز محمود الشهير بأدهم تِهرة، وأحمد كمال عبد الله، وثم مقال جيد كتبه الدكتور "محمد مصطفى بدوي" عن ذلك الشاعر الأخير، يقول فيه: " دخل الإسلام إلى جزر الملايو في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد، ولم يكن ذلك عن طريق السيف أو الفتوحات العسكرية، بل كان عن طريق الاحتكاك

التجاري الاقتصادي والثقافي، وقد دخل أبناء الملايو بمجملهم في الإسلام، وحملوه بقوة وما يزالون، ويذخر الأدب الماليزي القديم بالمواضيع الإسلامية المستقاة في معظمها من التراث الإسلامي العربي القديم، ومنها سيرة حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقصص من حياة الصحابة -رضي الله عنهم- بالإضافة إلى تواريخ وقصص مغامرات أخرى. وقد حافظ الشعر الماليزي الحديث في معظمه على وشائج قوية مع التراث الإسلامي بشكل عام، ومع العربي على وجه الخصوص، والمتصفح للروايات الماليزية والشعر الماليزي المكتوبين في القرن العشرين وبخاصة بعد الاستقلال عام 1963 ميلادية، يجد أن الإسلام لا يزال في مقدمات اهتمامات الأدب الماليزي، ونجد في الشعر الماليزي كل ما نعهده من مقاصد الشعر الإسلامي، من مثل مدح الله -عز وجل- والتغني بحبه الذي يلامس شغافَ القلوب، وكذلك التغني بحب الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما يجسد الشعر الماليزي المعاصر همومَ الشعب والأمة، وتظهر فيه نبرة الحزن والأسى للوهدة التي يتردى فيها المسلمون بابتعادهم عن الإسلام اليوم. ونجد الشعراء الماليزيين المسلمين شأنهم في ذلك شأن إخوانهم من شعراء الإسلام في كل مكان من العالم الإسلامي، يعبرون عن الغضب والحزن والتفجع إزاءَ ما يشهده عالم المسلمين اليوم من اعتداءات صارخة، وانتهاكات لأبسط المبادئ الإنسانية، يمارسها أعداء الإسلام تحت سمع العالم وبصره، ولا من مجير. ومن أهم شعراء ماليزيا الشباب الذين يحملون الإسلامَ في قلوبهم، وفي شعرهم، الشاعر أحمد كمال عبد الله، الذي اتخذ له اسمًا فنيًّا عرف به هو "كِمالا". ولد الشاعر في إحدى ضواحي العاصمة الماليزية "كوالالمبور" في العام 1941، وقد

عمِل في بداية عمره المهني في التدريس، وكتب بعضَ القصائد والأقاصيص والمقالات الأدبية، ثم طور اهتمامه بالشعر، فنشر عددًا من الدواوين الشعرية، نذكر منها (ميديتاسي) "تأملات" في العام 1972، و (عين) في العام 1983، وقد نال عددًا من الجوائز التقديرية في المهرجانات الشعرية التي تقيمها الهيئات الأدبية في ماليزيا عن عدد من أعماله الشعرية في السنوات 1972، 1975، 1982، 1983. وقد شغل منصب الأمين العام للاتحاد الوطني للكتاب الماليزيين من 1972 إلى 1974. وله بالإضافة إلى الشعر كتابات في القصة والنقد الأدبي، ويُذكَر أنه أدى فريضة الحج منذ عامين. وتنضح قصائد "كِمالا" بالاهتمامات والمقاصد الإسلامية المختلفة من الروحية الذاتية الشخصية، إلى الوطنية، إلى الاهتمام بشئون الأمة الإسلامية الواسعة. وقصائده التي تعالج الشأن الروحي تعلن بوضوح حب الشاعر العميق لله -عز وجل- وللنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في ذلك يشارك الطبيعة بمظاهرها المختلفة الحية منها والجامدة. أما قصائده الوطنية فتعبر عن القلق الذي يساوره من ابتعاد مواطنيه عن جادة الصواب والحق، ومن انجراف الشعب وراء الأوهام التي تبعثها الحضارة الغربية المجافية للإسلام. وبالانتقال إلى القصائد التي تعبر عن هموم الأمة، نجد الشاعر يتألم لِمَا يحل بالشعوب الإسلامية -وخاصةً فلسطين وفي البوسنة والهرسك- من ويلات على أيدي الأعداء، وعلى مرأى ومسمعٍ من العالم الذي يقف موقف المتفرج. ولنبحث أولًا في قصائده الروحية التي يمكن أن تعد في مصاف روائع الأدب الإسلامي على مر العصور، في قصيدة قصيرة بعنوان (حَميم)، يصور الشاعر

العلاقةَ الوثيقةَ التي يرى أنها تربطه بالخالق الرحيم، الذي يحفظه من الويلات ومن الانحراف، وتمتلئ القصيدة بالرموز الموحية، وغني عن البيان أن العنوان المأخوذ إما من أوائل سور الحواميم أو الكلمة العربية "حم" بمعنى الصديق والخليل، هذا العنوان مشحون بالإيحاءات الروحية: عاد المسافر بعد سنوات من الترحال إلى قريته سالمًا ولم يعطب فيه عضو بل على العكس لقد ازدادت خبرته فالمسافر هو الشاعر نفسه الذي طوَّف في الآفاق الروحية والعالمية، وعاد إلى موطنه أو ذاته سالمًا، وهو يرى الفضل في ذلك لله -عز وجل- ولرحمته ولطفه: يا من أنت هو اللطيف أنت حميتني ولذلك لم تأكلني السباع الجائعة والثعالب الوحشية والشاعر رغم اتضاعه كمخلوق، فإن الله قد وهبه التكريم والرفعة بمنحه الحب الذي يربط قلب الشاعر إلى الذات العلية: مع أنني لا أعدو أن أكون ذرة فهذا حبي الذي تنفخ أنت فيه الروح والإيمان ويختم الشاعر قصيدته برؤية نور الله في كل شيء: في ومضة النور ليس هناك إلاك

وفي قصيدة مطولة تحمل عنوان "عين" يطوف الشاعر في مشاهد من التاريخ والتراث الإسلامي، يعرضها علينا مستخلصًا منها العبر والدروسَ، وهنا أيضًا يجدر أن نلاحظ: أن العنوان المأخوذ من اللغة العربية يشير إلى العين الداخلية أو البصيرة، في المشهد الأول ينقلنا الشاعر أمام كهف حِراء المغطَّى بنسيج العنكبوت، وتتوالى المعاني والأفكار، ويتذكر الشاعر ساكن ذلك الغار -عليه الصلاة والسلام- وصاحبه، ويدعونا لمشاركته الدهشة والدفء والحب التي تثيرها في النفس تلك المشاهدة: النبي الأمين سكن هنا وكذلك أبو بكر الصديق الذي أحبه حبًّا عظيمًا إن أصداء رحيل النبي لا تزال تتردد في دروب المدينة مدينة النور تداعبني وأقف مأخوذًا أمام الألحان الدافقة في المقطع الثاني تطالعنا قصة آسيا زوجة فرعون المؤمنة، وفي الثالث ننتقل إلى مشاهد من حياة رابعة العدوية، أما في المقطع الرابع فيسرد علينا الشاعر قصةَ أهل الكهف: إذا كانوا قد ناموا ثلاثمائة بأمري إذًا ما الحاجة للمنطق؟ أما المقطع الخامس فيروي مشاهد من حياة النبيين الكريمين إبراهيم وموسى -عليهما السلام- وفي المقطع السادس مناجاة يرفعها الشاعر إلى الذات العلية: يا رب تقبل تلك النجوى التي تنشدها روحي

المقطع السابع يعالج مشاهد من رحلة الإسراء والمعراج، أما في المقطع الثامن فنرافق هاجر زوجة إبراهيم في سعيها بين الصفا والمروة حتى تفجر ماء زمزم في قلب الصحراء: هاجر حلت السر ماء زمزم العذب أعلن حبها وشوقها وبالانتقال إلى قصيدة ثالثة "سمعت"، نجد الشاعر يعلن حبه على الملأ، وهو في ذلك يشترك مع سائر مخلوقات الله من حيوان وجماد ومظاهر طبيعية: سمعت الريح المتعبة تهمس للجبال عند غروب الشمس آخر يوم من شهر الصوم هناك في بلد بعيد ولد شاعر يحب الله -عز وجل- وحال الريح في ذلك هو حال دودة الأرض التي تخبر طفلتها هناك رجل يغني للحب للأرض للسماء لك، لي، لله ولنبيه! والهمس نفسه حول جنون الشاعر بالحب الإلهي نسمعه من حوريات الأزهار المائية، ومن الأعشاب البحرية، ومن الأصوات المكتومة في الغابات، ومن الصبايا يتوضأن؛ استعدادًا لصلاة الفجر، ومن النصال التي تعد لتكسير الجبال والصخور، وأخيرًا من البرق الذي يدمر كل شيء في طريقه.

وهكذا نرى أن الحب الذي يكنه "كِمالا" لله ولنبيه يظهر واضحًا في قصائده. لكن هذا الحب لا يجعل من كمالا شاعرًا صوفيًّا بالمعني التقليدي للكلمة، فهو لم يعزل نفسه في تكية أو زاوية عن قضايا شعبه ووطنه، ونحن نجد الاهتمامات الوطنية مبثوثة في كثير من قصائد "كمالا"، ولكن سيكون تركيزنا هنا على ثلاث من هذه القصائد هي: "لا تحزني يا ماليزياي" المكتوبة عام 1984. "موزاييك موزاييك كوالالمبور" من العام 1986. "هومبابا هومباي" العائدة للعام 1989. ومن الواضح أن قصائد "كمالا" التي تهتم بالشأن الوطني نابعة من قلب متألم؛ لِمَا يعتري مجتمعه ووطنه من هلاك ومفاسد، وهي تارةً تتفجر ألمًا وغضبًا بأسلوب جزل، وطورًا تتخذ شكل السخرية المرة، لتعود في نهاية المطاف إلى الطلب لله -عز وجل- أن يحفظ ذلك الوطن من الفساد والانحراف، وتعود لترى في دين الله المنقذ من التفكك والتحلل. ونلاحظ أن الشاعر يوجه سهامَ الانتقاد إلى الممارسات الفاسدة في مختلف مناحي الحياة، من سياسة واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وبيئية وغيرها. ففي الناحية السياسية نجده مثلًا ينتقد خمول أعضاء مجلس النواب، فيتساءل بتهكم مرير في قصيدة "موزاييك": هل لا يزال السادة أعضاء مجلس الشعب نائمين في قاعة المجلس؟ ثم يعود في القصيدة ذاتها ليخاطب رئيس الوزراء: دولة رئيس مجلس الوزراء أنا أنقل إليك مطلب الشعب أن تكشف الغطاء عن الحسابات المصرفية للسادة الكرام

النواب والوزراء ويعود في قصيدة "هومبابا هومباي"، ليتساءل عمن سيخلف رئيس الوزراء، مثيرًا بذلك قضية أهمية الاستقرار السياسي، ومصير المسلمين في ماليزيا: بعد أن يترك "محاضر" مركزه مَن سيكون رئيس الوزراء التالي؟ ويكتسب هذا التساؤل حدة وأهمية إذا أدركنا طبيعة الحياة السياسية في ماليزيا، فصحيح أن السياسة والحكم والجيش والشرطة والإدارة، كلها بيد الملايو المسلمين، ولكن لا يغفل المراقب عن حقيقة العنصر الصيني -الذي شجعه الاستعمار البريطاني على القدوم والاستيطان في البلاد في أثناء احتلاله لها- يشكل ما يقرب من نسبة 40% من السكان، ويمسك الصينيون بمقاليد الاقتصاد، ولا يتركون فرصةً إلا ويغتنموها للتعبير عن وجودهم وقوتهم، وأحداث عام 1969 العنيفة لا تزال ماثلةً بقوة ووضوح في مخيلات الملايو والصينيين على حد سواء. ولذلك نرى الصينيين يطلقون المفرقعات النارية بصورة لافتة للنظر، وهذا ما يسجله "كمالا" في قصيدته ذاتها عندما يقول: هومبابا هومبايي المفرقعات المجنونة تخرب أرضنا فهل هونج كونج أو بيكين هي عاصمة بلادنا؟ فهو القلق على الهوية الإسلامية الذي يساور الشاعر، كما يساور أبناء قومه برمتهم.

وبالانتقال إلى الهم الاقتصادي، نجد الشاعر يغني أحزان الفقراء في قصيدة "لا تحزني يا ماليزياي": هناك لدى صيادي الأسماك أغان حزينة هناك أغان بلا إيقاع يغنيها الفلاحون الفقراء الباحثون عن المحبة بصوت أجش مبحوح ويلازم هذا الهم الشاعر مرتبطًا مع فضائح الرشوة والفساد، المصاحبين للازدهار والتطور الاقتصادي، فنجده في قصيدة "موزاييك" يشير إشارات خاطفة بجمل وعبارات مقطعة إلى المظهر الاقتصادي البراق، الذي يخفي وراءه مشاكل اقتصادية، بعيدة الغور، ترتبط بأخلاق الساسة ورجال الأعمال، فينتهي إلى التحذير من أخطار الديون الحكومية: كم يبلغ مقدار الدين الوطني عندنا؟ الحرية! العمال يضربون مطالبين برواتبهم كم يبلغ مقدار الوطني عندنا؟ إذا لم نلزم جانب الحذر فسترهن ماليزيا عند المرابين! ويعود هذا الهم إلى الظهور في قصيدة "هومبابا هومبابي" في أعتاب تخفيض قيمة العملة الوطنية:

هومبابا هومبابي بعد تخفيض الرينجيت ماذا سيكون مصير ماليزيا؟ وبالإضافة إلى الهموم السياسية والاقتصادية، يحمل الشاعر في قلبه الهم البيئي، إن التقدم الاقتصادي والصناعي وإنشاء المزيد من المصانع قد أدى إلى تخريب البيئة، وتلوث الأجواء في أمكنة كثيرة، وهذا يملأ نفس الشاعر بالأسى والضيق والقلق على المستقبل، وهو يفتتح قصيدته "موزاييك" بوصف مشهد لنهر "كلانج"، وهو شريان نقل حيوي يصب في مرفأ "كلانج"، وهو بدوره مرفأ بحري رئيسي في ماليزيا ذات أصيل رمادي: هل لا يزال هنالك شعر في قلبك يا كِمالا؟ إن نهر كلانج الكثيف الموحل يكتظ بسفن النقل يلهث ليتنفس هذا هو العرق مع اقتراب القرن الحادي والعشرين ثم ينتقل ليصف الضباب الملوث، ودخان المصانع الأسود الذي يملأ الضواحي، ويلازم هذا الهم الشاعر أيضًا ليجد له تعبيرًا جليًّا في قصيدة "هومبابا هومبابي" حين يقول: هومبابا هومبابي هذا الكوكب الأرضي لا يمكننا استبداله بواحد آخر

وإذا كان التلوث البيئي يشغل بال الشاعر، فإن التلوث الأخلاقي يقض مضجعه، ويثير في نفسه أعظم القلق، وهو يوجه النظر للأثر السيئ على الأخلاق الذي تمارسه وسائل الإعلام عامةً، والتلفاز خاصةً في "موزاييك" نقرأ: الإعلانات والنشرات الفاجرة أشرطة الفيديو القذرة لها عملاؤها برامج التلفاز اللاهثة تلد وتعلم اللأطفال القتل على طريقة مستر تي والقصص العاطفية اللاهبة على شاشة تلفاز القنال الثالث ثم ينعَى على المنجرفين وراء الإعلام الغربي ابتعادَهم عن القيم الإسلامية: هل يشبه وجه سو إيلين وجه السيدة عائشة؟! مادونا مثل رابعة العدوية! ألا تزال هناك ومضات من القرآن؟ وهو يرد هذا الانحراف في معظمه إلى النظام التربوي ذي التوجه الغربي: إن نظام التربية مثل سفينة منجرفة مع التيار والريح الغربية الفاسدة تنفخ النار في الرماد وأمام هذه المشاكل العصية والعقبات الكأداء الجديرة ببعث اليأس في النفوس، لا يجد الشاعر الأمل إلا في كَنف الله الرحيم، فيلجأ إلى الله الذي لا ملجأ سواه، وفي نهاية قصيدة "موزاييك" نقرأ هذه المناجاة:

يا إلهي ... احفظ هذه الأرض قبل أن تنقرض قبل أن تختفي ويبتلعها العمالقة الجائعون الجائعون ولئن كان الشاعر يصرخ في وجه مجتمعه، محذرًا من الفساد والابتعاد عن قيم الأخلاق، فهو في ذلك لا يعدو كونه ابن هذا المجتمع، المحافظ المتمسك بالأخلاق في كل مناحي الحياة، والشاعر يريده أن يبقى كذلك، وأن يرذل الممارسات الفاسدة الآخذة في الانتشار. إلا أن الهم العام عند "كمالا" لا يقتصر على حدود وطنه الضيقة، بل نراه يحمل في قلبه وعقله هم الأمة الإسلامية بالمعنى الواسع للكلمة، فهو يشعر أنه واحد من أبناء الأمة، التي تتعرض في هذه الأيام للنكبات والويلات على أيدي الأعداء، ونتمثل هنا بقصيدتين للشاعر هما "قصيدة الفجر" التي كتبها عام 1982 إبَّان الحصار الإسرائيلي للقوات الفلسطينية في لبنان، و"رسالة من سراييفو" التي تعود للعام 1992، وتصف حالةَ الشاعر النفسية إزاءَ جرائم الصرب بحق المسلمين في البوسنة. تبدأ "قصيدة الفجر" بموعد للشاعر مع روح الفاتح الإسلامي طارق بن زياد: موعد مع روح طارق بن زياد الإسلام لا يُقهر تعالوا نعبر هذا المضيق ترتجف رياح الفجر

وتضرب الأسوار أنت تصرخ كالرعد يمزق السكو ن احرق السفينة قاتل لا طريق للوطن، أرض الأندلس لله ونحن في رحمته ظلال الجنود عند الفجر على الشاطئ الله أكبر وينتقل الشاعر بعد هذا المشهد المجيد، إلى مشهد من العصر الحديث يضعه في مواجهة المشهد الأول: ألف حيلة من اليهود وحيلة وهذا لبنان محاصر وهذا عرفات وجنوده الستة آلاف يُقصفون ينهمر الرصاص بغزارة قذائف الهاون بيروت مدينة الموت الموت في كل مكان اليهود .. اليهود يمتصون دماء الشعوب

انهضي يا منظمة التحرير انهضي بجيشك الصغير وأسلحتك الصغيرة وروح طارق في صدره لن يستسلم يحمل في عطفيه كرامة الوطن الأم فلسطين وبعد عقد من السنين كانت الأمة لا تزال تواجه الأعداء وسكاكين الجزارين وفي العام 1992 تحولت سراييفو وسائر مدن البوسنة إلى أراض للقتل، وسالت دماء المسلمين، وتهدمت مساجدهم، وانتهكت أعراضهم، وقد أثار هذا الإجرام مشاعر الأسى والغضب في قلوب المسلمين في سائر أنحاء العالم، وكان الشعراء أشد الناس تأثرًا بفظاعة المحنة، وقد تفجر الغضب في قلب شاعرنا، فعبَّر عنه في قصيدة "رسالة سراييفو" التي تبدأ بذكر الصمت الذي يلف العالم: أشجار صامتة أحجار صامتة بحيرات صامتة غزيت البوسنة والهرسك مساجد سراييفو المائة هوجمت ودمرت وأمطرت القذائف الموجهة على البوسنة القتل الشياطين الصرب يغسلون أجسامهم بدم البوسنة والهرسك يجرعون دموع الأطفال الأبرياء

وصرخات الضحايا ثم يسخر الشاعر من الأوهام التي تراود البعض بأن الدول الكبرى ستهب لنجدة المسلمين: واشنطن ماما نيويورك ماما باريس ماما بون ماما لندن ماما موسكو ماما يا للكارثة البوسنة والهرسك بلد إسلامي في قلب أوربا وميلاد جديد للحمراء وغرناطة؟ مستحيل مستحيل أبدًا وأكثر ما يحز في نفس الشاعر انفضاض الأشقاء المسلمين من حول أشقائهم في البوسنة والهرسك، فينادي بصوت ينضح مرارة: يا إخوتنا في الدول الإسلامية ما أخباركم؟ أين أنتم؟

أيها الإخوة في الإسلام، أين أنتم؟ ثم يتوجه الشاعر بالخطاب الساخر إلى القوة الكبرى في العالم: والآن تتجه الأنظار إلى سيادة رئيس الشرطة العالمية ما هي أولوياتك، سيادة الرئيس؟ أولوياتي واضحة كرسي الرئاسة هم البوسنة والهرسك ليست على جدول أعمالي آسف أنا آسف ويعود الشاعر إلى مخاطبة المسلمين بالمرارة نفسها: انسوا صرخات إخوانكم في الإسلام في البوسنة والهرسك دعوا مساجد سراييفو تموت دعوا الأذان يصغر في المآذن دعوا الإسلام ينهار في أرض أوربا ويعود الصمت ليلف العالم كما يلف نفس الشاعر: الأشجار صامتة خط الاستواء صامت الشمس صامتة

القمر صامت الصمت موحش الصمت مرعب ويختتم الشاعر قصيدته بمشهد يذكر بيوم الحساب: عندما كانت أرواحنا تعبر قابلنا ناسًا من القرن العشرين حمقى وغافلين عن مواجهة يوم الحساب هذه الإطلالة على العالم الشعري للشاعر الماليزي كفيلة بأن ترينا أن الإسلام لا يزال حيًّا في قلوب الشعراء والفنانين المسلمين في أصقاع العالم الإسلامي المترامي الأطراف، كما ترينا أن مقاصد الإسلام من روحية ودنيوية لا تزال تبعث الإلهامَ في نفوس هؤلاء الشعراء، وفي هذا إشارة إلى أن الأدب الإسلامي لا يزال بخير، برغم التراجع الذي نشهده على الساحة الإسلامية في نواح عديدة. إن الأدب الإسلامي لا يزال يحمل المِشعلَ؛ لينير درب هذه الأمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (1).

الدرس: 13 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (1).

تأثر الأدب العربي في ميدان التأليف المسرحي بالأدب الغربي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (1)) تأثر الأدب العربي في ميدان التأليف المسرحي بالأدب الغربي أولًا: التأثر في ميدان التأليف المسرحي: ولا بد هنا من كلمة سريعة للتعريف بفن المسرح، هذا الفن الذي يقوم بوجه عام على الصراع، الصراع بين دولتين، أو بين طبقتين، أو بين أُسرتين، أو بين شخصين، أو بين الشخص ونفسه، أو بين رغبته في عمل شيء ما وخوفه من الفضيحة الاجتماعية أو من العقاب الإلهي، أو بين فكرتين ... إلخ. وفي المسرح اليوناني قد يكون الصراع بين الآلهة والبشر، والصراع من ناحية أخرى قد يكون خارجيًّا كما في حالة الصراع بين شخص وآخر، أو بين دولة وأخرى، وقد يكون داخليًّا وهو ما يحدث عندما يكون الصراع في داخل الشخص نفسه، بين عقله وعاطفته مثلًا، كذلك يمكن النظر للصراع من زاوية أخرى، فَثَم صراع اجتماعي، وثم صراع سياسي، وثم صراع ديني، وثم صراع عسكري، وثم صراع نفسي، وثم صراع فكري. ومن ناحية رابعة قد يكون هذا الصراع مستمدًّا من التاريخ، وقد يكون مستمدًّا من الأساطير، وقد يكون مستمدًّا من واقع العصر الذي كتبت فيه المسرحية، وهكذا. وهذا الصراع يتم دائمًا من خلال الحوار، إذ المسرحية هي الفن الوحيد الذي يكتب كله حوارًا، فلا سردَ ولا وصف ولا تحليلَ، بل حوار وحوار فقط، مع بعض التعليمات التي يسجلها المؤلف في أول بعض المشاهد؛ كي يراعيها المخرج عند تحويل المسرحية من كتاب يُقرأ إلى تمثيل يشاهد. ولا يمكن حصر الغاية من التأليف المسرحي في شيء واحد بل ثم أهداف متعددة، منها التسلية والمتعة، ومنها الإثارة وإبعاد الملل، ومنها تمجيد بعض القيم الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية، أو حتى اللا أخلاقية، ومنها

كذلك إفشاء المعرفة، فكاتب المسرحية -أراد أم لم يرد- يطلع قراءَه ومشاهديه على تجارب ومطالعات وأفكار وتحليلات، كثيرًا ما لا يدرون عنها شيئًا، أو لا يدرون عنها شيئًا ذا بان، أو يدرون لكنه يعرضه عليهم من زاوية جديدة لا عهد لهم بها، أو على نحو أعمق أو بطريقة أبهر وأكثر تأثيرًا، وهذا كله علاوة على ترقية الذوق الأدبي والفني بطبيعة الحال. وبالنسبة للمواصفات التي ينبغي أن تتحقق في رَسْم الشخصية المسرحية، لا بد أن تكون كل شخصية من التمايز، بحيث تبقى في الذهن بعد انتهاء القارئ أو المشاهد من المسرحية، وهو ما يتحقق برسم معالمها الخارجية من ملامح وملابس، وطريقة مشي ونطق، وعناصرها الداخلية من تفكير ومشاعر، وانفعالات وأخلاق، وخلفيتها الاجتماعية مثل كونها أبًا أو أمًّا، أو ابنًا أو بنتًا، أو عاملًا أو مديرًا أو مدرسًا أو شحاذًا وهكذا. ولا بد في كل ذلك من الإقناع، أي: أن تأتي الشخصية طبيعية لا تصنع في رسمها، ولا إكراه لها على التصرف بطريقة لا تتسق مع سماتها، وأن تكون حية متطورة، لا ساكنة جامدة لا تتغير مهما مر عليها من أحداث واشتبكت فيه من صراعات. ثم عندنا الحوار، وما أدراك ما الحوار في المسرحية! فهو كل شيء تقريبًا في فن المسرح -كما قلنا- فعن طريقه نلم بكل ما يرد المؤلف تعريفنا به، إذ نحن لا نعرف أي شيء عن أي شخص أو عن أي أمر إلا من خلال الحوار، فإذا أراد المؤلف أن يتحدث عن شخص ما فليس أمامه إلا أن يسوق لنا ما ينبغي أن نعرفه عنه على ألسنة المتحاورين، ونفس الشيء إذا كان هناك حادث وقع وأراد أن يطلعنا عليه، إذ لا سبيل أمامه إلا أن ينطق بالحديث عنه إحدى الشخصيات،

على أن يتم الأمر بتلقائية، أي: بطريقة تستلزمها الأحداث والصراعات التي في المسرحية، لا أن يؤتَى به مجتلبًا دون أن يكون هناك ما يدعو إليه. ومن خلال الحوار تتضح شخصية المتكلم أول ما تتضح، كذلك ينبغي أن يكون الحوار مُحْكمًا لا ثرثرة فيه، إذ ليس الحوار مصطبة يجلس عليها المتكلم و"هات يا كلام!! " بل ينبغي أن يكون لكل كلمة وكل جملة دور في دفع حركة المسرحية إلى الأمام حتى تبلغ تمامها، أما الفضول فلا مكان له هنا، وعلاوة على هذا لا بد من إتاحة فرصة عادلة لكل الشخصيات في الحوار، وإلا أصيب الحوار بالترهل أو الشلل. ثم هل ينبغي أن يتحدث المتحاورون في المسرحية بالفصحى أو بالعامية؟ فأما المسرحيات التاريخية والفكرية والمترجمة والمنظومة شعرًا، فهي عادةً ما تكون فصحوية الحوار، لكن المشكلة والخلاف في المسرحيات العصرية، ففريق يجري في حواره على الأسلوب الفصيح كمسرحية أحمد شوقي "الست هدى" ومسرحيات "باكثير" ومسرحيات "ونَّوس"، ومعظم مسرحيات الحكيم، وفريق يجري على الأسلوب العامي وبخاصة في المسرحيات الملهوية، وقد استعرضها "الدكتور مندور" في الفصل الذي خصصه للمسرح في كتابه (الأدب وفنونه) حجج الفريقين، ويبدو من كلامه أنه يميل نحو استعمال الفصحى؛ بُغيةً الارتقاء بمستوى الجمهور الثقافي واللغوي، بدلًا من تركه حيث هو بعيدًا عن ذلك الرقي اللغوي والثقافة الرفيعة التي ترتبط به. وهو يستشهد في هذا المجال بما هو موجود في بريطانيا وفرنسا وغيرها من بلاد أوربا التي لا تختلف فيها لغة الكتابة عن لغة الحديث، كل ذلك باختلاف الحاصل في بلاد العرب، إذ لا يقدم المؤلفون المسرحيون هناك على الكتابة

باللهجات العامية، اللهم إلا عند تطعيم كلام بعض المتحاورين من العوام بمصطلح أو تعبير ذي نكهة عامية للإيحاء بالبيئة التي أتوا منها وبمستواهم الفكري والنفسي، وهو ما يدعو إلى استلهامه في مسرحياتنا التي من هذا النوع، مع الإبقاء على الفصحى وسيلة للحوار بوجه عام. وكانت المسرحيات في بداءة أمرها تنظم شعرًا، ثم تحولت مع مرور الزمن، فصارت تكتب نثرًا في العصور الحديثة، إلى جانب كتابتها شعرًا، وإن كان الغالب عليها الآن النثر لا الشعر. وتتكون المسرحية من فصول ومشاهد، وكانت قديمًا تشتمل على خمسة فصول لا تزيد ولا تنقص، كما كانت تلتزم ما يسمي بـ"الوحدات الثلاث" أي: أن يكون لها موضوع واحد، وأن تقع في يوم وليلة لا تزيد عليهما، وأن تدور أحداثها كذلك في مكان واحد، فلا تزيد دائرة المكان الذي تجري فيه الوقائع عن المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها الشخص خلال يوم كامل، إلا أن ذلك كله قد تغير مع القرون، فلم يعد هنا حد أعلى لشيء من هذا على ما هو معروف في المسرحيات الحديثة، إذ لم يعد هناك داعٍ للاستمساك بها بعد أن تطورت وسائل المواصلات بحيث يستطيع الإنسان أن يتنقل خلال الـ"24" ساعة في مساحة من المكان لم تكن تخطر على بال الأقدمين الذين وضعوا هذا القيد على المؤلفين المسرحيين. ولا بد أن يكون للمسرحية نهاية، فلا تبتر بترًا، بل ينبغي أن يشعر القارئ والمشاهد أن الأمور قد وصلت إلى نهايتها الطبيعية، بغض النظر عن أن تكون تلك النهاية مريحة أو مزعجة، سعيدة أو شقية، تتفق مع ما يريده المستقبِل للعمل أو لا، وإلا أحس أنه أُخِذَ على غِرة، وهو ما لا يصلح مع الأعمال الفنية ولا

غير الفنية، فإن الطبيعة البشرية قد صُممت على طلب الاكتمال، وعلى الضيق بأي نقص، لا النقص عن بلوغ المثال الأعلى فقط، بل النقص أيضًا عن بلوغ الغاية المتوقعة عمومًا، وإلا بقي الفضول البشري قلقًا ومقلقًا لصاحبه، وهذا أمر جد مزعج. إن المسرحية تقوم على عنصر التشويق، وهو العنصر الذي يدفع مستقبل العمل إلى متابعته؛ بُغيةَ الوصول إلي نهاية شافية مريحة، فإذا بتر المؤلف المسرحية بترًا، كان هذا بمثابة حرمان الظامئ من قُلة الماء التي أعطيته إياها ليشرب، ثم لم تتركه يطفئ نار عطشه بل انتزعتها منه قبل أن يفعل. والسؤال الآن هو: هل عرف أدبنا العربي القديم هذا الفن الأدبي؟ والجواب: هو أنه لم يعرف فن المسرح الذي نعرفه الآن، وإن كان قد عرف بعض أشكال أخرى ساذجة لا تخلو من بعض العناصر التمثيلية، كالذي كان يصنعه أحد المتصوفة في عصر "المهدي" الخليفة العباسي، إذ كان يأتي برجال فيجلسهم أمامه واحدًا بعد الآخر بوصفهم صحابة رسول الله، ثم يأخذ في تعداد أعمال كل صحابي جالس أمامه ومآثره، لينتهي قائلًا لمن حوله: اذهبوا به إلى أعلى عليين. وفي القرن الثالث الهجري أيام "المعتضد بالله العباسي" كان هناك رجل اسمه "المغازلي" يستطيع تقليد الشخصيات المختلفة كالأعرابي والزنجي، مع تقديم بعض المشاهد الصادقة من حياتهم وتصرفاتهم، ولدينا أيضًا "خيال الظل" الذي برع فيه "ابن دانيال" في القرن السابع الهجري، وهو لون من الفن التمثيلي وإن لم يكن الممثلون بشرًا، بل أشكال على هيئة الرجال والنساء، مصنوعة من الجلد أو من الورق المقوى، ووراءها نور يظهر ظلالها على ستارة تُنصب بينها وبين

المشاهدين، في الوقت الذي يحرك هذه العرائس -الورقية أو الجلدية- رجل ماهر على النحو الذي يتطلبه الدور. وكان هناك في مصر -قبل ابتلائها بالحملة الفرنسية- ممثلون مسرحيون فكاهيون هم "الحكاواتيون"، يؤدون أدوارهم في الأماكن العامة أو في بيوت الكبراء، كما اكتشف نصان مسرحيان عاميان بعنوان "سارة وهاجر" و"سعد اليتيم"، ما زالَا يقدمان حتى اليوم في قرى الفيوم عند الاحتفالات الشعبية، ولا ننسى تمثيلية "خروج الحسين من المدينة قاصدًا العراق"، ذلك الخروج الذي انتهى بمقتله في كَربلاء، إذ كانت الشيعة منذ القرن السابع الهجري تحتفل به وتمثل ما حدث في تلك الواقعة، إلى أن توقف الأمر في العصر الحديث، وهو ما يطلق عليه "التعازي الشيعية"، وفيها يقوم بعض الأشخاص بأدوار الحسين وأهله وخصومهم، وكانت تلك المشاهد تمثل كلَّ عام في ذكرى كربلاء. فهذا وأمثاله ما كان موجودًا في تراثنا، وهو الذي عَبَّدَ الطريق إلى دخول المسرح كما تعرفه أوربا عندنا في العصر الحديث. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر هو: ما العوامل المسئولة عن عدم ظهور فن المسرح في أدبنا القديم كما ظهر عند الإغريق والرومان مثلًا؟ هناك نظريات متعددة في هذا التعليل، فبناء على أن المسرح هو فن الصراع، وأن الحرية الإنسانية أساس ذلك الصراع، الذي قد يكون صراعًا عموديًّا أي: بين الإرادة البشرية والإرادة الإلهية، أو صراعًا أفقيًّا بين الفرد والمجتمع، أو صراعًا ديناميكيًّا بين العفوية البشرية والقدر، أو صراعًا داخليًّا بين الإنسان ونفسه، ينفي "محمد عزيزة" الباحث التونسي صاحب هذه التقسيمات إمكانيةَ أن يكون هناك صراعٌ عمودي عند المسلمين، إذ لا يتصور وجود الإرادة البشرية إلى جانب

الإرادة الإلهية. وبالمثل نراه يزعم أن المسلم لا يستطيع أن يواجه مجتمعه ويدخل في صراع معه وإلا عُدَّ كافرًا، أما اللون الثالث من ألوان الصراع فيستلزم -حسبما يقول- أن يكون شعورنا بالتاريخ شعورًا دراميًّا، على حين أن كل شيء لدى المسلم هو أمر حتمي مكتوب لا سبيل إلى تغييره، وبخاصة أنه يؤمن بأن تلك الحتمية حتمية عادلة، أما النوع الرابع فلا بد له من شعور الشخص بالفردية، التي لا وجودَ لها عند المسلم. وهذا الكلام موجود في كتابه (الإسلام والمسرح) الذي ترجمه عن الفرنسية الدكتور "وفيق الصبان". والناظر في هذا الكلام يدرك لأول وهلة ما فيه من سذاجة مضحكة، أو استبلاهٍ مدهشٍ، إذ يكفي أن ينظر الإنسان حوله في معظم بلاد المسلمين، وبالذات في البلاد العربية ليرى أن عندنا الآن مسرحًا وكتابًا مسرحيين ومسرحيات من كل نوع، رغم أننا لا نزال مسلمين كما كان أجدادنا مسلمين، فكيف يفسر "عزيزة" ومَن نقل عنه ذلك الكلام من المستشرقين هذا الوضع الذي يكذب كل ما زعمه وادعاه؟ وبالنسبة للنوع الأول ألا يمكن للصراع بين إرادة المشركين وبين دين الله مثلًا، أو بين شهوة الإنسان المسلم وخوفه من عقاب ربه. أما الصراع الثاني -صراع الفرد المسلم مع مجتمعه- فهو لم يتوقف يومًا، فقد نشذ الخوارج مثلًا على ذلك المجتمع ولم يكفرهم أحد، وبافتراض أنه كان هناك تكفير، فهل منعهم ذلك أو منع سواهم من التمرد والخروج؟ وحتى لو تحرَّج الكاتب المسرحي المسلم من طرق ذلك الموضوع، ألا يمكنه أن يؤلف مسرحيةً تقوم على الصراع بين شخص مسلم ومجتمعه غير المسلم، كما كان الوضع مثلًا أيام محاكم التفتيش في إسبانيا

قبل عدة قرون، وعندما كان المسلمون يسامون سوء العذاب ويقتلون؟ بل إنه ومن الممكن أيضًا أن يتخذ هذا اللون من الصراع مسارًا معاكسًا، إذ كان في المجتمع المسلم على عهد النبي منافقون ويهود، يعملون دائمًا على تقويد ذلك المجتمع، ومن ثم يمكن تأليف مسرحية تدور على الصراع الذي كان بين كل من هاتين الطائفتين من ناحية، والرسول ومعه جماعة المؤمنين من ناحية أخرى. كذلك كيف يقال: إن الدرب الثالث من الصراع لا يُتصور بقوة في مجتمع مسلم، والمسلم مطالب بأن يبذل دائمًا أقصى جهده؛ لتغيير المنكر، إن هذا معناه بكل بساطة أن الزعم باعتقاد المسلم بأن كل شيء حتمي ومقدم سلفًا، ومن ثم لا يجوز دِينًا أن يحاول تغييره، هو زعم سفيه، وهذا من الناحية الشرعية، وإلا فالمسلم ككل إنسان كثيرًا ما يسخط على وضعه، ويتمرد على الظروف التي خلقت هذا الوضع، ويعمل بكل ما في وسعه على تغييرها إلى الأفضل، وإلا فكيف نفسر كل ما بذله المسلمون على مدار تاريخهم الطويل من جهد لتحسين أحوالهم؟! إن القول بغير هذا هو في الواقع عمًى في المنطق والتفكير. أما تصوير المسلم على أنه هادئ النفس دائمًا وأبدًا، لا يعرف التناقضات الداخلية ولا الصراع بين مطامحه وقدراته، أو بين عواطفه وشعوره بالواجب مثلًا، فهو تصوير يدل على سطحية الفهم، ثم إن حصر الصراع في هذه الألوان الأربعة هو تضييق وضيق أفق؛ لأن ألوان الصراع لا تنتهي، فصراع بين الزوج والزوجة، وصراع بين الحماة وكَنتها، وصراع بين الطلبة وأستاذهم، وصراع بين حزب سياسي وآخر، وصراع بين دولتين، وصراع بين طبقتين، وصراع بين طائفتين، وصراع بين حاكم وشعبه، وصراع بين ذوي المهنة الواحدة، وصراع

بين الجيران، وصراع بين مذهبين أو فكرتين أو ذَوْقين، بل يمكن أن تقوم مسرحية دون صراع، فقد يؤلف أحدهم مسرحيةً تدور على التوتر الذي يصطلي ناره شخص ما في موقف من المواقف. وهناك سبب آخر في نظر "عزيزة" أيضًا، وهو الادعاء بأن اللغة العربية لغة متجمدة لا تلائم متطلبات الدراما، فهي حين تعبر عن تجربة ما، إنما تلجأ إلى القوالب التعبيرية المحفوظة ولا تهتم بنقل التجربة كما يعيشها صاحبها. وهذا كلام فارغ كله تنطع وتفاهة، فليست هناك لغة يمكن اتهامها بتلك التهمة، فضلًا عن أن تكون تلك اللغة بالذات هي اللغة العربية المشهورة بغناها، ومرونتها، وإبداعاتها الغزيرة المتنوعة، لكن قد يكون هناك في بعض العصور الأدبية طائفة من المؤلفين، يبرز في كتاباتهم القوالب المحفوظة على حساب غيرها من التعبيرات التلقائية، وهذا شيء آخر غير ما يتحدث عنه "عزيزة"، وهو موجود في كل اللغات والآداب في بعض الفترات التاريخية. وعلى أية حال، هل تغيرت اللغة العربية بحيث أصبحت الآن تتسع للإبداع المسرحي؟ إنها بكل يقين لم يطرأ عليها شيء جذري، فماذا يقول المتنطعون السطحيون في هذا؟ وهناك مَن يقول أن العقلية العربية نزَّاعة إلى التجديد لا التفصيل، هذا التفصيل الذي تستلزمه الدراما، وقائل هذا هو الدكتور "عز الدين إسماعيل"، ولا أعرف على أي أساس استند في دعواه العجيبة تلك. وكنت أودُّ لو أنه بدلًا من إرسال القول على هذا النحو المتعسف، قد ساق على دعواه تلك ما يلزمه من الأدلة والشواهد طبقًا لِمَا يقضي منهج العلم، لكنه لم يفعل، ومن ثم فرأيه بهذا الشكل لا قيمة له، وبخاصة أن العرب قد تركوا وراءهم شعرًا وقصصًا ورسائل ورحلات وتراجم ذاتية وغيرية، مملوءةً بالتفصيلات الحية،

والدقائق الملونة، والصور الواقعية، مِمَّا يعرفه مَن له أدنى تماس بمعنى فنهم الأدبي الغزير. ويجد القارئ رأي الدكتور "عز الدين إسماعيل" هذا في كتابه (قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر). وهناك مَن يرى أن السبب في عدم معرفة العرب لفن المسرح، يكمن في أن الإسلام قد منع نقل المسرح الإغريقي القائم على الوثنية وآلهتها، وعلى الصراع بين الآلهة والبشر، وهو رأي قال به الدكتور "محمد مندور" في كتابه (المسرح والأدب وفنونه)، وكذلك توفيق الحكيم في مقدمة مسرحيته "الملك أوديب"، ومعنى هذا أن المسلمين اطلعوا على المسرح الإغريقي، وما فيه من وثنية تخالف الإسلام، فنفروا من ترجمته، لكن لم يحدث أن ساق مندور أو الحكيم أو غيرهما أي شيء يدل على معرفة المسلمين بالمسرح الإغريقي، ولو كانوا عرفوا ذلك المسرح ما أخطأ كبار تراجمتهم وفلاسفتهم كـ"مته بن يونس" و"ابن رشد" و"ابن سينا"، في ترجمة مصطلح "التراجيديا والكوميديا" فقالوا: إن المقصود بهما المدح والهجاء. وللدكتور مندور تعليل آخر ذكره في كتابه (المسرح) ملخصه: أنه قد قام بالمقارنة بين الشعر العربي القديم وأشعار الأمم الأخرى، فوجد أن ذلك الشعر يتميز بخاصيتين كبيرتين هما؛ الخطابية، والوصف الحسي، وهاتان الخاصتان لا تصلحان للدراما التي تحتاج إلى الحوار المختلف النغمات والخطابة الرنانة، وإلى خرق الحياة الشخصية، وتصوير المواقف والأحداث لا مجرد الوصف الحسي كما كتب، ويحق لنا أن نتساءل إزاء هذا الغلو الخطير: متى! وكيف! وأين! قام مندور أو غير مندور بمثل تلك المقارنة؟ وما عدد اللغات التي كان يعرفها سيادته؟

إنه لم يكن يعرف إلا الفرنسية وإلا الإنجليزية إلى حد ما، فهل يستطيع مَن هو في مثل وضعه هذا أن ينهض بتلك المقارنة التي تحتاج إلى طوائف من النقاد ومقارنين للآداب تعرف كل لغات العالم، وتجمع أشعار العرب ونظيرتها لدى الأمم الأخرى، وتعكف على كل هذا إلى أن تخرج بما تضع عليه يدها من نتائج؟ وأين الدكتور مندور من هذا كله؟ ثم مَن قال: إن الشعر العربي جميعه شعر خطابي ذو وصف حسي؟ إنه كأي شيء في العالم فيه الخطابية، وفيه الهمس والنجب، وفيه الانعزال عن الناس، وفيه الانغمار في الحياة والانشغال بمشاكلها، وفيه الوصف الحسي وفيه الوصف الباطني، وفيه التأمل الفكري وفيه التحليل العاطفي، وفيه القصص والحوار. إن "معلقة ابن كلثوم" مثلًا تغلب عليها "القعقعة" وهي قعقعة مطلوبة في السياق الذي قيلت فيه ولا يصلح له غيرها، وفيها مع ذلك الإبداع الفني على أحسن ما يكون، يعرف ذلك كل من قرأ تلك المعلقة البديعة، أما قصائد جميل وقيس وكُثير فكلها همس واستبطان ذاتي، وضراعة يائسة، وعذاب أليم، يتجرعه صاحبه في عجز، ولدينا قصيدة "مالك بن ريب" في رثائه لنفسه، تلك القصيدة التي قلما يتصور الإنسان أن لها شبهًا في أشعار العرب أو الأمم الأخرى، ولدينا شعر الفرزدق في الحديث عن الذئب، وشعر جرير في بكاء رفيقة عمره، ولدينا زهديات أبي العتاهية، وشعر أبي نواس القصصي في مغامرات له، والشراب، ولدينا قصيدة ابن الرومي في جمال صوت وحيد المغني، وقصيدته في رثاء ابنه محمد، وأشعاره في وصف الطبيعة، وعلى رأسها عينياته الشهيرة، ولدينا قصيدة

المتنبي في الحمى، وقصيدته في خولة، وميميته في سيف الدولة، ولدينا رثاء المعري في أبي حمزة الفقيه، ولدينا ندميات ديك الجن، وأبيات ابن خفاجة في الجبل، وقصائد البهاء الزهير، وبردة البصيري. بل إن القصيدة الوحيدة لكثيرًا ما تجمع بين القعقة والنجوى في قَرَنٍ واحد، كما هو الحال في "معلقة عنترة" مثلًا، حيث نسمع صوته مجلجلًا يحذِّر من يفكر في ظلمه، ويهدده بالويل والثبور، وعظائم الأمور، ليأتينا عقب ذلك صوته الهامس الجميل متحدثًا عن حصانه، وشكواه وعبرته وتحمحمه، جراءَ وقع الرماح في صدره، والذي لو كان يعرف كيف يتكلم لكلمه بلغة فصيحة مبينة كالتي يتكلمها هو، أو منتشيًا بغناء الذباب في الروضة فرحًا بالخضرة والنضرة، غِرْبَ هطول المطر. أما ما يقوله مندور فهو كلام في الهواء لا يثبت شيئًا ولا يدل على شيء، سوى أن صاحبه لا يبالي بما يقول، وهو مسلك خطير. وكثير من الشعر العربي القديم يفيض بالقصص والحوار، الذي يعكس نفسية كل متكلم، كما في معلقة "امرؤ القيس" ولامية الحطيئة في نزول ضيف على أسرة معدمة منعزلة عن الناس والحياة في البيداء لا تملك ما تضيفه به، وأشعار ابن أبي ربيعة والعذريين، ورائية بشار الفاجرة، وكثير من خمريات أبي نواس، وقصيدة البوصيري التهكمية، التي يشكو فيها لأحد المسئولين بالدولة فقره، وحاجة أهل بيته إلى التوسعة في النفقة، حتى يعيشوا كسائر الناس، ونونية صفي الدين الحلي التي يتغنَّى بها محمد عبد الوهاب، وكلها قائمة على الحوار الرشيق المطرف بين الشاعر وحبيبته.

إن الدكتور مندور حين يقول ما قال، إنما يوحي بأنه لا علم له بالشعر العربي، إذ لا يمكن أن يصدر قوله ذاك عن رجل يعرف هذا الشعر، ولو معرفةً بسيطهً، وهو أمر لا يليق. والواقع أن حسب القضية الخاصة بعدم معرفة العرب بالمسرح، هو أمر ليس من السهولة بمكان، فقد مضى كل شيء بغير رجعة، ولم يعد هناك عرب يمكن أن نسألهم عن السر في ذلك مثلًا، فأصبح البحث في المسألة كأنه بحث فيما وراء الطبيعة، وربما كان لصعوبة ظروف المعيشة التي كان يعيشها العرب دَخْل في ذلك، إذ لم تكن تدع لهم الفرصة لالتقاط الأنفاس والاهتمام بمثل ذلك الفن المعقد، فقد كانوا في حل وترحال؛ جريًا وراء الماء والكلأ، وكانت المعارك تشتعل بينهم لأتفه الأسباب، كما كانت النزعة الفردية متسلطة عليهم، اللهم إلا فيما تمليه عليه الحياة إملاءً لا معدى عنه كالحرب وتنظيم القوافل مثلًا. والمسرح يحتاج إلى جهود في الإخراج والتمثيل وإعداد المسرح ومستلزماته، وفوق هذا فالتمثيل يقتضي الاختلاط بجانب النساء، ولا أظن النفسية العربية في ذلك الوقت كانت تسيغه، أو تسيغ قيام الرجل بدور المرأة على المسرح، ثم إن عدم وجود مواد سهلة ورخيصة للتدوين وهذا لو أغضينا الترف عن انتشار الأمية فيهم إلى مدى بعيد، من شأنه أن يكون عقبة دون ظهور المسرح، إذ تحتاج المسرحية الواحدة في كتبابتها إلى عشرات الصفحات. هذا مجرد اجتهاد مني لا أدري مدى صوابه أو خطأه، لكن يبدو لي أنه لا يخلو من بعض الوجاهة، وهو جهد مُقل.

وعلى أية حال، فقد عرفت البلاد العربية فن المسرح بدأً من دخول الفرنس ي ين مصر في أواخر القرن الثامن عشر، إذ أقاموا بعض المسارح الخشبية للترويح عن جنودهم وضباطهم، وكان بعض المصريين يسترقون النظرَ من خلال الأخصة التي بين تلك الألواح، وإن كان ذلك كله قد انقضى بخروج أولئك المجرمين من مصر أوائل القرن التاسع عشر، ويقول المؤرخون: إن "مارون النقاش الشامي" هو مؤسس المسرح العربي، وربما سبقه "يعقوب صنوع" الملقب بأبي نظارة إلى هذا، وكان "مارون" قد زار إيطاليا، واطلع على فن التمثيل هناك فأعجب به إلى حد بعيد، وفكر في نقله إلى بلاده، ومعروف أن للمتقدم تأثيرًا على المتأخر لا يقاوَم بسهولة، إذ المتأخر ينظر إلى المتقدم بعين الانبهار والإجلال، وقد يكون ما يفعله المتقدم أمرًا سيئًا يخجَل منه، إلا أن للمتأخر رأيًا آخرَ في المسألة يجعله يحرص على تقليده؛ تصورًا منه أنه بهذا يعبر حاجز التخلف ويلحق بالمتقدمين. ولا ننسى الأثر الخطير الذي تتركه كتابات المستشرقين ومَن يتابعونهم من أبناء جلدتنا في هذا الموضوع، تلك الكتابات التي تعمل على بذر بذور الشك في قيمة الأدب العربي، لخلوه من فن المسرح قديمًا، وتصويره بصورة الأدب المتخلف عن نظيره في أوربا، مما يدفع العرب إلى العمل على إدخال هذا الفن في أدبهم، حتى لا يكون أقل من الآداب الأوربية التي تعرف هذا الفن منذ دهر طويل. ولقد مر بنا عينة من هذه الكتابات أثناء بحثنا عن الأسباب التي يُظَن أنها حالت بين الأدب العربي القديم ومعرفة فن المسرح، إذ وجدناها تصب في خانة العيب على اللغة والشخصية العربية، بما يرسخ أنهما لم تكونَا مؤهلتين لأن تحظيا بهذا الشرف.

ومن بين رواد هذا الفن في مصر "سليم النقاش" الذي أنشأ مسرحًا في الإسكندرية عام 1876م، وتلا ذلك ظهور فرق شامية أخرى منها: فرقة أبي خليل قباني، وفرقة يوسف خياط، وفرقة إسكندر فرح، ثم ظهرت فرق مصرية صميمة كفرقة سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض، والفرقة التي كونها محمد تيمور، وفرقة عبد الرحمن رشدي، وفرقة نجيب الريحاني، وفرقة يوسف وهبي، وفرقة فاطمة رشدي، ثم أنشئ معهد التمثيل بالقاهرة في أوائل الثلاثينيات من ذلك القرن، وبعده بعِدة سنوات تكونت "الفرقة القومية"، كما أرسلت البعثات إلى البلاد الغربية المختلفة؛ لتعلم هذا الفن الجديد من منابعه، وتُرجمت الأعمال المسرحية كتب للنقد المسرحي، والكتب التي تؤلف لهذا الجنس الأدبي الجديد. وأدخل الأدب المسرحي في مقارنة أقسام اللغات، ومنها قسم اللغة العربية، بل إن بعض الكليات والمعاهد قد افردت قسمًا خاصًّا بالمسرح، وهناك أيضًا المجلات المتخصصات في هذا الميدان، ثم تتابع المطر واستمر مريره في أرض الكنانة، وفي بلاد العروبة كلها تقريبًا. ومن أهم المؤلفين المسرحيين في مصر: أحمد شوقي، وعزيز أباظة، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وفاروق جويده، ودكتور أنس داود، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وأحمد سويلم، وهؤلاء من أهل المسرح الشعري، وتوفيق الحكيم، محمود تيمور، وعلي أحمد باكثير، ومحمود دياب، وألفريد فرج، وهم من كتَّاب المسرحيات النثرية، وكل هؤلاء يكتبون بالفصحى وأعمالهم معروفة للجميع.

أما في سوريا فلدينا "مصطفى الحلاج" ومن مسرحياته (القتل والندم) واحتفالًا بعيدهم الخاص في برستن، و (الدراويش يبحثون عن الحقيقة)، و (سعد الله والنوس) ومن مسرحياته (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)، و (الملك هو الملك)، وممدوح عدوان ومن مسرحياته (المخاض)، ومحاكمة الرجل الذي نحارب)، و (كيف تركت السيف)، و (ليل العبيد)، و (هَملت يستيقظ متأخرًا)، وعلي عُقلة عرسان ومن مسرحياته (الشيخ والطريق)، و (زوار الليل)، و (الغرباء)، و (السجين رقم 95). وفي لبنان نذكر ميخائيل نعيمة، ومن مسرحياته (الأباء والبنون)، ويوسف الحايك ومن مسرحياته (عاقبة الظلم)، ورشاد دارغوس ومن مسرحياته (سيعودون)، وسهيل إدريس ومن مسرحياته (زهرة من دم)، وفي فلسطين برهان الدين العيوشي ومن مسرحياته (وطن الشهداء)، ومحي الدين الصفدي ومسرحيته (كليب)، ومحمود محمد بكر ومسرحيته (فلسطين)، وهارون هاشم رشيدي ومسرحيته (السؤال)، وسميح القاسم ومسرحيته (القرقاج)، وغسان كنفاني ومسرحيته (الباب)، ومَعين بسيسو ومسرحيته (شمشون ودليلة)، وفي الأردن جمال أبو حمدان ومن مسرحياته (الجراد)، و (السيف)، وفي العراق يوسف العامر ومن مسرحياته (المفتاح)، و (الخرابة)، ونور الدين فارس ومن مسرحياته (البيت الجديد)، و (الغريب)، و (جدار الغضب)، وعبد الملك نوري ومن مسرحياته (خشب ومُخمل)، وقاسم محمد ومن مسرحياته (بغداد الأزل بين الجد والهزل)، و (شخوص وأحداث من مجلة التراث). وفي الكويت سعد الفرج ومن ومسرحياته (عشت وشوفت)، و (دقت الساعة)، وصقر رشود ومن مسرحياته (الطيب والغاز)، وفي البحرين إبراهيم العريض

ومسرحيته (وا معتصماه)، وعبد الرحمن المعاودة ومن مسرحياته (الأمير سيف الدولة)، و (الأمير غسان)، وحسن الهرمي ومن مسرحياته (السماؤل بن عادياء)، وسلطان سالم ومن مسرحياته (نادي المتخرجين). وفي السودان خالد أبو الروس ومن مسرحياته (تاجوج والمحلق)، و (خراب سوبا)، و (الملك نمر)، و (عائشة بين صديقين)، وأمين القوم ومن مسرحياته (فتاة البادية). وفي ليبا عبد الله القوري ومن مسرحياته (الجانب المضيء)، و (الصوت والصدى)، وعبد الكريم خليفة الدَّناع ومسرحياته (دواء الرفض) و (السقوط)، ومحمد عبد الخليل القنيدي ومسرحياته (الأقنعة)، والأزهر أبو بكر حُميد ومن مسرحياته (وتحطمت الأصنام)، و (يوم الهاني)، وأحمد إبراهيم الفقيه ومسرحياته (هند ومنصور)، و (زائر المساء)، و (صحيفة الصباح)، وعبد الرحمن حقيق ومسرحياته (الزنجي الأبيض). وفي تونس الحبيب أبو الأعراس ومسرحياته (مراد الثالث)، وعز الدين المدني ومسرحياته (ثورة صاحب الحمار)، و (رحلة الحلاج)، و (ديوان الزنج)، و (الغفران)، و (مولاي السلطان حسن الحفصي) وسمير العبادي ومن مسرحياته (هذا فورست الجديد)، و (رحلة السندباد). وفي الجزائر الكاتب ياسين ومسرحياته (محمد)، و (خذ حقيبتك)، وكاكي ولد عبد الرحمن ومسرحياته (أفريقيا قبل السنة الأولى)، والدكتور الجنيدي خليفة ومن مسرحياته (في انتظار الفيلم الجديد). وفي المغرب أحمد الطيب العِلج ومن مسرحياته (الشهيد)، والطيب الصديقي ومن مسرحياته (وادي المخازن)، و (هني إسماعيل)، وعبد الكريم برشيد ومسرحياته (قراقوش)، و (عُطَيل)، و (الخيل والبارود)، و (الناس والحجارة).

نماذج من المسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي.

نماذج من المسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي وبالنسبة للمسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي، يمكننا أن نأخذ مثالين عليها: الأول: مسرحية توفيق الحكيم (الملك أوديب)، والثاني: مسرحية صلاح عبد الصبور (مأساة الحلاج). فأما مسرحية الحكيم فهي إعادة صياغة لمسرحية (سوفوكليس) الكاتب المسرحي الإغريقي المسماة (أوديب ملكًا)، وقد حظيت مسرحية (سوسفوكليس) من توفيق الحكيم باهتمام بالغ، حتى لقد استغرق في كتابة صفحاتها القليلة نحو أربع سنوات، والسبب في ذلك -كما يقول الحكيم نفسه- هو صعوبة محاكاة هذه المسرحية التي فشل عشرات الكتاب الكبار من الأوربيين أنفسهم قبله في تقليدها، وتحويلها إلى مسرحية عصرية، وتضمينها معانيهم هم دون الإخلال بقيمة العمل الفني. والمحاكاة في المسرح فن شهير اتبعه كتاب أوربا من قبل، حيث يأخذون عملًا إغريقيًّا قديمًا فيحتفظون بشكله الخارجي مع تضمينه أفكارهم الخاصة، ولقد حاول الحكيم تحويل تلك المسرحية الوثنية الخرافية بالمعاني الإسلامية. ومسرحية (أوديب) بسيطة في أحداثها وشبه معروفة، إذ تكتب الآلهة على "أوديب" أن يتزوج أمه بعد أن يقتل أباه دون أن يعرف أنه أبوه، ثم يسمل عينيه في محاولة للتكفير عن ذلك الذنب حين تتكشف له الحقيقة، وقد حدث كل هذا رغم أنه قد قيل له قبلًا: إن هذا كله سوف يقع منه، مما جعله يترك وطنَه، ويهم بعيدًا عنرر

أبيه وأمه؛ كي لا يتورط فيما قال العرَّاف إنه سوف يقع منه، وهو ما لم يجده نفعًا بَتاتًا، إذ المكتوب لا مهرب منه. وتدور أحداث القصة الأسطورية بأرض مصر القديمة، إذ يقال: إنه كان هناك ملك اسمه "لايوس" يحكم مدينة طيبة، وكان هذا الملك لا يولَد له، وكان له عدد من العرافين قد أخبروه بأنه سوف يولد له رغم ذلك ولدٌ، إلا أن هذا الولد سوف يقتله ويتزوج أمه "جوكاستا" زوجة الملك، وعندما وضعت "جوكاستا" ولدًا، أشار العرافون عليه بالتخلص منه؛ حتى لا يكون هلاكه على يديه، ومن ثَم أمر الملك أحدَ مستشاريه بأن يحمل الطفل ويقتله في الصحراء بعيدًا عن المدينة، لكن الرجل أشفق على الطفل، فلم يقتلْه، بل تركه عند راع من الرعاة فرِحَ به فرحًا شديدًا، إذ لم يكن ينجب أطفالًا، وهناك عاش "أوديب" مع الرعاة حياة قاسية خشنة لا يعرف أبًا غير ذلك الراعي. وفي ذات يوم مرض الراعي فخرج "أوديب" بالأغنام وحده، فإذا به يرى موكبًا عظيمًا أمامه، وإذا بصاحب الموكب يطلب منه أن يفسح الطريق، لكنه رفض، وعندئذٍ عرَض عليه القائد المبارزة، فتقاتلَا لينتصر "أوديب" عليه ويقتله، وهنا شرع ضميره يعذبه تأنيبًا، إذ كيف يقتل رجلًا شيخًا؟! ثم زاد إحساسه بالذنب ففكر في معاقبة نفسه، فترك الأغنام، وهام على وجهه في الصحراء، وظل سائرًا إلى أن قادته قدمه إلى مشارف المدينة، فوجد على بوابتها أناسًا يعرضون على مَن يقتل "سفينكس" الواقف على بوابة مدينتهم، ويخلصهم منه ومن شره، أن يصبح ملكًا عليهم، وهذا "سفينكس" حيوان له رأس امرأة، وجسم أسد، وجناح طائر، يقسوا على أهالي طيبة ويسومهم سوءَ العذاب.

وكانت الآلهة قد أرسلته إلى طيبة، ليسأل الناس عن بعض الألغاز، ومَن لم يحل تلك الألغاز يقوم بقتله، وقد دفع هذا الوضع "كربون" خليفة الملك "لايوس" أن يعلن للناس بأن كل من يخلص البلد من محنتها التي يسببها لها هذا المخلوق الشرير، من حقه أن يتولى العرش، ويتزوج أرملة "لايوس" الملكة الجميلة "جوكاستا". وعندما دخل "أوديب" المدينةَ قابله "سفينكس" وسأله: ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع صباحًا، وعلى اثنتين ظهرًا وعلى ثلاث مساءً؟ وكان جواب "أديب" أنه الإنسان، فهو في طفولته يحبو على أربعة، وعندما يكبر يمشي على اثنتين، وعند الشيخوخة يستعين بالعصا إلى جانب قدميه، ومن ثم يكون مشيه على ثلاث. وهناك روايتين عن مصير "سفينكس" بعد سماع الجواب، فالأولى تقول: إنه انتحر، والأخرى: إن "أوديب" قتله، ونتيجةً لذلك الجميل نصبه أهل المدينة ملِكًا عليهم، وتزوج الأرملة "جوكاستا"، وظن أهل المدينة أن الكوارث قد ذهبت عنهم بعد أن صار ملكهم شابًا قويًّا، إلا أن اللعنات ظلت تتوالى على المدينة، وازداد حالها سوءًا، فاستدعى الملك "أوديب" العرافين، لكنهم لم يتوصلوا إلى الحقيقة، إلى أن أتى رجل كبير السن وطلب الأمان قبل أن يتكلم، فأعطوه ما أراد، وعندئذٍ أمر الشيخُ "أوديبَ" بأن يخلع ثيابه، ففعل، فنظر الشيخ إلى ظهره قائلًا: هذه علامة تدل على أنك أنت ابن "لايوس"، وأنك أنت قاتل أبيك وزوج أمك، فشعر "أوديب" بأنه ارتكب ذنبًا إدًّا لا بد له من كفارة حتى ترضى الآلهة عنه، ومن ثم فقأ عينيه وغادر المدينة إلى الصحراء؛ عقابًا لنفسه على فعلته، وعلى مخالفة أوامر الآلهة.

ولقد حاول المؤلفون الأوربيون تحويل المسرحية ففشلوا فشلًا ذريعًا، كما حاول ذلك توفيق الحكيم المسلم، الذي حكم الناقد السويسري "ألويس دون ماريناك" أنه قد فشل في عمله أيضًا، رغم ما في محاولته من جمال، وهو ما أقر به الحكيم عن نفسه كذلك. وتكمن المشكلة في أن الخرافة الوثنية لاصقة في مسرحية "سوفوكليس"، فلا يمكن إبعادها إلا بتشويه العمل، والخروج عن المحاكاة إلى شيء آخر، وقد أبعد أديبنا المصري كثيرًا من عناصر الأسطورة عن مسرحيته؛ لأن المسلم لا يعتقد أن الإنسان مجبر جبريةً مطلقةً كما هو الحال في مسرحية الأديب الإغريقي، كما أن الإسلام يرفض تمامًا فكرة الإله القاسي، الذي يكتب على عبده الشقاءَ اللازمَ من قبل أن يولَد، وعلى نحو لا يمكنه أن يتفاداه مهما صنَعَ، وفوق هذا فالمسلم لا يعتقد أن أحدًا من الخلق يمكنه أن يعلم الغيب أبدًا، على عكس ما تقوله المسرحية الإغريقية من أن العرَّاف كان يعلم ما سوف يقع لـ"أوديب" من مصائب، وأنه قد أخبره بذلك، وأن "أوديب" قد حاول بكل ما أوتي من قوة تجنب الكارثة، إلا أن محاولاته قد ضاعت عبثًا. بل إنه كلما كان أوغل في البعد يقترب رغمًا عن أنفه مما حاول الابتعاد عنه وتفاديه. ومما لجأ إليه توفيق الحكيم من تحويلٍ في المسرحية كي تتفق مع العقيدة الإسلامية إلغاءه النبوءة التي عرف منها "أوديب" أنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، والتي عمل كل ما في وسعه كي يتجنب آثارها، لكن ضاعت جهوده كلها رغم ذلك سدًى كما نعرف، وقد أثبت توفيق الحكيم رأي الأستاذ السويسري ورده هو عليه في آخر المسرحية المذكورة.

أما مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور، فتعالج قصة مقتل الحسين من منصور المشهور بالحلاج في بغداد عام 309 للهجرة، بعد محاكمته أمام ثلاثة قضاة، وتتخذ من شخصية هذا الشاعر الصوفي مناسبةً لطرح قضية الالتزام، كيف يا ترى يلتحم الأديب بمشكلات عصره؟ وهل يقتصر على تسجيل رأيه؟ أو ينزل إلى ساحة العمل فيرتكب العنفَ من أجل التغيير؟ وقد كتب الدكتور حمدي السكوت في مجلة "فصول" في أكتوبر سنة 1981م مقالًا عن صلاح عبد الصبور في اللغة الإنجليزية، جاء فيه عن موضوعنا: تكاد (مأساة الحلاج) أن تستأثر بكل ما كتب من مقالات حول صلاح عبد الصبور -يقصد باللغة الإنجليزية- ربما لأنها ترجمت ونشرت بالإنجليزية منذ تسع سنوات، ومن ثَم فقد وَجَد الدارسون الناطقون بالإنجليزية، والأجانب عمومًا، نصًّا متاحًا لعمل كامل يعد من أفضل أعمال الشاعر، فنشروا عنه مقالات عديدة. ويستأثر مترجم المسرحية الدكتور خليل سمعان بنصيب الأسد مما كتب من مقالات في الإنجليزية، فقد نشر في مجلة "دراسات في الأدب المقارن" " Comparative Liteaure St u dies" مقالًا بعنوان: " T.S. Eliot,s Influence on Arabic Poetry and Theatre": " أثر تي. إس. إليوت على الشعر والمسرح العربيين". ثم نشر مع الترجمة مقدمةً عنوانها: "تي. إس. إليوت وصلاح عبد الصبور: دراسة في العلاقات الأدبية بين الشرق والغرب". ثم نشر في "المجلة العالمية بدراسات الشرق الأوسط" مقالين؛ أولهما عن: " Drama as a v ehicle of Protest in Nasir,s Egypt": " المسرحية باعتبارها وسيلة للاحتجاج في مصر في عهد عبد الناصر" والثاني بعنوان: " Islamic Mysticism in Modern Arabic

Poetry and Dr a ms " التصوف الإسلامي في الشعر العربي الحديث والدراما ". أما المقال الذي نشره الدكتور سمعان في " International Journal of M. E. S" بعنوان: "المسرحية باعتبارها وسيلةً للاحتجاج في مصر في عهد عبد الناصر"، فيقرر فيه الكاتب أن صلاح عبد الصبور -وهو واحد من أبرز كتاب المسرح العربي المعاصر الذين عاشوا فترة الستينيات في القاهرة- قد عانَى ما عاناه المثقفون المصريون في تلك الفترة، واختار عن وعي حياة الحلاج واستشهاده؛ ليطلق صرخةً من القلب ضد ما يعتبره هو فسادًا سياسيًّا. ثم يقدم الكاتب ملخصًا سريعًا للمسرحية، مبرزًا أن صلاح عبد الصبور نشر المأساة -والعنوان مختار عن عَمْد، يقصد (مأساة الحلاج) - خارج وطنه، وقد قُوبل نشرها بالترحاب كقمة الشجاعة الاشتراكية. والكاتب يرى أيضًا هذا الرأي، ويروي أن صلاح عبد الصبور قد حاول أن يصف الأوضاع بدراسة وبلاغية ورصانة، واستخدم الحلاج ليتحدث نيابةً عنه حول الفقر على النحو التالي: فقر الفقراء جوع الجوعَى في أعينهم تتوهج ألفاظ لا أوقن معناها أحيانًا أقرأ فيها ها أنت تراني لكن تخشَى أن تبصرني لعن الديان نفاقك

أحيانًا أقرأ فيها في عينك يذوي إشفاق، تخشى أن يفضح زهوك ليسامحك الرحمن قد تدمع عيني عندئذ .. قد أتألم أما ما يملأ قلبي خوفًا، يضني روحي فزعًا وندامة فهي العين المرخاة الهدب فوق استفهام جارح أين الله؟؟ والمسجونون المصفودون يسوقهم شرطي مذهوب اللب قد أشرع في يده سَوْطًا لا يعرف مَن في راحته قد وضعه مَن فوق ظور المسجونين الصرعى قد رفعه ورجال ونساء قد فقدوا الحريةَ اتخذتهم أربابًا من دون الله عبيدًا سخريًّا ثم يقتبس الكاتب أبياتًا أخرى كثيرة يرى أن بعضها يدين السلطة، وبعضها يدين المحاكمة ونظام الحكم المفلس .. وهكذا.

أما المقال الثاني الذي نشر بتاريخ لاحق في نفس المجلة في نوفمبر 1979 حول "التصوف الإسلامي في الشعر العربي والدراما"، فيبدؤه الكاتب بمقدمة عن التصوف، وعن تاريخ الحلاج. ثم يُتبعها بتقديم صورة الحلاج في ديوان البياتي "سفر الفقر والثورة" وصورته في (مأساة الحلاج) مكتفيًا تقريبًا بأشعار كل من الشاعرين، ومبررًا ذلك بقوله: في هذه الدراسة يُسمَح للفنانين أن يعرضَا بنفسيهما وجهة نظرهما، فالكاتب -يقصد نفسه- يقوم فقط بدور المرشد الذي يقدم المتكلمين إلى المسرح، وينبه إلى الملامح البارزة لما يقولون، ويوضح المغزَى، ويلخص المحتوى كله. وبعد أن يلاحظ أن القراء عادةً ما يضيقون بالاقتباسات الطويلة، ويتخطونها في قراءتهم، يقرر أن هذا لو حدث بالنسبة لهذه الدراسة فسيكون خطأً فادحًا؛ لأن المقتبسات هنا هي الدراسة. ومنذ أن ترجم الدكتور خليل سمعان (مأساة الحلاج) وهو يعتقد أن صلاح عبد الصبور قد تأثر في كتابتها بمسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية)، وذلك واضح حتى في العنوان الذي اختاره للمسرحية بعد ترجمتها وهو (جريمة قتل في بغداد) " Murder in Baghdad" لكي يثير انتباه القارئ منذ الوهلة الأولى إلى مسرحية إليوت " Murder in the Cathedral". وتوضح مقدمة الدكتور سمعان للترجمة الإنجليزية: أولًا: أن أي علاقة بين المسرحيتين لا يمكن أن تقوم على المصادفة أو توارد الخواطر؛ نظرًا للاختلاف الشديد بين الثقافتين اللتين ينتمي إليهما الشاعران. ثم يقرر الكاتب أنه سيدرس أثر إليوت على صلاح عبد الصبور من خلال ربط مسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية) بمسرحية صلاح عبد الصبور (مأساة

الحلاج)، ويقدم عرضًا موجزًا لتاريخ حياة الحلاج، موضوع المسرحية، لينتقل من ذلك إلى عرض أحداث المسرحية في إيجاز. ثم يقول: إن التشابه بين مسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية) ومسرحية عبد الصبور (مأساة الحلاج) تشابه يلفت النظر، فكلتاهما كتبت في الشعر الحر، وفي فصلين، وكلتاهما تتناول أحداثًا تاريخيةً ودينيةً تشكل جزءًا حقيقيًّا من الثقافة التي ينتمي إليها كاتبها، وكلا الشاعرين يضمن النظم مقطوعات جد بليغة من النثر، وهو نثر يثير التقاليد الدينية الخاصة بكل منهما. والدافع الحقيقي للاستشهاد في كلتا الحالتين مبهم: في مقدمة المسرح يقف الفرسان في مسرحية إليوت، وفي مسرحية عبد الصبور تقف المجموعة التي تصيح مطالبةً بصلب الحلاج، ومن خلفهم قف إنسان غير واضح المعالم، وهو الملك هنري في مسرحية إليوت، وقضاة صلاح عبد الصبور الذين يدينون الحلاج، حيث يقدم إليوت مسألة استعداد "بيكت" للسعي إلى الموت الذي يلوح أمامه، ويثير صلاح عبد الصبور مسألةً مشابهةً من خلال المريدين الذين يزعمون أنهم قد تسببوا في استشهاد الحلاج بِناءً على رغبته. وهكذا، فإن المسرحيتين في أبعد مستوًى لهما ترتكزان على إرادة الاستشهاد. ولكن كلا القتيلين مع ذلك متقبل لمصيره بابتهاج، يقول "بيكت": إن كل شيء يسير نحو إنجاز بهيج، ويسعى الحلاج إلى متعة منح حياته لله. ويوضح سمعان أن الفرق بين موقف الرجلين - المتمثلة في تطوع الحلاج بمنح حياته لله من جهة، وقناعة "بيكت" بتنفيذ المقدور من جهة أخرى- هذا الفرق ناجم عن الاختلاف بين المسرحية الأرثوذوكسية وبين التصوف الإسلامي. موضحًا الفروق بينه -أي: بين التصوف- وبين الإسلام كدين. ثم يشير سمعان في ختام مقاله إلى أن

المادة التي يستخدمها عبد الصبور، وإن كانت تختلف كثيرًا عن مادة إليوت، فمن الواضح أنه قد وجد في الألوان التكتيكية عند إليوت ما أفاده في معالجة مادته هو، سواء من حيث البناء، وفي عدد الفصول، وفي استخدام الكورس، أو من حيث المضمون في غموض الدافع وراء الحدث، وتأثير إليوت يمكن ملاحظته في تفاصيل أخرى، وفي بعض أعمال عبد الصبور الأخرى. ولي تعليق على اتخاذ صلاح عبد الصبور من الحلاج رمزًا على المصلح الاجتماعي والسياسي في مسرحيته -التي نحن بصددها- ألا وهو أن الشاعر قد حمل الحلاج الذي نعرفه ما لا تحتمله شخصيته، إذ هو في الواقع ليس سوى صوفي خارج عن العقيدة الإسلامية، فقد كان يقول بالحلول والاتحاد، وما إلى ذلك من الأفكار التي لا يقرها الإسلام، ومن كلامه قوله: أين الحق؟ ما في الجبة إلا الله وقوله أيضًا: أنا مَن أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا كما أن له كلامًا عن الناسوت واللاهوت ينفر منه الضمير المسلم نفورًا شديدًا، ولا يمكن أن يسمعه في هدوء، يقول: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدَا محتجبًا ظاهرًا ... في صورة الآكل الشارب ويقول أيضًا:

مُزجت ْ روحي وروحك كما ... تمزَج الخمرة بماء الزلال ولم يعرف عنه يومًا أنه كان مصلحًا أو كان يهتم بشيء من هذا، بل كان يتظاهر أمام كل إنسان بما يوافق معتقده، فضلًا عما كان يمارسه من شعبزات ومخاريق، وهناك شهادة لزوجة ابنه لا تجعلنا نستريح إلى ذلك الرجل، إذ يبدو أنه كان يطمع في النيل من عِرْضها، وفي عصرنا هذا -للأسف- هناك أدباء ينتمون للإسلام يختارون رموزهم الأدبية من أمثال الحلاج، الخارجين على الدين، جاعلينهم أبطالًا، مع أنهم لم يكونوا من البطولة ولا كانت البطولة منهم في شيء. ولا أدل على ذلك من أن الحلاج كان يرتعد من فكرة الموت، فكان يستعطف قضاته، قائلًا: اللهَ اللهَ في دمي، فكيف يقال: إنه كان يسعى إلى الاستشهاد والموت في سبيل مبادئه الاجتماعية والسياسية التي قام يدعو إليها!!. ومن هنا فإن ما كتبه بعض النقاد عن تلك المسرحية، من أن صلاح عبد الصبور قد توقف طويلًا أمام شخصية الحلاج، وقرأ ما كتبه القدامَى والمستشرقون عن هذه الشخصية، وآثَرَ أن يبعثها بعثًا جديدًا في صورة الثائر الديني، والمصلح الاشتراكي، فقدم لنا بطلًا قضيته الأساسية هي محاربة الظلم والفقر بمعناهما الروحي والمادي، ومن ثَمَّ ركز على الجوانب التي تجعل منه رجلًا ربانيًّا يكره الطغيان وينشد العدل، وأنه بما أعطاه الله من نور المعرفة كان يعرف دوره كالثائر الديني، فقام بخلع الخِرقة التي تعني تجرد الصوفي من متاع الدنيا ونزل إلى الناس، واعيًا أن الصوفي الذي يرى إرضاء الله بشعار الخرقة سيرضيه أيضًا بخلعها في سبيل الدفاع عن مصالح عباده.

هذا الكلام الذي كتبه بعض النقاد لا يقنع العقل أبدًا، إذ هو يختلف تمامًا عن الحلاج الذي نعرفه من واقع التاريخ الحقيقي -حسبما وضحنا- كما أن قول صلاح عبد الصبور على لسان الحلاج: إنه قد لبس الخرقةَ؛ إرضاءً لله سبحانه، وإقرارًا له بالعبودية، هو شيء لا يقره الإسلام، فالإسلام لا يعرف شيء اسمه الخرقة، فضلًا عن أن تكون تلك الخرقة دليلًا عن إقرار لابسها بعبودية الله تعالى، وفوق ذلك فقول عبد الصبور على لسان ذلك الصوفي المتمرد، موجهًا الخطاب إليه -سبحانه وتعالى-: يا رب اشهد هذا ثوبك وشعارُ عبوديتنا لك وأنا أجفوه أخلعه في مرضاتك يا رب اشهد وهو كلام غير مفهوم وغير مقبول عندنا نحن المسلمين، إذ كيف يتقرب العبد إلى ربه -عز وجل- بخلع دليل عبوديته له -سبحانه- وجفائه إياه؟ إن هذا منطق البهلوانين لا منطق المؤمنين العقلاء. يقول الحلاج: تعني هذه الخرقة! إن كانت قيدًا في أطرافي

يلقيني في بيتي جنب الجدران الصماء حتى لا يسمع أحبابي كلماتي فأنا أجفوها أخلعها يا شيخ إن كانت شارة ذلٍ ومهانةٍ رمزًا يفضح أن جمعنا فقر الروح إلى فقر المال فأنا أجفوها أخلعها يا شيخ إن كان السر منسوجًا من أن نيتنا كي يحجبنا عن عين الله فنُحجب عن عين الله فأنا أجفوها أخلعها يا شيخ يارب اشهد هذا ثوبُك وشعار عبوديتنا لك وأنا أجفوه أخلعه في مرضاتك

يا رب اشهد .. يا رب اشهد أما تعليق بعض النقاد على ذلك بقوله: إن الحلاج عندما يخلع الخرقة فإنما يريد أن يكون حرًّا، حتى لا تكون هذه الشارة قيدًا على عقله وعلى لسانه، يمنعه من التفكير في أسباب امتلاء دُنيا الله بالفقر والقهر والمهانة. وتعني أيضًا: أنه يخلع أي قيد يمنعه من التفكير الحر، والاختيار الحر لسلوكه ومواقفه، بوصفه إنسانًا مسئولًا، ما دام قد أعطاه الله مِنة العقل، ونور المعرفة، وإن الحلاج لم يستأثر بما حصله من يقين وفهم ومعرفة، ولا بالموقف الذي أوقفه الله فيه، إذ عرَف أن ما حققه من الوعي والحب لا يعني أن يبحث كل منا عن دَرْب خلاصه، كما ينصحه صديقه الشبلي إنه يعرف: لِمَ يَخَتْارُ الرَّحمْنَ شُخُوصًا مِنْ خَلْقِهْ ليُفرّقَ فيهمْ أّقبْاسًا منْ نُورِه هَذَا ليكُونوا مِيَزانَ الكَوْنِ المُعْتَلّْ ويفيضوا نُور اللَّهِ عَلَى فُقَراءِ القَلْبْ ولذا، فإنه لا يبحث عن خلاصه الفردي، وكيف يبحث عن خلاصه الفردي والكون قد امتلأ بأنواع عديدة من الشر؟ هذا التعليق الذي علَّق به بعض النقاد تعليق عجيب، فلو كانت الخرقة شعارًا لعبودية الإنسان لربه، فكيف يكون خلعها سبيلًا إلى التفكير الحر المنعتق من القيود؟ أَتُرى عبودية الإنسان لربه تقيده وتمنعه من التفكير في مصلحة العباد من حوله، والعمل على إقامة المِعوج من دنياهم؟ مَن يقولُ هذا؟!

كذلك فتصوير الشاعرُ الحلاجَ في صورة المتحير الذي لا يدري ماذا يصنع لمحاربة الفقر والظلم في المجتمع، هو تصوير يجافي الواقعَ -كما قلنا- لأن المعروف أن الحلاج لم يكن يفكر في موضوعات كهذه على الإطلاق، بل كان رجلًا صوفيًّا، يقول بالحلول والوَحدة مع الله، وما إلى ذلك، مما لا يقبله الإسلام. يقول الحلاج: اخترْتُ لنفسي ماذا أختار؟ هلْ أرفعُ صوتي؟ أمْ أرفعُ سيْفي؟ ماذا أختارْ؟ ماذا أختارْ؟ وقد وقع صلاح عبد الصبور في كل هذه المزانق؛ لأنه وضع نُصْب عينه -فيما يبدو- سيرة "توماس بيكيت" والمسرحية التي كتبها عن إليوت، فأراد أن تكون له مسرحية تشبهها، غافلًا عن أن شخصية بطلي المسرحتين مختلفتان، والسياقين مختلفان، والدوافع وراء قَتْل كل من الرجلين مختلفة، وهكذا. لقد كان "توماس بيكيت" -وهو من أهل القرن الثاني عشر الميلادي- أسقفًا لكنيسة "كانتبري"، وعُرِفَ عنه رغبته في الحفاظ على استقلال الكنيسة الإنجليزية من التدخل الملكي. وفي عام 1255ميلادية، قام الملك "هنري" الثاني بتعينه كبيرًا لقضاة إنجلترا، فعاش "بيكيت" حياة رغدة، وأصبح الرفيق المفضل لذلك الملك، وفي عام 1162م، عينه الملك أسقفًا لـ"كانتبري"، فتولى مهام منصبه توليًا جادًّا، وأصبح مدافعًا عن حقوق الكنيسة ضد السلطات الملكية. وقد توالت الخلافات

المريرة بين "بيكيت" والملك "هنري"، نظرًا لمحاولة الأخير السيطرة على كنيست إنجلترا، وقاوم "بيكيت" محاولات الملك جمع الضرائب من ملاك الأراضي، والأراضي المملوكة للكنيسة، كما قاوم محاكمة مسئولي الكنيسة المتهمين بجرائم خطرة. وفي عام 1164م خشي "بيكيت" على حياته وفَرَّ إلى فرنسا، ولكنه عاد إلى إنجلترا عام 1170م، وسرعان ما عاود معارضته للسلطات الملكية مما تسبب في غضب الملك عليه، وفي اجتماع لفرسان الملك تساءل الملك: هل لدى أي واحد منهم الشجاعة الكافية لتخليصه من أحد الرهبان المشاغبين؟ وَعَدَّ بعض هؤلاء الفرسان أن ما قاله "هنري" هو رغبة ملكية، فذهبوا إلى "كانتبري" وقتلوا "بيكيت" في كاتدرائيتها. فأين "بيكيت" من الحلاج؟ وأين الحلاج من "بيكيت"؟ ثم هل دفاع "بيكيت" عن رجال الكنيسة المتهمين بجرائم خطيرة، واستماتته في إبعاد يد العدالة عنهم مما يصح دينيًّا أو سياسيًّا أو قانونيًّا أو أخلاقيًّا؟ قد يقال: إنه كان يريد استقلال الكنيسة عن سلطة الملك، لكن ما العَلاقة بين هذا وذاك؟ فلتكن الكنيسة مستقلة عن الملك كما تحب ويحب البابا ورجال الدين، لكن فليحاكَم كل من ارتكب الجريمة، وخاصةً حين تكون تلك الجريمة من النوع الخطر، وعلى وجه أخص إذا كان مجتنح الجريمة رجلًا من رجال الدين الذين ينبغي أن يكونوا مثالًا أعلى لسائر الناس، فلا يفكروا في ارتكاب الجرائم أصلًا، فضلًا عن أن يرتكبوها، ثم يعملوا على الهروب من تَبَعاتها، وبمساعدة الكنيسة ذاتها.

كذلك من الواضح أن "بيكيت" لم يكن يرد أن تدفع الكنيسة أية ضرائب للدولة، فهل هذا أيضًا مما يصح؟ قد يقال هنا كذلك؛ إنه كان يعرف أن الملك إنما يريد الضرائب لمصلحته هو، لكن هل كان يصح أن تحتجن الكنيسة كل تلك الممتلكات لنفسها، وهي التي تزعم أنها تسير على خطى المسيح في الزهد ونَبْذ أمور الدنيا؟ لو أنها كانت تنفق أموالها على الفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضَى، لَكَان لهذا الاحتجان شيء من المعنى. أيًّا ما يكن الأمر، فالحق أنه لا توجد أي صلة بين الحلاج و"بيكيت"، حتى في طريقة قتل كل منهما، والظروف التي تم فيها ذلك القتل، والأسباب التي دعت إلى ذلك القتل، ويكفي أن نقول: إن الحلاج قد حُوكِمَ، أما "بيكيت" فقد قتل غيلةً. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 14 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (2).

الدرس: 14 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (2).

تعريف القصة، والفرق بينها وبين الملحمة والمسرحية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (2)) تعريف القصة، والفرق بينها وبين الملحمة والمسرحية التأثر في ميدان القصة. و"القصة": فن من الفنون الأدبية القديمة، إذ لا أظن أن ثمة مجتمعًا بشريًا، قديمًا أو حديثًا، يمكن أن يخلو من هذا الفن، فحب القصص نزعة فطرية في النفس الإنسانية، ولعل أقدم كتابة نقدية في هذا الموضوع هي ما كتبه أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند كلامه عن الملحمة والمسرحية، ذلك أن الملحمة والمسرحية كلتاهما فن قصصي، كل ما في الأمر أن الملحمة كانت تنظم شعرًا، وأن المسرحية تقوم على الحوار، فلا سرد فيها إلا في أضيق نطاق، وذلك حين يضع المؤلف ملاحظاته السريعة الموجزة قبل بعض المشاهد كي يهتدي بها المخرج لدن تحويلها من عمل مكتوب إلى تمثيل حي على المسرح، فضلًا عن أن المسرحية، كانت تكتب أيام أرسطو شعرًا، وإن كتبت بعد ذلك نثرًا أيضًا. وفي كل من الملحمة والقصة والمسرحية، الحوادث والشخصيات والحوار والعقدة والحل والبناء الفني، كما أنّ المُواصفات التي يراعيها المبدع في كل فن من هذه الفنون، لا تكاد تختلف بشكل جذري عما ينبغي مراعاته في الفنين الآخرين، وقد قال أرسطو في كتابه (فن الشعر) Poetex: إن كل ما يصدق على الملحمة يصدق على المأساة "أي: مسرحية المأساة"، اللهم في أن الملحمة لا تنظم إلا في بحر واحد من بحور الشعر، كما أنها تنخذ الشكل السردي. علاوة على أن المأساة محكومة في طولها الزمني بدورة الشمس حول الأرض بمرة واحدة، أي بأربع وعشرين ساعة أو أزيد قليلًا إن كانت ثمة حاجة إلى ذلك، على حين أن زمن الملحمة مفتوح.

وهما كما يرى المستمع لا صلة بينهما وبين البناء الفني لهذين الجنسين الأدبيين، ولأن العناصر الموجودة في الملحمة هي نفسها تقريبًا العناصر الموجودة في المسرحية، نجده يؤكد أن من يستطيع الحكم الفني على إحداهما يستطيع الحكم على الأخرى، وبالمثل نراه يذكر أن المؤلف -أي: مؤلف- قد يروي قصته من خلال ضمير الغائب، أو من خلال ضمير المتكلم، أو من خلال ترك الشخصيات تتصرف أمامنا مباشرة، والأسلوب الأخير هو أسلوب المسرحية، أما الأسلوب الأول فأسلوب "هومر" في شعره الملحمي. إلا أنه لم يضرب لنا مثلًا يوضح به كيفية تقديم الشخص نفسه من خلال ضمير المتكلم، والمسرحية تتكون عنده من الحبكة والشخصية واللغة والفكرة والمنظر والأغنية، وفي رأيه أنّ الحَبكة أهم من رسم الشخصيات، وأساسها عدم تضمين العمل المسرحي والملحمي أي عنصر لا يضر العمل حذفه، وألا نحذف من العمل أي عنصر شأنه أن يصيب العمل بالتفكك والانهيار عند هذا الحذف. كذلك لا بد في رأيه أن يكون كل حدث مترتبًا على الحدث السابق عليه، وبالنسبة إلى الشخصيات: ينبغي أن تكون شخصيات حقيقية ممن نقابلها في الحياة، وأن ينم كلامها وسلوكها عليها وينسجم معها، وأن تكون متسقة مع نفسها ... إلى آخر ما كتب ذلك الفيلسوف عن المواصفات التي لا بد من مراعتها في كتابة المسرحية والملحمة، وهو أساس النقد القصصي عند الأوربيين وعند غير الأوربيين. والسؤال المعتاد في هذا الموضع هو: منذ متى عرف الأدب العربي فن القصص؟ وفي الجواب عن هذا نقول: إنّ بعض الدارسين يميلون إلى القول بأنّ القِصّة أحد الفنون الأدبية الطارئة على الأدب العربي، استمدها من الآداب الغربية في هذا

العصر، وهذا رأي خطير متسرع، ففي التراث الأدبي الذي خلفه لنا أسلافنا قصص كثير منه الديني ومنه السياسي ومنه الاجتماعي، ومنه الفلسفي، ومنه الوعظي، ومنه الأدبي ومنه ما وضع للتسلية ليس إلا، ومنه الواقعي ومنه الرمزي ومنه المسجوع المجنس، ومنه المترسل، ومنه المحتفى بلغته، والبسيط المنساب. ومنه الطويل مثل رسالة النمر والثعلب لسهل ابن هارون، ورسالة التوابع والزوابع لابن شعيب، ورسالة الغفران للمعري، وسلامان وأبسال، ورسالة الطير لابن سينا،، ورسالة حي بن يقظان لكل من ابن سينا وابن الطفيل والسهروردي، وقصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن. ومنه القصير كالحكايات التي ترص بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة، وجمع طائفة كبيرة منها "محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البيجاوي، ومحمد أحمد جاد المولى في أربعة مجلدات كبار، وكليلة ودمنة لابن المقفع، والبخلاء للجاحظ، والفرج بعد الشدة ومشوار المحاضرة للقاضي التنوخي، والمقامات وعرائس المجالس للثعالبي، ومصارع العشاق لسراج القاري، وسلوان المطاع في عدوان الأتباع لابن غفل الصقلي، والمكافأة لابن الداية، وغرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة للوطواط. والمستطرف من كل فن مستظرف للأبشيري، وعجائب المقدور في أخبار تيمور، وفاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عرب شاه، وبعض قصص ألف ليلة وليلة أيضًا، وما ما ذكره ابن النديم في (الفهرست) من كتب الأسمار الخرافية التي ترجمت عن الفارسية والهندية واليونانية، أو رويت عن ملوك بابل أو ألفت

بالعربية فكانت حوالي 140 كتابًا، المؤلف منها بلسان العرب فقط نحو 80 كتابًا، كلها في أخبار العشاق في الجاهلية والإسلام. ودعنا مِمّا ألف بعد ذلك، ومنه النثري كالأمثلة السابقة، والشعري كشعر الشنفرة عن لقائه بالغول، وقصيدة الحطيئة و"طاوي ثلاث عاصب في البطن مرمل"، وكثير من قصائد عمر ابن أبي ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائية بشار ومغامرات أبي نواس الخمرية، وقصيدة المتنبي عن مصارعة بدر بن عمار الأسد، وهلم جرًّا. على أن ليس معنى ذكر الكتب والمؤلفات في هذا السياق أن الفن القصصي لم يُعرف عند العرب إلا في عصر التدوين، بعد أن انتشر نور الإسلام وتخلص العرب من الأمية، وأصبحوا أمة كاتبة قارئة مثقفة كأحسن ما تكون الأمم ثقافة وتحضرًا، بل كان هذا الفن معروفًا قبل ذلك في الجاهلية، وهذا الحكم يستند: أولًا: إلى أن حب القصص نزعة فطرية لا يمكن أن يخلو منها إنسان فضلًا عن مجتمع كامل؛ كالمجتمع العربي قبل الإسلام. وثانيًا: إلى أن لدينا قصصًا كثيرًا تدور وقائعه في الجاهلية وينتسب أبطاله إليها، وقد اقتصر دور الكتاب الأمويين والعباسيين على تسجيل ذلك القصص، وقد يكونون تدخلوا بأسلوبهم في صياغته، وهذا أبعد ما يمكن أن تكون أقلامهم قد وصلت إليه. ومن الواضح أن هذا القصص يصور المجتمع العربي قبل الإسلام تصويرًا لا يستطيعه إلا أصحابه، أما ما يقوله بعض المستشرقين ويتابعهم عليه بعض الكتاب

العرب من أن العرب ينقصهم الخيال والعاطفة، وأنهم من ثم لم يعرفوا فنّ القصص فأقل ما يقال فيه: هو أنه سخف وتنطع، إذ الميل إلى القصص هو ميل غريزي لدى كل البشر، كما أنّ الخيال والعواطف هبة من الله لم يَحرم منها أمة من الأمم، بل كل الأمم فيها سواء. وإذا كان الأوربيون في غمرة غرورهم وتصورهم الأحمق أنهم مركز الكون، وأن ذوقهم هو المعيار الذي ينبغي أن يأخذ به العالم أجمع، فما عذر بعضنا في ترديد هذا السخف الذي يراد به أول ما يراد الفت في عضدنا، وتوهين عزائمنا، وإشعارنا بالقلة والنقص إيذاءهم!!، وإذا كنا قد ترجمنا -ولا نزال نترجم- الأعمال القصصية التي يبدعها الغربيون، فقد ترجموا هم بدورهم كثيرًا من الأعمال القصصية التي أبدعها أجدادنا وتأثروا بها مثلما تأثرنا نحن بهم، ترجموها إلى اللغات الأوربية المختلفة. وكثيرًا ما ترجموا هذا العمل أو ذاك إلى اللغة الواحدة عدة مرات، وهي سنة كونية لا تتخلف أبدًا، كل أمة تأخذ من غيرها وتعطيها، وليردد الغربيون ما يشاءون في تمجيد أنفسهم وتفخيمها؛ فكل إنسان حر في أن يقول عن نفسه ما يريد، لكن العبرة بالمستمع الذي ينبغي أن يكون عاقلًا، فلا يصدق كل ما يقرع أذنه من كلام، حتى لو كان كلامًا مزقًا تافهًا لا يقبله العقل ويتناقض ومعطيات الحياة. وأختم تلك النقطة بالإشارة إلى أن غالبية كتاب القصة، ونقادها في بدايات العصر الحديث بمصر على سبيل المثال، لم يكونوا يرون فيها فنًّا جديدًا، بل مجرد امتداد لفن قديم عرفه العرب من قبل، ومن يطلب تفصيلًا أكثر يستطيع الرجوع إلى الباب الأول من كتابي (نقد القصة في مصر) من سنة 1880 - 1980م، في الفصل المسمى "القصة المصرية والتراث القصصي العربي".

أما الجديد حقًّا الذي عرفه القصص العربي في العصر الحديث، ولم يكن له وجود فيما خلفه لنا العرب القدماء في حدود ما نعلم، فهو رواية القصة على لسان عدة أشخاص من أبطالها كل يراها من زاويته، ويفسر ما يراه تفسيرًا يختلف كثيرًا أو قليلًا عن تفسير الرواة الآخرين، وهذا الشكل الفني أساسه فكرة النسبية التي أفرزها العصر الذي نعيش فيه. ومن ذلك أيضًا "تيار الوعي" وهو أحد مظاهر التأثر بالدراسات النفسية، ومن هذا الجديد كذلك المزج بين القصة والمسرحية، هذا المزج الذي تمثل في "بنك القلق" لتوفيق الحكيم وسماه صاحبه "مسرواية" وإن لم ينتشر كما كان يرجى له، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن السيرة الشعبية مثلًا كانت تمزج هي أيضًا بين الشعر والنثر، وإن اختلف في هذا المزج عن طريق "المسرواية" التي تتألف من فصل قصصي يتلوه فصل مسرحي وهكذا دواليك. أما السيرة فيرد الشعر فيها السرد والحوار كجزء منهما لا كشيء منفصل وهذا السمة موجودة لكن على استحياء في بعض قصص يوسف السباعي مثلًا. وهناك أيضًا النقد القصصي والتأريخ للرواية والقصة القصيرة والترجمة لأعلامهما وهو أمر لم يعرفه الأدب العربي القديم، إذ كان النقد آنذاك منصبًّا على الشعر بالدرجة الأولى ثم الخطابة والرسائل الديوانية بعد ذلك، وها هو ذا مثلًا كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، و (الصناعتين) لأبي هلال العسكري، وكتاب (نقد النثر) المنسوب لقدامة بن جعفر، و (المثل السائر) لابن الأثير. فلنقلب فيها كما نحب، فلن نجد أي كلامًا في النقد القصصي. أما الآن فالدراسات النقدية والتاريخية التي تدور حول فن القصة وأعلامه واتجاهاته وأشكاله، قد بلغت من الكثرة والتنوع مدى بعيدًا، وهذا من شأنه أن

يساعد أدباء القصة على التجويد والتطوير المستمر، ولا شك أننا مدينون في هذا المجال للنقد القصصي الغربي، الذي قرأناه في رواياته الأصلية أو المترجمة، وهذا النقد يرجع في أساسه إلى ما كتبه أرسطو عن المسرحية والملحمة حسبما أوضحنا. أما كتب النقد والأدب والتراجم التراثية المعروفة؛ فالموجود فيها هو كلام انطباعي أو نقد لغوي بلاغي ليس أكثر، كما أن كلمات الحكاية والقصة والرواية لا تستخدم فيها إلا بالمعنى اللغوي العادي كما في قولنا: "شرح فلان القصة أو حكى الحكاية، أو هكذا" كانت راويته بالكلام، أي الخير ليس إلا، ولا تُستخدم كمصطلح أدبي. ولقد كان لترجمة الروايات الغربية دور مهم قي تطوير القصص العربي في العصر الحديث، وكان رفاعة الطهطاوي -فيما نعرف- أول مصري يقوم بترجمة رواية غربية، وهي رواية القس الفرنسي "فلينون لزافنتير دو تليماك" التي أعطاها عنوانًا مسجوعًا هو "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". اقتضاءً بالطريقة التي كانت شائعة في كثير من المؤلفات العربية القديمة في العصور المتأخرة، وقد ظهرت هذه الترجمة عام 1867م. ومن الذين أسهموا في ترجمة الروايات من المصريين في ذلك الوقت المبكر، محمد عثمان جلال أحد تلامذة رفاعة، إذ عرب سنة 1872م، رواية "بول وفرجيني" لـ (برناردان دي سان بيار)، جاعلًا عنوانها "الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة"، ومنهم كذلك حافظ إبراهيم مترجم "البؤساء" لـ"فيكتو هيجو"، وصالح جودة مترجم "سر اعتراف" سنة 1905م، وضحية العفاف واليد الأثيمة والسلاح الخفي، وعبد القادر حمزة مترجم "هانيا" سنة 1905، والمنفلوطي معرب "في سبيل التاج"، والشاعر أو سيرانو دي برج راج، والفضيلة أو بول فيرجيني، ومجدولين أو "تحت ظلال الزيزفون".

وبعض هذه الأعمال هو في الأصل من الأعمال المسرحية، إلا أن المنفلوطي حوله إلى رواية، كما أنه لم يترجمها بنفسه، بل ترجمت له ثم أعاد هو صياغتها بأسلوبه، وهذه ليست إلا بضعة أمثلة فقط من أسماء الرواد المصريين في ميدان الترجمة الروائية، وإلا فإن هذا اللون من الترجمة ما زال ماضيًا في طريقه حتى الآن، وشاركت فيه أقلام كثيرة على ما هو معروف. وإذا كان عدد من هذه الترجمات قد صب في أسلوب سليم متين، كما هو الحال فيما ترجمه محمد عثمان جلال والمنفلوطي وحافظ إبراهيم؛ فإنّ كثيرًا منها لم يعن به العناية اللازمة، فجاءت لغته هزيلة ركيكة مبتذلة لا تخلو من الأخطاء الصرفية والنحوية، وكان بعض المترجمين لا يهتم إلا بتأدية المعنى كيفما اتفق. إذ كلما قرأ فصلًا من الرواية التي يترجمها نحاها جانبًا، ثم شرع يترجم من الذاكرة ناسيًا أشياء ومضيفًا أخرى ومقدمًا ومؤخرًا حسبما يحلو لذاكرته، ودون أن يراجع ما كتب، إذ كثيرًا ما كان المترجمون يتخذون من ذلك العمل محترفًا لكسب الرزق، فلم يكن لديهم وقت للتدقيق والتجويد وإحسان التعبير، كما كانوا يحولون الحوار في كثير الأحيان إلى سرد، مضيفين إليه بعض محفوظاتهم من الشعر العربي مما يناسب الموقف، فضلًا عن أن كثير من الروايات التي عربوها لم تكن من روائع القصص في كثير أو قليل، بل من الروايات الشعبية التي يراد بها التسلية، ولا تهتم إلا بالتشويق والمغامرات وحيل اللصوص والمجرمين وما إليها. ومن الشام يُمكن أن نذكر بطرس البستاني الذي ترجم "روبنسن كروزو دي دانيال ديفو" سنة 1861م، وسماها "التحفة البستانية في الأسفار الكروزية"، ويوسف سركيس مترجم "الرحلة الجوية في المركبة الهوائية" لجون فيرن" سنة 1875، وأليكسيز زامو خون مترجم الرويات الثلاث لفرنسوا كوبيه.

وخليل ثابت مترجم "عروس النيل" لجورج إيبرس العلماني، ويعقوب صروف مترجمًا "ملكة انجلترا"، وفرح أنطون الذي عرب عدد من رويات اسكندر دوماس واتالا ليشاتو برايار، وأسعد داغر مترجم "بعد العاصفة" وغيرها لهنري بوردون، ونقولا حداد مترجم الفرسان والثلاثة غيرها لدوماس، وطانيوس عبده أشهر مترجمي القصص في تلك الفترة، ومارون عبود مترجم "ايطاليا ورينيه" سنة 1901، ونقولا رزق الله وسليم النقاش ... إلخ. وكثير من هؤلاء وغيرهم كان مقامهم ومسرح نشاطهم لمصر، ومنهم فرح أنطون ومحمد قطب علي وأسعد داغر وطانيوس عبده ونقولا الحداد وخليل ثابت وسليم النقاش ويعقوب صروف، مما يمكن معه أن ندمجهم ضمن مترجمي الروايات الأوائل في مصر، ومن فلسطين نستطيع أن نذكر خليل بيدس الذي ترجم بعض الروايات من الروسية وغيرها مثل: "ابنة القبطان" لبشتين سنة 1898، و"شقاء الملوك" للكاتبة الإنجليزية ماري كوريلي عن الروسية سنة 1908م، و"أهوال الاستبداد لتولستوي بعد ذلك بسنة. وحنا كارمين لتولستوي أيضًا، و"المشوه" لفيكتور هيجو ... إلخ. وكذلك أحمد شاكر الكرمي الذي ترجم عددًا كبيرًا من الأعمال القصصية لتشوسر وتولستوي وأوسكار وايلد وتشيكوف أدينو باسا. ومن الروايات المترجمة في العراق رواية "العدل أساس الملك" وهي منقولة عن الإنجليزية وتقع حوادثها في عهد الملك هنري الرابع، وتعلي من قيمة العدل والتشدد فيه بوصفه أساس الحكم الصالح، ومنها أيضًا رواية: "الإصبع" لأنستاس كرملي عن الفرنسية. وكتب في مُقَدّمتها أنّها دليل على أن اتهام الغربيين لنا بالغرائب من أحاديث الجن والغول وما أشبه هو اتهام لا معنى له، لأنهم هم أيضًا يغرمون بهذا اللون من

الأحاديث، يؤلفون فيه لأولادهم الحكايات التي يبثونها ما يريدونه من المغازي الأخلاقية، وهي تشبه حكاية "عقلة الإصبع" في الآداب الشعبية عندنا. ومن هذه الروايات كذلك المرمد أو ذات الكوس الزجاجي ومترجمها فيما يبدو هو أيضًا أنستاس كرملي الذي عرب كذلك قصة للكاتب الفرنسي ايجزا فيه ميري ميه، بعنوان "ينبوع الشقاء" وهي قصة ذات مغزى أخلاقي وهكذا. ومن الترجمة القصصية في السعودية، ترجمة عبد الجليل أسعد لبعض أعمال موباسان وغيره، ومنها على ضوء القمر، وترجمة محمد عالم الأفغاني لعدد من قصص تشيكوف وموم، وكذلك ترجمة محمد علي قُطب لبَعض الأعمال القصصية من الصين وبريطانيا وأمريكا وإسبانيا، وترجمة عزيز ضياء لعدد من القصص منها الحلم والكنز، وحقائق الحياة لثوماس موم، ورائعة جورج أورويل "العالم عام 1984". أما بالنسبة إلى اليمن؛ فقد أمكنني العثور على إشارة إلى قصتين مترجمتين هما "أرملة على قدر" لتشارلز ديكينز، و"زوجتي أو زوجته" لبرنارد هوليود التي ترجمها عبد الله عبد الرحيم سنة 1945، وهناك ترجمة جزائرية لرواية شاتوبريان "آخر بني سراج" قام بها أحمد الفاغون وصدرت سنة 1864، وفي تونس تذكر بين مترجمي الرواية الأوربية المبكرين أسماء كل من محمد المشرقي والعربي الجلولي وإبراهيم فهمي شعبان، ومحمد نجيب وعبد العزيز الوستاني، وقد ترجمت بعض أعمال تولستوي منذ عام 1911، هذا عن الروايات المترجمة. أما المؤلفة: فكانت تَتّسم في بداية عصر النهضة، بتكديس الحوادث وغلبة السرد على الحوار، وكثرة المصادفات والأحداث الغريبة، والتحليق في عالم الخيال،

ووضوح الغرض الأخلاقي أو التعليمي، وتدخل المؤلف في سياق الأحداث بتعليقاته المباشرة، والاستشهاد بين الحين والحين بالأمثال والحكم وأبيات الشعر ... إلخ. وفي كل بلد عربي يَقِفُ مُؤرّخي الروايات ونقادها عادة عند إحدى الروايات بوصفها البداية الحقيقية للرواية الفنية الجيدة، ففي مصر يحددون هذه البداية محمد حسين هيكل "زينب" التي ظهرت في بداية العقد الثاني من القرن العشرين لما فيها من تصوير دقيق للريف المصري، بمناظره الطبيعية وحقوله وطيوره وبيوته وعاداته وتقاليده، ومعالجتها بعض القضايا المهمة كالعلاقة بين الفلاحين ومالك الأرض، والعلاقة العاطفية بين زينب وحامد بم المالك الذي كانت تشتغل مع سائر الفلاحين في أرضه، وبينها وبين إبراهيم الذي كانت تحبه ولكن لم يكتب لها الزواج منه، بل تزوجت حسن رغم أنها لم تكن متعلقة به. وكذلك التطور الفكري لحامد الطالب المطلع على كتب الفلسفة وما أشبه، إلى جانب أسلوب القصة العصري البسيط الخالي من السجع والجناس والزخارف البديعية الأخرى، وإن لم تعد ريادة هيكل لفن الرواية أمرًا يحظى بإجماع، إذ يشير بعض الدارسين إلى أن زينب قد سبقتها قصص أخرى جيدة فنًّا ومضمونًا، كـ"عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي، و"فتاة مصر" ليعقوب صروف. وتتجسد البداية الناضجة للفن الروائي في بلاد الرافدين، في محمود أحمد السيد وروايته "جلال حامد" سنة 1928، التي تأتي ثالثة في ترتيب ما أصدره من أعمال روائية، وهي تدور حول ثورة العراق عام 1920، ورحيل البطل إلى الهند وعودته بعد فشل الثورة المذكورة، وتعكس آراء الكاتب السياسية والاجتماعية والأدبية من مثل حق العمال في الإضراب لتحسين أوضاعهم،

وحق المرأة في الحرية والتعليم وفي أن يكون لها رأي في زواجها ... إلخ، فضلًا عن أنها لا تهيم في أودية الخيال كما يقول مؤلفها، وإن لم تخلو من بعض العيويب. أما في سوريا فتعد رواية "نهم" لشكيب الجابري الصادرة سنة 1936، هي البداية الفنية الحقيقية للرواية السورية، وهي رواية ذات اتجاه رومانسي، كبقية رواية ذلك المؤلف الذي كان آخر ما كتبه في هذا المضمار هو "وداعًا يا أفاميا" سنة 1960، ويبرز في حوادثها التي تجري في برلين الانحلال الجنسي، رغم ما تعالجه من القضايا الوطنية. وثمثل رواية توفيق يوسف عواد "الرغيف" سنة 1939، عند نقاد ومؤرخي الرواية، نقطة متميزة في حقل الرواية اللبنانية، وموضوعها جهود بعض الشبان الوطنين في إيقاظ الروح القومية، والمطالبة بحق العرب في عيشة كريمة، والكفاح ضد العثمانيين والإقطاعيين المحليين، لبلوغ هاتين الغايتين، ويقوم رغيف الخبر بدور مهم في الرواية، إذ يمثل المطلب الثاني إلى جانب الحرية، وقد سيقت رواية عواد أعمال روائية لأمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وكرم منعم كرم وغيرهم، وهذه الروايات التي مهدت السبيل لرغيف عواد. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك الرواية قد خلت من العيوب، فما من نتاج بشري يخلو من الثغرات وبخاصة إذا كان رائدًا في مجاله. ويتريث الدكتور إبراهيم السعافين عند رواية عبد الحليم عباس "فتاة من فلسطين" واضعًا إياها في محل الريادة من مسيرة الرواية في الأردن، وهي تقوم على تمجيد وحدة الأمة في الشدائد والخطوب العظيمة، وتعالج مأساة فلسطين، رابطة القضية السياسية القومية بالمسألة الاجتماعية، في إطار قصة حُبٍّ بينَ بطلي الرواية، اللذين يقدمان على الجواز في تحدي للتقاليد السائدة التي تَجعل زواج أبناء العمومة، مقدمًا على زواج الأغراب أو المتباعدين.

ويذكر الدُّكتور سُلطان بن سعد القحطاني في كتابه "الرواية في المملكة العربية السعودية -نشأتها وتطورها"، أنّ معظم الباحثين والنقاد يعدون "ثمن التضحية" سنة 1959 لحامد الدمنهوري، أول رواية سعودية جمعت معظم العناصر الفنية للرواية، إن لم تكن كلها، وهي رواية تصور الصراع الذي يدور في نفس البطل بين بقائه في بلده، مع الاكتفاء بالقدر الذي حصله من التعليم، وبين سفره إلى القاهرة لإكمال تعليمه هناك، وكذلك بين حبه لخطيبته غير المتعلمة التي خلفها وراءه في السعودية، وحبه لزميلته القاهرية الجميلة التي تتمتع بالجاه والمال والتعليم الجامعي. أما في السودان فينصب الثناء الحقيقي للدكتور سيد حامد النساج، في كتابه (بانوراما الرواية العربية الحديثة) على الطيب صالح وأعماله القصصية قائلًا: إن الرواية العربية تبلغ قمة نضجها في السودان على يديه، إذ تجمع بين النكهة المحلية، ومسايرة التقدم العصري في الفن الروائي، كما أن مقدرته على وصف القرية السودانية بناسها وعاداتها وتقاليدها، والمؤثرات المدنية الوافية عليها، ومزج الوقائع بالخرافة والأسطورة، قد بلغت من البراعة حدًّا بعيدًا، علاوة على النفحة الصوفية التي يمسح بها على عالمه. وبالنسبة للرواية التونسية؛ فإن دكتور النساج أيضًا في كتابه المذكور، لا يعترف من الناحية الفنية بشيء منها قبل رواية "جولة حول حانات البحر المتوسط" سنة 1935لعلي الدعاجي، الذي يؤكد أنه أبو القصة التونسية الحديثة بلا منازع، وتتناول رواية الدعاجي موضوع الالتقاء بين حضارتي الشرق والغرب، مع الرمز لكل منهما بامرأة يخصص البطلة الأولى هما جانبه الوجداني، وللثانية جانبه الجسدي، وتدور معظم حواراتها على الجنس ووصف النساء في أماكن وحالات مختلفة بأسلوب ساخر في كثير من الأحيان.

بعض المقارنات بين الأعمال القصصية العربية الحديثة، ونظيرتها في الآداب الغربية.

كذلك يؤكد الدكتور النساج أن الظهور الرواية الجزائرية ذات المستوى الفني الجيد، قد تأخر إلى سبعينات القرن الماضي، حين صدرت لعبد الحميد بن هدوقة، رواية "ريح الجنوب، ونهاية الأمس" سنة 1971و 1974م على التوالي، وللطاهر والطار، واللاز والزلزال سنة 1974، والحوات والقصر سنة 1978، ويعجب الأستاذ الدكتور بـ"الطاهر والطار" إعجابًا عجيبًا عادًّا روياته اللاز نقطة تحول في مسيرة الرواية الجزائرية. وبالنسبة للمغرب نجد كذلك الدكتور النساج يختص الأستاذ عبد الكريم غلاب باهتمام زائد مبرزًا تحمس هذا الكاتب المغربي للرواية تحمسًا يبلغ حد العشق، ذاكرًا الأعمال الروائية التي أبدعتها براعته كـ"فن الماضي" سنة 1966، و"المعلم علي" سنة 1971، و"سبعة أبواب. كما يلفتُ انتباهنا إلى ما لاحظه من تشابه بين الكاتب المغربي في شغفه البادي لروايته "مدينة فاس"، والأستاذ نجيب محفوظ واهتمامه الشديد بـ"قاهرة المعز" إذ يحرصُ كلاهما على تصوير البيئة المكانية، فضلًا عن تشابههما في موضوعات روايتهما وأحداثها وشخصياتها. بعض المقارنات بين الأعمال القصصية العربية الحديثة، ونظيرتها في الآداب الغربية والآن نتناول بعض المقارنات بين الأعمال القصصية العربية الحديثة، ونظيرتها في الآداب الغربية، ونبدأ بما قيل عن التشابه الذي لاحظه عددًا من النقاد بين رواية إحسان عبد القدوس "لا أنام" ورواية "فرانسواز ساجان" "صباح الخير أيها الحزن"، لقد اتهمهم مثلًا فؤاد دوارة بأنه من غير المُحتمل أن تكون التشابهات القوية والرئيسية موجودة بين الروايتين وليدة المصادفة، مؤكدًا أنه قد أغار على رواية "الفتاة الفرنسية" وأخذ منها هيكل روايته، وكثيرًا من التفصيلات الهامة، وأقام عليها عمله.

على حين حاول الدكتور محمد مندور -كما قال دوارة نفسه- أن يدافع عن إحسان، وأن يثبت أن روايته لا تدين بشيء لساجان، بل وأن روايته أفضل من روايتها، إذ يؤكد دوارة أن الفتاة في كل من الروايتين فتاة مراهقة، عند ساجان في السابعة عشرة، وعند إحسان في السادسة عشرة، وكلتاهما تركتها أمها وهي طفلة، بطلة ساجان ماتت أمها، وبطلة إحسان طلقت أمها من أبيها، وكلتاهما تتعلق بأبيها تعلقًا مرضيًا تبعًا لشدة تدليله لها؛ حتى لتغار عليه من أية امرأة، وكلتاهما تبذل كل جهدها ومكرها في إبعاد المرأة التي حلت محل الأم، العشيقة التي يريد أن يتزوجها الأب في رواية "صباح الخير أيها الحزن"، و"طنط" صافي التي يختلي بها الأب في رواية إحسان "لا أنام". وكلتا المرأتين تحب بنت الزوج وتعمل على تربيتها تربية طيبة، مما يكون من جرائه أن يختلط احترام البنت لزوجة أبيها بالغيرة منها والكراهية لها، وكلتا الفتاتين تتآمر وترسم الخطط الخبيثة حتى يترك الأب زوجته ويعود لها كاملًا دون أن تشاركها فيه امرأة أخرى، وكلتا الفتاتين أيضًا تندم من جراء هذا، فتنغمس في علاقة جسدية نزفة بأحد الرجال، ولكنها لا تجد راحة ضميرها في ذلك التصرف، فتقدم بطلة ساجان على الانتحار، وتطلق بطلة إحسان لكنها لا تستطيع النوم بسبب ما تلاقيه من ضميرها من عذاب. وفوق هذا ففي كلتا الروايتين ميل واضح نحو التحلل من كثير من القيم الخلقية والاجتماعية، مع تفوق الرواية المصرية في هذا المضمار على نظيرتها الفرنسية، ففي "لا أنام" دفاع من إحدى شخصيات القصة عن الزوجات الخائنات، وتسويغ منطقي لخيانتهن وإلقائهم بالمسئولية في ذلك السبيل على كاهل الزوج، على حين تبرر زوجته وتصور على أنها ضحية الظروف التي لا تقاوم.

كذلك تقرر البطلة أن كل الفتيات يرتكبن الإثم، ويذهبن إلى شقق الرجال ليمارسن الجنس معهن، مما يضفي عليهن جاذبية وسحرًا لا يتوفر للفتيات المستقيمات الساذجات، كما تحتوي الرواية على طريقة مفصلة تقدمها البطلة لمثيلاتها من الفتيات اللاتي يردن قضاء الليل خارج المنزل في أحضان عشيقها، دون أن تعرف الأسرة شيئًا عن ذلك، أو يشك في أمرها، وكذلك على طريقة مفصلة أخرى تحافظ بها الفتاة على عذريتها رغم كل ما تصنعه مع عشيقها ويصنعه معها عشيقها طوال الليل في شقته الخاصة. وفوق ذلك كله ينتقد فؤاد دوارة صاحب "لا أنام" على ملئ روايته بالألفاظ الأجنبية دون داعٍ، بخاصة أن المقابل العربي لتلك الألفاظ متاح بكل سهولة لمن يريد، لولا عقدة الخواجة عند إحسان عبد القدوس. والواقع أن حجج دوارة أقوى من الدفاع الذي حاول محمد مندور القيام به لصالح إحسان، إذ التشابهات بين العملين من القوة بحيث لا يصلح ما قاله في الدفاع شرو نقير، وفضلًا عن ذلك يحكي لنا دوارة أنه قابل الدكتور مندور بعد هذا وناقشه فيما قال، فأقر له بأن هيكل الروايتين واحد. والواقع أيضًا أن دوارة ليس هو الناقد الوحيد الذي يأخذ على إحسان هذا الاتجاه التحرري وإن كان هناك من الكتاب من يحاول الدفاع عن إحسان، كتوفيق الحكيم ولويس عوض مثلًا اللذين يريان أن النجاح الجماهيري الواسع الذي أحرزه إحسان هو المسئول عن تحفظ النقاد ضده، وكأن المسألة بينه وبين النقاد مسألة غيرة وحقد، وكأنه لا يوجد روائي ناجح جماهيريًّا دون أن يهاجمه النقاد بسبب تلك الجماهيرية.

ويَرد إحسان بأنه بطريقته التحررية تلك، إنما يريد كشف الحقائق وتشخيص الداء حتى يمكن معالجته، غافلًا عن أن التشخيص شيء والتعرية من اجل الإثارة شيء آخر, كذلك نراه يلجأ غلى حيلة أخرى في الدفاع عن نفسه وقصصه، ألا وهي أنه ليس هناك مقياس أخلاقي واحد في كل المجتمعات العربية، فعلى أي أساس إذًا يريد النقاد محاسبته، وهو بهذا يتجاهل أن هناك مقياسًا يرتضيه العرب جميعًا رغم أنهم لا يلتزمونه دائمًا وهو مقياس: "القيم الإسلامية". أقول هذا وفي ذهني ما قرأته أكثر من مرة من أن إحسان كان من الذين يصلون، وعلى كل حال فكيف يحاول إحسان أن يقنعنا بأنه متأثر في آرائه المتعلقة بالمرأة والجنس بما هو شائع في الغرب؟ ترى هل الغرب هو قبلتنا؟ وإذا كان يتخذ من اختلاف العرب المزعوم في أمور القيم الأخلاقية والاجتماعية حجة للدفاع عن أسلوبه التحرري، فهل الحل هو ترك كل قيمة خلقية واجتماعية عربية واللجوء إلى القيم الغربية؟ ترى هل تناسبنا هذه القيم الغربية؟. ومن المقارنة أيضًا بين القصة العربية الحديثة ونظيرتها الغربية، التقنيات الجديدة التي أخذها الفن القصصي عندنا عن مثيله الغربي، ونقف أولًا عند "بنك القلق" لتوفيق الحكيم، التي صدرت عام 1966م، والتي أسماها صاحبها "رواية المسرحية"، ثم اختزل الاسم فيما بعد إلى "مسرواية"، وهي مقسمة إلى عشر فصول روائية، وعشرة مناظر مسرحية، الفصل الأول يعقبه المنظر الأول، ثم يليه الفصل الثاني ليعقبه المنظر الثاني وهكذا. وقد يظن بعض من لم يقرأ الكتاب أن الفصل الواحد يعرض الأحداث بطريقة السرد الروائي، ثم يعقبه المنظر ليعرض نفس الأحداث، لكن بصورة الحوار المسرحي، إلا أن كل منظر من المناظر المسرحية في الواقع يكمل الأحداث التي

تأتي في الفصل الروائي السابق عليه، ويساهم في تصاعد التوتر الدرامي والوصول بالعمل الفني إلى ذروته، أي: أن المناظر المسرحية ليست إضافة هامشية أو إعادة صياغة للفصول بصورة حوار مسرحي، بل تضيف إلى الأحداث وتغير الأماكن وتعكس نفسية الشخوص وتوضح أسباب الصراع الدرامي. وبهذا تصبح الفصول الروائية والمناظر المسرحية ملتحمة بعضها مع بعض في نسيج متماسك، فلا يمكن استبعاد أحدها وإلا اختل العمل الفني برمته، وهذا الإحكام في التخطيط للعمل الفني من شأنه أن يبهر القارئ، و"أدهم" هو البطل الأول لبنك القلق، وهو شاب ترك كلية الحقوق، الذي جاهد أبوه الفقير ليلحقه بها كي يعمل في الصحافة، وعلى الرغم من إبداعه فهو يكره القيود، ومن ثم يكره الوظيفة، ويكره كل ما لا يجعله حرًّا مالكًا لإرادته. وموهبته الصحفية لا تتجلي إلا في صياغة التحقيقات والمقالات لزملائه الصحفيين في مقابل مبلغ يحصل عليه من الباطن، وفي أثناء جولته الليلة في الشوارع وجد زميل دراسته "شعبان" بطريق المصادفة البحتة، ولم يكن الصديق أفضل حالًا، فهو رجل ينظر إلى المرأة بغرائزه، وهكذا تزوج الكثير من النساء وطلقهن وأصبح طريد النفقة، فأفلس ويأست مطلقاته من أن يحصلن على نفقاتهن منه، وصار العسر ملازمًا لحياته. وهنا يعرض أدهم على شعبان فكرته المجنونة "بنك القلق"، إنه بنك عادي مثل أي بنك آخر، إن البنوك الأخرى تتعامل مع العملة النقدية فتقرض الآخرين بفائدة مرتفعة وتقترض من غيرها من البنوك بنسبة أقل، ومكسبها هو الفارق بين نسبتي الفائدتين أو رصيد الدائن ورصيد المدين، وهي نفس فكرة بنك القلق،

لكنه لا يتعامل بالعملات النقدية، بل بعملة شاعت في العالم وصارت موجودة وراء كل خبر نقرؤه أو كل حدث في حياتنا ألا وهو "القلق". والفكرة ببساطة أن يأتي العميل ويطرح مشكلته أو قلقه، على أدهم وشعبان ويسعى الاثنان لحلها، وهكذا يقوم بدفع تكاليف العلاج لهما، كما يقومان بعرض مشكلاتهما على العميل الذي سيحاول حلها، ويقومان بدفع تكاليف علاجهما له، وهي بالطبع أقل مما دفعه لهما، وبالتالي يكون مكسبهما هو الفارق بين الأجرتين، تمامًا مثل البنك. وقد بدأت الفكرة في شقة أدهم وهي شقة رثة الأساس متواضعة الحال، وتقع في إحدى حواري شارع محمد علي، وهنا نجد وصف الأستاذ الحكيم الساخر الممتع للمكان، من السرير الوحيد المليء بالبق، والكرسي الخشبي المثقوب، والمكتب الذي لا يعرف لونه، والببغاء المتكلم الذي يقلد دور السكرتير الوهمي، وبالطبع لاقت الفكرة بوارًا هائلًا، ليس لأنها فكرة حمقاء ومستحيلة فحسب، لكن لأن ورق الإعلانات المتواضع الذي ألصق بجوار أكشاك السجاير كان مكتوبًا بخط شعبان الذي لا يقرأ. وبعد أيام طويلة من انتظار العملاء الذين لم يأتوا، ظهر فجأة "منير بك عاطف" وهو واحد من أثرياء العهد الملكي الذين استطاعوا النجاة ببعض ممتلكاتهم من المصادرة في العهد الثوري، لم يأت كي يعالَج من قلقه بل كي يدعم الفكرة ويمولها بالنقود والمرتبات، وبمقر جديد للبنك في شارع رئيسي في شبرا، ولم يرتب أدهم وشعبان في شخص يشارك في مشروع فاشل كهذا البنك، ويدفع كذلك بسخاء شديد.

لقد دفع لهما ما يعينهما على إصلاح هيئتهما وثيابهما، كما دفع لهما مرتب شهر مقدمًا، وسلمهما عقد إيجار شقة في شبرا باسمهما لمدة سنة، وكان مطلبه الوحيد أن تكون له حجرة مجاورة لهما في البنك أوصل منها جهاز تسجيل بسماعات في مكتبهما، وطلب منهما ألا يسعيا في علاج مشاكل العملاء أو يعرضا مشاكلهما على العملاء، المطلوب فقط هو أن يستمعا لكل ما يقوله العملاء بمنتهى الدقة دون أن يطلبا أجرًا ماديًّا من العميل. ونظرًا للموقع المزدحم الرئيسي الذي اتخذه البنك في شبرا يدأ العملاء في القدوم وطرح مشاكلهم، حيث يستمع إليهم أدهم وشعبان، وحين تجذب انتباه منير بك مشكلة ما، يسارع بطلب استدعاء العميل الذي لا تعود المسرحية إلى ذكره بعد ذلك قط، وكانت هناك مشاكل اجتماعية مثل مشكلة "العميلة رقم 8" فهي حزينة لأن لديها 1500 جنيه فقط كي تفرش بها شقة ابنتها المخطوبة. وكان من الواضح أنها تغالي في اختيار الفرش والأثاث لأنها تضع اعتبارًا لكلام الناس والعائلة، بل وتصر على أن يشتري خطيب ابنتها بالإضافة للشبكة الغالية، أفخر أنواع علب الملبس كي تقدم للمدعوين، ولا تستطيع أن تستوعب كلام أدهم لها من أن هذه عادات برجوازية عفا عليها الزمن، ولا تناسب المجتمع الاشتراكي، وبالذات لأن خطيب ابنتها معه دكتوراه في الاقتصاد، وموضوع رسالته كان عن الاشتراكية. وبعد أن يئس من التغلب على كبرياء العميلة ومنع استسلام خطيب ابنتها لكلامها، لم يكن منه سوى أن التفت للأخير قائلًا: "أنا سحبت كلامي، أرجوك يا دكتور أحضر ملبس من أحسن وأفخم صنف، هذا مجتمع برجوازي في قماش اشتراكي، اشتراكية قوانين ولوائح، وليست اشتراكية روح بعد، احضر الملبس

والعلب من أغلى نوع"، وهذه الجملة التي أصابت تشريح المجتمع المصري بدقة خلال الفترة الناصرية. وهناك أيضًا "عميل رقم 2" الذي يرى أننا صرنا في مجتمع رجعي، ودليله على ذلك برامج الإذاعة والتليفزيون التي تبدأ صباحها بشيخ مطمطم، وتنتهي في الليل على شيخ مطمطم، وبين كل فقرة وأخرى مناقشات دينية أكل عليها الزمن وشرب، ويريد أن يصلح مجتمعنا ويصبغه بصبغة تحررية، وقد طلب منير بك هذا العميل إلى مكتبه حيث اختفى إلى الأبد. والمثير للسخرية أن يأتي بعده "العميل رقم 3" الملتحي القلق على مستقبل الدين والذي يستغفر الله لهذا المجتمع الملحد المتحلل الذي يعيش فيه، وأبسط دليل على ذلك هو برامج الإذاعة والتليفزيون التي تقدم بين كل أغنية وأغنية، أغنية أيضًا، بالإضافة إلى الراقصات والمطربات والكاسيات العاريات، ويرى أن الحل أن تصب نار الله الموقدة على مجتمع بهذا الفجور والإثم والكفر المبين، وعندئذ يستدعيه منير بك إلى غرفته ليختفي هو أيضًا إلى الأبد. وهكذا من خلال العملاء المتنوعين الذين يزورون البنك، يستعرض الحكيم لقطات شديدة الثراء والتنوع لنماذج تتفاعل وتعيش في الواقع الاجتماعي آنذاك، ومن اللافت للنظر حرص الأستاذ على عدم إعطاء العملاء أي أسماء لكي يتركها نماذج اجتماعية هامة يرى أي واحد منا نفسه فيها. والملاحظ أنه رغم اختلاف الأزمان والأوضاع الاقتصادية والسياسية، فإن كثيرًا من المشاكل التي كانت طافية على سطح المجتمع آنذاك ما زلنا نعاني منها أو من مضاعفاتها حتى الآن.

وبنك القلق ليس الخط الوحيد في هذه "المسرواية" بل هناك خط آخر يقلق أدهم بشدة وهي "ميرفت" بنت أخو منير بك الأكبر، الذي توفي عندما كانت طفلة صغيرة في بلدتها الأصلية "كفر عنبة" مسقط رأس أدهم كذلك، لقد كان يراقبها وهي لا تزال بنت الرابعة تلهو على حصان أبيها كبير أعيان البلدة، وكان ذكرها بمثابة الثلج الذي يبرد صدره خلال جفاف عمره، حتى جاءت المصادفة البحتة فالتقاها عن طريق عمها وشريكه منير بك. لكن الشريك الثالث شعبان عاد أن يصل إلى ميرفت عن طريق خالتها العانس فاطمة، وذلك قبل أن يكتشف مفاجأة صادمة عن طريق هذه الخالة، فتقلب الأمور رأسًا على عقب. وفي أثناء ذلك يرغب منير بك في التوسع في البنك بإنشاء فروع له في الأقاليم، لكن تكاليف الفرع الثابت تجعلهم يفكرون في فرع متنقل، كل واحد يحمل معه جهاز كاسيت ويسجل قلق الناس من الأوضاع المعيشية وتذمرهم. إن الرمزية قاسية وواضحة حول علاقة السلطة بالمجتمع، والنظام البوليسي القمعي الذي يُسجل على الناس كل همسة ينطقون بها، واغتيال حرية الفكر والتعبير، ثم وضع كل ذلك في قالب فني ساخر يجعلك تدمع من الضحك بعين، وتبكي على مجتمعنا بعين أخرى، إن الجملة الختامية في المسرحية: "اللهم أخرجنا من هذا البنك على خير"، ما هي إلا صرخة استغاثة، فالبنك تحول إلى رمز للمجتمع المتخبط المخدوع في وسائل إعلامه، والمقموع بواسطة الأجهزة التي يفرض منها حمايته. فكأنها دعوة بأن تمر تلك الأيام الصعبة على خير، حتى ينقشع الضباب وتسطع شمس الحرية من جديد، وفي كتاب "ويليام هاتشنس" " Tawfeq al-Hakim: A

readers guide " الذي صدر في لندن عام 2003، يشير الكاتب إلى ما قاله الحكيم في كتابه "عودة الوعي"، من أن المصريين قد استهلكتهم ثلاث حروب وثلاث هزائم متتالية، العدوان الثلاثي، وحرب اليمن، ونكسة1967، وإنه إنما وضع كتابه بنك القلق تعبيرًا عما أشاعته تلك الهزائم من مشاعر القلق والتفكك، وبالرجوع إلى كتاب الحكيم نجده يقول ما نصه: "خفت أن يكون جمال عبد الناصر غافلًا عما أصاب المجتمع المصري قبيل حرب سنة 1967، من القلق والتفكك، فيعتمد عليه في الإقدام على مغامرة من المغامرات فكتبت (بنك القلق)، وهي كلها كتابات مترفقة بعيدة عن العنف والمرارة، لمجرد التنبيه لا الإثارة، وكما علمت فقد قرأها وفهم ما أقصده منها، ولكنه فيما يظهر لم يأخذ بها، بل اندفع في طريقه، ولم يكن من السهل مع ذلك أن أنشر بنك القلق، فقد ظل هذا الكتاب أكثر من نصف عام حبيس الرقابة لا تسمح بنشره، إلى أن سمع المسئولون أنه قد ينشر في الخارج، فاضطروا إلي السماح بنشره اضطرارًا". أما الدكتور محمد مصطفى بدوي، فيتساءل في كتابه " Modern Arabic Drama In Egypt" الذي صدر عن مطبعة جامعة كمبردج سنة 1987، عن المنبع الذي استلهمه وتأثر به صاحب بنك القلق، وهل هو كتاب ويليام فوكنر " Requeen For a none" ثم يمضي قائلًا: "إن كتاب الحكيم الذي أطلق عليه ( play novel) لم يكن له تأثير يذكر على تطور الشكل في المسرح العربي"، وإن كانت الدكتورة سميحة علقم في كتابها (تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية- الرواية الدرامية نموذجًا)، قد ذكرت أربعة

أعمال أخرى غير بنك القلق سمتها "مسروايات عربية" وهي (ملف الحادثة 67) لإسماعيل فادي إسماعيل، و (ظلال على النافذة) لغائب طعمه فرمان، و (أمام العرش) لنجيب محفوظ، ثم (قبعتان ورأس واحد) لمؤنس الرزاز. إلا أن هذا غير صحيح بالنسبة إلى ما نعرفه من هذه الأعمال على الأقل، كما هو الحال في كتاب (أمام العرش) لنجيب محفوظ، الذي قد يكثر فيه الحوار على حساب العناصر القصصية الأخرى لكنه لا يلغيها، فضلًا عن أنه كله ماء واحد على هذا النحو، فلا فرق بين فصل وآخر في الشكل الفني، وبالتالي لا يصح أن يقال عنه: مسرواية، وبالمثل لا توجد وشيجة بين رواتي مؤنس الرزاز وغائب طعمه فرمان، وبين المسرواية، إذ اتخذتا الشكل القصصي من البداية إلى النهاية. كذلك يؤكد دكتور بدوي أن من الممكن جدًّا استبدال الفصول الحوارية من بنك القلق، بحيث تكون مسرحية في حد ذاتها باعتبار الفصول القصصية مجرد توجيهات مسرحية وإن كانت طويلة النوع، وهذا العمل حسب تحليله يدور حول الرعب الذي كان سائدًا في عهد عبد الناصر أيام الاتجاه الاشتراكي، وما انتشر أيامها من نفاق وانتهازية وانعدام لحرية التعبير والمعارضة، وترديد للشعارات الخاوية من المضمون، وغياب تام لروح المسئولية. وبالنسبة لكتاب "ويليام فوكنر" الذي ذكره الدكتور محمد مصطفي بدوي في السياق الثالث، نقرأ في المادة المخصصة له في موسوعة "الويكيبيديا" أنه صدر في عام 1951، وأنه مثل كثير من أعمال فوكنر عبارة عن تجريب للفن السردي، إذ إن بعضه رواية والبعض الآخر مسرحية ... إلخ، وأذكر أننا حين اطلعنا على كتاب حكيم لدن صدوره، وكنا أثناءها طلابًا جددًا في الجامعة، قد قرأنا لبعض النقاد أن الحكيم قد استلهم عملًا أحد الكتاب الأمريكيين، فلعل ذلك الناقد قد

ذكر "فوكنر"، ولعل ما كتبه آنذاك هو مت دفع دكتور بدوي التساؤل حول احتمال اطلاع الحكيم على عمل ذلك الأديب الأمريكي. ومع هذا فهناك من يرى أن الحكيم قد سُبق إلى هذا الشكل التجريبي، من قبل الأديب الأيرلندي "برنانرد شو" في كتابه (البنت السوداء)، وكذلك من قبل الروائي المصري "نجيب محفوظ" في (ثرثرة على النيل)، وصاحب هذا الرأي هو الدكتور علي الراعي، وبالرجوع إلى ترجمة برنانرد شو في بعض دوائر المعارف، لم أجد أي إشارة إلى أن كتاب ( The Black Girl In sezrch of God) الذي نشر عام 1932، هو مزيج من الشكلين القصصي والمسرحي، وهذا أمر طبيعي جدًّا، إذ الكتاب كما اطلعنا عليه ليس إلا قصة قصيرة عادية، ومعلوم أن القصة القصيرة لا تنقسم إلى فصول، فلا يمكن من ثم القول بأن فصلها الأول قد اتخذ الشكل القصصي مثلًا ثم تلاه الفصل الثاني متخذًا الشكل المسرحي وهكذا. بل إنه لم يحدث أن كان جزء من القصة حوارًا خالصًا، والذي يليه سردًا وحوارًا، ووصفًا ورسمًا للشخصية، كي يكون هناك مسوغ للقول أن العمل لم يكن مقسمًا إلى فصول، فهو يجمع بين الشكلين على نحو أو على آخر. إذًا فما قيل من أن توفيق الحكيم مسبوقًا بقصة شو، هو كلام غير منضبط، ونفس الكلام ينطبق على "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ، فهي رواية خالصة لا مسرواية، حتى لو كان المؤلف قد أكثر من الحوار في بعض الفصول، على حساب العناصر القصصية الأخرى، إذ أن هذا شيء وتأليف الفصل كله حوارًا مسرحيًا شيء آخر.

وفي ندوة نظمتها لجنة الدراسات الأدبية واللغوية للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، عنوانها "تداخل الأجناس الأدبية، المسرواية نموذج"، تناول الدكتور محمد نجيب التلاوي قضية التداخل بين السرد الروائي والمسرحي فيما يسمى بـ"المسرواية"، التي يعرفها بأنها: " شكل أدبي جديد تتعاقب فيه الصيغتان المسرحية والسردية. ومن المحتمل لديه أن يكون توفيق الحكيم قد أقدم على كتابة محاولته "بنك القلق" وهو متشبع بوجهة نظر بعض النقاد الفرنسيين ظانًّا أنه بذلك يقدم وليدًا أدبيًّا مهجنًا. ثم يمضي قائلًا: "إن رغبة الرواية في تفعيل خاصة الحضور عن طريق الصوت والخطاب والحوار بأنواعه، هي التي سمحت بتداخل الأجناس الأدبية في الرواية ولاسيما الحوار المسرحي حيث يتم مزج للحاضر البصري والضوئي بالماضي المستحضر من خلال نقطة من نقاط الحاضر". ولعل هذا في رأيه هو ما دفع نجيب محفوظ إلى العناية الفائقة بالحوار في كثير من رواياته التي قام أحد الدارسين بإحصاء هذه الخاصية الحوارية في بعضها، مثل: "القاهرة الجديدة" التي وجد بها 33 مشهدًا حواريًّا متنوعًا و"الثلاثية" التي بلغت تلك المشاهد فيها 184، إلا أن اجتهاد محفوظ في هذا الصدد لم يصل إلى حدِّ الذي يجوز عنده وصفها بالمسرواية، وعند التلاوي أن مثل هذه المحاولات تشير إلى تخلي السرد الروائي عن الأسلوب التقليدي وتطلعه إلى مزيد من التجريب الشكلي والحيوية الزائدة للمشاهد الروائية. فهذه تقنية من التقنيات التي تأثرت فيها الرواية العربية بنظيرتها الغربية.

ومما أخذه العرب المحدثون أيضًا عن الغرب لأن أسلافهم لم يتركوا فيه شيئًا، ما يسمى بـ"رواية الترجمة الذاتية" ( Auto Biographical Novel) أو ( roman à clef) ، حيث يكون بطل القصة انعكاس لشخصية المؤلف ذاته، وكثير من الأحداث والمواقف الرئيسية مأخوذًا أو مستوحًى من حياته وما مر به من مواقف ووقع له من أحداث، على أن نعرف أن رواية الترجمة الذاتية ليست بوثيقة تاريخية يُعتمد عليها في الترجمة لمؤلفها، ذلك أن الترجمة الذاتية هي في غير قليل من الأحيان مزيج من الخيال والحقيقة، فما بالنا برواية الترجمة الذاتية، حيث يطلق كاتبها لخياله العنان كما يحلو له من أجل ربط مواد الرواية بعضها ببعض، وكذلك من أجل المتعة والتشويق؛ فضلًا عن تغييره عادة لأسماء الأشخاص والأماكن وتواريخ الأحداث وتفسيرات الوقائع. ويمكن أن نذكر من ذلك النوع من القصص في الغرب، "ديفيد كوبر فيلد"، و"الآمال الكبير" لتشارلز ديكينز، و"الطفولة والصبا والشباب" لتولستوي، وفي "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، و"أبناء وعشاق" لديفيد هيربرت لورانس، و "صورة للفنان في شبابه" لجيمس جويز، و"طفولتي" لمكسيم جوركي، و"الدكتور زيفاجو" لباسترناك، و"وداعًا للسلاح" لهمنجواي، و"مدار السرطان" لهنري ملر، و"تقرير" لجريكون نوقس كازنتكس. وفي أدبنا العربي هناك "زينب" لمحمد حسين هيكل، و"عودة الروح، وعصفور من الشرق، و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و "سارة" للعقاد، وبعض قصص "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران، و"الحي اللاتيني، وأصابعنا التي تحترق" لسهيل إدريس، و"شقة الحرية" لغازي القصيبي، و"ترابها زعفران" لإيدوار الخراط، و"خطط الغيطاني، وتجليات" لجمال الغيطاني،

و"مالك الحزين، ووردية ليل" لابراهيم أصلان، و "الخباء" لميران الطحاوي، و"دنيا زاد" لمي التلمساني، و"قميص وردي فارغ" لنورا أمين، و"مرايا الروح" لبهيجة حسين، و"السيقان الرفيعة للكذب" لعفاف السيد، و"دارية" لسحر الموجي، و"أوراق النرجس" لسمية رمضان، و"عابر سرير" لأحلام مستغ ن ي، و"برهان العسل" لسلوى النعيمي ... إلخ. كذلك تمثل رواية "الأجيال" Roman fleuve أو Roman Cycle، أو chronicle of saga novel، لونًا آخر من الإبداع القصصي الذي نقلناه عن الغرب، وهي الرواية التي تهتم بسيرة أسرة كبيرة على امتداد جيلين أو ثلاثة، ومن أمثلتها من الآداب الغربية: ( La Comédie humaine) لـ ( Honoré de Balzac) ، و ( le regen manar) لإيميل زولا، و "الحرب والسلام" لتولستوي، و"فرساي ساجا " لجال سورسي و"ابسوديس ناسيونالس" لبيريز جالدوس، و"بحثًا عن الزمن الضائع" و ( Strangers and brothers) لسي بي سنو. وتكمن أهمية هذا النوع من الكتابة، في أنه يطرح التغيرات الدقيقة التي تطرأ على بنية المجتمع، وشكل العلاقة فيه على مدى حقبة زمنية معينة، ومن أمثلتها في الأدب العربي، "شجرة البؤس" لطه حسين، و"الثلاثية، والحرافيش" لنجيب محفوظ، و"الشارع الجديد" لعبد الحميد جودة السحار، و"خزائن الملح" لعبد الرحمن المنيف، و"مكابدات عبد الله العاشق" لعبد الخالق الركابي، و"أوراق العائلة" لمحمد البساطي، و"ثلاثية الصعود فوق جدار الأمس، وجبل ناعسة والجويني" لمصطفى نصر، و"عش الدبابير" لجميل السلحوت، و"زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصر الله، و"العمة أخت الرجال" لأحمد أبو خنيجة،

و"خارطة الحب" لأهداب سويس، و"شجرة الفهود" لسميحة خريس، و"سقوف جدار زمن العواطف" لأحمد البتانوني، و"صباح الخير أيتها الوردة" لمحمد فاهي، و"هيروبولس" لمحمد تهامي. وتعد أيضًا تقنية "تيار الوعي" من الأشياء الجديدة التي أخذتها القصة العربية في عصرنا الحديث عن نظيرتها الغربية، وهذه التقنية نوع من الحوار الداخلي للشخص، تكون الجمل فيه مفككة، والأفكار غير مترابطة، مما يصعب على القارئ متابعة النص، أو المشاعر التي تكون متدخلة في النص، ومن الأعمال القصصية الغربية التي استعملت هذه الطريقة الفنية From underground NotesK لدستو فسكي، و"أنا كارنينا" لتولستوي، و"بحثا عن الزمن الضائع" لمراسيل بروست، و"صورة الفنان في شبابه" لجيمز جويز، و"مسز دالوي، وإلى الفنار، والأبواب" لفيرجينا ولف، و"ستيبين ولف" لهيرمان هيس، و ( The sound and the fury) لويليام فوكلر. و"السقوط "لألبير كامي، و" Jelouse people " لنادين جودي مار. وفي الأدب العربي تأثر روائيون كثيرون وبخاصة في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي بهذا التيار، منهم نجيب محفوظ في "ثرثرة على النيل"، و"اللص والكلاب"، و"الشحاذ"، ونجيب الكيلاني و"في الربيع العاصف"، وحيضر حيضر في "زمن الموحش"، وهاني الراعي في "ألف ليلة وليلتان"، وجمال الغيطاني في "الزيني بركات"، محمود عوض عبد العال في "سكر مر"، و"عين سمكة"، وإسماعيل فهد إسماعيل في "يحدث أمس"، وليلى الأطرش في "ليلتان وظل امرأة".

وساعد على انتشار هذه التقنية الروايات المترجمة المكتوبة بهذا الأسلوب، ثم ترجمت مفاهيم علم النفس وبخاصة آراء فرويد. ولا ينبغي في هذا السياق أن ننسى تقنية (تعدد السراد في القصة Multiple person view) ، وذلك حين يكون من الضروري الحصول على أكثر من وجهة نظر في الموضوع الواحد، كأن تكون هناك مثلًا جريمة أو سر خفي يحتاج أن نرصد آراء الموجودين أو وجهات نظرهم جميعًا فيه، كي تتضح الحقيقة أو تظهر جوانب الموضوع كاملة. وهذه الطريقة هي أيضًا مما أخذه الفن القصصي العربي الحديث عن نظيره الغربي، ويبدو أن القصص التي من هذا النوع ليست بكثرة تلك التي تعتمد التقنيات السردية الأخرى، ومنها خارج الأدب العربي على كل حال ( The sound and the fury) لفوكلر، و Kafka On The shore لموراكامي الياباني، و Ethan From لورتون، ولعل أشهر الروايات العربية التي سارت على هذه الطريقة، هي "ميرامار" لنجيب محفوظ، وهناك أيضًا "الرجل الذي فقد ظله" لفتحي غانم، و"ظلال على الجانب الآخر" لمحمود دياب. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 15 نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها.

الدرس: 15 نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها.

نبذة عن مراحل تطور الشعر العربي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها) نبذة عن مراحل تطور الشعر العربي نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها: الشعر فن من فنون الأدب، يزيد على الفنون النثرية كالخطابة والمقالة والرواية والمثل: بجريه على الوزن والقافية، وقيامه من ثم على التركيز والتكثيف، مع بروز العنصر الوجداني والخيالي فيه أشد من بروزهما في تلك الفنون الأخرى. وقد يكونُ الشِّعْرُ بعد ذلك وصفًا لمنظرٍ طبيعيٍّ أو موقف من المواقف، أو شخصًا من الأشخاص، أو قد يكون تعبيرًا عن خاطرة، أو قد يكون انعكاسًا للذات الفردية، أو الذات الجماعية؛ وقد يكون تحميسًا واستنفارًا، وقد يكون عبثًا واستهتارًا، وقد يكون شجنًا ويأسًا، وقد يكون بهجة وأنسًا، وقد يكون فخرًا مجلجلًا، وقد يكون إعجابًا مستوريًا، وقد يكون تأمل واستبطانًا للنفس وانسحابًا من الدنيا والمجتمعات. وقد يكون إقبالًا على الأحياء والحياة، وقد يكون هتافًا مصمًّا، وقد يكون همسًا ونجوى، وقد يكون كلامًا مباشرًا، وقد يكون حكاية، وقد يكون متعلق بقضية اجتماعية أو إنسانية أو دينية أو سياسية، وقد يكون متعلقًا بشأن ذاتي، وقد يكون مسرحية تتشابك فيها الشخصيات والمواقف والحوارات، وقد يكون ملحمة طويلة تشتمل على العقدة والسرد والوصف، وتحليل النفوس وتحاور الأفراد. والمُهِمُّ في كل ذلك: أن نلفت النظر إلى أن هذا الفن إنما ينهض على أساس من التركيز وتحليق الخيال، وحرارة الوجدان؛ فضلًا عن توفر عنصر الموسيقى، ذلك العنصر الذي يحاول الآن قومٌ من العجزة أو الموتورين الراغبين في التدمير والتشويه إلغاءه، والزعم بأن الشعر لا يحتاج إليه؛ لأنه ليس من عناصره على

الإطلاق، إنّما هو شيء عرضي إلحاقي كان له يوم من الأيام، والآن يمكن أن يخلو منه، دون أن يكون ثمة ضرر من وراء ذلك البتة. وقد ظلت القصائد العربية منذ بداية أمرها إلى بضع عشرات قليلة من الأعوام، تنظم على بحر من البحور الخليلية الستة عشر، في عدد من الأبيات يبدأ من سبعة أو عشرة، وقد يَطُولُ إلى بِضْع عَشراتٍ مِنْهَا، ورُبّما إلى ما هو أكبر من ذلك، وإن كان هذا نادرًا في شعرنا بوجه عام، وكان كل بيت ينقسم إلى شطرين، كما كانت الأبيات كلها تلتزم قافية واحدة. وإلى جانب هذا النمط من الوزن ظهر في الطريق ألوانًا أخرى، كالموشحات والمخمسات، وما إلى ذلك؛ ثم عرفنا في العصر الحديث ما يُسمى بالشِّعر الجديد، أو شعر التفعيلة، الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكونُ كُلُّ شطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا؛ فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ست أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعن للناظم أن يقف، ويستأنف نظمه في سطر جديد. وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة تفعيلتان مختلفتان أو أكثر, وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قفوي معروف؛ إذ الشاعر حر في أن يُقَفّي متى شاء، وأن يترك التقفية متى شاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء. وفوق هذا فلم يمض وقت طويل على ظهور شعر التفعيلة، الذي طنطن به أصحابه في البداية طنطنة محمومة، حتى عادت منظمته الأولى "نازك الملائكة" تنحي باللائمة على الشعراء التفعيليين الذين يخطئون أفظع الأخطاء، وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد، ويرتكبون أخطاء عروضية مشوهة وهم لا

يشعرون، مُقِرّة بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه. وأننا قد نجد خطأ عروضي في قصيدة واحدة من عشر، في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة, وهذه نسبة غير هينة، تجعلُ الغَلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة، يَنبغي أن تخص بالملاحظة. ومن هنا ارتبك نجم القصيدة التفعيلية وخفت، وظل يرتبك ويخفت رويدًا رويدًا حتى كاد أن يموت في كثير من القصائد، وأضحينا أمام أشباه جثث يزعم أصحابها، أو من يرافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا. فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا لكثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي كثيرًا ما يبلغ حد الاستغلاق، تبين لنا حجم الكارثة التي نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتدمير والتجريف، في الوقت الذي يملئون الدنيا صياحًا بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشِّعر ومصيبته وبلواه؛ إذ صار الشعر على أيديهم فاقدًا للمعنى والوزن والقافية، واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات. فإذا اعترضت أن هذا ليس بشعر، أجابوك بأن الشاعر لم يخلق ليقول شيئًا بل ليلعب الشعر بالكلمات وحسب, ومع هذا تراهم مغرمين غرامًا عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل ولا للتواصل؛ وهم يزحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى،

وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهما عن فن الشعر. وقد كتبَ بعضُ مَنْ يُدافِعون عن هذا الشعر مقرًّا بأن الغموضَ يلف الشعر الحديث وقسماته، ويخفي جوهره وعلاقاته بأشقائه في لوحة الأدب، وزاد الفجوة التي تفصل بين كثير من النصوص الشعرية المعاصرة، وجمهوره الواسع من القراء، وأن ظاهرة الغموض جاءت من أمور منها الغموض الدلالي، واستحالة الصورة الفنية، وغموض الرمز؛ فماذا بالله بقي في شعر يكون بهذه الدرجة من الغموض؟ وأي غموض إنه غموض مثلث؛ إنه غموض شامل كامل لا يترك للقارئ فرصة لينفد منها إلى شيء يقبل الفهم التذوق. أما النصوص التفعيلية التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا؛ فقد انحدرت في غير قليل من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية التي نعتز بها كل الاعتزاز، إذ نرى فيها التجديف في حق الله، والتطاول على الذات الإلهية، والاستعانة بالرموز الوثنية والصليبية، مما لا يمكن استساغته بتاتًا في النفس المسلمة السوية. بل إن أصحاب هذا اللون من الشعر حين يرجعون إلى التاريخ الإسلامي، لا يجدون من يتخذونه رموزًا لهم إلا أمثال "الحلاج" و"ابن عربي" و"أبي نواس" و"ابن الراوندي" والقرامطة والزنج، ممن تثور حول أفكارهم ومواقفهم ومعتقداتهم علامات استفهام لا تبعث أبدًا على الطمأنينة, كما يتخذون أساتذتهم ومثلهم العُليا من "إليوت" و"باوند" و"ريلك" و"دورك" و"نيورود" وأشباههم رغم اختلاف القيم والاتجاهات والعقائد بيننا وبينهم، ورغم اختلاف ظروف شعرنا العربي عن الشعر الغربي في أشياء كثيرة.

نعم قد انتهى الشعر العربي أو كاد أن ينتهي في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود، بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنى ولا نغم ولا فيه شعور. وكانت "نازك الملائكي" قد توقعت أنه سوف يأتي اليوم الذي يعود فيه ناظمو شعر التفعيلة، إلى النظم على الطريقة الخليلية مرة أخرى، بعد أن تنحسر الحماسة الأولى لذلك الشعر؛ إذ كتبت في مقدمة ديوان "شجرة القمر": "وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها". كما صرح "نزار قباني" منذ وقت جد مبكر في عدد أغسطس سنة ألف وتسعمائة وثلاث وخمسين ميلادية، من "مجلة الآداب البيروتية" بما نصه: "كنت من أول القائلين بوجوب التحرر من القافية، هذه العبودية التي تقود البيت العربي قف فيقف؛ وتقطع خيوط الخيال العربي في روعت قفزته فيقع منقطع الأنفاس، أما الآن فقد جئت أعترف بفشلي، لأني أيقنت أن التحرر من القافية العربية مغامرة قد تودي بطابع القصيدة العربية، وتقضي على إرنانتها". ونحن نرى أن موجة الشعر الجديد، هي مجرد موجة من موجات الشعر العربي؛ ليست أفضل ما فيه، ولا هي قمة تطوره كما يريد منا أصحابه أن نعتقد، بل فيها وفيها؛ إلا أن عُيوبَها أوضح فضلًا عن أن هذه العيوب ليست بالعيوب الهينة كما رأينا. بل إن النماذج الجيدة من هذا الشعر لا تصمد للمقارنة مع النماذج الجيدة لما يسمى بالشعر القديم، خذ مثلًا قصيدتين من أقوى القصائد في هذا الشعر، وهما: "أحلام الفارس القديم" لصلاح عبد الصبور، و"الغرفة رقم ثمانية" لأمل

دنقل، فالأولى في نصفها الأخير تعاني من ما يرمون به الشعر التقليدي كله زورًا وبهتانًا من خطابية ولجوء إلى حشو السطر للوصول إلى النهايات بأي طريق, والثانية يعيبُها ضعف النغم وضحالة العاطفة، إذا قيست مثلًا بقصيدة "مالك بن الريب الأموية" وهي في رثاء الذات مثل قصيدة "دنقل" وذلك رغم المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصل بين العمل الأخير، والذي رثى به "دنقل" نفسه. أو فلنأخذ قصيدة صلاح عبد الصبورة "أغنية من فيينا"، وهي أيضًا من النماذج الشعرية الجديدة التي يبوئها أصحاب الشعر التفعيلي مكانة عالية جدًّا من شعرهم، ولنُقارن بينها وبين رائية بشار "قد لامني في خليلتي عمرو" مثلًا، ولسوفَ يتبينُ لنا في الحال ما يغلب على قصيدة "عبد الصبور" من نثرية وضعف نغم، وتشتُت فكر، وقلة تركيز بحيث لا يجد القارئ لها ما يجده من أثر من قصيدة "بشار" المحكمة البناء، المتجهة قدمًا إلى هدفها، رَغم أن صاحب الأولى معاصر لنا على عكس بشار الذي يفصله عنا ثلاثة عشر قرنًا. أو فلنأخذ "طردية أحمد عبد المعطي حجازي" ولنُقَارن بينها وبين "طردية الملك العماني سُليمان بن سليم النبهاني" من أهل القرن التاسع والعاشر الهجريين، رغم أن لغة حجازي لغة عصرية ليس في معجمها كلمة واحدة تحتاج منا إلى استشارة أي معجم، في حين أن "طردية النبهاني" مملوءة بالكلمات الغريبة علينا؛ مما يُحوجُنا إلى فتح المعجم كثيرًا. على أن ليس هناك ما هو أحسم في التفرقة بين الشعرين لصالح الشعر القديم بوجه عام، من أن النّماذج التي يحفظها العربي ويستشهد بها من الشعر الجديد، نادرة جدًّا جدًّا، إذا ما قيست بروائع الشعر التقليدي الخالدة، التي لا تزال تملأ علينا نفوسنا، رغم البعد الزمني الذي يفصلنا عن ذلك الشعر.

دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي.

إنّ عُنصر المُوسيقى في الشعر هو من العناصر الجوهرية التي لا يكون الشعر شعرًا بدونها، وعبثًا يُحاول المسفسطون إيهامنا بأن الموسيقى ليست بذات أهمية، وأن الشعر يظل شعرًّا حتى في غيابها، وهي دعوى أشبه شيء بأن يقول قائل: إن البيتَ يَظَلُّ بيتًا حتى لو لم يكن له جدران أو سقف، أو الإنسان يَظلُّ إنسانًا حتى ولو لم يكن له رأس أو جزع. وليست الموسيقى شيئًا مجتلبًا يُلصق بالقصيدة، بل هي جزء منصهر مع بقية أجزائها وتأثيرها تأثير خطيرٌ, إن الموسيقى تخلق للقصيدة جوًّا عجيبًا، يُعَبّد الطريق إلى قلوبنا تعبيدًا أمام ما تتضمنه المعاني وأخيلة وأحاسيس، ويضفي عليها سحرًا وفتنة. والواقع أن شعرًا بدون وزن وقافية إنْ صَحّ تسميتُه في هذه الحالة شعرًا، وهو لا يَصِحُّ ولا يمكن أن يصح، هو كالأرض الجرداء مقارنة بالروض النضير، تصدح فيه الطيور ابتهاجًا بمقدم الربيع الجميل، وقد هب عليه النسيم العليل. دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي وثَمّ دعوة أخرى يقول أصحابها من ناظمي شعر التفعيلة: إن الشعر القديم كله شعر إنشادي؛ بمعنى إنه عالي النغم، مجلل على الدوام بغض الطرف عن المناسبة والسياق, والقائلون بذلك يقصدون الزراية عليه، إذ يهدفون إلى القول بأنه كان شعرًا خطابيًّا، يلقى في المحافل، ولم يُنظم ليقرأه الفرد بينه وبين نفسه. لكنّ هذا غير صحيح، إذ أمامنا نصوص شعرية متنوعة لا حصر لها، بعضُها عالي النغم فعلًا كـ"معلقة عمرو ابن كلثوم" التي يتحدى فيها ملك الحيرة، ويتهدّده بعظائم الأهوال إن هو فكر في أن يقترب منهم، وليس هذا عيب فيها إذ السياق يتطلب النغم العالي المجلل؛ لأنه سياق حروب وصراعات وتهديدات

وقعقعات، وليس من المعقول أن يهمس الشاعر في مثل ذلك الأوان، وإلّا كان ذلك منه دربًا من الخبلِ والعجز عن تقدير الظروف، وما تتطلبه تلك الظروف؛ فضلًا عن أن صور الشاعر صور مفترعة مدهشة. وبعض هذه النصوص فخر، وإن لم يكن فخرًا مقعقعًا؛ إذ هو فخر في ميدان الغرام لا في ميدان القتال، والفخرُ على كل حال لا يناسبه الهمس والنجوى، وهذا ملحوظ في أبيات "البهاء زهير" الرشيقة الأنيقة الرائقة الشائقة، التي يتغنى فيها بزعامته للمحبين. ومهما قلت فيها من ثناء وإشادة؛ فهي تستحقه وأكثر. أما نصّا "البحتري" و"ابن الرومي" عن الربيع؛ فبهجة عارمة بمقدم فصل الحب والنجوى، وما يبثه في الوجود المستكن الهاجع من يقظة، ويسربله به من حيوية وحسن وتوثب. وهناك أبيات "الحمى للمتنبي" وهي أبيات أثيانة منكسرة، وإن خالطت ذلك نَغمة من التهكم المتشائم، والاعتزاز المكتوم بالنفس والتعجب من مفارقات الوجود ... إلخ. والواقعُ أنّ أصْحَاب الدّعوى الإنشادية؛ إنما يهدفون بدعواهم إلى الغض من عبقرية الشعر العربي، تمهيدًا للقفز عليه وطعنه في مقتل، ولقد فعلوها وإن كان الشعر العربي الكريم الأصيل لم يمت ولن يموت، رغم كل الطعنات والبثور والتقيحات، التي أصابت جسده ووجهه وشوهت محياه الجميل، وأوصلته في شعر الطاعنين إلى طريق مسدود، بعد أن كان يكثر حيوية وعرامًا. والحق أنّ اتهام الشعر العربي بأنه كله شعر محافل لا يعرف إلا النغمة العالية، هو اتهام باطل كله تدليس؛ فإنّ النّغمة العالية ليست سمة لشعرنا القديم بالإطلاق، بل لبَعض نصوصه ليس إلّا, إلا أن القوم ذوي غرض، والغرضُ مرضٌ كما يقولون.

بناء القصيدة في الشعر العربي.

أترى معلقة "امرئ القيس" أو "طرفة" هما من الشعر العالي النغمة؟! أترى قصائد "ابن أبي ربيعة" أو "جميل" أو "قيس" أو "كثير" في حبائبه هو من الشعر العالي النغمة؟!. أترى قصائد "أبي العاتية" هي من الشعر العالي النغمة؟! أترى غزليات "العباس بن الأحنف" الرقيقة المترفة ورسائله الشعرية لحبيبته "فاوس" هي من الشعر العالي النغمة! أترى قصيدة المتنبي في "الحمى" أو ميميته في الانفصال عن "سيف الدولة" هما من الشعر العالي النغمة! أترى أشعار "ابن الرومي" التهكُميّة أو قصيدته في رثاء ابنه محمد، أو قصيدته في توحيد المغنية هي من الشعر عالي النغمة؟!. أترى أشعار "ديك الجن" في حبيبته التي قتلها غيرة، ثم قضى سائر عمره يندبها ويشعر بالذنب والويل هي من الشعر عالي النغمة؟! أترى أشعار الصوفية كـ"رابعة العدوية" و"الحلاج" و"ابن الفارض" أشعارًا عالية النغمة؟ أترى غزليات "البهائي زهير" وإخوانياته أشعارًا عالية النغمة؟!. إن القوم ليدلسون أبشع التدليس وأشنعه، وهم يعرفون أنهم يدلسون وهم يفعلون ذلك التدليس لغرض في نفس يعقوب. بناء القصيدة في الشعر العربي ومن القضايا المهمة التي تتعلق بالشعر العربي أيضًا: "بناء القصيدة" ولعل أوّل من افتتح الكتابة في هذا الموضوع من مؤرخي الأدب ونقاده هو "ابن قتيبة" الذي قال في كتابه (الشعر والشعراء): "سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مُقَصّد القصيد إنما ابتدأ فيه بذكر الديار والدِّمن والآثار؛ فبكى وشكا وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن، على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان.

ثم واصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ ليُميل نحوه القلوب، ويَصْرِفَ إليه الوجوه، وليَسْتَدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التّشبيبَ قريبٌ من النُّفوس لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء؛ فليس يكاد أحد يخلوا من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق؛ فرحل إلى شعره وشكا النصب والسهر، وسهر الليل، وحر الهجير وإمضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، ودمامة التأمين، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه إلى السماح وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل. فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدَل بين هذه الأقسام؛ فلم يجعل واحدًا مِنها أغلب على الشعر، ولم يُطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظماء إلى المزيد. وليس لمتأخري الشعراء أن يخرُج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقفَ على منزل عامر، أو يبكي على مشيد البنيان؛ لأنّ المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأنّ المُتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي أو يقطع إلى الممدوح منابت من النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة".

وقد قالت طائفة مؤرخي الأدب العربي ونقاده، بناء على ذلك النص: إن هذه هي بنية القصيدة العربية، التي لم تعرف غيرها طوال عصورها منذ الجاهلية إلى العصر الحديث. وأول ما ينبغي التنبيه إليه: هو أن الملاحظة السابقة ليست من بنيات عقل "ابن قتيبة" على عكس ما هو شائع؛ إذ هو مجرد حاك لها، كما جاء في بداية كلامه، وان كان يفهم من نهاية النص أنّ الرأي الذي يقول بأنه لا يحق للمتأخر من الشعراء، أن يخرج على ما قرره السابقين منهم هو رأيه هو؛ فإن كان الأمر كذلك فمعناه أنه قد وقع دون أن يدري في شيء من التناقض. فقد قال في مقدمة كتابه ذاك في سياق الحديث عن الشعراء الذين ترجم لهم فيه، والأساس الذي استند إليه في الحكم على مرتبة كل منهم قال: "ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره, ولا نظرت إلى المتقد بمنهم بعين الجلالة بتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره؛ بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كل حظه، ووفرت عليه حقه؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم ولا الشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره، وكُلّ شريف خارجية في أوله؛ فقد كان "جرير" و"الفرزدق" و"الأخطل" وأمثالهم يعدون محدثين، وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته, ثم صار هؤلاء قدماء عندنا لبعد العهد عنهم.

وكذلك يقول من بعده لمن بعدنا كـ"الخريمي" و"العتابي" و"الحسن بن هانئ" وأشباههم؛ فكل من أتى بحسن من قول أو فعل، ذكرناه له وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائده أو فاعله، ولا حداثة سنه؛ كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه". ومعنى هذا: أنه لا فَضل للمتقدمين من الشعراء على التالين لهم؛ فلماذا يُحرم "ابن قتيبة" على هؤلاء إذا أن يخرجوا على ما قرره أولئك ونهجوا سبيله، إذا كانا الفريقين موهوبين كلاهما، ولا يتفاضلان بهذا الاعتبار؟. كما أنّ الحياة لا تعترف بهذا التضييق الذي يريد بعض الناس أن يلزموا أنفسهم وغيرهم أيضًا به، بل أن تتسع لألوان كثيرة مختلفة من الأذواق والمعايير، وبخاصة في مجال الفنون والآداب، وما دام الله -سبحانه- لم يجعل العقل والذوق والوجدان والإبداع قصرًا على قوم دون قوم، ولا على جيل دون جيل، ولا على أمة دون أمة, فلماذا اشترط "ابن قتيبة" على اللاحقين من الشعراء أن يلغوا شخصياتهم الفنية، ويحطبوا في حبل من تقدموا من نظرائهم؟. على أن الذي يُهمنا من هذا النص حقًّا: هو ما جاء فيه من أن تلك هي السبيل التي كان ينتهجها دائمًا أصحاب القصائد، وهو ما لا يوافقه الواقع، إذ هناك قصائد جاهلية كثيرة جدًّا، لم يجر فيها ناظموها على هذه الخطة، بل تراهم يدخلون في موضوعهم مباشرة، أو يَسْتَهِلُّون شعرهم بشيء آخر غير الوقوف على الأطلال، كالنسيب مثلًا، أو الحديث عن فراق الحبيبة لانتقالها مع قبيلتها إلى منزل آخر، أو بالحديث عن السهاد ومراعاة النجوم، ومقاساة الأرق والقلق، أو بالرد على عتاب زوجته له لهذا السبب أو ذاك، أو بوصف الخمر أو بالتحسر على أيام الشباب التي انصرمت ولم يعد لها من رجوع، وغير ذلك من

الابتداءات, وإن كان افتتاح القصيدة بالوقوف على الطلل أشهر من غيره من الافتتاحات. وحتى إذا وقف الشاعر على الأطلال؛ فإن كثير منهم لا يعقبون ذلك بالرحلة لا للممدوح ولا لأي شخص آخر، بل كثيرًا ما لا يكون هناك ممدوح البتة، كما هو الوضع في "معلقة: عنترة" و"الملك الضليل" مثلًا, كذلك فكثير من هذا الشعر لا يزيد عن أن يكون تصويرًا لتجربة ذاتية حقيقية أو متوهمة لا صلة بينها بتاتًا وبين الأغراض الشعرية التقليدية، ولا البناء الفني الذي تحدث عنه "ابن قتيبة" بأي حال. وواضح إذًا أنّ ما قاله "ابن قتيبة" لا يقتصر على شعر المديح، بل يقع في شعر المديح وفي غيره، وحتى في شعر المديح فهو لا يقع عليه كله بل على بعضه فقط, أي: أن ما يحسبه كثير من الباحثين نظامًا صارمًا يتبعه الجاهليون والقدماء عمومًا في بناء القصيدة؛ لم يكن في الحقيقة كذلك، بل كان يراعى في بعض قصائد المديح لا كلها، وإن لم يقتصر على ذلك النوع من القصائد، بل يشركها في ذلك كثير من الأشعار غير المدحية أيضًا. وبالمثل إذا كانت هناك قصائد متعدد الأغراض؛ فكذلك قامت إلى جانبها قصائد لا تشتمل إلا على موضوع واحد، مقدارها لا يسعه الإحصاء كثرة كقصائد "عمر ابن أبي ربيعة" مثلًا وأشعار العذريين وشعر "أبي العتاهية الزهدي" وهو معظم شعره وشعر "العباس بن الأحنف" وغير قليل من شعر "بشار" كـ"رائيته المفحشة" مثلًا و"بائية: أبي تمام" في فتح عمورية، وكثير من شعر "المتنبي" و"أبي العلاء المعري" و"ابن الرومي" وكل شعر "ديك الجن" تقريبًا وكل الشعر الصوفي تقريبًا .. إلخ. وبهذا يتبين لنا زيف مقولة أخرى منتشرة بين مؤرخي الأدب العربي.

المناداة بما يسمى بالوحدة العضوية داخل القصيدة.

المناداة بما يسمى بالوحدة العضوية داخل القصيدة ثُم جد في الشعر العربي الحديث المناداة الملحة بالوحدة العضوية؛ وهي تقوم على تشبيه القصيدة بالجسم الحي، من حيث إن له أعضاء متصلة، ولكل عضو من أعضائه الموضع الذي لا يعدوه من الجسم؛ فلا يمكن من ثم نقله إلى موضع آخر؛ كما لا يمكن الاستغناء عنه, وهو ما لا بد أن يتحقق نظيره في القصيدة، فلا يتقدم بيت عن موضعه أو يتأخر، مثلما لا يمكن حذف شيء منها، وإلا فسد أمرها كما يفسد أمر الجسم إذا خلع منه عضو، ونقل إلى غيره مكانه الذي كان فيه لو بتر منه أصلًا. وممن نادى بهذه الوحدة في العصر الحديث: المرحوم "عباس محمود العقاد" الذي أخذ على شوقي فيما أخذه عليه في كتاب (الديوان في الأدب والنقد) أن قصائده تعاني من التفكك أيما معاناة. إلا أن "الحاتمي" في القرن الرابع الهجري قد قال شيئًا شبيهًا بهذا وهذا نص كلامه حسبما أورده كل من "ابن رشيق" في كتابه (العمدة في صناعة الشعر) والحصري القيرواني في (زهر الآداب وثمر الألباب) قال الحاتمي: "من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجًا بما بعده من مدح أو ذم، متصلًا به غير منفصل عنه؛ فإن القصيدة مَثَلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد عن الآخر وبينه في صحة التركيب؛ غادر بالجسم عاهة تتخول محاسنه، وتعفي محاسن جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين، يحترسون من مثل هذه الحال احتراسًا يحميهم من شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان".

لكن من الواضح أنّ الحاتمي لم يكن يقصد أن يكون موضوع القصيدة شيئًا واحدًا، إذ طالبَ الشاعرَ بأن يكون نسيبه في أول القصيدة متصلًا اتصالًا وثيقًا بمديحه أو هجائه في آخرها، بما يعني انه لا يجد شيئًا في تعدد أغراضها، وعلى هذا فكل ما كان في ذهنه ألا أن تتنافر تلك الأغراض فيما بينها، بل تكون متلاحمة متسقة، وهذا مطلب نادى به النقاد العرب القدماء كلهم تقريبًا إلا أن "الحاتمي" هو الوحيد -فيما نعلم- الذي شبه القصيدة بالجسم الحي. أما "العقاد" فكان يرفض تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، وأخذ على شوقي ابتداءه بعض أشعاره السياسية بالغزل على الطريقة القديمة. ويرى "محمد مندور" في الفصل الذي خصصه للعقاد في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون) أنّ هذه الوحدة العضوية التي نادى بها العقاد، لا تكادُ تُتَصَوّر إلا في القصائد القصصية أو الدرامية، أمّا في ما عدا هذا من شعر غنائي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر، في غير نسق محدد فلا؛ وأن في دعوة الأستاذ "العقاد" تعسفًا غير مقبول. ثُم مضى فذكر أنه طبق ذلك المعيار على قصيدة "البشير" لـ"العقاد" هي هدية الكروان؛ فكانت النتيجة إن أمكن تقديم بعض الأبيات وتأخير بعضها الآخر، دون أن يلحق بالقصيدة أي أذى, وكلام الدكتور "مندور" بوجه عام صحيح إلى حد كبير، ولكنّ هذا لا يمنع من وجود قصائد غير قصصية ولا درامية، تتحققُ فيها الوحدة العضوية، كقصيدة "سلع الدكاكين في يوم البطالة" و"رثاء طفلة" لـ"العقاد" وقصيدة "العودة" لـ"إبراهيم ناجي" وقصيدة "لست قلبي" و"لا تكذبي" لـ"كامل الشناوي" وقصيدة "أيظن" لـ"نزار قباني" مثلًا.

ظهور ما يسمى بالشعر الحر.

وتزداد فرصة تحقق الوحدة العضوية إذا كانت القصيدة قائمة على نظام المقاطع الذي ينفرد فيه كل مقطع بشكل موسيقي مختلف، ففي هذه الحالة يستحيل أن ينتقل أي بيت في القصيدة من مقطع إلى مقطع آخر، وإلا فسد نظامها الموسيقي, وبهذا تقل فرصة تلاعب الأبيات عن طريق نقلها من موضع إلى غيره، كما هو الحال في الموشحات وفي قصيدة "أخي" لـ"ميخائيل نعيمة" وأمثالها. وعلى أية حال؛ فإنّ أحسَنَ شَيء في هذه القضية: هي أن نقصر مطالبتنا للشاعر على أن يكون لقصيدته موضوع واحد، وأن يسودَها جو نفسي واحد، وألا تكون الوحدة الفكرية الصغرى في القصيدة هي البيت بل المقطع وما أشبه. ظهور ما يُسمى بالشعر الحر ثم ظَهَر بعد هذا ما يُسمّى بالشعر الحُر، وهي تسمية توحي بأن أصحاب هذا الاتجاه في كتابة الشعر، يرون أن من سبقهم كانوا يكتبون شعرًا مقيدًا، وأن طريقتهم هم؛ قد حررت الشعر العربي من القيود التي كبلت الشعراء العرب قرونًا طويلة. إذ رأى أعضاء هَذه الجَماعة أن القصيدة العربية القديمة فرضت عليهم قالبًا شعريًّا قائمًا على وحدة الوزن والقافية، طالبتهم باتباعه فكان على الشاعر حين يكتب قصيدة في بحر من بحور الشعر العربي أن يكمل البحر في كل بيت من أبيات القصيدة، حتى لو اضطر كما يحدث في كثير من الأحيان -وفاء لشكل هذا البحر- أن يضيف كلمات، أو عبارات، أو جملًا، بغية استكمال الشكل لهذا البحر؛ مما يدل على أن الشكل الشعري أصبح قيدًا يتحكم في الشاعر، وليس الشاعر هو الذي يتحكم فيه.

فكان على الشاعر أن يتحرر من هذا القيد ويتمرد على مفهوم البيت المتكون من شطرين متساويين، وعاد تشكيله بحيث أضحى يتألف من سطور متفاوتة الطول، إذ كل سطر منها مكون من عدد من التفعيلات يختلف حسب الدفعة الشعورية؛ فإذا طالت طال معها السطر والعكس صحيح, ومن ثم لم يعد بحاجة إلى الحشو لتكميل وزن البيت. ولم يمض سنواتٌ قلائل؛ حتى شكل هذا اللون من الشعر مدرسة شعرية جديدة، حطمت -كما قالوا- كلَّ الفروض المفروضة على القصيدة العربية، وانتقلت بها من حالة الجمود والرتابة، إلى حال أكثر حيوية وأرحب انطلاقًا. وبالنسبة إلى بدايات هذا الاتجاه نجد من يرجعها إلى خمسينات القرن العشرين، وإن كانت إرهاصاتها قد بدأت في الأربعينات، إلا أن هناك من يعودها إلى الثلاثينات، بل هناك من يعود بها إلى ما هو أبعد من ذلك كما سيأتي تفصيله. وقد وجدت مدرسة الشعر الحر الكثير من المريدين، وانتشرت في جميع البلدان؛ فرأينا في العراق "نازك الملائكي" و"السياب" و"البياتي" ورأينا في مصر "صلاح عبد الصبور" و"أحمد عبد المعطي حجازي" ورأينا في لبنان "أحمد علي سعيد" "خليل حاوي" و"يوسف الخال" ورأينا في فلسطين "فدوى تقان" و"سلمى خضراء الجيوشي" ورأينا في السودان "محمد الفيتوري" و"صلاح محمد إبراهيم" وهذه مجرد أمثلة ليس غير. ولكن ما شكل الشعر الحر؟ فعند "نازك الملائكي" أنّ الشعر الحر هو شعر ذو شطر واحد، أو فلنقل: ذو سطر؛ مكون من عدد من التفعيلات ليس له طول ثابت، إذ يصحُّ أنْ يتغيرَ عدد التفعيلات من شطر إلى شطر، مع تفضيل وحدة التفعيلة؛ فينظِمُ الشَّاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة "كالرمل" مثل أشطرًا تجري

على هذا النسق أو على نسق آخر مُشابه, "فاعلات فاعلات فاعلات فاعلات, فاعلات فاعلات", "فاعلات فاعلات فاعلات فاعلات", "فاعلات فاعلات فاعلات, فاعلات فاعلات". وهكذَا يَمْضِي الشّاعِرُ عَلَى هذا النسق حُرًّا في اختيار عدد التفعيلات في السطر الواحد، غير خارج على القانون العروضي على بحر الرمل، فالشكل الجديد يقوم هنا على وحدة التفعيلة دون التزام موسيقى البحور المعروفة، وإنْ كان هناك من ينظم قصيدته على أكثر من تفعيلة كما سيأتي لاحقًا. وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن شُعَراء القصيدة الحُرّة يرون أن موسيقى الشعر ينبغي أن تكون انعكاسًا للحالات الانفعال عند الشاعر. ومِمّا سَبَق تتضح لنا ملامح الشعر الحر؛ فالعروض موجود وهو يقوم على التفعيلة لا على البحر كله, فإذا أراد الشاعر أن ينسج قصيدة ما على بحر معين، وليكن الرمل مثلًا كان لزامًا عليه، أن يلتزم في قصيدته بتفعيلات هذا الرمل من مطلعها إلى منتهاها، وليس له من الحرية سوى عدم التقيد بنظام البيت التقليدي، والقافية الموحدة، وإن كان الأمر لا يمنع من ظهور القافية واختفائها من حين لآخر دون نظام معروف، بل حسبما تقتضيه الدفقة الشعورية. فقد يتكون الشطر أو السطر من تفعيلة واحدة، وقد يصل في أقصاه ست تفعيلات كبيرة، مثل: "مفاعيل ومستفعل" أو ثمان صغيرة، إذا كان البحر الذي استخدمه الشاعر يتكون من ثلاث تفعيلات صغيرة، مثل: "فعول أو فاعل", وإن كان من النقاد من لا يميل إلى تحديد عدد التفعيلات في الشطر الواحد، تاركًا الحُرّية للشاعر نفسه في تحديدها وفقًا لتنوع الدفقات الشعورية التي تموج بها نفسه، في حالته المعينة.

ورغم أنّ الشاعر الذي ينظم الشعر الحر يمكنه استخدام البحور الخليلية المفردة التفعيلات، والمزدوجة منها على حد سواء؛ فإن البحور الصافية التفاعيل هي أفضل البحور وأيسرها في نظم هذا اللون من الشعر الحر، لاعتمادها على تفعيلة مفردة غير ممزوجة بأخرى, والبحور الصافية التفاعيل هي التي يتألف شطرها من تكرار تفعيلة واحدة ست مرات، كالرمل والكامل والهزج والرجز والمتقارِب والمتدارك. كما يدخل ضمن تلك البحور مجزوء الوافر "مفاعلة مفاعلة", وقد يجمع الشاعر من أشكال الوزن الواحد "الوافي والمجزوء والمشطور والمنهوك جميعًا. أما القافية: فهي في مفهوم أصحاب هذا الاتجاه نهاية موسيقية للسطر الشعري، وهي انسب نهاية لهذا السطر؛ ومن هنا كان صعوبة القافية في الشعر الجاهلي في رأيهم، وكانت قيمته الفنية كذلك؛ إذ الشاعر في هذا لا يبحث عنها في قائمة الكلمات التي تنتهي نهاية واحدة، وإنما هي كلمة ما من بين كل كلمات اللغة يستدعيها السياقان: "المعنوي والموسيقي" من الشطر الشعري؛ لأنها هي الكلمة الوحيدة التي تضع لهذا السطر نهاية ترتاح النفس للوقوف عندها، كما قال الدكتور "عز الدين إسماعيل". كذلك يقول أصحاب هذا الاتجاه: إن وظيفة ما يسمونه بالشعر الحر: هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية للواقع الذي يعيشه؛ فالقصيدة تجربة إنسانية مستقلة، وليس الشعر مجموعة من المشاعر والأخيلة والتراكيب اللغوية فحسب، بل هو فوق هذا طاقة تعبيرية تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانات من إنسانية في المجتمع, كما أن موضوعاته موضوعات الحياة عامة، وبالذات ما يكشف منها عما في الواقع من زيف وضلال، وتخلف وجوع ومرض بغية دفع الناس إلى تغيير حياتهم نحو الأفضل.

أما بالنّسبة إلى بدايات الشعر الحر فتقول "نازك الملائكة" في أول طبعات كتابها (قضايا الشعر المعاصر): كانتْ بداية حركة الشعر الحر سنة 1947م في العراق، ومن العراق بل من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله، وكادت بسبب الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا الأخرى جميعًا، وكانت أول قصيدة حُرّة الوزن تنشر قصيدة معنونة "الكوليرا" ثم قصيدة "هل كان حبًّا" لبدر شاكر السياب من ديوان "أزهار دابلة" وكلتا القصيدتان نشرتا في عام 1947م. إلا أن "نازك الملائكي" عادت في مقدمة طبعة لاحقة لكتابها المذكور فقالت: "إنه مزيد من الاطلاع والدرس، قد تحقق لديها أنّ بدايات الشعر الحُر ترجعُ إلى ما قبل عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين ميلادية، وممن ذكرت اسمهم في هذا المجال "علي أحمد باكثير" و"محمد فريد أبو حديد" و"محمود حسن إسماعيل" و"لويس عوض" و"عرار" شاعر الأردن ... إلخ. بل أشارت الشاعرة والناقدة العراقية إلى قصيدة من الشعر الحر عنوانها "بعد موتي" نشرتها جريدة العراق سنة 1821م تحت عنوان: "النظم المطلق" الشاعر وقع تحتها بالحرفان الأولان من اسمه "ب ن" ثم تعقب بقولها: والظاهر أن هذا أقدم نص في الشعر الحر. إلّا أنّ النّاقد السعودي دكتور "محمد الصفراني" قد رد على ذلك في مقال له منشور بموقع أسواق المربد بعنوان "في القصيدة الحديثة ريادة العواد حقيقة علمية جديدة قائلًا: "والسؤال المهم الآن هل نستطيع أن نَحْكُم بأن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة إحدى وعشرين وثمان مائة وألف ميلادية؟ إن الشاعر السعودي "محمد حسن عواد" يبرز من بين المعروفين والمشهورين في ساعة الشعر

الحر رائدًا يستحق الريادة، بالدليل التاريخي المادي والفني؛ وليس بالعواطف والتمني ولا التصارخ والتجني. فقد سبق الشاعر والناقد "محمد حسن عواد" كل من "باكثير" و"نازك الملائكة" و"بدر شاكر السياب" في إبداع الشعر الحر والتنظير له نقديًّا", وحتى يكون كلامنا بعيد عن الأهواء والتمنيات والرجم بالغيب، ها نحن نقدم الدليل المادي على ريادة "العواد" للشعر لحر بين يدي دعوانا وهو صورة أو نص حر نشره "العواد" في صحيفة "القبلة" عام 1921م مع وعد بنشر النص الحر الثاني الذي نشره "العواد" بصحيفة "القبلة" في نفس العام في الحلقة القادمة. ودفعًا للشبهات فإنا سأدرج صورة طبق الأصل من الصفحة الأولى من صحيفة "القبلة" للعدد الذي نشر فيه "محمد حسن العواد" نصه الأول المكتوب على نظام الشعر الحر، وأتلوها بصورة طبق الأصل من الصفحة التي نشر فيه النص نفسه، بعنوان: "تحت أفياء اللواء" وسأعيد كتابة مقدمة الصحيفة للنص ونص قصيدة "العواد" حتى أكون واضحًا، وأشير إلى عدد التفعيلات المكونة لكل سطر من أسطر النص برقم في أوله. "الشعر المطلق" جاءتنا القصيدة الآتية من الفاضل صاحب الإمضاء بجدة، وهي من الشعر المطلق على الطراز الجديد، يُضاهي بها قصيدة من هذا النوع تغزل فيها صاحبها بالرايات العربية، وكنا قد نشرناها في عددنا رقم 115 نقلًا عن جريدة "العراق الغراء" وهي القصيدة التي جاءتنا من "جدة": تحيا تحت أفياء اللواء نهضتي أنت فخري أنت ذخري بك قدري يعتلي فوق سماك الأعزل

لك قد آثرت في العمر احتساء العلقمي بك دومًا فقت قومًا عرفوا معنى الحياة فانشرينا وارفعينا في الورى أرفع جاه نحن قزم نعتلي تحت ظلال العلقمي نهضتي ما ارتقائي واعتلائي واكتسائي ثوب عز فيه يصفو العيش لي بسواك أنت أسباب حياتي الأمم بك تحيا كل عليا أنت عنوان الفخار افهميني علميني في الورى حفظ الزنار وارفعي رايتنا فوق جباه الأنجم نهضتي أنت مجدي منك سعدي حرري وطن لا يبتغي إلا الصعود واخلعي عن عنقه نير العبود أسعديه بلغيه كل غايات المرامي ليعيش الشعب في عيش رغيد في هناء تحت أفياء اللواء المعلمي نهضتي أنت أس للارتقاء السام الصحيح للوطن أنت للشعب المعنى خير روحي في بدن

فاكتبي في صفحة الشعر الجديد إنما النهضة أم الارتقاء العالمي جدة م ح "أي: محمد حسن عواد" يبني العواد نصه على أن الشعر الحر؛ فقد أقام وزنه على أساس تفعيلة "فاعلات" التي يقوم عليها بحر صاف هو بحر الرمل, ولقد جعل "العواد" من تفعيلة "فاعلات" وحدة موسيقية مستقلة بذاتها، ووزعها بأعداد متساوية على سطور النص، من غير أن يلتزم بنظام ثابت في التوزيع, ويتضح التفاوت في التوزيع التفعيلات على سطور النص من خلال الأرقام التي يبدأ بها كل نص، والتي يدل كل منها على عدد التفعيلات المكونة للسطر. وقد قسم "العواد" النص إلى أربعة مقاطع حيث يتكون المقطع الأول من ثلاثة عشر سطرًا، ويتكون المقطع الثاني من ثلاثة عشر سطرًا، ويتكون المقطع الثالث من أحد عشر سطرًا، ويتكون المقطع الرابع من ثمانية أسطر، وقد كتب "العواد" مقاطع النّص جميعها على هيئة السطر النثري، الذي يخالف الشكل التناظري للقصيدة الكلاسيكية القائمة على البيتية على بحور الشعر العربي المعروف. وبهذا يتبين لنا أن نص العواد يتوافق مع مفهومنا الإجرائي للشعر الحر موافقة تامة، كما يتوافق مع مفهوم العواد للشعر الحر، كما سيرد في مدونة "العقاد" النقدية لاحقًا، واستنادًا إلى توافق نص "تحت أفياء اللواء" مع مفهوم الشعر الحر، واستنادًا إلى تاريخ نشره في صحيفة "القبلة" الواقع في سنة ألف وتسع مائة وواحد وعشرين ميلادية، نستطيع القول إن الشاعر السعودي "محمد حسن العواد" قد سبق كل من "با كثير" و"نازك الملائكة" و"بدر شاكر السياب" في كتابة الشعر. هذا ما قاله الكاتب السعودي.

ومع هذا فقد رد أحد المعلقين على هذا المقال بالموقع: بأن موضوع بدايات الشعر الحُر وريادتة موضوع مطول جدًّا، واجتهد باحثون كثيرون في رصد هذه الظاهرة أبرزهم "يوسف عز الدين" و"إحسان عباس" وعز الدين إسماعيل" وآخرون، وانتهى أكثرهم إلى جملة من الرواد "محمد فريد أبو حديد", "أحمد ذكي أبو شادي", "باكثير", "بشر فارس". لكنّ أقدم نص في العصر الحديث ينتمي لهذا الشكل هو نص "رفيف الأقحوان" للشاعر "توفيق فياض" سنة 1892م, وهذا التعليق يبين لنا أن أساس المسألة هي نصوص تظهر بين الحين والحين من ركام الماضي؛ فكُلّما ظهر نص ينطبق عليه مفهوم الشعر الحُر، رجعنا ببدايات هذا الشعر إليه، إلى أن يظهر نص آخر يلغيه وهكذا، وإن لم يرد المعلق نص "توفيق فياض" مكتفيًا فقط بالإشارة إليه. وعلى كل حال فمن المعروف أنه لا يتم أي تغيير أو تطوير دفعة واحدة، بل يبدأ قطرات صغيرة متباعدة، تسبق أهطال المطر وتدق السيول, وقد ذكر بعضهم على لسان أصحاب شعر التفعيلة: أن القصيدة التفعيلة أن القصيدة التفعيلية هي الإطار الملائم والمفضل لدى معظم الشعراء وما زالت، بما لها من فوائد تخدم الذائقة، ومنها الحرية التعبيرية التي يجتاح من خلالها تدفق الأفكار الشعرية دونما عائق من قافية أو وزن محدد التفاعيل، ثم الأريحة البصرية والنفسية، بسبب من كسر للروتين التوزيع البصري للقصيدة البيتية؛ مما حد من "سيماترية" العمود الكلاسيكي. كما أن التفعيلة من موسيقاها تساعد كثيرًا على تمكين ألفاظ الشعر من تعدي عالم الوعي، والوصول إلى العالم الذي يتجاوز حدود الوعي، التي تقف دونها الألفاظ المنشورة.

لكن فات القائلين بهذا أنه لا يوجد شيء في الدنيا يخلو من القيود، فضلًا عن أن يكون هذا الشيء هو الفن، إن هذه القيود هي الحافذ الذي يستثير كوامن الموهبة، ما المذخور العبقري عند الفنانين الكبار إلى الظهور فتأتي بالأعاجيب، ولولا هذه القيود التي لا ينبغي مع ذلك أن تتحول من عامل يستنفر المواهب والعبقريات، إلى جدار مصمت صعب أو يستحيل اختراقه؛ لما استطعنا تمييز الإبداع الحقيقي عن الغثاء الفني. أما ما قيل عن الراحة البَصرية؛ فإنْ صَحّ هذا الكلام وهو لا يصح، فبإمكان الشاعر أن يَطْبَع نص القصيدة دون تنسيق، وإن كُنّا نستغرب هذا التعبير العجيب، لكننا إنما نرد على قائليه بطريقتهم ليس إلا، أما الزعم أن التفعيلة بموسيقاها تساعد كثيرًا على تمكين ألفاظ الشعر من تعدي عالم الوعي، والوصول إلى العالم الذي يتجاوز حدود الوعي الذي تقف دونها الألفاظ المأثورة؛ فهو كلام غير منضبط وغير مفهوم، وإلا فإذا كانت من موسيقى التفعيلة تلك الخاصة، فلا ريب أنّ لموسيقى قافية الشعر ذو الشطرتين أقوى نغمة، ومن ثم أقدر على تأدية تلك الوظيفة المدعاة أيًّا كان المقصود منها. كذلك فقول بعضهم: إنّ القَافِية في الشعر التفعيلي أصعب منها في الشعر القديم، هو مما لا يعقل؛ إذ يذكُر أنصارُ الشِّعر الجديد من بين الأسباب الني دعت إلى الخروج عن نظام الموسيقى الخالدية: صعوبة القيود التي تكبل الشعراء في هذا النظام؛ فكيفَ نُصَدِّق أنهم يعملون على الانعتاق من صعوبة، بغية الوقوع في صعوبة أصعب؟ هذا ما لا يمكن تصوره. ويقول الدكتور "النويهي": إن الدافع الحقيقي إلى نظم شعر التفعيلة هو الرغبة في استخدام التجربة، مع الحالة النفسية والعاطفية للشاعر، وكذلك لكي يتآلف

الإيقاع والنغم مع المشاعر الذاتية، في وحدة موسيقية عضوية واحدة، وهو زعمٌ لا يعقل، وإلا كان معنى ذلك أن الشعراء العرب طوال ستة عشرَ قرنًا من الزمان على الأقل، لم يكونوا يستطيعون العثور على النغم الموسيقي المناسب للتعبير عن مشاعرهم الذاتية. ترى ماذا كان يفعل "امرؤ القيس" أو "طرفة" أو "عنترة" أو "زهير" أو "الخنساء" أو "أبو ذؤيب الهذلي" أو "عمر بن أبي ربيعة" أو "جميل بثينة" أو "كثير عزة" أو "ابن قيس الرُّقيات" أو "بشار" أو "أبو نواس" أو "أبو العتاهية" أو "العباس الأحدب" أو "أبو تمام" أو "البحتري" أو "ابن الرومي" أو "ابن زيدون" أو "المعري" أو "الشريف الرضي" أو "ديك الجن" أو "البهاء زهير" إلى آخر من نعرف ومن لا نعرف من الشعراء العرب، سوى التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم ومواقفهم مستعينين في كل هذا بنظام والقوافي المتاحة لهم، والذي لا يعجب الآن الدكتور "نويهي". والعجيب أنه في كتابه (الشعر الجاهلي) يقف مبهورًا أمام بعض النماذج الشعرية الجاهلية، مبرزًا ضمن ما أبرز البراعة النغمية الموسيقية التي يقوم عليها بناء النص الذي يحلله, بل لقد فعل ذبك إلى درجة مغالية لم أستطع أن أقرها عليه أحيانًا فيما كتبت عن ذلك الموضوع في الفصل الأول من كتابي (الورايا الرشوية) الذي تناولت فيها منهج الدكتور "النويهي" في دراسة الشعر الجاهلي. كذلك نراه في كتابه (ثقافة الناقد الأدبي) يعبر عن إعجابه العظيم بقصيدة "ابن الرومي" في رثاء ابنه الأوسط، ويراها شيئًا فذًّا رغم أنها منظومة على نظام الموسيقى التقليدي، فما عدا إذًا مما بدا، ومن الواضح أن في حكمة الأخير على النظام العروضي والقافوي السابق تجنيًا وإسرافًا بعيدًا، وأن الأمر يحتاج إلى اعتدال النظرة، وهدوء المشاعر، بدلًا من المبالغات الشديدة والآراء المسبقة، الكفيلة بإفساده للأحكام النقدية هذا الإفساد الشنيع.

إن الرجل لبارع في استخدام المنهج الانطباعي في التعليق على النصوص الشعرية، إلا أنه فيما يبدو لا يوفق كثيرًا حين يخرج عن هذا المنهج، أو حين يلجأ إلى التنظير. أما بالنسبة إلى كلام المتحمسين للشعر التفعيلي حول الوحدة العضوية ودعواه افتقار الشعر العمودي إليها؛ فينبغي أن لا ننسى أن كثيرًا من نماذج الشعر العربي القديم جدًّا تتمتع بتلك الوحدة؛ كقصائد "الخنساء" وقصائد "عمر بن أبي ربيعة" وقصائد "جميل" وكثير من قصائد "بشار" و"أبي نواس" و"أبي تمام" و"ابن الرومي" و"المعري" و"ابن زيدون" و"البهاء زهير" ومعظم الموشحات وكل أشعار مدرسة المهجر ومدرسة الديوان ومدرسة أبوللو تقريبًا على قدر ما يُمكن تحقق الوحدة العضوية في الشعر الغنائي، الذي أنكر الدكتور "مندور" بقوة أن يتحقق له ذلك اللون من الوحدة، ورددت عليه أنا مبينًا أن هناك شعرًا غنائي غير قليل، تتحقق له تلك الوحدة، التي ينبغي مع ذلك أن لا نكون متنقصين في تعريفها وتضييق مفهومها، وإلا فلا يُمكن تحققها في أي شعر غنائي تقريبًا. وهناك أيضًا من أحدث ضجيجًا مصمًّا حول اللغة البسيطة التي يستعملها شعراء التفعيلة، والتي يجعلون منها إحدى مزايا ذلك الشعر، زاعمين أنها غائبة من الشعر العمودي تمامًا، وهذا ادعاء فاسد تكذبه الوقائع الصلبة، إذ إن شعر "الخنساء" مثلًا أو "ابن أبي ربيعة" أو "جميل" أو "البهاء زهير" وبهذه الأسماء ولو مجرد أمثلة أذكرها كيفما اتفق قد نظم بلغة لم يكن للمستمع أو القارئ وقتئذ فيها شيئًا يصعب فهمه، بل إننا الآن لنستطيع أن نقرأ هذه الأشعار، ونفهمها ونتذوقها إلى حد كبير دون الاستعانة بأي قاموس لغوي. أما في العصر الحديث؛ فالأمر يحتاج إلى توضيح، وإلا فإن كان "المازني" أو "علي محمود طه" أو "الهمشري" مثلًا ينظمون أشعارهم بألفاظ حوشية غير مفهومة، أو لا تسوغ في السمع أو على الألسنة، إن كل شعر إنما ينظم بوجه عام باللغة التي

يفهمها أبناء العصر، والشعر الجاهلي نفسه بعيدًا عن وصف "الناقة، والثور الوحشي" وما إليه مما يستلزم ألفاظًا لا نعرفها نحن الآن لأننا ليس لنا تلك الخبرة التي كانت لشعراء ذلك العصر بتلك الحيوانات؛ لهو شعر مفهوم لنا في كثير من نماذجه إلى حد غير قليل، فما بالنا بشعر العصور التالية للعصر الجاهلي؟. وتبقى فكرة التجديد الموسيقي، وهي ليست بالأمر الجديد إذ رأينا القدماء يبتكرون ألوانًا جديدة للقافية كالمزوجات، والمثلثات، والمربعات، والمخمسات، والمصمدات. وكذلك الموشحات التي طبقت شهرتها الآفاق، ويمزجون في القصيدة الواحدة بين الوزن الكامل، ومجزوئه، ومشطوره، ومنهوكه، وتفنن الشعراء المحدثون بعد هذا تفننًا، إلا أنّ النغم الموسيقي ظل قويًّا معبرًا، ولم يفتر أو يمت حسبما انتهى الأمر إليه سريعًا في الشعر التفعيلي. كما كان هناك دائمًا نظام مفهوم ومرئي لهذا النغم، ولم يكن الأمر سداح مداح كما هو في شعر التفعيلة. وعلى كل حال رغم ظهور شعر التفعيلة، ظلت القصيدة العربية التقليدية الشكل موجودة بعد ما تجددت في معجمها ومعانيها وأخيلتها، وبقي لها شعراؤها وجمهورها، والعبرة كما نقول دائمًا بقدرة الشاعر على التعبير عن أفكاره ومواقفه ومشاعره وعواطفه، وبما تحويه القصيدة من الطاقات التعبيرية؛ مع التنبيه دائمًا إلى ما أخذناه عن القصيدة التفعيلية من فتور النغم، بل انعدامه في كثير من نماذجه المتأخرة، وشيوع الغموض فيها، وانتشال التجديف في حق المولى سبحانه، فضلًا عن اللجوء إلى الرموز الوثنية والصليبية إلى درجة لافتة للنظر، كانت وما تزال مسارًا يقصده الجمهور وكثير من النقاد الذين يعتزون بدينهم وتراثهم. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 16 تأثر الشعر العربي بالشعر الإنجليزي.

الدرس: 16 تأثر الشعر العربي بالشعر الإنجليزي.

عوامل الاتصال بين الشرق والغرب وأثرها في إحياء الشعر العربي في العصر الحديث.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (تأثر الشعر العربي بالشعر الإنجليزي) عوامل الاتصال بين الشرق والغرب وأثرها في إحياء الشعر العربي في العصر الحديث تأثر الشعر العربي بالشعر الإنجليزي: يقول محرر مادة الأدب العربي في الموسوعة العربية العالمية: "اتخذ الاتصال بين الشرق والغرب صورًا متعددة، وكان أول الهزات العنيفة التي أيقظت العرب والمسلمين، غزو فرنسا لمصر؛ الذي كان بداية الاتصال بين الشرق والغرب، وتجلت صوره في التعليم؛ فأرسل بعض العلماء المصريين لفرنسا وعادوا للعمل بالتدريس، وأنشأ "محمد علي" والي مصر عدد من المدارس المدنية التي أخذت تزداد، وتتنوع تخصصاتها، ويبعث خريجوها إلى أوربا، وأخذ النشاط التعليمي الطراز الأوربي فجاءت الجامعية الأهلية المصرية عام 1908م. وامتدت حركة التعليم ومؤسساته من لبنان ومصر إلى تونس وليبيا والجزائر والمغرب, ولكن ظل التأثير الثقافي الأوسع مدى محصورًا في الشام ومصر، كما تجلت صوره أيضًا في الترجمة؛ التي كانت جزءًا لا ينفصل عن حركة التعليم؛ حيث أدت دورًا مقدرًا في نقل ثقافة الغرب إلى اللغة العربية. وكان للبعثات التي أرسلها "محمد علي" أثر في ازدهار هذه الحركة، وكان إنشاء مدرسة الألسن لتخريج المترجمين عام 1836م عملًا مهمًّا، كما أنشأت مدارس العلوم والزراعة والفنون والصنائع وغيرها. استطاعت حركة التعليم والترجمة أن تُسهم في بعث الأدب العربي الحديث؛ حين تُرجمت أعمال أدبية غربية من مسرحيات "موليير" و"ولتر إسكوت" و"فيكتور هيجو" و"شكسبير" وغيرهم, فاتصل ذلك النشاط ببدايات القصة والمسرحية في الأدب العربي, كما عرف الشعر اتجاهات فنية غربية جديدة

ونظريات نقدية، وبذلك قدم المترجمون روائع الأدب الغربي شعره ونثره ونقده إلى قراء الأدب العربي. ومن صور الاتصال بين الشرق والغرب أيضًا حركة الطباعة والصحافة؛ حيث عرفت البلاد العربية المطبعة في عهد "نابليون" ثم أنشأت بعد بعثات التنصير في لبنان مطابع خاصة بها, ولكن مطبعة بولاق التي أنشأها "محمد علي" في مصر عام 1821م، والمطبعة الأمريكية في بيروت عام 1834م، وكذلك اليسوعية في بيروت عام 1848م, هذه المطابع كان لها أعظم الأثر في نشر الثقافة الحديثة مترجمة ومؤلفة في العالم العربي. وقد اختصت مطبعة بولاق بنشر روائع التراث العربي الإسلامي؛ فقللت التكلفة الباهظة للكتب، وجعَلها ذلك في متناول اليد وبأسعار زهيدة, وكان من أثر تأسيس المطابع ظهور الصحف والمجلات فصدرت "الوقائع المصرية" سنة 1822م وغيرها من الصحف والمجلات اليومية والدورية. ولما بدأت الأحزاب السياسية بالظهور أدت الصحافة والفن الصحفي دورًا كبيرًا في ذلك، وأصبح لكل حزب منهم منبرٌ صحَفيٌّ يُعنَى بالسياسة، كما يُقدم المعرفة في المجالات الأدبية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية, وكانت تلك الصحف المنبر الحقيقي لبعث الحركة الفكرية والأدبية في الأدب العربي الحديث، وكان من فرسانها "طه حسين" و"العقاد" و"المازني", ومن الشعراء "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم" و"خليل مطران" وما تزال مجلات مثل "المقتطف" و"الهلال" و"الرسالة" و"الثقافة" من وسائل الوعي الثقافي ونهضته في البلاد العربية. وتكونت جمعيات أهلية من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين جعلت مهمتها إحياء التراث العربي ونشره؛ فأشرفت مجموعة من

علماء الأزهر على مطبعة بولاق، واختاروا طائفة من المخطوطات التراث وعملوا على نشرها؛ فظهر (لسان العرب) لابن مندور وكتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني و (دواوين الحماية) و (دواوين شعراء فحول العصر الأموي والعباسي) وغير ذلك من عيون مؤلفات المكتبة العربية. ولما تأسست لجنة التأليف والنشر والترجمة بالقاهرة، ساهمت في حركة إحياء التراث ونشره, وكذلك أسهمت مطبعة الجوائب التي أنشأها "أحمد فارس الشدياق" في نشر كتب التراث. وهناك أيضًا من المَجامع العلمية اللغوية التي أدت منذ إنشائها دورًا كبيرًا في مد الجسور العلمية بين الحضارة العربية، والحضارة الغربية، وكان أول مجمع علمي ذلك الذي أسسه "نابليون" أثناء حملته وجعل فيه فروعه للرياضيات والفيزياء والآداب والفنون، وجعل أهم أهدافه نشر علوم أوربا وفنونها في مصر. وفي عام 1835م تأسست الجمعية المصرية، وغايتها إنشاء مكتبة ضخمة، وحين جمد نشاطها أسست مجموعة من علماء الإسكندرية مجلس المعارف المصري بالإسكندرية عام 1859م، وبعد ذلك تأسيس هذه الجماعات والمجامع، وكان من أشهرها "جمعية مصر الفتاة" وفي بيروت "جمعية المقاصد الإسلامية" عام 1880م, وهدف هذه الجمعيات توحيد جهود العلماء والأدباء، وتنظيمها بجعلهم يتعاونون في مجال التخصص الواحد، ويتبادلون الآراء. وكان من ثِمار هذه الجماعات جمعيات أدبية وفكرية جديدة من أهمها "جماعة أبوللو" سنة 1932م، وهناك كذلك حركة الاستشراق، ورغم أن هذه الحركة بدأت أول أمرها لتمكن المستعمر من تدبير شئونه في البلاد المستعمرة، عن طريق اتصاله بأدبها ولغتها، ونفسيات أهلها، فإن هذه الحركة انتهت بإنشاء جمعيات

علمية يقوم على أمرها علماء متخصصون، في مجال التاريخ والاقتصاد واللغات والآداب. وتعد الجمعية "الآسيوية الملكية" بلندن سنة 1722م ونظيرتها الفرنسية سنة 1820م أشهر هذه الجمعيات، وكان لكل منهما مجلة مشهورة وجهود في نشر المخطوطات وترجمة عيون اللغة العربية إلى اللغات الأوربية. وتبع حَركة الاستشراق تأسيس معاهد اللغات الشرقية، التي من أشهرها "مدرسة اللغات الشرقية" بلندن وباريس وبرلين, كما اهتمت حركة الاستشراق بإنشاء المكتبات ومراكز المخطوطات. وأدت تلك العوامل الإيجابية من نشاط ثقافي وعلمي، واتصال بالغرب عن طريق التعليم والترجمة والطباعة والنشر، ثم حركة إحياء التراث العربي والإسلامي بجانب إنشاء المجامع العلمية واللغوية، ثم دور حركة الاستشراق دورًا مهما في تطور الأدب وازدهاره شعرًا ونثرًا في العصر الحديث. وظل الشعر العربي في العالم العربي قبل عصر النهضة يحذو حذو تلك النماذج التي كانت سائدة خلال العصر العثماني، سواء في صياغة الركيكة وأساليبه المتكلفة المثقلة بقيود الصنعة، أو في موضوعاته التافه، أو في أفكاره المتهافتة، أو في معانيه المبتذلة, وعلى رغم من ظهور بعض الشعراء أصحاب الصوت الشعري القوي والمعبر؛ فإنهم كانوا قلة في ضم الضحالة السائدة في مملكة الشعر. ومن تلك الأصوات الشعرية القوية "حسن العطار" في مصر و"بطرس البستاني" في لبنان و"شهاب الدين الألوسي" في العراق وغيرهم, وظهرت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدايات نهضة فنية في الشعر العربي الحديث، واستمرت هذه الحركة في القوة والاندفاع حتى سادت خلال القرن العشرين، وانتقل الشعرُ نقلة كُبرى خرجت به إلى عوالم أرحب وأوسع؛ فتنوعت في اتجاهاته ومدارسه،

وأدت مدارس الشعر في العصر الحديث مثل مدرسة الإحياء، والديوان، وأبوللو، والمهجر، والمدرسة الحديثة، دورًا مقدرًا في بلورة اتجاهات الشعر، والخروج بها من التجريب والتنظير إلى التطبيق والانطلاق. ويُعد الشاعر "محمود سامي البارودي" رائد حركة الإحياء في الشعر العربي الحديث غير منازع، وأدى تلاميذه من بعده "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم" و"أحمد مُحرم" ومن سلك مسلكهم دورًا كبيرًا في بعث الحياة والفن معًا في بنية القصيدة العربية، وكانت ريادة هؤلاء النفر العامل الفاعل في تطور الشعر العربي في العصر الحديث، وإعادته إلى عصره الذهبي؛ فهم بعدوا بالشعر عن تلك الأساليب الركيكة المبتذلة، ونفثوا فيه قوة وإشراقًا هي صنو لإشراق اللغة العربية وقوتها بعد جمودها، قبل عصر النهضة في تلك القوالب ذات الصيغ المزركشة المصطنعة. وقد وفق هذا الجيل على مد جسرٍ فكري فني شعري، يربط الماضي بالحاضر، فكان بعثهم للقصيدة العربية لا يخلو من محافظة على موروثها وقيمها وإيقاعها وأوزانها, فالقصيدة لديهم فخمة الإيقاع، جزلة الألفاظ قوية التعبير، رصينة المعنى مواكبة لمتطلبات العصر وأحداثه, وجد الشعر هذه الفئة من رواد الإحياء والبعث صدى طيبًا في نفوس الشباب، وكان معظم هؤلاء الشباب ممن تفتحت عيونهم وعقولهم على الثقافات الأجنبية. ويمثل "أحمد شوقي" اللبنة الثانية بعد "البارودي" في نهضة الشعر الحديث؛ فقد كان متصلًا اتصالًا واعيًا، بالأدب العربي القديم، واستطاع أن يحيي نماذجه الرصينة كأشعار "البحتري" و"أبي نواس" وغيرهم، ومن هنا كان بعثه للقصيدة العربية مستمدًّا من إحيائه لنماذج الشعر القديم، وكون لنفسه أسلوبًا شعريًّا

أصيلًا جعله يجمع بين القديم والحديث، ومن ثم جاء أسلوبه جزلًا قويًّا في أصالة وحلاوة شعرية، وقدرة على احتواء متطلبات عصره والتعبير عنها. وهكذا حافظ شعراء مدرسة الإحياء على صورة القصيدة العربية من ناحية، كما جعلوها مقبولة معبرة عن عصرهم من ناحية أخرى, لكل ذلك استقطب شعرهم اهتمام معاصريهم؛ فنشرته الصحف وذاع بين الناس، وتذوقوه لخلوه من الغريب والحوشي من النظم والزركشة والصنعة في الصياغة؛ فأثرى العقول والقلوب، وكان كل ذلك من عوامل تتطور الشعر في العصر الحديث وبعثه. ويظهرُ مع النصف الأول من القرن العشرين جيلٌ جديد، اتصل بالثقافة الأوربية والإنجليزية منها بوجه خاص، اتصالًا أعمق من اتصال الجيل الأول، ومن ثم اختلفت رؤيتهم لمهمة الشعر عن تلك التي كانت في الجيل السابق؛ فعابوا على من سبقهم معالجتهم الموضوعات التقليدية التي لا يتجاوزونها، أما جيلهم فيرى أن الشعر تعبير ونظم لحركة الكون وائتلاف الذات الشاعرة، وهو تعبير عن نفس مَعناها الإنساني العام، وتعبير عن الطبيعة وآثارها، وتصوير للعواطف الإنسانية التي تثور بها نفس الشاعر. والتف هذا الجيلُ حولَ حركة نقدية عرفت "بجماعة الديوان" وكان أشهر روادها "عباس محمود العقاد" و"عبد الرحمن شكري" و"إبراهيم عبد القادر المازني" وقد اتخذت مدرسة الديوان من شعر "أحمد شوقي" ميدانًا لتطبيق نظريتهم النقدية، كما جعلوا من أشعاره ميدانًا لبث أفكارهم ودعوتهم في كتابة الشعر وقيامه، وصياغته وأشكاله. وأخَذَ تأثيرُ الأدب الغربي على الأدب العربي يزداد وضوحًا من الثلاثينات من القرن العشرين؛ حين ظهرت مدرسة نقدية شعرية عرفت باسم "جماعة أبوللو"

أسسها "أحمد ذكي أبو شادي" وكان الشاعر "علي محمود طه" من أبرز أعضائها, هذه الجماعة كانت أكثر مناداة بتطوير القصيدة العربية عن مدرسة الإحياء ومدرسة الديوان، ويُعزى ذلك إلى تأثرها بالمذهب الرومانسي في الشعر الغربي، كما تأثروا بشعراء المهجر أمثال "إيليا أبو ماضي" و"ميخائيل نعيمه" و"نسيم عريضة". وقد تركت مدرسة "أبوللو" أثرًا لا ينكر في عدد من شعراء العالم العربي؛ فتأثر بها "أبو القاسم الشابي" من تونس، و"تيجان يونس بشير" من السودان، و"حسن القرشي" من المملكة العربية السعودية، و"إلياس أبو شبكه" من لبنان وغيرهم، وعلى يد هذه المدرسة أضحت القصيدة العربية تمتاز بسهولة في التعبير، وبساطة في اللغة، وتدفق في الموسيقى؛ كما غَلَب على موضوعاتها التأمل والامتزاج بالطبيعة، وشعر الحُبّ والغناء بالمشاعر مع نزعة الألم والشكوى. ويمثل الشعر العربي في المهجر امتداد الاتجاه الرومانسي في الشعر الحديث؛ فأقرت المهجر الأمريكي الشمالي الرابطة الإقليمية، وفي الجنوب العصبة الأندلسية، وظل شعرهم مثقلًا بهموم الوطن والمناجاة الفكرية والنفسية والتهويمات الصوفية ومن أشهر شعرائهم "إيليا أبو ماضي" و"ميخائيل نعيم" و"إلياس فرحات" و"رشيد أيوب". أما في الأربعينات من القرن العشرين، فقد أخذت القصيدة العربية شكلها الذي استقرت عليه في قوالب "الشعر الحر" فانتقلت في صياغتها وأفكارها وموضوعاتها، وتعددت أصوات الشعراء وتنوعت مدارسهم وكثر عددهم, وكان من فرسان القصيدة الحديثة: "صلاح عبد الصبور" في مصر و"السياب" و"البياتي" في العراق و"نزار قباني" و"نازك الملائكة" في سوريا، و"محمد المهدي المجذوب" و"الفيتوري" في السودان.

مدرسة الديوان وأثرها في حركة الشعر في العصر الحديث.

ويحملُ الشعر الحديث أنماطًا من التعبير في مدرسة الحداثة، ويكتب الشاعران "أدونيس" و"محمود درويش" ألوانًا من الشعر تختلف اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه بدايات تطورات القصيدة العربية في العصر الحديث, وإذا بالمسافات تبتعد تماما بين "البارودي" و"شوقي" وبين "بلند الحيدري" وبين "يوسف الخال" و"نظير العظمة" وأدربهم. مدرسة الديوان وأثرها في حركة الشعر في العصر الحديث ونبدأ بمدرسة الديوان، وهي حركة تجريدية في الشعر العربي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشريين، على يد "عباس محمود العقاد" و"إبراهيم المازني" و"عبد الرحمن شكري" الذين كانوا متأثرين بالرومانسية في الأدب الإنجليزي، ولديهم في ذات الوقت اعتزاز شديد بالثقافة العربية. وقد سُمّيت بهذا الاسم نسبة إلى كتاب ألفه "العقاد" و"المازني" وضعا فيه مبادئ مدرستهم، واسمه (الديوان في الأدب والنقد) وقد نهجت هذه المدرسة النهج الرومانسي في شعرها، ومن أبرز سماتها: الدعوة إلى التجريد الشعري في الموضوعات، ووجوب تعبير الشعر عن ذاته بعيدًا عن التقاليد الجامدة، والاستفادة من الأدب الغربي إلى جانب الشعر العربي القديم، والاتجاه إلى الشعر الوجداني، والوحدة الموضوعية للقصيدة. وقد ذكر "العقاد" في كتابه (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) أن مَدرسة الديوان كانت مُهتَمّة بكل الثقافات العالمية عن طريق اللغة الإنجليزية، وأنها أفادت النقد الإنجليزي فوق استفادتها من الشعر، وقد انفصل "شكري" عن زميليه بعد فترة، وكتب ينتقد "المازني" لانتحاله بعض الأشعار الإنجليزية.

وهُناك وجه شبه قوي بين مدرسة الديوان والرومانسيين الإنجليز؛ فقد تحدث "ويلز ويلس" مثلًا عن العملية الشعرية فقال: "لقد قلت: إن الشعر انسياب تلقائي للمشاعر القوية"، ويؤكد ذلك التحليل مبدأين أساسين في مذهب الرومانسية: أولهما: أن الشعر حقًّا تعبيرٌ عن النفس ومشاعرها. ثانيهما: أنّ هذا التعبير مطبوعٌ لا تكلف فيه". وهي نفس الرؤية التي يراها "شكري" تقريبًا في كلامه عن الانفعال العصبي الذي يسبق عملية الشعر. وإن عبارته التي يصف فيها الشعر بأنه تدفق الأساليب كالسيل، تدل على أهمية الطبع في التعبير الشعري الرومانسي عند جماعة الديوان, فالعواطف في نظر جماعة الديوان والرومانسيين الإنجليز؛ هي المنفذ الوحيد الذي يطل منه الشاعر على العالم الخارجي وشئونه. ويرى "العقاد" أن الشِّعر يُطلعك على ما لم تستطع الوصول إليه من أسرار تكمن وراء مظاهر الأشياء، ويتغلغل بك إلى اللباب، ويكشف لك عن ما في الجوهر من حياة، كما أن الشعر لا يعد شعرًا ما لم يعبر عن ذات الإنسان وأدق أحاسيسه ومشاعره تعبيرًا صادقًا لا تكلف فيه ولا تصنع، يقول: إن الشاعر العظيم هو من تتجلى من شعره صورة كاملة للطبيعة، بجمالها وحبه لها، وعلانيتها وأسرارها، أو ما نستخلصه من مجموع كلامه فلسفة للحياة ومذهبًا لحقائقها أو فروضها أيا كان هذا المذهب. وبالنسبة إلى رأي العقاد في الوزن والقافية وتطورهما، بتطور الشعر الحديث واطلاع المحدثين في الشعر الغربي: نجده يدعو إلى التطور هذا المجال؛ إلا أنه لا يريده مفاجئًا بل يدعو إليه بروية ورواده، يقول في مقدمة ديوان "المازني": "ولما

كان لا ريب في القيود الصناعية ستجري عليها أحكام التغيير والتلقيح، فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تنفتح على أغراض شعر؛ تفتحت مغاليق نفسه وقرأ الشعر العربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة، وبالمقاصد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية فيودعونها ما لا قدرة للشاعر عربي على وضعه في غير قالب النثر. وقد عَكَف أعضاءُ مدرسة الديوان على الأدب الإنجليزي؛ فوجدنا في أشعارهم تأثرًا بقصائد متعددة من "شل" و"هود" و"أديسون" و"كارليم" وغيرهم من شعراء ديوان الذخيرة الذهبية " golden tragiry". لقد كان اتصال الغرب بالعرب سبب من أسباب انتشار موجة الرومانسية في تلك الفترة، وكانت مطالعة الكتاب من المختارات الشعرية المعروفة بـ" golden tragiry" والاهتمام بالناقد الإنجليزي "ويليم هازلت" من المؤثرات الواضحة في شعرائها. لقد كان "شُكري" الذي يعده بعض مؤرخي الأدب العربي الحديث مؤسس هذا الاتجاه، متأثرًا بالمدرسة الإنجليزية الرومانسية في الشعر منذ زمن دراسته في انجلترا ما بين 1909 و1912م، وعلى وجه الخصوص "ميشيلي" و"بايرون" و"كيتس ويلز ويلز" وبعد عودته التقى "بالعقاد" و"المازني" وأطلعاهما على إبداعات الأدب الإنجليزي مما أثر تأثيرًا شديدًا على التوجه الشعري الجديد عند زميليه، فالتزما مفاهيم الشعر والنقد الإنجليزي، ودافع عنها بشدة؛ حتى قد لاحظ بعض النقاد أن المعاني التي صدر عنها "العقاد" و"المازني" في بعض أشعارهما هي نفس المعاني التي يجدها القارئ في عدد من المختارات الشعرية لكتاب (الذخيرة الذهبية) الذي وضعه "بل جريف" أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد.

وبالنسبة "للمازني" يقول الدكتور "فاروق مواسي" في بحثه بعنوان "شعر المازني في مراوحته بين التأثر بالشعر العربي القديم وبين التأثر بالشعر الرومانتيكي الإنجليزي": إنّ هذا التأثير كان بالغًا إلى درجة أنّ "المازني" اتهم بالسرقة الأدبية عن أدباء غربيين؛ فكان رد "المازني" أن هذا دليل على سعة الاطلاع وسرعة النسيان؛ أما السرقة فهو يبرأ إلى الله من تعمد أخذها والإغارة عليها. وكان "المازني" أسوة بـ"العقاد" و"شكري" ينظر إلى ثقافة الغرب بعين التقدير والإعجاب، ويرى أن ثقافة المصريين عامة لا تتواصل والنهضة القوية الجارفة التي تعفي على القديم، وتفتح أبواب الفكر على الثقافة الإنسانية الجديدة، وخاصة حضارة الغرب. وفي الحق أن بعض أسماء قائد المازني تتماثل مع أسماء قصائد وردت في مجموعة "بل جريف" نحو نهر الحياة، و" the river life" للشاعر "كامبر", وفلسفة المحب و" loves theories" للشاعر "شيلي" بالإضافة إلى قصائد أخرى كثيرة عنوانها من الطبيعة "البحر، والليل، والخريف" إلى آخره. كذلك أدخل "المازني" في قصائده مقطوعات مترجمة من الإنجليزية، مما دفع "شكري" للهجوم عليه كثيرًا مثيرًا بذلك زوبعة نقدية تركت أثرًا كبيرًا على الساحة الأدبية، واعترف "المازني" في رده على شكري، أنّ قصيدتي "فتى في سياق الموت" و"قبر الشعراء" مأخوذتان وإن أصر على أن السرقة لم تكن مقصودة؛ فهو لم يتعمد أخذها والإغارة عليها، فضلًا على إنه لو حذفت هذه المادة المسروقة، لما نقص ذلك من قيمة شعرنا؛ فإن ديواننا الأول "نحو ألف بيت" وليس ما أخذ علينا خيرها.

ولم يعمد "المازني" إطلاقًا إلى ترجمة القصائد التي أخذت منها تلك الأبيات كاملة، إذ إنّ الأبيات التي ترجمها قد أدخلها في قصائده في سياقات متباينة، مختلفة عما كانت عليها هذه الأبيات في أصلها. وإلى جانب هذا عمد "المازني" إلى استعارة التعابير ومضامين وقوالب لفظية عن الإنجليزية، ونشرها أحيانًا موقعة باسمه، ووضع نجمة على ميل بيت الشعر أحيانا أخرى للدلالة على إنها ليست من وضعه, ففي قصيدة "الغزال الأعمى" مثلًا نراه يكتب في أسفل الصفحة: "لا أذكر من أين أخذت فكرة الغزال الأعمى والأغلب أنها ليست لأحد من الشعراء الكبار". وهذه الفكرة مفادها أن الحياة ليست بذات قيمة، وأنها ضياع وهباء وتردد مثل هذه الفكرة في شعر الشعراء الرومانتيكيين الإنجليزيين كما في قصيدة "شيلي" " alement" التي يقول فيها: all world all life all time ... when you return the glory is for bireme no more or never more وفي قصيدة أخرى يصف "المازني" البحر قائلًا: كم قد أقل عبابه سفنًا ... وأجن من غرقى ومن كسر ورمى بكل غير متئد ... في قاع بحر هائل القعر وهذا الوصف يُذكرنا بقصيدة "بيرون" " Today osion". ويَرْجِعُ تأثر الشعراء مدرسة الديوان بالرومانسية الغربية لإجادتهما اللغة الإنجليزية، التي أفادتهم كثيرًا في دراسة الشعر الإنجليزي، وخاصة شعر كلٍّ من

تأثر شعراء المهجر بالشعر بالأدب الغربي.

"بيرون" و"شيلي" و"ويلز ويرس" وغيرهم كما قلنا؛ الأمر الذي فتح أمامه المفهوم الجديد للشعر، غير أن العقاد في كتابه (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) ينفي أن يكون تأثرهم بهؤلاء نابعًا من التقليد الأعمى لهم، مؤكدًا أن السبب هو تشَابه المزاجي، واتجاه العصر كله لا تشابه التقليد والفناء. ومن مظاهر تأثر مدرسة الديوان بالرومانسية الإنجليزية مهاجمتهم "لشوقي" و"حافظ" وغيرهما باعتبار أنّ أشعارهم درب من التقيد بأغلال الماضي في الفكر والأسلوب والموضوعات, كذلك هناك تعريفهم لفن الشعر إذ قالوا: إنه انعكاس لما في النفس من مشاعر وأحاسيس، وينبغي أن يصدر عن الطبع دون تكلف، ويُضاف إلى هذا ما نسبوه إلى الشعر من غايات وأهداف؛ فالرومانسيون يرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال في الوجود الإنساني، وكذلك الكشف عن الحقيقة بأعمق صورها وهو ما كان تقوله مدرسة الديوان. تأثر شعراء المهجر بالشعر بالأدب الغربي فإذا ما انتقلنا إلى شعراء المهجر وجدنا "جبران خليل جبران" نزاعًا إلى الغرب الأوربي حتى لقد حكى عنه بعض من يعرفه، أنه كان كلما انتهره وهو صغير يقول له: "ما لك وما لي أنا إيطالي" كما كان يقص لأصدقائه أنه بلغ من الهيام بالأدب الإنجليزي، أن تكررت رؤيته في المنام لـ"كيتس" و"شيلي" و"شكسبير", وإلى جانب هذا فقد تأثر بـ"ويليم بليك" إلى مدى بعيد وكان لا يكاد يقترب كثيرًا من الشعر الرومانسي بفرنسا وإنجلترا, كذلك كان حاكي في قصائده النثرية قصائد الشاعر الأمريكي "وولت ميتمان" مبتكر فن شعري سماه " Free verse" وذلك لون النثر الفني الذي حاكاه "أمين الريحاني" وأطلق عليه الشعر المنثور.

أما "أمين الريحاني" فقد عرف بترجمته عدد من القصائد لشعراء أمريكيين من أبرزهم "وولت ميتمان" الذي اتخذه رائدًا له في الخروج على الأساليب المتداولة؛ فتابعه وأدخل في اللغة العربية ما اصطلح عليه باسم "الشعر المنثور" حسبما كتب في مقدمة ديوانه "هتاف الأودية". وقد تجلى التأثير الذي أحدثه "ويتمان" في موضوعات قصائد "الريحاني" وروحها وصدر "هتاف الأودية" عام 1910م مشتملًا على عدد كبير من النصوص منها "ريح سموم" "الثورة"، "عند مهد الربيع"، "هتاف الأودية"، "معبدي في الوادي"، "إلى الله"، "بلبل ورياح"، "الزنبقة الزاوية"، "أنا الشرق"، "إلى أبي العلاء"، "حصاد الزمان"، "البعث"، "طريقان". وكتب الريحاني مقدمة الكتاب أشار فيها إلى المصطلح الذي يطلقه الفرنسيون والإنجليز على هذا اللون من الكتابة وهو بالفرنسية " Vers libres" وهو بالإنجليزية " Free verse" أي: "الشعر الحر" الطليق قائلًا: "إنّ "شكسبير" قد أطلق الشعر الإنجليزي من قيود القافية، أما "ويتمان" فقد أطلقه من قيود العروض". وإن أكّد أديبنا اللبناني في ذات الوقت أن لهذا الشعر الطليق وزنًا جديدًا مخصوصًا، وأنّ القصيدة منه قد تجيء من أبحر عديدة ومتنوعة, كذلك أشار الريحاني إلى أن السمات التي تميز شعر "ويتمان" لا تنحصر في قالبه الغريب الجديد فقط؛ بل فيما تشتمل عليه من الفلسفة والخيال، مما هو أشد غرابة وجدة. ولنأخذ من مجموعة الريحاني النص التالي وهو بعنوان "إلى جبران": "على شاطئ البحر الأبيض بين مصب النهر وجبيب، رأيت نسوة ثلاثة يتطلعن إلى المشرق, الشمس كالجلنار تنبثق من ثلج كلل الجبل, امرأة في ثوب أسود، وقد قبل

التهكم فمها الباسم, امرأة في جلباب أبيض نطق الحنان في عينها الدامعة, امرأة ترفرف بالأرجوان في صدرها للشهوات نار تتأجج, ثلاث نسوة يندبن تموز يسألن الفجر: هل عاد يا ترى هل عاد؟ رأيته في باريس مدينة النور يحيي الليالي على نور سراج ضئيل، رأيت بنات تموز نسوة الخيال يطفن حوله في سميرات باريسيات، ورفيقات أمريكيات يزده بهجة, شوقًا, ألمًا, وجدًا, البيضاء الجلباب تفتح له أبواب الفن والجمال, السوداء الثوب تقلب صفحات قلبه تطويها بأنامل ناعمة باردة, الأرجواني الوشاح تقف بين الاثنتين أفرغت الكأس إلى آخره". والملاحظ أن "الريحاني" قد يستخدم القافية في بعض النصوص وينثرها بحرية على السطور الشعرية، ورُبّما لا يستخدمها بتاتًا بل ربما استغنى عن الوزن والقافية تمامًا، وقد استعمل مصطلح الشعر المنثور لهذا اللون من الكتابة. وهناك كتاب عربٌ آخرون ساروا في هذا السبيل أو في سبيل يقاربه منهم "مصطفى لطفي المنفلوطي" و"مصطفى صادق الرافعي" مثلًا, كذلك كان للشعر الإنجليزي تأثيره في مجال "الشعر الحر" إذ يحكي "علي أحمد باكثير" -رحمه الله- أنه أثناء دراسته للأدب الإنجليزي في كلية الآداب "بجامعة فؤاد الأول" وهي "جامعة القاهرة" حاليًا، سمع أحد الأساتذة الإنجليز في الكلية يقول: "إنّ مرونة اللغة الإنجليزية هي التي مكنت الشعراء الإنجليز من تطوير الشعر وتطويعه لأغراض وفنون مختلفة كالمسرحية، وإن جمود اللغة العربية هو الذي حال دون تجديد الشعر العربي" فاعترض "باكثير" على كلامه بقوله: "إن المشكلة ليست في اللغة العربية بل في الشعراء الذين لا يزالون يتمسكون بالقافية". ثُمّ ذَهَب وانكب على مسرحية "شكسبير" المعروفة "روميو وجولييت" حتى فرغ من ترجمتها في شعر متحرر القافية، اعتمادًا على بحور الشعر الصافية، وهي

البحور التي تتكون من تفعيلة واحدة، وهذا ما يُسمى "بالشعر الحر" وهو الشعر الذي كان من نظامه "السياب" و"نازك الملائكة" و"صلاح عبد الصبور" و"أحمد عبد المعطي حجازي" وغيرهم كثير. ولنقف من هؤلاء عند "السياب" الذي دخل دار المعلمين العالية ببغداد من عام 1943م: 1948م، والتحق بفرع اللغة العربية ثم الإنجليزية حيث أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي, ولقد اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية، وكان ينظم الشعر مع تنويع القافية, وفي عام 1947 ميلادية أصدر ديوانه "أعاصير" الذي حافظ في على الشكل العمودي مع الاهتمام بالقضايا الإنسانية, ثم ظهر تأثره بالشعر " t s l" و " t d wan" " أزهار وأساطير" وظهرت محاولات أولى في "الشعر الحر". وبداية الخمسينات قصر "السياب" كل شعره على ذا الشكل الجديد كما في قصائد "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور", ومع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة مطر" واحتل موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري, ومن سمات شعره ما نلاحظه من استخدامه الأساطير البابلية والإغريقية، وقد ذكر بعضهم أنه عقب الحرب العالمية الثانية تعرفت مجموعة من مثقفي العراق على نماذج متنوعة من الشعر الإنجليزي وأساليبه وأبنيته، وخصوصا شعر "توماس إليوت" صاحب قصيدة "أرض الخراب" و"جل أيتون" و"اديل ستويل" و"روبرت فوست" وكذلك "ولت ويتمان" صاحب أهم مجموعة في تاريخ الشعر الأمريكي "أوراق العشب". وقد تركت هذه النماذج الشعرية تأثيرًا عميقًا في نفوس الشعراء الشباب، وجعلتهم يتفتحون على أفق فني لم يعهدوه, وهكذا كتب الشاعر العراقي "بدر

شاكر السياب" أو الشاعرة العراقية "نازك الملائكة" و"عبد الوهاب البياتي" قصائدهم بشكل "الشعر الحر" الذي انتقل بعدها من العراق إلى مصر؛ فكتب به بعض من الشعراء المصريين منهم "صلاح عبد الصبور" و"أحمد عبد المعطي حجازي" لتنتشر القصيدة الحرة في أغلب بلدان الوطن العربي، وتصير كتابته أمر مألوفًا بين الشعراء. وفي كتاب (بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره) يستشهد "إحسان عباس" بما ذكره "السياب" عن دراسة اللغة الإنجليزية وأدبها في دار المعلمين العالية ببغداد، إذ قال: "درست "شكسبير" و"ميلتون" والشعراء "الفيكتوريين" ثم "الرومانتيكيين" وفي سنتي الأخيرتين في دار المعلمين العالية تعرفت لأول مرة الشاعر الإنجليزي " t s l weliot" وكان إعجابي الشديد بالشاعر "جون كيتس" لا يقل بإعجابي بـ"إليوت"". ثم يعلق عباس على ذلك قائلًا: "يكفينا في هذا المقام أن نقول: إن دراسته الأدب الإنجليزي على تبعثر أجزائها وسرعتها وضعف مستواها، قد فتحت له نافذة يتطلع منها إلى غير الأدب العربي أعني: إلى الأدب الإنجليزي والآداب الأخرى المترجمة إلى الإنجليزية". ثم يُشير "إحسان عباس" إلى ما قاله "السياب" في مقدمته في ديوانه عن هذا اللون الجديد حين إذ من الشعر، أي "الشعر التفعيلي" إذ يرجع إقدامه عليه إلى تأثره بالشعر الإنجليزي، الذي يعتمد الضربة أساسًا، فيقول: "رأيت أن بالإمكان أن تحافظ على انسجام الموسيقى في القصيدة، رغم اختلاف موسيقى الأبيات، وذلك باستخدام الأبحر ذات التفاعيل الكاملة، على أن يختلف عدد التفاعيل من بيت إلى آخر، وأول تجربة لي من هذا القبيل كانت في قصيدة "هل كان حب" من ديواني الأول "أزهار ذابلة".

وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولًا عند كثير من شعرائنا الشباب، أذكر منه الشاعرة المبدعة الآنسة "نازك الملائكة", ويصلح ديوان "أساطير" ليكون معرضًا لبعض المؤثرات التي أغدت تفعل بتوجيه شعر "بدر" كما يقول "إحسان عباس" فقد كنا لمحنا في ديوانه الأول تأثره بـ"علي محمود طه" وإدراجه لقطعة من قصيدة إنجليزية في إحدى قصائده، ولكن ديوان "أساطير" يدل على اتساع في التأثير، وإن كان ما يزال تأثيرًا خارجيًّا نوعًا من الإشارة العابرة أو التضمين؛ فهو يعرف أن لين القصيدة عنوانها "الأرض الخراب": "فلتنبت الأرض الخراب على ثنى الليل الحزين صبارها". ويُعَلِّقُ على لفظة "الأرض الخراب" في الحاشية بقوله: "وعنوان القصيدة للشاعر الإنجليزي " rage t s eliot"", وقد وضعنا خطًّا تحت كلمة الرجع؛ لأن "السياب" بعد سنوات سيعد "إليوت" أعظم شاعر حديث باللغة الإنجليزية، ولكنه يصفه بالرجعية هنا؛ نزولًا على ما تطلبه منه اتجاهه اليساري، ولا ريب في أنه قد قرأ شيء من "إليوت" إذ إن قوله في قصيدة "ملال": وأكيل بالأقداح ساعات, إنما هو الترجمة لقوله لـ"إليوت": " I have regourte out my life with coffe spoons " قدرت حياتي بملاعق القهوة. وهذه ظاهرة حقيقة بالتنبه فإن "السياب" كان يستعير الصور المترجمة ويدرجها في شعره، فيخفى مكانها على القارئ في درج النغم، وهو قرأ قصيدة للشاعر الإنجليزي "بيتس" يستشرف فيها السفن ويتملكها الحنين إلى البحر، وما قول "السياب" في قصيدة "القرية الظلماء": إني سأغفو بعد حين سوف أحلم في البحار أتيك أضواء المرافق وهي تلمع من بعيد

تلك المرافق في انتظار تتحرك الأضواء فيها مثل أصداء تبيد سوى صدى لوقفة ذلك الشاعر الإنجليزي، وهو يحلم بالسفن والبحار. وهو يعرف أيضًا "كيتس" ويَجِدُ في نفسه صورة منه؛ لأنه كان يحس إنه سيموت مثله في سن صغيرة، ويقتبسُ قوله في آخر قطعة كتبها: "تمنيت يا كوكب ثبات كهذا أنام على صدرها في الظلام، وأفني كما تغرب". وقد اختار السياب أسطر متفرقة متباعدة من قصيدة "كيتس" وتدل ترجمته على أنه لم يكن دقيقًا في فهم الأصل ونقله. ومما كتَبَهُ "إحسان عباس عن هذه القضية أيضًا قوله: " لقد هيأت تلك الفترة لـ"السياب" أن يتحدث في مشكلات الأدب والشعر، وأن يسمع الناس رأيه فيها وكان قد وقع في نظرته إلى الشعر والشاعر تحت تأثير "سبندر" واستعار شيئًا من أرائه في مقال له عن الواقعية، وحين سُئل عمن أعجب به من شعراء الغرب أجاب في عصبية: "حين يسألني سائل عن من أعجبت به من شعراء الغرب أحدق في وجهه برهة من الزمن، محاولًا أن استشف أغوار نفسه أيجد أم يهزل فيما يسال؟ بمن أعجبت من شعراء الغرب منذ "هوميروس" حتى "دينان توماس" أتراه يدرك ضخامة ما يسال عنه! ". ثم تتسع دائرة التأثير لدى "السياب" رغم ذلك؛ فإذا هو معجب "بشكسبير" و"دانتي" و"هوميروس" و"فيرجين" و"جي بوته" و"كيتس" و"إيدي سيت" و"إليوت" ويقر بتأثره بالشعر تدريجي بـ"البحتري" أو "المهندس" أولًا ثم بـ"أبي تمام" ثم بـ"شيلي" و"كيتس" و"إليوت" ثم "إيدي سيتوين" ويعتقد أن طريقته الشعرية

مزج بين طريقة "سيتوين" و"أبي تمام" معًا، ونلمح في كل هذا أن للشعر الإنجليزية منزلة هامة في نفسه". وربما كان من الغريب أن تحتل "إيدي سيتون" كل هذه المكانة من نفسه؛ فإنها شغلت نفسها طويلًا في العناية بالإيقاعات الصوتية، وهي مغموسة في النفس الطيار الديني، وتستمدّ كثيرًا من صورها من قصة المسيح، وتعد بعضُ صورها أشدَّ غَرَابة من صور "لور لوك" ولكن الجواذب التي ربطت "السياب" بشعرها كانت متنوعة؛ فقد كان يريد منبعًا غير "إليوت" الذي حاول "البياتي" أن يحاكي بعض نماذجه, ولهذا فهو يرجع على إقراره بعظمة "إليوت" أن ينفي عن نفسه تأثره به كي لا يرد هو و"البياتي" موردًا واحدًا. وقد أعجبه في شعرها ذلك الفزع الذي تغلغل فيه بسبب الحرب، وتفجير القنبلة الذرية ففي هذه المرحلة قل احتفاؤها نسبيًّا بموسيقى الألفاظ, كذلك كان يجمعه بها رابطة أخرى هي حاجة الاثنين إلى التركيز، وشغفها بترصيع القصائد بالدلالات الأسطورية، لا اتخاذ المبنى الأسطوري محملًا للقصيدة كما يفعل "إليوت". ولما كانت نواحي التلاقي بينه وبين تلك المرأة الشاعرة كثيرة؛ فإنه تحد عنها دائمًا في إجلال بالغ، وذهب يعلوا بها في شيء من المباهاة، أنه تأثر طريقتها في الشعر، وقارنها دائمًا بـ"إليوت" ليقول: إن الشعر الإنجليزي الحديث عرف شاعرين عظيمين لا واحدًا. ولم يَقِفْ تأثير "سيت" عند المرحلة التي نتحدث عنها، بل تجاوز للمرحلة التالية وهي التي جعلته شغوفًا بالقصة قابيل يرددها في مناسبات عديدة، وعنها أخذ صورة التقابل الرمزي بين السنبلة والذهب النضار:

النار تصرخ في المزارع والمنازل والدروب ... في كل منعطف تصيح أنا النضار أنا النضار من كل سنبلة تصيح ... ومن نوافذ كل دار وصورة طائر الحديد الذي يلقي القنابل على المدن الآمنة: يا صليب المسيح الواقف ظلا فوق الجيكورة طائر من حديد وصورة الحياة السارية التي تنبض في عروق الكون على أوجه مختلفة فقوله: أحسست ماذا صوت ناعورة ... أم صيحة النزغ الذي في الجذور إنما هو مستمد من قولها: ومن خلال ما يعمله الموت، ومن خلال جفاف الغبار، يسمع صوت النزغ الصاعد كأنه أصوات بقرية هائلة، تنبعث من ميامس محتجبة مرعبة. وقد جرأته الشاعرة الإنجليزية على اقتباس رموز مسيحية والإكثار من ذكر المسيح والعذر ويهوذا، وإن كانت هناك عوامل أخرى شجعته على ذلك, وهو ترجم عنها بعض الأبيات ويضمنها قصيدة "رؤى فقاي" ومن هذا المثال يظهر كيف

انتزع الأبيات التي ترجمها من مواضع بالقصيدة، وكيف رتبها حيثما شاء, وعندما بلغ إلى قوله: "فأزحف على أربع فالحضيض والعلا سيان". زاد على ذلك قوله: "والحياة كالفناء" وهذه الزيادة قد جاء بها من قصيدة أخرى " where life and death equal" مما يدل على أن هذا الربط المتباعد كان يعتمد على اختزانه القصائد الشاعرة في ذاكرته إلى جانب ترجمته المتعمدة. ويجري "السيابُ" على منوال الشاعرة الإنجليزية أيضًا في استخدام رموز المطر ففي قصيدة "أنشودة المطر" تجتمع لديه الكآبة الفردية بمنظر المطر بالاستبشار بما قد يتمخض عن المطر من زوال الجوع، وهذا يشبه جمع الشاعرة في قصيدتها "أمطار النسيان" بين البهجة بالحياة وتحسب الجفاف الذي سيعتلي كل شيء في الوجود. أما قصيدتها "وما زال المطر يتساقط" حيث يومي المطر إلى الموت والدماء والقنابل المتساقطة من الغارات الجوية؛ فإنها قد ألقت ظلها التام على قصيدة "السياب" "مدينة السندباد". ولعل قصيدتا "مارسيلية دايكور" و"مارسيلية الآلهة" و"من رؤيى فقاي" أقوى قصائد الشعر صلة بأثر "أديس سيتويت" لأنها تعد شاهدًا على الاتباع الدقيق، وعلى الاستقلال في نطاق ذلك الاتباع, فقد عمد الشاعر إلى قصيدة "ترنيمة السرير" " laugh bay" وإلى ثلاثة قصائد في القنبلة الذرية فأستمد منها كثيرًا من تصوراتها، ومن الجو العام الصالح لمثل موضوعه، بل جاراها في بعض الرموز والعبارات مقتبسة أو محورة. وبالنسبة لـ"صلاح عبد الصبور" وتأثره بـ"إليوت" يؤكد دكتور "محمد شاهين" في كتابه عن "إليوت" وتأثيره في الشعر العربي أن قصيدة "لحن" والموجودة في ديون "الناس في بلادي" الصادر عام 1957م متأثرة بثلاث قصائد لـ"إليوت" هي "صورة

سيدة" و"أغنية العاشق - ألفريد بروفريت" و"الرجال الجوف" وإن كان تأثرًا شكليًّا فضلًا عن تأثره به في دواوين "أقول لكم" و"أحلام الفارس القديم" و"تأملات في زمن الجريح" إذ يستعمل أساليب "إليوت" الفنية، وبخاصة فيما يتعلق ببنية القصيدة ما هو الحال في قصيدة "الظل والصليب" من ديوان "أقول لكم" التي تعكس تأثرًا بقصيدتا "إليوت" "الأرض الخراب" و"الرجال الجوف". فمثلًا قوله في تلك القصيدة: "إنني خاو ومملوء بقش وغبار" مأخوذ بالكامل من قصيدة "إليوت" "الرجال الجوف" مع إضافة كلمة "غبار" من عنده إلا أن التجربة التي تعكسها القصيدة ليست لها "إليوتية" كذلك يعكس الشاعر "عبد الصبور" تأثرًا واضحًا بنظرية "إليوت" في المعادل الموضوعي. على أنّ المَصَادر التي تأثر بها شعر "صلاح عبد الصبور" متنوعة ولا تختص على "إليوت" وحده كما يؤكد كاتب مادة "صلاح عبد الصبور" في موسوعة "الويكيبيديا" إذ هناك شعر الصعاليك، وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب كـ"الحلاج" و"بشر الحافي" والذين استخدمهما قناع لأفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات، كما استفاد من منجزات الشعر الرمزي الفرنسي الألماني عند "بودلير" و"ريلك" والشعر الفلسفي الإنجليزي عند "جون دون ويتس" و"كيتس" و" T S L" بصفة خاصة، وثقافات الهند المتعددة وكذلك كتابات "قافق" السوداوية. لقد كان لـ"إليوت" تأثيره القوي على القصيدة العربية عند "بدر شاكر السياب" و"عبد الوهاب البياتي" و"نازك الملائكة" و"أدونيس" و"يوسف الخال" و"خليل حابي" و"صلاح عبد الصبور" و"سعد يوسف" ومن لف لفهم, وكان للبعد الأسطوري دور كبير في إثارة اهتمام هؤلاء الشعراء بشعره، وأصبحت الأساطير

الشرقية والإغريقية رموزًا أساسية للحياة والموت لغة وصور الشعر الحديث, ذلك لأن "إليوت" واحد من كبار شعراء القرن العشريين؛ فضلًا عن أنه يجمع بين النقد والمسرح والنظرية الفلسفية والثقافية، كما أنه حائز على جائزة نوبل للآداب اعترافًا له بتقدير شعره، الذي أقامه على نظرية من التطوير وهي نظرية المعادل الموضوعي. ولقد لاحظ "جبرا إبراهيم جبرا" ما يقوله الدكتور "شاهين" في كتابه سالف الذكر أنّ الأساطير والإشارات التي انطوت عليها الأرض الليباب مثل "فيلبس الفينيقي" و" تموز" و"الملك الصياد" وغيرها من الأساطير وجدت سبيلها إلى أعمال الكُتّاب العرب، بما فيها من أصل محلي كان عاملًا في تقريب "ألد إليوت" من محاولتهم الشعرية والنسج على منوالها. إلّا أنّ التّأثر الشعري العربي به ذا الجانب الشعري -كما لاحظ "جبر"- لم يتجاوز الجانب الظاهري، ويرجعُ هذا -حسبما لاحظ بعض الدارسين- إلى ما في شعر "إليوت" من صعوبة أسهمت بشكل كبير في منع القارئ العربي من التفاعل المطلوب معه؛ بسبب مرجعيته الفلسفية والرمزية والأسطورية والتاريخية، فضلًا عن عدم دقة الترجمة العربية لإبداعاته. ونفس الشيء ينطبق على "أديس سيتويت" الذي تأثرت بها أشعار السبق كما رأينا، ولدي مثال فاقع الأخطاء الرهيبة التي يقع فيها من يتصدى لتفسير أشعارها، وللحديث عنها وعن تأثيرها في "السياب" وهو كتاب الدكتور "علي البطل" "شبح القايين" بين "إديس سيت" و"بدر شاكر السياب" إذ وجدته يخطأ أخطاء عجيبة، لا تليق بمن يتصدى لمثل تلك المهمة الجليلة؛ فكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس إذ أتى باستنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان.

ولنأخذ مثلًا ترجمته لكلمة "شادو" في عنوان القصيدة "بشبح" مع أن معناها واضح تماما ولا دليل لاستعمالها لدى "سيتول" مما يجعلنا نتأكد من معناها الذي يعرفه كل الناس وهو "الظل". بل إن المُترجم ذاته قد ترجمها مرتين في القصيدة مرتين بالظل، ويُؤكد أنها لا تعني هنا إلا ذلك. أن الشاعرة قد كررتها في بيت واحد مستعملة في المرة الثانية كلمة "شيد" التي لا يمكن أن تعني شبحًا ولو على سبيل المجاز. كما أن "السياب" قد استعمل كلمة الظل في تأثره بهذه القصيدة كما هو واضح، ولم يقل شبح قط، بل إنه في عنوان إحدى قصائده -حسبما يذكرون للدكتور "البطل" نفسه- قد استخدم لفظ ظل فقال: "ظل قابيل" فلماذا إذا ترك مترجمنا الصواب هنا للخطأ؟!. وهناك أيضًا ترجمته لعبارة" rush down the dens of world away away" بـ"مندفعة إلى أسفل حافة العالم بعيدًا بعيدًا" مع أنه لا حافة هناك ولا أسفل بل كل ما يقصده التعبير الإنجليزي هو "إنها كانت تندفع بطول العالم" وكذلك ترجمته" The gulf to storm of the world" بـ"الخليج المحيط بالعالم" وصحتها: "الخليج المصنوع بطول الأرض" فهو لا يحيط العالم بل يشقه شقًّا وشتان هذا وذاك. ومن تلك الأخطاء العجيبة ذلك الخطأ الأبلق، الذي لا أدري كيف وقع فيه ولا كيف فهم من ثم العبارات التي ورد فيها على نحو ما فهمها عليه، لقد ترجم عدة مرات كلمة "فايتس" بـ"السقوط" فقال: "حين إذ جيء بالسقوط وتمدد مثل شمس برصاء تغطيها أحزان العالم، بالقرب منه كان صوت ذهبي يدمع السقوط، صرخنا في وجه السقوط".

وهي ترجمة غريبة لا معنى لها، فوق أنه قد ترتب عليها انطماس المعنى الذي أردته الكاتبة فوق انطماسه الأصلي، وكأنه كان ينقصنا هذا الغموض الإضافي, والصواب هو أن "فايتس" كلمة لاتينية تعني "الرجل الغني" وقد تستعمل اسم علم على الغني في المثل الذي ضربه "السيد المسيح" حسبما ورد في إنجيل اللوق على إمكان ذهاب الفقير المريض المحتقر بعد موته إلى الفردوس، وتمتعه هناك بكل ما يشاء من ألوان النعيم في الوقت الذي يصلع فيه الغني المتخم أهوال الجحيم بسبب قساوة قلبه وكبره واحتقاره لأمثال ذلك المريض البائس، وعدم مد يد المساعدة له. ويبدو أن هذا الاسم كان موجودًا في بعض نسخ الأناجيل قبلًا ثم حذف، وكما يرى القارئ لا علاقة لهذه اللفظة بهذا السكوت لا من قريب ولا من بعيد، وغريب أن يفهمها المُترجم هذا الفهم، وهي موصوفة بالاسم الموصول " who" الدال على العاقل لا على المعاني ولا الأشياء وسائر ما لا يعقل، علاوة على أن الكلام على أساس من ترجمته لا يستقيم ولا يتسق أبدًا. وكان من جراء هذا الخطأ أن انطلق الدكتور "البطل" فأفاض في الكلام عن عقيدة الخطيئة والسقوط في الفكر النصراني، مخصصًا لذلك صفحتين كاملتين تحت عنوان "السقوط" أو "الخطيئة" شرح فيهما الأسطورة التي قامت عليها عقيدة الخطيئة في التراث النصراني، ومنشأها في الفكر الصومالي والإغريقي وغيره، ويرى القارئ الآن كيف نشأ الخطأ الذي قاد إلى كل ذلك، دون أن يكون هناك ما له لشيء منه، علاوة على أن مثل هذا الفهم قد ضاعف غموض القصيدة، ومن ثم زاد القارئ إرهاقًا فوق ما أصابه من إرهاقها الأصلي.

وكعادة الدُّكتور "بطل" نراه لا يتوقف لو لحظة متشككًا أو على الأقل متسائلًا عما ما إذا كان قد أصاب الرمية، بل يمضي مطمئنًا تمام الاطمئنان لا يعرف التردد ولا التثبت، ولا يلفت إلى أن النص حسب ترجمته لا يمشي أبدًا. ومن هُنَا فإننا نتساءل: أو يمكن من يؤدي الترجمة على هذا النحو أن يقاوم القصيدة، ثم لا يكتفي بل يقارن أيضًا بينها وبين أشعار "السياب"، ثم مرة أخرى لا يكتفي بهذا بل يقاوم الشاعرة الإنجليزية، ونظيرها العراقي ويحكم أن صورها وفنها كله لا في تلك القصيدة فقط، أفضل كثيرًا من صوره وفنه؟. والمسألة ببساطة: هو أن "ديفيس" لا يعني "السقوط" بل هو اسم يرمز إلى الجشع المادي عند السياسيين ورجال الأعمال، الذين كل همهم تكدس المال بل عبادته وعدم المبالاة بالمشاعر والقيم النبيلة في الحياة. كذلك فات الدكتور "بطل" أن عندنا في القصيدة كما في إنجيل لوقا لعاذرين وليس لعاذر واحدًا, لعاذر الفقير المغطى جسده بالقروح وكانت الكلاب تلحسه، وقد ورد ذكره في المثل الذي سبق في الإشارة إليه مرارًا, أما العاذر الآخر فهو العاذر أخو "مارت" و"مريم" الذي كان يحب المسيح عيسى ابن مريم وهو الذي أقامه النبي الكريم من القبر وأعاده إلى الحياة بعد أن كان قد مضى على موته أربعة أيام حسب الرواية الإنجيلية. ومن هُنا وجدنا الشاعرة تتحدّثُ عن القروح في سياق الحديث عنه في أكثر من مرة، "وفي هذا السطح يرقد جسد أخينا "العاذر" وقد دفن من قبر العالم، وقد كان ينام في ذلك الموت الكبير مثل الذهب في قشرة العالم، وحوله مثل البرق

الخابي كان يرقد الجوهر بلسم قرحة العالم"، والترجمة من عندي أما في ترجمة الدكتور "بطل" فهو بلسم أحزان العالم. "جاءوا بأحقاب العمى وليل العالم صائحين إليه "العاذر" هبنا البصر أنت يا من قروحه من الذهب، ثم جيء بـ"دايفس" وقد كان متمددًا مثل شمس برصاء تغطيها قروح العالم، وقد كان برص الذهب يغلف العالم الذي كان هو قلبه". والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 17 المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب.

الدرس: 17 المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب.

المذهب الرومانسي في الأدب؛ نشأته وتطوره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب) المذهب الرومانسي في الأدب؛ نشأته وتطوره المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب: والرومانسية: اتجاه في الفنون الجميلة والأدب، يركز على العاطفة أكثر من العقل، وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق، ويَميلُ الرومانسيون إلى حرية التعبير عن المشاعر والتصرف الحُر التلقائي أكثر من التحفظ والترتيب، ونشأت الرومانسية غالبًا باعتبارها ثروة ضد الكلاسيكية، وأظهر الفنانون الكتاب على مر العصور اتجاهات رومانسية، غير أن تعبير الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وتُلح الرُّومانسية على حُرّية الفَرد ولا تُؤيد الأعْراف الاجتماعية المقيدة ولا الحكم السياسي المستبد الظالم، وفي مجال الأدب يكون البطل الرومانسي عادة رجلًا سائرًا أو خارجًا عن القانون، مثل شخصية "مان فريد" للشاعر البريطاني لورد بايرون، ومِثلَما يَكُون البطل الرومانسي عادة رجلًا ثائرًا على التقاليد الاجتماعية يكون الفنان الرومانسي ثائرًا على الأفكار الزائفة ذات المظهر الجميل. وفي المسرح على سبيل المثال يرفض الكتاب الرومانسيون الوحدة الكلاسيكية للزمان والمكان. وإبان الحَركة الرُّومانسية لم يكن أغلب الكتاب راضين عن عالمهم؛ حيث كان يبدو عالمًا تجاريًّا جامدًا وغير إنساني، وللهُروب من الحياة الحديثة؛ حوّل الرومانسيون اهتمامهم إلى أماكن بعيدة وخيالية، فاتجهوا نحو القرون الوسطى وإلى الفنون الشعبية والأساطير، وإلى الطبيعة وعامة الناس.

وتُوجد كثيرٌ من الخصائص الرومانسية في الرواية القوطية، وهي نوع من القصص الرعب المليئة بالعنف والأحداث الغامضة، التي تقع في قصور العصور الوسطى القوطية الكئيبة، وتأثر بالرواية القوطية الكاتبان الأمريكيان "ناثنيل هوثون" و"إدجر ألنبو" وتعد حكاية الجن التي جمعها الأخوان الألمانيان "جريم" تحت عنوان "حكايات جريم الخُرافية" مِثالًا جيدًا على اهتمام الرومانسي بالأساطير والفنون الشعبية. ويظهر في أعمال الشاعر الإنجليزي "ويليم ويرس ورث" كثير من السمات الرومانيسة البحتة؛ فكان "ويرز ورث" يفضل الذهن الخالي المستغرق في التأمل، على البحث الدءوب عن المعرفة العلمية، وكان يرى أن الإنسان يتعلم من اندماجه مع الطبيعة أو من حديثه مع أهل الريف، أكثر مما يتعلم من قراءة الكتب، وكان يَرى أيضًا أن الانسجام مع الطبيعة مظهر الفضيلة والحقيقة. ولتوضيح الأمور مزيدًا من التوضيح نقول: إن الرومانسية هي ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوربا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية، وهي كما رصدها النقاد ومؤرخو الأدب ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية، تلك القواعد التي كان مرجعها سيطرة الآداب الإغريقية والرومانية، والاجتهاد في تقليديها ومحاكاتها، والتي شرع الشعراء يتلفتون منها حين أخذت بلادهم تستقل في اللغة والأدب والفكر. وعرفت الرومانسية بالابتداعات أو الإبداعية؛ بسبب أنها تعد ابتداعًا في المذهب الكلاسيكي، وتقويضًا لمبادئه وأركانه، وفي الواقع لم تكن الرومانسية ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب؛ بل كانت كذلك ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة، التي حدت من تطور الأدب وحيويته، ومن ثَمّ كانت تعبيرًا عن طابع العصر وثقافة الأمة وتاريخها.

لقد غَلبت على الرّومانسيين نزعة التمرد على هذه القيود التي التزمها الكلاسيكيون؛ فدعوا إلى التخلص من كل ما يكبل الملكات، ويقيد الفن والأدب، ويجعلهما محاكاة جامدة لما اتخذه اليونان واللاتين من أصول، كانت الرومانسية ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي؛ لتنطلق العبقرية البشرية على سجيتها، دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع. لقد كان الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة؛ فجاءت الرومانسية؛ لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم، والخيال والتمرد الوجداني والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب. وكانت البلاد الفرنسية المهد الأول للرومانسية وللكلاسيكية ولجميع المذاهب الأدبية والمناحي الفكرية، أما الظروف التي نشأت فيها الرومانسية بفرنسا فهي ما اعترى تلك البلاد من أحوال سياسية واجتماعية واقتصادية، كان من أثرها تلك الحالة النفسية التي ميزت التمزق الداخلي، والتغني بالآم الفردية. ولعل من عوامل نشوء الرومانسية في فرنسا ما كان من هجرة بعد كبار كتابها إلى إنجلترا وألمانيا، إثر قيام الثروة الفرنسية سنة ألف وسبعمائة وتسع وثمانين ميلادية، وتأثرهم بآداب تلك البلاد، ومعطياتها الفكرية والثقافية، مما جعلهم يصدرون عن وحيها بكل حماسة وإعجاب، كتلك الحماسة التي أظهرها "شاتوبرايان" عندما عاد من مهجره إنجلترا وتسنى له أن يترجم إلى الفرنسية "الفردوس المفقود" لـ"جون ميلتون" وكذلك الإعجاب الذي أبدته مدام "تستايل" حينما عادت من منافاها ألمانيا بهذا الأسلوب الجديد الساري في أدب الشمال؛ إذ قالت: شعر أهل الشمال يناسب تفكير الأمم الحرة أكثر مما ينسابها شعر الإغريق.

وكتبت "دستايل" عن ألمانيا كتابًا فريدًا أشادت فيه بالروح الألمانية، وعرفت فيه الفرنسيين بروائع الأدب الألماني الغارق في الرومانسية، وتعتبر "دستايل" من الرواد الأوائل لنشوء "الرومانتيكية"، وإذا تجاوزنا الأسباب المباشرة لحدوث الرومانسية؛ فإننا نجد كاتبين وفيلسوفين كبيرين أثرا في الحياة العقلية والأدبية الأوربية، وإن كان تأثيرًا بعيدًا عن محيط الرومانسية، لكنه على كل حال ساعدا على تمهيد أرض صلبة لنشوئها، هذان الفيلسوفان هما: "جان جاك روسو" و"فولتير". أما "روسو" فقد دعا إلى العودة إلى الطبيعة والحياة الفطرية؛ إذ إن أطماع الإنسان قد تطورت بتطور المجتمع، وأحس أنه في مجتمع يفرض عليه تبادل المصالح مع الآخرين، ومن شأن هذا أن يكون في نفسه الأثرة وحب الذات، والامتلاك والحرص، ولقد كان الإنسان الفطري البدائي سعيدًا في حياته وفي معيشته، آمنًا في كوخه، لا يحمل لغيره من الناس إلا الخير والحب. و"روسو" هو صاحب المبدأ التربوي المشهور: "علينا أن نترك الطفل يدرج وحده في الطبيعة ليكتسب خبراته بنفسه". وكتاب "إيميل" إنما هو شرح لهذا المبدأ، وأما "فولتير" فإنه نشر في أوربا كلها أدب "شكسبير" ونوه به، وهو أدب مُتحرر من النظام الإغريقي في بناء المسرحيات، رغم إن "شكسبير" عاش في عصر "الكلاسيكية" إلا أنه لم يلتزم بمبادئها وأصولها بل اعتمد على نفسه وخبرته في تكوين مسرحه. وكان من حقيقة هذا النشر أن فطن الأدباء لأن في القرن السادس عشر -وهو عصر ازدهار الكلاسيكية- من حاول التفلت من قيود الآداب الإغريقية والرومانية، اكتفاء بعبقريته وأصالته الفنية، واجتهاداته الشخصية، وبالطبع لم

يعتمد "فولتير" جميع آراء "شكسبير" ويأخذ بها كلية لكنه اختار ما يلائم طبعه في تجديد الأدب الفرنسي، ولا شك أن لهذا التجديد، أثر في اهتزاز قيمة المذهب الكلاسيكي. ولم يكن "فولتير" ناقلًا لآراء "شكسبير" فقط بل كان كذلك ناقدًا اجتماعيًّا جريئًا في نقده؛ حتى إنه انتقد صكوك الغفران ورجال الكنيسة، وقد عرض الفيلسوف الفرنسي آراءه في المسرحيات التي ألفها، وكانت سببًا لتهيئة الجو الملائم للرومانسية. كذلك أخذ بعض الفلاسفة يمهدون لهذا المذهب، ويبشرون بعالم أفضل كالفيلسوف الفرنسي "بيدرو" والفيلسوف الألماني "كانت" ولا شك أيضًا أنّ هؤلاء الفلاسفة قد أثروا في الأدب ونقده، حينما خالفوا أفلاطون في نظريته المشهورة عن المُثل، كذلك انصرف هؤلاء الفلاسفة في أبحاثهم الفلسفية إلى اجتناب طبيعة الجمال، وحقيقته وعلاقته بالمتعة، والفرق بين الجميل والنافع، واستطاعوا أن يحددوا نظرياتهم وآراءهم نحو الجمال. ثم أتى فلاسفة بدءوا من حيث انتهى أولئك، في مقدمتهم الفيلسوف الألماني الرومانتيكي "فيتشه" والفيلسوف الألماني "شوبن هاور" الذي قامت فلسفته على التشاؤم، ويجبُ أنْ نأخُذَ بِعينِ الاعتبار أن تلك الأسباب لم تصنع بين عشية وضحاها الظروف التي نبتت فيها الرومانسية، وغدت مذهبًا أدبيًّا قائمًا بذاته، كما أن تلك المؤثرات التي أشرنا إليها من قبل، لا تستطيعُ وحدها تشييد صرح الرومانسية، لو لم تتضافر ظروف الحياة في فرنسا لتهيئة الحالة النفسية، التي تصدر منها الرومانسية.

وكان هناك في فرنسا عددٌ من الأدباء الناشئين الذين استجابوا لنداء هذه الأحداث، مُشكلين بذلك نقطة انطلاق الرومانسية، وقد وصف الشاعر "الرومانتيكي" الفرنسي الكبير "ألفريد ديموسيه" في كتابه (اعترافات فتى العصر) الحالة النفسية للأطفال الشبان، بعد هزيمة نابليون وإذلال فرنسا وفترة الضياع، تلك الحالة التي لم تعد مذهبًا أدبيًّا فقط، بل صارت فلسفة وسلوكًا في الحياة أيضًا. واتخذت الرومانسية من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، وما يجتنبها من ألم وشقاء وتشاؤم، ولم تُقيد الرومانسية نفسها بأصول ومبادئ فنية، كما حدث في الكلاسيكية؛ إلّا أنها قد بلورت بطريقة تلقائية بعض الاتجاهات التي أصبحت فيما بعد من مميزاتها، من مثل مرض العصر وما يطلقونه على تلك الحالة النفسية الناتجة عن عجز الفرد عن التوفيق بين القدرة والأمل، وكذلك اللون المحلي، ويقصدون به محاربة الاتجاه الإنساني السائد في الكلاسيكية، ثم الخلق الشعري الذي على أساسه يقرر الرومانسيون أن الأدب ليس محاكاة للحياة والطبيعة كما تذهب الكلاسيكية، بل خلق وأن أداة الخلق هي الخيال المبتكر مع ذكريات الماضي، وأحداث الواقع الراهن وإرهاصات المستقبل. وخليقٌ بمن يريد الإلمام باتجاهات الرومانسية ومميزاتها وسماتها، أن يَطّلع على روائع الرومانسيين، من أمثال آثار "فيكتور هيجو" و"ألفريد ديموسيه" و"لامارتين" و"ريس وريث" و"كلورين" و"بايرون" و"شل" و"كيت". وهُناك قصيدةٌ للشاعر الفرنسي "ألفريد ديموسيه" أجمع النقاد على أنها من روائع الرومانسية، وهي بعنوان: "ليلة أكتوبر" وتجري على صورة حوار بينها وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشاها الشاعر بكل أبعادها، في حبه للكاتبة الفرنسية "جون ريسان" التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا؛ حيث سقط

مريضًا؛ فعاداه طبيب إيطالي، وأوقع "جورج صن" في حبه وهجرته هو ليعود وحده إلى باريس كسير القلب، وفي خلال تلك المنحة أتته ربة الشعر فجرى بينهما الحوار الآتي: الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني كما تتبدد الأحلام، حتى لتشبه ذكراه البعيدة، ما يبعث الفجر من ضباب خفاف يتطاير هذا الصباح. ربة الشعر: ما بك إذًا يا شاعري؟ ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني؛ حتى ما أزال أشقى به؟ ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طالما أبكاني؟. الشاعر: كان ألمًا مبتذلًا من منصب الجميع، ولكننا نحسب دائمًا بخبلنا الجدير بالرحمة، أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم، لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا. ربة الشعر: لا، ما في الألم من كدر، إلا ألم نفس مبتذلة، دع عزيزي هذا السر ينطلق من فؤادك، افتح لي نفسك، وتكلم واثقًا من أمانتك؛ فإنّ الصمت أخ للموت، ولكم شكا متألمٌ ألمه فتعزى عنه، ولكم نجا القول قائله من وخزات الضمير. الشاعر: إذا كان لا بد من الكلام عن ألمي؛ فوالله لا أدري بأي اسم اسميه؟ أكان حبًّا أم جنونًا أم كبرياء أم محنة؟ وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاص عليكي نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيثارتك وتعالي إلى جانبي، ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك. ولا شَكّ أنّ تِلْكَ المعاني الذاتية لا تلائم إلا الشعر الغنائي، حيث يجد فيه الشاعر المنطلق الرحيم؛ إلا أنّ الرومانسيين لم يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب؛ وإنّما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي.

وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة، وكانت مسرحياتهم روائع خالدة في المذهب الرومانسي، من أمثال "ديموسيه" و"فيكتور هيجو" الذي قام بترجمة مسرحية "ويليام شكسبير" إلى اللغة الفرنسية، وأخذ في دراستها واستنباط خصائصها، ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة كما في مقدمة مسرحية "كرومويل" التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند "الكلاسيكيين" إذ المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة الحياة، وكأنها صورة منها ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث، وهو الزمن الذي يستغرقه تنفيذ المسرحية لا بأربعة وعشرين ساعة. كما هَاجَمَ مبدأ فصل الأنواع، الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد المغازل المسرحية، متحججًا بأن هذا المبدأ لا وجود له في واقع الحياة، إذ الحياة كثيرًا ما تنقلب من جد إلى هزل، ومن هزل إلى جد، وتتقلب مع عواطف الناس ومشاعرهم تبعا لهذا الانقلاب. هذه هي الرومانسية التي سيطرت على الآداب الأوربية وقتًا من الزمن، وكان لا بد لها أن تنهار وتسقط في خضم المذاهب الناشئة، كما حدث للكلاسيكية أمامها، وقد قدّم هذا المذهب نفسه العوامل التي ساعدت على سقوطه أمام المذاهب الأدبية الناشئة، من مثل الواقعية والفنية، إذ هو يذهب إلى أن الأدب وحي وإلهام وخلق لا صناعة ومحاكاة ونظام، مما يجعله ينتهي عند المقدمين وأصحاب الملكات الضعيفة إلى إهمال الصياغة اللغوية واللامبالاة بتجويد الأسلوب وجماله، وعدم العناية بروائع الفحول من الأدباء. كما أدى به هذا الأمر إلى اضطراب العواطف، وتشتت المشاعر عند الأدباء، واستخدام الأدب الشعري ونثره في التعبير عن الذات الفردية، وهو ما صرفه عن القضايا الإنسانية والوطنية الكبرى؛ حتى وصف بأنه أدب الأبراج العاجية.

وكان للأدب العربي الحديث هو أيضًا من حظه ونصبيه من الرومانسية، التي على أساسها قامت فيه عدد من المدارس الأدبية؛ كمدرسة الديوان ومدرسة أبوللو ومدرسة المهجر، بل إنّ مَدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة: العقاد، والمازني، وعبد الرحمن شكري. قد صدرت في نقدها لمسرحية شوقي وشعره ونثر المنفلوطي عن الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، متأثرة في ذلك بالرومانسية الإنجليزية. وتحت رايات هذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث سطعت نجوم في سماء الشعر الرقيق الحالم، من أمثال الدكتور إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعبد القاسم الشابي، وعمر أبو ريشة، وصالح جودت، وخالد نعيم، ومن قبل هؤلاء جميعًا خليل مطران، ونورد فيما يلي مقتطفات من قصيدة شعرية تشيع فيها المعاني والأخيلة الرومانسية؛ لشاعر سوريا الملهم عمر أبو ريشة المتوفى عام 1990 ميلادية: لمن تعسر الروح يا شاعر ... أما لضلال المنى آخر أللحبِّ أين التفات الفنون ... إذا هتف الأمل العاسر أللهو كم من دمية صغتها ... ومزقها ظفرك الكاسر أللمجد ماذا يحس القتيل ... إذا أزور أو بسم العابر أللخلد كيف ترد الذئاب ... وقد عضها جوعها الكافر رويدك لا تسفحن الخيال ... ببيداء ليس بها سامر أما يرقص الكون في صمته ... كما يرقص الحية الساحر دع الحلم يخلب في ناظريك ... فموعده غدك الساخر وبرغم خلو آدابنا القديمة من الرومانسية مذهبًا يتخذه الأدباء عن وعي وقصد، تبعًا لفلسفة يعتنقونها، وظروف تدفع جموعهم إليها، كما هو الحال في تاريخ

الآداب الأوربية على ما هو معروف؛ فمن السهل على من لديهم معرفة بتاريخ الشعر العربي القديم أن يمد يده إلى إلى أي عصر أدبي تقريبًا، بدأ من العصر الجاهلي ذاته؛ فيقتطف بكل سهولة باقة من الشعر الفواح بعبق الرومانسية. أليست الرومانسية في جانب من جوانبها ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية، والاجتهاد في تقريبها ومحاكاتها، أليس الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة؛ فجاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال، والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب؛ ألم يمرُّ بنا قبل قليل أنّ الفنانين والأدباء قد أظهروا على مر العصور اتجاهات رومانسية؛ رغم أن مصطلح حركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت في أوربا من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. فلنأخُذ مثلًا قصيدة "عبد يغوث" الذي نظمها وقد وقع أسيرًا في يد أعداء قبيلته في الجاهلية فقيدوه، وشدوا لسانه بلسعة كي لا يقول شعرًا في هجائهم فيفضحهم بين القبائل، وأصروا على أن يقتلوه بفارس من فرسانهم سقط في أحدى المعارك، التي دارت رحاها بينهم وبين قبيلة الشاعر الذي كان قائد قومه، أو أحد كبار قادتهم. ففي هذه القصيدة يسود جو من الأسى والألم، وترفرف راية الموت السوداء؛ وتنثان ذكريات على الشاعر حزينة تلذع قلبه تلذيعًا، وبخاصة بعد ما تبين له أنه لا فائدة ترجى من المفاوضات التي حاول أن يديرها بينه وبينهم، عارضًا فيها دفع ما يريدون من دية؛ حتى لو استغرقت ماله كله وتركته حريبًا -أي: فقيرًا فقرًا مضجعًا لا يملك شروى نقير؛ فكانت أن ذهبت جهوده في تلك المفاوضات عبثًا.

أليست هذه القصيدة تخلو من نهج القصيدة، الذي ذكر ابن قتيبة أنه واجب الاتباع بحذافيره، لا البدء بالوقوف على الأطلال، ثم التثنية بركوب البعير والانطلاق في ناحية الصحراء، والتثليث بوصف كل ما يمر به الشاعر في محنته تلك التي أمضى فيها بعيره ونفسه وصفًا لا بد من التزامه بحذافيره المحددة دون أي خروج عنه في أشد التفاصيل دقة إلى آخره. ترى أي فرق بين ذلك القصيدة وبين أية قصيدة رومانسية، مما نعرف من شعر العصر الحديث؟ وبحق يكتب أحد معلقي المنتديات الإنترنتية قائلًا: "قريبة إلى نفسي هذه الياء التي اختتمت بها قصيدة عبد يغوث بن وقاص، ذلك الشاعر الذي سمحت له تجربته بكشف مدى صدق التعبير عنها، تجربة الشعر الجاهلي لبني عبد يغوث كانت عند هزيمة قومه، حينما جره سوء حظه إلى أن يقع أسيرًا في صفوف أعدائه، بعد أن كان قائد قومه "مذحج" ويحاول الأسير أن يفدي نفسه، ولكن أنا له ذلك وقد تمادت تميم في حرصها عليه، بل أبت إلا قتله بالنعمان بن جساس؛ قتيلهم في يوم الكلاب الثاني، وموضع أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي، ولم يكن عبد يغوث قاتله ولكن تميمًا تنتهي بالرأي إلى إجماع الرغبة على قتله كفارس مذكور في قومه، وشاعر ذائع الصيت بينهم. وكانوا قد شدوا لسانه لئلا يُقدم على هجائهم أو التعريض بهم، أو رصد مثالبهم، ولما أدرك الفارس الأسير أنه مقتول لا محالة؛ طلب إليهم أن يطلقوا لسانه لعله يذم أصحابه ممن تركوه وغدروا به، أو لعله يرثي نفسه قبل موته، كما طلب منهم أن يختاروا له قتلة كريمة تليق بمكانته وفروسيته، فأجابوه إلى رغبته وسقوه الخمر، وقطعوا له عرقًا يقال له: "الأكحل" وتركوه ينزف حتى مات. ويقال: إنه نظم يائيته المشهورة، وقد جهز للقتل؛ فراح من خلالها يحكي قصة ألمه إزاء ما كان من قومه، وقد تركوه حين هزموا، ولو شاء الفرار لسهل عليه أمره، ولنجا من مأزق أسره، ولكنه آثر الثبات من أجل حماية قومه؛ فإذا به في

موقف لا يحسد عليه بين مهانة، ومذلة يترجمها موقف نساء تميم منه، وهُن يهزأن به ويسخرن منه ويراودنه عن نفسه يقول عبد يغوث: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير وما ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل ... وما لومي أخي من شماليا فيا راكبًا إن ما عرضت فبلغن ... دامية من نجران ألا تلاقيا أبا كلب والأيهمين كليهما ... وقيسًا بأعلى حضر موت اليمانيا جزى اللهُ قومي من كليب مليمة ... صريعهم والآخرين المواليا ولو شئت نجتني من الخير نهدة ... ترى خلفها الحوى الجياد تواليا ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكان الرماح يختطفن المحاميا أقول وقد شدوا لساني بمسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا ... وإن تطلقوني تحرموني بماليا أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا ... نشيد الرعاء المعذبين المتاليا وتضحك مني شيخة عبشمية كأن ... لم تري قبلي أسيرًا يمانيا وظل نساء الحي حولي ركدًا ... يراودن مني ما تريد نسائيا وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدوًّا علي وعاديا وقد كنت نحار الجزور ومعمل الـ ... ـمطي وأمضي حيث لا حي ماضيا وأنحر للشرب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا ... لبيقًا بتصريف القناة بنانيا وعادية سوم الجراد وزعتها بكفي ... وقد أنحوا إليّ العواريا كأني لم أركب جوادًا ... ولم أقل لخيلي كري نفسي عن رجاليا ولم أسبق الزق الروي ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا

ويُمكن المُضي في جمع تلك الباقة فنجد أمامنا مثلًا العانية التي نظمها أمية بن أبي الصّلت أو المنسوبة إليه في الشكوى من عقوق ابنه، وكذلك حائيته التي يرثي فيها بألم عنيف قتلى بدر من المشركين الذين سقطوا بسيوف أبطال الإسلام في تلك الملحمة العظيمة؛ فكان وقعها على قريش ومن لفّ لفهم ووقف إلى جانبهم ضد الدين الجديد العظيم وقع الزلزال المدمر. وبالمثل نستطيع أن نضم إلى تلك الباقة عانية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده الأربعة، ذلك الرثاء الذي لم يقصد إليه من الناحية الفنية قصدًا مباشرًا، بل أداه من خلال أربع حكايات تصور كل واحدة منها سقوط ثور وحشي، وكأنه يجيء على ما نسميه في عصرنا بالمعاد الموضوعي الذي سنه الشاعر الإنجليزي الأمريكي "تي إس إليوت". وهناك كذلك رثاء الخنساء لصخر أخيها، ذلك الرثاء الذي وقفت حياتها كلها عليه، لا تريد أن تتوقف أبدًا عنه رغم تمادي الزمن؛ وهناك أيضًا رثاء مالك ابن الريب لنفسه الذي استلهم فيه قصيدة "عبد يغوث" فبلغ مدى سامقًا قلما يبلغه شاعر في أي أدب. ومنه كذلك أشعار العذريين، وكثير عزة المُفْعَمة بالحرمان والعذاب، والعكوف على المشاعر الباطنية، يَجْتَرّها الشاعر في ألم لا يعدله ألم، صارخًا حيث لا يسمع صريخه ولا يمد يده إليه أحد. ولا ننسى مثلًا أبيات ابن خفاجة في وصف الجبل المتوحد في قلب الصحراء؛ حيث لجأ إليه ذات ليلة، ومد أذنه ليسمع الكثير من أخبار ماضيه، وما مر به من أحداث وناس ومفارقات فسمع حديثًا عجبًا.

مذهب الواقعية في الأدب؛ نشأته وتطوره.

ومنها كذلك أبيات البحتري في وصف الربيع، وهو ساكن في رقدته الشتوية، مختالًا ضاحكًا ابتهاجًا بما حباه الله به من الحسن والجمال، حتى أوشك أن ينطق من الفرح والابتهاج. مذهب الواقعية في الأدب؛ نشأته وتطوره أما بالنسبة إلى الواقعية؛ فكما يقول الدكتور مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه): نشأ هذا المذهب في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، تَحت تأثير الحركة العلمية والفلسفية؛ ورد فعل على الإفراط العاطفي التي اتسمت به الرومانسية، فقد ازدهرا معًا وتجاورا، وقد عمد الواقعيين أن تشخيص الآفات الاجتماعية، وتصوير معاناة الطبقة الدنيا وبدءوا بذلك حتى اتسم أدبهم بطابع تشاؤمي، ومسحة سوداء. ويعد "بلزاك" الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر الرائد الأول للواقعية في فرنسا، وقد خَلّف أكبر موسوعة في الأدب الواقعي، وهي تشمل نحو مائة وخمسين قصة أطلق عليها اسم "الكوميديا البشرية" وتُمَثِّلُ قِطَاعَاتٍ مُختلفة من الحياة؛ كما نَجِدُ عدة أدباء آخرين من فرنسا في مجال الواقعية مثل: "جوستاف لوبير" وهو صاحب الأعمال الأدبية المتميزة مثل "مدام بوفريه" و"سلمبو" وغيرهما من الأعمال الأدبية القيمة. ويقول الدكتور مندور أيضًا: إنّ الواقعية كمذهب أدبي ليست هي الأخذ عن واقع الحياة، وتصويره بخيره وشره؛ كالآلة الفوتوغرافية، كما أنها ليست معالجة لمشاكل المجتمع ومحاولة لحلها، أو ضد أدب الخيال أو الأبراج العاجية؛ بل هي فلسفة في فهم الحياة والأحياء وتفسيرهما. أو هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من

خلال منظار أسود، وتؤمن بأننا لو نقبنا عن حقيقة الشجاعة والاستهانة بالموت مثلًا؛ لوجدناها يأسًا من الحياة أو ضرورة لا مفر منها، مثلما أن الكَرَم في حقيقته أثرة تأخذ مظهر المباهاة، والمجد والخلود تكالب على الحياة وإيهام النفس بدوامها واستمرارها. وهكذا الأمر في كافة القيم المثالية التي نسميها قيمًا خيرة، فهي ليست واقع الحياة الحقيقة، بل الواقع والأثرة ما ينبعث عنها من شرور وقسوة وحشية. وتُمَثّل الواقعية الجانب الواقعي من المجتمع والحياة؛ فهي ترى أنّ الحياة كلها شر ووبال، وأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش إذا كان ماكرًا ومخادعًا، لكن هناك في ذات الوقت لونًا آخر من الواقعية؛ كانت تعرفه الآداب الاشتراكية أيام أن كانت هناك اشتراكية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، والدول التابعة له، وثورة الشعوب هناك على أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا اللون من الواقعية يركز على ما في الحياة من أوضاع تدعو إلى التفاؤل، وتؤدي إلى نتائج إيجابية بدلًا من هذه النظرة المتشائمة السوداوية التي تسبق الواقعية الغربية. ذلك أن الاشتراكيين -كما ذكر الدكتور محمد مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه) - يؤكدون أنّ الأدب اختيار، وأنّ الأدباء الذين يختارون الشخصيات الشريرة المؤذية أو السلبية المتخاذلة، إنما ينمون عن ضعف وشيخوخة في أوقات من الحياة، ولو كانت رؤيتهم لتلك الحياة رؤية متفائلة؛ لما ركزوا على هذا الجانب الأسود منها، ذلك الجانب الذي من شأنه أن يثبط الهمم، ويدعو لليأس وينشر روح العزيمة والانهيار أمام عوائق الحياة، بخلاف ما لو اجتهدوا في إبراز الطاقات البشرية المدفونة القادرة على صنع الأعاجيب؛ فعندئذ تسود مشاعر التفاؤل بين أفراد الشعب، ويبذلون غاية جهدهم، ويستطيعون التغلب على عقبات الحياة ويحققون نتائج مذهلة.

والواقعُ أنه لا هذه النظرة، ول29:10 ولا تلك النظرة الصحيحة للوجود؛ ففي الوجود ما يدعو إلى التشاؤم، وفيه في ذات الوقت ما يدفع إلى الابتهاج، والتفتح للحياة والتفاؤل بالمستقبل، بيد أن الظروف تختلف من شخص لآخر، ومن فترة تاريخية إلى أخرى، ومن مجتمع إلى مجتمع إلى غيره وهكذا. على أنه ينبغي ألا يستسلم الأدباء لمعوقات الحياة والمجتمع في الفترات التي تنتشر فيها العيوب والسلبيات، بل عليهم إلى جانب تصوير تلك المعايب والشرور ألا يغفلوا عما في الحياة من جوانب الخير والأمل، حتى لا يكونوا بدورهم عبأ على المجتمع والقوى الناهضة المكافحة، ولكن بشرط ألا يزيفوا الواقع، ويقدموا صورة براقة، لا تساعد الوقائع اليومية على تصديقها وابتلاعها كما كان يحدث في أحيان غير قليلة في الأدب الاشتراكي، على أيام الاتحاد السوفيتي؛ حينما كان الناقد "سيمنوف" مثلًا يُعلن أن أدبهم يهدف إلى تغليب عوامل الخير والثقة في الإنسان وقدرته، وأن واقعيتهم واقعية متفائلة، تؤمن بإيجابية الإنسان وقدرته على الإتيان بالخير، والتضحية في سبيله بكل شيء في غير يأس ولا تشاؤم ولا نبرات مسرفة كما يقول الدكتور مندور السالف الذكر، وكانت الأعمال القصصية تبالغ في تصوير النفوس الخيرة مبالغة لا يستطاع هضمها. ولمزيد من التفصيل نقول: إن الواقعية مذهبٌ في الفن والأدب، يُشير إلى محاولة الأديب أو الفنان تصوير الحياة كما هي في الواقع، وتكمن المهمة الرئيسية للفنان في نظر الفنان الواقعي؛ في وصف كل ما يلاحظه بحواسه بدقة وصدق شديدين، بغير إهمال لما هو قبيح أو مؤلم، ومن غير اقتراح للرمزية. ولقد كانت الواقعية ثورة على كل من التقليدية الكلاسيكية والعاطفية الرومانسية، وهُما حركتان فنيتان عالجت أعمالهما أمور الحياة بأساليب مثالية،

حيث تظهر أعمال التقليدين الكلاسيكيين الحياة على أنها أكثر منطقية، وترتيبًا من ما هي في الواقع، أما أعمال العاطفيين الرومانسيين؛ فتظهر الحياة على أنها أكثر إثارة من الناحية العاطفية، وأكثر بعثًا على الشعور بالطمأنينة مما هي في الواقع الحياة أصلًا. ويَبْذُل الواقعيين قصارى جهدهم؛ لكي يكونوا موضوعيين لأقصى درجة ممكنة، غيرَ أنّهم في محاولتهم انتقاء موضوعاتهم، وتقديمها لا يتمكنون من تجنب التأثير بما يشعر به أو يفكرون؛ ولذا فإن أعمق أنماط الواقعية لديهم يأتي نتيجة المراقبة والحكم الشخصي. وبالنسبة للقصة الواقعية: فقد جاء الفن القصصي الواقعي ثورة على عاطفية المثالية الرومانسية؛ فشخصيات الفن القصصي الواقعي أكثر تعقيدًا من شخصيات القصص العاطفية الرومانسية، ومسرح الأحداث يتسع بالهدوء وعدم التركيز على الحبكة، وغموض الموضوعات، ويُعالج الفن القصصي الواقعي في معظمه حوادث عادية ممكنة الوقوع، كما أنه يَرْسُم شخصية قابلة للتصديق. وتقدم معظم القصص الواقعية موضوعات متشائمة، لا تدعو إلى البهجة وقد تثير الاشمئزاز، وهذه سمة قاتمة تنطبق بشكل أساسي على الطبيعية، وهي حركة تطورت على الواقعية، ويعزى ازدياد منهج الواقعية باعتبارها أسلوبًا لا إلى كونها مجرد رد فعل على المعالم الجميلة في الفن القصصي العاطفي فقط، بل يعود أساسا لعاملين: الأول: هو تطور العلم الحديث، بتأكيده على كتابة التقارير العلمية المفصلة. أما العامل الثاني: فهو الرغبة الجامحة لدى الكتاب والقراء لفهم المشاكل الاجتماعية من منظور أكثر واقعية.

حظيت الواقعية في الأدب الإنجليزي بالاهتمام لأول مرة في القرن الثامن عشر، وعلى وجه الخصوص في أعمال "دانيال ديفو" أما القرن التاسع عشر؛ فقد أصبحت الواقعية في أكثر أهمية، وبدا ذلك واضحًا من خلال أعمال كل من "جين أوستن" و"جورج إليوت" و"توماس هاردي" و"جورج مور" و"ويليام ماكبثكري" و"أنطوني ترولوب" ومن كتاب الواقعية الأوربيين البارزين في القرن التاسع عشر "أونريه ديبلزاك" و"جوستاف لوبير" و"ستدندال" في فرنسا و"ليو تلوسي" و"إيفان ترجنيف" في روسيا. وكان "هنري جيمس" و"وليام بن هاولز" وإلى حد ما "ماركة وين" من أوائل الكتاب الواقعيين المتعرف بهم في الأدب الأمريكي، أما "ستيفن كرين" و"فرانك نورس" و"تيودور درايدزر" فكانوا أوائل الكتاب الطبيعيين الأمريكيين. وبفضل الكتابة القصصية لهؤلاء الكتاب، وكتابات لكتاب آخرين أتوا بعدهم، مثل "سنكلير لويس" و"إف سكوت فيثجارت" و"إلنس هيمجويه" و"جون شتايمك" أصبحت الكتابة الواقعية سائدة ومقبولة، بحيث أصبحت القصص العاطفية الرومانسية أعمالًا لا تساير روح العصر. وكانت الواقعية المسرحية، كما كان الفن القصصي محاولة لتصوير الواقع بجماله وقبحه، وقد تطورت المسرحية الواقعية في أوربا أولًا كرد فعل للـ"مليودراما" والمذاهب العاطفية التي كانت سائدة في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر، كما أخذت أشكالًا عديدة تتدرج من الواقعية الخفيفة في ملاهة السلوك المتكلف والمبالغ فيه؛ إلى المأساة العميقة في الأسلوب الطبيعي، وأصبحت للمسرحية الواقعية أهمية لأول مرة بعد ظهور المسرحيات "هنريك ألسون" في النرويج، وقد تفحص "ألسون" القضايا الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره في أعماله المسرحية مثل "أعمدة المجتمع" و"بيت الدميا".

أما "أنطون تشيكوف" فقد وصف "أرستقراطية" روسيا المتلاشية في مسرحيته "بستان الكرس" وفيما يتعلق بالمسرح الإنجليزي فقد كان تقبله للواقعية بطيئًا، إلا أن "جورج بيرناردشو" ما لبث أن بعث الحياة في الحركة الواقعية، في سلسلة مسرحيات طويلة ذكية، تُعالج القضايا الاجتماعية، بدأ من مسرحية "بيوت الأرامل" وفي "إيرلندا" مزج "جون ميلنج تون سينج" الواقعية بالشعر في مسرحيته "ركاب البحر" وتناول "جون أكويسي" قضايا نضال "إيرلندا" من أجل استقلالها عن إنجلترا في مسرحيته "جونو وألبيكوك" ومسرحيات أخرى. أما الأثر الدائم الذي أحدثته الواقعية في المسرح: فقد جاء بتقديم مسرحية ما وراء الأفق لـ"يجوين أونيل" في عام 1920. ورغم أن مصطلح الأدب الواقعي يعني ما قلناه آنفًا؛ فليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك قط أدب واقعي قبل الفترة التي ازدهرت فيها الواقعية بالمعنى السابق، إذ هناك فرق بين الواقعية بهذا المفهوم المحدد، وبين الواقعية بالمعنى الواسع الذي لا يرتبط بفترة تاريخية ولا بظروف اجتماعية وسياسية معينة، والذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله، لا على صورة خيال وتهاويله؛ فيكون بذلك معرض للرومانسية أو الذي يستقي مادته من حياة عامة الشعب ومشاكله؛ فيكون بذلك معرضًا لما يسمى أدب البرج العاجي، أي أدب أرستقراطي الفكر والخيال الذي يناقش القضايا الميتافيزيقية أو الموضوعات التاريخية، المأخوذة من بطون الكتب لا من قلب الواقع، أو الذي يقوم على الموضوعية لا على مشاكل النفس الفردية -كما يوضح الدكتور محمد مندور في الفصل الذي خصصه للواقعية من كتابه (الأدب ومذاهبه).

كذلك لا يخلو أدبنا القديم من نصوص ذات عناصر واقعية، وإن لم يكن وراءها تنظير نقدي كالذي واكب ظهور الواقعية في أوربا على مر بيانه، فلدينا مثلًا شعر عمر بن أبي ربيعة في التعرض للنساء حتى في مواسم الحج، والاجتهاد في نيل ما يمكن نيله منهن، وتحمل ما يمكن أن يصيب المتعرض لهن من مس الكرامة أحيانًا، وعَدُم المُبالاة بأقاويل الناس، والنظر إلى المرأة على أنها شيء يُستمتع به، دون التقيد بشخص امرأة بعينها، بحيثُ إذا غابت أو هجرت أو غضبت أسودت الدنيا في وجه من يحبها، واستحالة حياته جحيمًا لا يمكن احتماله. وتزداد الأمور إثارة في الواقعية على هذه شاعر كبشار بن برد، الذي لم يكن يرى في المرأة أو يهمه منها إلا جسدها، وما يؤويه هذا الجسد من شهوات، دون مبالاة بالناحية الروحية فيه على الإطلاق. ومن الشعر الذي ينحو منحًا واقعيًّا ما نظمه أبو نواس مثلًا من قصائد تقص مغامراته في عالم الحانات وتصف مجالس الشراب، حيث لا يترك تفصيلة من تفصيلات الواقع الحي إلا سجلها أو أبرزها وكأننا نصاحبه في تلك المغامرات وهذه المجالس، ونرى ونسمع ونشم كل ما يراه ويسمعه ويشمه. أو فلنقرأ قصيدة البوصيري في شكواه الفقر لممدوحه؛ حيث يورد وصفًا واقعيًّا لما يدور بينه وبين زوجته من مشادات بسبب الحاجة، أو لما يقع من أولاده من تصرفات بسبب ما يقلص بطونهم من جوع: يا أيها المولى الوزير الذي ... أيامه طائعة أمره ومن له منزلة في العلى ... تكل عن أوصافها الفكرة إليك نشكو حالنا ... إننا حاشك من قوم أولي عسره في قلة نحن ولكن لنا ... عائلة في غاية الكثره أحدث المولى الحديث الذي ... جرى لهم بالخيط والإبره

صاموا مع الناس ولكنهم ... كانوا لمن أبصرهم عبره إن شربوا فالبئر زير لهم ... ما برحت والشربة الجرة لهم من الخبيز مسلوقة ... في كل يوم تشبه النشره أقول مهما اجتمعوا حولها ... تنزهوا في الماء والخضره وأقبل العيد وما عندهم ... قمح ولا خبز ولا فتره فأرحمهم إن عاينوا كعكة ... في يد طفل أو رأوا تمره تشخص أبصارهم نحوها ... بشهقة تتبعها زفره كما قائل يا أبا من هما ... قطعت عنا الخير في كره ما صرت تأتينا بفلس ولا ... بدرهم ورق ولا نقره وأنت في خدمة قوم ... فهل تخدمهم يا أبتا سخره ويوم زارت أمهم أختها ... والأخت في الغيرة كالضره وأقبلت تشكو لها حالها ... وصبرها مني على العشره قالت لها كيف تكون ... النسا كذا مع الأزواج يا عره قومي اطلبي حققي منه ... بلا تخلف منكي ولا فتره وإن تأبى فخذي ثخمه ... وخلصيها شعرة شعره قالت لها ما هكذا عادتي ... فإن زوجي عنده ضجرة أخاف إن كلمته كلمة ... طلقني قالت لها بعره وهون القدر في نفسها ... فجاءت الزوجة محتره فقابلتني فتهددها ... فاستخبرت رأسي بأجره ودامت الفتنة ما بيننا ... من أول الليل إلى بكره وحق من حالته هذه ... أن ينظر المولى له نظره

إنّ الرجل إنما يقبس من نار قلبه وواقع بيته، وهو إن فاتته فحولة الشعر؛ فلم يفوته الكثير، لأنّ هذا اللون من الشعر لا يصلح له إلا هذا الأسلوب البسيط العجيب في صدقه وصراحته وواقعيته وفكاهيته وشعبيته، وحُسن تصويره ودفء تعبيره، وماذا يريد الواحد منا في مثل هذا الموقف أكثر من هذا؟! ولا ينبغي أن نغفل الألفاظ العامية المصرية الموحية التي يستعملها البوصيري، ومازلنا نستعملها نحن أيضًا حتى الآن كقوله: "يا عره" أي: يا من تجلبين الشماتة والاحتقار لنفسك وأهلك، و"الفتره" وهي ألطاف العيد الصغير من تمر وزبيب وكعك، و"سخره" أي بلا مقابل و"بكره" أي غدًا و"صبرها مني على العشره" أي رضاها بواقع الحال البائس إخلاصًا لزوجها وحرصًا منها على بيتها أن يهدم. ولنقرأ أيضًا تلك الحكاية المأخوذة في ألف ليلة وليلة، والتي تُقَدّم لنا بعض المشاهد الواقعية من المجتمع البغدادي في العصور القديمة، مصورة بلغة تخلو تمام من أي تأنق أو تكلف؛ لغة بسيطة تقترب من اللهجة العامية، وإن اتبعت إلى حد معقول قواعد النحو والصرف، ولكن في أيسر صورها وأقلها مئونة، وهي حكاية أحمد الدنف وحسن شومان، مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة: "يحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في زمن هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف، وآخر يسمى حسن شومان، وكانا صاحبي مكر وحيل، ولهما أفعال عجيبة؛ فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة؛ وجعله مقدم الميمنة، وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة، وجعل لكل منهما شامكية في كل شهر ألف دينار، وكان لكل منهما أربعون رجلًا من تحت يده، وكان مكتوبًا على أحمد الدنف در كل بر فنزل أحمد الدنف ومعه حسن شومان، والذين من تحت أيديهما راكبين والأمير خالد الوالي بصحبتهم،

والمنادي ينادي حسبما رسم الخليفة أنه لا مقدم من بغداد في الميمنة إلا المقدم أحمد الدنف، ولا مقدم من بغداد في الميسرة إلا حسن شومان، وأنهما مسموعا الكلمة واجبا الحرمة. وكان في البلدة عجوزًا تُسمى الدليلة المُحتالة، ولها بنت تسمى زينب النصابة؛ فسمعتا المناداة بذلك، فقالت زينب لأمها دليلة: انظري يا أمي، هذا أحمد الدنف جاء من مصر مطرودًا، ولعب مناصب في بغداد، إلى أن تقرب عند الخليفة، وبقي مقدم الميمنة، وهذا الولد الأقرع حسن شومان مقدم الميسرة، وله سماط في الغداء وسماط في العشاء، ولهما جوامق لكل واحد منهما ألف دينار في كل شهر، ونحن معطلون في هذا البيت لا مقام لنا ولا حرمة، وليس لنا من يسأل عنا. وكان زوج دليلة مقدم بغداد سابقًا، وكان له عند الخليفة في كل شهر ألف دينار؛ فمات عن بنتين بنت متزوجة ومعها ولد يسمى أحمد اللقيط، وبنت عازبة تسمى زينب النصابة، وكانت الدليلة صاحبة حيل وخداع ومناصف، وكانت تتحايل على الثعبان حتى تطلعه من وكره، وكان إبليس يتعلم منها المكر، وكان زوجها براجًا عند الخليفة، وكان له جامكية في كل شهر ألف دينار، وكان يربي حمام البطاقة الذي يسافر بالكتب والرسائل، وكان عند الخليفة كل طير وقت حاجته أعز من واحد من أولاده، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". وفي الليلة التالية قالت: "بلغني أيها الملك السعيد، أنّ زينب النصابة لما قالت لأمها: قومي اعملي لنا حيلًا ومناصف، لعل بذلك يشيع لنا صيت في بغداد، فتكون لنا جامكية أبينا؛ فقالت لها: وحياتك يا ابنتي، لألعبن في بغداد مناصف

أقوى من مناصف أحمد الدنف وحسن شومان، فقامت وضربت لثامًا، ولبست لباس الفقراء من الصوفية، ولبست لباسًا نازلًا لكعبها وجبة صوف، وتحزمت بمنطقة عريضة، وأخذت إبريقًا وملأته ماء لرقبته، وحطت في فمه ثلاثة دنانير، وغطت فم الإبريق بليفة وتقلدت بقدر حملة حطب، وأخذت راية في يدها وفيها شرايط حمر وصفر. وطلعت تقول: الله الله، واللسان ناطق بالتسبيح والقلب راكد في ميدان قبيح، وصارت تتلمج لمنصف تلعبه في البلد، فسارت من زقاق إلى زقاق؛ حتى وصلت إلى زقاق مكنوس مرشوش، وبالرخام مفروش، فرأت بابا مقوصلًا بعتبته من مرمر، ورجلًا مغربيًّا واقفًا بالباب، وكانت تلك الدار لرئيس الشاوشية عند الخليفة، وكان صاحب الدار ذا زرع وبلاد شامكية واسعة، وكان يُسمى حسن شر طريق، وما سموه بذلك إلا لكون ضربته تسبق كلمته، وكان متزوجًا بصبية مليحة، وكان يحبها وكانت ليلة دخلته بها حلفته ألا يتزوج عليها، ولا يبيت في غير بيته إلى أن طلع زوجها يوما من الأيام إلى الديوان، فرأى كل أمير معه ولد وولدان. وكان قد دخل الحمام ورأى وجهه في المرآة، فرأى بياض شعره ذقنه غطى سوادها، فقال في نفسه: هل الذي أخذ أباك لا يرزقك ولدًا، ثم دخل على زوجته وهو مغتاظ، فقالت له: مساء الخير، فقال لها: روحي من قدامي، من يوم ما رأيتك ما رأيت خيرًا، فقالت له: لأي شيء! فقال لها: ليلة دخلت عليكي حلفتيني أني ما أتزوج عليكي، ففي هذا اليوم رأيت الأمراء كل واحد معه ولد وبعضهم معه ولدان؛ فتذكرت الموت وأنا ما رزقت ولد ولا بنت، ومن لا ذكر له لا يذكر وهذا سبب غيظي فأنك عاقر لا تحبلين مني.

فقالت له: اسم الله عليك، أنا خلقت الأكوان من دق الصوف والعقاقير، وأنا مالي ذنب، والعاقة منك لأنك بغل أفطس، فقال لها: لما أرجع من السفر أتزوج عليكي، فقالت له: نصيبي على الله تعالى، وطلع من عندها فبينما زوجته تطل من طاقتها، وهي كأنها عروسة تكنس من المصاغ الذي عليها، وإذا بدليلة واقفة فرأتها فنظرت عليها صيغة وثيابًا ثمينة؛ فقالت في نفسها: يا دليلة، لا أصنع من أن تأخذي هذه الصبية من بيت زوجها وتعريها من المصاغ والثياب وتأخذي جميع ذلك؛ فوقفت وذكرت تحت شباك القصر الله الله فرأت الصبية هذه العجوز وهي لابسة من الثياب البيض ما يشبه قبة من نور، متهيئة بهيئة الصوفية وهي تقول: احضروا يا أولياء الله. فأطلت النساء من النوافذ وقالت: شيء لله، من المدد هذه شيخة طالع من وجهها النور، فبكت خاتون زوجة الأمير حسن، وقالت لجاريتها: انزلي قبلي يد الشيخ أبو علي البواب، خليه يدخل الشيخة لنتبرك بها، فنزلت وقبلت يده وقالت: سيدتي تقول لك: خلي هذه الشيخة تدخل إلى سيدتي لنتبرك بها، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". وفي الليلة التالية، قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنّ الجارية لما نزلت للبواب، وقالت له: سيدتي تقول لك: خل هذه الشيخة تدخل لنتبرك بها، لعل بركتها تعم علينا، فتقدم البواب وقبل يدها، فمنعته وقالت له: ابعد عني لئلا تنقض وضوئي، أنت الآخر مكذوب ومخلوط من أولياء الله، الله يعتقك من هذه الخدمة يا أبا علي. وكان للبواب أجرة ثلاثة أشهر على الأمير، وكان معسرًا، ولم يعرف أن يخلصها من ذلك الأمير؛ فقال لها: يا أمي، اسقيني من إبريقك لأتبرك بك؛ فأخذت

الإبريق من على كتفها، وضربت به في الهواء، وهَزّت يدها حتى طارت الليفة من فم الإبريق، فنزلت الثلاثة دنانير على الأرض، فنظرها البواب والتقتها وقال في نفسه: شيء لله هذه الشيخة من أصحاب التصرف، فإنها كاشفت علي وعرفت أني محتاج للمصروف. فتصرفت لي في حصول الثلاثة دنانير التي وقعا الأرض من إبريقك، فقالت له العجوز: أبعدها عني فإني من ناس لا يشتغلون بالدنيا أبدًا خذها ووسع بها على نفسك عوضا عن الذي لك عند الأمير فقال: شيء لله من المدد، وهذا من باب الكشف وإذا بالجارية قبلت يدها، وأطلعتها لسيدتها، فلما دخلت رأت سيدة الجارية كأنها كنز انفكت عنه الطلاسم، فرحبت بها وقبلت يدها، فقالت لها: يا ابنتي، أنا ما جئتك إلا بمشورة فقدمت لها الأكل فقالت لها: يا ابنتي أنا ما آكل إلا من مأكل الجنة، وأديم صيامي فلا أفطر إلا خمسة أيام في السنة، ولكن يا ابنتي أنا أنظرك مكدرة ومرادي أن تقولي لي على سبب تكديرك. فقالت: يا أمي، في ليلة ما دخلت حلفت زوجي أنه لا يتزوج غيري، فرأى الأولاد فتشوق إليهم، فقال لي: أنت عاقر، فقلت له: أنت بغل لا تحبل، فخرج غضبان، وقال لي: لما أرجع من السفر أتزوج عليكي، وأنا خائفة يا أمي أن يطلقني ويتزوج غيري؛ فإن له بلادًا وزروعًا وجامكية واسعة؛ فإذا جاء أولاد من غيري يملكون المال والبلاد مني، فقالت لها: يا ابنتي، هل أنتي عمياء عن شيخ أبي الحملات، فكل من كان مديونًا وزاره قضى الله دينه، وإن زارته عاقر فإنها تحبل. فقالت: يا أمي، أنا من يوم دخلت ما خرجت لا معزية ولا مهنئة، فقالت لها العجوز: يا ابنتي، أنا آخذك معي وأريك أبا الحملات، وأرمي حملتك عليه،

وانذري له نذرًا عسى أن يجيء زوجك من السفر، وينام معكي فتحبلي منه بنت أو ولد، وكل شيء ولدتيه إن كان أنثى أو ذكر، يبقى درويش الشيخ أبي الحملات، فقامت الصبية ولبست مصاغها جميعه، ولبست أفخر ما عندها من الثياب، وقالت للجارية: ألقي نظرك على البيت، فقالت: سمعًا وطاعة يا سيدتي، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". إلى آخر الحكاية وهي طويلة ويكفي ما أخذناه منها وهو يطلعنا على العناصر الواقعية التي يمكن أن نجدها في كثير من حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 18 الرمزية والسريالية.

الدرس: 18 الرمزية والسريالية.

الرمزية وأثرها في الأدب العربي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الرمزية والسريالية) الرمزية وأثرها في الأدب العربي الرمزية والسريالية: والرمز حسب ما نقرأ في مادة "الرمزية" من الموسوعة العربية العالمية، هو: علامة تشير إلى شيء ما، وبعض هذه الرموز تكون مرئية مثل: "الرايات، والإشارات المرورية" والبعض الآخر تكون مسموعة كنغمات الموسيقى، أو الكلمات المنطوقة، أو الأصوات. وتعد الرموز من أقدم وأفضل ما اخترعه الإنسان، ويستعمل الرمز عادة وسيلة للإشارة أو التعبير عن شيء، فعلى سبيل المثال: تعد الألف باء والإيماءات والأصوات الصادرة من الإنسان، رموزًا تُعَبّر عن فكرة أو إحساس معين، ولدى كافة الدول والأحزاب والديانات رموزها الخاصة بها، فمثلًا: النخلة والسيف يرمزان للسعودية، وصقر والجديان يرمز للسودان، والنسر لمصر، والكنغر يرمز إلى أستراليا، والدب إلى روسيا، والعم سام إلى الولايات المتحدة الأميركية، والهلال في العرف الحديث يرمز إلى الإسلام، والصليب يرمز إلى النصرانية كما أن نجمة داود ترمز إلى اليهودية. وكما نعرف: فالرموز تستخدم عمومًا للتعبير عن بعض المسائل التي قد يصعب لسبب أو لآخر التعبير عنها حرفيًّا في صراحة ووضوح، والإنسان يستخدم الكلمة المنطوقة أو المكتوبة للتعبير عن معنى ما يريد توصيله ونقله للآخرين، كما أنّ لُغَته مَليئةٌ بالرموز التي قد تتضمن مع ذلك معاني ودلالات إضافية، إلى جانب معناها الواضح الصريح المقبول. فالرّمزُ يُوحي إذًا بشيء غامض، أو غير معروف، أو مستترًا بالنسبة لنا، والكلمة أو الصورة تكون رمزًا حين تُوحي بشيء أكثر من معناها الواضح المباشر، وبذلك

قد يكون لها جانبٌ أو مَظْهَرٌ لا شُعوريٌ يصعب تحديده أو تفسيره بدقة وجلاء، كذلك يشمل الرمز كل أنواع المجاز المرسل، والتشبيه، والاستعارة، بما فيها من علاقات معقدة بين الأشياء بعضها وبعض. هذا عن الرمز، أما الرمزية: فحركة أدبية بدأت بمجموعة من الشعراء الفرنسيين، في الفترة من ألف وثمانمائة وخمسة وثمانين إلى ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين، حيث قاد هذه الحركة الأديب الفرنسي "ستيفان مالرميه" لكن شعر "بول ذي لين" كان أكثر اجتزابًا للشعراء في فرنسا، وتتضمن قائمة المناظرين للرمزية كلًّا من "رينيه جيل" و"جستاف كان" و"جين موريس" و"تشارلز موريس". وتبعهم في تبني أسلوب الرمزية بعد ذلك الكثير من الشعراء الأوربيين، في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. واهتمت الرمزية بالجانب الروحي، والأحاسيس المعنوية الأخرى، وصور الشاعر الفرنسي "شارل جدلير" البشرية من خلال متتالياته الشعرية المسماة: "المراسلات"، بأنها تسير في غابة من الرموز التي تتحدث إليها بكلمات لا تستطيع أن تفهمها بصورة كاملة، ويُعبر الشاعر الرمزي دائمًا عن تحيز الشاعر الذي يمكن تَفسيرُه بطرقٍ شَتّى. وشُعراء الرمزية يعنون بالإيقاع الموسيقي للألفاظ، وهم يعبرون عن أنفسهم بصورة مجازية، ورمى بعض من النقاد لهذه الحركة بالانحلال والانحطاط؛ نظرًا لتسلط فكرة الموت والتشاؤم بصورة عامة عليها. ومن شعراء الرمزية أيضًا: الشاعر الفرنسي "بول فيرلين" الذي بدأ عمله الأدبي بكتابة عدد من القصائد الانطباعية؛ تتألف كل منها من أربعة عشر بيتًا، عَبّر "فيرلين" فيها عن روح مذهب الحركة الرمزية، مؤكدًا أن الشعر يجب أن يكون موسيقى في المكان الأول، وأن يجمع بين القوة والدقة.

والحق أن الأدب الرمزي إنما هو محاولة من الأديب للإفصاح عن العواطف المكبوتة في أعماق النفس البشرية، والإتيان بصور من العقل الباطن إلى قارئه؛ مستعينًا في ذلك بجرس الألفاظ، وإيقاع الوزن وتراسل الحواس. وقد قام هذا الشاعر في سبعينات القرن التاسع عشر الميلادي بجولة في مناطق متعددة من بريطانيا، وهولندا، وبلجيكا بصحبة الشاعر الشاب "آرثر رامبو" واصفًا المناظر الطبيعية هناك في إطار من التخيلات الواسعة الشبيهة بالأحلام، تحت عنوان "أغانٍ بدون كلمات" وصدر عام ألف وثمانمائة وأربعة وسبعين، وعكست قصائده الشجية العفوية وما فيها من صور غريب كالسماوات الرّمادية، والقمر الشّاحِب والكمان الحزين نوعًا من اللمسات الحزينة المتشائمة. وحسبما جاء في الندوة العالمية للشباب الإسلامي؛ فالرمز في الأدب إنما يروم التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُراد التعبيرُ عنها مباشرة. ورغم أن استعمال الرمز حسبما مَرّ بيانُه قديم جدًّا، كما هو عند الفراعنة واليونانيون القدماء؛ فإن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين، حيث أصدر عشرون كاتبًا فرنسيًّا بيانًا نشر في إحدى الصحف، يعلن ميلاد المذهب الرمزي. وعرف هؤلاء الكتاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين. وقد جاء في البيان: أن هدفهم تقديم نوع من التجربة الأدبية، تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية؛ سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه؛ لأنّ التجربة الأدبية، تجربة وجدانية في المقام الأول.

ومِن أبرَزِ الشَّخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط الرمزية: الشاعر "بودلير" وتلميذه "رامبو" وكذلك "مالرميه" و"بول فاليري" وفي ألمانيا "ريلكه" و"ستيفان جورج" وفي أمريكا "أيمي لويل" وفي بريطانيا "أوسكار وايلد". ومن مبادئ الرمزية الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال؛ بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية، والبحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي، ويعوض عن غياب العقيدة الدينية؛ وقد وجد الرمزيين ضَالتهم في عالم اللاشعور والأشباح والأرواح، واتخاذ أساليب تعبيرية جديدة، واستخدام ألفاظ موحية تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ: "الغروب" الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي، والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالانقباض. وكذلك تعمد الرّمزية إلى تقريب الصّفات المُتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: "الكون المخمر" "الضوء الباكي" "الشمس المرة المذاق". وتحرير الشعر من الأوزان التقليدية؛ فقد دعا الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية، أو الشعر الحر. وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور، إذ كانوا يعتقدون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره. ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوربي وضياعه، بسبب طغيان النزعة المادية، وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها؛ من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال. ولا شك أنّ الرّمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي، والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرّمز في التعبير عنها؛ فضلًا عن الضيق بالمذهب الواقعي،

الذي اتجه نحو الواقع المادي، وكذلك التقدم الذي أحرزه علم النفس على يد "فرويد" وأتباعه الذين اتجهوا إلى قرار النفس الإنسانية. "الفرنسية" كما ترى مذهب أدبي يعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأيًا عن عالم الواقع إلى عالم الخيال، وبحثًا عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن غياب العقيدة الدينية، باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية. كذلك تتسم الرمزية -على الأقل في بعض الحالات- بالمبالغة في الأسلوب ولغة الأداء، فتدون عناصرها بألفاظ وصور بعيدة عن المألوف، حتى تكاد تلحق بالطلاسم، ونَلحَظُ في كثير من الأعمال الرمزية الغموض والتناقض، والبُعد في الجمع بين الأشياء، وإرْغَام لُغة الأديب أن تقرر بين الأشياء وإن بعدت، يقول الشاعر "ستيفن مالرميه" مثلًا عن الربيع: لقد طرد الربيع الشاحب في حجر الشتاء الظامي وفي جسم الذي يسيطر عليه الدم القاتم يتمطى الفجر في تثاؤب طويل أن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم ويعود الغموض في الأدب الرمزي إلى كون الرمزيين يحاولون استجلاء ما وراء عالم الحس الخفي، وما في داخل النفس الإنسانية، إلى جانب إيثارهم للإيحاء

الذي لا يؤدي دلالة واضحة، بل ينقل حالة نفسية إلى القارئ من خلال التراكيب اللغوية. ولعَلّ من المُناسب هنا إيراد كلمة "جورج صدح": إنّ الرّمز غير اللغز؛ فاللغز لا يفهم، ولا يُوحي أما الرمز فأنت تفهم إيماءته أضعاف ما تفهم من كلمته، والإغراق في الإبهام يسد منافذ الجو، ويخلق أمام القارئ فراغًا لا يستحث الفكر، ولا يوقظ الشعور، كذلك فإن الغموض المقبول هو ما أشار إليه النقاط العرب القدامى، كما في قول ابن سنان الخفاجي: "أفخر الشعر ما غمض عنك، فلم يعطك إلا بعض ما طلب منه". أما الاستغلاق فهو مزعج، ومن شأنه أن يصرف القارئ عن القراءة، إذ يجدُ الأبواب بينه وبين الكاتب مغلقة غير قابلة للفتح، مهما أدام الطرق والدفع. وهُناك أيضًا تركيز الرمزيين على العنصر الموسيقي في شعرهم، إذ عدوه جزءًا من تكوين النص الرمزي، واعتمدوا إلى حد بعيد على تراسل الحواس في التعبير الأدبي، وآمنوا إيمانًا راسخًا مبدأ الفن للفن، داعين إلى أن يكون الأدب غاية في ذاته، لا يوظف من أجل تحسين الواقع. أما المقصود بتراسل الحواس فهو: أن يوصل الشاعر دلالات مبتكرة من خلال تبادل معطيات الحواس وتراسلها، كأن يستخدم حاسة اللمس لما يقتضيه السمع، وهو ما يعني أن يشم الشاعر من خلال حاسة السمع، أو يتذوق بحاسة البصر، أو يرى بحاسة اللمس، وكل حاسة من الحواس الخمس تؤدي وظيفة حاسة أخرى بدلًا عنها. ويتحَقّقُ التأثير ذاته الذي يمكن للمخ البشري أن يتلقاه من أية حاسة، وبطبيعة الحال؛ فإن ذلك لا يتحقق في عالم الحقيقة بل في عالم الخيال، والتصور الفني؛

أي: أنّ الشّاعر يُحطم المنطق العلمي المحسوس، ويفرض منطق الحلم والوهم، بهدف نقل مشاعره وأحاسيسه إلى المتلقي، ومن الواضح أن تصرف الشاعر الرمزي في اللغة إلى هذا الحد، ليس عملًا مقبولًا عند سائر الناس، بل هو جميل فحسب عند أتباع المدرسة الرمزية وتعبيراتها الغريبة والمعجبين بآدابها. وقد اتصل الأدباء المحدثون بالأدب الرمزي كالعادة، عن طريق الترجمة أو الاطلاع على أدب اللغات الأوربية، مما أدى إلى تأثرهم بذلك الأدب بدرجات متفاوتة؛ إلا أن الرمزية لم تشكل مذهبًا واضحَ المعالم في الأدب العربي. ومن أهم الأدباء الذين نجد لديهم سمات رمزية: جُبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ومي زيادة، ومصطفى صادق الرافعي. ويقول بعض الدارسين: إن "أديب مظهر" المتوفى عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين في السادسة والعشرين من عمره هو أول شاعر عربي أدخل جذوة الرمزية إلى الشعر العربي في قصيدته "نشيد السكون"، وكان مقدرًا له أن يبرز لولا أن الموت عاجله وهو صغير السن. كما برز الشاعر اللبناني "سعيد عقل" الذي كان من أوائل أدباء العرب نقلًا للرمزية الغربية، وكان يرى أن الشعر يجب ألا يُخبر، بل يوحي ويلمح، وأصر على إدراك اللامنطقي والحدسي للعالم، كما اعتبر أن الشعر موسيقى قبل أن يكون فنًّا فكريًّا. وممن تأثروا بالرمزية أيضًا: "يوسف غصوب" و"جورج صيدح" و"إيليا أبو ماضي" وبعد سنة ألف وتسعمائة وخمسين شاعت في الشعر العربي حركة جديدة تتسم ببعض الخصائص الرمزية، من أبرز أعلامها: "بدر شاكر السياب" و"عبد الوهاب البياتي" و"سعد يوسف" و"نازك الملائكة" و"خليل الحاوي" و"يوسف الخال" و"أدونيس" و"صلاح عبد الصبور".

ولمزيد من التوضيح نقول: إنّ المدرسة الرمزية حركة أدبية اعتمدت الرمز لغة، والموسيقى إيقاعًا، والجمال غاية ومحورًا. والرمزية هنا معناها الإيحاء، أي: التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى اللُّغة على أدائها في دلالاتها الوضعية، بحيثُ تتولد المشاعر عن طريق الآثار النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح. وقد ظَهرت الرمزية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فإن نشأة الرمزية في الأدب الغربي الحديث يعود إلى سنة ألف وثمان مائة وست وثمانين، عندما أصدر "مورياس" رسالة أدبية تتضمن تعريفًا مفصلًا بهذه المدرسة، وكانت هذه الرسالة بمثابة أول منشور للرمزية، وصدر هذا البيان في الملحق الإداري للفيجارو الفرنسية، حيث قدم تعريفًا بالمذهب الجديد. وحدد ممثليه ورواده، وهم: "شارلْ بُودلير" وهو شاعر وكاتب فرنسي ولد وعاش بباريس، ومن مؤلفاته "زهور الشر" "لي فلير دي مل" وله مجموعة شعرية تعبيرية. وترجم قصصًا لـ"إدجر المبو" ويعد "بودلير" الرائد الأول للرمزية في فرنسا و"ماليرميه" المنظر الحقيقي الذي وهب الشعر معنى الغموض والأسرار الخارقة التي لا توصف. أما الثالث فهو: "فيرلين" لأنه كسر قواعد الشعر المألوفة، وحوله إلى نوع جديد هو الشعر الحر. وبعد ذلك بعدة أسابيع ظهرت مجلة الرمزية "لوسبليست" في أربعة أعداد، وأوضحت كثيرًا من قواعد الرمزية، ورسخت اتجاهاتها. ومن أبرز رواد الرمزية خارج فرنسا: "وليم بليك" و"وليام بتلر يتس" من أيرلندا و"ريلكه وإلكساندر بلوك" من روسيا، و"توماس سترس إليوت" من أمريكا، وإن كان يحمل الجنسية الإنجليزية.

ويرى الرمزيون أن اللغة لا قيمة لها في ألفاظها، إلا ما تثيره هذه الألفاظ من الصور الدينية التي تلقاها من الخارج، وعلى هذا الأساس تصبح اللغة وسيلة للإيحاء، كما يرون أن الأدب يسعى إلى نفس الصورة الفنية، ونقل خيال الكاتب إلى القارئ، هناك اهتمام أصحاب المذهب الرمزي بالإيقاع الموسيقي في شعرهم، إذ يرون أن الموسيقى وحدها هي التي توقد للسامع أو القارئ مشاعره العاطفية التي تهز نفسه. ومن أهم خصائص المذهب الرمزي: لا مبالاة الشاعر بالواقع، والتحري عن الروح في قلبه، فقد عدت الرمزية الواقع الهادئ زائفًا في الدلالة على الحقيقة، ونظرت إليه على أنه قناع يسترها، فمثلًا إذا نظر الشاعر إلى البحر؛ فإنه لا يذكر زُرقته وموجه الهادر؛ وإنما يتخذه مادة للتأمل؛ إنه يرنو إلى ميتافيزيقية البحر، من حيثُ غاياته، وغاية الإنسان والوجود، فيتحول الإنسان بحرًا، والبحر إنسانًا كما يقول "بودلير":" أيها الإنسان الحر ستحب البحر البحر مرآة". هذا؛ ويشكل الغُموض العمود الفقري للأدب الرمزي، والمقصود بالغموض ما يُخيم على القطعة الأدبية؛ فتُصبح مقتصرة على ذوي الإحساسات الفنية المُرهفة؛ فالرمزيون يكتفون بالإشارة إلى الحالة النفسية الغامضة بوسائل رمزية، كذلك إذا كانت الكلاسيكية تنقل المعاني عن طريق العقل، والرومانسية عن طريق الانفعال والعاطفة؛ فإن الرمزيون قد اهتموا بنوع آخر من هذه المشاركة الوجدانية بين الكاتب والقارئ، يقوم على نقل حالات نفسية من الكاتب إلى القارئ وهو الإيحاء. ومن هذه الكلمات الموحية: "الضوء الخافت"، "التموج"، "الألوان الهاربة"، "الأنغام"، "الغروب"، "الرحيل". كما أنهم يقربون بين الصفات المتباعدة؛

فيقولون مثلًا: "السكون المقمر"، "الضوء الباكي"، "الشمس المرة المذاق"، "القمر الشرس". وبالمثل اهتموا بالألوان إذ جعل "رامبو" مثلًا لكل لون معنى فاللون الأحمر يرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة، والقتال والثورة، والغضب والأعاصير. واللون الأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاق، وفكرة المستحيل، والخلاص من عالم المادة. واللون الأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدود، وفيه انطلاق إلى ما وراء المادة الكونية، واللون الأصفر لون المرض والشعور بالحزن والضيق، والتبرم من الحياة، واللون الأبيض يمثل الطهر المثالي وهدوء السكينة ويرمز إلى الفراغ والجمود، أما البنفسجي فهو لون الرؤى الصوفية. ومن ناحية النغمة الموسيقية: فالرّمزية في نظر "فاليري" هي نية عدة من عائلات الشعراء في أن ينهلوا من الموسيقى، إن الموسيقى لا تقرر أفكارًا، بل تعبر تعبيرًا نغميًّا عما يشعر به الفرد، وتنتقل هذه المشاعر من المؤلف والعازف إلى المستمع، وهذا "بودلير" في ديوانه "أزهار الشر"، يكتُب مَقطوعة صغيرة عنوانها "الموسيقى" صَوّر فيها الأثر العميق الذي تحدثه الموسيقى: "تأخذني الموسيقى غالبًا مثل بحر، نحو نجمة الشاحبة، تحت سقف ضبابي، أو أثير واسع، أرفع الشراع صدري إلى الأمام ورئتاي منفوختان كالشراع". ويقول "هرني" عن الموسيقى في قصيدته الفن الشعري: عليك بالموسيقى قبل كل شيء، قم بالموسيقى أولًا وأخيرًا، وليكن شعرك مجنحًا؛ حتى لا يُحِسّ أنه منطلق من الروح عابرًا نحو سموات أخرى. وهُناك أيضًا "تراسل الحواس" كما سبق القول؛ فاللمس والشم والسمع والبصر وسائل تعبير متداخلة ومتبادلة، فبعضها ينوبُ عن بَعضها الآخر في التأثير

النفسي، كوصف أحد الرّمزيين للون السماء بقوله: "وكأن لون السماء في نعومة اللؤلؤ" وكقصيدة "بودلير" الشهيرة "مراسلات" التي يقول فيها: "ثمة عطور ندية كجسد الأطفال، عذبة كآلة موسيقية خضراء كالمروج". وهكذا شاهد الشاعر لون الاخضرار في العطر، وسمع نغم المزمار ولامسه في جسد الأطفال. وقد قيل عن الرمزية: إنها أدب الصفوة؛ فأصحابها لا يحفلون بسواد الشعب، ويتوجهون إلى الصفوة، بحيث يغدو فهم الأدب بالرمزي مقصورًا على الذين تمكنوا من بعض العلوم الإنسانية؛ كعلم النفس الجماعي الذي شرحه كل من "يونج وأدلر" وعلم التحليل النفسي الذي اكتشفه وعرفه العالم النمساوي "فرويد". ومن مبادئهم أيضًا: الإيمان بالصنعة دون الإلهام، وبذلك يقول "فاليري": إذا آمن الشاعر بالوحي قتل الإبداع، كذلك نراهم يلجئون إلى الأساطير، وذلك عندما يُصَرّفون موضوعات إنسانية لها علاقة مباشرة بالفلسفة أو الأخلاق، وكان للترجمة التي قام بها عدد من الأدباء، ولا سيما تلك التي قامت بنشرها مجلات عربية مشهورة مثل "المقتطف" و"المكشوف" و"الرسالة" والأديب"، أثر واضح في نقل الآداب الغربية التي أخذت بأساليب المدارس الأدبية. وقد مهد لهذه الترجمات الإطلاع المباشر على اللغات الأوربية والأمريكية إثر الهجرات التي قام بها عدد من اللبنانيين والسوريين إلى بلاد الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية. لقد لقيت الرّمزية اهتمامًا من الشُّعراء العَرب وانتشرت على نطاق واسع، ولم يكن ظهورها في أدبنا خاضعًا لنفس الظروف التي نشأت في كنفها في الأدب

الغربي، ومن مظاهر ذلك: الرمزية الجزئية لجبران خليل جبران، خاصة في قصيدته "المواكب" التي اعتمدت في بعض صورها على تراسل الحماس كما في قوله: هل تحممت بعطر ... وتنشفت بنور وشربت الفجر خمرًا ... في كؤوس من أثير وفيه انتقال الحس اللمسي للاستحمام، مكان الحس الشمي العطر والحس البصري النور مكان الحس اللمسي التنشف، والحس الذوقي الشرب مكان الحس البصري. وللرمزية في حقل الأدب ولا سيما الشعر رواد كثيرون، يأتي في مقدمتهم الشاعر الفرنسي "بودلير" وقد كان في مبدأ حياته الأدبية معجبًا بمدرسة الفن للفن، ومن أنصارها المتحمسين ورائدها "توفيل جوتييه" أستاذًا وموجهًا، ومن روادها الشاعر "فولفيرلين" و"رامبو"، و"مالرميه"، وتدعو هذه المدرسة الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر؛ فلا بد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة حتى تستطيع أن تستشف منها معاني الجمال. واللغة الشِّعريةُ نَفْسُها ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذًا اللغة في نظر الرمزيين قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء. وبالتّالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولا بد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة؛ ليستوحي ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة وفي حالات التنويم المغناطيسي.

وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزًا لا تعبيرًا، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة، وفي منطقة اللاشعور لا تهتم بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما تتمثل وتتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة التي يصعب التعبير عنها. ولا بد لتكامل عملية الإيحاء للصور من اللجوء إلى ما يسمى بـ"تراسل الحواس" أي: أن تستعير حاسة وظيفة أو صفة حاسة أخرى؛ فتعطي المسموعات ألوانًا والمشمومات أنغامًا، وتصبح المرئيات عاطرة يشم الأنف من الورد الأصفر نغمًا حزينًا، ومن هذا القبيل قول الشاعر علي الجارم: أسوان تعرفه إذا اختلط الدجى ... بالنبرة السوداء في أناته فقد وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون، ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام، أقدر على الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر، ويريد أن ينقله إلينا، ولا شك أن تقارب الحواس لصفاتها فيما بينها، يُساعد كثيرًا على نقل الأثر النفسي. وممن دعا إلى الاستعانة بتراسل الحواس بكمال التعبير والصور الشاعر الفرنسي "بودلير" في قصيدته التي عنوانها "تراسل" كما قلت من قبل وفيها يقول: "الطبيعة ذات دعائم حية، وأحيانًا تنطق هذه الدعائم ولكنها لا تفصح، ويجوس المرء منها في غابات من رموز؛ تلحظه بنظراته أليفة، وتتجاوب الروائح والألوان والأصوات كأنها أصداء طويلة مختلطة، آتية من بعيد؛ لتألف وحدة عميقة المعنى، مظلمة الأرجاء، رحيبة كالليل أو كالضوء". فتبادل الحواس لصفاتها يجعل من العالم الواقعي مثاليًّا صوريًّا تتمازج فيه الخيالات مع الحقائق، والرمزيون بالإضافة إلى هذا يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة، ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم

يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير، القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لا بد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية؛ لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير، كي توحي الصورة معاني وخواطر جديدة. إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويسيء لما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة، والأجواء النفسية، فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها. على أنه لا بد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانسياب الخواطر، لا أن يكون من نوع الأحاجي والألغاز. ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر "بول ذرلين" بقوله: "أحب شيء إلي هو الأغنية السكرى، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود". ويقول أيضًا تتمة لهذا المعنى: "الأهمية الأولى للضلال لا للألوان كما تتراءى العيون الساحرة من خلف النقاب". فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة. يضاف إلى ذلك أن الرمزيين يعنون بصياغة الصور الشعرية المهموسة المشوبة بالغموض، ويتأنقون باختيار الألفاظ الموحية المشعة المصورة، بحيثُ تُوحي اللفظة بأجواء نفسية وانفعالات عاطفية رحيبة؛ فمثلًا لفظة الرّبيع تُوحي لك بمنظر المياه الدافقة، والخُضرة اليانعة، والأشجار المورقة الباسقة، وتُسمعك خرير الماء، وزقزقة العصافير، وتغريد البلابل، وصدح العنادل، وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير، ولهذا لا يسمى الشعر عند

الرمزيين شعرًا إلا إذا كان غامضًا مبهمًا موحيًا شافًّا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة. ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وفيما يلي قصيدة للشاعر الفرنسي الرمزي "ستيفان مالرميه" وفيها يقول: لقد طرد الربيع الشاحب في حزن الشتاء - فصل الفن الهادئ الشتاء الضاحي وفي جسم الذي يسيطر عليه الدم القاتم يتمطى العجز في تثاؤب طويل إن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم وأهيم حزينًا خلف حلم غامض جميل خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له ثم أخر من هو كالعصب بعطر الأشجار وأحفر برأسي قبرًا لحلمي وأع ض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس يُعبر لنا في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب الملل الذي أنهكه، والسأم الذي يقضم جوانحه، ويقتنص من مظاهر الطبيعية صورًا رمزية تُوحي لنا

بحالته النفسية، والشعر فيه شيء من غموض؛ ولكنه غموض يُوحي لقارئه بإدراك المعنى، والجو النفسي الذي يعيشه الشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون، ويجعلون من ذلك الغموض شيئًا أشبه بالألغاز حتى هم أنفسهم لا يدركون معناها، وإنما يقصدونها سترًا لعجزهم، وإيهامًا للناس بشاعريتهم. وبعد هذا كله؛ ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، والشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها، نظرًا لما فيها من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن الرمزية لم تقتصر على الشاعر الغنائي الذاتي فحسب، وإنما تعدته إلى الأدب الموضوعي، الذي يهتم بالمشاكل الإنسانية والأخلاق الاجتماعية العامة، تعالجها بواسطة الأخيلة والصور. ولكن يجب ألا يعزب عن البال: أنّ الرمزية لا تأخذ نفسها في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحديدها، ونقدها كما في الكلاسيكية مثلًا، بل تأخذ في تجسيم الأفكار النظرية المجردة، وإلباسها شيئًا من الحوادث والأفعال؛ لتُصبح ديناميكية متحركة، ونلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخلقية. وكثيرًا ما يلجأ الرّمزيون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم ينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال، عند عرض أو مناقشة قضية إنسانية عامة، كما يلاحظ ذلك في القصص والمسرحيات التي ابتكرها الرمزيون من أخيلتهم؛ كمسرحية "الأشباح" لـ"إبسون" ومسرحية "صفقة الشيطان" لـ"جيروم". وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة إنسانية لم يبت فيها أحد، وهي مشكلة توارث الخطيئة؛ على نحو يكاد يكون عضويًّا لا دخل للوعي ولا

للإرادة فيه، إذ ترى في هذه المأساة أبًا يفسق بخادمته، ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة، فيهم هو الآخر بأن يفسق بخادمته، على الرغم أنه لم يعش في جو أسرته، ولم يعش في جو الخطيئة، بل أرسلته أمه بعيدًا عن المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف؛ ولكنه هم بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكًا. وتُصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخ شرير مع شاب خير؛ فيتبادل كل منهما روح صاحبه، ولكن كل من الروحين لا يستقر في جسم الآخر، فكأنه هناك تلازم بين الجسم والروح. وقد أخذت الرمزية تغزو الأدب العربي المعاصر، ولكن قبل أن يلم بهذه القضية يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل عرف الأدب العربي القديم الرمزية؟ وجوابًا على هذا السؤال أستطيع أن أقول دون تحفظ: إن الأدب العربي القديم لم يعرف الرمزية كما هي عند "بودلير" و"إدجر ألمبو" و"مارميه" ولكنه عرف الرمزية في أسلوب الكناية، وهناك علاقة وثيقة بين الرمزية الحديثة والكناية التي نعرفها في علم البيان، وسوف نورد بعض من أمثلة الكناية للنظر إلى أي حد يمكن أن تكون صورًا رمزية أو قريبة منها في الإيحاء. فعندما أقول: "فتى رياضي" فإنني هنا أكني عنه بأنه ذو قوة وعضلات مشدودة، ولو وضعت لفظة أرمز بدل أكني؛ لاستقام المعنى واستقامت الدلالة. وحينما يقول العربي: "قلبت له ظهر المجن" والمجن هو الترس الذي يستتر به المحارب من واقع السهام والرماح؛ فإنّ هذا التعبير رمز أو كناية عن تغير المودة. وحينما يقول الغربي: "ذاب بينهم الجليد" فإن ذلك التعبير رمز أو كناية عن رجوع أواصر المحبة أو علاقات التعاون بعد أن كانت مقطوعة.

بل إن في الكناية قسم يسمونه "الرمز" وكثيرًا ما يمثل له البيانيون بقول العرب: "فلان عريض الوساد" يرمزون إلى بلاهته وبلادته، إذ يترتب على عرض الوساد عرض القفا، ويعتقد العرب أن عريض القفا يكون عادة بليدًا، كما أن واسع الجبين عريضه، يكون عادة نبيهًا ألمعيًّا ذكيًّا. وحينما يقول "ملر ميه": إن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي، فإنه يكني عن المخ ويرمز إليه، والكناية هنا عن موصوف؛ فالكناية رمز يأتي في صور قصيرة موجزة، مثل هذه الأمثلة، ولم تتخذ الكناية شكلًا أدبيًّا أو موضوعيًّا، كما في الرمزية الحديثة، ولكنها تدل على أن الذهن العربي ولود مفكر سبق الغرب في أشياء كثيرة. أما الرّمزية الحديثة؛ فدخلت الأدب العربي الحديث عن طريق لبنان، وأصبح لها رواد كثيرون من شعراء لبنان، منهم على سبيل المثال: بشر فارس، وألبير أديب، وأديب مظهر، وخليل شيبوب، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه. ولنزار قباني بعض قصائد رمزية، ولكنّ فيها شيئًا من الوضوح، ويلاحظ الدارس لشعر هؤلاء أنهم تأثروا لحد كبيرًا في شعرهم لمعطيات الرمزية وتعاليمها واتجاهاتها، ووقفوا على آثارها في لغاتها الحية، واستطاعوا بكل سهولة أن يضمنوها شعرهم. ونورد فيما يلي بعض أمثلة من الشعر الرمزي العربي، من ذلك قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان "حياتنا" يقول فيها: حياتنا شباب وفكر أخضر وعواطف من عمل الربيع

وقلوب من ندى الفجر نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة أو نروي رمال الصحراء ثم هي ليله وضحاها فإذا الزوبعة تذهب بنا فنأخذ معنا كل أحلامنا وأمانينا ونحن على قدم من الهاوية أو أقل ما زلنا نؤسس ونبني ونقيم فما أسخفنا لا نجعل أيامنا ابتسامة ونقيم علينا رب يعرف كيف يجعلنا كيف نبتسم حتى لأنفسنا شعر فيه شفافية، وفيه شيء من غموض ومن إيحاء، ولكنه غير عميق فيه شيء مما يسمى بتراسل الحواس عند الرمزيين؛ وصف الفجر بالاخضرار، وعواطف من عمل الربيع، وقلوب من ندى الفجر. ومن ذلك قصيدة ابن الشاعر "أديب مظهر" بعنوان "نشيد السكون" وفيما يبدو أن أكثر الشعراء الشباب ينصرفون الآن إلى معالجة الشعر الرمزي، ولكن أكثر إنتاجهم من هذا الشعر يبدو مجردًا عاريًا من معطيات الرمزية وتعاليمها، بل إن بعضَ القصائد لا يأخذ من الرمزية إلا

السريالية وأثرها في الأدب العربي.

غموضها، ولكن في أغلب الأحايين غموض يطمس المعنى، ولا تكاد تدركه إلا إذا كان فكرك أشعة "رودلير". ولا ريب في أن معالجة الشعر الرمزي الجيد تحتاج إلى مهارة فائقة، وموهبة مسعفة، وقريحة وقادة، وقبل كل شيء دراسة واعية متعمقة، وإذا لم يطبق شيء من ذلك؛ فسنعيش مع شعرنا الجديد في عالم مفعم بالألغاز والأحاجي، والصور الشعرية الضحلة. السريالية وأثرها في الأدب العربي أما السريالية: فكما جاء في المعدة المخصصة لها في الموسوعة العربية العالمية، هي: مذهب في الفن والأدب أسسه في باريس عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين الشاعر الفرنسي "أندريه بيتوه" وتحاول السريالية أن تكشف عن واقع جديد يتجاوز الواقع الفعلي، وهذا واضح من مدلول المصطلح ذاته؛ إذ هو كلمة تعني ما فوق الواقعية. ويدعي السرياليون أنهم يصنعون أشكالًا وصورًا بدون وعي وبدون تفكير، لكن بإحساس فطري خالص، وعن طريق المصادفة وباستخدام هذا المنهج نراهم يزعمون أن بإمكانهم صنع عالم في مجال الفن والأدب، أكثر جمالًا من العالم الحقيقي، وبهذه الطريقة يحاول السرياليون مفاجأة المشاهد أو القارئ، وعرض ما يعتقدون أنه هو العالم العميق والحقيقي للطبيعة البشرية. ومن قيادات الحركة السريالية في مجال الرسم: "أندريه ماسو" و"رينيه مارجريت" و"سلفادور دالي" و"ماكس آرمس" وتمثل أعمال "ماسو" الرسم العابث بضربات الفرشاة أما "مارجريت" و"دالي" فإنهما يرسمان باهتمام أشكالًا حقيقية لصنع صورٍ تشبه الحلم، أما "آرمس" فكان يجمع بين الأسلوبين؛ حيث تبدو في رسومه مخلوقات غريبة تظهر بين أشكال ملونة متناثرة عشوائيًّا على اللوحة.

وهناك نكتة مشهورة في هذا المجال: هي أن أحد العابثين أراد أن يسخر من الرسامين السرياليين؛ فأتى بحمار وغمس ذيله في دلو به ألوان مختلطة، ثم أدار ظهره إلى لوحة علقها على جدار ونخسه؛ فما كان منه إلا أن طوح بذيله يمينًا ويسارًا، ناثرًا الألوان في كل اتجاه كيفما اتفق، وسقط بعضها على اللوحة، ثم أخذ اللوحة وعرضها على بعض كبار النقاد التشكيليين، الذين لم يتمالكوا أنفسهم من إبداء بإعجاب بالرسام العبقري الذي أبدع تلك اللوحة السريالية الرائعة، وكانت فضيحة "بجلاجل" حين أخبرهم بحقيقة ما صنع. ويقول الدكتور محمد مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه): إنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تضافرت الفلسفة "الفرودية" مع المحنة الإنسانية العاتية التي أصابت البشر بويلات الحرب؛ فتصدعت القيم الإنسانية، وهانت الحياة على الإنسان بعد أن رأى الفساد يتربص به في كل مكان، ونشأت رغبة جارفة للتحلل من الأخلاق، وانتهاب اللذات قبل أن تفنى الحياة وتخر في العدم، وبالتالي تحركت الغرائز والرغبات المكبوتة في النفس البشرية لإشباعها إشباع حر طليقًا لا يخضع لأي قيد، ولا تردعه أية مواضعة من مواضعات المجتمع. ولم تقتصر هذه النزعة على الحياة؛ بل امتدت إلى الفن والأدب اللذين يصدران عن هذا النوع من الحياة، مما أدى إلى ظهور المبدأ المعروف بالسريالية، أي: مذهب ما فوق الواقعية، وهو المذهب الذي يريد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، والذي يزعم أن فوق هذا الواقع أو خلفه واقعًا آخر، أقوى فاعلية وأعظم اتساعًا، وواقع لا وعي، واقع مكبوت في داخل النفس البشرية. وعلى تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته، وتسجيله في الأدب والفن، أراد السرياليون توفير جهودهم، وإن كان من الحق أن نقول: إن هذا الواقع الدفين

كثيرًا ما ينتهي إلى ما يشبه هذيان الحواس، وبخاصة عندما يلجأ السرياليون إلى الطرق المصطنعة؛ كالأفيون وغيره بإطلاق المكبوت في النفس، ثم عندما يحاولون تسجيل هذا المكبوت في لوحات أو قصص أو مسرحيات غامضة مضطربة، أو هاذية محمومة، ربما لا يدركون هم أنفسهم لها معنى أو يحددون لها هدفًا وهي بالرموز والأحاجي أشبه منها بالأدب والفن، مهما أن يجعلوا من هذه الحمى مذهبًا أدبيًّا أو فنيًّا. ومهما حاولوا تسويغ بعض اتجاهاته، مثل تركهم مسرحياتهم أو قصصهم أحيانًا بدون خاتمة، بدعوى أنهم لا يقصدون غير الإثارة والإيحاء؛ تاركين للقارئ أو المشاهد مهمة تصور الخاتمة التي يريدونها، والتي ترسمها قواهم النفسية المثارة والمطلقة من كبتها. ويرى الدُّكتور مندور أن مِثل هذا المذهب لا يَسْهُل إدراجه بين عداد المذاهب الأدبية والفنية؛ لأنه في الواقع لم يضع أصولًا وقواعد أدبية أو فنية، إذ كان كل همه هو إطلاق المكبوتات النفسية ومحاولة تسجيلها في الأدب والفن، دون تقيد بأصل أو قاعدة. ثم يمضي قائلًا: إنه حتى لو استطعنا التسليم بأن السريالية من حيث المضمون، لا تخلو من بعض الصدق على أساس أن النفس الإنسانية لا يمكن أن تخلو من مكبوتات، بحكم أن الفرد يعيش في المجتمع، وأن هذا المجتمع لا بد أن يفرض قيودًا وأوضاعًا تكبت غرائز الأفراد ورغباتهم، فإننا لا نستطيع التسليم إلا بأن السريالية تستحق أن نعدها مذهبًا أدبيًّا أو فنيًّا؛ إذ هي لم توفق إلى خلق صورة أدبية أو فنية خاصة بها، أو خلق أسلوب تتميز به. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 19 تقويم علاقة التأثر بين الأدب العربي وغيره من الآداب.

الدرس: 19 تقويم علاقة التأثر بين الأدب العربي وغيره من الآداب.

طرق الاستفادة من الأدب المقارن في الأدب القومي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (تقويم علاقة التأثر بين الأدب العربي وغيره من الآداب) طرق الاستفادة من الأدب المقارن في الأدب القومي تقويم علاقة التأثر بين الأدب العربي وغيره من الآداب: وللأدب المقارن أهداف متوخاة تتلخص في أن يتم التلاقح بين الآداب القومية المختلفة بعضها وبعض، وبغير هذا التلاقح قد يأسن الإبداع الأدبي، ويظل يدور في حلقة مفرغة، وقد ينتهي به الأمر إلى أن يأكل نفسه كالرحى حين لا يكون هناك ما تطحنه؛ فلا يكون إمامها إلا أن يحتك شقاها ويتحاتّا ويَظلّا يحتكان ويتحاتان، ثم ينتهي بهم المطاف إلى أن تتفتت الرحى وتنتهي. أما الاحتكاك بالآداب الأخرى؛ فمن شأنه أن يضخ دماء جديدة في الآداب القومية، تدب فيها الحيوية من خلالها؛ فتتوثب وتضج فيها الحياة القوية العارمة. والواقع أن ميدان الأدب المقارن يشمل كل ما يتعلق بالأدب العام والقومي، ولكن من حيث علاقته بغيره من الآداب؛ والإفادة التي يمكنه أن يفيدها من هذه العلاقة، فمثلًا هناك الأجناس الأدبية، التي لم نكن نعرف منها في أدبنا القومي قبل العصر الحديث جنس المسرحية، ولا جنس الملحمة، ولكن بعد اتصالنا بالغرب أصبح عندنا مسرح شعري ونثري، ولمعت أسماء: "شوقي" و"عزيز أباظة" و"عبد الرحمن الشرقاوي" و"صلاح عبد الصبور" و"فاروق جويدة" و"توفيق الحكيم" و"علي أحمد با كثير" و"سعد الله ونوس" و"ممدوح عدوان". وحاول عددٌ من كبار شعرائنا كتابة الملحمة؛ فاقتربوا بإبداعهم منها كالعقاد في "ملحمة شيطان" وأحمد محرم في "الإلياذة الإسلامية" وفوزي المعلوف في "وادي عبقر" وهكذا ورغم أن عندنا بعض قصص تتعلق بالأمثال بعض أبطالها من الحيوان؛ فإنّ قصصَ الحيوان كجنس أدبي مستقل، يُبدع فيه الأدباء عن قصد وعناية، لم يكن معروفًا عند العرب بل أخذوه عن غيرهم، حين كتب عبد الله

بن المقفع كتابه (كليل ودمنة) ذا الأصل الهندي الذي انتقل للعربية عبر الفارسية لغة ابن المقفع القومية. وفي الاتجاه المضاد كان عندنا في الشعر العربي الوزن والقافية المنضبطان تمام الانضباط، واللذان اقتبسهما الشعر الفارسي بعد الإسلام؛ وأصبحا جزءًا لا يتجزأ من الإبداع الشعري الفارسي كما هو معروف، كذلك كان عندنا جنس المقامة، وهو جنس كان ينقص الآداب الأخرى كالأدب الفارسي الذي حاول أحد كتابه وهو القاضي حميد الدين أن يستزرعه في الأدب الفارسي، فكتب عدد من المقامات الجيدة إلا أنه رغم هذا لم يستطع أن يلهم غيره متابعة الطريق؛ فتوقف الأمر عنده مثلما بدأ به. كذلك تأثر الشعر الأوربي متمثلًا في شعراء "التروبادور" بفن الموشحات موضوعًا وشكلًا، على ما مر بيانه في الدروس الحالية، وإن يمكن أن يفيده الأدب القومي من الأدب المقارن أيضًا استلهامًا للمواقف والنماذج البشرية، التي قد تكون غائبة عنه أو تكون فيه؛ لكنها في الآداب الأخرى تمثل ألوانًا مختلفة عما يعرفه، ومن تلك النماذج أنموذج البخيل أو أنموذج البغي التي كانت في انحرافها ضحية للمجتمع وأوضاعه الظالمة. ومن هذه النماذج أيضًا أنموذج البطل الأسطوري الإغريقي "بريمثيوس" رمز العناء البشري الذي لا ينتهي، والذي كلما ظن أنه قاب قوسين أو أدنى من التخلص منه عاد فتجدد ليقاسيه صاحبه من البداية، وكأنه لم ينل كفايته وما فوق كفايته من العناء والمقاساة. وهناك كذلك نموذج "يوسف" و"زليخة" والأخيرة رمز الشهوة والإغراء من جهة، والأول رمز العفة والتماسك والصبر على ما يترتب على تلك العفة وهذا التماسك من تنكيل شديد.

ونموذج "شهرزاد" رمز الذكاء الأنثوي، ورباطة الجأش، والتحايل للخروج من المأزق الماثل العتيد دون أن تخسر المرأة شيئًا، بل تكسب كل شيء، وتنتصر على الشر والخطر الجائح، ونموذج ليلى والمجنون رمز الحب المحروم والعذاب الذي يصطليه المحب، ولا يُفرط رغم ذلك في محبوبه، بل يجد السعادة في هذا الحرمان وذلك العذاب. ومن ميادين الأدب المقارن التي يمكن استفادة الأدب القومي منها: المذاهب الأدبية؛ كالكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية والبرناسية، والرمزية. التي هي قد يكون لها أو لبعضها بذور في آدابنا، لكنها لم تتبلور في ذلك الأدب، وقد دخلت تلك المذاهب أدبنا العربي في عصرنا الحديث بعد اتصالنا بالغرب، ووجداننا فيه تلك المذاهب التي لم يكن لنا بها عهد على النحو الذي وجدناه عليه في الآداب الأوربية، وأكسبت أدبنا طعومًا ومذاقات جديدة في مجالات الشعر والقصة والمسرحية. ويدرس الأدب المقارن كذلك ضمن ما يدرس: صورة الأمم والبلاد الأخرى في عيون زوارها، والذين قرءوا عنها، وكونوا صورة من خلال القراءة لا من خلال الزيارة مباشرة. ولا شك أنّ لكل أمة أو بلد صورة معينة في أذهان كل شعب من الشعوب في عصر معين، وهذه الصورة عادة ما تتغير تبعًا لتغير هذا العامل أو ذاك، ولقد كان المصريون والعرب بوجه عام؛ ينظرون إلى أمريكا حتى وقت قريب، على أنها بلاد الحُرّية والصّداقة والرّفاهية والانفتاح على شعوب الأرض كلها في حب ومودة، أما الآن فقد تغيرت الصورة بعدما بلى العرب والمسلمون منها القسوة والغطرسة وانجلى ما كان ساستها يكنونه لنا من بغض ومؤامرات، كانت خافية

عما قبل؛ أما الآن فقد افتضحت وصارت مكشوفة للعيان، دون أدنى تذويق وهذا مجرد مثال. ويُمكن أن يكون الأدب المقارن معولًا على توسيع الأفق؛ إذ يرينا كيف أن الأذواق والأوضاع والقيم الأدبية، تختلف من أدب لآخر ومن أمة إلى أخرى، رغم أن هناك أشياء مشتركة كثيرة أيضًا، وهذا الاختلاف دليل على ثراء الحياة، وعلى غنى القدرة الإلهية المبدعة التي لا تنفد ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وفي القرآن الكريم آية تقول: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119). وهذه الآية وإن كانت تتعلق بالأديان واختلافها، واختلاف الناس بشأنها من ثم من الممكن الاستشهاد بها هنا؛ فالاختلاف بين البشر لا يقتصر على الأديان، بل يشمل كل شيء يتعلق بهم أنه سنة بشرية، مثلما التشابه في بعض الجوانب سُنّة بشرية أخرى. ولا شك أن اطلاعنا على ما عند غيرنا، وتحققنا من أنه يختلف كثيرًا أو قليلًا عما عندنا؛ جدير أن يعمق فهمنا للحياة والأحياء، ويوسع مداركنا، ويجعلنا نتقبل الآخرين، ونتفهم حقيقة اختلافهم عنا؛ فنكون أرحب صدرًا، وأقدر على التسامح مع تمسكنا بما لدينا في ذات الوقت وإلا تحول الأدب المقارن نقمة وأذى، إذا كانت ثمرته تمييع مواقفنا والانتهاء بنا إلى العجز عن اتخاذ موقفًا ثابتًا نابعًا من إيمان حقيقي بفائدة ما في أيدينا وصحته وأحقيته. لنأخذ على سبيل المثال ما كتبه رفاعة الطهطاوي أبو المقارنين العرب في العصر الحديث، في موضوع المقارنة بين الأدبين العربي والفرنسي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريس) الذي كتبه وهو في فرنسا في النصف الأخير من ثاني

عقود القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي أنشئ فيه أول كرسي للأدب المقارن في فرنسا، إذ عُيّن "أبل فرونسوا زيما" أستاذًا لهذا التخصص من جامعة "السربون" سنة ألف وتسعمائة وثمان وعشرون ميلادية، ولم يكن قد مر على وصول رفاعة إلى باريس إلا عامان. وكتاب رفاعة كتاب عجيب لا يمكن تجاهله أبدًا، إذا ما أردنا الكلام عن بدايات عصر النهضة بمصر، إذ يبدُو وكأنه يحتوي على كل شيء يتعلق بذلك العصر، المُهِمّ أن كاتبنا قد خصص بضع صفحات من ذلك الكتاب، على درجة عالية في القيمة، في المقارنة بين اللغتين الفرنسية والعربية وبين أدبيهما؛ ففي عدة مواضع من ذلك الكتاب نرى رفاعة يعقد مقارنة بين لغتنا ولغة الفرنسيس، وبلاغتنا وبلاغة الفرنسية؛ فيقول مثلًا: "إن لكل لغة قواعد خاصة، لتنظيم استعمالها والتفاهم بها وأنه إذا كانت أقسام الكلمة في لساننا ثلاثة، هي: "الاسم، والفعل، والحرف" فإنها في الفرنسية هذه الثلاثة المذكورة مضافًا إليها: "الضمير، وحرف التعريف، والنعت، واسم الفاعل، واسم المفعول، والظرف، وحروف الجر، وحروف الربط، وحروف النداء، والتعجب ونحوه. وإن الكلمة قد تكون حرف جر في موضع، وظرفًا هي نفسها في موضع آخر، لأنها إذا جاء بعدها اسم كانت حرفًا، بخلاف ما لو استقلت بنفسها؛ فإنها تكون عندئذٍ ظرفًا، وذلك كقولنا: جئت قبل زيد أو بعده. وجئت قبلًا أو بعدًا إلى آخره وهذا للتقريب فقط". ومما قارن به رفاعة بين اللسانين والبلاغتين أيضًا؛ قوله: إنهم في فرنسا لا يعرفون نظم العلوم كما هو الحال عندنا في الألفية مثلًا، وهذا راجع إلى اتساع العربية وضيق المجال في لغة الفرنسيين.

وبالمثل تكلم عن الفرق بين العروض العربي ونظيره الفرنسي، قائلًا: إنّ لكل لغة عروضها الخاص بها، وإنّ النّثر الفرنسي لا يعرف التقفية، أي: أنهم يلجئون إلى السجع بخلاف الحال عندنا، حيث يستخدم السجع في الرسائل والخطب والتاريخ، وما إلى ذلك حسبما يقول. كما أنّ المؤلفين الفرنسيين يهتمون بالتدقيق في ألفاظهم وعباراتهم، ويعملون على أن يجيء ما يكتبونه واضحًا، لا يحوج إلى معاناة في الفهم والتعلم، ولا إلى ما كان يسمى عندنا بفك الألفاظ، ومن ثم فليس للكتب الفرنسية شروح ولا حواش اللهم إلا إذا استلزم الأمر بعض التعليقات السريعة، لمزيد من الضبط والإتقان. وبالمناسبة لم يقصد رفاعة بالملاحظة الأخيرة أن هذا عيب ملازم للغة العربية، كما يفهم من كلام الدكتور جابر عصفور في قوله عن شيخنا الطهطاوي: يبدو أن هذا الحرص على إيقاظ النيام، والذي دفعه إلى الاهتمام باللغة الفرنسية؛ من حيثُ قُدراتُها الآدائيةُ التي لا يُتلاعب فيها بالعبارات، ولا بالمحسنات البديعية اللفظية. وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عد ما يكون للمحسنات العربية ركاكة عند الفرنسيين كما يقول. ويتصل بذلك ما ينتهي إليه من أن سهولة اللغة الفرنسية تعينهم على التقدم، حيث أنه لا التباس فيها أصلًا؛ فالألفاظ مبينة بنفسها، والقارئ لكتاباتها لا يحتاج إلى تطبيق ألفاظه على قواعد أخرى، بل رامية من آن لآخر. وذلك بخلاف اللغة العربية مثلًا؛ فإنّ الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم، يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها.

وأما كتب فرنسيس فلا شيء من ذلك فيها؛ فليس بكتبها شراح ولا حواش، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان، تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكة الألفاظ". هذا ما قاله جابر عصفور. ذلك أنّ رفاعة إنما قصد طريقة التأليف على عهده، وفي الكتب التي كانت تدرس بالأزهر لا غير؛ وهي كتب كزة يُدل أصحابها بالإيجاز المرهق والغموض، واحتمال كلامهم فيه أوجه عدة لا معنى واحدًا، كما جرت العادة أن يقوم الشارحون بتفصيل الموجز، وتوضيح المشكل، والتعليق على كل صغيرة وكبيرة في الكلام وإعرابه. ولم يقصد رفاعة اللغة العربية في ذاتها بأي حال، وإلّا فقد كان القدماء العرب يكتبونَ فيفهم عنه قراؤهم دون حاجة إلى شرح أو حاشية، كما أننا الآن نقرأ ما يكتب في عصرنا دون أن ننتظر شيء من هذا كي نفهمه، فضلًا عن أن كتب رفاعة كانت ولا تزال مفهومة من تلقاء نفسها، لوضوحها وجريها على سنن المؤلفين القدماء الواضح القويم. وكيف يقصد الطهطاوي ما فهمه الدكتور جابر، أو ما أراد الدكتور جابر أن نفهمه ولسان الضاد إنما هو لسان البيان والجمال والدقة، كما افتخر رفاعة بلغة القرآن الكريم في كتابه مرارًا، وعَدّ هذه المحسنات من مزاياها التي لا تشاركها فيها لغة "فولتير". وعلى نفس المنوال يَمضي رفاعة مقارنًا بين البلاغة لدينا والبلاغة لدى الفرنسيين؛ فيقول: "إن هذا الفن موجود في كل اللغات، ومنها الفرنسية بطبيعة الحال، بيد أنه في لغتنا أكمل منه في لغة الفرنسيين، كما أن علم البديع يوشك أن يكون خاصًّا بالعربية".

ويضيف الطهطاوي قائلًا: إن من الصور البانية ما تستحسنه الأذواق في كل اللغات، ومنها ما يستحسنه البعض منها دون بعض، مثال ذلك: تشبيهنا الرجل الشجاع بالأسد؛ فهو تشبيهٌ مقبول ومستحسن من الجميع، بخلاف كلام الشعراء العرب عن ريق الحبيبة، إذ لا يفهمه الرجل الفرنسي ويعجز عن تذوقه قائلًا: إنه بصاق والبصاق يبعث على النفور لا التلذذ. وقبل ذلك رأيناه يعرض في شيء من التفصيل للغة الفرنسية؛ فيتكلم عن تصريف أفعالها، وتاريخها، وأصولها. وبخاصة الأصل اليوناني الذي يكاد يستغرق فيها مصطلحات العلوم كلها، ثم يعرج على البديع قائلًا: إنه غير مستعمل ولا مستحسن عندهم؛ اللهم إلا التورية في كتاباتهم الهزلية فحسب، بخلاف الجناس فهو غير مقبول لديهم البتة، ومجرد ترجمة ما هو موجود منه في لغتنا تذهب ظرافته في الحال. ومع هذا؛ فإنه يؤكد أن العربية أصعب اللغات، كما يقر بقوة أن من كان عالمًا بقواعد لغته متبحرًا فيها، يكون عالمًا بالقواعد في جميع اللغات بالقوة على الأقل، وهي لفتة عقلية عجيبة سبق بها زمنه؛ إذ ليس لكلامه هذا من معنى سوى أن هناك قواعد نحوية عالمية، تتمثل في الخطوط العامة لقواعد اللغات المختلفة، وهو ما يقول به علم اللغة الحديث. كما أشار ضمن ما أشار إلى كتاب في نحو اللغة العربية وصرفها، وضعه أحد المستشرقين الذين عرفهم في باريس، يختلف في ترتيبه عن كتب النحو والصرف عندنا، والسبب في هذا -هو حسبما لاحظت- أنهم يضعون الطالب الفرنسي في اعتبارهم حين يؤلفون مثل تلك الكتب؛ فيتوسعون في بعض ما نراه نحن واضحًا بذاته، لتشربنا كثيرًا من أواضع لغتنا تلقينا منذ الصغر، على عكس

الدارس الفرنسي مثلًا الذي نشأ على أوضاع معينة في لغته، فلا يفهم ما يخالفها في اللغة العربية وأمثالها بسهولة، كما أنهم يراعون الذهنية الفرنسية والأوربية عمومًا في تبويب مادة النحو والصرف؛ حتى تكون متسقة مع ما يعرفون عن نظام القواعد في لغتهم فلذلك كان لا بد عند تأليف كتاب النحو العربي عند طلابهم من مراعاة هذا الاعتبار. وبالنِّسبة للشِّعر الفرنسي يقول رفاعة: إنه يجري على عادة الجاهلية اليونانية، التي تعرف لكل معنى من المعاني، ولكل شعور من المشاعر إله خاصًّا؛ فتراهم يقولون: إله الجمال وإله العشق ... إلخ. وهذا كفر كما صرح، وإن أضاف أنهم لا يعتقدون في شيء من هذا بل هو مجرد تمثيل، وهو يحكم على الأشعار الفرنسية، بأن الكثير منها لا بأس به ولا ريب أن هذا حكم جريء يستغربه الأديب العربي الحالي، الذي قد يرى أن الآداب الأوربية أرقى من الأدب العربي، أما رفاعة فرغم إعجابه بجوانب كثيرة من مدنية الفرنسيين كان يرى أننا متفوقون عليهم في أمور الدين والاعتقاد، وكذلك في ميدان الشعر والبلاغة. ومِن الطّريف قَولُه عن ترجمته لإحدى القصائد من الفرنسية إلى العربية: "أخرجتها من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام" ثم تعقيبه على جهوده في ذلك بقوله: "إن الترجمة تذهب بحسن الأصل الأدبي في أية لغة" يستوي في ذلك أن تكون القصيدة منقولة من الفرنسية للغتنا أو العكس. وبالنّسبة للنُّقطة الأخِيرة وما تستدعيه للذهن من قوة الثقة بالذات الحضارية، التي تكمن وراءها أود أن استشهد هنا بالسطور التالية من مقال للدكتور حسام الخطيب، بعنوان "الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات باتجاه المستقبل". وهذه السطور تضرب من المسألة التي نحن بصددها في الصميم، وتساعدنا على أن نرى كيف كان رفاعة رغم التخلف الشديد الذي كان يشل حركة الحياة إلى

حد بعيد في مصر، وسائر بلاد العالم الإسلامي أوان إذًا بعيد النظر واسع الأفق، راسخ الثقة بماضيه الحضاري والثقافي، ولم يكن كأولئك المثقفين العرب المنبهرين بكل ما هو غربي، بل المتطوعين بالقيام بدور كاسحة الألغام التي تزيح من أمام الهجوم البربري الغربي والأمريكي منه بالذات؛ قوى المقاومة والتصدي لمخططاته الشيطانية في كل المجالات، وأولها مجال الفكر والثقافة والذوق. يقول الدكتور الخطيب: عَلى أنّه ينبغي الاعتراف بأنّ الذي تغير اليوم هو الوعي العالمي العام، بأنّ النُّموذج الغربي متفوق حقًّا في مختلف مجالات الثقافة والعلم والإنتاج، وقوة المادية، والاتصال وغزو الفضاء، ولكن له مشكلاته ونقائصه وتناقضاته، ولا سيما بين المثل الأعلى المعلن، والمثل غير الأعلى للهيمنة والسيطرة والاستلاب. ولذلك ينبغي أن يكون الموقف منه حذرًا وانتقائيًّا، وغير مبني على الانبهار والتسليم الأعمى. كما أنّ هُناك شيئًا آخر مهمًّا، قد تغير في مجال المقارنة مع المركزية الأوربية، وهو الاعتراف الضمني أو الصريح بعظمة حضارات العالم القديم في أفريقيا وآسيا، والتسليم بما قدمته هذه الحضارات ومنها الحضارة العربية الإسلامية، من إسهام مباشر أو غير مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية. وهُنا أيضًا يقتضينا الإنصاف والإشارة إلى عددًا لا يستهان به من مثقفي الغرب، وعلمائه وأدبائه، أسهموا في دعم هذه الفكرة ونشرها، وإلى جانبها فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن، في بلدان العالم القديم أو بلدان الجنوب، وضرورة وضعه في مواجهة لائحة التثقيف اليومي للأجيال من جهة، والاستعانة به من جهة أخرى؛ لترسيخ النزعة الإنسانية والفطرية لدى جمهرة المتلقين في العالم، ومثال ذلك: "رسالة منظمة اليونسكو" ولا سيما في مجال إحياء الثقافات

العوامل التي ساعدت على نشأة الأدب المقارن.

المستضعفة وإعادة بناء قائمة الروائع الأدبية العالمية، بحيث تشمل منجزات العالم القديم العالم الثالث. وكل هذه المتغيرات تصب في صالح المقارنة، لتجعل منها رافدًا فعالًا من روافد الصبوة العريقة، للاتجاه نحو بناء حضارة إنسانية منسجمة مع ذاتها، وغير قائمة على التناقضات والتمييز بين الأنا والآخر. العوامل التي ساعدت على نشأة الأدب المقارن وفي كتابه (الأدب المقارن دراسات تطبيقية في الأدبين العربي والفارسي) يثير الدكتور محمد سعيد جمال الدين نقطة جديرة بالتأمل والبحث، إذ يرى أن نشؤ علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر، يعدُّ مفارقة تستوقف النظر قال: "والحق أننا نعجب لنشأه هذا العلم في أوربا، في وقت سادتها روح العصبية القومية، ونشبت الحروب بين دولها، وكانت التنازع والتكالب على اكتساب الغنائم الاستعمارية على أشده، بينها؛ مما عمق فكرة الأثرة القومية والعصبية المقيتة في نفوس الشعوب الأوربية، وأخذ كل واحد من هذه الشعوب ينظر للآخر نظرة العداء والازدراء. ووجه العَجَب هُنا: أنّ طبيعة الأدب المقارن لا تتفق مطلقًا مع روح التعصب والأثرة القومية؛ فهو يقف في الوسط ليرصد التيارات الفكرية المتبادلة بين الآداب المختلفة، ويَرْقُب عوامل التأثير والتأثر فيما بينها، فكيف يتسنى لهذا العلم أن يقوم بمهمته هذه في ظل جو مشبع بعوامل الاستعلاء والتمييز القومي؟. كيفَ يُمكن لهذا العلم أن يعنى بدراسة نقاط الالتقاء بين الآداب، والسمات المشتركة بينها، في وقت كان هم كل أمة من هذه الأمم الأوربية مُنحصرًا في بيان أوجه الاختلاف والتعارض بين أدبها؟ وفي أن أدبها هو الأكثر كمالًا وفضلًا.

لقد كان المزاج الأوربي الذي ساد القرن الثامن عشر والتاسع عشر، مشبعًا بأسباب التنافر والتباعد لا بمظاهر التآزر والتقارب، حقًّا لقد كانت هناك نقط التقاء، توحد بين الأدباء الأوربيين في ذلك الوقت، إذ كانوا جميعًا يرون في شعر اليونان واللاتين القدماء مثلهم الأعلى الذي يتعين عليهم أن يحتذوه؛ إلا أن روح القومية التي سادت في ذلك الوقت كانت تعصف بكل رغبة في التسليم بتبادل التأثير بين الآداب الأوربية بعضها وبعض. لكن ظهرت في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر حركة نادت بالأدب المقارن، حيث تتجمع الآداب المختلفة كلها في أدب عالمي واحد؛ يبدو وكأنه نهر يرفده كل أدب من الآداب القومية، بأسمى ما لديه من نتاج إبداعي، وقيم إنسانية وفنية. وكان زعيم هذا الاتجاه الشاعر الألماني "جوته" المولود في سنة ألف وسبعمائة وتسع وأربعين، والمتوفى في سنة ألف وثمانمائة واثنتين وثلاثين، الذي عد نفسه نموذجًا تتجمع فيه صفة العالمية؛ فقد كان مطلعًا على الآداب الأوربية متمثلًا قيمها واتجاهاتها، ومَدّ بصره إلى خارج الحدود الأوربية الضيقة المضطربة، فوجد في الآداب الشرقية الإسلامية عالمًا رهبًا لا نهائيًّا من الطهر والطمأنينة؛ بدا له وكأنه قبس من نور النبوة، كما وجد منبعًا صافيًا من الإبداع والإلهام المتجدد، عَبّر عنه بوضوح في ديوان سماه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". كتب في مقدمته: "هذه باقة من القصائد يرسلها الغرب إلى الشرق" ويتبين من هذا الديوان، أن الغرب قد ضاق بروحانيته الضعيفة الباردة فتطلع إلى الاقتباس من صدر الشرق.

ولقد استطاع "جوته" بثقافته العميقة الواسعة، ومكانته البارزة؛ وقدرته الفذة على الإبداع، أن يجعل فكرة التواصل بين الآداب الأوربية خاصة، والآداب كلها بعامة، تستقر في الأذهان، وتصبح من الأمور المسلمة التي لا تقبل الجدل على الرغم من طغيان العصبية القومية في أوربا. وهكذا بدت دعوة الأدب العالمي، وكأنها كانت بمثابة تمهيد طبعي لنشوء فكرة الأدب المقارن. انتهى الاقتباس من الدكتور محمد سعيد جمال الدين. والواقع؛ أنه لا ينبغي أن يكون هناك عجب من الأمر، إذ من قال: إن الأدب المقارن قد نشأ وهدفه التقريب بين الشعوب والأمم على أساس من روح الأخوة، أن هناك فرقًا كبيرًا بين رغبة بعض العلماء والمفكرين في أن يؤدي الأدب المقارن إلى نشؤ هذه الروح، وبين استجابة النفوس البشرية التي تمارسه وتشتغل به، أو تهتم به لهذه الروح؛ ذلك أنه كان هناك دائمًا، وسيظلُّ هناك دائمًا فجوة بين المثال، والواقع كبرت هذه الفجوة أم صغرت! فهذه طبيعة الحياة البشرية. وعلى أية حال؛ هُناك عوامل أخرى للأدب المقارن، كانت وما زالت وراء الاهتمام بهذا الفرع من فروع البحث، منها: إرضاء الفضول البشري الذي يريد أن يعرف من أين جاء هذا العنصر أو ذاك، إلى ذلك الأدب أو هذا وإلى أين يمكن أن يذهب بعد ذلك؟ ومنها أيضًا الرغبة الفطرية في المقارنة بين المتشابهات والمتخالفات في أي شيئين من جنس واحد، إن لم يكن من أجل شيء فمن أجل إرضاء النزعة العقلية المقارناتية التي لا تهدأ عند بعض الناس، إلا إذا اشتغلت ولا ترتاح إذا بقيت خاملة لا وظيفة لها. ثُمّ هُم بعد هذا كله لا يمكنهم أن ينسوا قوميتهم، ولا حُبَّهم لبلادهم وشعوبهم، ولا إيثارهم لحضارتهم وعاداتهم، وتقاليدهم وأذواقهم وفنونهم وأدبهم،

وبخاصة إذا كانوا ينتمون إلى أمم قوية، تتطلع إلى جر الأمم الأخرى وراءها كأنها القاطرة وعرباتها، ولا تريد لأحد أن يخالف عن رأيها، ولا أن يكون لها ذوق يتميز عن ذوقها بله يمتاز عليه. أما الكلام والتشدق به فما أسهله؛ لكن الكلام وحده لا يجعل الأمنيات حقيقة واقعة محترمة من الجميع. وإذا كانت الطبيعة البشرية لم يستعص عليها أن تتلاعب بالدين ذاته، وأن تحوله إلى أداة للتكسب والخداع والقتل والتدمير في كثير من الأحيان، أفنظن أن الأدب المقارن سوف يصمد أمامها، ويكون عندها أقدس وأجل وأكثر تبجيلًا. وفي كلام "رينو ويلك" التالي ما يؤكد ما قلته، فقد ذكر أنه وإن كان ظهور الأدب المقارن، قد جاء رد فعل ضد القومية الضيقة التي ميزت الكثير من بحوث القرن التاسع عشر، احتجاجًا على الانعزالية لدى الكثير من مؤرخي الآداب الأوربية، فضلًا عن تصدر التبحر في هذا العلم من بعض العلماء الذين يقعون على مفترق الطرق بين الشعوب، أو على الحدود بين شعبين على الأقل؛ فإن هذه الرغبة الأصيلة في أن يعمل ذلك الأدب المقارن كوسيط بين الشعوب، ومُصلحٍ للذات بينها؛ غالبًا ما طمسته وشوهته المشاعر القومية الملتهبة التي سادت في ذلك الواقع. وهذا الدافع الوطني في أساسه، الذي يكمن خلف العديد من دراسات الأدب المقارن؛ في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا وغيرها؛ أدى إلى نظام غريب من مسك الدفاتر الثقافية، والرغبة في تنمية مدخرات أمة الباحث، عن طريق إثبات أكبر عدد ممكن من التأثيرات التي أصدرتها أمته في الشعوب الأخرى، أو عن طريق إثبات أن أمة الكاتب قد حضرت أعمال أحد العظماء الغرباء، وفهمته أكثر من أي أمة أخرى.

ثم مضى "وليك" فأعطانا أمثلة على هذا التعصب القومي من واقع الدراسات الأدبية المقارنة في فرنسا وأمريكا. خلاصة القول: إنّ الشِّعَارات واللافتات المرفوعة، أو حتى العوامل والبواعث التي تكمن وراء نشوء عمل ما شيء، والواقع الذي ينتهي إليه هذا العمل أو يساق نحوه سوقًا شيء آخر. باختصار: الطبيعة البشرية هي هي الطبيعة البشرية، ولا أحسبها ستتغير في المستقبل؛ حتى لو دخلت تطورات جذرية على التكوين البيولوجي للإنسان، كما يلمح بعض العلماء الآن، اعتمادًا على ما يظنونه أو يرجونه من إمكانات التناسخ البشري، وهل تغير الأوربيون فصاروا أكثر تواضعًا ورحمة ورحابة أفق حضاري وثقافي، وهم الذين بلوروا الأدب المقارن، ومارسوه حتى الآن على مدار عشرات السنين، ورفعوا لواء العالمية والكوكبية، وما أدراك من هذا الكلام الكبير، الذين حين نأتي إلى الواقع فإننا لا نرى منه شيئًا. إنهم لا يريدون أن يروا إلا ثقافتهم وأذواقهم، ونظمهم وبخاصة من أمريكا التي لا تعرف في فرض رؤيتها على الآخرين إلا الدمار والقتل، والسلاح النووي. فليقل الغربيون أو غيرهم ما شاءوا فليس على الكلام من حرج؛ لكن المهم هو التنفيذ على أرض الواقع والحقيقة، والأدب المقارن ما هو إلا علم من العلوم، يمكن أن يستغل استغلالًا حسنًا؛ ويمكن أيضًا أن يستغل استغلالًا سيئًا، والعِبْرَة بالنية والإرادة عند ممارسيه، مع ملاحظة أننا مهما بذلنا من جهد في سبيل من التخلص من الأنانية القومية؛ فلن ننجح تمام النجاح، مثلما لا ننجح إذا ذهبنا نحاول التخلص تمامًا من أنانيتنا الفردية الشخصية.

وحسبنا أن نخفف من غلوائها، ونكفكف من شططها؛ فلا يجيء التعصب ظالمًا لا يُحتمل، وهذا هو محمد أركود نفسه، على رغم كل تحمسه لما عند الغربيين؛ يقرر أن تَدريس الأدب المقارن في الجامعات الأوربية لا يتعرض لدراسة الأدب العربي الإيراني وغيرهما، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالفلسفة التي ازدهرت في السياق الإسلامي بين القرنين: الثامن، والثاني عشر الميلادي؛ فإن أحدًا لا يهتم بها في الغرب. والعلوم الاجتماعية المختصة دراسة الأديان، لا تزال مستمرة في تجاهلها للإسلام، أو تخصص له مكانة ضئيلة وهامشية، وهو ما يرينا على نحو أو آخر أن الظن أن طبيعة الأدب المقارن من شأنها القضاء التلقائي على التعصب القومي أو الديني، هو ظن لا يقوم على أساس، بالتأكيد سوف يساعدنا الأدب المقارن على مزيد من فهم بعضنا بعضًا، لكنه لن ينجح من قلع ما غرس في أغوار أنفسنا العميق منذ أول الخلق. إنّ الغَرْبِيينَ بوجه عام بحسب الرطانة الجديدة، لا يريدون مثاقفة بينهم وبين الآخرين، بل يريدون في أقل القليل غزوهم ثقافيًّا ولعل من الخير الاستعانة بالفقرة التالية، وهي من مقالة على "المشباك" للدكتور مسعود عشوش بعنوان "المثاقفة أبرز آليات حوار الحضارات" في موقعه "لمنته" لتوضيح ما أقصد قوله، قال: "في الأصل المثاقفة هي عملية التغيير أو التطور الثقافي، الذي يطرأ حين تدخل جماعات من الناس أو شعوب بأكملها، تنتمي إلى ثقافتين مختلفتين، في اتصال وتفاعل يترتب عليهما، حدوث تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في الجماعات كلها أو بعضها. والمثاقفة بعكس الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الآخر، وإلحاقه وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية عدوانية متغطرسة، تقوم على الندية

والاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب وتتواصل بهدف الانتماء المتبادل؛ لهذا فهي تفترض الثقة والرغبة في التواصل، والتقدم والتطور، واكتساب العلم والمعرفة. وإذا كانت الشعوب تسعى سعيًا تجاه المثاقفة، فهي ترفض أشكال غير الثقافي كافة، وقد عبر "المهاتما غاندي" عن ذلك قائلًا: إنني أفتح نوافذي للشمس والريح، ولكني أتحدى أية ريح أن تقتلعني من جذوري، لهذا فالمثاقفة بهذا المعنى؛ تُعَدّ رافدًا مهمًّا، تسعى كل أمة من خلاله إلى معرفة الآخر، واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق، وغير مضر بمقومات الهوية القومية وثوابتها. ولعل ما كتبه شاه سعيد عن دور الأدب المقارن في حوار الحضارات، أن يكون أقرب إلى واقع الأمر، سواء فيما يتعلق بالطبيعة البشرية، أو بقدرات ذلك الفرع من فروع المعرفة يقول: "كلما اتجهت الأنظار نحو عالمية الأدب، والثقافة الإنسانية؛ أو ما يُسمى بحوار الحضارات، والتفاعل بين الهويات الحضارية المختلفة، برزت أهمية الأدب المقارن باعتباره جسرًا من جسور ذلك التفاعل". من هذا المنطلق يحاول هذا الباحث إلقاء الضوء على الدور الذي يمكن أن يضطلع به الأدب المقارن، خصوصًا في عصرنا الراهن الذي بدأت فيه المعرفة الإنسانية تدخل مرحلة من الاندماج العالمي الأعمق، بفضل الشبكات الكبيرة للاتصالات والإعلام والعلاقات الاقتصادية، والتفاعلات الحضارية والاجتماعية بين الشعوب والثقافات، والتي تندرج في بعض الجوانب ضمن ظاهرة العولمة وأثرها على المستويات المختلفة. ولكن قبل التطرق إلى هذه القضية نحاول أن نقف بشكل سريع عند جوهر الرسالة الإنسانية التي وجد الأدب المقارن في الأصل من أجل أدائها، والذي أدى

إلى بروز تساؤلات حول الوجه العالمي للإبداعات الأدبية المنصبة في خدمة الإنسانية جمعاء، وتوثيق أواصر الحوار المشترك بين شعوبها وثقافاتها انتهى الاقتباس. الأمر إذًا لا يخرج عن دائرة الاحتمال والإمكان، وهو ما يعني أن الأدب المقارن قد ينجح في الوصول إلى الغاية المبتغاة منه، وقد يفشل كما قلنا سابقًا. ومن هنا نجد الكاتب في بداية مقاله يعود لطرح القضية من خلال السؤال التالي: ما هدف الدراسة في الأدب المقارن؟ ثم يتابع قائلًا: للإجابة عن هذا السؤال نقترح جملة من المهام التي اضطلع بها الأدب المقارن في العصر الراهن، وذلك في مجالات عدة هي الإشارة لأهمها على النحو الآتي: 1 - الحِوار: يُمكنُ للأدب المقارن أن يمثل جسر الحوار بين الثقافات المختلفة، من خلال إيجاد مواطن التأثير والتأثر بين نصوص الإبداعية في تلك الثقافات، وتشخيص نقاط الاختلاف والائتلاف بين الأنظمة الثقافية المختلفة. 2 - التركيز على البعد الإنساني للأدب، وذلك من خلال إبراز التقارب بين الغايات القصوى، التي ترمي إليها الآداب القومية المختلفة، والتي قد تتباين من حيث وسائل التعبير واللغة، ولكنها تتآلف من حيث الغاية. 3 - الترجمة: إذ يرى العديد من الباحثين أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مستقبل الأدب المقارن، وازدهار الترجمة في العديد من بقاع العالم؛ فدراسات الترجمة تنبع من الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية والأنثربولوجية، والنفسية والاجتماعية والعرقية وغيرها. ودراسات الترجمة تقوم على افتراض أساسي، وهو: أن الترجمة ليست نشاطًا هامشيًّا، ولكنها كانت ولا تزال قوة تغيير قادرة على تشكيل تاريخ الثقافة؛ لقد

اعتبر الأدب المقارن الترجمة فرعًا صغيرًا من فروعه، ولكن هذا الافتراض يثير الآن تساؤلات كثيرة، لأن ما قام به بعض العلماء يوضح أن الترجمة تكون على درجة كبيرة من الأهمية في أوقات التحولات الثقافية العظيمة. كما أن الترجمة تعد عملية بحث دائم عن الجوانب اللغوية والدلالية بين لغتين أو أكثر لتحديد الارتباطات اللغوية بين النتاجات المختلفة، التي قد تبدو متباينة من حيث المنطق وقواعد اللغة، لكنها تشترك في تجسيد الحالات النفسية والاجتماعية التي تنبع من أحاسيس ومشاعر إنسانية مشتركة. 4 - التكافؤ الثقافي: ويتحقق من خلال ردم الهوة بين الثقافات المتباينة، ورفع الغبن التاريخي الذي لحق ببعض الثقافات؛ لأن التاريخ لم يشهد تساويًا وتكافؤ كاملًا في مستوى تطور الحضارات، بل جعل ثقافات بعض الشعوب ثقافات مهيمنة ومسيطرة، فيما جعل بعض الثقافات ثقافات مقلدة أو مهمشة؛ عليه فإن مهمة الأدب المقارن هي خلق حالة من التوازن والتكافؤ بين الآداب والثقافات المختلفة. وليس بيننا وبين الكاتب بشأن هذا الكلام اختلاف يذكر، ما دام الأمر -كما يرى القارئ- لا يخرج عن دائرة الممكن والمحتمل، وهو ما قلناه مبكرًا؛ وهذه النقطة من الأهمية بمكان، كي لا نُعَلّق على الأدب المقارن كثير من الآمال الجامحة، التي ينتهي الإخفاق في تحقيقها إلى الإحباط واليأس، ناهيك عن الجهود الكثيرة التي تكون قد ضاعت. ومن ثم؛ فالحصافة تقتضي أن نكون واقعيين، فلا نحلق في سموات الخيال والأوهام، ولقد ظَلّ الغربُ يَدرُسنا ويدرس حضارتنا مئات السنين، وأصبح يعرف عنا كل شيء وبطريقة منهجية؛ فهل ساعد ذلك على أن تكون علاقته بنا

طيبة، واحترامه لخصوصيتنا كبيرة، بالعكس فقد ظل أيضًا طوال تلك الفترة يمارس علينا مؤامراته الخبيثة، ويعمل بكل السبل على تحقير ثقافتنا، ويدعي علينا وعلى كل ما يتصل بنا الادعاءات، ويحاول بجميع قواه إفقادنا ثقتنا بأنفسنا وبماضينا وحاضرنا كله. ولو كانت معرفتنا الآخر معينة بالضرورة على التفاهم السليم واحترام تراثه وخصوصيته، لكان حظّنا مع الغرب أفضل من ذلك كثيرًا، أما ونحن نحترق منذ قرون بناره، وكيده اللئيم، وعدوانه الوحشي الذي لا يعرف هوادة ولا خجلًا؛ فلنعرف جيدًا أن الأدب المقارن ليس من شأنه أن يصلح الأحوال ضربة لازب، بل يعتمد الأمر على النية والإرادة، كما سبق أن وضحت. ولقد كانت نية الغرب من وراء هذه المعرفة سيئة منذ البداية، إذ دخل هذا الميدان وهدفه البغي والعدوان، وإن لم يمنع هذا من وجود شرفاء فيه ذوي ضمائر حية وإنسانية راقية، بيد أننا حين نتكلم هنا عن الغرب؛ فالمقصود هو الاتجاه العام بين شعوبه وأفراده، وبخاصة بين الساسة والمثقفين، الذي يعانون أولئك الساسة ويجعلون علمهم في خدمة مخططاتهم، وكذلك الجماهير التي تأتي بهم إلى سدة الحكم، وتصوت لهم وتضع يدها في أيديهم لبلوغ تلك الغايات الأثيمة. ولكي يكون القارئ على بينة مما نقول: فإننا ننقل هنا الفقرة التالية من مقال الدكتور سامية عبد العزيز، أستاذة الحضارة الفرنسية بآداب المنوفية سابقًا، وهو موجود على المشباك "أي: الإنترنت" وعنوانه "الديني والسياسي في التعامل الغربي مع القرآن رؤية شاملة" وهذه الفقرة المذكورة: يقول الكاتب "جون بود يار" في كتابه المعنون (قوى الجحيم) الصادر في أواخر أكتوبر سنة ألفين واثنتين:

"إن ما يدور حاليًا هو أكثر من عنف، إنه احتدام العنف، إنه عنف يتزايد كالعدوى في سلسلة من ردود الأفعال التي تهزم كل الحصانات، وكل إمكانات المقاومة؛ لأن الإسلام هو النقيض الحيوي للقيم الغربية، ولذلك فهو يمثل العدو رقم واحد، وفيما يتعلق بالتعصب الديني المسيحي؛ فإن كل الإشكال المخالفة له تعد هرطقة، وبذلك فيتعين عليها أما أن تدخل النظام العالمي الجديد طواعية أو قهرًا، أو عليها أن تختفي. إن مهمة الغرب الآن هي أن يتم إخضاع الثقافات المختلفة بشتى الوسائل إلى القانون الوحشي المسمى التساوي؛ فالهدف هو التقليل من المناطق المنشقة، واستبعاد كل المساحات المعترضة، سواء أكانت مساحات جغرافية، أم مساحات في مجال العقائدي. ويؤكد "سرج لاتوش" في كتابه (حول تغريب العالم) قائلًا: "إن سيطرة الغرب لم تتمثل فقط في فرض الاستعمار، وإنما في التبشير والسيطرة على السوق، والاستيلاء على المواد الخام، والبحث عن أراض جديدة، والحصول على أيادٍ عاملة رخيصة، واقتلاع الهوية التراثية الدينية، والقيام بالغرس الثقافي الخاص بالغزاة؛ مستعينين بشتى وسائل الإعلام وغيره. إنّ عملية تغريب العالم هي أولًا وأخيرًا هي عبارة عن حرب صليبية، والحروب الصليبية هي أكثر العمليات جنونًا فيما قام به البشر، إن عملية تغريب العالم كانت ولا تزال عملية تنصير، ومعظم عمليات التنمية في العالم الثالث تتم مباشرة أو بصورة غير مباشرة تحت علامة الصليب. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 20 بعض الدراسات التطبيقية الخاصة بالتأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب العالمية.

الدرس: 20 بعض الدراسات التطبيقية الخاصة بالتأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب العالمية.

بداية معرفة العرب بالشعر الإنجليزي بتأثر السياب بـ"شلي".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (بعض الدراسات التطبيقية الخاصة بالتأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب العالمية) بداية معرفة العرب بالشعر الإنجليزي بتأثر السياب بـ"شِلي" بعض الدراسات التطبيقية الخاصة بالتأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب العالمية. كتب عدنان مكارم إن بداية معرفة العرب بالشعر الإنجليزي "بيرسي بيتس شيلي" تعود لعام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، حين تقدم أحمد الصاوي للمطبعة بترجمة كتاب ملخص عن "شيلي" كتبه "أندريه موروا" وأنه قبل هذه الترجمة كانت تكتب عن "شيلي" بعض المقالات القصيرة التي لا تتجاوز الترجمة لحياته شاعرًا، إلا أن المعرفة الحقيقية لأعمال "شيلي" حصلت عندما ترجم لويس عوض مسرحية ("شيلي" برمثيوس طليقًا) في عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين. ويشير مكارم إلى المقدمة الطويلة التي صدر بها المترجم كتابه، والتي تحدث فيها عن فكر "شيلي" وأدبه التقدميين. أما بالنسبة للسياب فقد أتى عدنان مكارم على ذكر رسالة بَعث بها السياب إلى أحد أصدقائه بتاريخ الحادي عشر من شهر يوليو، سنة ألف وتسعمائة وأربع وأربعين، كتب فيها: أنه أثناء قراءته بعض القصائد للشاعر "شيلي" في لغتها الأصلية، وصله كتاب الصاوي -السالف الذكر- مضيفًا أنه لا بد أن يكون السياب قد اطلع على بعض القصائد الرومانسية الأولى لهذا الشاعر، كما يتوقع أن تكون لقصيدة "شيلي" (الملكة ماب) الدور الكبير في ترسيخ نظرة السياب حول البِغاء، وهو ما أدى إلى أن نظم قصيدته المشهورة "المومس العمياء". ثم مضى فأورد بعض الأبيات من تلك القصيدة مترجمةً إلى العربية؛ كي يتبين مدى تأثير "شيلي" عليها. يقول "شيلي" في الجزء الخامس من (الملكة ماب): التجارة رسمت وسم الأنانية.

ميسم قوتها الذي يستعبد الجميع. ذلك المعدن البراق الذهب. أمام جبروته يسجد العظام الأذلاء. والموسرون الضعفاء. والمتكبرون البؤساء. وكذلك فعل السياب في "المومس العمياء" فالبغاء مرض اجتماعي ينتج عن توزيع الثروة بين الناس: المال شيطان المدينة. لم يحظَ من هذا الرهان بغير أجساد مهينة. فغصت في أعماقهن يعيد أغنية حزينة. المال شيطان المدينة. رب فاوست الجديد. جارت على الأثمان وفرة ما لديه من العبيد. ويستمر مكارم قائلًا: إن هذه العلاقة بين سوء توزيع الثروة والبغاء، قد استشفها السياب من حاشية كتبها "شيلي" على قصيدة (الملكة ماب) فيها حديث عن شغفنا بالمعادن الثمينة، وما يجره ذلك الشغف من انقسام الأمة إلى فقراء وأغنياء، وما ينشأ عن ذلك من ضرر اجتماعي، فالبغاء -مثلًا- نتيجة لنظام الزواج الخاضع لقوانين جائرة، قامت لتخدم المجتمع التجاري الذي يربط ما بين الرجل والمرأة بكونها س لعةً، وقد ذكر عدنان مكارم أن قصيدة "شيلي" "أنشودة للريح

الغربية" ODE TO THE WEST WIND " هي خير ما كتبه هذا الشاعر، وأن النقاد قد نظروا إليها دائمًا على أنها تمثل الرومانسية القوية بأجلى مظاهرها، وعدّوها بأبدع ما قيل من الشعر على مستوى العالم كله، واصفين إياها بأنها قصيدة القصائد، وترنيمة عالمنا الخاص. إلا أنه برغم شمولية هذا القصيدة وعالميتها، هناك عدة عوامل يمكننا من خلالها مقارنتها بقصيدة السياب "أنشودة المطر". وهذه العوامل هي: أن موضوع القصيدتين هو موضوع واحد يرتكز إلى البعث الفكري للحضارة، والمقرون ببعث الطبيعة، وأن القصيدتين تنموان داخليًّا حسب حركة الأفكار والمشاعر المسيطرة عليهما، وأن الطبيعة في القصيدتين تشكل إطار الحياة المنفعلة، وتجري الحركة في الطبيعة وفي القصيدتين بشكل جدلي لا يدع المجال للتفريق بين هذه الثنائية، كما تربط القصيدتين خاصة أساسية يتحد فيها تجدد التاريخ الإنساني والوعي البشري عَبْر تجدد الطبيعة الخارجية، وأن غنى القصيدتين يعتمد على إبراز التفاؤل ضمن التشاؤم، والانتقال بصورة متناوبة لإبراز المغزى الشمولي للقصيدة: البعث الثورة. وبالنسبة إلى بنية قصيدة "شيلي" يقول عدنان مكارم: إنها تتألف من خمسة مقاطع متداخلة: في المقطع الأول: يخاطب الشاعر الريح الغربية: محاكاة الطبيعة على دروب الرومانسيين. وتبدو الطبيعة في هذا المقطع قاتمةً تجللها الألوان الشاحبة:

يا رياح البحر العاصفة. يا نفس ينبعث من كيان الخريف. أنت يا مَن تساوق أمام وجودك الخفي. الأوراق المالية كأشباح تولي هاربة. من ساحر صفراء وسوداء وشاحبة وحمراء محمومة. جموع روعها الوباء أنت. وأنه من خلال هذا الجو الشاحب، والطبيعة الحزينة، يبرز التفاؤل والأمل؛ ليعطي حقيقة الأشياء في الطبيعة. إذًا يقدم الصورتين المتناظرتين للخريف: الحزن، وللربيع: التفاؤل، على أنهما منفصلتان، بل قدمهما على أنهما متداخلان وتؤلفان وجهين لحقيقة واحدة. ومن ثَم نستطيع أن نفهم ما يقصده الشاعر بالرياح الغربية، إنها رمز مستعار من الطبيعة لحركة الحياة الدائبة، بل هي دستور الحياة وجاذبيتها المستمرة: حتى تجيء أختك اللاذة والدوية. ريح الربيع وتنفخ في بوقها فوق الأرض الحالمة. فتدفع البراعم الحلوة أسرابًا تغتذي في الهواء. وتملأ السهل والتل بالعبير والألوان المحلية. وفي المقطع الثاني: يقدم لنا ثنائية الطبيعة مرةً أخرى، ولكن بصورة أكثر عنفًا وقوةً، فالرياح أخذت شكل العاصفة التي تُشبه حركتها حركةَ شعر الراقصات اليونانيات وهن يرقصن في مهب العاصفة، وهنا يقدم "شيلي" أهم خاصة في القصيدة، وهي الذوبان في الطبيعة، واعتبار الإنسان جزءًا هامًّا فيها.

وفي المقطع الثالث: يقدم لنا الطبيعة البحرية، وقد هبت عليها الرياح فكشفت عن أستارها الدفينة في أعماقها؛ ليعكس لنا الأفكار الدفينة في أعماق البشر المنصهرين تمامًا في الحلم البحري. وفي المقطع الرابع: تظهر صورة الإنسان المؤمن بالتغير، ورافع راية التحدي للطبيعة من أجل تغيرها داخليًّا: آه ارفعيني مثل موجة أو ورقة أو سحابة. هأنذَا أسقط على أشواك الحياة ويسيح دمي. إن وطأة الحياة الثقيلة قد غلت وأحلت إنسانًا يشبهك أنت. شرودًا سريعًا متكبرًا. وفي المقطع الأخير: تأتي النتيجة، فالبذور التي زرعها "شيلي" تحت الأرض أنبتت عند قدوم الربيع وتفجرت حياة الأرض، وانطلقت البراعم الخضراء تفجر السهوب في ميلاد يوم جديد، فهو وإن جعل ثنائية الطبيعة الموتَ والحياةَ، وثنائيةَ الإنسان التشاؤم والتفاؤلَ مسيطرةً ومتناوبةً، قد غلب في النهاية نزعة الحياة على الموت في الطبيعة، ونصب نزعة التفاؤل على التشاؤم في الإنسان. وهذه إحدى خصائص المدرسة الرومانسية الإنجليزية المفارقة بهذه خاصة للمدرسة الفرنسية "لامارتين" مثلًا: انثر كالشرار والرماد مجمرة لا تخلو كلمات بين البشر. وكوني في شفتي بوق النبوة للأرض الغافية. أيتها الريح إذا أقبل الشتاء فهل سيتأخر الربيع طويلًا؟

وأخيرًا تمتزج لغة الطبيعة -الريح مع لغة الإنسان- وتقوم الريح بحمل أفكاره نحو بعث الوحي التاريخي. و"أنشودة المطر" عند السياب تقوم على نفس هذه الركيزة، فالموت والحياة جدلية واضحة، ومن تداخلهما يبرز البعث الفكري للحضارة، ويقوم المطر بوصفه عنصرًا فعالًا في الطبيعة بمهمة الريح نفسها في قصيدة "شيلي": أكاد أسمع النخيل يشرب المطر. وأسمع القرى تئن. والمهاجرين يسارعون بالمجاديف وبالقلوع. عواصف الخليج والرعود منشدين: مطر مطر مطر!! ويقول عدنان مكارم: إنه لما كانت رياح "شيلي" تحمل ثنائية الموت والبعث، فإن مطر السياب أيضًا له نفس الخاصة، فهو كالدم المُراق، كالجياع، كالحب، كالأطفال كالموتى، هو المطر. مقارنًا أن هذه الرمزية الثنائية للمطر لم يكتشفها "شيلي" أو السياب أو حتى "إليوت" الذي استعملها كعنصر رمزي في كل شعره، بل هي رمزية لا واعية وُجِدت في الشعر العربي القديم، وتم للجهلي اكتشافها عبر مراقبته لحركة الطبيعة المؤثرة في مجمل حياته، إذ المطر في الشعر الجاهلي مرتبط بالفرح والحزن كليهما، وأنه من ثَم يتداعَى مع معاني الحياة والموت في حالات كثيرة منه. كذلك فالميلاد الجديد -ميلاد الربيع في قصيدة "شيلي"- هو نفسه عالم الغد الفتي عند السياب حسبما يؤكد عدنان مكارم، إلا أن "الأنا" الرومانسية الطافية على السطح في قصدية "شيلي" قد ذهبت في الجماعة عند السياب، وذلك بسبب المرحلة الواقعية التي كتب فيها "أنشودة المطر".

يقول "شيلي": أيتها الثائرة. ادفعي أفكاري الميتة في أرجاء الكون. كما تدفعين الأوراق الذابلة. لتعجلي بميلاد كون جديد. ويقول السياب: وكل دمعة من الجياع والعراة. وكل قطرة تُراق من دم العبيد. فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد. أو حلمة توردت على فم الوليد. في عالم الغد الفتي واهب الحياة. أما بالنسبة للصور الجميلة التي زخرت بها قصيدة السياب، فيمكن رد جذورها إلى فهم "شيلي" لتركيبة الصورة التي تعتمد على المزج بين الحسي والمجرد بشفافية أسيرة، وبين الواقع والمثال، حتى لا يغدو الفصل بينهما أمرًا في غاية الصعوبة، وكذلك إلى أن صناعة الصورة تقوم على التقابل التناظري بين ما هو معنوي ومجرد من جهة، وبين ما هو حسي وواقعي من جهة أخرى. ويأخذ الكاتب صورةً واحدةً من الصور المشهورة للسياب؛ لنرى مدى التطابق والتشابه في صناعة الصورة عند الشاعرين: عيناك غابتَا نخيل ساعةَ السحر. أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر. عيناك حين تبسمان تورق الكروم. وترقص الأضواء كالأقمار في نهر.

معقبًا: بأنه يريد أن يصور عين المرأة، وبالذات المرأة الحوراء، فاستعمل ظلالَ السحر لسواد العين عند انعكاسه على غابة النخيل، واستعمل أيضًا أشعة القمر وقد غاب إلا أقله عن الشرفة، وأن هذه اللفتة في الجمع بين ما هو معنوي وما هو حسي، لم تكن لتوجد في صور السياب إن لم يكن قد قرأ "شيلي" وتأثر به في معطيات صوره، وإن لم يمنع هذا في رأيه من أن السياب قد صور البيئة وتمثلها خيرَ تمثل في شعره، فصورة الخليج وصداه عنده تنم عن تقنية خارقة في توسيع الصورة وغناها: أصيح بالخليج!! يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى. فيرجع الصدى كأنه النشيج. يا خليج!! يا واهب المحار والردى. هذه هي صورة الخليج والإنسان، صراع بين قطبين، أحدهما يحتاج الآخر، أو أحدهما هو الآخر نفسه، ولكن الخليج الذي يمنح المحار هو الخليج نفسه الذي يمنح الردى، وحين يصرخ الإنسان بالخليج، لا يعود له سوى الصدى؛ صدى الأرواح الأسطورية والهياكل العظمية، صدى رجال كانوا في يوم ما، فغاب اللؤلؤ وبقي المحار والردى. ويخلص الكاتب إلى أن "شيلي" قد أثَّر في السياب، سواء في سبات الطبيعة التي يتولد منها البعث، أو في امتزاج الإنسان بعناصر الطبيعة، أو في استعمال عناصر الطبيعة الواقعية وإضفائها على معنويات البشر، أو في كل هذه الأشياء مجتمعة. هذا عن السياب وتأثره بـ"شيلي".

حكايات الحيوان عند كل من إيسوب الحكيم وإخوان الصفا.

حكايات الحيوان عند كل من إيسوب الحكيم وإخوان الصفا أما بالنسبة لحكايات الحيوان عند كل من "إيسوب" الحكيم وإخوان الصفا، فنقول: لقد عاش "إيسوب" قبل الميلاد بعدة قرون ويقال: إنه ليس له وجود حقيقي، وإن الإغريق هم الذين اخترعوه، وهو ذو أصول إثيوبية، وبالمثل فإن كلمة "إيسوب" هي نفسها إثيوبية الأصل. وقد امتازت شخصيته بما لها من سرعة بديعة، وقدرة عقلية فذة، وحكمة تنساب على لسانها, ولـ"إيسوب" -أو "يعسوب" كما يقول بعض الباحثين العرب- مجموعة من القصص تُنسب إليه مثلها مثل كافة الحكايات المروية على لسان الحيوان، فإن كلًّا من تلك الحكايات القصيرة تعلِّم ناحية أخلاقية وتقدم نصيحة مفيدة. كما أن معظم الشخصيات في حكايات "يعسوب" حيوانات تتكلم وتتصرف كالبشر، وتوضح مساوئ وفضائل الطبيعة البشرية بطريقة مبسطة وفكِهة، وتنتهي كل حكاية خرافية بِمَثل يلخص مغزاها الأخلاقي. وقد زُودت حكايات "يعسوب" بتعبيرات شهيرة كثيرة، وعلى سبيل المثال: فإن العدو الذي يتظاهر بأنه صديق يسمَّى ذئبًا في ثياب حَمَل، وقد نشأ هذا التعبير من قصة يتنكر فيها ذئب في جلد حمل، ثم يتحرك دون أن يُكتشف وسط قطيع من الخراف، ويقتلها ليأكلها. ومن ناحية أخرى فإن الراعي يحسبه حملًا فيذبحه للعشاء.

ولسنين كثيرة كانت حكايات "يعسوب" تروى بالتواتر من جيل لآخر. وفي حوالي عام ثلاثمائة قبل الميلاد، قام سياسي أثيني اسمه "ديمتريوس فارليوس" بجمع حوالي المئتين منها في مجموعة أسماها "تجمعيات حكايات يعسوب"، وقد ترجم هذه المجموعة إلى اللاتينية بعد حوالي ثلاثمائة سنة عبد إغريقي عتيق يسمى "فيدروس" وفي نحو عام مائتين وثلاثين ميلادية قام الكاتب الإغريقي "فالرليوس بابريوس" بضم حكايات "يعسوب" إلى بعض الحكايات الهندية، وترجمها شعرًا إغريقيًّا. ومنذ ذلك الحين أعاد كتاب آخرون روايةَ الحكايات، وزادوا من معانيها، إلا أن الحكايات لم تفقد مطلقًا بَساطتها وجاذبيتها الأصليين. ومن قصص "إيسوب" التي وصلتنا القصص التالية: كان الثعلب يتضور جوعًا ويبحث عن أي شيء يسد رمقه عندما رأى تجويفًا كبيرًا في شجرة بها وجبة طعام، تركها الرعاه ليتناولها بعد القيلولة، فأكلها الثعلب، وعندما امتلأت معدته وانتفخ بطنه لم يستطع أن يخرج من التجويف، فأخذ يصيح، وسمع صياحه ثعلب آخر فسأله: ماذا حدث؟ وعندما روى القصة له كان رده: ابقَ حيث أنت، حتى تجوع وتعود المعدة إلى وضعها الأول، وعندئذٍ تستطيع الخروج بسهولة. مَرَّ ثعلب على كرمة عنب فأخذ يقفز لكي يأكل العنب، إلا أنه لم يتمكن من الوصول إليه، فقال: على أية حال، العنب لا يزال حصيمًا لم ينضج بعد. دخل ثعلب منزل ممثل، وأخذ يعبث بمحتوياته، فوجد قناعًا على شكل وجه غول مخيف، وراح يقول: يا له من رأس جميل، خسارة ألا يكون فيه مخ. اعتقد الذئب أنه لو تخفى لاستطاع الحصول على صيد وفير، فوضع على جسمه

جلد غنم؛ ليخدع الراعي، ولحق بالقطيع في أرض معشوشبة دون أن يكشف أحد أمره، وعندما هبَط الليل أغلق عليه الراعي الحظيرة مع الغنم، ولما شعر الراعي بالجوع استل سكينه وراح يذبح أحدَ حيواناته؛ ليعد طعام العشاء، وكان هذا الحيوان هو الذئب. جلس الدُّب تحت شجرة يشحذ أسنانه، فسأله الثعلب: لِمَ تجعل أنيابك حادة على هذا النحو إذا لم يكن هناك صياد يتعقبك ولا خطر يتهددك؟ فأجاب الدب: عندي مسوغ هام لذلك، هو أنه إذا ما تهددني الخطر فلن يكون عندي الوقت لشحذها، بل عليها أن تكون مستعدةً للعمل. جرى الفأر مسرعًا فوق جسم الأسد وهو نائم، فهبَّ من نومه غاضبًا وأمسك به يريد أن يلتهمه، غير أن الفأر توسل إليه أن يتركه، واعدًا أن يرد الجميل يومًا ما، فضحك الأسد من وعده وتركه لحال سبيله، ومرت الأيام إلى أن جاء يوم وقع فيه الأسد في حبائل الصيادين الذين ربطوه في شجرة بالحبال، وذهبوا لتناولوا الطعام، وسمع الفأر زمجرةَ الأسد، فذهب إليه مسرعًا، وراح يقرض الحبل بأسنانه، ويقول: لقد سخرت مني ذلك اليوم عندما وعدتك برد الجميل؛ لأنك لم تتوقع أن أرد لك كرمك، وهأنذا أفعل الآن، ولعلك تدرك أنه حتى الفئران تقدر على الاعتراف بالجميل. شد انتباه الأسد ما يحدثه نقيق الضفدعة، وقد ظنه في البداية يصدر عن حيوان كبير الحجم، وبعد أن انتظر لحظةً شاهد الضفدعة تخرج من البركة، فجرى إليها ووضع قدمه فوقها؛ لسحقها، ويقول: عجبًا، حجم مثل حجمك يصدر هذا الصوت العظيم.

دعا فأر من الريف صديقًا له يعيش في المدينة لطعام للعشاء، وعندما حضر الصديق قدم له فأر الريف طعامًا كان يتألف من الشعير والقمح فقط، فقال فأر المدينة لصديقه: دعني أقل لك شيئًا وأرجو ألا تغضب، أنت تعيش يا صديقي مثل النملة، أما نحن في المدينة فلدينا وفرة في الطعام من الأشياء الطيبة، ولو قبِلت دعوتي إلى زيارة المدينة فسوف تشارك فيها، وفي الحال سافر الاثنان إلى المدينة، وعندما قدم فأر المدينة لصديقه البازلاء والفول والخبز، والبلح والعسل والجبن والفاكهة، أصيب فأر الريف بالذهول، وهنأ زميله من صميم قلبه، ولعن حظه العاثر، وكان على وشك البدء في تناول وجبة الطعام الشهية عندما انفتح الباب فجأةً ودخل شخص، وهنا قفز المخلوقان الجبانان مرتاعين من الصوت، وفرَّا مذعورين إلى الشقوق، ثم حين عادا وحاولَا أن يتناولا بعض التين الجاف، رأيَا شخصًا آخرَ يدخل الغرفة كي يأخذ شيئًا، فقفزَا إلى الحجر من جديد، فقال فأر الريف: أنا لا أبالي أن أموت جوعًا، وداعًا يا صديقي، هنيئًا لك ما أنت فيه من رغد وشبع، ولكن ذلك يكلفك كثيرًا، إذ إنك تعيش دائمًا في رعب، وعلى حافة الخطر، أما أنا فأفضل أن أتناول وجبات فقيرة من القمح والشعير دون خوف أو إحساس بالخطر. في يوم من أيام الشتاء وجد الفلاح أفعى تكاد أن تتجمد من البرد، فتحرك قلبه شفقةً عليها والتقطها ووضعها في صدره، لكن مع الدفء عادت إليها غريزتها الطبيعية، فلدغت الرجل الطيب الذي أحسن إليها لدغةً قاتلةً، فقال وهو يحتضر: لقد نِلت ما أستحق، لأنني أخذتني الشفقة بمخلوق شرير.

وقد وَضعت كل الشعوب القديمة تقريبًا حكاياتٍ شعبيةً فيها شخصيات لحيوانات ذات صفات آدمية، فالثعلب -مثلًا- كان يصور على أنه ماكر، والبومة على أنها عاقلة في بعض الثقافات، ونذير شؤم في بعض الثقافات الأخرى. وبمرور الوقت بدأ الناس يحكون الحكايات لتعليم الأخلاق الحميدة، وأصبحت الحكاياتُ خرافيةً. وينظر تعقب أصل الحكايات الخرافية الشعبية في البلاد الغربية إلى بلاد اليونان والهند القديمة، وتُنسب معظم الحكايات اليونانية إلى "يعسوب" أو "إيسوب" ذلك العبد اليوناني الذي عاش في حوالي عام ستمائة قبل الميلاد، وقد اكتسب شهرته لقدرته على قص حكايات فيها حكمة وذكاء وفكاهة على لسان الحيوانات، غير أن العلماء لا يعرفون عنه سوى القليل. ومن المحتمل أن الحكايات المعروفة باسم "حكايات يعسوب" جاءت من عدة مصادر قديمة، وبعضها هذه القصص مصدرها الهند. وقد تأثرت حكايات الشعب الهندي باعتقادهم بأن بني البشر يُولَدون بعد الموت على هيئة حيوانات، وألف رواة القصص الهنود حكايات كثيرة عن مثل هذا البعث أو الميلاد الجديد، واستخدموه لتلقين مختلف الدروس الأخلاقية، كما وصلت بعض هذه القصص إلى الغرب في بداية التاريخ الميلادي، وتم ضمها إلى المجموعات الأولى لـ"حكايات يعسوب" وخلال القرن الثالث قبل الميلاد أو بعده جمع الهنود أفضلَ حكاياتهم في عمل يسمى "بانتشا تنترى" وعبر القرون أعاد كثير من الكتاب رواية الحكايات الخرافية القديمة. وفي الثقافة العربية الكثير من الخرافات التي تعود إما لأصل محلي أو جاءت من ثقافات أخرى كما في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع. ويحكَى أن كلمة خرافة في

العربية جاءت من اسم شخص من بني عذرة يدعى بهذا الاسم، كان يروي حكايات غريبة. ويقول فاروق سعد محرر رسالة (تداعي الحيوانات على الإنسان التي وضعها إخوان الصفا): إن تلك الرسالة تعد نموذجًا راقيًا لملحمة الحيوان، وهي تقوم على اكتمال العناصر الشكلية والموضوعية التي يتميز بها هذا النوع الأدبي، ومسرح أحداث هذه الملحمة هو جزيرة يقال لها "بلاسارون" تقع في وسط البحر الأخضر مما يلي خط الاستواء، وتتميز بطيب هوائها، وكثرة مياهها وزروعها، ولا تقتصر شخصيات هذه الملحمة على البشر والحيوان فقط، بل تجمع أيضًا الجن ممثلين في شخص رئيس المحكمة الملك "بيوراس" الحكيم وأعضائها، أما البشر فهم نحو سبعين رجلًا من بلدان شتى بينهم عراقي وهندي وعبراني وسرياني وعربي ويوناني وفارسي وحجازي. أما الحيوانات فقد اجتمعت كلها في المحكمة على اختلاف ألوانها وأجناسها، فالسباع وملكها الأسد، والطيور وملكها السيمرن، والجوارح وملكتهم العنقاء، وحيوان البحر وملكهم التنين، والهوام وملكها الثعبان، والحشرات وملكهم اليعسوب. لقد طرحت العاصفة سفينةً من سفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان فيها قوم من التجار والصناع وأهل العلم وسائر أبناء الناس، فخرجوا وساحوا في تلك الجزيرة، فوجدوها كثيرةَ الأشجار والفواكه، والثمار والمياه العذبة، تتميز بالهواء الطيب والتربة الحسنة، والبقول، والرياحين، وألوان الزروع والحبوب، وبعد أن وجدوا الحيوانات متآلفةً معًا، طمعوا فيها فاستأنسوا بعضها، وهرب منهم البعض الآخر، حتى ضَجَّت الحيوانات منهم وفزعت إلى ملك الجزيرة

"بيوراس" ملك الجن تطلب عدله، فبادر "بيوراس" إلى دعوة بني الإنسان الذين أسرعوا بدورهم لعرض الشكايات من الحيوانات عبيدهم الآبقين، واستدعى الملك البهائمَ ليسمع جوابها، وأخذ كل من الطرفين يعرض ادعاءاته، ويعرض دفوعه الواحد تلو الآخر، وكان محور النزاع هو مدى ما للإنسان من حق السيادة على الحيوانات، وقد صدر الحكم في نهاية المحاكمة بأن البشر يتميزون عن غيرهم من المخلوقات بالخلود والبقاء، فأمر الملك أن تكون الحيوانات بأجمعها تحت أمرهم ونهيهم، منقادين لهم، فقبلوا مقاله، ورضوا بذلك وانصرفوا آمنين. وتستند الرسالة في معالجتها لموضوع الخلاف بين البشر والحيوانات على أدلة نقلية من القرآن الكريم، وأخرى فلسفية أملاها العقل يحتج بها الإنسان؛ ليبرر بها سلطته على الحيوان، يقابلها الحيوان بأدلة أخرى نقلية وعقلية، يرد بها على الإنسان، ويفند حجته. فمن ذلك هذا الحوار النقلي والعقلي بين الطرفين الذي أعطى الرسالة مكانتها وقيمتها: قال الملك: قولوا ما تريدون وبينوا ما تقولون، قال زعيم الإنس: نعم أيها الملك، إن هذه البهائم والأنعام والسباع والوحوش والحيوانات أجمع عبيدنا، ونحن أربابها، فمنها هارب عاص ومنها مطيع كاره منكر للعبودية، فقال الملك للإنسي: ما الدليل؟ وما الحجة على ما زعمتَ وادعيت؟ قال الإنسي: نعم أيها الملك، لنا دلائل شرعية سمعية على ما قلتُ، وحجج عقلية، فقال: هات، فقام خطيب من الإنس من أولاد العباس -رضوان الله عليه- فصعد المنبر فقال: الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، صاحب الشفاعة يوم الدين،

وصلوات الله على الملائكة المقربين، وعلى عباده الصالحين، وأهل السماوات والأرض من المؤمنين والمسلمين، وجعلنا وإياكم منهم برحمته، وهو أرحم الراحمين. والحمد الله الذي خلق من الماء بشرًا وخلق منه زوجةً، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وأكرمَ ذريتهما، وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات، قال الله -عز وجل-: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل: 5، 6)، وقال -عز وجل: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: 22)، وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (النحل: 8)، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (الزخرف: 13). وآيات كثيرة في القرآن والتوراة والإنجيل، تدل على أنها خلقت لنا ومن أجلنا، وهي عبيد لنا ونحن أربابها، وأستغفر الله لي ولكم. قال الملك: قد سمعتم معشر البهائم والأنعام ما ذكر الإنسي من آيات القرآن، واستدل بها على دعواه، فأي شيء عندكم فيما قال؟ فقام عند ذلك زعيمها وهو البغل، فقال: الحمد الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، القديم السرمدي، الذي كان قبل الأكوان بلا زمان ولا مكان، ثم قال: كن، فكان نورًا ساطعًا أظهره من مكنون غيبه، ثم خلق من النور نارًا أجاجًا، وبحرًا من الماء رجراجًا ذا أمواج، ثم خلق من الماء والنار أفلاكًا ذات أبراج، وكواكبَ وسراجًا وهاجًا، والسماء بناها، والأرض طحاها، والجبال أرساها، وجعل أطباقَ السموات مسكنَ للعليين، وفسحة الأفلاك مسكن الملائكة المقربين، والأرض وضعها للأنام، وهي النبات والحيوان، وخلق الجان

من نار السموم، وخلق الإنس من طين، ثم جعل نسلهم من سلاسة من ماء مهين في قرار مكين، وجعل ذريتهم في الأرض يخلفون؛ ليعمروها ولا يخربوها، ويحفظوا الحيوان، وينتفعوا بها، ولا يظلموها، ولا يجور عليها، وأستغفر الله لي ولكم. ثم قال: ليس في شيء مما ذكر هذا الإنسي من الآيات أيها الملك دلالة تدل على ما زعم أنهم أرباب ونحن عبيد، إنما هي آيات تدل على إنعام الله عليهم، وإحسانه إليهم، فقال: سخرها لكم كما سخر الشمس والقمر والرياح والسحاب، أفترى أيها الملك أنها عبيد لهم ومماليك وأنهم أربابها؟ أخذ زعيم الحيوان يبين لملك الجان أن الخلائق كلها في السموات والأرض مسخرة بعضها لبعض، إما لجلب منفعة أو لدفع مضرة، هذه العلة لا كما ما ظنوا وتوهموا، وقالوا من الزور والبهتان بأنهم أرباب لها والحيوانات عبيد لهم، ثم جعل زعيم الحيوان يصف الحياة البدائية الأولى التي عاشوها قبل آدم، وما كانوا عليها من السعادة والصفاء والمودة والتفاهم، حتى جاء آدم وانتشرت ذريته وأخذوا في تسخير الحيوانات من غنم وبغال وحمير وخيول وبقر، وطاردوها شر مطاردة، فأمسكوا ما أمسكوا، وما لم يمسكوه ذهب في فِجاج الأرض، والبراري والقفار وبطون الأودية، ورءوس الجبال، واستغلوها أبشع استغلال من حمل وركوب، وجر وشد، وحرث ودياس، وقتل وسَلْخ، وحطم وكسر، وجَز ونتر، وشي وطبخ. وبعد أن وصف زعيمها صنوف العذاب التي لاقوها من بني الإنسان، وألوان الاستعباد التي عانوها، دعا للملك، وطلب منه النصفة والعدل.

وهنا يتوقف سَوْق الأدلة النقلية، ويأخذ الإنسان والحيوان في إيراد الأدلة العقلية حتى نهاية الرسالة، إذ يأتي الإنسي بحجة عقلية وبرهان منطقي، فيرده عليه الحيوان بحجة وبرهان, ومن ذلك هذا الحوار: قال الملك للإنسي: إن الدعاوَى لا تصح عند الحكام إلا بالبينات ولا تقبل إلا بالحجج، فما حجتك فيما قلتَ وادعيت؟ قال الإنسي: إن لنا حججًا عقليةً ودلائلَ فلسفيةً تدل على صحة ما قلنا، قال الملك: ما هي؟ بينها، قال: نعم، هي حسن صورتنا، وتقويم بنية هيكلنا، وانتصاب قامتنا، وجودة حواسنا، ودقة تمييزنا، وذكاء نفوسنا، ورجحان عقولنا، كل هذا دليل على أننا أرباب وهم عبيد لنا، قال الملك لزعيم البهائم: ما تقول فيما ذكر؟ قال الزعيم: ليس شيء مما قال دليلًا على ما ادعى هذا الإنسي، اسمع ما أقول، واعلم بأن الله تعالى لم يخلقهم على تلك الصورة ولا سواهم، ولا تلك البنية لتكون دلالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة لتكون دلالةً على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك الصورة أصلح لهم، وهذه أصلح لنا. وبيان ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأولاده عراةً حفاةً بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر ولا صوف على جلودهم تقيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمرات الأشجار، ودِثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة مرتفعة في جو الهواء، جعل أيضًا قامتهم منتصبة؛ ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا لما جعل غذاء أجسامنا من حشائش الأرض، جعل بنية أبداننا منحية ليسهل علينا تناول العشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صورتها منتصبةً، وصورتنا منحنيةً، لا كما توهموا. وهكذا وهكذا، تأخذ الرسالة في ضروب من الحجج والبراهين والأدلة العقلية.

ولكن ما هي الاعتبارات التي أعلت من شأن الإنسان، ومنحته مكانته ومنزلته، وأعطته مقام الربوبية على الحيوانات، أُولى هذه الاعتبارات قيمة العقل، وكون الإنسان حكيمًا عاقلًا ذا مقدرة على الفهم والتأمل والدرس، وبواسطة هذا العقل يحصل العلوم والمعارف والمهارات التي تخضع له الطبيعة، وتجعله يقر بخالقها. قال الأسد: لماذا يفتخرون علينا ويستحقون الربوبية أم بالشجاعة والجسارة أما بالحملات والوثبات؟ قال الرسول: ليست الحكومة ولا المناظرة بحضرة ملك الجن في قصرة من هذه، وإنما الحجاج بفصاحة الألسنة، وجودة البيان، ورجحان العقول، ودقة التمييز، وليس يفتخر بنو آدم بشيء من هذه ولكن برجحان العقول، وفنون العلم، وغرائب الآداب، ولطائف الحيل، ودقة الصنائع والفكر، والتمييز والروية، وذكاء النفوس، وثاني هذه القيم تصرفهم في فنون العلم والبحث والتجربة والمغامرة في البر والبحر، وعمارة الأرض، وتسيير دفة الحياة. قال خطيب الإنس بعد كلام طويل أثنى فيه على الله -سبحانه وتعالى- بما هو أهله: فله الحمد والمن والثناء، إذ خصنا بذكاء النفوس، وصفاء الأذهان، ورجحان العقول، فنحن بذات الله استنبطنا العلوم الغامضة، وبرحمته استخرجنا الصنائع البديعة، وعمرنا البلاد، وحفرنا الأنهار، وغرسنا الأشجار، وبنينا البنيان، ودبرنا الملك والسياسة، وأوتينا النبوة والرياسة. وبعد ذلك تكلم اليوناني فقال بعد أن مجد الله وحمده: وجعلنا ملوكًا بالخصال الفاضلة، والسير العادلة، ورجحان العقول، ودقة التمييز، وجودة الفهم، وكثرة العلوم، والصنائع العجيبة، والطب والهندسة وعلوم النجوم، وتركيب

الأفلاك، ومعرفة منافع الحيوانات والنبات، ومعرفة الأبعاد والحركات، وآلات الأرصاد والمطلسمات، وعلم الرياضيات والمنطقيات، والطبيعيات والإلهيات، فله الحمد والشكر والثناء على جزيل العطايا. والرسالة تتوجه في خطابها إلى الإنسان في كل زمان ومكان بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لغته أو قوميته. والدليل على ذلك أننا نجد جميع أصناف الناس وشتى طوائفهم وكافة أديانهم، انظر إلى إخوان الصفا عند ختام المحاكمة كيف جعل المتحدث الذي له كلمة الفصل، فقال عند ذلك الخبير الفاضل، الذكي العابد، المستبشر الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي الإسلام، العراقي الأدب، العبراني المخبر، المسيحي المنهاج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي التعبير، الصوفي الإشارات، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، الإلهي المعارف، فقال: الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على النبي محمد وآله أجمعين أما بعد: أيها الملك العادل، لما بان وتبين في حضورك صدق ما ادعى جماعة الإنس، وظهر عندك أن من هؤلاء الجماعة قوم هم أولياء الله، وصفوته من خلقه وخيرته من بريته، وأنهم لهم أوصاف حميدة وصفات جميلة وأعمال ذكية، وعلوم متقنة، ومعارف ربانية، وأخلاق ملكية، وسير عادلة قدسية، وأحوال عجيبة، قد كلَّت ألسنة الناطقين عن ذكرها، وقصرت أوصاف الواصفين لها عن صفاتها، فما يأمر الملك العادل في حق هؤلاء الغرباء من الإنس وهؤلاء الحيوانات العبيد لهم؟ فأمر الملك أن تكون الحيوانات بأجمعها تحت أوامرهم ونواهيهم، ويكونوا منقادين للإنس، فقبلوا مقالته، ورضوا بذلك وانصرفوا آمنين في حفظ الله تعالى وأمانه.

ومن الأدلة على ذلك أيضًا: أننا نجد ذكر قوم موسى وعيسى وأقوالهم وأخبارهم، وكذلك ذكر البوذيين والبراهنة وعقائدهم، واليونانيين والفرس والسريان والرومان والهنود وغيرهم، فهي رسالة تتوجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان في مواجهة المخلوقات الأخرى من نبات وحيوان وجن، وتبين مكانته، وتوضح فضله على كافة الكائنات. ولكن لا يقعنَّ في وهنك ولا يستقر في خلَدك أن الرسالة جعلت الإنسان ينفرد ويطغى ويستبد بالأمر وحده في هذه الحياة من غير رادع ولا ضابط حتى يكون إلهًا أو شبيهًا بالإله، لا، بل هناك ضوابط تكبح جماحه، وكوابح تحد من طغيانه واستبداده، وتتجلى تلك الضوابط والكوابح في ذلك الكم الوفير من النقل لطبقات الأمة، وشرائح المجتمع من ملوك وساسة ووزراء وكتاب وأدباء وفقهاء، وقراء وتجار ومهندسين ووكلاء ومحاسبين، وفي تلك النقادات المرة الأجناس من روم وفرس وسريان وهنود وعرب وغيرهم، فعندما يقوم الهندي من جزيرة "سرنديم" ويتكلم ويثني على ربه ويمدح قومه، ويصف ما لهم من المزايا والخصال الحميدة، يرد عليه صاحب العزيمة في التو واللحظة ليكبح جماحه، ويضعه موضعه من غير تهويل ولا تحقير، فيقول له: لو أتممتَ الخطبة وقلت: ثم بُلينا بحرق الأجسام، وعبادة الأوثان والأصنام والقردة، وكثرة أولاد الزنا، وسواد الوجوه. وهكذا كلما افتخر جنس من الأجناس بمزاياه ومحاسنه، رده صاحب العزيمة من الجن إلى جادة الصواب، وردعه بذكر مساوئه وسيئاته لئلا يطغى ويضل، وكذلك عندما يفتخر الإنسان -جنس الإنسان- بطبقاته وملوكه ورؤسائه، يردعه الحيوان الواقف له على الناصية المقابلة كخَصم وقرين، ويوجهه ويعيده إلى جادة الحق وسواء السبيل.

قال زعيم الإنس: إن منا الملوك والأمراء والخلفاء والسلاطين، وإن منا الرؤساء والكتاب والعمال وأصحاب الدواوين، والقواد والحجاب والنقباء، والخواصة وخدم الملوك وأعوانهم من الجند، ومنا أيضًا الدَّهاقين والشرفاء والأغنياء، وأرباب النعم، وأصحاب المروءات، ومنا أيضًا الصناع وأصحاب الحرث، ومنا أيضًا الأدباء وأهل العلم، ومنا المتكلمون والنحويون والقصاص، وأصحاب الأخبار، ورواة الحديث والقراء والعلماء، والفقهاء والقضاة والحكام والعدول، وأيضًا منا الفلاسفة والحكماء والمهندسون والمنجمون والطبيعيون، فرد عليه زعيم الحيوانات، وأخذ ينتقد الطبقات طبقةً طبقةً، والطوائف طائفةً طائفةً. فمن ذلك قوله: وذلك أن منكم الفراعنة والنماردة والجبابرة والكفرة والفجرة والفسقة والمشركين، والمنافقين والملحدين والمارقين والناكثين والقاسطين والخوارج، وقطاع الطريق واللصوص والعياريين والطراريين، ومنكم أيضًا الدجالون والباغون والمرتابون، ومنكم أيضًا الغمازون والكذابون والنباشون، ومنكم أيضًا السفهاء والجهلاء والأغبياء والناقصون إلى آخره. وذلك أن أول شيئًا ذكرت وافتخرتَ به أن منكم الملوك والرؤساء ولكم أعوان، وما علمتَ أن أكثر ملوك الإنس ورؤسائهم لينظر في أمور رعيته وجنوده وأعوانه، إلا لجر المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنه، أو لأجل من يهواه بشهواته كائنًا من كان، وليس هذا من فعل الملوك العقلاء، ولا عمل الرءوس ذووا السياسة الرحماء، بل من سياسة الملك وشرائعه وخصال الرئاسة، أن يكون الملك والرئيس رحيمًا رءوفًا لرعيته، مشفقًا متحننًا على جنوده وأعوانه؛ اقتداءً بسنة الله الرحمن الرحيم الجواد الكريم الرءوف الودود لخلقه وعبيده.

وهكذا لم يترك إخوان الصفا طائفةً ولا طبقةً إلا وصوبوا إليها سهام النقد، ونبال التقريع، لا لشيء إلا لكي يمحصوا هذا الإنسان الذين أرادوه أن يكون خالدًا، ولا لشيء إلا لكي ينقدوا أوضاع عصرهم بصراحة وصدق، قل نظيرها. فكما ترى كتب إخوان الصفا قصة ضمنوها أبطالًا من الحيوانات مثلما فعل "إيسوب" وغيره ممن ألفوا هذا اللون من القصص، إلا إن هناك فروقًا بين ما صنعوه وما صنع "إيسوب"، فأبطال "إيسوب" كلهم حيوانات، على حين كان أبطال إخوان الصفا مزيجًا من الإنس والحيوان والجن أيضًا، كما أن حكايات "إيسوب" حكايات شديدة القصر، وتنزع إلى تقديم موعظة أخلاقية، أما إخوان الصفا فالأمر عندهم أوسع من ذلك مدى وأكبر، إذ يعالجون في قصتهم قضية فلسفية عميقة يقلبون فيها الرأي على كل جوانبه، بحيث يتبين لنا أن الحقيقة ذات أوجه متعددة، وأن الوصول إليها يحتاج إلى جهد وتقليب رأي، كذلك بينما نرى "إيسوب" قد ترك حكايات حيوانية كثيرة، إذ بنا لا نجد إخوان الصفا إلا تلك الحكايات التي بين أيدينا. ولكن ما صلة رسالة إخوان الصفا بحكايات "إيسوب"؟ هل تأثر إخوان الصفات بحكايات ذلك الحكيم الإغريقي ذي الأصل الحبشي؟ ليس هناك دليل على أن هذا التأثر قد وقع، إلا أن يكون ثَمة تأثر غير مباشر، وهو ما لا نستطيع في الظروف الراهنة أن نضع يدنا عليه. والخلاصة: أننا في الوضع الحالي ليس في مكانتنا أن ندلي بجواب على هذا السؤال رغم ما يوجد من تشابه عام شديد العمومية بين العملين.

ونفس الشيء يقال عن الصلة التي يتصورها البعض بين أبي العلاء المعري و"لافونتين" الشاعر الفرنسي الذي كان يعيش في القرن السابع عشر الميلادي باعتبار كل منهما من مبدعي قصص الحيوان، فقد ناظر "لافونتين" ديوانًا كاملًا سماه "الخرافات" " La fable " نحا فيه منحى حكايات "إيسوب" و (كليلة ودمنة) وغيرهما، كما ذكر في إعلان عن ديوانه المذكور آنفًا، فعمله إذًا قصائد قصيرة يعرض في كل منها حكاية سريعة، أبطالها من الحيوانات والطيور وما إلى ذلك. كما وصلنا عن المعري رسالة "الصاهل والشاحج" على لسان الحيوان أيضًا، إلا أن إبداع الشاعرين فيما عدا هذا التشابه العام الشديد العمومية، يختلفان اختلاف رسالة إخوان الصفا عن حكاية "إيسوب" كما أنه من غير المستطاع في الظروف الراهنة العثور على صلة تأثر وتأثير بين الشاعرين وإبداعيهما حسبما يتضح فيما يلي: فبالنسبة إلى "لافونتين" كتب محرر المادة الخاصة به في النسخة العربية من موسوعة "اليوكبيديا" أن براعته التي تتميز بها موهبتُه تظهر في عمله المعروف باسم "لي فابل" أكثر من أي عمل آخر من أعماله، وسار الكثيرون على نفس درب "لافونتين" في كتابة القصة الخرافية وبخاصة ما يدور منها حول الوحوش، واستلهم الشاعر أعماله من أعمال كل من "إيسوب" و"هوراس" و"بوكاشيو" و"ايلستو" و"تاسو". كما استلهمها أيضًا من الأدب الهندي القديم مثل "البانش تنترى" وهي مجموعة من القصص الخرافية التي تدور على ألسنة الحيوانات. ولقد ذكر هو ذلك بنفسه إذ قال في إعلان له عن ذلك الديوان: هذا هو كتابي الثاني الذي يحوي قصصًا خرافية تدور على ألسنة الحيوانات أقدمه للجمهور، ولا بد

أن أعترف أن الجزء الأكبر من كتابي قد استلهمته من كتابات (كليلة ودمنة) وهو اسم آخر لمجموعة القصص الخرافية التي تدور على ألسنة الحيوانات المكتوبة بالهندوسية والبذوية المعروفة باسم "بانش تنترى" والتي كتبها "فيشنو" الحكيم الهندي. وكانت المجموعة الأولى عبارة عن مائة وأربعة وعشرين من تلك القصص الخرافية، وتحمل عنوان "فابلشوازي" أي: خرافات مختارة، وشكل هذا الإصدار الأول ما يعرف الآن بالكتب الستة الأولى، وفيها احتذى "لافنتوين" حذو مَن سبقوه في كتابه هذا النوع من الأعمال مقتربًا جدًّا من أعمالهم، ولكنه تحرر من قيود الالتزام بأسلوبهم في المجموعات التالية، وهي المجموعات التي تظهر فيها العبقريات الحقيقية، وتظهر فيها أيضًا جرأة أفكار "لافنتوين" السياسية بالإضافة إلى مهارته وترحيل أفكاره عن الأخلاق، كذلك يتضح في سياق سرده القصصي إدراكه التام للطبيعة البشرية، وتمكنه الفني من صياغة أفكاره. ويُنتقد "لافنتوين" أحيانًا بأن نظرته إلى الطبيعة الإنسانية نظرة متشائمة سوداوية بشكل غير مقبول، وتشبه إلى حد بعيد نظرة "لارشفكو" الذي كان الشاعر يشعر تجاهه بالإعجاب العميق، ويمكن أن يُرد على هذه الفكرة: بأن العمل هجائي. ولقد كان "لافنتوين" واحدًا من أبرز من كتبوا أعمالًا هجائية لا بد أن يتصل بالضرورة بالجانب المظلم من شخصية الإنسان، وليس بالجانب المشرق منها. وربما أن يكون أفضل نقد لقصص "لافنتوين" الخرافية هو ما قاله اللغوي والمستشرق الفرنسي "سلفستر دو ساسي" عندما قال: إن تأثير قصص "لافنتوين" الخرافية يدخل السعادة على قلوب ثلاثة أجيال مختلفة، فالطفل يبتهج بالنظارة والحيوية التي تتميز بها القصة، أما دارس الأدب المتلهف فيجد فيها ضالته

المنشودة من الأدب تام الكمال الذي يظهر في طريقة السرد، بينما يستمتع الرجل المجرب ما فيها من تأملات بارعة في الشخصية الإنسانية وفي الحياة، ولم يقم أي شخص باستثناء البعض ممن قدموا أفكارًا عن "لافنتوين" تبدو مناقضةً مثل "روسُّو" وبعض أدباء مذهب الرومانسي مثل "مارتين" بإنكار أن الجانب الأخلاقي في قصص "لافنتوين" الخرافية له نفس التجدد والقوة التي يتمتع بها الجانب الأدبي منها. وهكذا أصبح كتاب "لافنتوين" من الكتب التي يتم تداولها بشكل شائع داخل فرنسا وخارجها؛ لأغراض تعليمية للأطفال أو للكبار من الأجانب، بغرض تعليمهم اللغة الفرنسية. ومن الأدلة الواضحة على جودة هذا الكتاب حقيقة أن هذا الاستخدام لهذا العمل الأدبي الفريد أو سوء الاستخدام -إذا صح التعبير- لم يستطِع أبدًا أن ينتقص من شعبيته كعمل أدبي، وقد قدم عمل "لافنتوين" المعروف باسم "لي فابل" نموذجًا سار على نهجه من بعده كل من كاتب القصص الخرافية "إيجناسك كرانسسكي" من بولندا، و"إيفان كراينوخ" من روسيا. أما عن رسالة "الصاهل والشاحج" للمعري، فقد كتب محي الدين اللاذقاني بصحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ الحادي والعشرين من فبراير، سنة ألفين واثنتين، تحت عنوان: "أمة في مواجهة العدوان من منظور البغل والثعلب والحصان" أن عنوان الكتاب هو اسما بطليها الصاهل والشاحج وهما الحصان والبغل، اللذان أجرى المعري أفكاره على لسانيهما، وأشرك معهما في رواية الأخبار الثعلب والحمامة، لكن بأسلوب يختلف عن حكايات (كليلة ودمنة) وتوزيع حكمها وأمثالها.

وقد حضرت الحمامة واسمها "فاختة" في أول الرسالة لأغراض الكوميديا: فارت الجمل من بغل لتنتقم لنفسها في مؤامرة ضمنية بينها وبين الحصان، ثم غاب ت عن المشهد مخلية المجال للبغل والحصان اللذين لم يفتح حواريتهما الطويلة إلا حضور الثعلب بأخبار ملك الروم، فقد كانت الأمة في مواجهة عدوان خارجي، والثعلب بمثابة وزير فيها، قريبًا لذلك الكائن المحدود المدارك في لحظة حاسمة من لحظات تاريخ أمتنا المجيد. ويمضي اللاذقاني موضحًا أسباب تأليف تلك الرسالة، قائلًا: إنه كان لأبناء شقيق المعري قطعة أرض بور قريبة من حماة، وكان الوالي يلزمهما دفع الضرائب، وقد طلب منه أن يتوسط لدى حاكم حَلب الذي كان يولي ولاة تلك المناطق كي يسقط عنهما الضريبة، فاستصغر الأمر، ولما زاد الإلحاح العائلي قدحت الفكرة في ذهن الشاعر، فكتب لحاكم حلب عزيز الدولة تلك الرسالة الطويلة، ومدحه فيها على طريقة مدائح المتنبي لكافور، وأثنى على انقطاعه للنظر في علم العروض، ولك أن تتصور حجم السخرية المبطنة من حاكم حلب، وهو من أصل رومي، وكان تابعًا لـ"منجد كين الأرمني" غلام الحاكم بأمر الله، وهو يترك شئون المقاطعة المهددة بالغزو في كل لحظة، ويتفرغ للمناقشات الزاحفات، والعلل في عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، وما أضافه واستدركه الزجاج وآخرون. ويمنح مؤلف رسالة "الصاهل والشاحج" في بعض المواقع إلى احتمال تعاون عزيز الدولة مع ملك الروم، فيستعين بوصول هدية منه إلى حاكم حلب، تتألف من عدد كبير من الغلمان، ثم يحاول أن يبرر أسبابها، وكل غرضه أن يثبت الخبر الذي أتاه به الثعلب. وفي ملكية هؤلاء الغلمان عدة أقوال، فبعض الناس يشيعون أنه هدية ملك الروم، وآخرون يقولون: إن عزيز الدولة اشتراهم بماله، وتلك الرواية لا تقلق

المعري ولا يتقصاها بعد أن أثبت الخبر، فأهم من ذلك كله أن حاكم حلب قرر أن يختن غلمانه، فكان ذلك أحكمَ قرارٍ سياسي يتخذه. وحديث المعري عن الأمة في مواجهة العدوان والاستعدادات لمقاومة الغزو المحتمل، كوميديا لغوية راقية، ففي هذه الرسالة شبه المجهولة يسيح المعري في الشمال السوري؛ ليعدد عوامل انتصار حاكم حلب الذي يتلهى بالعَروض والعدو على أبواب القلعة، فيجد أن النصر مضمون لغويًّا؛ لأن العدو حين يصل النيرب -وهي ضاحية من ضواحي حلب الحمدانية- ستصيبه الهزيمة حتمًا؛ لأن نيرب تعني في اللغة الداهية، وإذا مر جيش العدو بأرميناز -وهي بلدة قريبة من معرة النعمان- فالنصر مضمون؛ لأن أصلها إرميناز أي: غُلب فسكت، وعلى طريق الروم من أنطاكيا إلى حلب بلده تضمن النصر الأكيد لعز الدولة، وهي "بلانياس" المؤلفة كما يقول المعري من بلاء ويأس، وهي غير "بانياس" الساحل وهكذا. وكانت الأمة أثناء كتابة هذه الرسالة التجريبية على السخرية تغط في نوم عميق، وشبابها في كل مكان سادر في غطيطه؛ لأنه كان كحالنا في بعض أقطارنا هذه الأيام، محكوم عليه بالنفي والاغتراب وعدم المشاركة السياسية، فهو كعنترة يدعى إلى الحرب ولا يدعى إلى المجالسة والمسامرة في أوقات اتخاذ القرارات الكبرى. مما سبق يتبين أن المعري والشاعر الفرنسي لا يتشابهان إلا التشابه العام الذي نوَّهت به قبل قليل، وأنه لم تكن هناك في حدود علمنا صلة تأثر وتأثير بين الشاعرين، اللهم إلا إذا ثبت في مقبل الأيام أن "لافنتوين" قد اطَّلع رغم هذا على كتاب المعري وتأثر به على نحو أو آخر كما تأثر بـ (كليلة ودمنة) مثلًا حسبما قرأنا في إقراره ونفسه بذلك. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

الدرس: 21 علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية، والمثاقفة بين الشعوب، وتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه.

الدرس: 21 علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية، والمثاقفة بين الشعوب، وتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه.

علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية، والمثاقفة بين الشعوب، وتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه) علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية والمثاقفة بين الشعوب، وبتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه. العولمة: هي المصدر من عولم، وهو فعل مستحدث في اللغة العربية، شقاقًا من لفظ عالم، والمعنى اللغوي للعولمة: إكساب الشيء أو الأمر أو الشخص صفة العالمية. وهذه العولمة هي ترجمة لكل مة "قلوبلايزيشن" المستحدثة بدورها في اللغات الأوربية، والمأخوذة من "قلوب" أي: الكرة الأرضية وإن كان العالَم في أصل استعماله أوسع كثير من الأرض، إذ هو الكون كله لا الأرض وحدها، لكن المجاز قام بدوره هنا، فاستخدم الكل وأريد به الجزء، وهذا أمر معروف في الاستعمالات اللغوية، وليس في الفعل عولم أية مشكلة من الناحية الاشتقاقية، فهذه الصيغة الفعلية إحدى ثماني صيغ أصلها من الثلاثي، زِيد فيها حرف بغرض الإلحاق، ومنها: فعلل، وفوعل، وفعول، وفعيل، وفيعل، وفنعل، وفعنل، وفعلى. وجاء على هذا البناء الأفعال حوقل أي: قال: لا حول لا قوة إلا بالله، وخوزق أي: وضع على الخازوق، وهوجل أي: نام أو سار في الهجر، وهو الطريق غير الواضح، وبوتق أي: وضع في البوتقة، وجورب أي: ألبسه جوربًا، ونورج أي: درس بالنورج ... إلى آخره. فالفعل -كما ترى- ذو أصل عربي، ويجري على قواعد اشتقاق العربي، فهو عربي مائة في المائة.

أقول هذا تعليقًا على تشكك الدكتور حسام الدين الخطيب في أن يوافق النحويين على استعمال هذا الفعل ومشتقاته، وتأكيده أنه لا يوجد أساس لغوي لكلمة عولمة، وقوله: إنه إلى حد علمنا تأخرت الجهات المختصة في معالجة هذا الأمر. ولعله يقصد المجامع اللغوية، فها نحن أولاء قد وضحنا الأساس المعجمي والصرفي لتلك الكلمة، فلا خوف إذًا من استعمالها فهي عربية تمامًا كما قلنا منذ قليل. وليس من المعقول أن نقف حيارَى في كل مرة تقابلنا مثل تلك المسألة، بل علينا أن نعمل حسنا اللغوي ومعارفنا النحوية والصرفية والمعجمية، مستلهمين ذوقنا الذي اكتسبناه بممارسة لغتنا العبقرية التي لا يعجزها شيء، اللهم إلا خوف بعضنا أو تردده أحيانًا دون مسوغ. هذا من جهة التأصيل اللغوي. أما من الناحية الاصطلاحية لكلمة العولمة، فتقول المادة المخصصة له في "الموسوعة العربية العالمية": يطلق هذا المصطلح الذي انتشر في التسعينيات من القرن العشرين على عملية التداخل الثقافي بين أنحاء العالم المختلفة، وما ينتج عن ذلك من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي. والعولمة ترجمة لمصطلح إنجليزي، وقد اشتقت بالعربية من توحد العالم بتوحد المؤثرات الثقافية أو الحضارية، تحدث في العولمة نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال بين المجتمعات والدول، وانتقال المؤثرات من بلد إلى آخر بسرعة لم يسبق لها مثيل. فالاتصالات الهاتفية عبر الأقمار الصناعية، والمحطات الفضائية التلفازية، وانتقال الناس عبر المواصلات السريعة من طائرات وغيرها، كل هذه عوامل تزيد من تداخل الشعوب والثقافات ببعضها البعض. ونموذج الأخبار التي تنقلها

شبكات التلفازية المنتشرة عالميًّا مثال على توحد العالم في معلومات إخبارية واحدة تقريبًا. ومن الأمثلة الواضحة أيضًا ما يحدث على مستوى الحاسبات الآلية ودخولها في شبكة من الاتصالات التي تربط مستعملي الحاسب الشخصي والحاسبات المركزية الضخمة في نظام واحد يُطلق عليه "الإنترنت". لكن العولمة مثل التعددية الثقافية لم تؤد -كما يرى- الكثيرون إلى تعددية متساوية أو متوازية في المؤثرات الثقافية، وإنما تعكس الوضع الحضاري العالمي الذي يهيمن فيه النموذج الحضاري الغربي على غيره من النماذج، وإذا كانت تلك الهيمنة لا تتخذ شكل المواجهة المباشرة كما كان يحدث في الاستعمار الأوربي القديم للشعوب الأخرى، فإنها تتمثل في نوع من الزحف الحضاري السلمي وغير المباشر، كانتشار مطاعم الهمبورجر الأميركية، أو ملابس الجينز، أو أغاني الروك، أو من خلال سلاسل الفناقد الأميركية أو الأوربية أو شبكات التلفزيون الغربية، فعلى الرغم من أن هذه لم تنتج عن محو غيرها من المؤكلات أو الملابس أو أشكال الثقافة والاستثمار الاقتصادي الأخرى، فإنها زاحمتها إما إلى درجة الحد من الانتشار أو إلى ما يشبه الإلغاء التام، وذلك نتيجةً لأسباب كثيرة من أبرزها: عدم التكافؤ في المنافسة الاقتصادية. ومن هنا فإن هناك من يرى أن العولمة أدت وتؤدي في كثير من الأحيان إلى هيمنة نموذج حضاري واحد هو النموذج الغربي الأميركي في المقام الأول. ويحاول بعض المتحمسين للعولمة الثقافية أن يقنعوا الناس بأنها سوف تؤدي إلى إلغاء مختلف الحواجز التي ظلت قائمة تاريخية، ومن ثَم إلى زيادة التفاهم بين البشر والقضاء على التعصب والتنميطات؛ قفزًا فوق الحواجز الجغرافية والتاريخية والعرفية والدينية، وما إلى ذلك، ولا شك أن المشباك -أي:

الإنترنت- قد قرَّبَ المسافات بين الناس، وجعل الاتصال بين أي فرد وآخر في العالم في منتهى السهولة، دون أن يكون بالضرورة من وطن واحد أو دين واحد أو أصحاب لغة واحدة. ولكن هل يعني هذا أنه سوف تكون هناك مساواة بين الثقافات والجنسيات واللغات المختلفة؟ لا نظن ذلك، إذ لا شك أن أية علاقة بين طرفين إنما تعكس قوة كل طرف بالنسبة إلى الآخر، وليس من المعقول أن يتنازل الطرف القوي أو الأقوى عن ميزته ويسوي نفسه بالطرف الآخر، لا لشيء إلا لكي يكون مخلصًا لمفهوم العولمة، ذلك أننا لا نحيا في عالم من الملائكة، بل في عالم من البشر، فيه من النزوع إلى السيطرة والتعصب لما يخصهم، والرغبة في استدامة ما يميزهم عن غيرهم. فتلك طبيعة البشر: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43). وكما أن الدول الكبرى -وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية- تعمل على السيادة على الدول الأخرى في مَيْدان الاقتصاد والسياسة، فما الذي سوف يجبرها على أن تتخلى عن رغبتها تلك في ميدان الثقافة والآداب؟ بل إننا في ميدان اللغة نرى بأم أعيننا كيف أن السيادة في عالم السياسة والإنترنت وغيرهما هي اللغة الإنجليزية، وهو ما لا يمكن أن يتنازل عنه أصحاب هذه اللغة أبدًا، فيسووا بين لغاتهم وسائر لغات العالم، وهذا إن كان لكل لغة من المقومات والمؤهلات ما نجعلها تنجح في الوضع الراهن دفعةً واحدةً في مجال التسوية، ولا نظن ذلك، إذ ليس من المعقول أن ترتقي كل اللغات والثقافات والأمم دفعةً واحدةً إلى المستوى الذي بلغته اللغة الإنجليزية في هذا المجال عبر أزمان طويلة. ونحن حين نقول ذلك لا نقصد أن اللغة الإنجليزية أفضل من غيرها من اللغات في حد ذاتها، فأنا -مثلًا- أؤمن أن العربية أفضل منها وأكثر ثراءً من ناحية المزايا

الذاتية، أي: المزايا المتعلقة باللغة ذاتها وتاريخيها وأوضاعها الطبيعية، إلا أن الأمر لا يُحسم بهذه الطريقة، بل الذي يحسمه هو مدى تقدم الأمة صاحبة اللغة بما لديها من تقدم علمي وقدرات، ومطامع ثقافية وأدبية وسياسية، وما إلى ذلك، فهل تتساوى كل الدول والشعوب في هذا؟ بطبيعة الحال لا، وإلا فلِمَ كان كل هذا التفاوت الذي نلمسه جميعًا في المجالات المذكورة وغيرها بين دول العالم وشعوبه؟ كما أن أميركا وإنجلترا تعملان على دوام الانتشار الواسع الذي تحظَى به لغتهما سواء في المحافل والمؤسسات الدولية، أو في مجال الاستعمال الفردي في الحياة اليومية، أو الحياة الثقافية أو الأدبية، ليس ذلك فقط بل إننا لا نسمع أن الدول الكبرى -وعلى رأسها أمريكا كالعادة- تستغل هذه العولمة بالإضرار بالشعوب الأخرى دون وازع من ضمير. وأمامي الآن مقال كتبه جمال سلطان في جريدة "المصريون الضوئية" يتعرضون لمخاطر العولمة الناتجة عن أنانية بعض الدول ورغبتها الجامحة في الهيمنة على العالم، حتى لو كان ثمن تلك الهيمنة إنزال الأذى الشديد بالشعوب الأخرى بل إبادتها إن أمكن؛ كي تعيش هي في سيادة مطلقة لا يعكر من صفو سيادتها أحد، وهذا أمر لا غرابة فيه فقد سبق أن أباد الأمريكان شعبًا بأكمله يقدر عدد أفراده بعشرات الملايين إن لم يكن بمئاتها، ألا وهو شعب الهنود الحمر، الذي كان يسكن القارة الأمريكية الشمالية إلى أن خلا الجو تمامًا لهم، وأصبحوا هم أصحاب البلاد التي لم تكن لهم في يوم من الأيام، وأصبح الهنود في خبر كان. يقول جمال سلطان في الجريدة المذكورة بتاريخ الرابع من أكتوبر، سنة ألفين وتسع ميلادية، تحت عنوان: الخوف يجتاح العالم، انتشرت عبر أنحاء العالم

خلال الأسابيع الماضية احتجاجات واسعة على عملية فرض اللقاح الجديد لمرض أنفلونزا الخنازير، الاحتجاجات ليست وقفًا على العالم الثالث وحده، بل هناك خبراء وأطباء في الولايات المتحدة وأوربا ينشرون تقارير خطيرة على شبكة الإنترنت، تتحدث عن مخاطرَ جسيمة ترقى إلى مستوى الجرائم الإبادة الجماعية ترتكب في حق الشعوب بتعمد تعميم وفرض اللقاح الجديد. الاتهامات المنشورة تتحدث عن أصل فيروس أنفلونزا الخنازير، وأنه فيروس مركب في معامل متخصصة، أو كما يقول أحد هذه التحذيرات نصًّا: إن التحليل الدقيق للفيروس يكشف عن أن الجينات الأصلية للفيروس هي نفسها التي كانت في الفيروس الوبائي الذي انتشر عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر ميلادية. بالإضافة إلى جينات من فيروس أنفلونزا الطيور، وأخرى من سلالتين جديدتين H3N2، وتشير كل الدلائل إلى أن أنفلونزا الخنازير، هو بالفعل فيروس مركب ومصنَّع وراثي. انتهى النص. والحقيقة أنني ألاحظ موجات غير مسبوقة من إشاعة الخوف والرعب من هذا المرض على مستوى العالم كله، رغم أن الواقع العملي يقول: بأن مستويات في الإصابة به محدودة جدًّا إذا قِيست بالأمراض الوبائية الأخرى المنتشرة في العالم، كما أن المخاطر العملية حتى الآن التي يتسبب فيها لا تتسق مع حالة الترويع التي تنتشر الآن، فمِن بين قرابة ثلاثمائة إصابة حدثت في مصر تم شفاء جميع المصابين فيها تقريبًا، وكلهم قالوا: إنها أشبه بالأنفلونزا العادية، وحالتا وفاة فقط حدثتا، وكلتاهما ليست بسبب أنفلونزا الخنازير، وإنما بسبب إصابة الضحايا بأمراض خطيرة أخرى مثل القلب، جاءت الأنفلونزا مع الإهمال كسبب معاون في الوفاة. الاتهامات التي تدور الآن على نطاق واسع في شبكة الإنترنت وعبر تصريحات أطباء في مصر وبلدان عربية وأوربية مختلفة، تطرح علامات استفهام حقيقية حول عملية ابتزاز العالم بالخوف والرعب، المحتجون يتحدثون بمنطق لا يمكن

دحضه، وهو أننا أمام إصابات بالأنفلونزا لعدد لا يتجاوز عدة عشرات من الآلاف على مستوى العالم كله، ونحن نريد أن نحقن مليارات البشر عبر العالم بلقاح جديد ومريب، وقد ينتج عنه كوارث طبية لا نعرف جوهرها إلا بعد سنوات. البعض قال: إن نتائج اللقاح الجديد تظهر أعراضها الجانبية بعد سنة واحدة، فكيف نعرض مليارات البشر للمخاطرة التي تصل إلى حد الإبادة، بدعوى تحصينهم من مرض لا يمثل حتى هذه اللحظة بالدليل العملي أي خطر جسيم يهدد البشرية، وكل ما نسمعه خطب ودعايات تشبه الترويج لمنتجات شركات المنظفات، ومعجون الأسنان في الصحف والقنوات التلفزيونية. المحتجون يستدلون بأن "تشيكيا" أوقفت استخدام لقاح أنفلونزا الطيور قبل سنوات بعد أن اكتشفت أنه يحتوي على مواد تسبب السرطان، وتم وقف تعميمه في أوربا من لحظتها. ويقولون اليوم: إن لقاح أنفلونزا الخنازير يحتوي على مواد خطيرة للغاية، من أعراضها أمراض نفسية وعصبية، وتدمير للخصوبة وأمور أخرى. الناس في حيرة، والحقيقة أن ما نحن بصدده الآن إحدى كوارث العولمة، فبقدر ما عاش العالم إيجابيات ثورة الاتصال والمواصلات والقرية الكونية الواحدة، فإنه يعيش اليوم مخاطر وسوءات تلك القرية الواحدة، فإن أي خطأ أو تلاعب في شركة أو مؤسسة في عاصمة في شرق الدنيا أو غربها، يمكن أن يعرِّض سكان نجع بعيد في صعيد مصر لخطر الإبادة من دون ذنب جَنَوْه، والعالم اليوم أمام أزمة انعدام الثقة، لا أحد يثق في التصريحات الرسمية لا أحد يثق في أمانة ونزاهة مراكز الأبحاث، لا أحد يطمئن أبدًا لتقارير شركات الأدوية، والناس ممزقة بين خوفين؛ خوف النصابين العالمين، وخوف الأمراض المجهولة النسب والمصدر والخطر. انتهى كلام جمال سلطان.

ونفس الشيء يفعله الغرب في ميدان الثقافة والأدب، لنأخذ مثلًا ما يصنعه مع أي مبتدأ من شداة الأدب في عالمنا العربي، يتمرد في كتاباته على الإسلام والعروبة، وينشر القيم الانحلالية في أدبه، إنه يغدق عليه المال والشهرة، ويفتح له أبواب المناصب على مصراعيها أمامه، في الوقت الذي لا يتمتع بعشر معشار ذلك أي أديب أو كاتب يعتز بدينه وعروبته ويحرص على قيمه الأخلاقية، ولا يشنع على أمته، فيتهم تقاليدها الدينية الطاهرة بالتخلف والظلامية، وما إلى هذا من قاموس السخف والتنطع، الذي الذي مرضنا على سماع مفرداته منذ وقت طويل حتى مللناه مللًا كبيرًا. وكل مطلع على ما يجري في الساحة الفكرية والأدبية، يروعه كم الهجمات الضارية التي تشنُّ على الإسلام كل يوم بل كل ساعة، والتهم جاهزة على الدوام، والكذب مباح، بل فرض حتى ينجزوا ما يتغيونه من أهدافه شيطانية. والغرب مشهور بأنه لا يتذوق ثقافة التفاهم مع الآخرين، إنه في الغالب لا يفهم إلا لغةَ العنفِ والدمِ والصدامِ المروعِ، إنه يريد اقتلاع الإسلام وإحلال النصرانية محله، رغم أنه هناك لم يعودوا يبالون بالدين، ولا يرون في النصرانية غالبًا سوى خرافات عفى عليها الزمن. لكن عند سماعهم اسم الإسلام يعتريهم لون من الخبال لا يصلح مع الطب الذي نعرفه. ثم هل من المتوقع -ولا نقول: هل من الأفضل- أن تختفي الخصائص القومية والبيئية التي تميز أدبًا عن أدب في ظل العولمة التي نتحدث عنها؟ هل من المتوقع أن يسود العالم كله أدب واحد له طعم واحد، ويدعو إلى ذات القيم، ويهتم بنفس القضايا، ويتوصل لنفس النتائج؟

لا أظن ذلك أبدًا. إذ الإبداع الأدبي والثقافي إنما هو ابن بيئته، وسياقه لا يمكن أن يتحرر من هذا على الإطلاق، وإلا حكم الأدباء الذي يحاولون هذه المحاولة على أنفسهم وأدبهم بالضياع، نعم، ربما تتقارب الآداب أكثر، لو أن العالم كله أصبح دولة واحدة في مقابل دولة أخرى في القمر وثالثة في المريخ -مثلًا- بافتراض أن الحياة ممكنة في ذينك الكوكبين، ولكن حتى في تلك الحالة سوف تكون هناك سمات خارقة بين أدب كل إقليم وأدب غيره من الأقاليم في هذه الدولة المسكونية الواحدة، رغم التقارب الحادث بتأثير تحول الأرض كلها إلى دولة واحدة -كما أشرت. إن الله قد خلق البشر مختلفين حسبما نصت الآيتان من سورة هود، ونصهما: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119) وهذا الاختلاف عنوان ثراء وغنًى، ولو صار الناس جميعًا شيئًا واحدًا لفسدت الأرض وأسنت الحياة. ولو افترضنا -جدلًا- أن ذلك قد وقع، فما الذي يبقى للأدب المقارن ليفعله في تلك الحالة؟ إن وظيفة الأدب المقارَن هي في المقام الأول على الأقل المقارنة بين أدب أمة وأدب أمة أو أمم أخرى، ونحن نعرف أن المقارنة إنما تصح بين الآداب المختلفة لا بين منتجات الأدب الواحد ومبدعيه، أي: أنه لن يكون هناك موضوع للأدب المقارن على الأقل على النحو الذي نعرفه عليه الآن، اللهم إلا إذا تغير وتغيرت وظيفته ومهمته. وهناك نقطة أخرى تخص الأدب المقارن وتتصل بالعولمة، وهي تلك المتعلقة بأدب المبدعين المهاجرين من أوطانهم في العالم الثالث عادةً إلى هذا البلد الأوربي أو

ذاك، ترى كيف نتعامل مع إبداع هؤلاء؟ هل نظل ننسب إلى أدب أمتهم التي غادروها وانضموا إلى أدب أخرى؟ أم هل نضعهم مع أدب الأمة التي هاجروا إليها؟ وهذا ينطبق -مثلًا- على الأدباء الجزائريين الذين تركوا الجزائر واستقروا بفرنسا، وصاروا جزءًا من الشعب الفرنسي، ويكتبون أدبهم بلغة الفرنسيس، أو بأديبة كالدكتورة إهداف سويف القصاصة المصرية التي تزوجت بريطانيًّا تعيش وتعمل الآن في بريطانيا بوصفها واحدةً من الشعب البريطاني، حتى لو ظلت تحتفظ بجنسيتها المصرية، أو كالشاعرة والقصاصة الدكتور مهجة قحف أستاذة الأدب المقارن بالجامعات الأمريكية، التي نالت الجنسية الأميركية وأضحت واحدة من أفراد الشعب الأمريكي، رغم احتفاظها بحجابها وتأكيدها بأنها تعتز بذلك. ترى كيف ننظر إلى الأدب الذي يبدعه هؤلاء وأشباههم، ويكتبونه بلغة البلد الذي هاجروا إليه؟ أنعامله على أنه أدب إنجليزي أو فرنسي، ومن ثم يمكن أن نجري مقارنة بينه وبين نظير له في الآداب العربية؟ أم نعامله على أنه لا يزال أدبًا عربيًّا وإن كان مكتوبًا بلغة غير اللغة العربية؟ في رأي أن ذلك يتوقف على اتجاه هذا الإبداع وروحه، أهو مشدود إلى الوطن الأصلي ومشاكله وقضاياه وهمومه، وقيمه وتطلعاته، وتسري فيه الروح التي تسري في أدب ذلك الوطن؟ أم هو قد اندمج وسار يعبر عن أحوال الوطن الجديد وموضوعاته واهتماماته؟ إن كانت الأولى فهو أدب عربي مكتوب بالفرنسية أو الإنجليزية -مثلًا- أما إن كانت الأخرى فهو أدب فرنسي أو إنجليزي حتى لو كانت له بعض الخصوصيات الدقيقة وسط سائر إبداعات الأدب الذي ينتمي إليه. هذا عن العولمة.

أما العالمية: فهي المصدر الصناعي من كلمة عالم، وهي ترجمة لكلمة "يونفرسلزين" المأخوذة من كلمة "بايونفيرس" ومعناها العالم بمعنى الكون، وإن كانت مستعملةً هنا بمعنى المجتمع البشري على الأرض، من باب إطلاق الجزء على الكل مثلما قلنا في العولمة. إلا أن هذا المصطلح يخلو من الإيحاءات السلبية التي يحملها مصطلح العولمة، إذ يؤمى إلى الأخوة الإنسانية، وما ينبغي أن يسود بين الناس من تفاهم سبيله الحوار والتبادل الثقافي، وما إلى ذلك، على أساس من المساواة بين البشر ورجوعهم جميعًا إلى أصل واحد، وبخاصة في هذا العصر الذي قصرت فيه المسافات وتقاربت المتباعدات. يقول الدكتور حسام الدين خطيب: إن فكرة العالمية ليست جديدة في التاريخ الإنساني، بل لعل الإنسان خُلِق في الأصل عالميًّا. وهذا كلام لا غبارَ عليه إذا كان المقصود أن الله قد خلق البشر جميعًا من أصل واحد هو الماء والتراب، وأنهم ينتمون إلى أب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء، وأنهم مهما اختلفت بهم الأوطان والأزمان لهم نفس الغرائز، ويتمتعون بنفس المواهب، ولهم نفس المطامح والمخاوف، والأفراح والأحزان، وأنهم خلقوا بنفس الملامح. لكن لا بد أن نعرف أن هناك دائمًا فرقًا بين الفكرة والواقع، فالأمر هو فعلًا كما قلنا، إلا أن هذا لا يعني أن البشر يقبلون فكرة المساواة، ويتواضع بعضهم لبعض أو يسارع بعضهم لنجدة بعض على نحو تلقائي، بل لا بد لذلك من تربية أخلاقية ومرارة طويلة، ثم إنهم بعد ذلك ورغم ذلك كثيرًا ما يفشلون عند أول منعطف، إذ ينبغي حساب الأطماع والتنافسات والرغبة في التميز والتسيد، وإيمان كل فرد أو فريق بأنه أفضل من غيره، كذلك لا ينبغي أن ننسى عامل

البطء الشديد في وسائل المواصلات قبل العصر الحديث، مما كان يصعب جدًّا جدًّا قيام إحساس بالعالمية في ظله. ومن هنا فما كان أسهل -بل ما أسهلَ الآن أيضًا- أن تنشأ العداوات وتشتعل الحروب، وينسى الناس في غمرة هذا كله الأصل الواحد، وما يجب أن يسود بينهم من تفاهم وحب ومساواة، وتعاون وشعور بالأصل الواحد، والمصير المشترك، رغم اختلاف الأوطان والأعراف والديانات والثقافات. وعلى هذا، فإنني لا أستطيع أن أشاطر الدكتور الخطيب القول: بأنه على المستوى الديني والثقافي والفلسفي كان العالم القديم حتى مطالع العصر الحديث عالمي الأفق، إنساني الوجدان، ذلك أن الكلام هنا قد انتقل من ميدان الفكرة إلى ميدان الواقع، والواقع لم يكن بهذا الإشراق الذي توحي به العبارة، بل كانت هناك العداوات والحروب الشرسة الفتاكة التي يجتهد فيها كل طرف لسحق الطرف الآخر. ألا يتذكر الكاتب الحروب الصليبية -مثلًا- التي أسال فيها الفِرنجة دماء عشرات الآلاف من المسلمين، لا لشيء سوى أنهم يدينون بدين غير الدين الذي يدينون هم به؟! ألا يتذكر ما صنعه الإسلام بمسلمي الأندلس من قتل وسَجن، ونفي وتشريد، وإخراج من الوطن، جراء اختلاف الدين؟! بل ألا يتذكر الحروب بين دول أوربا نفسها بسبب المذهب الديني رغم اجتماعها على النصرانية دينًا للقارة كلها؟!

بل إن هذه المشاعر التفريقية لا تزال لها السيادة في العلاقات بين الدول والشعوب رغم انتشار أفكار العالمية والعولمة، وتزايد الشعور بأن الأرض قد صارت قريةً واحدةً بسبب تقدم وسائل المواصلات المادية والفكرية، وسرعتها الرهيبة. وها نحن أولاء المسلمين نصلى بعدوان الغرب على بلادنا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وجنوب السودان منذ مدة، وتنهدم البيوت والمساجد والمدارس والجامعات، ويسقط القتلى من إخواننا في تلك البلاد وأمثالها بأعداد مرعبة، ويعتدي جنوده على أعراض نسائنا، بل ورجالنا أيضًا، دون أي اعتبار لمفاهيم الإنسانية والعالمية، وما إلى ذلك. أما عن ارتباط العالمية بالأدب المقارن فالآداب جميعها أيًّا كان مستوى مبدعيها من الحضارة والثقافة والإبداع الأدبي، هي نِتاج إنساني يرتبط بطريقة أو بأخرى بغيره من الآداب، وعليه من المفيد معرفة الصلة التي تربطه بتلك الآداب الأخرى، والمقارنة بينه وبينها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: هناك ما يُعرف بعالمية الأدب، وهي شيء قريب مما نحن فيه، فما هي تلك العالمية؟ يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: إن عالمية الأدب معناها خروجه من نطاق اللغة التي كتب بها إلى أدب لغة أو آداب لغة أخرى، وهذه العالمية ظاهرة عامة بين الآداب في عصور معينة، ويتطلبها الأدب المتأثر في بعض العصور بسبب عوامل خاصة تدفعه إلى الخروج من حدود قوميته، إما للتأثير في الآداب الأخرى، وإما نشدانًا بما به يغنى ويكمن ويساير الركب الأدبي العالمي.

وواضح أنه يقصد هنا عملية التلاقح بين الآداب وأَخْذ بعضها من بعض بما يغنيها ويكسبها ما لم يكن فيها، وهذا من صميم الأدب المقارن. على أن هناك معاني أخرى لتلك العالمية منها ما قاله "بوتا" ومَن ساروا على دربه، من أن الآداب العالمية حين يتم تجاوبها بعضها مع بعض لم تلبث أن تتوحد جميعًا في أجناسها الأدبية، وأصولها الفنية، وغايتها الإنسانية، بحيث لا تبقى من حدود سوى اللغة، وما يمكن أن توحي به البيئة والإقليم. وهو ما ينكر الدكتور محمد غنيمي هلال إنكار تحققه في يوم من الأيام؛ لأن الأدب كما قال: هو قبل كل شيء استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية إلى الوطن والقومية، وموضوعه تغطية هذه الحاجات، فهي محلية موضوعية أولًا، وإن كان لا يمكن مع ذلك أن تشف هذه الحاجات عن غايات عالمية، ولكن من وراء التعبير عن المسائل والآمال والآلام القومية، وما يتبع ذلك من المواقف النفسية والخواطر الذاتية التي لا بد أن تدل أولًا على حال المؤلف، بوصفه مواطنًا أو فردًا من جماعة كبيرة، فالآداب قومية وطنية أولًا. وهذا صحيح، فإن الأديب -أي أديب- لا يستطيع تجاهل ما هو موجود أمامه، لكي يسبح في بحار العالمية دفعة واحدة دون المرور بالمحلية التي هي جزء من الإنسانية، ومن ثم فهي العالمية مصبوغة بصبغة محلية، على أن الأديب الكبير لا يفَنى في العنصر المحلي، جاعلًا إياه كل أكده، بل يتخذه نقطة انطلاق نحو الأشواق والأحزان والأفراح الإنسانية، وتصويرها بعمق من خلال هذا العنصر كما فعل ويفعل كل أديب عبقري. ومن العرب يمكن أن نضرب المثل بالروائي نجيب محفوظ الذي يرسم من خلال أحياء القاهرة المُعزية ما يشغل الإنسان في كل زمان ومكان، بحيث يجد القراء على

اختلاف بيئاتهم وأوطانهم ولغاتهم أنفسهم فيه، ويتفاعلون بقوة مع ما يُبدع، رغم أنه إنما يتحدث في الإساس عن الناس في بعض أحياء القاهرة. أما الدكتور الطاهر أحمد مكي فيقول: إن "بوتا" قد أعاد النظر في معنى عالمية الأدب، إذ رجع فوضح أن الفكرة التي ينادي بها ليست هي أن تفكر الأمم بطريقة واحدة، وإنما عليها أن تتعلم كيف تتفاهم فيما بينها. وإذا لم يكن يعنيها الحب المتبادل فلا أقل من أن تتعلم كيف تتسامح، فالحمد الله الذي جعل الفيلسوف والأديب الجرماني يرجع إلى ما يمكن وقوعه بدلًا من التعلق بأهداب ما يبدو مستحيلًا لا يُستثار تحقيقه. وثم معنى ثالث لمفهوم العالمية ألا وهو بلوغ بعض الأعمال الأدبية مستوى فنيًّا ومضمونيًّا سامقًا، بحيث يُقبل عليها النقاد والقراء من مختلف دول العالم، ويجدون فيها المتعة والفائدة، ويتفقون على أنها أعمال متميزة على مستوى العالم. لكن كيف تصل تلك الإبداعات لأيدي القراء من مختلف دول العالم؟ ليس هناك من سبيل إلا الترجمة، فهي وسيلة المواصلات التي تنقل تلك الأعمال إلى القراء، لكن مَن يقوم بهذه المهمة؟ إنهم ناس من الناس يخضعون لما يخضع له الناس من كسل وهوى وتعصب واعتبارات سياسية أو دينية أو أدبية، ومن ثَم فمن الممكن أن تترجم أعمالٌ لا ترقى إلى المستوى العالمي، وتهمل أعمال أخرى رغم قيمتها الفنية والإنسانية العالية. ولقد سبق أن أشرت قبل قليل إلى ما تصنعه المؤسسات الغربية الثقافية والسياسية مع أدباء العالم الثالث، إذ تقرر مَن ينخرطوا في خدمة مخططاتهم، وتُغدق عليهم نفحاتها، في الوقت الذي تضرب فيه صفحًا عمن يتأبى منهم على ذلك ويخلص لوطنه ودينه.

وترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغات الواسعة الانتشار، والكتابة عنها، والإشادة بها وبأصحابها، وتلميع أسمائهم، هي باب من أبواب المكافأة في هذا المضمار. ويتحدث الدكتور حسام الدين الخطيب عن تأثير المركزية الأوربية في ذلك الميدان، إذ ما أسرع أن تترجم وتختار للقراءة في كتب المختارات إبداعات الإغريق والرومان، وسائر الإبداعات الأوربية المعاصرة، في الوقت الذي يندر فيه ترجمة إبداع لأي عربي أو مسلم. ونقرر ما قلناه لتونا من أن الأدباء العرب والمسلمين الذين يحتفى بهم عادةً هم أولئك الذين يكتبون على هوى الغربيين، فيتناولون موضوعات بعينها كالإباحية الجنسية، والشذوذ، والتمرد، والإلحاد، والتغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، ويدعون إلى قيم تتصادم وقيم الإسلام، ويتداعون إلى نصرتها بدعوتها حرية الفكر والتعبير، وأن الأدب يعلو ولا يعلَى عليه، فلا ينبغي من ثم أن يخضع لأي قيمة دينية أو أخلاقية ... وهكذا. والآن، ما الذي ينبغي أن يصنعه المقارنون في هذا السياق؟ الواقع أن المقارن الغربي ينبغي أن يعلو فوق مثل تلك الاعتبارات لو أراد أن يكون مقارنًا محترمًا، فيبحث عن الإبداعات غير الغربية ويسلط عليها الضوء، دون أن يقيم للاعتبارات التي تناولناها لتونا أية أهمية. بل يعتمد على يمليه عليه ضميره النقدي وميزانه الإنساني المستقيم، وإذا وجد إبداعًا راقيًّا أشاد به بغض النظر عن أي شيء آخر، إذ لا ينبغي أن يكون لديه ابتداءً أي مانع من أن يكون الإبداع غير الغربي أفضل من نظيره الغربي المشابه له. ومن جهة أخرى فقد نبه الدكتور محمد غنيمي هلال إلى معنى مهم حين قال: إن عالمية الأدب في معناها الذي شرحناه، وهو خروج الآداب من حدودها القومية طلبًا لما هو جديد مفيد تهضمه وتتغذى به، واستجابةً لضرورة التعاون الفقهي والفني بعضهم البعض، لها أسسها العامة والتي تحدد سيرها.

المثاقفه بين الآداب وبعضها.

ثم مضى يذكر أهم تلك الأسس، ومنها: أنه ينبغي للأديب المتأثر البحث أثناء عملية الاختيار التي يقوم بها؛ بُغيةَ النهوض والتقدم عما يساعده في بلوغ هذا الهدف ويعصمه من التردي فيما يضيره، ومنه: الحفاظ على اللغة القومية، والخصائص العبقرية للأدب القومي، فلا يكون نقل الأدب القومي عن الآداب الأخرى تقليدًا أعمى، يمحو أصالته، ويربطه برباط التبعية والعبودية لتلك الآداب. وهو يرى أنه لا بد من التلاقح مع الآداب الأخرى؛ لأن أي أدب قومي لا يمكنه الاستقلال التام عن الآداب الأخرى، بل لا بد له من العطاء والأخذ، وإلا أصابه الركود والعطن. وفي ذات الوقت نبه الدكتور هلال: إلى أنه ينبغي للأدباء والنقاد والقراء ألا يتطرفوا في أي من الاتجاهين؛ اتجاه الحرص المبالغ فيه على التقاليد، أو اتجاه التطرف والتمرد على كل قديم، ونحن نوافقه في هذا، وعلى أهل كل أدب أن يزنوا الأمور في هذه الحالة بميزان العقل المستقيم والذوق السليم، متسلحين بالثقة بالنفس، وسعة الأفق، والحرص على الذاتية، التي تميز الأدب القومي التمييز الذي يُفتخر به دون تعصب مطلق لكل ما فيه، حتى لو ثبت ضرره، وكذلك دون التعبد لما عند الآخرين لمجرد أنه غربي حتى لو ثبت أنه خالٍ من القيمة. المثاقفه بين الآداب وبعضها وهذا يجرنا إلى الحديث عن المثاقفة بين الآداب، أي: أَخْذ الثقافات والآداب بعضها عن بعض؛ بُغيةَ التجديد والتطوير والتحسين، ومعروف أنه لو بقي الماء في مكانه دون حركة ودون تجدد لصار راكدًا تعافه الناس بل ضارًّا يؤذي. وهذه المثاقفه من شأنها أن توسع الأفق، إذ ترينا كيف أن الأذواق والأوضاع والقيم الأدبية تختلف من أدب إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، رغم أن هناك أشياء

مشتركة كثيرة أيضًا، وهذا الاختلاف دليل على ثراء الحياة وعلى غنى القدرة الإلهية المبدعة التي لا تنفد، ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وفي القرآن الكريم آية تقول: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119) وهذه الآية وإن كانت تتعلق بالأديان واختلافها واختلاف الناس بشأنها، من الممكن الاستشهاد بها هنا، فالاختلاف بين البشر لا يقتصر على الأديان، بل يشمل كل شيء يتعلق بهم، إنه سنة بشرية مثلما التشابه في بعض الجوانب سنة بشرية أخرى. ولا شك أن اطلاعنا على ما عند غيرنا وتحققنا من أنه يختلف كثيرًا أو قليلًا عما عندنا، جدير أن يعمق فهمنا للحياة والأحياء، ويوسع مداركنا ويجعلنا نتقبل الآخرين، ونتفهم حقيقة اختلافهم عنا، فنكون أرحب صدرًا وأقدر على التسامح مع تمسكنا بما لدينا في ذات الوقت، وإلا تحول الأدب المقارن نقمةً وأذًى إذا كانت ثمرته تمييع مواقفنا، والانتهاء بنا إلى العجز عن اتخاذ موقف ثابت نابع من إيمان حقيقي بفائدة ما في أيدينا وصحته وأحقيته. لنأخذ على سبيل المثال ما كتبه رفاعة الطهطاوي أبو المقارنين العرب في العصر الحديث، في موضوع المقارنة بين الأدبين العربي والفرنسي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريس) الذي كتبه وهو في فرنسا في النصف الأخير من ثاني عقود القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي أنشئ فيه أول كورسي الأدب المقارن في فرنسا، ولم يكن قد مر على وصول رفاعة إلى باريس إلا عامان. وهو كتاب عجيب لا يمكن تجاهله أبدًا إذا ما أردنا الكلام عن بدايات عصر النهضة في مصر، إذ يبدو وكأنه يحتوي على كل شيء يتعلق بذلك العصر. المهم أن كاتبنا قد خصص بضع صفحات من ذلك الكتاب على درجة عالية من القيمة في المقارنة بين اللغتين الفرنسية والعربية، وبين أدبيهما، ففي عدة مواضع

من ذلك الكتاب نراه يعقد مقارنةً بين لغتنا وبين لغة الفرنسيس، وبلاغتنا وبلاغة الفرنسيس، فيقول مثلًا: إن لكل لغة قواعد خاصة مِن تنظيم استعمالها والتفاهم بها، وأنه إذا كان لأقسام الكلمة في لساننا ثلاثة هي الاسم والفعل والحرف، فإنها في الفرنسية هذه الثلاثة المذكورة، مضافًا إليها الضمير، وحرف التعريف، والنعت، واسم الفعل واسم المفعول، والظرف، وحروف الجر، وحروف الربط، وحروف النداء، والتعجب، ونحوه، وإن الكلمة قد تكون حرف جر في موضع، وظرفًا هي نفسها في موضع آخر؛ لأنها إذا جاء بعدها اسم كانت حرفًا، بخلاف ما لو استقلت بنفسها فإنها تكون حينئذٍ ظرفًا. ومما قارن به بين اللسانين والبلاغتين أيضًا قوله: إنهم في فرنسا لا يعرفون نَظْم العلوم كما هو الحال عندنا في (الألفية) مثلًا، وهذا راجع إلى اتساع العربية، وضيق المجال في لغة الفرنسيين. وبالمثل تكلم عن الفرق بين العَروض العربية ونظيره الفرنسي، قائلًا: إن لكل لغة عروضها الخاص بها، وإن النثر الفرنسي لا يعرف التقفية، أي: أنهم لا يلجئون إلى السجع، بخلاف الحال عندنا حيث استخدموا السجع في الرثاء والخطب والتاريخ، وما إلى ذلك، حسبما يقول. كما أن المؤلفين الفرنسيين يهتمون بالتدقيق في ألفاظهم وعباراتهم، ويعملون على أن يجيء ما يكتبونه واضحًا لا يحوج إلى معاناة في الفهم والتعلم، ولا إلى ما كان يسمى عندنا بفك الألفاظ، ومن ثم فليس للكتب الفرنسية شروح ولا حواش، اللهم إلا إذا استلزم الأمر بعض التعليقات السريعة بمزيد من الضبط والإتقان.

وعلى نفس المنوال يمضي رفاعة مقارنًا بين البلاغة لدينا وبين البلاغة لدى الفرنسيين، فيقول: إن هذا الفن موجود في كل اللغات، ومنها الفرنسية بطبيعة الحال، بيد أنه في لغتنا أكمل منه في لغة الفرنسيين، كما أن علم البديع يوشك أن يكون خاصًّا بالعربية. وهو في هذه النقطة يختلف مع تلك الطائفة من الكتاب العرب القدماء ممن قالوا بخلو اللغات الأخرى من التشبيهات والاستعارات والمجاز، وما إلى ذلك. ويضيف الطهطاوي قائلًا: إن من الصور البيانية ما تستحسنه الأذواق في كل اللغات، ومنها ما يستحسنه بعض منها دون بعض، مثال ذلك: تشبيهنا الرجل الشجاع بالأسد، فهو تشبيه مقبول ومستحسن من الجميع، بخلاف كلام الشعراء العرب عن ريق الحبيبة، إذ لا يفهم الرجل الفرنسي ويعجز عن تذوقه، قائلًا: إنه بُصاق، والبصاق يبعث على النفور لا التلذذ. وبالنسبة للشعر الفرنسي يقول رفاعة: إنه يجري على عادة الجاهلية اليونانية التي تعرف لكل معنًى من المعاني ولكل شعور من المشاعر إلهًا خاصًّا، فتراهم يقولون: إله الجمال، وإله العشق، وهذا كفر كما صرَّح، وإن أضاف أنهم لا يعتقدون في شيء من هذا، بل هو مجرد تمثيل، وهو يحكم على الأشعار الفرنسية بأن الكثير منها لا بأس بها، ولا ريب أن هذا حكم جريء يستغربه الأديب العربي الحالي الذي قد يرى أن الآداب الأوربية أرقى من الآداب العربية، أما رفاعة فرغم إعجابه بجوانب كثيرة من مدنية الفرنسيين، كان يرى أننا متفوقون عليهم في أمور الدين والاعتقاد، وكذلك في ميدان الشعر والبلاغة. ومن الطريف قوله عن ترجمته لإحدى القصائد من الفرنسية للعربية: أخرجتُها من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام. ثم تعقيبه على جهده في ذلك بقوله: إن

الترجمة تذهب بحسن الأصل الأدبي في أية لغة، يستوي في ذلك أن تكون القصيدة منقولةً من الفرنسية بلغتنا أو العكس. هذا، وقد تكررت الإشارة إلى حرص الغرب على نشر ثقافته وآدابه في العالم على حساب الثقافات والآداب الأخرى، وهو ما يسمى بالاختراق الحضاري، أي: العمل على غزو الشعوب الأخرى غزوًا ثقافيًّا وأدبيًّا، وطبعها بطابع غربي؛ كي يسهل انقيادها وشعورها بأنها تابعة للغرب، فلا تبدي مقاومةً لمخططات في إخضاعها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، ومن ثَم لا يحتاج إلى جيوش يجيشها، وأموال ينفقها، وجنود وضباط تزهق أرواحهم في المواجهة بين المقاومة الوطنية وجيوش احتلاله. وقد سبق أني استشهدت بقول الدكتور حسام الدين الخطيب: إنه ينبغي الاعتراف بأن الذي تغير اليوم هو الوعي العالمي العام، بأن النموذج الغربي متفوق حقًّا في مختلف مجالات الثقافة والعلم، والإنتاج والقوة المادية، والاتصال، وغزو الفضاء، ولكن له مشكلاته ونقائصه وتناقضاته، ولا سيما بين المثل الأعلى المعلن والمثل غير الأعلى للهيمنة والسيطرة والاستيلاب، ولذلك ينبغي أن يكون الموقف منه حذرًا وانتقائيًّا وغيرَ مبني على الانبهار والتسليم الأعمى، كما أن هناك شيئًا آخر مهمًّا قد تغير في مجال المقارنة مع المركزية الأوربية، وهو الاعتراف الضمني أو الصريح بعظمة حضارات العالم القديم في إفريقيا وآسيا، والتسليم بما قدمته هذه الحضارات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية من إسهام مباشر أو غير مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية. وهنا أيضًا يقتضي الإنصاف منا الإشارة إلى أن عددًا لا يُستهان به من مثقفي الغرب وعلمائهم وأدبائه، أسهموا في دعم هذه الفكرة ونشرها، وإلى جانبها

خصوصية الأدب العربي وسماته، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن.

فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن في بلدان العالم القديم أو بلدان الجنوب، وضرورة وضعه في واجهة لائحة التثقيف اليومي للأجيال من جهة، والاستعانة به في جهة أخرى؛ لترسيخ النزعة الإنسانية والفطرية لدى جمهرة المتنقلة في العالم. ومثال ذلك رسالة منظمة اليونسكو، ولا سيما في مجال إحياء الثقافات المستضعفة، وإعادة بناء قائمة الروائع الأدبية العالمية، بحيث تشمل منجزات العالم القديم الثالث، وكل هذه التغيرات تصب في صالح المقارنة؛ لتجعل منها رافدًا فعالًا من روافد الصبوة العريقة للاتجاه نحو بناء حضارة إنسانية منسجمة مع ذاتها أو مثلها، وغير قائمة على التناقضات والتمييز بين الأنا والآخر. خصوصية الأدب العربي وسماته، وعَلاقة ذلك بالأدب المقارن وبالنسبة إلى خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن، نقول: إنه لمن الواجب على المقارن العربي المسلم أن ينتبه أن هناك فروقًا بين عاداتنا وتقاليدنا وعقيدتنا وأخلاقنا وأذواقنا، وبين نظيراتها عند الأمم الأخرى، وأن كل ذلك من شأنه على نحو أو على آخر، أن يطبع كل أدب بطابعه. وعلى هذا فلا بد عند الأخذ من الآداب الأخرى أو دراسة هذا الأخذ، أن نكون على بصيرة ووعي كاملين بها، فلا نترامَى على آداب الآخرين فرحين بتقليدها، أو النقل عنها باعتبار ما ننقله شيئًا جديدًا، وبالذات إذا كان خاصًّا بأمة من أمم الغرب القوية المتقدمة في عصرنا؛ ظنًّا منا أننا حين ننقل عن أي من تلك الأمم فإننا بهذه الطريقة نلحقها ونستعيرها في تقدمها وقوتها، إذ ليس كل ما يقدمه الغرب سليمًا دائمًا، فضلًا عن أن يكون نافعًا، وبالذات لنا نحن الذين نختلف

عنهم في أشياء غير قليلة، رغم ما يوحدنا معه ومع كل البشر من الملامح الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم المختلفة. ذلك أن هذه الاختلافات هي التي تشكل هُويتنا وذاتيتنا، ونحن حين نقول هذا لا نقوله على سبيل الشغب والمكابرة والرغبة في المخالفة، بل نقول ما يعرف الغرب ذاته، ويحرص عليه أشد الحرص حين يكون الأمر متعلقًا به وبهويته الحضارية والثقافية، لكنه بالنسبة لنا لا يريد أن نتذكره فضلًا عن أن نتمسك به، ونناضل من دونه. وقد تحدثنا من قبل عن كتاب أنور الجندي (خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقل الأدبي الحديث) الذي عمِل كل ما في وسعه على أن يستفزنا إلى البحث عما يغني أدبنا، ويحافظ على أصالته وقيمه الخيرة، وينفي عنه أضرار التقليد الضار الذي يضيع معالمه ويفسده، ويحمله ما لا نرضاه له من مضامين مؤذية تتنافى وقيمنا الإسلامية الكريمة. وموقفنا من الأدب العربي هو وجوب وَضْع هذا الأدب في كل عصور تحت المِجهر، فما كان في مضامينه متفقًا مع قيم الخير والجمال والحقيقة بالله، وما لم يكن قلنا فيه رأينا بمنتهى الصراحة، واستنكرنا ما يتضمنه من قيم الزيف والتشويه والأذى، على أن يكون مرجعنا في هذا هو الإسلام، وقيمه، ومبادئه، وليس معنى ذلك أننا ننادي بتحويل الأدب العربي إلى موعظة ونشرات دينية، بل معناه أن نترك للأديب الحريةَ كاملةً داخل ذلك النظام القيمي الإسلامي فلا يناقضه ولا ينقضه، وهو حر بعد هذا في أن يتناول من الموضوعات ما يشاء على النحو الفني الذي يشاء، أي: أننا في الوقت الذي لا نوجب على الأديب -مثلًا- أن يأمر

الناس بالصلاة، لا نقبل منه أن يكتب قصيدةً أو قصةً أو غيرَ ذلك من الإبداعات الأدبية يحرِّض الناس فيها على ترك الصلاة، أو يسخر من المصلين، وهكذا. قد يقال: إن الأدب والفن لا يزدهران إلا في جو الحرية!! فنجيب: بأن الحرية المطلقة لا وجود لها في أي مكان من العالم، والذين ينادون بهذا إنما يريدون التفلت من قيم الإسلام إلى قيم أخرى يريدون نشرها تحت ستار حرية التعبير، وهذا واضح مفهوم، رغم كل الغبار الذي يثيره هؤلاء في أعيننا كي لا نطلع على ما يخططون له. ومن الناحية اللغوية: فالمعروف أن العربية الفصحى كانت هي أداة الإبداع العربي على مر العصور، لا يعرف أداة غيرها، اللهم إلا في الزجل الأندلسي تقريبًا، وفي بعض خَرْجات الموشحات الأندلسية التي تختلط فيها بعض الكلمات الأجنبية بالكلمات العامية. ثم جاء العصر الحديث فأُثيرت مسألة الكتابة بالعامية، وتولى كِبر الدعوى إليها على حساب الفصحى طائفة من عُتاة المستشرقين، الذين لا تهمهم المسألة بذاتها قليلًا أو كثيرًا، لكنهم إنما يرمون من وراء ذلك إلى القضاء على لغة القرآن؛ لتمزيق الروابط التي تصلنا بالتراث وبكتاب الله وأحاديث رسول الله، ومن ثم ننسلخ عن ماضينا وهويتنا، ونضحي أمساخًا مشوهةً لا هم لها إلا تقليد الغرب في كل شيء. ثم سَرعان ما رأينا بعضَ الكتاب من الأدباء والنقاد يزينون لكتاب القصص والمسرحيات الصناعة العامية في الحوار، بحجة الحفاظ على الواقعية وصدق التصوير، ثم تتابعت الكتابات التي تفعل ذلك وكثرت نسبيًّا، وإن كان هناك في ذلك الوقت أدباء كثيرون وبخاصةٍ من ذوي القامات والمواهب العالية، لا يزالون يلتزمون الفصحى في كل شيء: سردًا، وحوارًا، ووصفًا.

فهذه سمة أخرى من سمات الأدب العربي التي ينبغي الحفاظ عليها وعدم التهاون فيها. وسمة أخرى لذلك الأدب ينبغي الحفاظ عليها، ألا وهي ألا تقوم بين المبدع والقارئ تلك الأسوار العالية الصلبة التي لا يمكن اختراقها، وبالتالي لا يمكن أن يفهم القارئ إبداع المبدعين، لقد كان الشاعر العربي على مر العصور حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاقَ في شعره ولا ألغازَ، اللهم إلا في بعض العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا؛ تسليةً للقارئ ليس إلا. أما في العصر الحديث -فكما سبق القول- أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي يُرجِعها المرحوم أنور الجندي إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوم والعواصف والليل البهيم المرتبط بالأساطير والرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب التي ينتشر فيها النور والشمس والضوء، وينكشف فيها الأفق تمامًا، ومن ثَم عجزت الأساطير والرمزيات وأدب الظلال أن تجد لها مكانًا عندنا. ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرءونه في النقد الغربي، أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من المعاناة في قراءة الشعر وفهمه، بل لقد يقولون: إن الشعر لا يُكتب ليُفهمَ بل ليشعَر به ليس إلا!! وليت شعري!! كيف يستطيع الإنسان أن يتمتع بشعر لا يمكن فهمه؟!

إن مثل تلك المزاعم العجيبة تناقض طبيعةَ العقل البشري الذي يقول: إنه في مجال الأدب لا يمكن أن يتذوق القارئ أو السامعُ أيَّ إبداعٍ ما لم يفهمه أولًا، ولو على نحو مقارب. أما مع غموضه واستغلاقه فهذا ما لا يمكن أن يكون. وهكذا، ينبغي أن يكون كل مِن الأديب الذي يأخذ عن الآداب الأخرى، والدارس المقارن الذي يتناول البحث في هذا الأخذ عن الآداب الأخرى على ذكر من هذا كله؛ حتى لا تنجر قدماه إلى الرمال المتحركة المهلكة، وهو يظن أنه سائر في الطريق والاتجاه الصحيحين دون أن يعرف أنه إنما يسيء صنعًا. والسلام عليكم ورحمة الله.

§1/1