الأدب العربي المعاصر في مصر

شوقي ضيف

مقدمات

مقدمات مقدمة الطبعة الثانية ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية: حين رجعتُ أعِد هذا الكتاب للطبعة الثانية، استأنفت النظر في فصوله وفي التراجم التي عرضتها فيه، ورأيت أن أضيف هنا وهناك زيادات لغرض التوضيح وإكمال البيان، وهي لا تُحدث أي تعديل في آرائي؛ بل تدعمها وتوثق دلالاتها. وأعترف بأنني تجشمت كثيرًا من العناء في تأليف هذا الكتاب، وترتيب مقدماته، وجمع الأسباب التي تعين على صحة نتائجه، وأنني بذلت جُهْدًا شاقًّا في دراسة من ترجمت لهم من أدبائنا النابهين، سواء في استقصاء حياتهم حتى تتضح ظروفُهم الثقافية والاجتماعية والنفسية، أو في نقد آثارهم وتحليلها حتى تنجلي خصائصهم، وحتى يأخذ كل منهم مكانه الدقيق من أدبنا المعاصر ونهضته القوية الرائعة. ولم أترجم لبعض مَن نالوا حظًّا بيننا من الشهرة الأدبية؛ اقتناعًا مني بأن أثرهم في تطور أدبنا المعاصر كان محدودًا، وأنا إنما أتابع هذا التطور لا كتابة دائرة معارف أدبية تستوعب أدباءنا على اختلاف حظوظهم وأقدارهم، فتلك وجهة أخرى، وليست على كل حال وجهةً للكتاب ولا غرضًا من أغراضه. ورأيت في هذه الطبعة أن أترجم لثلاثة؛ هم: إسماعيل صبري، وأحمد زكي أبو شادي من الشعراء، ومصطفى صادق الرافعي من الكُتَّاب. وليس لأولهم دور كبير في تطور شعرنا المعاصر؛ ولكنه تتمة طريفة لشعراء النهضة والإحياء من أمثال: البارودي وشوقي وحافظ بما امتاز به من شعره الوجداني. أما أحمد زكي أبو شادي فمن شعراء جماعة أبولو، وسيرى القارئ أن قيادته لهذه الجماعة أقوى من شعره. وأما مصطفى صادق الرافعي، فكان مثلًا قويًّا

للطرف المحافظ في أدبنا طوال العقدين الثالث والرابع من هذا القرن، إلى جانب ما امتاز به في نثره من عمق معانيه وروعة أسلوبه. وعجب كثيرون من أنني وضعت عباس محمد العقاد بين الشعراء، ولم أضعه بين الكُتَّاب، وهو حقًّا في طليعة الصفوة الممتازة منهم، غير أني ترجمت له بين الشعراء؛ لأن الشعر بطبيعته أطول حياة من النثر، وأشد قهرًا للدهر من حيث البقاء والخلود. وقد تحدثت في نفس الترجمة عن نثره وقيمته وما يقدم فيه من غذاء عقلي بديع. واللهَ أسألُ أن يلهمني السداد في القول والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل. القاهرة في أول يونية سنة 1961 شوقي ضيف

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى: أخذ الباحثون في الأعوام الأخيرة يُعْنَون عناية واسعة بدراسة أدبنا العربي الحديث؛ فقلما يمضي عام دون أن تُنْشَر فيه أبحاث جديدة، تترجم لشاعر معروف أو كاتب مشهور، أو لجيل بأجمعه من الشعراء أو الكُتاب، أو تصور نزعة وطنية أو قومية أو اجتماعية سرت بين أدبائنا، أو تصف فنًّا بعينه من فنوننا الشعرية أو النثرية. وبفضل هذه الأبحاث التي تتكاثر يومًا بعد يوم، وما تُلقي من أضواء على أدبنا العربي المعاصر؛ أصبح من الممكن أن يُكْتَب تاريخه كتابة تستوعب أطرافه وأطواره وآثاره وأعلامه. وأدركت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية حاجة الدارسين والمثقفين في العالم العربي إلى مؤلَّف جامع لهذا التاريخ، يستقصي العوامل الفعالة في تكونه وتطوره، ويحقق الصلات بينه وبين عصره وبيئاته، ويحلل شخصيات شعرائه وكُتابه وآثارهم الأدبية. وندبتْ إلى النهوض بهذا العمل طائفة من المتصلين بهذه الدراسات في بلادنا العربية؛ ليكتب كلٌّ منهم القسم الخاص بالأدب المعاصر في وطنه، على أن يكون مجملًا غير مبسوط، بمقدار ما يسد الحاجة ويجلب الكفاية. وحاولت جاهدًا أن أؤرخ لأدبنا المصري المعاصر، وأن أربط حلقاته ربطًا متناسقًا، يكشف عن المؤثرات والدوافع المختلفة التي عملتْ في حياته، ويصوِّر تطور شعرنا واتجاهاته التي نشأت فيه، وما يمتاز به كل اتجاه من خصال وخصائص، كما يصور تطور نثرنا وحركاته ومعاركه التي احتدمت فيه بين المجددين والمحافظين، وما عبر عنه من صور وفنون أدبية مستحدثة مثل: المقالة، والقصة، والمسرحية. وتحوَّلتُ إلى المبرزين من شعرائنا وكُتابنا الذين شادوا بجهودهم الخصبة صَرْحَ

أدبنا الشامخ، فدرستُ شخصياتهم الأدبية وأعمالهم الفنية القيِّمة دراسة مجملة، تتفق والغرضَ من تأليف هذا الكتاب. ولا أزعم أن هذا البحث الموجز تاريخٌ شاملٌ أو وافٍ لأدبنا المصري المعاصر، إنما هو خطوة في سبيل كتابة هذا التاريخ. وقد توخيت الإيجاز في عرض حقائقه ومسائله، وأغفلت من أجل ذلك ذكر مصادره ومراجعه. وكل ما آمله ألا أكون قصرت، وأن أكون حقًّا استطعت أن أؤدي الغاية التي إليها نزعتُ، والله الهادي إلى سواء السبيل. القاهرة في أول يونية سنة 1957 شوقي ضيف

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: صفحة الموضوعات 5-6 مقدمة الطبعة الثانية 7-8 مقدمة الطبعة الأولى 11-37 الفصل الأول: مؤثرات عامة 11 1- أحداث كبرى 19 2- تياران: عربي وغربي 30 3- المطبعة والصحف 38-82 الفصل الثاني: الشعر وتطوره 38 1- استمرار التقليد 41 2- نهضة وإحياء 58 3- جيل جديد 70 4- جماعة أبولو 75 5- شعر الوجدان الاجتماعي 79 6- الشعر التمثيلي 83-168 الفصل الثالث: أعلام الشعر 83 1- محمود سامي البارودي 92 2- إسماعيل صبري 100 3- حافظ إبراهيم 110 4- شوقي 121 5- خليل مطران 128 6- عبد الرحمن شكري

صفحة الموضوعات 136 7- عباس محمود العقاد 145 8- أحمد زكي أبو شادي 154 9- إبراهيم ناجي 161 10- على محمود طه 169-217 الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه 169 1- تقيد بأغلال السجع والبديع 172 2- حركة تحرر وانطلاق 188 3- بين الجديد والقديم 196 4- تجديد شامل 203 5- فنون مستحدثة: المقالة، القصة، المسرحية 218-307 الفصل الخامس: أعلام النثر 218 1- محمد عبده 227 2- مصطفى لطفي المنفلوطي 234 3- محمد المويلحي 242 4- مصطفى صادق الرافعي 251 5- أحمد لطفي السيد 261 6- إبراهيم عبد القادر المازني 270 7- محمد حسين هيكل 277 8- طه حسين 288 9- توفيق الحكيم 299 10- محمود تيمور

الفصل الأول: مؤثرات عامة

الفصل الأول: مؤثرات عامة: 1- أحداث كبرى: نحتاج في دراستنا لأدب أي أمة من الأمم إلى معرفة الأحداث الكبرى التي أثرت في حياة منشئيه؛ لأن الأدب في حقيقته مرآة ناصعة صافية تنعكس عليها حياة أهله وما تأثروا به من أحداث عامة وظروف خاصة. ولما كنا سنتحدث عن الأدب المصري منذ القرن الماضي، فإننا مضطرون إلى أن نرجع إلى الوراء لنربط الأحداث بعضها ببعض. ولعل أكبر الأحداث السابقة اقتحام الحملة الفرنسية لمصر في آخر القرن الثامن عشر، واصطدامها بهذا الشعب الذي كان يَرْزَحُ تحت أثقال الحكم العثماني منذ غزاه الترك في القرن السادس عشر، وأنزلوا بأهله البؤس والضنك والإعسار، ومن أهم خصائص الترك أنهم كانوا غزاة فاتحين، ولم يكونوا أصحاب حضارة ولا نظام في الحكم والسياسة. وقبل ذلك هدموا الحضارة البيرنظية في القرن الخامس عشر بفتحهم القسطنطينية؛ ولكن هذا الهدم لم يكن شديد الضرر؛ بل كان شديد النفع؛ فإن أصحاب هذه الحضارة هاجروا إلى أوربا، وساعدوا مساعدة فعالة في نشأة نهضتها الحديثة، بما نشروا فيها من الآثار اليونانية والرومانية. أما في مصر والشام -وكانا قد أصبحا مَوْئِلَي الحضارة الإسلامية منذ غزوات التتار للشرق العربي وغزوات المسيحيين الشماليين للأندلس- فقد هدم الترك

ما فيهما من حضارة بفتحهما، وحطموا كل ما وجدوه فيهما من صروح العلم والأدب والفن، ولم يُتَحْ لعلمائهما وأدبائهما وطن جديد يهاجرون إليه؛ بل نُفيت جماعة منهم إلى القسطنطينية، وبقيت جماعة في عقر ديارها خاملة، لا تستطيع أن تنتج علمًا ولا أدبًا، فقد فقدت حريتها، ولم تعد تجد ما تسد به رمقها، وبذلك انهارت الحياة العقلية والأدبية في مصر، لولا نشاط ضئيل ظل في الأزهر، وكان يحفه ظلام مطبق من الفقر والبؤس والحكم الظالم الغاشم. وفي هذه الأثناء نزلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في مصر عام 1798، ومكثت نحو ثلاث سنوات، كانت جميعها جهادًا عنيفًا وصراعًا مريرًا قاسيًا بين الشعب المصري والمعتدين. ولم يُجْدِ نابليون نفعًا ما أنشأه من مجالس شورى سميت باسم الدواوين، ألفها من طبقة المثقفين الأزهريين ومن كبار الأعيان والتجار، وجعل لها حق البحث في بعض شئون الحكم، وخاصة الضرائب؛ فقد كانت مجالس صورية لتنفيذ مآربه الاستعمارية في السياسة والإدارة. وقد ظل الشعب المصري يقاومه ويثور ضده وضد حملته ثورات متعاقبة، بذل فيها الدماء وعزيز الفداء. وكان لهذه المقاومة الباسلة وهذا الكفاح المرير أثرهما في نشأة الشعور القومي عند المصريين، وإحساسهم العميق بحقوقهم المشروعة في حكم بلادهم. فلما أقلعت الحملة عن ديارهم، وعادوا إلى حكم العثمانيين، رأوا أن من حقهم اختيار الوالي الجديد، واختاروا محمد علي، ووافقهم الباب العالي. وقد اطلع الشعب المصري من خلال هذه الحملة على بعض وجوه الحياة الأوربية؛ فقد رأى المصريون أفرادها يتناولون حياتهم المادية بصور لم يكونوا يألفونها، سواء في أكلهم وشربهم، أو في لهوهم وما كانوا يقيمون من حفلات التمثيل والغناء والرقص والموسيقى، وكانوا يرون نساءهم يمشين متأبطات لأذرعهم -كما يقول الجبرتي في الجزء الثالث من تاريخه- "وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفُسْتانات ومناديل الحرير الملونة، يَسْدلن على مناكبهن الطُّرَح

الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير، مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة". ولفتت الحملةُ المصريين إلى ما أصاب الغربيون من تقدم في العلم؛ فإن نابليون استقدم معه طائفة من العلماء البارعين المتخصصين في مختلَف العلوم التاريخية والطبيعية والرياضية، ولم يلبث حين نزل مصر أن أسس المجمع العلمي المصري على غرار المجمع العلمي الفرنسي، وانبعث العلماء الذين جاءوا معه يدرسون مصر من جميع أطرافها، وكانت ثمرة ذلك تسعة مجلدات طبعت في فرنسا "1809-1825" باسم "وصف مصر"، وهي أساس كل المعلومات التي عُرفت في أوربا عن مصر الحديثة. وأنشأ نابليون بجانب هذا المجمع العلمي معامل ومكتبة ومطبعة، وكانت المعامل تُعْنَى بالبحث العلمي التجريبي، وكان الفرنسيون يستدعون المصريين لرؤية ما يُجْرون من تجارب كيمائية لا عهد لهم بها، فيعجبون وينبهرون. يقول الجبرتي في أثناء وصفه لمعمل الكيمياء الذي أقاموه: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصَعِدَ منه دخان ملون، حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا، أخذناه بأيدينا ونظرناه. ثم فعل كذلك بمياه أخرى، فجمدت حجرًا أزرق، وبأخرى، فجمدت حجرًا ياقوتيًّا. وأخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل، انزعجنا منه، فضحكوا منا". ومن غير شك كان ذلك يدعو المصريين إلى التفكير في علمهم النظري، وأن وراءه علمًا في الغرب ينبغي أن يقفوا عليه. ورأى المصريون المطبعة التي جلبها نابليون معه، وكانت تطبع بالحروف العربية منشوراته وبعض الصحف الدورية؛ بل أخذت تطبع بعض الكتب.

ولم يكن للمصريين عهد لا بالمطبعة ولا بما تطبع من منشورات وكتب وصحف، فكان ذلك كله جديدًا عليهم. وقد ظن المصريون حين أقلعت الحملة عن ديارهم أنهم يبدءون تاريخًا جديدًا لأمة مجاهدة متحررة، فاختاروا محمد علي واليًا عليهم؛ ولكنه لم يَجْرِ معهم إلى آخر الشوط الذي كانوا يحلمون به؛ إذ نكَّل بمن اختاروه منهم. وقد أقام -مثل نابليون- مجموعة من الدواوين، سلبها حقوقها، فقضى بذلك على آمال المصريين ومطامحهم في اشتراكهم مع الحكام في حكم أنفسهم وتدبير شئونهم. وهو إن كان قد حطم آمال المصريين في هذا الاتجاه، فإنه بعثها في اتجاه آخر؛ إذ عُنِيَ بالجيش، وأراد أن يكون مثل جيوش الدول الكبرى عُدة واستعدادًا، فاضطُر اضطرارًا إلى الاستعانة بالأساليب الأوربية والمعلمين الأوربيين. وكانت مصر قد تهيأت لتفتح صدرها للعلم الأوربي، ووجد طريقه إلى المدارس التي أُنشئت من حربية وصناعية وهندسية وطبية. ولما كان المعلمون في هذه المدارس من الفرنجة، وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا عنهم؛ وُجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب؛ حتى يتقن المصريون اللغات الغربية، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية. وكل هذا ساعد فيه محمد علي ليوجد جيشًا قويًّا لنفسه، يحقق به أحلامه في إمبراطورية ضخمة، فلم يكن غرضه التعليم من حيث هو، أو رد الحياة العلمية الخصبة إلى مصر من حيث هي؛ وإنما كان غرضه شخصيًّا لنفسه ولأحلامه، فلما لم تتحقق أحلامه انصرف عن التعليم، وأغلق ابنه عباس المدارس من بعده. ولكن الصلة بين مصر وأوربا أو بين الحياة العقلية المصرية والحياة العقلية الأوربية قامت، ولم يعد من الممكن أن يُقْضَى عليها لسببين؛ هما: أولًا: وجود طائفة من العلماء المصريين الذين بُعثوا إلى أوربا، وعادوا ليثبِّتوا حركة المزج

الحديثة بين حياتنا العقلية وحياة الأوربيين. وثانيًا: مهاجرة كثير من الأوربيين إلينا، وتأسيسهم للشركات والمدارس في ديارنا، وزار مصر كثير من أدبائهم، وأخذت تؤثر بتاريخها القديم والحديث في أدبهم والأدب الأوربي عامة. لذلك لم يلبث سعيد أن فتح المدارس، وأخذت الحركة تنمو وتؤتي أكلها في عصر إسماعيل؛ فإنه استجاب للروح المصرية، ودعم الصلة بأوربا؛ فأنشأ "دار الأوبرا" و"المكتبة الخديوية"، وأكثر من المدارس الابتدائية والثانوية، وأقام مدرسة للبنات، وبذلك أصبح العلم للعلم، ولم يعد العلم للجيش، كما كان الشأن في أوائل القرن. وهنا نقف عند حادث مهم؛ وهو فتح قناة السويس في عهد إسماعيل، وكان لهذا الفتح آثار عملية واضحة؛ إذ قرَّبت القناة المسافات المادية بين الشرق والغرب، كما قربت المسافات المعنوية بين الشعوب الشرقية والغربية في اتجاهات تفكيرها وحضارتها، وكان لهذا الفتح أيضًا آثار سياسية بعيدة في العَلاقات الدولية؛ مما نشأ عنه -فيما بعد- احتلال الإنجليز لمصر. ففَتْحُ هذه القناة أثَّر في مستقبل مصر السياسي وفي العَلاقات بين الدول، وهو كذلك أثر في العلاقات العقلية على اختلاف أنواعها، سواء فيما يتصل بنا أو فيما يتصل بالأوربيين بعضهم ببعض؛ لأن العَلاقات العقلية والمادية جميعًا متشابكة متفاعلة. وكَثُرَ إقبال الأوربيين على مصر كما كثر أو زاد إقبال المصريين على أوربا، وأخذت تُرفع الحواجز التي تفصل بين الحياتين المتقابلتين: حياة المصريين وحياة الأوربيين. وقد أنشأ إسماعيل مجلس الوزراء ومجلسًا نيابيًّا، ووضع كثيرًا من القوانين على النمط الأوربي. ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى نلاحظ ما يمكن أن نسميه "نمو النزعة القومية"؛ فقد كان الشعب المصري في عصر محمد علي وعباس لا وجود له سوى الوجود الآلي، فهو آلات أو أدوات تُستغل لمجد محمد علي وأسرته وبطانته من الترك، على الرغم من أنه لم يكن

تركي الأصل؛ بل كان ألبانيًّا، إلا أنه وأسرته صبغوا أنفسهم بالصبغة التركية. وخير ما يمثل ذلك مسجده الذي بناه على طراز مساجد الآستانة. وقد أنشأ مطبعة بولاق، وعُنيت في أكثر الأمر بطبع الكتب التركية، ولما أصدر "الوقائع المصرية" كان يصدرها بالعربية والتركية، وكانت أساليبه الإدارية أساليب تركية خالصة. ومعنى ذلك أن أعمال محمد علي لم يكن فيها نزعة قومية ولا مصرية واضحة، وقد وَأَدَ بذور طموح المصريين لحكم أنفسهم -كما قدمنا- فلم يؤتِ ثماره؛ بل قضى عليه في مهده، ولكن أنَّى له! إن هذا الطموح لا يموت موتًا نهائيًّا؛ وإنما هو كالنار تبقى جذوته ضئيلة؛ ولكنها عاملة نشيطة. فلما ولي سعيد ومن بعده إسماعيل أخذ هذا الطموح ينمو في الأرض الطيبة، وساعد على ذلك دخول أبناء الفلاحين في الجيش، ووصول بعضهم إلى المناصب الكبيرة في الإدارة المدنية من مثل: رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمود الفلكي. وزار مصر جمال الدين الأفغاني سنة 1871، وظل بها نحو ثماني سنوات، دعا فيها دعوته المشهورة في الإصلاح الديني، والإفادة من ثقافة الغرب في الدفاع عن الإسلام، كما دعا إلى التحرر من تدخل الأجانب في شئون البلاد الإسلامية، والثورة عليهم وعلى من يمهد لهم من الحكام المستبدين، والتفَّ حوله الشيخ محمد عبده وغيره. وكانت سياسة إسماعيل المالية قد تراءى فشلها وخطرها أمام الأنظار. فكل ذلك نَمَّى الرأي العام والنزعة القومية، وسُرعان ما ظهرت صحف مصرية -مثل: جريدة مصر والوطن- تنقد في صراحة سياسة إسماعيل، وتنادي: مصر للمصريين. وسقطت وزارة نوبار سنة 1879، وتطورت الحوادث، ونهضت هذه الروح نهوضًا قويًّا كان من نتائجه ثورة الجيش بقيادة عرابي ضد الضباط الأتراك الجراكسة لعهد توفيق سنة 1882. واستعان توفيق ضد الحركة بحراب الإنجليز التي أغمدوها في صدور الشعب، ومن حينئذ أصبحت مصر خاضعة

لاحتلال إنجليزي بغيض، وبدا للعِيَان أن حاكمها من أسرة محمد علي لا يمت إليها بصلة جنسية ولا قومية، فهي ليست أكثر من بقرة حلوب يمتصها الأجنبي عن طريقه. وحُكمت مصر بالمستشارين الإنجليز، وكان يتولى وزارتها مصريون؛ ولكن أكثرهم كان من أصول تركية. وكانت سياسة الإنجليز أن يحكموا هؤلاء الوزراء بمستشارهم وموظفيهم في الوزارات أو النظارات المختلفة. وأنشئوا مجالس تشريعية؛ ولكنها كانت مغلولة السلطان، ولم يكن لها من الأمر شيء. على أن هذا الاحتلال التعس لم يقضِ على الحركة الوطنية قضاء مبرمًا، فقد خمدت ولكن إلى حين؛ إذ كانت قد نشأت طبقة المصريين المستنيرة، وأخذت تشارك في الحكم وتتقلد مناصبه الكبرى، ورجع المنفيون إلى مصر في عهد عباس الثاني، ونشطت الحركة الوطنية ممثَّلة في الزعم الخالد مصطفى كامل، فأصدر في سنة 1899 صحيفة اللواء، واتخذ منها ومن خُطَبه النارية أداة لإلهاب عواطف المصريين ضد الإنجليز، وأسس الحزب الوطني، وزار كثيرًا من عواصم أوربا يعرض قضية مصر، ويندد بالاحتلال الإنجليزي غير المشروع. ثم كانت حادثة دنشواي المعروفة سنة 1906، وهي تلك التي تُوفِّي فيها ضابط إنجليزي كان يصطاد الحمام بهذه البلدة إثر ضربة شمس. وظن الإنجليز أن أهل هذه البلدة قتلوه، فأنزلوا بهم عقابًا وحشيًّا فظيعًا؛ إذ نصبوا المشانق في البلدة، فشنقوا طائفة، وسجنوا أخرى، ونزلوا بالسياط على ثالثة، وكانوا جميعًا أبرياء؛ ولكنه طغيان الباغي الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة، وقابل الشعبُ هذا الحادث -ومعه زعيمه مصطفى كامل- بالاستياء الشديد، وبدا لرأي العين أن المصريين لا يزيدهم الإرهاب إلا حقدًا وسخطًا على المحتل الغاصب. وتمادى الإنجليز في عنتهم وظلمهم وسجونهم وتضييق الخناق على حريات المصريين، حتى كانت الحرب الأولى فأعلنوا الأحكام العرفية، ووضعت الحرب أوزارها فثار عليهم المصريون ثلاث سنوات طوالًا، ولم يفل من عزمهم نفي ولا تشريد ولا سجون؛ بل ظلوا يحادُّونهم ويعاندونهم، حتى اضطروهم

إلى تصريح 28 من فبراير سنة 1922، وفيه احتفظوا ببعض المسائل؛ كمسألة السودان، ومسألة الدفاع عن مصر. ولم يُضعف هذا التصريح من حدة الثورة المصرية على الإنجليز؛ بل ما زالت مصر تضطرب بعوامل الثورة حتى وقَّعت إنجلترا معاهدة سنة 1936؛ ولكنها لم تحقق غاية مصر؛ فظلت نيران الثورة تموج في صدرها، حتى جاءها البشير بثورة الجيش المباركة، فتحقق حلمها القديم، وعادت القوس إلى باريها، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى طردت ثورتنا المستعمر من دارنا، وتبعته تنكل به في كل دار عربية؛ بل أيضًا في كل دار إفريقية وآسيوية، وهو ترتعد فرائصه وفرائص جماعته موليًا الأدبار، وبذلك تزعزع بنيانه، وهَوَتْ أركانه في كل مكان. ولا بد أن نشير إلى أنه في أثناء الاحتلال الإنجليزي حاول الإنجليز جاهدين أن يَعْلوا ثقافتهم بديارنا فوق الثقافة الفرنسية وغيرها من الثقافات الأوربية، فحينًا يجعلونها لغة العلم والتعليم، وحينًا يجعلون البعثات جميعًا إلى بلادهم. وقد أقبلت على ديارنا طائفة من البعوث الدينية الغربية المختلفة، وأسست كثيرًا من المدارس في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من عواصم القطر المصري، وكان لها أثرها في حياتنا الثقافية. وهذه البعوث الدينية كانت أكثر نشاطًا في سوريا ولبنان، سواء منها الكاثوليكية الفرنسية والبروتستانتية الأمريكية، إلا أن الأُولى كان مدى عملها أوسع بفضل اليسوعيين الذين عُنوا باللغة العربية وحياتها الأدبية. وقد أخذت طوائف لبنانية وسورية كثيرة تهاجر إلى مصر منذ عصر إسماعيل؛ فرارًا من ظلم الأتراك، أو سعيًا وراء الرزق، ولم تلبث هذه الطوائف أن شاركت في حياتنا الأدبية عن طريق الصحف مثل: الأهرام، وطريق الكتب والمؤلَّفات والمترجمات.

تياران: عربي وغربي

2- تياران: عربي وغربي: يجري في أدبنا منذ القرن الماضي تياران: عربي وغربي، أما التيار العربي فكان يمثله الأزهر وتعليمنا فيه. ومعروف أن الأزهر هو الذي حافظ على تراثنا الإسلامي والعربي أيام محنتنا بالحكم العثماني؛ فإن المدارس المختلفة التي أنشأها الأيوبيون والمماليك أغلقت أبوابها، ولم يعد يضيء في حياتنا العقلية سوى هذه المصابيح الضيئلة التي كانت ترسل من الأزهر نورًا شاحبًا خافتًا. ولم تكن هذه المصابيح تقتصر على الدين؛ بل كانت تشمل العلوم اللغوية والطبية والفلسفية، وإن كانت العناية بالعلوم الأخيرة ضعيفة؛ بل إن العلوم الدينية نفسها كانت قد تخاذلت وتضاءلت تحت تأثيرا الظلم الذي أرهق به العثمانيون أهل مصر. وكلنا نعرف أن مصر استطاعت قبل الحكم العثماني أن تُسْهم في الحضارة الإسلامية في أثناء العصرين: الفاطمي والأيوبي، وانفردت في أثناء عصر المماليك بالنهوض بتلك الحضارة، واتخذت لذلك طريقًا واضحًا أن تجمع التراث الإسلامي العربي، وتضعه من جديد في كتب كبرى تشبه دوائر المعارف على نحو ما نعرف في صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويرى، ولسان العرب لابن منظور. وعلى حين كانت مصر معنيَّة بجمع التراث العربي والمحافظة عليه نزل بها طوفان العثمانيين، فإذا هو يأتي على هذه الجهود العقلية الخصبة؛ بل إنه يصيبها بعطل شديد، فيتوقف في مصر كل شيء، ويعم العقم والجمود، وتتراجع هذه النهضة الذهنية، حتى تصبح شيئًا ضئيلًا جدًّا لا نكاد نتبينه إلا في متون وملخصات يبدئ فيها الأزهريون ويعيدون، وكل ما يستطيعون عمله أن يشرحوها، وقد يشرحون الشرح، وقد يعلقون عليه، وهم بذلك لا يضيفون إلى العلم شيئًا ذا خطر؛ بل لقد عقَّدوا العلم تعقيدًا بكثرة متونهم وشروحهم وتقريراتهم

وتعليقاتهم وما حشدوا فيها من عُقَد وألغاز؛ فقد تحولت العبارات نفسها إلى أحاج مغلقة، وأصبح هَمُّ العلماء أن يحلوا هذه الأحاجي، وحلها لا يضيف علمًا؛ إنما يضيف فسادًا لغويًّا. وانقطعت الصلة بينهم وبين الكتب العلمية الأولى التي أُلِّفَتْ في العصر العباسي؛ بل التي ألفت في العصر القريب منهم عصر المماليك، فكنت قلما تجد من يعرف شيئًا عن كتب الأئمة مثل الشافعي، أو الفلاسفة مثل الفارابي، أو المفكرين الاجتماعيين مثل ابن خلدون. لم تعد العلوم شيئًا سوى متون مثل متن المنهج للشيخ زكريا الأنصاري الذي جَمَعَ فيه كل مسائل الفقه الشافعي، وكان الأزهريون إلى قريب من عصرنا يحفظون ما يسمى مجموع المتون، وهو مجموع يُحصي كل أنواع العلم العربي ويحيله جُمَلًا مبهمة في شعر أو نثر للحفظ والتسميع. وكأن العلماء شعروا أنه لم يعد هناك شيء يقال، فهَمُّ الواحد منهم أن يتناول المتن الذي لُخِّص فيه العلم -أو بعبارة أدق: لُغِّز- ليحله، وقد يكتب في الحل شرحًا مبهمًا، ليس في كثير من الأمر خيرًا من المتن، فيعمد عالم آخر إلى حل الشرح بشرح ثانٍ يسمونه حاشية، ويتبين عالم ثالث أو رابع أن شرح الشرح ليس كافيًا فيعمد إلى التعليق عليه بما يسمى تقريرًا. وبهذا أصبح العلم العربي الذي كان يملأ المجلدات الضخمة شيئًا ضئيلًا جدًّا لا يتجاوز صفحات معدودة، وران على الحياة العقلية ضَرْبٌ من الجمود الشديد، وأصبح لا بد من هزة عنيفة لتعيد إلى ينابيع حياتنا العقلية دوراتها الأولى. ولم تكن حياتنا الأدبية خيرًا من حياتنا العقلية؛ فقد وقف النشاط الذي كنا نراه في عصر المماليك وقبله، والذي كان يتيح لنا بعض الأزهار الفنية، فنجد عندها بعض المتاع وبعض الراحة؛ إذ لم تعد مصر تحت تأثير العثمانيين وما أشاعوا فيها من فساد في النظم السياسية والاجتماعية صالحة لأن تخرج أزهارًا أو ما يشبه الأزهار، فقد غلوها وغلوا أدباءها، وحالوا بينهم وبين حرياتهم الفردية، كما حالوا بينهم وبين الرخاء المادي؛ فانهارت حياتهم، أو بعبارة أخرى:

انهارت حياتنا الأدبية كما انهارت حياتنا العقلية، وأصبحتَ لا تجد كاتبًا ولا شاعرًا تستطيع أن تقرأ له شيئا يلذ عقلك أو يلذ روحك. وعلى نحو ما أصبحت حياتنا العقلية تلخيصًا للتراث الماضي، وإفسادًا له، أصبحت كذلك حياتنا الأدبية تلخيصًا؛ بل تقليدًا مملًّا لبعض القصائد القديمة، يحاكيها الشعراء ويتناولونها بالتخميس والتسبيع أو التشطير، ولا يضيفون إلى ذلك إلا عُقدًا من البديع المتكلَّف الممقوت، وكأن الغرض من القصيدة تطبيق أنواع البديع لا أكثر ولا أقل. ومن المستحيل أن تجد في أثناء ذلك عاطفة أو شعورًا حقيقيًّا. وبالمثل أصبحت الكتابة شيئًا سقيمًا، أصبحت سجعًا ولكنه سجع ضعيف ركيك، لا يؤدي شيئًا سوى ألوان البيان والبديع المعقدة. وفي هذا الوقت الذي قُضِيَ فيه على حياتنا العقلية والأدبية بالخمود والركود، قُضِيَ على أوربا أو قُدِّر لها حياة عقلية وأدبية نشيطة، وهي حياة تناولت مناحي الفكر الإنساني جميعه من علم وفلسفة وأدب. واستعانت أوربا أول الأمر بالتراث اليوناني، فتطورت حياتها الفكرية تحت تأثير هذا التراث الوثني القديم، ونشأ حينئذ صراع هائل بين الأدبين: المسيحي والوثني، وظهرت حركات البروتستانت، وأخذت أوربا طريقها إلى إحداث آدابها الحديثة. وعلى نحو ما كشفت الآثار اليونانية والرومانية كشفت أمريكا، وأخذت في استغلالها على نحو ما استغلت تلك الآثار. وأخذت تندفع في حركتها العلمية، وتكتشف القوانين الطبيعية وغير الطبيعية التي تسيطر على الحياة والناس، مستشعرة ضروبًا واسعة من الحرية العقلية. وكان من أهم مميزات هذه الحرية نقد كل شيء من دين وغير دين. وقد نقدوا الفلسفة القديمة، وأسسوا لأنفسهم فلسفة حديثة أقامها لهم ديكارت على أسس علمية، ثم تطوروا بها نحو التجريد ونحو الطبيعة والعلم الوضعي؛ بل نحو الإنسانية بمعناها الواسع. وكل ذلك دون أن يقطعوا صلتهم بفلسفة اليونان وتشريع الرومان. وعلى نحو ما تطوروا بحياتهم العقلية تطوروا بحياتهم الأدبية، فاستحدثوا

لأنفسهم بتأثير التراث اليوناني والروماني أدبًا جديدًا يخالف أدبهم في العصور الوسطى، وكانوا في أول الأمر يقلدون الآثار اليونانية واللاتينية، ثم أخذوا يستقلون في حياتهم الأدبية كما استقلوا في حياتهم العقلية، وإذا هم يحدثون آثارًا رائعة لا تقل روعة وبراعة عن الآثار القديمة عند شعراء التمثيل من الإغريق، وعند هوميروس اليوناني وفرجيل الروماني. وكان ذلك جميعه ثورات عقلية وأدبية لم تلبث أن عاونتها ثورات دينية وأخرى سياسية واجتماعية على نحو ما هو معروف في الثورة الفرنسية. ولما نزلت بمصر حملة بونابرت تنبَّه المصريون إلى أن وراء حياتهم حياة أخرى في أوربا، وأنه حري بهم أن يفقهوا هذه الحياة الجديدة حتى يتسلحوا لأهلها بمثل سلاحهم. ومن المؤكد أن الفترة القليلة التي قضتها الحملة الفرنسية بمصر لم تتح لنا تأثرًا بالحضارة الأوربية للفوارق الواسعة بين حضارتنا الأوربيين؛ ولكن من المؤكد أيضًا أننا أخذنا بعد خروج الحملة من ديارنا نتجه إلى أوربا، ونحاول أن نفيد منها في الحياة العقلية والأدبية، فقد أدارت مصر وجهها إلى الشمال، وأخذت تفتح أنهارها الذهنية والفكرية لاستقبال جداول الحياة العقلية الأوربية. وتصادف أن اجتمع مع هذه الرغبة في نفوس المصريين رغبة محمد علي في أن يُعِدَّ جيشًا على نمط جيوش الدول الأوربية الكبرى، ورأى أنه لا يستطيع أن يعد هذا الجيش إعدادًا حسنًا إلا إذا أنشأ له المدارس، واستقدم له أساتذة أوربيين يعلمونه في هذه المدارس، ويزودونه بما يحتاج إليه من وسائل، فأنشأ المدرسة الحربية، وأنشأ لها معاهد صناعية وطبية، وأخذ في تأسيس مدارس ابتدائية وثانوية. ومنذ هذا التاريخ وُجِدَ في مصر نوعان من الحياة العقلية: نوع تقليدي محافظ في الأزهر، وهو نفس هذا النوع الذي وصفناه آنفا بما فيه من قصور وجفاف، ونوع مدني أوربي يعتمد اعتمادًا على الحضارة الأوربية وما عرف الأوربيون من علم لم يسبق للمصريين أن علموه أو عرفوه. وهنا نلاحظ أشياء: فأولًا: انتقلت إلينا في هذا التعليم المدني الحياة العلمية

الأوربية، وما يتصل بها من حياة عملية وفنية تطبيقية. وثانيًا: لم تنتقل إلينا في هذا التعليم طوال النصف الأول من القرن الماضي الحياة الأدبية الأوربية؛ لأن والي مصر لم يكن يُعْنَى بها، فلم يَبْدُ لها أي أثر في شعرنا ونثرنا. وقد يرجع ذلك إلى طبيعة النوعين من العلم والأدب؛ فإن العلم من السهل نقله ونقل قوانينه وقضاياه، أما الأدب فمن الصعب أن ينقل أو أن تفيد منه أمة، إلا إذا وضحت بينها وبين الأمم التي تنقل عنها علاقات أدبية تساعد على النقل وأن تتبادل معها آدابها التي تعبر عن روحها وبيئتها ومزاجها وذوقها؛ إذ الآداب تخضع لهذه العناصر كلها خضوعًا شديدًا، ومن هنا كان عسيرًا أن يتذوق المصري مع نهضته العلمية حينئذ الأدبَ الغربي وأن يصدر عنه في أدبه، فذلك يحتاج إلى آماد وجهود أوسع، ولا بد أن نتأنَّى حتى تصطبغ طبقة من المصريين بالأدب الغربي والروح الغربية، أو حتى تصطبغ حياتنا نفسها بهذا الأدب وتلك الروح. ولم تنتظر مصر طويلًا؛ فقد عُنِيَ محمد علي منذ سنة 1826 للميلاد بإرسال البعوث الكبيرة، فاختلطت طائفة من الشباب المصري -على رأسها رفاعة الطهطاوي- بحياة الغربيين، وأخذت تقرأ هناك في الأدب الغربي، وتفيد وتجتني اللذة الفنية الخالصة. وعاد رفاعة فشارك في حركة الترجمة العلمية التي أوجدتها الضرورة المدرسية؛ حتى يعرف المصريون العلم الأوربي. ثم أنشأ محمد علي مدرسة الألسن؛ لتخدم هذه الحاجة، وعيَّن رفاعة ناظرًا لها، ولم يلبث أن تأسس قلم للترجمة سنة 1842، وتولى رفاعة رياسته. ولكن هذا كله كان في سبيل خدمة التيار العلمي الغربي، ولم تؤثِ الثمرة المرجوة من البعوث أكلها في ميادين الأدب والحياة الأدبية؛ بل ظلت مصر طوال النصف الأول من القرن الماضي لا تُعْنَى إلا بالعلم الأوربي، سواء فيما تدرس وفيما تترجم؛ بل لقد استمرت على ذلك طوال عصر سعيد. ولم يأتِ عصر إسماعيل حتى خطت مصر خطوات واسعة نحو الامتزاج

بالحضارة الأوربية، وأخذ كل شيء فيها يصبطغ صبغة حقيقية بتلك الحضارة، فمن ناحية السياسة والتشريع أخذتْ مصر بنظام نيابي وقضائي مشبه للنظام الفرنسي، ومن ناحية التعليم أنشئت المدارس العالية المختلفة، وتأسَّس كثير من المدارس الابتدائية والثانوية، كما تأسست مدرسة للبنات، فالتعليم أصبح غاية لنفسه، ولم يعد يراد به الجيش؛ وإنما أصبح يراد به الشعب. وأخذت مصر في تحضر واسع؛ فتأسست الأوبرا، وأنشأ يعقوب صنوع فرقة ثمثيلية كان يترجم لها، ويؤلف تمثيليات مختلفة، وهي إن تكن بالعامية فإنها تدل على أن مصر أخذت في التحول؛ بل أخذت تبدأ دورة حضارية جديدة. واشتد الاتصال بيننا وبين أوربا منذ فُتحت قناة السويس، فالأوربيون يفدون على مصر يؤسسون بها الشركات والمصارف، ونحن نكثر من البعوث إلى أوربا لنطلع على ثقافات القوم الكبرى التي مكنتهم من السيطرة على الحياة والمتعة بها، ويعود المبعوثون إلينا وقد حملوا لنا أزوادًا من الحضارة الأوربية. وأحسَّ القائمون على الثقافة والتعليم أن الأزهر في عزلة عن هذه الحركة، وأنه لا يقوم بواجبه في تعليم اللغة العربية وتبسيطها وعرض آثارها عرضًا حسنًا على هذا الشباب المدني، فقد أصاب لغتنا فيه من الجمود ما جعلها غير صالحة لتتحمل أعباء هذه الثقافة الأوربية من ترجمة وتأليف. فأنشأ علي مبارك مدرسة دار العلوم؛ لتنهض في تعليم لغتنا بما لم يستطع الأزهر النهوض به. فإنشاءُ دار العلوم إنما هو رمز إلى ما كانت تبتغيه مصر حينئذ من المزاوجة بين الآداب الأوربية والآداب العربية، فإنها حين رأت قصور آدابنا عن تأدية آثار الفكر والشعور الغربيين أداء واضحًا صريحًا بسبب ما علق بها من أعشاب السجع والبديع انبرت تُغيِّر الوسائل التعليمية لتلك الآداب، وأنشأت هذه المدرسة التي نهضت بتعليم لغتنا وتبسيطها حتى تستطيع أن تحمل آثار الغرب الرائعة في العلم والأدب. وكان ما قدمنا سببًا في أن نتهيأ حقًّا للتأثر بالآداب الغربية، فمن جهة أخذنا نمرن لغتنا على أن تفي بما نريد التعبير عنه من ألوان الفكر وصور الشعور،

ومن جهة ثانية أخذنا في التحضر، وأخذ ذوقنا يقترب من ذوق الغربيين. وفي هذه الأثناء -أو في هذا الثلث الأخير من القرن التاسع عشر- كانت تهاجر إلى مصر صفوة من اللبنانيين والسوريين الذين تخرجوا في مدارس اليسوعيين والبعوث الدينية الأوربية والأمريكية المختلفة، وكانوا قد ضاقوا باضطهاد العثمانيين لهم، وكان منهم من ابتغى رزقًا في بلاد أخرى. على كل حال، كانوا يريدون أن يعيشوا معيشة كريمة، فيها اعتراف بحريتهم وبحقوقهم الفردية، فهاجروا إلينا، ووجدوا منا ما ابتغوه من حرية وإخاء ومساواة وعيش كريم. ولم يلبثوا أن عملوا معنا في نهضتنا الأدبية، وكانوا قد سبقونا إلى العناية بالآداب الغربية في عقر ديارهم، ومرجع ذلك إلى البعثات الدينية التي علمتهم؛ فإنها لم تكن تعنَى مثل محمد علي بنقل العلم إلى سوريا ولبنان؛ بل كادت تقصر عنايتها على الحياة الأدبية الغربية، ومن ثَم كان اتصال هؤلاء المهاجرين بتلك الآداب أقوى من اتصال المصريين في هذه الحقب من الزمن، فهم سبقونا إلى الاتصال المنظم بالأدب الغربي، ولم يهتموا مثلنا أولًا بالعلم؛ إنما اهتموا به في زمن متأخر وبعد تأسيس الجامعة الأمريكية عندهم. وقد نهضوا بصحافتنا خير نهوض، وحمل إلينا سليم النقاش وغيره ما عرفوه من فن التمثيل الأوربي، فدعموا بذلك اتجاهنا نحو الآداب الأوربية. وأخذ هؤلاء المهاجرون والمصريون جميعًا يعملون في حقل غربي جديد، وأقصد حقل الترجمة، ولا أريد ترجمة العلم الغربي، فمصر قد سبقت إليه منذ أوائل القرن؛ وإنما أريد ترجمة الآداب الأوربية بمعناها الواسع، فكان محمد عثمان جلال وغيره من المصريين يترجمون لموليير وغير موليير، وكان نجيب حداد وغيره من هؤلاء المهاجرين يترجمون لكورني وشكسبير وغيرهما من الغربيين، وترجم سليمان البستاني الإلياذة لهوميروس مزاوجًا فيها بين البحور العربية ومبقيًا على كل سماتها وخصائصها الملحمية. وكثُرت حينئذ الترجمة للمسرحيات والقصص الغربية، حتى بلغت مئات،

وفي فهارس دار الكتب المصرية ما يصور هذا النشاط. ومن غير شك، كانت هذه الروايات المترجمة والمعربة تغير في ذوق الجمهور، وتصله بالآداب الأوربية، وتعده لكي يقتحم ميادينها مؤلِّفًا كما اقتحمها مترجمًا ومعربًا. ونمضي في القرن العشرين، فإذا الاحتلال الإنجليزي جاثم على صدر مصر، ومع ذلك تزداد موجة هذه الترجمة حِدَّة وشِدَّة، كما تزداد قابلية اللغة العربية لإساغة الآداب الغربية وهضمها وتمثُّلها تمثلًا دقيقًا. وكل ذلك بفضل هؤلاء الأعلام الذين بدءوا الترجمة في القرن الماضي ومرَّنوا لغتنا تمرينًا هائلًا على نقل الأفكار والمشاعر الأوربية. ولا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى تُجْمَع تبرعات ضخمة لتأسيس الجامعة المصرية، وتفتح هذه الجامعة أبوابها في عام 1908، وتُلْقَى بها محاضرات في الأدب والتاريخ والفلسفة، يلقيها أساتذة مصريون وأوربيون من المستشرقين أمثال جويدي ونالينو. وفي هذا ما يدل على أن مصر انتقلت في حياتها العقلية نقلة كبيرة، فهي لا تدرس العلم والأدب الغربي لإنشاء جيش أو طبقة من موظفي الدواوين أو معلمي اللغات في المدارس؛ وإنما تدرسهما من أجل أنفسهما، فلا غاية وراءهما سوى البحث الحر والمتعة بهذا البحث متعة خالصة، متعة تعلو على الغايات الحكومية واليومية التافهة. واستجابت مصر -أو استجاب شباب مصر- لهذا الطموح الكبير الذي راود جلة المصريين ممن فكروا في تأسيس هذه الجامعة؛ أمثال: مصطفى كامل، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد. ولم تلبث الجامعة أن أرسلت بطلابها إلى أوربا لاستكمال البحث والدرس، فدخلوا ميادين العلوم والآداب هناك بقوة ورُوح عظيمة. ونشطت حركة البعوث لا في الجامعة وحدها؛ بل أيضًا في وزارة المعارف حينئذ، وكان جيل من مدرسة المعلمين العليا أخذ ينبعث عن نفس الطموح ونفس الآمال في تثقيف نفسه ثقافة واسعة بالآداب الغربية. واتجه بعض المصريين المثرين

إلى نفس الغاية النبيلة. ولا نصل إلى الحرب الكبرى في أوائل هذا القرن حتى تظهر ظهورًا بينًا تباشير هذا كله، فقد اقتحم هذا الشباب الجامعي وغير الجامعي أسوار الحضارة والثقافة الأوربية، وحصل منها لنفسه ووطنه على كل ما كان يريد من كنوز عقلية وأدبية. وكان إخوانهم المصريون الذين لم تُتَحْ لهم فرصة السفر يدأبون على الترجمة والنهل من معين هذه الآداب الغربية. وسُرعان ما ظهرت نتائج هذا كله بعد الحرب الأولى، فإذا جيل كبير قد تم لمصر تثقفُه بالآداب الغربية ثقافة منظمة، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أخذ يثبت شخصيته. وانتقل هذا الجيل بالترجمة نقلة دنت من حد الكمال بما أُوتي من قدرة لغوية وأدبية، وكان للتجارب الطويلة التي قام بها المترجمون طوال القرن الماضي أثر لا يُنكر في إحسان هذا الجيل لوسائله اللغوية، ومن المحقق أن المترجمين القدماء عانوا طويلًا في الحصول على الألفاظ العربية المقابلة للألفاظ الأجنبية سواء في الآداب والعلوم؛ ولكن من المحقق أيضًا أن هؤلاء المترجمين المعاصرين أوفوا من دقة الترجمة وجمال أسلوبها على الغاية التي كانت تطمح إليها مصر وتنتظرها. وحصولنا على هذه الغاية عند لطفي السيد وطه حسين وإبراهيم المازني وأضرابهم يحمل في أطوائه تزاوجًا رائعًا بين الآداب الغربية والعربية، فلم تعد لغتنا تنفر من هذه الآداب، ولم تعد تستعصي عليها؛ بل لقد استقرت في ذهنية أبنائها، وأصبحت كأنها من تراثها وتراثهم. ولم نلبث أن تطورنا بجامعتنا المصرية بعد ثورتنا الوطنية الأولى، وما حصلنا عليه من استقلال مقيد ببعض الشروط، فإذا نحن نضعها تحت إشراف الحكومة سنة 1925، وتتسع فتشمل بجانب الآداب: الطب والعلوم والحقوق، ثم تضم بعد ذلك: الهندسة والزراعة والتجارة والطب البيطرى. وبذلك تبلغ الجامعة المصرية كل ما كان يقدره لها المصريون في أوائل

القرن من نجاح، وتستقدم العلماء والأدباء الأوربيين، وما هي إلا دورات قليلة من الزمن حتى يصبح لمصر علماؤها المتخصصون في جميع فروع العلم، وأدباؤها الذين يلمون بجميع ضروب الآداب الغربية القديمة والحديثة. وتُحقِّق الجامعة كل ما كان يُطْلَب منها من بحوث علمية وأدبية ممتازة، ويخرج منها جيل يُتم مع الأساتذة الرائدين هذه الدورة الرائعة في تاريخ علمنا وأدبنا، فيترجم الغربيون ما نحدثه كما ترجمنا، ونترجم ما يحدثونه. فالأربعون سنة الأخيرة من تاريخنا الحديث تسجل نصرًا مؤزرًا لنهضتنا الأدبية الطويلة منذ منتصف القرن الماضي إلى هذا اليوم الذي نعيش فيه، لا لسبب إلا لأن هذين التيارين: العربي والغربي، اللذين كانا يبدوان منفصلين طوال الحقب السالفة اتَّحَدَا اتحادًا متينًا. ولهذا مظهر واضح لا في حياة من برعوا في فَهْم الآداب الأجنبية؛ وإنما فيمن نزعوا إلى قديمنا الخالص من مثل: المنفلوطي والرافعي، فإنهم أقبلوا على التزود من الآداب الغربية المترجمة، حتى يحدثوا لأنفسهم صورًا أدبية جديرة بالتقدير من مواطنيهم، وكأنهم عرفوا أنه تولَّد عندنا رأي أدبي عام ينكر التمسك بالنموذج القديم الذي لا يلائم عصره وحياته، ويطلب النموذج الجديد الذي يطابق هذه الحياة وذلك العصر، حتى يستطيع أن يسيغه، وحتى يستطيع أن يتذوق ما فيه من جمال. ومن أجل ذلك استعان المنفلوطي ببعض القصص المترجمة أو بقصص ترجمت له؛ ليكتب ماجدولين وغيرها من أقاصيصه. بل أكثر من ذلك رأينا بعض الأزهريين الذين أَلِفُوا التيار العربي الخالص ونماذجه يطلبون اللغات الأجنبية ويتعلمونها؛ حتى يقفوا على صور آدابها، وحتى يدخلوا في هذا النطاق الحيوي الجديد. وكل ذلك معناه التحام التيار الغربي بالتيار العربي داخل بلدنا في حدة وقوة لم يسبق لهما مثيل ولا نظير في تاريخنا الحديث. وأخذنا ندعم ذلك من وجوه كثيرة؛ فمن جهة أنشأنا معهدًا للموسيقى وآخر للتمثيل، كما خطونا بالفنون الجميلة خُطُوات واسعة.

والحق أننا استطعنا أن نقيم لأنفسنا نهضة حقيقية، وكان عمادنا في ذلك اتساع بالتعليم، حتى نادى بعض مفكرينا بأنه ضرورة، وأن من الواجب أن يتمتع به كل مصري يتمتع بالهواء والماء. وأصبح هذا التعليم يغزو القرى المصرية لا بسعيها إليه في المدن المجاورة؛ بل بنزوله في شوارعها وبين جدرانها، وهو تعليم يسري فيه هذا التيار الغربي؛ بل إننا نغلو حين نسميه بهذا الاسم، فلم يعد هناك تيار غربي بمعنى انفصالي، فقد اتحد هذا التيار مع التيار العربي الموروث، وأنتجا حياة عقلية جديدة كما أنتجا أدبًا جديدًا. وفي أعلى هذا التعليم تتألق أشعة العلم والأدب وأضواؤهما في جامعاتنا المصرية المختلفة ممثِّلة هذا الرقي العلمي والأدبي الذي أصبناه، أو قل: الذي أحرزناه، فقد كنا قبل الأربعين سنة الأخيرة نشعر بأننا في حياتنا العقلية والأدبية نتقدم ونتأخر شأننا في حياتنا السياسية. أما في هذه الأربعين سنة الأخيرة، فقد مضينا قُدمًا في مختلَف مناحي حياتنا السياسية والعقلية، وكان من مظاهر ذلك تنظيم حياتنا العلمية والأدبية عن طريق الجامعات التي أخذ علماؤنا وأدباؤنا فيها يسيغون كل ما هو عربي وكل ما هو غربي في نهم شديد للمتاع الفكري. وحتى الترجمة نُظِّمت فقامت عليها جمعيات مختلفة كلجنة التأليف والترجمة والنشر، وقامت عليها الحكومة ورعتها خير رعاية. ولم نترجم فقط من الفرنسية أو الإنجليزية؛ بل ترجمنا بعض عيون الأدب من الألمانية والإيطالية والروسية. وطبيعي أن يتوج هذا المجهود بالثمرة المنتظرة؛ وهي إقامة أدب مصري إنساني، أقامته سواعد شوقي وشكري والعقاد والمازني ولطفي السيد وطه حسين وهيكل وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن أحدثوا لنا هذا الأدب، فإذا هو لا يقف عند حدود بيئتنا المصرية وتراثنا القديم، ولا عند البيئة الغربية وتراثها القديم والحديث؛ بل تتسع هذه البيئة، فتصبح بيئة إنسانية كبرى، تشيع فيها الغايات السامية للأدب الحقيقي، وهي غايات الحق والخير والجمال.

المطبعة والصحف

3- المطبعة والصحف: عُرفت المطبعة في أوربا منذ القرن الخامس عشر، وطبع الأوربيون بها الكتب العربية -أو أخذوا يطبعونها بها- منذ القرن السادس عشر، وعنهم نقلتها تركيا في القرن السابع عشر، كما نقلتها سوريا في القرن الثامن عشر. أما مصر فظلت لا تعرفها، حتى كانت حملة نابليون، فنقلتها إليها واستخدمتها في منشوراتها. ولم تلبث هذه المطبعة العربية أن غادرت مصر مع الحملة، حتى إذا كان عهد محمد علي أنشئت مطبعة بولاق المشهورة، ولما أخذ الرأي العام المصري يتكون، وأنشت صحف مختلفة تعبر عنه؛ عظمت الحاجة إلى هذا الفن الأوربي الجديد؛ فكثرت المطابع، وانتشرت في مصر والإسكندرية، ثم في عواصم القطر المصري المختلفة، وهي تعد اليوم بالمئات. وعمد المشرفون على مطبعة بولاق منذ تأسيسها إلى طبع الكتب العربية والتركية، كما كانوا يطبعون بها صحيفة الوقائع المصرية، ولا نتقدم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى تكثر المطابع، ويكثر طبع الكتب العربية القديمة ودواوين الشعر العباسية وغير العباسية. وكان لذلك تأثير واسع في حياتنا الأدبية؛ فإن أدباءنا اطلعوا من هذه الكتب والآثار القديمة على مُثل ونماذج في الأدب العربي لم يكونوا يعرفونها؛ إذ كان كل ما يعرفونه من ذلك الآثار القريبة منهم المملوءة بالسجع وألوان البديع، فلما طبعت لهم كليلة ودمنة لابن المقفع وكتابات الجاحظ وابن خلدون وغيرهم كما طبعت لهم دواوين أبي تمام وأبي نواس والمتنبي وأضرابهم رأوا أساليب جديدة، أما في النثر فرأوا أساليب مرسلة خالية من التكلف والصناعة، وأما في الشعر فرأوا نماذج بسيطة ليس فيها عقد البديع وكُلَفُه.

وأيدت أوربا بطباعتها العربية وجهود المستشرقين فيها هذه الحركة، فقد طُبعت هناك كتب عربية قديمة كثيرة، ووفدتْ على مصر، فرأى المصريون فيها -كما رأوا فيما طبع بين ظهرانيهم وتحت عيونهم- لغة عربية أخرى غير التي كانوا يعرفونها، ليس فيها سجع ولا إسراف في التكلف ولا إلغاز وتعمية؛ بل وجدوا فيها لغة بسيطة تحمل أفكارًا علمية وأدبية طريفة. ولم تقف مطبعتنا العربية عند نشر الكتب القديمة والدواوين العباسية وإحيائها؛ بل أخذت تنشر في الناس الكتب الغربية التي يترجمها أعلام المصريين ممن حذقوا اللغات الأجنبية، وكانت كثرتها في النصف الأول من القرن الماضي كتبًا علمية، ولم تلبث أن زاحمتها في النصف الثاني الروايات والكتب الأدبية. وهذان الطرفان من الكتب القديمة والكتب الأوربية هما اللذان تعاونا في إحياء العقل المصري، وبعثه في أثناء القرن السابق، وفي هذا القرن. ومما لا ريب فيه أن أصحاب الثقافة القديمة من المتون وشروحها والشعر الركيك المعقَّد قاوموا هذين الطرفين أو هذين العنصرين الجديدين؛ لأنهما يخالفان ما ألفوا من فكر وعلم ومن أسلوب مسجع معقد. ويمكن أن نركز أصحاب هذه الثقافة القديمة أو المأثورة في رجال الأزهر حينئذ؛ فإنهم عدوا الجديد الأوربي من بعض الوجوه مروقًا من الدين، كما عدوا الأساليب الأدبية المرسلة ضعفًا في اللغة وإسفافًا. وبذلك وُجد عندنا في القرن التاسع عشر هذا الصراع الأدبي الطريف بين من يمكن أن نسميهم محافظين، ومن كانوا مجددين يطلبون ما عند الغرب وما عند العرب القدماء، ويسعون لمزواجة، من شأنها أن تغني الفكر المصري، وأن تطوِّع اللسان المعبر عنه لأدائه أداء سليمًا. على كل حال، كانت المطبعة عاملًا خطيرًا في إيقاظ العقل المصري في أثناء القرن الماضي وتوجيهه إلى مُثل جديدة في اللغة والفكر. ونحن لا نستطيع أن نقف وقوفًا بينًا على خطر هذا العامل إلا إذا رجعنا النظر إلى الطريقة التي كان يُنْشَرُ بها الأدب قبل ظهور المطبعة؛ فقد كان الأدباء يعتمدون في ذلك على النَّسْخ باليد، وكان هذا النسخ يكلف أثمانًا باهظة، ولم يكن كل الناس يستطيعون

أن يتكلفوا هذه الأثمان. ونتج عن ذلك أن الأدب والعلم في الأمم القديمة -ومنها الأمة العربية- كان محدودًا بطائفة خاصة؛ بل كان محتكرًا لها محصورًا فيها. ومن ثَم كانت الحياة العقلية والأدبية ضيقة الحدود، فهي موقوفة على فئات قليلة، وقلما تجاوزتها إلى الشعب، فكثرة الشعب كانت جاهلة لا تدري من أمور الثقافة شيئًا. فلما ظهرت المطبعة عملت على نشر الكتب، وأصبح الكتاب الواحد يطبع منه مئات النسخ بل آلافها، فأتيح لجمهور كبير من الشعب أن يطلع عليه ويفيد منه، أولًا لأنه يجده، وثانيًا لأنه يكلفه ثمنًا بخسًا؛ وبذلك اتسع تبادل الأفكار في العلوم والفنون والآداب؛ بل لقد أصبحت حقًّا مشاعًا للجميع، ولم تعد حبيسة على طائفة بعينها. وعلى هذا النحو ألغت المطبعة في أوربا احتكار الأفكار، وجعلتها من منافع الشعوب العامة، وبعبارة أخرى: ألغت أرستقراطية الأدب والعلم، وجعلتهما ديمقراطيَيْنِ، فهما من حقوق جميع الأفراد. وفُتحت في كل مكان المكاتب لبيع الكتب ونشرها، كما فتحت دور الكتب العامة أمام المتعلمين ليقرءوا فيها ما لا يقدرون على شرائه. وكل هذا حدث في مصر مع ظهور المطبعة في القرن الماضي؛ فقد أنشأ علي مبارك سنة 1870 دار الكتب المصرية، وزودها بالكتب في مختلف الآداب والعلوم والفنون، ولم يكتفِ بالكتب العربية؛ بل ضم إليها طائفة كبيرة من كتب اللغات الغربية، وحدَّد للدار أوقاتًا في الصباح والمساء يغدو ويروح إليها الشعب للقراءة والاطلاع، ووضع نظامًا لاستعارة الكتب خارجها؛ وبذلك كانت -ولا تزال- جامعة شعبية كبرى للثقافة والاطلاع العقلي الخصب. ومما زاد في أهمية الدور الذي لعبته المطبعة عندنا في تثقيف الشعب اتساع دائرة التعليم منذ عصر إسماعيل، فكثُر الجمهور القارئ الذي تخاطبه، والذي يمكن أن يفيد منها ومن آثارها في صَقْل ذهنه وعقله. وكان مما مكَّن للمطبعة من ذلك عندنا وفي الخارج سهولة المواصلات في العصر الحديث؛ فإنها قربت المسافات بين الأدباء وقرائهم؛ بل بين الشعوب

بعضها وبعض. وقديمًا كانت طرق المواصلات صعبة، وكانت بطيئة بطئًا شديدًا؛ إذ لم تكن هناك وسيلة سوى ظهور الإبل والخيل، وكان الكاتب في القاهرة إذا ألف كتابًا قلما عرفه المقيم في الإسكندرية إلا بعد مضي شهور أو سنين، فما بالك بمن يؤلف كتابًا في بغداد بعيدًا عن مصر والمصريين؛ بل ما بالك بمن ينشر من المستشرقين كتابًا عربيًّا في أوربا، إننا قلما نسمع به أو نعرف عنه شيئًا إلا بعد أزمان متطاولة. أما في هذا العصر فقد سَهُلت المواصلات في الأرض وعن طريق البحر والجو، وإذا أُلِّف كتاب في أوربا أو في العراق أمكن أن يصل بعد أيام أو ساعات معدودة إلى القاهرة. وكل ذلك عمل على إشاعة الآثار المطبوعة في مصر، لا ما طُبع فيها وحدها؛ بل ما طبع أيضًا في الشام والعراق وغيرهما من البلدان العربية؛ بل إن ما يطبع في أوربا يصلنا في سرعة خاطفة، فقد ألغيت المسافات وخاصة في هذا القرن الذي نعيش فيه، قرن التبادل الثقافي بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة. فالمطبعة بالوسائل الحديثة في النشر، وبما أذاعت من أدبنا القديم، وما تذيع من الأدب الغربي بيننا مترجمًا وفي لغاته -أحدثت آثارًا كبيرة في حياتنا الأدبية، أقل ما يقال فيها: إنها وسعت دوائر الثقافة عندنا إلى أبعد الحدود. ومن أهم آثارها بجانب إذاعة الكتب ونشرها بطريقة سهلة إصدارُ الصحف وإذاعتها في طبقات الشعب المختلفة، وكانت أوربا قد عرفت الصحف واتسعت فيها منذ القرن السابع عشر، وهيأت الناس هناك لرأي عام يعلن عن نفسه بما يظهر من رضا وسخط على الحكومات. وما لبث هذا الرأي أن ثار في فرنسا على الأرستقراطية الملكية وما يتصل بها، فكانت الثورة الفرنسية المعروفة. ولما نزلت الحملة الفرنسية في مصر كانت تصدر صحيفتين هما العشار المصري La decade Egyptienne وبريد مصر Le courrier de l'Egypte ولكنهما استخدمتا اللسان الفرنسي، فلم يكن لهما أثر في الشعب المصري. ولما ولي محمد علي صدر "جرنال الخديوي" وتحول هذا "الجرنال" في سنة 1828 إلى جريدة الوقائع المصرية، وكانت تصدر في أول أمرها باللسانين العربي والتركي،

وقصرها رفاعة الطهطاوي -حين أسندت إليه فيما بعد- على اللسان العربي. وكانت تشتمل بجانب الأخبار الحكومية على بعض الطرائف الأدبية، وكانت صحيفة رسمية لا تصور رأيًا عامًّا؛ بل إن الرأي العام المصري لم يكن قد تكوَّن بعد، ومن هنا كان نشاطنا الصحفي إلى أواسط القرن الماضي خامدًا. حتى إذا كان عصر إسماعيل، واستأنفت مصر حياة عقلية نشيطة، أخذ الرأي العام يتكون بسراعة، وأخذت تتضافر عوامل مختلفة على النهوض بالصحافة؛ إذ عُنيت نظارة المعارف في عهد علي مبارك بإخراج مجلة روضة المدارس، وأشرف عليها رفاعة الطهطاوي، فوجهها نحو غايتين؛ هما: إحياء الآداب العربية، ونشر المعارف والأفكار الغربية الحديثة، وعاونه في ذلك جلة الأدباء والعلماء في عصره، فكانت المجلة تنشر مباحث طريفة في الأدب والعلم بفروعه المختلفة. وكانت تصدر بجانب هذه المجلة مجلة اليَعْسوب، وهي مجلة طبية أصدرها محمد البقلي وإبراهيم الدسوقي، وقد عملت على وضع المصطلحات الطبية والعلمية في العربية. وفي أثناء ذلك نمت الحركة القومية في مصر، وأخذت سياسة إسماعيل السيئة تتضح للشعب، وخاصة حين رضي بتأسيس صندوق الدين وبالمراقبة الثنائية، وغضب الرأي العام على هذه السياسة التي توشك أن تحطم مصر تحطيمًا. وسُرعان ما أخذت الصحف السياسية طريقها إلى الظهور منذ هذا التاريخ من مثل وادي النيل لعبد الله أبي السعود، ونزهة الأفكار لمحمد عثمان جلال وإبراهيم المويلحي، والتنكيت والتبكيت وأختها الطائف لعبد الله نديم. ومن قبله أخرج يعقوب صنوع صحيفة "أبو نظارة" وهي أول جريدة سياسية هزلية ظهرت بمصر، وكان ينقد فيها سياسة إسماعيل نقدًا مُرًّا. وتصادف أن نزحت إلى مصر طوائف السوريين واللبنانيين الذين سبق أن تحدثنا عنهم، فأسهموا مساهمة قوية في هذه النهضة الصحفية الشعبية، وصدر كثير منهم عن نفس المشاعر الوطنية التي صدر عنها المصريون في صحافتهم، على نحو ما صنع أديب إسحاق في جريدته "مصر" التي كانت تنطق عن رغبات

المصريين في الإصلاح، حتى في المجال الديني الإسلامي الذي كان يعمل فيه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ومن الصحف التي أسستها هذه الجماعة صحيفة الأهرام وصحيفة المقطم. ولما جثم الاحتلال الإنجليزي على صدر مصر خمد صوت المصريين الوطني، وأغلقت أكثر الصحف أبوابها، حتى إذا نشط الرأي العام من جديد، ونشطت معه الحركة الوطنية؛ عادت الصحافة إلى النشاط، فأنشأ الشيخ علي يوسف صحيفة المؤيد، وأنشأ عبد الله نديم صحيفة الأستاذ، ثم أنشأ مصطفى كامل صحيفة اللواء، واتخذت جماعة من المصريين صحيفة "الجريدة" لسانًا لها، وهي الجماعة التي تسمت باسم حزب الأمة. ويحاول الإنجليز مرارًا أن ينكلوا بصحافتنا؛ ولكنها تستمر رغم إنذاراتهم وقوانين مطبوعاتهم، ويستمر ظهور الصحف من مثل مصباح الشرق، غير الصحف الهزلية. وتنكشف غمة هذا الاحتلال عن صدر مصر، ويوضع الدستور ويقام البرلمان وتنشأ الأحزاب المصرية، وتتعدد صحف كل حزب، ويتسع النشاط الصحافي إلى أقصى حد مما لا نزال نرى آثاره إلى اليوم. ومع هذه الصحف صدرت مجلات متنوعة منها الأسبوعي والشهري، ومن أهمها: المقتطف التي أسسها أصحاب جريدة المقطم في القرن الماضي، والهلال، والسياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، والكاتب المصري، والكتاب، والرسالة، والثقافة. وهذه المجلات المختلفة تنشر فصولًا طويلة في العلم -وخاصة مجلة المقتطف- وفي الأدب الغربي والعربي، وكان هذا هو الغالب على المجلات التي سميناها، وأخذت الجامعات المصرية منذ نشأتها تصدر مجلات دورية كل عام، تعالج فيها كل كلية أبحاثها الخاصة. وإنما أطلنا في وصف هذا النشاط الصحفي لندل على أن تحولًا واسعًا أصاب أدبنا عن طريق هذه الصحافة؛ فإنها أخذت تعالج موضوعات سياسية واجتماعية واقتصادية لا عهد لأدبنا القديم المسجوع بها، فقد كان أدبًا لفظيًّا،

ولم يكن محشوًّا بمعانٍ لا قومية ولا إنسانية؛ بل كان فارغًا، فملأت الصحافة فيه هذا الفراغ، ووصلته بالآداب الغربية وما فيها من دراسات في شئون الحياة وحقائق العلوم والمذاهب الفلسفية. وأخذ يعبر هذا الأدب عن حاجاتنا في وضوح: الحاجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكل ما أردناه من إصلاح في الدين وغير الدين؛ بل لقد أوجد لنا صورًا أدبية جديدة لم يكن لنا بها عهد، من مثل المقالة والقصة، وسنعرض لهما في غير هذا الموضع. وأثرت الصحافة في أدبنا أثرًا آخر لا يقل عن هذا الأثر أهمية، إلا أنه يتناول في هذه المرة الظاهر والثياب الخارجية؛ فقد كنا نستخدم أسلوبًا مسجعًا معقدًا بعقد البديع، وهو أسلوب كان يمكن أن يقبل في العصور السابقة حين كان الأدب يخاطب بيئة خاصة هي البيئة الأرستقراطية، أما اليوم فإن الصحف لا تخاطب بيئة بعينها ولا طبقات بعينها؛ وإنما تخاطب جماهير الشعب التي لا تعرف التعقيد؛ بل التي تَكْلَفُ بالبساطة والسهولة. واضطر ذلك الكُتَّاب إلى أن يخلعوا عن أدبهم الثياب القديمة البراقة، ويعمدوا إلى ثياب أخرى طبيعية هي ثياب الأسلوب المرسل؛ حتى يفهم عنهم الجمهور ما يكتبون دون عناء أو مشقة. ومن الحق أن هذا الاتجاه أتاح لأدبنا مرونة واسعة؛ فقد أخذ الكُتاب يعبرون أحرارًا عما في أنفسهم غير متقيدين بسجع ولا بلون من ألوان البديع ولا بأي صورة من صور التكلف. وليس هذا كل ما أحدثه اتجاه أدبنا إلى الجماهير عن طريق الصحف من آثار، أو بعبارة أدق: ليس هذا كل ما أحدثته مخاطبة الجماهير في أدبائنا من نتائج؛ فقد أصبح هذاالأدب في جملته اجتماعيًّا، لا يخاطب الأفراد ولا يعنَى بهم كما كان الشأن في القديم؛ وإنما يخاطب الجماهير ويعنَى بها وبمشاعرها وأحاسيسها. لم يعد الأدباء يخاطبون بأدبهم ملوكًا وأمراء يتملقونهم ويرضونهم بما يكتبون وينظمون؛ بل أصبحوا يخاطبون الجماهير ويحاولون أن يرضوها وأن

ينالوا عطفها، فهي التي تمنحهم أرزاقهم عن طريق ما تشتري من صحفهم أو كتبهم. ورد ذلك إلى أدبنائنا حرياتهم، وإن كانت قد بقيت حينئذ قلة وخاصة من الشعراء تحاول استرضاء أمراء البيت العلوي؛ ولكن حتى هؤلاء الشعراء كانوا استرضاء الشعب المصري فيما يقدمونه إلى هؤلاء الأمراء من شعر، فيذكرون بعض الإصلاحات التي تمت في أيامهم، أو يثيرون عواطف دينية ووطنية في أشعارهم. فحتى قصائد المديح التي كانت تُنظم في توفيق وعباس وغيرهما، كان أصحابها يفكرون في الشعب بجانب تفكيرهم فيمن يمدحونه، ويحتالون لذلك حيلًا كثيرة؛ حتى يقعوا من نفس الشعب موقعًا حسنًا، وحتى يظفروا برضاه وإعجابه. وعلى هذا النحو أصبح الشعب -الذي لم يكن يحفل به أدباؤنا من قبل ولم يكونوا يعنون به- موضعَ احتفالهم وعنايتهم، واتسع هذا الاحتفال، واتسعت تلك العناية في النثر، فأصبح شعبيًّا خالصًا أو كاد. وجارت عليه هذه الشعبية بعض الجور، أو على الأقل: جارت على بعض جوانبه؛ فإن طائفة من الأدباء أسرفوا في تبسيط أساليبهم إلى درجة الابتذال؛ حتى يعجبوا الذوق المتواضع في الشعب وينالوا استحسانه. وقد يكون من أسباب ذلك السرعة في إنتاجهم، وهي سرعة يقتضيها عملهم؛ إذ يُلْزَمون بكتابة مقال أحيانًا بعد ساعات أو بعد لحظات، فلا يجوِّدون معانيهم ولا أساليبهم، ولا يحققون لمقالهم ما ينبغي من جمال وروعة فنية. ومع ذلك لا تزال عندنا طبقة من أدبائنا الصحفيين تعنَى بأساليبها، وتحاول جاهدة أن تلائم بين ضرورات الصحافة وما يتطلبه الإنتاج الأدبي فيها من سرعة وبين الذوق الأدبي الرفيع، فهي لا تدنو إلى الطبقة الدنيا في الجمهور؛ بل تحاول أن ترتفع بها عن طريق معانيها الغزيرة، وأساليبها الرصينة.

الشعر وتطوره

الفصل الثاني: الشعر وتطوره: 1- استمرار التقليد: كان الشعر يجري في مصر في أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على الصورة السيئة التي كان يجري عليها في أثناء العصر العثماني، وهي صورة رديئة مسفة سواء في الأغراض والمعاني والأساليب، أما الأغراض فكانت ضيقة تافهة، وكانت المعاني مبتذلة ساقطة، وأما الأساليب فكانت متكلفة، مثقلة بأغلال البديع وما يتصل بها من حساب الجمل الذي كانوا يؤرخون به حوادث شعرهم وقصيدهم. ولم يكن أمام الشعراء مُثل فنية عليا يحلمون بها؛ إنما كل ما كان يحلم به الشاعر أن يتعلم فن العروض وصياغة النظم، ثم يعالج هذه الصناعة على نحو ما يعالج طلاب المدارس الثانوية تمارين النحو والبلاغة، فشعرهم أشبه ما يكون بكراريس التطبيق، ليس فيه رُوح ولا حياة ولا عاطفة حقيقية أو شعور؛ وإنما فيه المحاكاة والتقليد. ونحن حين نقرأ هذا الشعر الآن لا نقرؤه لنجد فيه متعة أدبية، ولا لنغذي عواطفنا ومشاعرنا، ولا لنزيد من ثروتنا الذهنية؛ وإنما لنؤرخ طورًا من أطوار حياتنا الأدبية. وكان المظنون أن يتغير شعراؤنا منذ الحملة الفرنسية، ومنذ أخذنا نتصل بالحياة الغربية ونكوِّن لأنفسنا حياة عقلية جديدة، ولكن يظهر أن هذه الحياة لم تتعمق إحساس الشعراء، فظلوا في حياتهم الفنية مع القديم، وظلوا يَحْجُلون في هذه السلاسل الممقوتة من البديع الذي لا تقبله النفس، ولا يطمئن إليه الذوق، ولا

يأنس له العقل؛ لأنه لا يحوي معنًى؛ وإنما هو زخارف لفظية تخنق الشعور، وتقتله قتلًا. وقد أخذت مصر مع أوائل القرن التاسع عشر في النهوض؛ ولكن محمد علي وجَّه هذا النهوض إلى العلم والفن التطبيقي ولم يعنَ بالشعر والشعراء؛ فقد كان تركيًّا في ثياب مصرية؛ بل لقد كان تركيًّا في ثياب تركية، فكسد الشعر في سوقه وسوق خليفتيه: عباس وسعيد، وأيضًا فإنه قتل الروح المصرية الناشئة -ونقصد الروح القومية- فلم تتفتح عيون المصريين لعهده على حياة كريمة. ومن أجل ذلك لم يتحرر -في رأينا- الشعر المصري من قيوده الغليظة؛ إذ لم توجد بواعث تدفعه إلى هذا التحرر، لا بواعث من قِبَلِ حرية قومية ولا من قبل حرية شخصية؛ فإن المصريين أُخذت أراضيهم؛ إذ ألغى محمد علي الملكية الزراعية إلغاء تامًّا، وسخرهم في الأرض يفلحون ويزرعون، وكأنهم ليسوا أكثر من أدوات تستغل لضرائبه ورغباته. ومعنى ذلك أن المصريين لم يفرغوا لحياة روحية، أو بعبارة أخرى: لحياة أدبية؛ فقد كان الحاكم يضيِّق عليهم في الرزق، ولم يكن يتيح لهم ما ينبغي من حرية، فطبيعي ألا تنهض حياتهم الفنية حينئذ؛ لأنها لا تزال تسير في نفس الدروب والمسالك الضيقة التي كانت تسير فيها في أثناء الحكم العثماني، ولا يزال الشعراء يشعرون بكثير من الضنك والفقر والبؤس. ولا بد لجودة الإنتاج الأدبي أو لنهوضه أن ييسَّر لأصحابه شيء من لين العيش ويُسْر الحياة، وشيء من الحرية الفردية التي تردُّ إليهم كرامتهم، وتشعرهم أنهم أحياء، وهي حرية تستمد من حرية الشعب نفسه تلك الحرية التي تمكنه من تحقيق آماله ومطامحه واعتداده بوجوده، فيحس كل شخص أنه يعيش معيشة كريمة، ويتعاون مع مواطنيه في بعث الحياة في كل مرفق وكل شأن من شئون أمته. وقد حقق محمد علي لمصر كثيرًا مما كانت تحلم به في السياسة والعلم،

ولكنه لم يكن يريد بذلك مصر؛ إنما كان يريد شخصه ومطامعه في تحقيق إمبراطورية ضخمة، فلم تكن مصر هي الموضوعة نصب عينيه؛ إنما كانت أحلامه هي التي تدفعه إلى النهوض بالجيش وإعداد حياة علمية من أجله؛ ولذلك لم يحقق للمصريين حرياتهم الفردية والسياسية، ولا حقق لهم رخاء ماديًّا ينتهي بهم إلى رخاء أدبي، فوقف الأدب ووقف الشعر معه عند حياة جامدة خاملة. واقرأ في دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد علي وعباسًا الأول وسعيدًا من مثل: إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد الدرويش؛ فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع، ولن تجد شعورًا ولا عاطفة. وفيمَ الشعور والعاطفة وكل شيء في الحياة المصرية خامد هامد؟ ولقد تبلدت الحياة، ولم تصب فيها تيارات قومية ولا نفسية جديدة، فجمد الشعر والشعراء، ولم يعد هناك إلا التقليد، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب منها، تقليد يشهد بقصور الأدب وضعف الذوق والعجز عن التعبير الحر الصادق. وعن أي شيء يعبِّر الشاعر وكل ما يتصوره من الشعر أنه نظم لمعانٍ معروفة، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل إثقاله، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة، أو تُقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها على نحو ما تقرأ من أولها إلى آخرها، أو ينظم قصيدة تأتلف من أوائل الحروف في أبياتها أبياتًا أخرى، أو يستخرج منها تاريخًا بحساب الجمل. وليس وراء هذا جميعه إلا الفساد؛ فقد أصبح الشعر حسابًا وأرقامًا وتمارين هندسية عسيرة الحل؛ فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة. وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يُجري كلامًا على آلات العروض والقوافي، وهو كلام مفكك؛ إذ يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما يصنع عمال المطابع، فتتألف صناديق من الحروف؛ ولكن لا تتألف أبيات من الشعر؛ وإنما تتألف ألعاب بهلوانية.

ولا تستطيع في أثناء هذا العبث أن تقرأ معنًى مبتكرًا؛ بل لا تستطيع أن تقرأ لفظًا جميلًا، فتلك مرتبة عليا كانت تستعصي على الشعراء في ذلك الحين. ومن الغريب أن معاصريهم مع هذا الإسفاف كانوا يعجبون بهم؛ لأن الذوق الفني كان واحدًا، وكان هذا الذوق عند الشاعر ومن يستمعون إليه لا يقوِّم الشعر تقويمًا صحيحًا؛ إذ كان يقومه بمقدار ما يتضمن من أغلال البديع والألعاب اللفظية المختلفة. فكان ذلك مقياس الشاعر والشاعرية، وكأنما أصبحت هذه الطرق الرديئة الملتوية هي كل المهارة التي تُطلب من الشعراء، فالناس لا يطلبون منهم ما يمتعون به أنفسهم أو يغذون به عواطفهم؛ إنما يطلبون هذا التكلف العقيم، وهو تكلف سقطت فيه حقائق الشعراء الذاتية، فقد أصبحوا أمثلة متشابهة، لا يتميز منهم شاعر عن شاعر لا بوجهة عاطفية، ولا بنزعة فكرية، ولا بسمة شخصية.

نهضة وإحياء

2- نهضة وإحياء: رأينا شعرنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر لا يكاد يخرج عن الإطار العثماني السقيم؛ ولكننا لا نكاد نمضي في النصف الثاني من هذا القرن حتى يأخذ هذا الإطار في التغير والتحطم في بعض جوانبه. وهيأت لهذا التطور بواعثُ مختلفة؛ فإن جذوة الحقوق السياسية التي استشعرتها مصر منذ مفتتح القرن التاسع عشر أخذ ينزاح عنها رماد الظلم الثقيل، وأخذ المصريون يحسون هذه الحقوق المقدسة، ويستضيئون بها في حياتهم. وكان قد وصل كثير منهم -منذ عهد سعيد ومنذ رجوع البعثات- إلى المناصب الكبرى. وكان لاستكشاف حجر رشيد، وقيام علم الآثار المصرية، وتأسيس المتحف المصري -فضل كبير في شعورهم بكرامتهم وكرامة أصلهم؛ فقد وقفوا على تاريخهم وعرفوا فيه حقائق غير تلك الأساطير القديمة التي كان يرويها المؤرخون -من مثل المقريزي- عن بلادهم.

واضطُر إسماعيل أن يستجيب لهذه الروح الجديدة؛ فأنشأ الحياة النيابية. وفي هذه الأثناء كانت تُطْبَع دواوين الشعر القديم، فاطلع المصريون على نماذج لم يكونوا يألفونها؛ إذ تخالف في جملتها النماذج التي كانوا يعرفونها، فقرءوا لشعراء العصر العباسي وما سبقه من عصور، وأمعنوا في ذلك حتى العصر الجاهلي. ولا بد أنهم التفتوا إلى أن الشعر العربي -وخاصة في منابعه الأولى- كان شعرًا طبيعيًّا يصور حياة أصحابه تصويرًا دقيقًا، فالشاعر في العصر الجاهلي مثل امرئ القيس وفي العصر الإسلامي مثل جرير كان يمثل حياة قبيلته تمثيلًا دقيقًا، فهو مرآة صافية نقية لها يسجل حوادثها ومفاخرها ومحامدها وكل ما يتصل بها، وهو في العصر العباسي مرآة صافية أيضًا تعكس كل ما في العصر من حياة، ولا تحول أعشاب البديع دون هذه الغاية، فهي وسيلة لا أقل ولا أكثر؛ ولكن حدث بعد ذلك أن اضطربت الغاية من تمثيل القبيلة والعصر، وأصبحت الوسيلة هي الغاية، فغاية الشاعر -وخاصة منذ العصر العثماني- أن يعبر عن لون من ألوان البديع. فكان اطلاع المصريين على النماذج القديمة المغرقة في القدم سببًا في انصرافهم عن الصورة السقيمة التي انتهى إليها الشعر في موطنهم. ورشح لذلك اطلاعهم على الآداب الأجنبية وخلو الشعر فيها من هذه الأثقال البديعية التي تفسد المعاني في أغلب الأمر، والتي تقف حائلًا بين الشاعر وبين التعبير الحر عن عصره ونفسه. وكان ذلك وما يتصل به من وقوف المصريين على حياة الأوربيين العلمية وحياتهم المادية دافعًا إلى تغير ذوقهم، فلم يعد ذوقًا متخلفًا؛ بل أصبح ذوقًا حيًّا تغذيه وترقيه الآداب الأجنبية. وكلما تعمقنا أو سرنا مع الزمن ازداد اتصالنا بالأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث، فمن جهة كثر طبع الدواوين العباسية وغير العباسية، ومن جهة أكثرنا من المدارس والبعوث إلى الغرب، ونما اتصالنا به لا عن طريق التعليم والبعوث فحسب، فقد نزلت بلادنا -وخاصة منذ فتح قناة السويس- طبقات من الأوربيين شاركت في حياتنا الثقافية بما فتحت من مدارس كما شاركت في حياتنا الاقتصادية والمادية، حتى أصبحت طائفة منا متحضرة تحضرًا أوربيًّا خالصًا، وخاصة صاحب القصر ومن اتصلوا به.

الفصل الثالث: أعلام الشعر

الفصل الثالث: أَعْلام الشعر: 1- محمود سامي البارودي 1838-1904م: أ- حياته: لا نكاد نصل إلى أواخر عصر محمد علي حتى تُهلل ربَّةُ الشعر، وتُصفِّق نشوة وطربًا، فقد وُلد في سنة 1838 الشاعر الفذ، الذي كانت تبحث عنه في الأقاليم العربية منذ المتنبي والشريف الرضي ويعييها البحث ويضنيها. وُلد محمود سامي البارودي الذي سيبعث الشعر العربي من سُباته الطويل، ويخلع عنه ثيابه البالية من البديع وغير البديع، ويرد إليه الحياة والنشاط، فيصبح شعرًا ممتعًا يغذي القلب والشعور، ويمنح قارئه لذة فنية حقيقية. وقد نشأ في وسط ثري؛ إذ ولد لأبوين من الجراكسة، ينتميان إلى المماليك الذين حكموا مصر فترة من الزمن. وكان أبوه من أمراء المدفعية، ثم جعله محمد علي مديرًا لبربر ودنقلة، وظل بهما إلى أن توفي وابنه في السابعة من عمره، فكفله بعض أهله وقاموا خير قيام على تربيته، حتى إذا بلغ الثانية عشرة ألحقوه بالمدرسة الحربية على غرار لداته من الجراكسة والترك. وتخرج فيها سنة 1854 وكانت مصر حينئذ تجتاز دورة بائسة من حياتها الحديثة؛ إذ عطل عباس الأول آلة نهضتها الكبيرة التي أخذت تدور منذ عهد أبيه محمد علي، فأغلق المدارس وسرَّح الجيش إرضاء للدولة العثمانية، وخلفه سعيد، فاحتذاه

في كثير من سياسته، وخاصة من حيث الجيش وتسريحه. فلما تخرج البارودي في المدرسة الحربية لم يجد عملًا؛ ولكنه لم يخلد إلى الراحة؛ بل أخذ توًّا يعمل في ميدان جديد، هو ميدان الشعر العربي، وسُرعان ما تيقظت مواهبه فيه. ونراه يقول إنه ورثه من قِبَل أمه: أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله وشَعَرَ من أول الأمر أنه لا بد له من التمرين والإعداد، فانكب على صحف الشعر العربي يحاول أن يتخذ لصوته منها سندًا وإطارًا، ولم يعجبه الشعر الرديء الذي كان يعاصره وما يتصل به مما نُظم في عهود الركود القريبة، فانطلق يبحث عن غايته في شعر العصر العباسي وما سبقه في العصرين الجاهلي والإسلامي، ولم يلبث أن وجد طلبته وما يملك عليه لُبَّه، وكلما ازداد قراءة في هذا الشعر القديم ازداد به شغفًا وإعجابًا. وهذا الطموح الذي جعله يتجاوز ما في عصره من شعر مسف إلى ما في العصور القديمة من شعر خصب رائع هو فرع من طموح واسع في نفس الفتى، وقد دفعه هذا الطموح إلى البحث عن بيئة جديدة غير بيئته، كما بحث في الشعر عن عصر جديد غير عصره، فسافر إلى الآستانة، واشتغل بوزارة الخارجية فيها، وثَقِف هناك آداب اللغتين الفارسية والتركية، ونظم فيهما بعض أشعاره، وظل ينظم في العربية، وأتاحت له مكتبات الآستانة وما فيها من ذخائر الشعر العربي فرصة ذهبية جديدة؛ ليتزود من دواوين العباسيين ومَن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين. وفي هذه الأثناء زار إسماعيل الآستانة سنة 1863 ليشكر أولي الأمر فيها على تقليده ولاية مصر، فتعرف على البارودي، وقَرُبَ من نفسه، فضمه إلى حاشيته، وأصبحت له مكانة أثيرة عنده، فلما عاد إلى مصر صحبه معه. وأخذ الحظ يبتسم له فعُيِّن في سلاح الفرسان، وما هي إلا فترة قليلة حتى سافر إلى

فرنسا مع طائفة من الضباط؛ ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، ولم يكتفوا بذلك فقد عبروا المانش إلى لندن؛ ليشاهدوا بعض الأعمال العسكرية في الديار الإنجليزية. ورجع إلى وطنه ينعم بما ورث من ثراء وما تغدقه عليه الوظيفة من مال وجاه، وأخذ شعره في هذه الحقبة من حياته يصور متاعه بدنياه وما تجتليه عينه من مشاهد الطبيعة المصرية، كما أخذ يصور ما انطبعت عليه نفسه من الشجاعة والقوة والروح العسكرية. وحدث أن اندلعت ثورة ضد الدولة العثمانية في جزيرة إقريطش "كريت" سنة 1866 ورأى إسماعيل أن يمدها بفرقة مصرية، ورحل البارودي مع الفرقة، وأبلى في حرب الثوار بلاء حسنًا، فكافأته الدولة العلية ببعض أوسمتها، وفي هذه الحرب نظم نونيته المشهورة: أخذ الكَرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرَى بأعنة الفرسان ولما أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877 مدت مصر قوسها تساعدها في تلك الحرب، وكان البارودي من خير من رموا عن هذه القوس، فأنعم عليه بأوسمة مختلفة، وتغنى ببلائه حينئذ، ومزج غناءه بشوق وحنين شديد إلى وطنه على نحو ما يرى قارئه في قصيدته: هو البَيْنُ حتى لا سلامٌ ولا رَد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوَجْدُ ورجع إلى مصر مرفوع الرأس، فعين مديرًا للشرقية، ثم محافظًا للعاصمة. وكانت الحركة القومية قد أخذت في الظهور، بعامل الصحف وقيام طائفة من المصلحين ينددون بإسماعيل وسياسته المالية الفاسدة وتمكينه للأجانب أن يتدخلوا في شئون الحكم المختلفة، وما رضي به من صندوق الدين والمراقبة الثنائية، ومد البارودي يده إلى القائمين على هذه الحركة تحدوه في ذلك نفسه الطموح، وكأنما حلم برجوع مجد آبائه من المماليك ممثَّلًا في شخصه. ونزل إسماعيل عن ولاية مصر لابنه توفيق، فحاول في أول الأمر أن يستجيب إلى دعوة المصلحين، فوعد بإقامة الحكم النيابي، وعين البارودي

ناظرًا أو وزيرًا للأوقاف، ثم أسند إليه وزارة الحربية. وسرعان ما نكث توفيق عهده للأمة، فلم يُقم لها مجلس الشورى الذي تنتظره، واستقال البارودي، ثم عاد مع وزارة جديدة، ولكن توفيقًا لم يمضِ في طلبات الشعب، فتطورت الأمور. وعُهد إلى شاعرنا بتأليف الوزارة، وثار الجيش بقيادة عرابي ثورته المعروفة سنة 1882 واستعان توفيق بحراب الإنجليز ضد الوطن وجيشه؛ حينئذ انضم البارودي إلى الثورة، وكان مترددًا كما يصور ذلك شعره؛ ولكنه عاد فحزم رأيه. ولما أخفقت الثورة قُدم إلى المحاكمة وحُكم عليه بالنفي إلى "سرنديب"، فظل بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، يتغنى بآلامه وغربته وجروحه النفسية. وهناك تعلم الإنجليزية، وأخذ يؤلف مختاراته من الشعر القديم، فجمع لثلاثين شاعرًا عيون قصائدهم وأشعارهم. وأخيرًا صدر العفو عنه في سنة 1900 فعاد إلى وطنه، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والشعراء، إلا أن حياته لم تطل به، فقد اختطفه الموت سنة 1904 ولم يكن قد طُبع ديوانه ولا مختاراته فطبعتهما أرملته، وبذلك قدَّمت للأجيال التالية هذين الكنزين النادرين من شعره ومنتخباته.

ب- شعره: ما قدمنا من حياة البارودي يدل دلالة واضحة على أن مؤثرات كثيرة اشتركت في تكوين شخصيته الأدبية، وكان منها ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، ومنها ما وقف عند السطح والظاهر، فلم يترك أثرًا بعيدًا لا في نفسه ولا في شعره. وأول ما يلاحظ من ذلك أنه من عنصر شركسي، كان له حكم مصر في وقت من الأوقات، وأورثه هذا العنصر حدة في المزاج وطموحًا واسعًا، وميلًا إلى حياة الحرب والفروسية. وهذا العنصر الوراثي يقابله عنصر عربي مكتسب من قراءاته للشعر القديم، وأضاف إلى هذا العنصر قراءات في الآداب التركية والفارسية، وفي الآداب الإنجليزية أخيرًا، ودعته ظروف حياته العسكرية إلى أن يسافر إلى أوربا ويشهد الحياة الأوربية. وهو بهذا كله يشبه الشعراء

العباسيين الذين كانوا يلمون بالثقافات الأجنبية المعروفة لعصورهم، وإن كان من المحقق أنه لم يتأثر في شعره تأثرًا واضحًا بما ألم به من ثقافات غير الثقافة العربية؛ ولكنها -على كل حال- تضيف إلى شخصيته شيئًا جديدًا لا نراه عند معاصريه من الشعراء المصريين. وليس هذا كل ما يُكوِّن شخصيته الأدبية، فهناك عنصر خطير كان له أعمق الأثر في تكوينه، وهو عنصر البيئة المصرية التي اضطرب في مشاهدها الطبيعية وأحداثها القومية والسياسية، وأثرت هذه البيئة في روحه وكيانه الأدبي؛ بل لقد استبدت به استبدادًا؛ حتى غدا في القرن الماضي شاعر مصر الذي لا يبارَى في تصوير الحياة المصرية من جميع أطرافها المكانية والزمانية. وإذا أخذنا ننعم النظر في شعره -على ضوء هذه العناصر التي ألفت شخصيته- لاحظنا قوة العنصر العربي المكتسب، وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب في عصره؛ وإنما اكتسبه بطريق مباشرة؛ هي قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت في نفسه سليقة الشعر العربي الأصيلة، فصدر عنها في نظمه وشعره. يقول الشيخ حسين المرصفي عنه في كتابه "الوسيلة الأدبية": "هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهي ذكاؤه لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض مَن له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور في برهة يسيرة هيآت التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني ... ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم؛ حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر باللائق بالأمراء". ومعنى ذلك أنه لم يستنَّ سنة معاصريه من تعلم النحو والعروض والبديع حتى

يُحسن نظم الشعر؛ وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتد هو إلى تلك الطريقة، ونقصد طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته. وكان هذا حدثًا خطيرًا في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ في صور من الهذيان على كل لسان. فأزال البارودي من طريقه هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلًا دقيقًا، فقد أُشْربتها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه. وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله؛ وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغث الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر ألا يَنْبذه؛ بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغه وقوالبه. وكان هذه الاتجاه يعد ثورة في عصره؛ لأنه خروج عن مألوف معاصريه، وعَوْدٌ بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال. أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهبًا له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل: النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته. وهذا هو مذهبه الفني؛ بَعْثُ الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه، وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب؛ بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين انفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث. فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب

وجزالته؛ ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وبشخصيته، وكأنها خاتم يطبع على كل مأثور له اسمه. ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد رد إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره؛ بحيث أصبح شعرًا حيًّا يصور منشئه وقومه تصويرًا بارعًا. ويستطيع القارئ أن يقرن ما قدمناه عن حياة البارودي الخاصة والعامة إلى ديوان فسيراها مرسومة فيه رسمًا دقيقًا بكل جزئياتها وتفصيلاتها، فحياته الأولى قبل الثورة العرابية وما ارتبط بها من نعيم العيش ورغده مصورة أوضح تصوير، فهو يصف لهوه ومرحه ومُتعه، كما يصف بيئته المصرية وما فيها من مشاهد الطير والأشجار والنبات، وله في ذلك طرائف كثيرة؛ كقوله في القطن وهو على سوقه: القطن بين مُلوِّز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلَى1 فكأن عاقده كُرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروَا2 دبت به روح الحياة فلو وهت ... عنه القيود من الجداول قد مشى3 فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا4 لم يَسْرِ فيه الطرف مذهب فكرة ... محدودة إلا تراجع المنى5 ويشترك في حروب الدولة العثمانية فيصف وقائعها وصفًا دقيقًا تسعفه مخيلة ماهرة في التقاط المرئيات، وعاطفة حماسية ملتهبة. وبذلك يعيد لنا فن الحماسة القديم الذي عَفَّى عليه الزمن؛ إذ ينفخ فيه حياة وروحًا جديدة. وكان في قرارة نفسه يستشعر مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، كما كان يستشعر مجد وطنه وما كشف علم الآثار المصرية من هذا المجد،

_ 1 الغادة: المرأة الشابة الجميلة. 2 العاقد: لوز القطن قبل تفتحه، والزاهر: الأبيض المشرق، والروا: حسن المنظر. 3 يقول: إن روح الحياة سرت فيه، ولولا مياه الجداول التي تمسك به لمشى. 4 الدكناء: الضارب لونها إلى السواد. 5 مذهب فكرة محدودة: مقدار جولة الفكر المحدودة، ويريد اللمحة، يقول: إنه كلما لمح هذا النبات رأى فيه ما يحقق آماله.

وصور هذا الشعور في قصيدة وصف بها الهرمين، وهي أول قصيدة حديثة في آثارنا الفرعونية، ومما يقول فيها: سل الجيزة الفيحاء عن هرمَيْ مصر ... لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت، وهما أعجوبة العين والفكر وبينهما بلهيب في زي رابض ... أكب على الكفين منه إلى الصدر1 مصانع فيها للعلوم غوامض ... تدل على أن ابن آدم ذو قدر وتدعوه الحركة القومية، فيلبي الدعاء، ويأخذ في نظم شعره السياسي الذي يدعو فيه إلى الإصلاح والأخذ بنظام الشورى، ويزداد للدعوة حمية، فيطالب بتغيير الساسة ومن في يدهم الحكم لعهد إسماعيل، ويندفع في ثورة قوية، ملوحًا بأمله في أن يصير الأمر له، فمن ذلك قوله من قصيدة طويلة: لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الْخمَل2 قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثَكَل3 ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول4 فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل5 وقَلِّدوا أمركم شهمًا أخا ثقة ... يكون ردءًا لكم في الحادث الجلل6 يجلو البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل

_ 1 بلهيب: أبو الهول. 2 الخمل: جمع خامل. 3 الثكل: فقد الولد. 4 دولة الفسطاط: دولة مصر. 5 الشكالة: قيد الدابة، والريث: الإبطاء. 6 الردء: العون، والجلل: الخطير.

ويظله عهد توفيق، ويتولى الوزارة، فلا يخمد ما في نفسه من آمال؛ بل تزداد توهجًا واشتعالًا، وينضم إلى عرابي مع غيره من الثوار منشدًا مثل قوله: فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع1 وتخفق الثورة، ويَصْلى البارودي نار أعدائها بعد الإخفاق، فيُحاكم ويُنفى إلى سرنديب، ويتحول إلى دورة بائسة في حياته، ويتحول معه شعره، فيفيض بالألم والشكوى والشوق والحنين إلى وطنه، ويرثي من يموت من أهله، وكأنه يرثي نفسه. ومرثيته في زوجه الأولى: أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي2 سيل لاذع من الحزن والشجى والتفجع المرير. ويعود إلى وطنه، فيفرح فرحة الطائر ينطلق من قفصه، وينشد قصيدته: أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني رأى فيها عيونًا هي السحر وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويرًا صادقًا. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب؛ بل أيضًا بمخترعاته، وكان يُجريها في تشبيهاته واستعاراته كقوله في الغزل: وسرت بجسمي كهرباءة حسنه ... فمن العروق به سلوك تخبر وبما قدمنا كله كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين: بعث الأسلوب القديم في الشعر؛ بحيث تعود إليه جزالته ورصانته، وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرًا مخلصًا صادقًا.

_ 1 أينعت: أدركت وحان قطافها. 2 المنون: الموت، والزناد: حجر تقدح به النار.

إسماعيل صبري 1854-1923م

2- إسماعيل صبري 1854-1923م: أ- حياته: وُلد إسماعيل صبري في القاهرة سنة 1854 لأسرة متوسطة، وأخذ يختلف منذ نشأته إلى المدارس على غرار نُظَرائه من أبناء هذا الزمان، فالتحق بمدرسة المبتديان سنة 1866 ثم بمدرستي التجهيزية والإدارة "الحقوق" وأتم دراسته في الأخيرة سنة 1874. وبمجرد تخرجه فيها أُرسل في بعثة إلى فرنسا، فنال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية إكس سنة 1878، وفتحت هذه الشهادة الأبواب أمامه كي ينتقل في وظائف السلك القضائي بمصر، وفي سنة 1896 عُيِّن محافظًا للإسكندرية، وظل بهذه الوظيفة ثلاث سنوات انتقل في نهايتها وكيلًا لوزارة العدل "الحقانية حينئذ". وما زال يشغل هذا المنصب حتى طلب إحالته إلى المعاش في سنة 1907. وخلص منذ هذا التاريخ لشعره وفنه حتى لبَّى نداء ربه في سنة 1923. وحياته على هذا النحو كانت حياة سهلة، ليس فيها شظف ولا حرمان؛ فقد وفَّر له راتبه غير قليل من الرزق وطيب العيش. وانعقدت أواصر الصداقة بينه وبين مصطفى كامل، ويقال: إن أولي الأمر طلبوا إليه ذات مرة -وهو محافظ بالإسكندرية- أن يحول بين مصطفى وبين الشعب هناك، فلا يدعه يخطب فيه، فأبى ذلك، وخلى بين الشعب وزعيمه الشاب، وقال: أنا مسئول عن الأمن والنظام. ويُؤْثَرُ عنه أنه لم يزر دار المندوب السامي الإنجليزي على نحو ما كان يصنع كبار الموظفين في عصره؛ إذ كان يرى في ذلك أكبر وصمات الذل والاستعباد. وظل وفيًّا لمصطفى كامل يزوره ويتردد على دار اللواء، حتى إذا عصفت به المنون انتظم في سلك مشيعيه، ووقف على قبره يندبه بقصيدته:

أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا ... هددْتَ القُوَى إذ قمت بالأمس ناعيا وهي تصور جزعه عليه من ناحية، وتصور من ناحية ثانية مدى إخلاصه له وحزنه عليه، وكل بيت فيها دمعة وفاء يذرفها على صديقه وزعيمه. ومن الحق أن نفسه كانت كبيرة، وأنه كان يستشعر معاني الكرامة في أبلغ صورها. وقد تحول بيته إلى منتدى يألفه الأدباء والشعراء، وعُرف بين الأخيريين خاصة بذوقه الدقيق وحسه المرهف، فكانوا يعرضون عليه أشعارهم، ويستجيبون لنقده وملاحظاته، ولعل ذلك هو السبب في أن معاصريه كانوا يلقبونه "شيخ الشعراء" فهو شيخهم المجلِّي، واعترف بذلك حافظ وشوقي في رثائهما له، يقول حافظ: لقد كنت أغشاه في داره ... وناديه فيها زها وازدهر وأعرض شعري على مسمع ... لطيف يحس نبو الوَتَر ويقول شوقي: أيام أمرح في غبارك ناشئًا ... نَهْجَ الْمِهار على غبار خصاف1 أتعلم الغايات كيف ترام في ... مضمار فضل أو مجال قواف ويُجمع معاصروه على أنه كان رقيقًا دمثًا وديعًا حلو النادرة، وهو من هذه الناحية يمثل رقة أهل القاهرة، وما يشتهرون به من خفة الظل ولطف الحس. وكانت في عصره "صالونات" أو ندوات لبعض السيدات كن يُقمنها على الطريقة الفرنسية، كندوة الأديبة المشهورة "مي". وقد دعمت هذه الندوات الرقة التي امتاز بها. وأنت لن تجد مثله شاعرًا استولى على معاصريه برقته ودعته ودماثته، ولعل ذلك هو السبب في أنه خرج من معارك النقاد في أيامه دون أن ينالوه بسوء. ومما يتصل بهذا الجانب عنده أنه لم يكن يهمه أن يسمى شاعرًا كبيرًا، فحسبه أن يغنِّي شعره لنفسه وفي خلواته.

_ 1 مهار: جمع مهرة، وخصاف: فرس مشهور لدى العرب.

وعلى نحو ما كان يختلط بالأدباء والشعراء كان يختلط بالمغنين وأهل الموسيقى من الملحنين، وقد وضع لهم أدوارًا شاعت في عصره وما زال بعضها يغنَّى في عصرنا، وهو فيها يرتفع بعيدًا عن السفح الذي كان لا يتجاوزه أصحاب هذه الأدوار حينئذ؛ إذ أشاع فيها الطهر والعفة ومعاني الحب السامية.

ب- شعره: لعل فيما قدمناه من حياة إسماعيل صبري ما يدل على أن عناصر مختلفة أسهمت في تكوين شاعريته، فهو مصري صميم؛ بل هو قاهري، يمثل الروح القاهرية المصرية الخالصة، وما عُرف عن أهل القاهرة من اللين والدماثة والميل إلى الدعابة. وهو قد تعلم في فرنسا وعرف الآداب الفرنسية في عصر الرومانسية: عصر لامارتين وغيره، ولا ريب في أن ذلك أضاف إلى شاعريته شيئًا جديدًا، فقد نهل من منابع لا عهد للعرب ولا للعربية بها، وفي ديوانه إشارات إلى بعض أمثال وعبارات فرنسية استوحى منها بعض أبياته ومقطوعاته. على أننا نلاحظ أن أكبر شيء أثَّر في شاعريته حقًّا وسطه المصري وندوات السيدات التي كان يختلف إليها، فقد أثرا جميعًا أثرًا بعيدًا في روحه ومزاجه وتكوين شخصيته الأدبية. وأيضًا أثرت فيه أثرًا عميقًا قراءاته في الأدب العربي، ويظهر أنه قرأ كثيرًا في البهاء زهير وابن الفارض، ففي شعره آثار مختلفة منهما؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه امتداد لهما في كثير من جوانبه. وقد بدأ حياته الفنية أو الشعرية مبكرًا قبل بعثته إلى فرنسا؛ إذ كان ينشر في مجلة "روضة المدارس" مديحًا في إسماعيل، وظل ينظم بعد عودته في هذا الموضوع الرسمي. وشعره فيه تقليدي، وفيه كثير من فنون البديع على طريقة معاصريه. ومعنى ذلك أن العنصر الفرنسي أو الآداب الفرنسية لم تترك أثرًا سريعًا في فنه، فقد مضى في أشعاره الأولى يرسف في قيود التقليد. غير

أننا لا نمضي طويلًا معه، حتى نراه يتبين نفسه فينزع عنها رداء الشعر الرسمي، ويخلص للتغني بعواطفه الصادقة، وحينئذ تتراءى جميع العناصر التي أشرنا إليها آنفًا في تكوين شخصيته الأدبية، فإذا هو شاعر قاهري رقيق، وإذا هو امتداد للروح المصرية التي مثلها في عصورنا السابقة البهاء زهير من طرف وابن الفارض من طرف آخر، وأيضًا إذا هو يتأثر في بعض معانيه وأخيلته بما عرَف من معانٍ وأخيلة في الأدب الفرنسي. أما أنه امتداد للبهاء زهير، فإن ذلك يتضح فيما نظمه في الحب والمرأة؛ فقد عمد فيه إلى ضرب من الشعر الوجداني الصافي الذي يشف عن كل ما وراءه، في أسلوب ليس فيه تكلف ولا ما يشبه التكلف. ليس فيه ما كان يردده القدماء من وصف صخامة الرِّدْف ورقة الخصر والريق والنهود واللثم وغير ذلك مما يصور اللذة الحسية، وتأنف منه الأذواق السليمة؛ إنما فيه عاطفة الحب الطاهرة العفيفة، على شاكلة قوله في بعض الحِسَان: إن هذا الحسن كالماء الذي ... فيه للأنفس ري وشفاء لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظماء وتجلي واجعلي قوم الهوى ... تحت عرض الشمس في الحكم سواء أقبلي نستقبل الدنيا وما ... ضُمِّنَتْه من معدات الهناء واسفري تلك حُلًى ما خُلقت ... لتُوارَى بلثام أو خباء واخطري بين الندامى يحلفوا ... أن روضا راح في النادي وجاء وابسمي من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء راضت النخوة من أخلاقنا ... وارتضى آدابنا صدق الولاء أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء وانزعي عن جسمك الثوب يَبِنْ ... للملا تكوين سكان السماء وأرِي الدنيا جناحي ملَك ... خلف تمثال مصوغ من ضياء

وواضح أن هذا غزل من نوع جديد يخالف ما كنا نألفه عند كثير من شعرائنا الماضين، أولئك الذين كانوا يتعبون أنفسهم في رصف أصداف التشبيهات حين يتغزلون بالمرأة على نحو ما نرى عند قائلهم: فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت ... وردًا وعضت على العُنَّاب بالبَرَد وقلما يصورون حركة نفس؛ إنما يحشدون الشتبيهات والاستعارات حشدًا، ويتبارون في ذلك، حتى طلع الشعراء المصريون من أمثال البهاء زهير، فإذا هم يفكون الغزل من هذه الأصداف أو من هذه القيود، ويرجعون به إلى نمط طبيعي، يعبرون فيه عن روحهم المصرية البسيطة؛ بل يعبرون عن أنفسهم وعن وجداناتهم وعواطفهم. ومن الحق أن إسماعيل صبري خطا بهذا الشعر الوجداني خطوات بتأثير البهاء زهير من جهة وتأثير ثقافته الفرنسية من جهة ثانية، وما نوعت في تفكيره ومعانيه، واقرأ له هذين البيتين: ولما التقينا قرَّب الشوق جهده ... شَجِيَّيْنِ فاضا لوعة وعتابا كأن صديقًا في خلال صديقه ... تسرب أثناء العناق وغابا فإنك ترى فيهما دقة الخيال والتصوير، كما ترى صورة النفس والعاطفة مع الرقة والحس الدقيق. ومهما قرأت في غزله فلن تجد عنده ما يخدش الذوق أو ينبو عنه، ومن المؤكد أنه كان لوسطه أثر في ذلك، ونقصد ندوات السيدات اللائي كان يختلط بهن، فإن معاشرته لهن أصابت غزله برقة شديدة، وجعلته يرتفع فيه إلى ضرب وجداني سام، ليس فيه حس ووصف للمتاع إلا ما يأتي عفوًا. وغزله لذلك يمتاز عن غزل معاصريه وسابقيه، وحقًّا أنه -كما قلنا- امتداد لغزل البهاء زهير؛ ولكنه امتداد فيه تنويع واسع للمعاني بفضل ما قرأ في الآداب الغربية، وفيه رقة حس وارتفاع بالذوق بفضل اختلاطه بالمرأة المصرية الحديثة.

وجانب آخر في غزله لم نتحدث عنه، وهو واضح في أساليبه؛ وذلك أنه يدنو من لغتنا اليومية المألوفة دنوًّا يجعلنا نذكر سلفه البهاء زهير، وما كان يصطنع في شعره من هذا القرب الشديد إلى ألفاظ العامة، واقرأ لصبري هذا المطلع لإحدى مقطوعاته: أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بشافعة في رد ما كانا فإنك تراه يتأثر تأثرًا واضحًا بما يشيع على ألسنة المصريين في حياتهم اليومية من قولهم: "لا ينفع ولا يشفع"، وكأنه يريد أن يعبر في غزله عن الروح المصرية بخواصها اللغوية. وكان يُشيع ذلك في جميع أشعاره؛ كقوله في رثاء مصطفى كامل: أجل أنا من يرضيك خلا موافيا ... ويرضيك في الباكين لو كنت واعيا فقد استخدم كلمة "واعيا" في القافية كما تستخدمها العامة، فهي ليست بمعناها المعروف في العربية وهو الحافظ؛ وإنما هي بمعنى ملتفت، أو كما نقول في العامية: "واخد بالك". ولا ريب في أن هذا القرب من لغتنا اليومية هو الذي جعل المغنين يقبلون على مقطوعات صبري الغزلية، فيغنونها أدوارًا، كأغنيته المشهورة: يا آسيَ الحي هل فتشت في كبدي ... وهل تبينت داء في زواياها أوَّاه من حُرَق أودت بأكثرها ... ولم تزل تتمشى في بقاياها يا شوقُ رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذُعْرًا في حناياها وحاول أن يقترب أكثر من ذلك إلى روحنا المصرية، فنظم للمغنين أدوارًا عامية ذاعت على كل لسان، من مثل قوله في بعض أغانيه: الحلو لما انعطف ... أخجل جميع الغصون والخد آه ما انأطف ... وَرْدُه بغير العيون

وقوله: يا ألب ادانت حبِّيت ... ورجعت تندم صبحت تشكي ما لإيت ... لك حد يرحم ومن تمام هذه الروح المصرية في شعر صبري أننا نجد عنده الدعابة الخفيفة والتهكم الساخر اللذين عُرف بهما المصريون على طوال عصورهم في تنكيتهم وتبكيتهم، في أدبهم العامي وأدبهم العربي الفصيح جميعًا؛ إذ تتأصل الفكاهة الحلوة والسخرية المرة في نفوسهم؛ حتى ليصبحان جوهرًا ثابتًا في أمزجتهم وطباعهم، وهو جوهر يتألق في شعر صبري، فتارة يكون دعابة بسيطة، وتارة يكون نقدًا ساخرًا وهجاء لاذعًا على نحو ما نرى في الأبيات التالية التي نظمها في مصطفى فهمي حين سقطت وزارته في سنة 1908 مصورًا مدى ولائه للإنجليز، وكيف كان يصدر في حكمه عن مشيئتهم، يقول مخاطبًا له: عجبتُ لهم قالوا سقطت ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرَّم فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة ... على الصخر لم تُصْدَع ولم تتحطم وقد وقف مع أمته في حادثة دنشواي يصور فظائع الإنجليز وما ساموا أهل هذه القرية من الخسف والقتل وعذاب السجون، يقول: إنْ أنَّ فيها بائس مما به ... أو رن جاوَبه هناك مطوَّقُ ومضاجع القوم النيام أواهل ... بمعذَّب يُرْدَى وآخر يُرْهَق لن تبلغ الجرحى شفاء كاملًا ... ما دام جارحها المهنَّد يبرق ونراه يفزع فزعًا شديدًا حين طمَّ الخلاف بين المسلمين والأقباط سنة 1911، وكاد يأتي على وحدتنا الوطنية، فينظم مثل قوله: خَفِّفوا من صياحكم ليس في مصـ ... ـر لأبناء مصر من أعداء دينُ عيسى فيكم ودين أخيه ... أحمد يأمراننا بالإخاء

مصر أنتم ونحن لا إذا قا ... مت بتفريقنا دواعي الشقاء مصر ملك لنا إذا ما تماسكـ ... ـنا وإلا فمصر للغُرَباء وقد تغنَّى في سنة 1909 غناء خالدًا بعظمة مصر وأمجادها في قصيدته المشهورة التي جعلها على لسان فرعون مصر، والتي يستهلها بقوله: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا وَنَى يوم تحصيل العُلا واني وهي تدور على كل لسان، وفيها يُلهب فرعون مشاعر الشباب ويذكي حماستهم بما ينفخ في روحهم من حمية ويستشير من عزيمة؛ لطلب العلا، تأسيًا بسيرة الأجداد، وما شادوا من مفاخر وأمجاد. وأشرنا -فيما أسلفنا- إلى أن صبري يُعد في بعض جوانبه امتدادًا لابن الفارض، الشاعر المصري المصري الصوفي الذي عاش يتغنَّى بالمحبة الإلهية وما يطوي فيها من ابتهال وعبادة. وحقًّا أن صبري لم يكن صوفيًّا على نحو ما كان ابن الفارض، فلم يكن يعشق الذات الإلهية عشقه، ولا كان يفنى فيها فناءه، ومع ذلك فهو متأثر به تأثرًا إن بدا ضيئلًا من الناحية الصوفية الخالصة فإنه قوي من الناحية الدينية والعقيدة الإلهية قوة يعبر فيها لا عن صلته بابن الفارض فحسب؛ بل أيضًا عن صلته بنفسية شعبه، هذا الشعب الذي يرسب الإيمان في أعماقه منذ أقدم أزمانه. فنحن نراه دائمًا يخلص وجهه لربه ودينه، مبتهلًا داعيًا، طالبًا لما عنده، مؤثرًا له على دنياه الزائلة، منيبًا إلى عفوه ورحمته. ويتردد هذا الشعور الديني ويفوح أريجه عنده في شكل دعاء حينًا ومناجاة حينًا آخر على هذه الشاكلة: يا رب أين تُرى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار لم يُبق عفوُك في السموات العلا ... والأرض شبرًا خاليًا للنار يا رب أهلني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار ومر الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار ويتصل بهذا الجانب عنده استسلام عميق للقضاء، وما تأتي به الأقدار،

فهو يتقبل كل ما في الحياة راضيًا قرير العين، حتى الموت، فإنه يرحب بمقدمه: يا موت هأنذا فخذ ... ما أبقت الأيام مني بيني وبينك خطوة ... إن تخطها فرجت عني إن الموت أمر مقدور وفريضة مكتوبة كتبها الله على عباده، وينبغي أن نرضى بما كتب لنا، فتلك مشيئته، ولا رادَّ لمشيئته؛ بل إن في الموت والهمود في باطن الأرض لراحة لنا من هموم الحياة، يقول: إن سئمتَ الحياة فارجع إلى الأر ... ض تَنَمْ آمنًا من الأوصاب تلك أمٌّ أحنَى عليك من الأ ... م التي خلَّفَتْك للأتعاب وهي خطرات كانت تمر بنفسه، فيسجلها في هذا الرواء الشعري، وربما كان من أسبابها اعتلال طال عليه في صحته؛ لكنها -على كل حال- تدل على نزعة دينية كانت تتغلغل في أعماقه. وهذا هو صبري في شعره: رقيق الحس، عذب النفس، دمث الطبع، خفيف الظل، قلما ينظم القصائد المطولة؛ إنما ينظم المقطوعات القصيرة التي يضمنها مشاعره في الحب والسياسة والدين في صدق وإخلاص.

حافظ إبراهيم 1870-1932م

3- حافظ إبراهيم 1870-1932م: أ- حياته: كان يقيم في ديروط إحدى بلدان الصعيد حوالي سنة 1870 طائفة من المهندسين المصريين للإشراف على قناطرها القائمة على النيل، وكان من بينهم مهندس مصري صميم يسمى إبراهيم فهمي، اختار لسكناه سفينة "ذهبية" أقام فيها مع زوجته التركية "هانم بنت أحمد البورصه لي". وفي هذه الذهبية وُلد لهما على صفحة النيل حافظ، ففرح به الأبوان، وعاشا بجانبه هانئين، إلا أن الدهر لم يلبث أن قلب لهما ظهر المجن، فإذا الأب يموت، وابنه يخطو على عتبة السنة الرابعة. فانتقلت به أمه إلى القاهرة حيث كفله خاله، وكان مهندس تنظيم، فرعاه وقام على تربيته، وألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم تحول به إلى مدارس مختلفة كان آخرها المدرسة الخديوية. وتصادف أن نُقل خاله إلى بلدة "طنطا" فصحبه معه. ولم يختلف في هذه البلدة إلى مدرسة؛ بل أخذ يختلف إلى الجامع الأحمدي، وكانت تُلقى فيه دروس على نمط ما يلقى في الأزهر. وحافظ لا ينتظم في هذه الدروس؛ بل يُلم بها من حين إلى حين في غير نظام. وأخذ يتضح فيه ميله إلى الأدب والشعر، فكان يطارح بعض الطلاب ويستعرض معهم طرائف الشعراء القدماء والمحدثين وخاصة البارودي. وعلى هذا النحو مضى في حياته لا يحملها محمل الجد، فمله خاله، وأشعره بملله، فابتأس وأحس غير قليل من الألم، وعزم على أن يبدأ محاولاته في كسب قوته، ونوَّه بذلك في بيتين وجَّههما إلى خاله، على هذا النحو: ثَقُلتْ عليك مئونتي ... إني أراها واهيه فافرَحْ فإني ذاهب ... متوجِّهٌ في داهيه وتوجه توًّا إلى المحاماة، وكانت لا تزال مهنة حرة، وكأنما أغرته بها ذلاقة لسانه وحسن منطقه، فالتحق بمكاتب بعض المحامين، إلا أن القلق عاوده. وفجأة نجده راحلًا إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة الحربية، وينتظم بين طلابها، ويتخرج فيها سنة 1891، ويعين في وزارة الحربية ويظل بها ثلاث سنوات. ثم ينقل إلى وزارة الداخلية، فيمضي فيها عامًا وبعض عام، ثم يعود إلى الحربية، ويُدْعى إلى مرافقة الحملة الأخيرة إلى السودان، وكانت بقيادة اللورد كتشنر، فيرافقها على مضض، ولا يكاد يضع قدمه هناك حتى يتبرم، ويضج بالشكوى

ويراسل الشيخ محمد عبده معلنًا تبرمه وسخطه. وتقوم ثورة في الجيش فيشترك فيها ويُحاكَم، ويُحكم عليه في سنة 1900 بإحالته إلى الاستيداع، ولا يلبث أن يطلب إحالته إلى المعاش. وحافظ في كل هذه الأطوار التي مرت بنا في حياته قلق ضيق بعيشه؛ فقد نشأ يتيمًا في أسرة متوسطة، ولم يلبث أن اضطر إلى كسب قوته بنفسه، وحاول أن ينظِّم حياته فدخل المدرسة الحربية وتخرج فيها؛ ولكن سوء الطالع لازمه، فأحيل إلى الاستيداع والمعاش. وكانت شاعريته قد استوت له، وكان ذا نفس حساسة مرهفة الشعور، فأحس بعمق بؤسه، وحاول أن يشتغل في صحيفة الأهرام؛ ولكنها أغلقت أبوابها من دونه، فاتجه إلى الشيخ محمد عبده، ولزمه حتى ليقول: "فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقط ثماره". وقد تعرَّف عن طريقه على الطبقة الممتازة من المصريين أمثال: سعد زغلول وقاسم أمين وحسن عاصم ومصطفى كامل ولطفي السيد ومحمود سليمان، وهي الطبقة التي كانت تفكر في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، والتي لا تزال آثارها فاعلة في حياتنا المصرية. وبذلك هيأ له اتصاله بالشيخ محمد عبده أن يعيش في البيئة الطامحة إلى الإصلاح، وكان في الوقت نفسه يعيش في بيئة الشعب الفقيرة التي نشأ فيها ويختلط بها بحكم بؤسه. وكانت قد نشأت فيها طائفة من الأدباء البائسين أمثال إمام العبد، وكانوا يجلسون في مقاهي الأحياء الوطنية، وينتقلون فيها بأدبهم، وهي طبقة أوجدتها ظروف الحياة الحديثة، فقد كان الشعراء والأدباء في القديم يرعاهم الملوك والخلفاء والأمراء، وبطلت هذه السنة في العصر الحديث، واضطر الأدباء والشعراء إلى أن يعتمدوا على أنفسهم في كسب أرزاقهم وسد حاجاتهم، وسرعان ما تكونت بينهم هذه الطبقة البائسة التي أخذ يتنازع إمامتها في أول القرن إمام العبد وحافظ إبراهيم. واضطر حافظ أن ينقطع إلى الطبقة الممتازة التي أشرنا إليها، وكان خفيف

الظل فقربوه منهم، فكان يمدحهم ويتندر لهم ويضحكهم، وينظم لهم الشعر في المناسبات المختلفة. وكان أكثر هذه الطبقة من أبناء الفلاحين الذين وصلوا بفضل جهودهم إلى المناصب العليا في مرافق الدولة، وكانوا يمتازون بشدة شعورهم بآمال الشعب وآلامه؛ فكان حافظ يجد في صحبتهم لذة، وكانوا يوسعون له في مجالسهم، فكان يروي لهم الشعر القديم وينشئ لهم قصائد فيما ينزعون إليه من وجوه إصلاح. وفي هذه الأثناء كتب "ليالي سطيح" وهي مقالات نثرية على طريقة المقامات، صوَّر فيها على لسان سطيح الكاهن الجاهلي كثيرًا من عيوب الشعب الاجتماعية، متأثرًا في ذلك أوضح التأثر بآراء الشيخ محمد عبده الإصلاحية. وحاول أن يتعلم الفرنسية ولم يتقنها، ومع ذلك ترجم البؤساء لفيكتور هيجو، ولم يستطع أن يترجمها ترجمة دقيقة، فاحتفظ بروحها، وزاد فيها ونقص حسب ذوقه. وأخيرًا ينقذه في سنة 1911 حشمت "باشا" وزير التربية والتعليم حينئذ من هذه الحياة البائسة، ويعيِّنه في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ويظل في هذه الوظيفة إلى سنة 1932. وأخذت الوظيفة تغلُّ لسانه، فلم يعد ينظم في شئوننا السياسية والاجتماعية كما كان شأنه قبل توظفه، حتى إذا وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ورُدت إلينا حريتنا أخذ يعود سيرته الأولى، غير أنه كان -فيما يظهر- يخشى أن يُفْصَل من وظيفته، فلم ينشر كثيرًا مما نظمه في الأحداث السياسية خشية أن يطرد من عمله ويحرم من قوته. وأحيل إلى المعاش في عهد وزارة صدقي "باشا"، وكانت الحريات مكبوتة فنظم كثيرًا من الشعر الثائر، ولكنه لم ينشره على الملأ في الصحف؛ بل ظل يخاف السجن. ومن هنا كان ديوانه لا يشتمل على جميع ما نظمه؛ بل إن جزءًا قيمًا منه -وخاصة في السياسة- ضاع ولم يصل إلينا. على أن القدر لم يمهله بعد خروجه إلى المعاش؛ إذ سرعان ما نعاه الناعون باكين فيه وطنيته ودماثته وتواضعه وسماحة نفسه وجمال عشرته.

2- شعره: إذا أخذنا نبحث في شخصية حافظ الأدبية وجدنا عناصر مختلفة تشترك في تكوينها، وأول هذه العناصر الدم المصري الذي ورثه عن أبيه، حقًّا كانت أمه تركية، ولكن تركيتها لم تخلف أثرًا واضحًا فيه، فقد غلبتها مصريته، بل لقد استبدت به، وأصبحت كل شيء يجري في روحه ومزاجه، حتى غدا مثالًا حيًّا للمصري في عصره، مثالًا لروحه القومية ومزاجه الفكه الباسم، وما تزال الصحف والمجالس تتناقل نوادره وفكاهاته إلى اليوم. وأضاف إلى هذا العنصر الوراثي عنصرًا عربيًّا من قراءاته للأدب القديم، وتطاول طموحه منذ أخذ في نظم الشعر إلى مقام البارودي، وربما كان دخوله في المدرسة الحربية ناشئًا عن رغبة ملحة في نفسه لأن تصبح سيرته مثل سيرة البارودي من جميع الوجوه، وكذلك اشتراكه في ثورة الجيش على كتشنر في السودان هو الآخر يطوي رغبته في احتذائه وتقليده. فالبارودي كان مثله الأعلى، وأخذ يطابق مطابقة تامة بين هذا المثل وشعره، واستطاع أن يظفر من ذلك بما كان يطمح إليه، فقد أحيا في شعره صيغه الجزلة الرصينة، وإن كان قد حاول تبسيطها، إلا أن قوالبه تمتاز دائمًا بما تمتاز به قوالب البارودي من الرصانة والجزالة والبعث لأساليب العربية الأصيلة. ومن الحق أن البارودي كان أوسع ثقافة منه، حتى في صلته بالشعر العباسي وما قبله وبعده من شعر عربي، وقد استطاع أن يؤلف فيه مختاراته التي تقع في أربعة مجلدات، وهو من هذه الناحية مثل: البحتري وأبي تمام، اللذين ألفا لأنفسهما بجانب ديوانهما مختارات من الشعر القديم باسم الحماسة. ولم يستطع حافظ أن يصنع صنيع الشاعرين العباسيين ولا صنيع أستاذه الحديث؛ لأنه

لم يكن منظَّم الثقافة؛ إذ كان يقرأ بدون نظام في العقد الفريد والأغاني ودواوين العباسيين. وكان له ذوق جيد وذاكرة لاقطة تعرف كيف تختزن ما تقرأ. وهو يختلف عن البارودي أيضًا في أن ثقافته بالآداب الأجنبية كانت ضيقة محدودة، فقد مر بنا أن البارودي ثَقِفَ آداب اللغتين الفارسية والتركية، وحاول أن يتعلم الإنجليزية في منفاه وسافر إلى أوربا قبل ذلك، ورأى الحضارة الغربية المادية، وهيأت له أرستقراطيته أن يتأثر بها في معيشته. وكل ذلك يجعل البارودي واسع الثقافة، أما حافظ فقد تعلم تعليمًا متوسطًا كما يتعلم أنداده من أفراد الطبقة الوسطى، وعرف أطرافًا من الفرنسية، ولكنها كانت معرفة قاصرة لم تتح له التعمق في آداب هذه اللغة. فحافظ كان ضيق الثقافة بالقياس إلى البارودي، وكان أشد ضيقًا بالقياس إلى معاصريه من أمثال: شوقي ومطران، اللذين كانا يتقنان الفرنسية وآدابها، مما أفادت منه طبيعتهما الأدبية إفادة واسعة. أما هو فكان محدود الثقافة، واضطرته إلى ذلك ظروف مادية قاسية، فهو لم ينشأ في طبقة أرستقراطية مثل: البارودي وشوقي، وشتان السفر إلى أوربا والسفر إلى السودان، ومع ذلك لا بد أن نجلَّ عصاميته؛ إذ كان شاعرًا بطبعه لا بثقافته، واستطاع أن يثبت للمنافسة مع شوقي ومطران وغيرهما ممن رفدوا طبيعتهم بجداول الفكر الغربي وينابيعه العقلية. وهنا لا بد أن نلاحظ العنصر الثالث المهم في تكوين شخصيته الأدبية، وهو عنصر بيئته المصرية الاجتماعية، وكان عنصرًا مركبًا، فهو من جهة نشأ في طبقة وسطى ودعته ظروف الحياة إلى أن يحس آلام الشعب وما ينطوي فيها من بؤس وفقر وشقاء، وهو من جهة ثانية أخذ يختلط بالطبقة الممتازة من المصريين التي لم تكسب امتيازها عن الوراثة، وإنما كسبته بجهودها، وكانت هذه الطبقة التي نشأت في البيئة الشعبية وتهيأ لها أن تسمو بحياتها وأن تصبح من الطبقة الأرستقراطية تشعر بكل ما يشعر به الشعب من حزن وألم، وتتمنى لو استطاعت أن تغير حياته في السياسة والاجتماع والثقافة.

ونشأة حافظ في الطبقة الأولى واختلاطه بالطبقة الثانية طبعا شعره بطوابع قوية؛ بحيث أصبح شاعرًا مصريًّا تامًّا يصور النفس المصرية الطامحة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تصويرًا دقيقًا، وماذا تريد من تصوير الشعب؟ أما إن كنت تريد تصوير شكواه وحزنه وبؤسه وفقره فقيثارة حافظ تسمعك كل هذه الألحان الشجية، وأما إن كنت تريد ما يضطرب في قلوب زعمائه ومصلحيه من دعوات عقلية وروحية وسياسية ووطنية، فالقيثارة نفسها تتدفق عليها هذه الأنغام وكأنه تعتصرها اعتصارًا. وكثر في أول هذا القرن المتعلمون، وأخذت الصحف تظهر بانتظام وتنشر الشعر والمقالات الأدبية، وأخذ الشعراء يتنافسون في نشر إنتاجهم بالصحف، ودعاهم ذلك إلى أن يفكروا في الجمهور، وأن يخاطبوا طبقاته الوسطى ويغنوا عواطفها السياسية والوطنية والاجتماعية، وكان حافظ هو الصوت الأول الذي لبى حاجة الجماعة المصرية. وانقسم المصريون حزبين: الحزب الوطني وحزب الأمة، وكثر الحوار في الآراء السياسية، وكثرت المقالات، وأخذ الكُتاب يكتبون في عيوبنا الاجتماعية، وتبعهم الشعراء ينظمون شعرًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وتقدمهم حافظ ينشئ هذا الشعر ويذيعه في صورة قوية. وحافظ في هذه الجوانب يبلغ -وخاصة في أول القرن- ما لم يبلغه شوقي والبارودي، أما شوقي فكان موظفًا بالقصر، وكان بعيدًا عن الشعب ومصلحيه، وأما البارودي فمعروف أنه ممن ثاروا في ثورتنا الأولى مع عرابي، إلا أن المتعلمين في أيامه كانوا قلة قليلة، ولم تكن الصحف قد شاعت، ولم يكن قد تكوَّن جمهور واسع من القراء، ثم هو نشأ نشأة أرستقراطية، فكان شعوره بنفسه أقوى من شعوره بالشعب؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه في شعره السياسي إنما كان يصور نفسه وطموحه لحكم مصر أكثر من تصويره لحرية الشعب التي يريدها المصريون ويحلمون بها. على كل حال لم يقصد البارودي بشعره إلى الجمهور أولًا، أما حافظ فقد

قصد به أولًا إلى الجمهور، ولعل ذلك ما جعل شعره أكثر وضوحًا وأقرب فهمًا؛ إذ كان يبسِّط لغته وأساليبه. حقًّا صب شعره في القوالب القديمة ولكنها عنده أدنى إلى الجمهور منها عند البارودي لسبب بسيط؛ وهو أنه كان يذيعها في صحفه اليومية، وكان كثير منها يُطْبَع بطابع السياسيين من معاصريه، وخاصة الخطباء منهم، فنحن في أحوال كثيرة نشعر عنده أنه يخطب، على نحو ما يخطب مصطفى كامل وغيره. وحافظ بذلك صورة حية لعصره، فهو ينقله إلينا في شعره بأفكاره وآراء كتابه وخطبائه، وأساليبهم أحيانًا. فكل ما يضطرب في نفوس معاصريه يستوعبه استيعابًا رائعًا ويحوِّله شعرًا، فإذا وجدته يقول: وما أنتِ يا مصر دار الأديب ... ولا أنتِ بالبلد الطيب أيعجبني منك يوم الوفاق ... سكوت الجماد ولعب الصبي يقولون في النشء خير لنا ... وللنش شر من الأجنبي فإنما يعبر عن سخط من حوله من السياسيين والاجتماعيين، فهو يشير إلى سكوت المصريين على الاتفاق الذي تم بين فرنسا وإنجلترا سنة 1904، وكان يتيح لأولاهما أن تطلق يدها في مراكش، ولثانيتهما أن تطلق يدها في مصر وتأخذها بما تريد من حكم جائر. ونراه يعيب على الشباب عكوفه على الملاهي وانصرافه عن الجد والعمل المثمر لأمته. ولحافظ شعر كثير يقرِّع فيه الشباب كأنه يريد أن يستثيرهم بما يغرس من الحميَّة فيهم. وكان لا يجد بِرًّا ولا عملًا نبيلًا إلا يشيد به ويتغنى بالقائمين على أمره، وله في فتح المدارس والجامعة القديمة وإنشاء الملاجئ شعر كثير؛ كقوله في رعاية الطفولة: أنقذوا الطفل إن في شقوة الطفـ ... ـل شقاء لنا على كل حال أنقذوه فربما كان فيه ... مصلح أو مغامر لا يبالي شاع بؤس الأطفال والبؤس داء ... لو أتيح الطبيب غير عضال

وبجانب هذا الضرب من الشعر الاجتماعي، يكثر عنده الشعر السياسي، ومن أروع ما قاله في قصيدته في حادثة دنشواي، وقد نظمها على هذا النمط الساخر: أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتم ولاءنا والودادا خفِّضوا جيشكم وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكم وجُوبوا البلادا وإذا أعوزتكم ذات طوق ... بين تلك الرُّبَى فصيدوا العبادا إنما نحن والحمام سواء ... لم تغادر أطواقنا الأجيادا ويمضي في القصيدة فيصور ظلم الإنجليز وبغيهم وسخط الأمة المصرية عليهم سخطًا شديدًا. ويلاحَظُ عليه في هذه القصيدة وغيرها من شعره السياسي ضرب من الحذر والاحتياط، فهو لا يثور على الإنجليز ثورة عنيفة، بل يشفع الثورة عليهم بضرب من اللباقة والحيلة، حتى يتقي غياهب سجونهم. وفي رأينا أن هذا الاحتياط جاءه من الطبقة المثقفة الممتازة التي كان يعيش في كنفها؛ إذ كانت تصطنع مع الإنجليز الحذر والتقية. وإن من الظلم أن نقيس حافظًا في شعره الوطني بما نُشر منه، فقد مر بنا أن كثيرًا من هذا الشعر لم يُنشر، وأنه كان يكتفي بإنشاده في النوادي والمجالس. وقد أنشأ بعد إحالته إلى المعاش قصيدة ثائرة تربو على مائة وخمسين بيتًا، وليس في ديوانه منها سوى أبيات معدودة. وحسبه قلادته الرائعة التي أنشدها على لسان مصر، والتي تُغَنَّى في عصرنا وتدور على كل لسان، وهي تلك التي يفتتحها بقوله: وقف الخلق ينظرون جميعًا ... كيف أبني قواعد المجد وحدي وفيها رسَم مصرَ تحوطها هالة من أمجادها الفرعونية، وما زال يعرض هذه الأمجاد في الفن والتشريع والسياسة، ثم عرض لغزاتها وكيف أن راميًا لم يرمها بسهم إلا رُد في نحره. وتحول الى الاستعمار البغيض، وصور كفاحنا وصراعنا له، وكيف نبني مصرنا الحديثة بناء شامخًا.

وهذه النزعة الوطنية يقترن بها في شعره نزعتان: عربية وإسلامية، وتبدو الأولى في كثير من قصائده، وخاصة في قصيدته التي تكلم فيها بلسان اللغة العربية، وقد نشرها في أول القرن حين كانت تهب عاصفة العامية ضد العربية، وهي من غُرَرِ قصائده، ومطلعها: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي1 وأما النزعة الإسلامية فتبدو في قصيدته العمرية التي قصرها على عمر بن الخطاب وأعماله، كما تبدو في شعر كثير له نظمه في الخلافة العثمانية؛ إذ كان المسلمون يتجهون إليها في أول القرن كما يتجهون إلى مكة، فهذه قلب الإسلام الخافق وتلك سنده الذي يذود عنه بالسلاح. وكل هذا كان في سبيل الغاية الجديدة من التغني بأهواء الجماهير. ونشأ عن ذلك أن أصبح شعرنا في كثير من جوانبه -وعلى الأخص عند هؤلاء الرواد- شعرًا صحفيًّا يصور أحداثنا السياسية. وانطلق الشعراء به يصورون الأحداث العالمية، فإذا انتصرت اليابان تغنَّى حافظ بالشرق وأمجاده، وإذا حدث بركان أو زلزال في صقع من الأصقاع ذهب يصور بؤس المنكوبين فيه، وكأنه يصور بؤسه وبؤس المصريين. وأخذ هو وغيره من الشعراء يصفون المخترعات، كأنهم يرون في ذلك مجاراة لروح العصر، وله شعر مختلف في القطار والطيارة والباخرة. وليس من شك في أن حافظًا كان بذلك مجددًا في شعره بالمقدار الذي يستطيعه؛ وهو تجديد يستجيب فيه لبيئته وعصره، أما الآداب الأجنبية فلم تسعفه معرفته لها بغذاء عقلي جديد. وقد نظم في موضوعات قديمة كالإخوانيات والخمريات والغزل، وهو فيها مقلد، وإن كان له جمال السبك والصياغة أحيانًا. وربما كان خير موضوع قديم أجاد فيه فن الرثاء، ومرجع ذلك إلى أنه كان يتفق وطبعه الحزين ونفسه القلقة الشاكية، وأيضًا فإنه كان

_ 1 الحصاة: العقل والرأي، احتسب حياته: عدها عند الله فيما يدخر.

شديد التأثر بالشعب وآلامه، فإذا حزن الشعب لموت مصلح كبير مثل الشيخ محمد عبده أو مصطفى كامل انطبع هذا الحزن في نفسه. وعلى هذا النحو كان حافظ يشعر بما يشعر به شعبه شعورًا دقيقًا؛ لأن نفسه كانت خالصة، واستطاع أن يصوغ هذا الشعور في لغة جزلة متينة صياغة باهرة، وبذلك يتبوأ مكانته في تاريخ شعرنا الحديث.

شوقي 1869-1932م

4- شوقي 1869-1932م: أ- حياته: في مهد من مهاد الترف والثراء وُلد شوقي سنة 1869 لأب وأم تنحدر إليهما عناصر مختلفة، فقد كان أبوه يجري فيه الدم العربي والكردي والشركسي، وكانت أمه يجري فيها الدم التركي واليوناني؛ إذ كان أبوها تركيًّا من بطانة إبراهيم ومن خلفوه إلى إسماعيل، وأصبح في عهد الأخير وكيلًا لخاصته، أما أمها فكانت يونانية من سبي إبراهيم في بلاد المورة. فشوقي نشأ في بيئة أرستقراطية مترفة، وأخذ يختلف منذ سنته الرابعة إلى الكُتاب، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية، فكان ذلك فرصة له ليختلط بأبناء الشعب وحياتهم الديمقراطية؛ ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيئته وما بها من نعيم الحياة. ولما أتم تعليمه الثانوي في سنة 1885 ألحقه أبوه بمدرسة الحقوق ليدرس فيها القانون، وأُنشئ بها قسم للترجمة فالتحق به. وفي هذه المدرسة تعرَّف إلى أستاذه في العربية الشيخ محمد البسيوني، وكان قد أخذ يتفجر ينبوع الشعر على لسانه، فأعجب به أستاذه، وكان هو الآخر يجيد نظم الشعر إلا أنه لم يكن يفهم منه

إلا مديح الخديو توفيق في المواسم والأعياد. فدفع تلميذه في هذا الاتجاه. وتخرج شوقي في قسم الترجمة سنة 1887، فعينه توفيق بالقصر، ثم أرسله في بعثة إلى فرنسا ليدرس الحقوق، فانتظم في مدرسة بمبونبلييه لمدة عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حصل فيهما على إجازته النهائية. وهُيئت له فرص مختلفة ليذرع فرنسا طولًا وعرضًا، وليزور لندن وبلاد الإنجليز. وكان طوال إقامته في باريس يشاهد مسارحها ويتصل بحياتها الأدبية، وأقبل على قراءة فيكتور هيجو ودي موسيه ولافونتين ولامرتين، وترجم للأخير قصيدة البحيرة شعرًا. وعاد شوقي إلى مصر، فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وسرعان ما أصبح شاعر عباس، بل سرعان ما أصبحت له حظوة كبيرة عنده، فقد جعل له تدبير كثير من الأمور وتصريفها، وأصبح مقصد طلاب الجاه والرتب والألقاب. وأمضى في هذا العمل الرتيب عشرين عامًا هي زهرة حياته. ومن محاسن الصدف أنه تزوج من سيدة ثرية كانت مثالًا للزوجة الصالحة، وقد رزق منها بابنيه علي وحسين وابنته أمينة. وكان أهم ما يعجب عباسًا فيه مدائحه له في أعياد حكمه لمصر وفي كل مناسبة كبيرة تمر به. وأخذ شوقي يدور معه في كل أهوائه السياسية، فتارة يمدح له الخليفة العثماني الذي كان يبتغي رضاه، وتارة يلوم الإنجليز ويندد بهم حين يغاضبهم وينازعهم بعض السلطان. ولم يكن شوقي حينئذ يختلط بالشعب؛ لذلك تفوق عليه حافظ في ميدان الوطنية وما يتصل بها من عواطف الجمهور السياسية؛ إذ كان ابن الشعب وكان يحس آلامه في عمق وقوة. ومن المحقق أن شوقي لم تكفل له حريته في هذه الحقبة؛ إذ كان مشدودًا بحكم وظيفته إلى القصر وصاحبه، ولكنه مع ذلك حاول أن يفرغ لنفسه ولفنه، فنظم على ألسنة الحيوان شعرًا على نسق ما قرأه في الفرنسية للشاعر لافونتين. وحاول محاولة أروع من تلك المحاولة؛ إذ قرأ عند بعض الشعراء الفرنسيين شعرًا تاريخيًّا رائعًا من مثل "أساطير القرون" لفيكتور هيجو، فرأى أن ينظم على هذا المثال قصيدته الطويلة "كبار الحوادث في وادي النيل"، وألقاها في مؤتمر

المستشرقين الذي انعقد في سنة 1894. واستمر طويلًا في هذا الاتجاه، فنظم فرعونياته المشهورة في أبي الهول والنيل وتوت عنخ آمون وقصر أنس الوجود. ومدَّ شعره إلى ينابيع الإسلام، فاستقى منها قصائد رائعة في مديح الرسول، من مثل الميمية التي عارض فيها بردة البوصيري، كما استقى في شعره أحيانًا من ينابيع العروبة. وكل ذلك معناه أنه كان يريد الانطلاق من قيود القصر وصاحبه والتحليق في آفاق أوسع وأرحب. وأُعلنت الحرب العالمية الأولى وكان عباس غائبًا بتركيا، فمنعه الإنجليز من دخول مصر، وأقاموا عليها السلطان حسين كامل، وأخذوا يُبعدون عن القصر من يستشعرون الولاء لعباس، ولم يسكت شوقي؛ بل نظم قصيدة تحدث فيها عن الحماية التي أعلنتها إنجلترا على مصر، وقال فيها: "إن الرواية لم تتم فصولًا". فنفاه الإنجليز إلى إسبانيا، وظل بها طوال الحرب هو وأسرته، وهناك أخذ ينظم قصائده في أمجاد العرب ودولتهم الزاهرة التي اندثرت في الأندلس، ويضمنها حنينًا شديدًا إلى وطنه. ورجع إلى مصر، فوجد أرضها تخضبها دماء شبابنا في ثورتنا الوطنية الأولى، ولم تلبث حريتنا أن رُدت إلينا، كما ردت حرية شوقي إليه. ومن هنا تبدأ الدورة الثانية في حياته الأدبية، فإنه لم يعد يفكر في القصر ولا في وظيفته فيه، فقد أصبح حرًّا طليقًا، وهيأ له ثراؤه أن ينعم إلى أقصى حد بهذه الحرية، فخلص لفنه ولشعبه وأخذ يغنيه أغاني وطنية رائعة. ولم يكن يبدأ هذه الأغاني حتى بذ حافظًا الذي كان يتفوق عليه في هذا المجال قبل الحرب وقبل توظفه في دار الكتب المصرية. ومرجع ذلك أن فنه كان أروع من فن حافظ، فلما اتجه به إلى تصوير عواطفنا الوطنية وحياتنا السياسية بلغ من ذلك الغاية التي لا تمتد إليها الأعناق. ولم يُغنِّ مواطنيه وحدهم أهواءهم وعواطفهم السياسية؛ بل أخذ يغني الشعوب العربية أهواءها وعواطفها القومية، وله في ثورات سوريا على الفرنسيين

قصائد باهرة. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه كان بشيرًا بفكرة الجامعة العربية التي تأسست من بعده، فشعره في هذه الدورة من حياته يَفيض بالوَحْدَة العربية، وأن العرب جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومن أبياته الدائرة في نوادي العرب ومجالسهم قوله: ونحن في الشرق والفصحى بنور حم ... ونحن في الجرح والآلام إخوان وقوله: كلما أنَّ بالعراق جريح ... لمس الشرق جنبه في عمانه وبمثل هذا الشعر الذي نظمه في العرب، وبما نظمه من سياسيات ووطنيات في قومه، احتل شوقي مكانة مرموقة في سِنيه الأخيرة، فلما أعاد طبع ديوانه "الشوقيات" في سنة 1927 أقيم له حفل تكريم عظيم، اشتركت فيه الحكومة المصرية والبلاد العربية؛ إذ قدمت منها وفود مختلفة تمجِّد شاعر مصر وتشيد بعبقريته ونبوغه. وقد وضع الشعراء في هذا الحفل على مفرقه تاج إمارة الشعر لا في مصر وحدها؛ بل في سائر الأقطار العربية. وأعلن حافظ هذا التتويج أو هذه البيعة قائلًا: أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعًا ... وهذي وفود الشرق قد بايعت معي ولم تسترح نفس شوقي الكبيرة عند هذا الظفر العظيم؛ بل طمحت إلى أن تحقق أملًا منشودًا كان يراود دعاة التجديد عندنا منذ أوائل القرن الحاضر، وهو إدخال الشعر التمثيلي إلى دوائر شعرنا العربي، فنظم مسرحياته التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، ولقيت نجاحًا منقطع النظير، ورأى أن يصوغ بعض الأزجال للغناء، فنظم منها طائفة بديعة من مثل زجله: النيل نجاشي ... حليوه أسمر عجب للونه ... دهب ومرمر غير أن قيثارة الشعر العربي لم تلبث أن سقطت من يده في أكتوبر سنة 1932 فلبى داعي ربه، مخلفًا لمصر والبلاد العربية تراثه الشعري الخالد.

ب- شعره: تتشابك في تكوين شاعرية شوقي وشخصيته الأدبية عناصر كثيرة، منها الجنسي ومنها الثقافي، أما من حيث الجنس فقد التأمت فيه خمسة عناصر، جعلته عربيًّا كرديًّا تركيًّا شركسيًّا يونانيًّا، وازدواج هذه العناصر الجنسية فيه يؤذن منذ أول الأمر بأنه سيكون شاعرًا كبيرًا، وخاصة أنه يجمع بين الجنسين العربي واليوناني، اللذين يشتهران من قديم بالشعر والشاعرية. وأما من حيث الثقافة فقد حذق العربية والفرنسية، وتلقَّن التركية في بيته، ولكن أثرها لم يكن واسعًا في فنه سوى بعض أبيات ترجمها منها وأثبتها في ديوانه، أما تيارا العربية والفرنسية فيجريان واضحين في شعره، وكان للتيار الأول الغلبة، فهو الذي تتدفق في شعره مياهه أروع ما يكون التدفق وأبهجه. وكان أكبر نبع يستقى منه هذه المياه كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ حسين المرصفي، وهو يضم بين دفتيه أروع ما للقدماء من نماذج كما يضم بعض نماذج البارودي الحديثة، ولم يكد يلم شوقي بهذه النماذج الأخيرة حتى احتواها لنفسه وفنه، فقد تمثلها تمثلًا رائعًا. وعكف على تمثل النماذج العباسية عند أبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي وأبي فراس وأمثالهم، وكان إعجابه شديدًا بالبحتري والمتنبي خاصة. وسُرعان ما اهتدى إلى أسلوبه، وهو أسلوب يسلك نفس الدروب التي سلكها البارودي من قبله، أسلوب يقوم على الاحتذاء للقوالب العباسية، ولا يجد صاحبه جرحًا في أن يعارض أصحابها؛ بل يعلن ذلك إعلانًا كما كان يعلنه سلفه، فتلك أمارة الإجادة الفنية، وهي إجادة تقوم على بعث الصياغة القديمة وإحيائها. وعلى هذا النحو استطاع شوقي أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا أصيلًا، أسلوبًا لا يتحرر من القديم؛ ولكن في الوقت نفسه يعبر عن الشاعر وعصره وكل

ما يريد من معانٍ وأفكار، وهو أسلوب يقوم على الجزالة والرصانة والمتانة والقوة؛ بحيث تؤلف الكلمات ما يشبه البناء الضخم الشاهق. وهو في ذلك يقترب من ذوق البارودي بأكثر مما كان يقترب حافظ، فقد كان بحكم نشأته في الشعب يميل أكثر منهما إلى لغته، فكان يستخدم في كثير من شعره لغة الصحف السهلة. أما شوقي والبارودي جميعًا فكانا يميلان إلى تقليد العباسيين، وكانا لذلك أكثر منه محافظة على التقاليد الفنية الموروثة. وليس معنى ذلك أن صياغة شوقي لا تفترق عن صياغة البارودي في شيء، فشعره أكثر سلاسة من شعر أستاذه، وكأنما أشربت روحه روح البحتري، فموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى البارودي، وكأنه كان يعرف أسرار مهنته معرفة دقيقة، وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام وألحان، ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي وحافظ معًا، فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه. وربما كانت موسيقاه أروع خصاله الفنية، فلا تستمع إلى شيء من شعره حتى تعرفه، وإن لم يذكر لك اسمه ما دامت أذنك قد تعودت سماع شعره، وثبتت في نفسك نغماته التي تتوالى نغمة حلوة بجانب نغمة حلوة. ولا نغلو إذا قلنا: إن شعره يؤلف أروع ألحان عرفت في عصرنا الحديث؛ إذ نراه يعتصر من الألفاظ والأساليب خير ما فيها من ألحان، تسعفه في ذلك فطرة موسيقية رائعة، تقيس قياسًا دقيقًا ذبذبات الحروف والحركات وتآلف النغم في الألفاظ والكلمات. وهذه الخصلة الموسيقية في شعره تسندها عنده خصلة التصوير البارع؛ إذ كان يعرف كيف يفيد من كنوز التشبيهات والاستعارات القديمة، ولم يكن يكتفي بذلك؛ بل كان يضيف إلى هذا الاستغلال للقديم كثيرًا من الأخيلة الحالمة. ويتضح ذلك في جوانب كثيرة من شعره، وخاصة حين يعمد إلى الوصف أو إلى الفرعونيات والتاريخ، وقصيدته في "قصر أنس الوجود" لوحة باهرة. ومن رائع أخيلته قوله على لسان توت عنخ آمون، وقد تخيل أنه بُعِثَ من

قبره، وشهد أقدام الإنجليز تطأ ثرى دياره، والمصريون لاهون عنهم يدقون على "الجازبند" وكأنهم لا يشعرون: فقال والحسرة ما أشدها ... ليت جدار القبر ما تدهدها وليت عيني لم تفارق رقدها ... قم نبني يا بنتؤور مادها مصر فتاتي لم توقر جدها ... دقت وراء مضجعي جازبندها ويطيل النظر في الأهرام وفي تاريخ مصر القديمة، وما تلبث أن تتراءى الأهرامات في مخيلته ومن حولها الرمال كأنها السواري الباقية من سفينة غارقة، هي سفينة أمجادنا الدائرة: كأنها ورمالًا حولها التطمت ... سفينة غرقت إلا أساطينا وتحوط هاتين الخصلتين من الخيال والموسيقى خصلة ثالثة من العاطفة الرقيقة والإحساس المرهف، ويتجلى ذلك في شعره الذي نظمه في ابنته "أمينة" وفي هِرَّته الصغيرة، كما يتجلى في شوقه وحنينه إلى وطنه الذي بثه في قصائده بمنفاه، من مثل قوله في سينيته: وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسِّي وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي وله في خريف حياته كثير من الأشعار التي يحن فيها إلى شبابه حنينًا فيه لهفة وحرقة، ومن خير ما يصور هذا الحنين قصيدته في "زحلة" بلبنان، وفيها يقول: شيَّعتُ أحلامي بطرف باكِ ... ولممتُ من طرق الملاح شباكي ورجعت أدراج الشباب وورده ... أمشي مكانهما على الأشواك وهذه الخصال الثلاث من العاطفة والخيال والموسيقى ترفع شعر شوقي إلى ذروة الفن وقممه الشمَّاء.

وشعره ينقسم قسمين واضحين: قسم قبل منفاه وقسم بعده، وهو في القسم الأول يعيش في القصر ويسوق شعره في قيود هذه المعيشة، فهو شاعر الخديو عباس الثاني، وشعره يكاد يكون مقصورًا على ما يتصل به من قريب أو بعيد، فهو يمدحه في جميع المناسبات، وهو يشيد له بالترك والخلافة العثمانية. وهو في ذلك يسير سيرة الشعراء القدماء، وإن كان يتأثر بالثقافة الأوربية. وقد حدث في هذه الحقبة من حياته تطور في فنه، كالذي كان يحدث عند شعراء العصر العباسي، فهو يُعْنَى أحيانًا بالأوزان القصيرة بوصف الرقص والخمر، على نحو ما نرى في قصيدته: حف كأسها الحبب ... فهي فضة ذهب وحدث تطور آخر أعمق من هذا التطور؛ إذ تأثر -كما مر بنا- شعراء الغرب في شعرهم التاريخي وما كانوا يقولونه في أطلال اليونان والرومان، فنظم قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل" وهي أم قصائده الأولى، ونظم قصيدته المشهورة في النيل: من أي عهد في القرى تتدفَّق ... وبأي كف في المدائن تُغْدق وشوقي في كل ذلك لم يكن يُعْنَى بالجمهور عناية دقيقة، فهو شاعر القصر، وهو بعيد عن الجمهور بحكم أسرته الأرستقراطية وبحكم وظيفته الرسمية. ومع ذلك لا بد أن نحدد من هذا القول، وألا نطلقه إطلاقًا، فإن شوقي طبَع ديوانه للجمهور طبعته الأولى في سنة 1898، وكان ينشر شعره في الصحف، ونفس أميره كان يفكر في الجمهور. ومن هنا حدث تطور حتى في مدائحه؛ إذ كان يراعي فيها مناسبة تهم الجمهور، كأن يفتتح عباس مدرسة أو يأخذ بنظام الشورى في حكمه أو يغاضب الإنجليز في سياسته. وكان يمد آفاق شعره إلى حدود أبعد من ذلك خارج وطنه؛ إذ كان يعتصر في بعض مدائحه اللحن الإسلامي الذي يهم المسلمين في جميع الأقطار على نحو ما نرى في قصيدته التي مدح بها عباسًا حين حج إلى بيت الله. ولعل ذلك ما جعله يصوغ قصائده

في مديح الرسول حتى يُرضي عواطف قرائه الدينية، وأشاد مرارًا بعيسى ليرضي قراءه من المسيحيين، وله وقفات نبيلة يدعو فيها المصريين إلى توحيد صفوفهم من أقباط ومسلمين. ويُنْفَى إلى إسبانيا، فينظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس العرب الضائع في الأندلس، وينشج وينوح ويصور قروحه النفسية لا في سينيته فقط؛ بل أيضًا في نونيته، ولكن دون أن يشعر بهوان؛ بل إنه يستشعر كبرياء قومه في أقوى صورة، كما نرى في مثل قوله: نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يَهُنْ بيد التشتيت غالينا لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت ... في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا وهذه القصيدة الرائعة صاغها على نسق قصيدة لابن زيدون، وكذلك صاغ سينيته على نسق قصيدة البحتري في إيوان كسرى. ومعنى ذلك: أنه كان لا يزال في الأندلس شاعرًا تقليديًّا من بعض جوانبه؛ إذ يُعْنَى ببعض القصائد القديمة الرائعة، فيعارضها، وينظم من وزنها وقافيتها، وإن اختلفت القوالب بالقياس إلى ما تؤديه، فإن القوالب القديمة عنده دائمًا لا تستعصي على أداء ما يريد من معانٍ وأفكار، وهي لذلك تصبح عنده كيانًا فنيًّا حيًّا، له روعته وجماله. ويعود من المنفى بعد الحرب، فيجد الشعب في ثورته السياسية، ويجد أبواب القصر مغلقة من دونه فيتجه إلى الجمهور، ويصور عواطفه وأهواءه السياسية تصويرًا قويًّا باهرًا يتفوق فيه على حافظ؛ لأن مواهبه أقوى من مواهب حافظ، ولأن حافظًا كان حبيسًا في قفص الوظيفة بدار الكتب المصرية. على كل حال، أهم ما يميز شعر شوقي في هذه الدورة الثانية من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب، فصوَّره في آماله الوطنية وحركاته السياسية، ولم يعد شاعرًا تقليديًّا، بل أصبح شاعرًا شعبيًّا، ولكن بطريقته الفنية الخاصة، وهي طريقة لم تعد تعتمد على معارضات الشعراء القدماء؛ وإنما تعتمد اعتمادًا عامًّا على الجزالة والمتانة. ومن خير ما قاله في هذه الفترة قصيدته التي نظمها في

سنة 1924 يدعو فيها الأحزاب إلى الاتحاد والائتلاف، ومطلعها: إلام الخلف بينكم إلاما؟ ... وهذي الضجة الكبرى علاما؟ وفيها صوَّر تطاحن الأحزاب على كراسي الحكم ونسيانهم لمصالح الأمة العامة في سبيل مصالحهم الشخصية. وليس هناك مفاوضة يُذكر فيها السودان إلا وينادي شوقي بالمحافظة على الإخوة الأشقاء وتخليصهم من براثن الاستعمار، ولا ينشأ مشروع ولا تقوم مؤسسة إلا ويجلجل فيها صوته من مثل: إنشاء بنك مصر وإنشاء الجامعة المصرية ومشروع القرش، فله في كل ذلك وغيره قصائد رنانة. ونظم كثيرًا من الأناشيد الوطنية رجاء أن تذيع بين طبقات الشعب وشبابه. وأخذ يغني الشعب مطامحه الاجتماعية في التعليم وفي وجوه الإصلاح الاجتماعي المختلفة، وقصيدته في العمال: أيها العمال أفنوا الـ ... ـعمر كدا واكتسابا أين أنتم من جدود ... خلدوا هذا الترابا قلدوه الأثر المعـ ... ـجز والفن العجابا من رائع شعره وأعذبه. وكان لا يغيب عن ذهنه مجدنا القديم، فدائمًا يلحنه على قيثارته، وقصيدتاه في أبي الهول وتوت عنخ آمون مما لا يتطاول معاصروه من الشعراء إليه. ولم يكتفِ بوطنه، فقد ذهب يتغنَّى بأمجاد العرب، وقصيدته أو موشحته في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" من آياته. وله ديوان شعر سماه "دول العرب وعظماء الإسلام"، وقد قصره كما يتضح من عنوانه على تاريخ العرب في عصورهم الزاهية. وقد تغنى بعد عودته من منفاه عواطف الأوطان العربية المختلفة، وشاركها في ثوارتها مشاركة قلبية حارة، أنَّ فيها وناح مقابلًا بين حاضر العرب وماضيهم، وحقًّا ما يقوله: كان شعري الغناء في فرح الشر ... ق وكان العزاء في أحزانه

وللرثاء جزء خاص من دواوينه، وحافظ يسبقه في هذا الفن، وإن كان لشوقي فيه بعض قصائد طريفة. ومرجع ذلك أن حافظًا كان من الشعب وكان يتأثر -أكثر منه- حين يموت مصلح من المصلحين، وشتان بين مراثيه ومراثي شوقي في الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل. وربما كان أروع مراثي شوقي مرثيته في أبيه: ما أبي إلا أخ فارقته ... وده الصدق وود الناس مين لأنها صدرت من قلبه. وله مرثية مشهورة "على قبر نابليون". وللمخترعات العصرية صحف مختلفة في دواوينه، نظمها بداعي هذا التحول الذي تحدثنا عنه مرارًا في الشعر؛ إذ أصبح جزءًا من الصحافة الحديثة، وأصبح يتناول موضوعاتها المختلفة من أخبار وأحداث، وربما كان ذلك هو الذي دعاه ليرثي تولستوي وليحيِّي ذكرى شكسبير. وعلى هذا النحو كان شوقي يحلق بشعره في كل الأجواء. وقام أخيرًا بمحاولة رائعة؛ إذ حاول تمصير الفن المسرحي، فنظم طائفة من المسرحيات تحدثنا عنها في غير هذا الموضع. وعلى الرغم مما في هذه المحاولة من عيوب، أهمها أنه طبع شعره التمثيلي بطوابع شعره الغنائي، لا تزال أروع محاولة تمثيلية في الشعر العربي الحديث. وإذا قلنا: إنه سابق الشعراء في النصف الأول من هذا القرن غير منازَع ولا مدافَع لم نكن مغالين ولا مبالغين. وحقًّا تلقى قوالب شعره عن البارودي؛ ولكنه صب فيها مشاعر أمته والأمم العربية، كما صب فيها التمثيل صبًّا بديعًا، وهو صب لا يزال مثار الدهشة وموضع الإعجاب بين الأدباء والنقاد.

خليل مطران 1872-1949م

5- خليل مطران 1872-1949م: أ- حياته: في أسرة عربية عريقة من أسر بعلبك في لبنان وُلد خليل عبده مطران لأب مسيحي كاثوليكي. ولم تكن أمه "ملكة الصباغ" لبنانية الأصل؛ بل كانت فلسطينية، هاجر أبوها إلى لبنان فرارًا من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده، واتخذها وطنًا. وعنها ورث ابنها الشعر إذ كانت أمها شاعرة، أما هي فكانت حصيفة راجحة العقل، وظل يستشعر لها إلى آخر حياته حنانًا وحبًّا عميقًا، مما يدل على أثرها العميق في تكوين شخصيته. وإذا كان قد ورث الشعر عن أمه، فقد ورث عن آبائه بغض الظلم والوقوف في وجه الجبارين. ولما رأى فيه أبوه مخايل الذكاء اهتم بتعليمه، فأرسله إلى الكلية الشرقية بزحلة، ولا يزال اسمه منقوشًا على أحد مقاعدها إلى اليوم. ولما أتم دروسها ألحقه أبوه بالمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، وفيها نهل اللغة العربية على أديب عصره إبراهيم اليازجي، وفي ديوانه مرثية له أشاد فيها به إشادة رائعة، افتتحها بقوله: رب البيان وسيد القلم ... وفَّيْت قسطك للعلا فنم وفي هذه المدرسة حذق الفرنسية على معلم فرنسي. ولم يكد يتم دروسه فيها حتى أظهر موهبة غير عادية في نظم الشعر وصوغه، وكانت نفسه أُشربت حب الحرية، فأخذ يتغنى بشعر ضد العثمانيين الذين كانوا يحكمون وطنه حكمًا جائرًا، وكان يخرج مع بعض رفاقه إلى مشارف بيروت، وينشدون نشيد المارسيلييز الفرنسي، ينفِّسون بما فيه من حب للحرية عن أمانيهم القومية. ويقال: إن أعوان الحاكم العثماني رموا فراشه بالرصاص في بعض الليالي، ومن حسن حظه وحظ

الأدب أن كان غائبًا، فلم يصبه سوء، إلا أن ذلك دفع أهله إلى أن يرسلوه إلى باريس، حتى لا يغاضبهم الحاكم، وحتى يكفوا ابنهم شر نقمته. فنزل باريس في سنة 1890، وعكف فيها على دراسة الآداب الفرنسية، واتصل هناك بفريق من جماعة تركيا الفتاة، وهم من حزب تألف في تركيا لمناهضة خليفتها عبد الحميد وسياسته الفاسدة. وخشي على نفسه بعد هذا الاتصال من الرجوع إلى بلاده، ففكر في النزوح إلى أمريكا الجنوبية متأسيًا ببعض من كان يهاجر إليها من مواطنيه، وتعلم لذلك الإسبانية، إلا أنه لم يلبث أن عزم على الهجرة إلى مصر، فنزلها في سنة 1892، وكانت حينئذ ملجأ الأحرار من البلاد العربية، ينزلون بها فرارًا من العثمانين وبطشهم. ومن هذا التاريخ تبنته مصر، واحتضنته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في سنة 1949. وبدأ حياته فيها صحفيًّا بجريدة الأهرام، ولم يلبث في سنة 1900 أن أنشأ لنفسه مجلة مستقلة هي "المجلة المصرية"، ثم حولها يومية وسماها "الجوائب المصرية"؛ لكنه لم يلقَ النجاح الذي كان ينشده، فأكب على الأعمال التجارية، إلا أنه خسر كل ماله في بعض المضاربات، وأظلمت الدنيا في عينه، ومدت مصر الحانية عليه يدها إليه، فعُين في الجمعية الزراعية الخديوية، وأخذ يسهم في المجال الاقتصادي بأبحاث دقيقة، كما أسهم من قبل في المجال الصحفي، وجعله ذلك يتصل مباشرة بأحداث مصر المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان صوته يدوِّي في هذه الأحداث. وتدل دلائل مختلفة على أن ثقافته بالآداب الفرنسية كانت واسعة، ولم يقف بها عند التأثير في شعره، فقد طمح إلى النهوض بالمسرح المصري، وترجم لذلك عطيل وهملت وماكبث وتاجر البندقية لشكسبير. ولعل ذلك ما جعل أولي الأمر يسندون إليه إدارة الفرقة القومية منذ سنة 1935 حتى ينهض بمسرحنا، وأدَّى في ذلك خدمات جُلَّى. وأحيل إلى التقاعد، ولكن ظلت مصر ترمقه، وأقامت له في سنة 1947 مهرجانًا أدبيًّا في دار الأوبرا تكريمًا له ولشعره، وما أدى لوطنه الثاني، بل وطنه

الحقيقي من أعمال وآثار، وجُمعت القصائد والخطب التي قيلت في تكريمه ونُشرت في مجلد ضخم؛ اعترافًا بفضله، وما أدى لمصر والعرب من روحه وعقله.

ب- شعره: يجري في شعر خليل مطران كما يجري في شعر شوقي تياران من القديم العربي والجديد الغربي، وهما إن كانا يتفقان في هذه الظاهرة العامة فإنها يختلفان بعد ذلك في كل شيء؛ ذلك لأن خليل مطران لا يسرف على نفسه في الصب على القوالب القديمة، فقد كان شوقي وخاصة قبل منفاه يبدو شاعرًا تقليديًّا، فهو يُعْنَى أشد ما يعنى بمعارضة الأقدمين، وهو يصرح بذلك ولا يخفيه كما كان يصنع سلفه البارودي. أما خليل مطران فلم يلجأ إلى المعارضة والاحتذاء التام على قصائد العباسيين وغيرهم في الوزن والرَّوِيِّ، بل كان يكتفي باللفظ الفصيح والمفردات السليمة من كل شائق في العربية ورائق؛ ومعنى ذلك أنه يحتفظ بشخصيته إزاء القدماء بأكثر مما يحتفظ شوقي، هو يأخذ منهم المادة، ولكنه يدخلها إلى مخيلته ليحملها أفكاره ومعانيه. ومن ثم لا يبدو التقليد واضحًا عنده؛ بل لقد اندفع إلى التجديد حتى في الصياغة والأسلوب، فلم يعد همه التمسك بأهداب القدماء لا في معانيهم ولا في تشبيهاتهم واستعاراتهم؛ بل همه التعبير عما في نفسه تعبيرًا حرًّا مستقيمًا لا تحجبه تراكيب قديمة ولا أصداف خيال قديمة. ومع ذلك تقرأ فيه فتشعر شعورًا واضحًا بأن صورة الشعر العربي لم تتغير؛ لأنه يحتفظ بالأصول المسبوقة مع التحرر منها، فهو يتابع في الظاهر والخارج، أما في الباطن والداخل فإنه يجدد ويخالف ويعبر عما في نفسه تعبيرًا كاملًا، يصور فيه معانيه العقلية والنفسية، وشرح ذلك أجمل شرح في مقدمته لديوانه؛ إذ يقول:

"شرعت أنظم الشعر لترضية نفسي حيث أتخلى أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات والمطروق من الأساليب، ذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه، ولم أكن مبتكرًا فيما صنعت، فقد فعل فصحاء العرب قبلي ما لا يُقاس إليه فعلي، فإنهم توسعوا في مذاهب البيان توسع الرشد والحزم". فهو يعلن أنه يفك نفسه وشعره من القوالب الجامدة ويعود إلى الفطرة والسليقة، وحسبه أنه تمثَّل مادة اللغة العربية، وأنه لا يخرج على أصولها. وهو بذلك يسير خطوة إلى الإمام في الدرب الذي سلكه البارودي وشوقي؛ فقد كانا حريصين على القوالب القديمة وما يتصل بها من تشبيهات واستعارات، أما هو فيرى من الواجب التخلص تمامًا من هذه القوالب والاكتفاء بالإطار بالعام، ولكن لا تظن أنه تخلص وتحرَّر إلى آخر الشوط، فقد كان يصنع ذلك في توازن بارع؛ إذ احتفظ لشعره بالأوزان القديمة ولم يخرج عنها إلا إلى المزدوج والموشح والدوبيت، وكل ذلك عرفه القدماء. وهو كذلك في ألفاظه احتفظ فيها بالجزالة والرصانة اللتين احتفظ بهما البارودي وشوقي؛ لذلك لا نكون مبالغين إذا وضعناه في هذه المدرسة المصرية التي كان يقوم شعرها على البعث والإحياء، وإن كان يبدو أكثر من أفرادها تحررًا، ولكن مما لا شك فيه أنه عاش على نفس المائدة التي بسطها البارودي للشعراء من بعده. وقد يكون من أهم ما يوضح ذلك عند مطران كثرة نظمه في التهاني والأعراس والمواليد مما يندمج في الشعر العربي القديم، ومما يظهر في دواوينه على شكل رُقع غريبة عن ذوق العصر. ولعل الذي دفعه إلى ذلك ما فُطر عليه من رقة وشعور مرهف وميل متأصل في نفسه إلى مجاملة الناس من حوله؛ ولذلك لا نعجب إذا وجدنا باب الرثاء في ديوانه أكثر الأبواب التي شغلته وهو باب قديم، ومن المحقق أنه لا يبرز فيه على شوقي وحافظ؛ بل إنهما يتفوقان عليه فيه تفوقًا ظاهرًا.

على كل حال، لم ينفصل مطران عن القديم؛ بل له عنده ظواهر مختلفة؛ إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفردًا؛ بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساسًا عميقًا، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته، فلم يفنَ في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى. وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيرًا مستقيمًا عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم على نحو ما يصنع شوقي، وبذلك أحلَّ الشعورَ الدقيق محل الخيال، وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار. وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيرًا نفسيًّا متكاملًا، وبعبارة أخرى: أصبحت عملًا ذاتيًّا تامًّا، فتجلت فيها الوَحْدَة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعًا واحدًا؛ إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في بعثرة موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة؛ بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة، كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات؛ وإنما الالتحام والاتساق؛ إذ هي خيوط في نسيج واحد أُحْكمت صياغته إحكامًا دقيقًا. ومطران إنما يستمد في ذلك من نموذج القصيدة الغنائية عند الغربيين؛ إذ تصل بين الأبيات فيها وَحْدَة عضوية تامة. وليس هذا كل ما جاءه من الاتصال الأدبي والذهني بالغرب، فقد شعر مثل أدبائهم -وخاصة عند أصحاب الرومانسية منهم- بآلام النفس البشرية، وتغنَّى هذه الآلام غناء مليئًا بالحزن والشجَى، وتمثِّل ذلك قصيدته "الأسد الباكي" وكذلك قصيدته "في تشييع جنازة" وهي جنازة عاشق انتحر يأسًا من عشقه، كما تمثله قصيدة "الجنين الشهيد" الذي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق. وهذا الجانب عند مطران يفوح على قارئه بشذى وجداني ينفذ إلى قلبه وأعماقه، وهو يمد عين بصيرته فيه إلى عناصر الطبيعة على نحو ما يصنع شعراء

الغرب، فإذا هو يحيلها كائنات حية، تنعكس عليها أحزانه وآلامه وحبه وعواطفه ونوازعه. ومن أروع ما يصور ذلك كله عنده قصيدة المساء التي يستهلها بقوله: داء ألم فخلت فيه شفائي ... من صبوتي فتضاعفت بُرَحائي وهو يذكر لنا في مفتتحها أنه كان مريضًا مرضين: مرض الحب والقلب، ومرض الجسد. وأشار عليه أصدقاؤه أن يعزِّي نفسه بالذَّهاب إلى الإسكندرية، وهناك عاوده المرضان، فبث شكواه ومزَج الطبيعة معه في هذه الشكوى، فإذا كل ما فيها صورة من جروحه: ثاوٍ على صخر أصم وليت لي ... قلبًا كهذي الصخرة الصماء ينتابها موج كموج مكارهي ... ويفتها كالسقم في أعضائي والبحر خفَّاق الجوانب ضائق ... كمدًا كصدري ساعة الإمساء تغشى البرية كدرة وكأنها ... صعدت إلى عيني من أحشائي ويناجي صاحبته في وسط هذه الهموم التي تدافعت على نفسه وعلى كل ما في الطبيعة من حوله، فيقول: ولقد ذكرتك والنهار مودِّع ... والقلب بين مهابة ورجاء وخواطري تبدو تجاه نواظري ... كَلْمَى كدامية السحاب إزائي والدمع من جفني يسيل مشعشعًا ... بسنا الشعاع الغارب المترائي والشمس في شفق يسيل نضاره ... فوق العقيق على ذرًى سوداء مرت خلال غمامتين تحدرا ... وتقطرت كالدمعة الحمراء فكأن آخر دمعة للكون قد ... مُزجت بآخر أدمعي لرثائي وهي قصيدة باهرة، وبها كل طوابع الجديد عند خليل مطران، فهي تجربة شعورية كاملة، صب فيها نفسه المليئة بالأوجاع والآلام، ولم يصبها فقط؛ بل صب أيضًا عناصر الطبيعة من حوله بعد أن أودعها نفس القروح والأوصاب. وتحتل الطبيعة في شعر مطران حيزًا واضحًا، ومن أجمل قصائده "وردة ماتت" و"النوارة أو زهرة المارغريت" و"بنفسجة في عروة" و"نرجسة"

و"من غريب إلى عصفورة مغتربة"، وهو فيها جميعًا يبتكر في المعاني، فيحلل الأحاسيس، ويأتي بأخيلة جديدة، ويطوف بك في خواطر وخلجات إنسانية حزينة. وليس هذا كل ما جاء به في شعره من تأثيرات غربية، فقد حاكى الغربيين في اتجاه جديد لم تكن تعرفه العربية، ولا نقصد اتجاه الشعر التمثيلي الذي جاء به شوقي، إنما نقصد اتجاهًا آخر هو الاتجاه القصصي، وليس قصص الحيوان الذي نجده عند شوقي، وإنما القصص الدرامي الذي يتصل بالحياة الإنسانية، وله فيه طرائف بديعة يستمدها من الحياة اليومية؛ كقصة "الجنين الشهيد" التي أشرنا إليها، ومثلها "الطفلان" وهي قصة طفلة ثرية عشقت طفلًا فقيرًا، وظلت تذكره إلى الممات، و"فنجان قهوة" وهي قصة ابنة أمير عشقت حارس أبيها. وخليل مطران يسوق هذه القصص في أسلوب درامي لا عهد للعربية به، ولا يقف بهذا الأسلوب عند الحوادث اليومية أو الخيالية؛ بل يوسعه ويدخل فيه بعض حوادث التاريخ؛ كالحرب بين فرنسا وألمانيا من سنة 1806 إلى سنة 1870 وهي من بواكير شعره، فكأن هذا المنزع صحبه منذ تيقظت فيه مواهبه. وكتب بعد ذلك قصيدة "مقتل بزرجمهر" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" ولا تلفتنا في هذه القصائد النزعة القصصية أو الدرامية وحدها؛ بل تلفتنا أيضًا نزعة رمزية فيها، فقد كتبها ليصور حياة الشعوب العربية المظلومة التي يظلمها المستعمرون وحكامها الجائرون، فهو يعرض للطغاة وغدرهم بالشعوب، ونراه يدعو دعوة حارة إلى الحرية والكرامة القومية ويستشير الحمية في الأمم الغربية من مثل قوله في قصيدة "نيرون" محرِّق روما المشهور، وقد امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة بيت: من يلم "نَيْرُون" إني لائم ... أمَّة لو كهرته ارتد كهرا1 أمة لو ناهضته ساعة ... لانتهى عنها وشيكا واثبجرَّا2

_ 1 كهرته: انتهرته. 2 اثبجر: ارتدع وتراجع.

كل قوم خالقو نيرونهم ... قيصر قيل له أم قيل كسرى ومن هذا الشعر الرمزي قصيدته "شيخ أثينا"، وفيها يصف استيلاء الرومان على أثينا، وكأنه يحذر المصريين من مغبة الاحتلال الإنجليزي. ومثلها قصيدته "السور الكبير في الصين"، وفيها يستثير عزائم المصريين ضد الإنجليز المستعمرين في أثناء محاورة طريفة. وشارك حافظًا وشوقي في كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، وتبع شوقي ينظم في الآثار المصرية القديمة، وتعظيم الفراعنة والإشادة بأمجادهم، ومن أجمل قصائده في ذلك قصيدته "في ظل تمثال رمسيس" وهي من بدائعه، وفيها يقول: تاريخ مصر ورمسيس فريدته ... عِقدٌ من الدر منظوم بعقيان1 ولوطنه الأول "لبنان" شعر كثير في دواوينه يدل على شدة تعلقه به، وكان كثيرًا ما يزوره، وأروع قصائده فيه "قلعة بعلبك"، وهو يستهلها بذكرياته السعيدة في الطفولة والشباب، ثم يصف آثارها الفينيقية وصفًا بارعًا. والحق أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء النهضة الذين بثوا في الشعر العربي الحديث روح العصر، متأثرين بالآداب الغربية مع دعمهم لوَحْدَة القصيدة، ومع الاحتفاظ الشديد بمقومات شعرنا الأصيلة من الجزالة والقوة والمتانة.

_ 1 فريدته: جوهرته النفيسة. العقيان: الذهب الخالص.

عبد الرحمن شكري 1886-1958م

6- عبد الرحمن شكري 1886-1958م: أ- حياته: في أسرة مغربية الأصل وُلد عبد الرحمن شكري لأب يُسمى محمد شكري عياد، كان في أيام الثورة العرابية يشتغل معاونًا في "الضابطية" بالإسكندرية، فاتصل برجال هذه الثورة وعلى رأسهم عبد الله نديم، ولم يلبث أن انضم إليهم، وعمل تحت لوائهم. ولما أخفقت الثورة سُجن مع من سجنوا من الثائرين، ثم عُفي عنه، وظل بدون عمل مدة، ثم عُين ضابطًا في معاونة محافظة القنال ببورسعيد، ومكث في هذه الوظيفة بقية حياته. ورُزق بابنه في هذه البلدة سنة 1886، وتصادف أن مات كل أبنائه الذين يكبرونه، فاهتم به اهتمامًا خاصًّا، وعلق عليه أمانيَّ واسعة. فألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم نقله إلى المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية، وتخرج فيها سنة 1904. وكانت في هذا الأب نزعة أدبية، ولعل هذه النزعة هي التي عقدت الصلة بينه وبين أديب الثورة العرابية عبد الله نديم؛ بل يقال: إنه كان من أدباء هذه الثورة. وكان النديم كثيرًا ما ينزل عليه ضيفًا بعد صدور العفو عنه، كما كان ينزل عليه بعض أدباء العصر مثل الشيخ حمزة فتح الله. وكان يصل ابنه بالرجلين، كما كان يتعجل إيقاظ مواهبه بما يعرض عليه من كتابات العصر ومؤلفاته، وخاصة كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ المرصفي. وكان في مكتبته ديوان ابن الفارض وديوان البهاء زهير، فعكف عبد الرحمن على هذا كله، ولم تلبث مخايل نبوغه أن تراءت لأستاذه في العربية الشيخ عبد الحكيم، وهو لا يزال في المدرسة الثانوية، فكان يشجعه ويُعجب بما يكتب وينظم. والتحق بمدرسة الحقوق، ولكنه لم يلبث أن فُصل منها بسبب تحريضه الطلاب على الإضراب استجابة لزعماء الحزب الوطني. فترك التشريع ودراسة القانون، واتجه إلى دراسة الآداب التي كانت تتفق وميوله، وتحقيقًا لهذه الغاية التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها سنة 1909. وقد التزم فيها الدرس الصارم للأدبين العربي والغربي، وكان أكثر ما يعجبه من الأدب الأول كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وديوان الحماسة لأبي تمام، وديواني الشريف الرضي ومهيار، فاقبل يعبُّ منها جميعًا، أما الأدب الغربي فوجد بغيته منه في كتاب "الذخيرة الذهبية" الذي وُزِّع عليهم في مدرسة المعلمين، وهو يضم أروع ما لشعراء الإنجليز من شعر غنائي. وفي هذه الأثناء كان يكتب في صحيفة الجريدة التي يحررها لطفي السيد

بعض ما ينشئه من مقالات ومن أشعار، وهي الجريدة التي كانت تحمل راية التجديد حينئذ، وكان يُقبل على الكتابة فيها شباب الأدباء من مثل: محمد حسين هيكل وطه حسين. ومقالاته فيها تدل على أنه يفهم الشعر في ضوء آراء النقاد الغربيين، فهو يكتب عن عَلاقة الشعر بالفنون ونحو ذلك من موضوعات كانت تُعد حينئذ جديدة؛ بل بدعًا جديدًا. ونراه في سنة 1909 ينشر أول ديوان له، ويسميه "ضوء الفجر". ثم يذهب في بعثة إلى إنجلترا، ويعود من البعثة سنة 1912، ويعين في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية. وينشر الجزء الثاني من ديوانه، ويقدِّم له العقاد مقدمة رائعة سبق أن تحدثنا عنها في فصل "الشعر وتطوره". وتتعاقب أجزاء الديوان التي بلغت سبعة، وقد ظهر الأخير منها في سنة 1919. ويتقلب في وظائف وزارة التربية والتعليم بين النظارة والتفتيش، ولا نراه يخرج ديوانًا بعد هذا التاريخ؛ بل يكتفي بما ينشره من قصائد ومقالات في مجلات المقتطف والرسالة والثقافة والهلال، وفي صحيفتي الأهرام والمقطم. وأحيل إلى المعاش سنة 1944؛ ولكن شعلة النشاط لم تخمد في نفسه، فقد ظل يكتب في هذه الصحف والمجلات، واختار بورسعيد -مسقط رأسه- ليمضي فيها بقية حياته، ثم تركها إلى الإسكندرية، وفيها لبَّى داعي ربه في 15 من ديسمير سنة 1958.

ب- شعره: شعر شكري تعبير واضح عن التقاء العقلين: المصري العربي، والغربي الإنجليزي وغير الإنجليزي، وقد كان الشعراء قبله -ونقصد شعراء النهضة- يتصلون أكثر ما يتصلون بالأدب الفرنسي، أما هو فأكثر صلته بالأدب الإنجليزي. وأخذ نفسه -منذ أن كان طالبًا في مدرسة المعلمين- بالتعمق في هذا

الأدب وبالقراءة الواسعة في الأدب العربي. وتصادف أن قرأ مختارات "الذخيرة الذهبية" فرأى فيها نموذجًا جديدًا لشعر غنائي يخالف الصورة التقليدية للشعر العربي، فليس فيه مديح ولا هجاء، وإنما فيه التعبير الواسع عن العاطفة والتأمل الواسع في آمال البشرية وآلامها وكل ما يتصل بالحياة والطبيعة من أفكار وأنغام. واستقرت هذه الصورة في نفسه، فلم يعد يعجب بشعرنا التقليدي في أبوابه الكبيرة المعروفة وخاصة باب المديح. وتصادف أن اطلع على كتاب "الأغاني" و"ديوان الحماسة" لأبي تمام فأعجب بما فيهما من غزل وجداني لا تصنع فيه ولا تكلف، واطلع على ديواني الشريف الرضي ومهيار، فوجد فيهما نفس الغزل الطبيعي الذي يشف عن قلب صاحبه، دون أي حجاب كثيف من طباق وجناس وغير ذلك من ضروب البديع. حينئذ نزعت به نفسه أن يدخل الشعر من هذا الباب ومن الأبواب الواسعة التي فتحها أمامه شعراء كتاب "الذخيرة الذهبية". وديوانه الأول الذي نشره عقب تخرجه من مدرسة المعلمين وسماه "ضوء الفجر" يصور خير تصوير هذا الاتجاه، الذي كان يعد ثورة في أوائل القرن. والديوان يخلو خلوًّا تامًّا من المديح، وفيه رثاء لزعماء الإصلاح الذين لبوا نداء ربهم؛ وهم: الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين، وهو رثاء من نوع جديد، يقتصر فيه الشاعر على التفكير في الحياة والموت، ولا نراه يصور حزن الشعب المصري كما صوره حافظ مثلًا في رثائه لهؤلاء الأعلام، فهو مشغول بنفسه وبخواطره الذاتية. إنه شاعر وجداني ذاتي بالمعنى الكامل الذي يفهمه الغربيون عن الشاعر الغنائي، فالشعر نسيج نفسه وليس نسيج الأحداث السياسية والعواطف القومية، ومن أجل ذلك كان أكثر النغم في الديوان نغم الحب، وهو حب محروم، فيه يأس وشجى. ووراء هذا الحب تصوير واسع للنفس البشرية وأحاسيسها إزاء الكون والطبيعة، وهي أنغام استمدها مما قرأه في الشعر الإنجليزي، وقد

طُبعت عنده كما طبعت عند أصحاب المنزع الرومانسي بالحزن والتشاؤم، فهي تذيع أنات الشاعر ويأسه القاتل، حتى ليقول في قصيدة بعنوان "شكوى الزمان": لقد لفظتني رحمة الله يافعًا ... فصرت كأني في الثمانين من عمري وفي آخر الديوان قصيدة طويلة من الشعر المرسل الذي يتحرر فيه الشاعر من القافية على نمط ما هو معروف عن شكسبير وغيره من شعراء الغرب، وفيها يصور أحزانه ومطامحه إلى حياة أكمل من هذه الحياة. ويُرْسَل شكري في بعثة إلى إنجلترا، فتتسع معرفته بالأدب الإنجليزي، ولا يقف بقراءاته عند هذا الأدب؛ بل يأخذ نفسه منذ هذا التاريخ بقراءة آداب الأمم الغربية المختلفة من فرنسية وألمانية وغير فرنسية وألمانية. ويعود إلى مصر، فتشتد الصلة بينه وبين شاعرين من طرازه وذوقه في فهم الشعر وما ينبغي أن يكون عليه في ضوء الأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية؛ وهما: إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد، ويؤلفون معًا هذا الجيل الجديد الذي ثار على شعرنا القديم كما ثار على شعر شوقي وغيره ممن كانوا يضطربون بين التقليد والتجديد. ويأخذ شكري في إخراج دواوينه واحدًا تلو الآخر، وتارة يقدم لما يخرج من دواوين، وتارة يقدم له العقاد مما وصفناه في غير هذا الموضع. وألف قصة سماها قصة الحلاق المجنون، وفيها ما يدل على تأثره بالآداب الروسية حينئذ، كما ألف "الاعترافات" وفيها تأثر واضح بما قرأه في الآداب الفرنسية من اعترافات "جان جاك روسو" و"شاتوبريان" وإن لم يجعلها على لسانه فقد نسبها إلى شخص رمز إليه بالحرفين م. ن. وهي اعترافات رائعة؛ إذ كلها تحليلات وتأملات، وقد وصف فيها الشباب المصري بأنه "عظيم الأمل؛ ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد". وشكري بمثل هذا الاعتراف يضع في يدنا مفتاح هذا التشاؤم وهذا الضيق

والتبرم اللذين وقَّعتْ مدرسته شعرها على أوتارهما، فقد كان يجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر وادي النيل، ولم يكن الشباب المصري حينئذ مبتهجًا؛ بل كان حزينًا حزنًا شديدًا؛ إذ كان يعاني أزمة الحياة، وكان لا يستطيع تحقيق آماله؛ بل كان يرتد دائما عن تحقيقها بائسًا يائسًا. ومن هنا أصبح قرار النغم عنده قاتمًا، فالحياة قاتمة من حوله، ولا يستطيع شاب أن ينال منها غير الضنى والحزن والمرارة. وهذا هو طابع شعر شكري في جميع دواوينه، وهو طابع حزين لا يستمد فيه من شعر المنزع الرومانسي فحسب؛ بل يستمد فيه من حقائق بيئته وحقائق حياته وحياة الشباب المصري من حوله. ولعل ذلك ما جعله يردد الحديث كثيرًا عن الموت، وهو يفتتح الجزء الثالث بقصيدتين عنوانهما على التوالي: "الحب والموت" و"بين الحياة والموت". ومن قوله في أولاهما: وما الدهر إلا البحر والموت عاصف ... عليه وأعمار الأنام سفين وفي نفس الديوان قصيدة بعنوان "الأزاهير السود"؛ إذ تتراءى له كل أزهار الحياة أزهار ضنك وشقاء، ونراه يرثي نفسه في هذا الديوان بقصيدة عنوانها "شاعر يحتضر" يستهلها بقوله: أألقي الموت لم أنبه بشعري ... ولم يعلم سواد الناس أمري وفي نفسي من الأبد اتساع ... تدور الكائنات بها وتجري وأكثر أشعاره في دواوينه من هذا الضرب القاتم الحزين، ونراه يُلقي بظلال حزنه على مشاهد الطبيعة من حوله، ومن قصائده الرائعة في ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى الريح"، وفيها يقول: يا ريح أي زئير فيك يفزعني ... كما يروع زئير الفاتك الضاري يا ريح أي أنين حن سامعه ... فهل بُليت بفقد الصحب والجار يا ريح ما لك بين الخلق موحشة ... مثل الغريب غريب الأهل والدار أم أنت ثكلى أصاب الموت واحدها ... تظل تبغي يد الأقدار بالثار

واستلهم في هذه القصيدة قصيدة "أغنية الريح الغربية" للشاعر الإنجليزي الرومانسي شللي؛ ولكنه لم يَسْطُ على معانيه؛ بل اهتدى من بعيد على ضيائه إلى هذه الأنغام العربية الشجية، وكان على هذا النحو دائمًا يستضيء بالنماذج الغربية؛ ولكن لا ينقلها نقلًا في أساليبه العربية، وإنما يكتفي بالإلهام من بعيد، ثم يغني عواطفه وشجونه في شعره. وفي دواوينه أمثلة مختلفة من ذلك، ومن أوضحها قصيدته "نابليون والساحر المصري" في الجزء الثاني، وقد استلهم فيها قصيدة الشاعر "The Bard" لتوامس جراي، وهي كقصيدة "الريح الغربية" من قصائد "الذخيرة الذهبية". ودائمًا يتردد النغم الحزين في شعره، وصوَّر ذلك في اعترافاته -كما قدمنا- إذ قال عن الشباب المصري: إنه يتقاذفه الأمل واليأس؛ ولكن اليأس كان أشد عنفًا به؛ إذ ينفذ إلينا من أكثر قصائده. وطبيعي أن يدفعه تفكيره في الحياة وبؤسها إلى تفكير واسع في عالم الكون والغيب وأحواله، وناموس الحياة ووجودها المطلق وحقائقها الكلية. وكل ذلك يتراءى أمامه كأنه بحر بغير ضفاف، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى المجهول"، وهو يفتتحها بقوله: يحوطني منك بحر لست أعرفه ... ومهمه لست أدري ما أقاصيه أقضي حياتي بنفس لست أعرفها ... وحولي الكون لم تُدْرَك مجاليه يا ليت لي نظرة للغيب تسعدني ... لعل فيه ضياء الحق يبديه كأن روحي عود أنت تحكمه ... فابسط يديك وأطلق من أغانيه ووقفة شكري أمام الكون وأسراره لا تنتهي به إلى شك ولا إلى قطع حبل الرجاء في معرفة حقائق الوجود وروحه الخالدة. وقلبه من هذه الناحية كان عامرًا بالإيمان، وتصور ذلك أوضح تصوير قصائد مختلفة مثل: "في عرفات" و"عظة الهجرة" و"يا رحمة الله التي عمت الورى"، وقصيدته في الجزء الرابع "صوت الله"، وهو يستهلها بقوله:

أنصت ففي الإنصات نجوى النفوس ... فإن صوت الله دانٍ كليم ويقول في الجزء الخامس من قصيدته "قوة الفكر": الفكر نور الله في الوجود ... فعمره كخُلْده المديد وله في الجزء السابع قصيدة بعنوان "الملَك الثائر"، صوَّر فيها ملَكًا ثار على ربه؛ لما تمتلئ به الأرض من شرور، ونزل إلى الأرض يحاول الإصلاح، فهب في وجهه العصاة والتقاة، وأراد الصعود ثانية إلى الملأ الأعلى، فأغلقت أبواب السماء في وجهه عقابًا على ثورته وعصيانه لربه. وقد زعم بعض النقاد أن قصيدته "حلم البعث" في الجزء الثالث تصور تمردًا على الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي ليست أكثر من سخرية بالناس وشرورهم التي لا تفارقهم حتى بعد موتهم. وله منظومتان في "أبي الهول" و"هرم خوفو"؛ ولكنه لا يذهب بشعره فيهما مذهب شوقي في فرعونياته، فهو لا يعنيه الإشادة بمجد الآباء بقدر ما تعنيه نفسه وخواطره في الكون والحياة. وربما كانت قصيدته في الجزء الخامس "العبد الروماني" رمزًا لحكام الشعب الطغاة، فقد قتل العبد في القصيدة سيده الطاغية، وتغنَّى بالحرية قائلًا: رضينا بنيرون فكنا بناره ... جديرين إن الأتقياء حُطام وربما كانت هذه القصيدة هي التي ألهمت خليل مطران قصيدته في "نيرون". وله في الجزء السابع قصيدة تسمى "هز الأنوف" وفيها صور ملِكًا جائرًا حكم شعبه حكمًا ظالمًا، فأمر كل فرد فيه أن يهز أنفه صباح مساء، وأخيرًا ثار عليه أحد أبناء شعبه قائلًا: إذا نحن طامنا لكل صغيرة ... فلا بد يومًا أن تساغ الكبائر وعلى هذا النحو كان شعر شكري شعرًا جديدًا؛ بل كان حدثًا جديدًا في شعرنا المصري الحديث، إلا أن الجمهور لم يقبل عليه لسببين: أما أولهما

فيرجع إلى أنه لم يكن قد بلغ من النضج العقلي ما يمكِّنه من تذوق هذا اللون الجديد من الشعر، وأما ثانيهما فيرجع إلى شكري نفسه؛ لأنه لم يستطع أن يوازن بين جديده وبين الصياغة القديمة كما وازن شعراء النهضة. ومع ذلك فله -مع العقاد والمازني- فضل هذه المحاولة الجديدة التي أخرجت شعرنا من دوائر التقليد القديمة، وجعلته يطوف في مجالات أرحب وأوسع، من العواطف الإنسانية العامة، والتأمل في الكون والحياة البشرية تأملا فيه شره عقلي شديد إلى التفكير في كل فكر والإحساس بكل إحساس.

عباس محمود العقاد 1889-1964م

7- عباس محمود العقاد 1889-1964م: أ- حياته وآثاره: وُلد عباس محمود العقاد بأسوان في سنة 1889 لأسرة مصرية متوسطة، وقد أخذ يختلف -منذ نشأته الأولى- إلى "الكُتَّاب"، ثم إلى المدرسة الابتدائية، وتخرَّج فيها سنة 1903، وكان يلفت معلميه بذكائه ومواهبه الأدبية. وكأنه رأى أن يختصر الطريق، فرحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يُكمل دراسته في المدارس والمعاهد الرسمية؛ بل أخذ يكلمها بنفسه معتمدًا على ذهنه الخصب، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة. ولا نكاد نمضي في الحلقة الثانية من هذا القرن حتى نجده في المدرسة الإعدادية يعلم بها التلاميذ مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني، وارتبط بهذه الصداقة عبد الرحمن شكري، وبذلك تألف هذا الجيل الذي كان يفهم الشعر على طريقة جديدة في ضوء ما يقرأ من الأدب الإنجليزي؛ بل الآداب الغربية المختلفة. ويخرج شكري الجزء الثاني من ديوانه سنة 1913، فيقدم له العقاد كما يقدم لديوان

المازني الذي أخرجه في سنة 1914، وتتم لمصر على أيدي هذا الجيل دورة جديدة في شعرها. وقد أخذ المازني والعقاد يكتبان في النموذج الجديد ويهاجمان النموذج القائم عند حافظ وشوقي. وتصدى المازني لحافظ في مجلة عكاظ سنة 1914، وتصدَّى العقاد لشوقي في كتاب "الديوان" سنة 1921. وأخرج العقاد أول ديوان من دواوينه سنة 1916، وتعاقبت دواوينه حتى بلغت أربعة، وطُبعت في سنة 1928 مجموعة باسم "ديوان العقاد". ولا تضع الحرب الأولى أوزارها حتى نجد المازني والعقاد جميعًا يتركان التعليم إلى الصحافة، ويتعرف العقاد على سعد زغلول، ويصبح كاتب حزب الوفد ولسانه في الجمهور. وكان يكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبسًا كثيرًا من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب السياسية. وقاد في هذه المقالة معارك مع كُتَّاب الأحزاب الأخرى مثل هيكل كاتب الأحرار الدستوريين، وهي معارك ارتقت بفن الهجاء العربي القديم، فلم يعد هجاء شخصيًّا؛ بل أصبح هجاء حزبيًّا يستمد من المبادئ العامة ومن فكر راقٍ نشيط. وفي هذه الفترة -أي: في العشرة الثالثة من هذا القرن- رأى العقاد وهيكل وطه حسين والمازني أن ينقلوا إلى قرائهم مباحث الأدب والنقد الغربية، ويشفعوها بنظرات تحليلية في المفكرين الغربيين. وكان ذلك سببًا في ظهور ملاحق أدبية للصحف اليومية، فأخرج هيكل السياسة الأسبوعية، وأخرج العقاد أو أخرجت جريدة البلاغ الوفدية مجلة البلاغ الأسبوعية، ونتج عن ذلك نهضة أدبية واسعة. وأخذ هؤلاء الكُتاب يجمعون مقالاتهم الممتازة في كتب وينشرونها، فنشر العقاد غير كتاب مثل: "مراجعات في الآداب والفنون" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"الفصول"، وهي تصور هذا الجهد العقلي الخصب الذي اضطلع به في حياتنا الأدبية، فقد نقل إلينا كثيرًا من الأفكار الأوربية التي لم تكن تعرفها العربية، وسلَّط عليها من شخصيته ما طبعها بطابعه الخاص.

وفي أثناء حكم صدقي "1930-1934" دخلت مصر في ظلال عهد استبدادي أُلغي فيه الدستور والحياة النيابية، فثارت ثائرة كُتاب الأحزاب وعلى رأسهم العقاد، فكتب كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" وهو أغنية بارعة في الديمقراطية وصلاحيتها للأم الشرقية. وتناول في بعض مقالاته الملك الطاغية فؤادًا، وقُدِّم بسببها إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر. وقد وصف حياته في السجن بكتابه "عالم السجون والقيود". وبعد خروجه من السجن نشر ديوانه "وحي الأربعين"، كما نشر بحثًا له في "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"، ونشر أيضًا بحثًا في ابن الرومي كما نشر قصته "سارة" وديوانه "هدية الكروان"، غير مقالاته المختلفة في المقتطف والهلال. وتوالت الأحداث فانشق النقراشي وأحمد ماهر على حزب الوفد، فانضم إليهما، وظل يكتب في جريدة الأساس حتى امتنعت عن الظهور. وعُين عضوًا في مجلس الشيوخ وفي مجمع اللغة العربية. ووالى نشاطه فأخرج دواوينه: "عابر سبيل" و"أعاصير مغرب" و"بعد الأعاصير". واتجه إلى كتابة التراجم والسير، فكتب في "محمد" و"المسيح" عليهما السلام، وفي أبي بكر الصديق وعمر وعلي، كما كتب في مجالات كثيرة، فتارة يكتب عن الفلاسفة الغربيين والفلاسفة الإسلاميين، وتارة يكتب في موضوعات عامة مثل "عقائد المفكرين في القرن العشرين". ومن طريف كتبه "الله" وله أيضًا "إبليس" و"أبو نواس". وبلغ ما كتبه نحو ستين مؤلفًا كلها تمتاز بحيوية التفكير. وعباس العقاد بدون ريب عَلَمٌ من أعلام نثرنا الحديث، وقد ظفر نثرنا عنده ببراعة فائقة على أداء المعاني في لفظ جزل رصين، فيه قوة ومتانة، وفيه دقة تشعرك بسيطرة صاحبها على المادة اللغوية، فهو يعرف كيف يصوغ كلمه، وكيف يلائم بينها ملاءمة، يجد فيها قارئوه اللذة والمتعة. والعقاد يمتاز بهذا الأسلوب الرصين منذ أخذ يكتب مقالاته في أوائل هذا القرن، وهو أسلوب يدل على ما وراءه من ثقافة عميقة بآدابنا العربية، استطاع

أن يشتق لنفسه خلال التعمق فيها صياغته البديعة، التي لا ينبو فيها لفظ؛ بل تجري الألفاظ في نسق محكم مطرد. ولم يتمثل الآداب العربية وحدها، فقد تمثل أيضًا الآداب الغربية تمثلًا دقيقًا، نفذ من خلاله إلى ثراء عريض في معانيه، وهو ثراء لا يستمد فيه من الغرب فحسب؛ بل يطبعه بملكاته، فإذا هو له وإذا هو من صنعه، صنع عقله المشتعل الذي يستقل -رغم محصوله الواسع من الثقافات- بتفكيره وإلحاحه في هذا التفكير إلحاحًا يستحدث في تضاعيفه كثيرًا من الخواطر والآراء. واقرأه في كل ما يكتب فيه من سياسة وأدب وفلسفة ونقد واجتماع وتحليل للشخصيات فسيروعك عقله الخصب، الذي لا يزال يلح على الفكرة بتوليداته واستنباطاته؛ حتى تتحول من بذرة صغيرة محدودة إلى شجرة باسقة الظلال. وحقًّا قد نجد عنده أحيانًا ضربًا من الصعوبة؛ ولكنها ليست الصعوبة التي تنشأ من الغموض في أفكاره، وإنما الصعوبة التي تنشأ من العمق فيها، فإذا تعمقت معه أصبت لذة لعقلك وشعورك معًا. فنثره في بعض جوانبه يحتاج منك إلى التمهل والروية، وهما لا يضيعان عبثًا؛ بل تجد فيهما متعة حقًّا، وهي متعة لا تأتي فقط من طرافة تفكيره وعمقه البعيد؛ وإنما تأتي أيضًا مما يشفع به كتاباته من منطق حاد، يأخذ بزمام قارئه، فلا يستطيع منه إفلاتًا؛ بل يذعن ويخضع لأدلته الصارمة. ومن ثم كان إذا ناضل في أي رأي سرعان ما ينتصر؛ بفضل براهينه وأسلحته المنطقية وملاءمته بين هذه البراهين والأسلحة ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة. ومن أهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، فهو يقف دائمًا عند رأيه ويثبت ثباتًا، كأنه حصن من حصونه، يعيش فيه، ويعيش له، ويذود عنه ذياد العربي الأصيل عن عِرْضِه. ويروعك عنده دائمًا أنه يؤمن بوطنه وعروبته، وأنه يشعر في أعماقه بأنه يستمد حياته من حياة أمته، فهي دائمًا نصب عينه لا تغيب؛ بل هي دائمًا النبع الروحي لأحاسيسه ومشاعره، بكل ما تموج به من أحداث سياسية وكل ما تُزْهى به من أمجاد ماضية. وقد نال في سنة 1960 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بأعماله الأدبية.

ب- شعره: يتضح مما قدمنا من حياة العقاد أن عناصر كثيرة تُسهم في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري، يستشعر أمجاد المصريين في ضميره وقلبه، وهو عربي، وقد توفر على قراءة الأمهات العربية في النثر والشعر والفلسفة والتصوف، وهو غربي التفكير، تزوَّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، فهو مع إيغاله في قراءة الأدب الإنجليزي يتوغل في قراءة الآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها، كما يتوغل في قراءة الآثار النقدية. وعرفنا أنه لم يكمل دراسته العالية؛ ولكنه عوضها بأستاذ صارم من نفسه، دفعه إلى تعهد عقله بالقراءة والتثقيف وشحذ مواهبه بالإدمان الطويل على النظر في آثار الشعراء المختلفين. ونراه في مطالع شبابه يقود مع شكري والمازني معارك التجديد في شعرنا. ومن الغريب أنهما خرجا من الميدان مع الحرب العالمية الأولى، أما هو فثبت فيه إلى اليوم، وكأنه يقوم عنده على دعائم ثابتة، وليست هذه الدعائم إلا روحه القوية التي تؤمن دائمًا بمثل أعلى، ثم تسعى إلى تحقيقه في جهاد متواصل لا يعرف التواني ولا الفتور. ونحن نلقاه في ديوانه الأول المؤلف من أربعة أجزاء كما نلقاه في ديوانه الأخير "بعد الأعاصير" بنفس الشخصية. ومن يطلع على ديوانه الأول يستطيع أن يلاحظ فيه قصيدة نونية نظمها على نمط قصيدة لابن الرومي وأخرى نظمها خمرية على نمط ابن الفارض؛ ولكن النمط الأول هو الذي كان يتفق مع روح جماعته الأدبية المتشائمة. ولعل ذلك ما جعله يخص ابن الرومي بكتاب، فقد شُغف به منذ فجر حياته الشعرية؛ لأنه وجد عنده نفس الأنغام التي كانت تعجب بها مدرسته، أنغام الحزن والشكوى من الدهر والناس. وليس معنى ذلك أن العقاد كان يُعْنَى بمعارضة ابن الرومي والصب في قوالبه

على مثال ما عُنِيَ شوقي بمعارضة البحتري مثلًا. فالعقاد يستقل في شعره وقوالبه عن ابن الرومي وغيره على نحو ما يستقل خليل مطران عن شعراء العرب، فهو مثله يستوعب الصياغة القديمة؛ ولكنه لا يفنى فيها ولا يتحول إلى قوالبها يصب فيها أو يسكب ما في نفسه، فحسبه أن يتمثلها، ثم تصبح ملكًا له يستخدمها كما تشاء ملكته الفنية دون أن يظهر عنده اتباع أو تقليد واضح إلا في القليل النادر. وهو من هذه الناحية يُعْنَى بأسلوبه عناية واسعة، وهي عناية تقوم على الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصيح؛ بل لا بأس أحيانًا من استخدام اللفظ الغريب، ولعل ذلك ما جعله يكثر في هوامش ديوانه الأول من شرح الكلمات؛ ولكنها غرابة في حدود ضيقة؛ إذ يغلب على أساليبه الوضوح، كما تغلب عليها المرونة. ويدخل في هذا الاتجاه محافظته على الأوزان العروضية القديمة، فهو ليس ممن يرون التجديد في الأوزان ولا ممن ينزعون إلى استخدام الموشحات الأندلسية وإن كان يستخدم الشعر الدوري كثيرًا؛ لكنه على كل حال شكل قديم. وكأنما كان يرى التجديد في المعاني دون الألفاظ والعروض، وهذا ما يجعل لشعره الجديد إطاره المستقل، وهو إطار لا يخرج على الأوضاع القديمة؛ بل يستغلها ويوسع في جنباتها لتحتمل تجربته الحديثة. ومن غير شك هو من هذا الجانب يختلف عن شكري الذي حاول التحلل أحيانًا من القوافي القديمة، كما حاول التحلل أحيانًا من اللغة الجزلة الفصيحة. وهو يختلف عنه من ناحية ثانية، فإنه لا يبلغ مبلغه من البؤس والتشاؤم والحزن العميق؛ بل تتألق أمام عينيه في ظلمات يأسه الآمال، فهو حزين، ولكنه طامح، وهو طموح ينتهي عنده إلى تمرد على الحياة، وسخرية مرة بها وبالناس، بل هو طموح ينتهي عنده في كثير من الأحوال إلى فرح بالحياة وما فيها من متع ونعيم. ومن أهم ما يميزه استيعابه للفكر الغربي، وهو يعلنه منذ ديوانه الأول ولا يخفيه، فقصيدته الرابعة فيه معربة عن شكسبير وعنوانها "فينوس على جثة أدونيس"، ونمضي في الديوان فنجده يترجم له قطعة من مسرحية "روميو وجولييت"، كما نجده يترجم قطعة عن الشاعر الإنجليزي كوبر بعنوان "الوردة"، ويترجم عن بوب قطعة بعنوان "القدر".

وهذه القطع المترجمة ليست أكثر من رموز إلى ثقافته بالآداب الغربية، وهي ثقافة تتعمقه، ومع ذلك استطاع أن يتحرر منها كما تحرر من ثقافته العربية؛ ليجد نفسه وشخصيته وروحه المصرية الجديدة. وهي روح تبرز عنده -كما يمثلها ديوانه- في اتجاهين، أما أولهما فالوقوف بآثار الفراعنة وإشادته بحضارتنا القديمة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه "أنس الوجود" و"تمثال رمسيس". وأما ثانيهما فوصف عواطفنا السياسية والوطنية، وأروع ما يصور ذلك قصيدته "يوم المعاد" التي نظمها بعد رجوع سعد زغلول من منفاه، وفيها يقول: ما يبتغ الشعب لا يدفعه مقتدر ... من الطغاة ولا يمنعه مغتصب فاطلب نصيبك شعب النيل واسم له ... وانظر بعينيك ماذا يفعل الدأب ما بين أن تطلبوا المجد المعد لكم ... وأن تنالوه إلا العزم والطلب وهو في الاتجاهين جميعًا يختلف عن زميله شكري الذي لم يكن يُعْنَى بالتغني بأمجادنا القديمة وعواطفنا الوطنية إلا نادرًا؛ إنما كان يُعْنَى قبل كل شيء بنفسه وخواطره الذاتية. ومما يمتاز به العقاد أيضًا في ديوانه الأول أن الوَحْدَة العضوية للقصيدة تتكامل عنده، فلم تعد أنغامها تتبدد بين موضوعات مختلفة؛ بل أحكم التآلف بينها؛ بحيث أصبح للبيت في القصيدة مكانه الذي لا يعدوه، فهو جزء من كل، أو هو عضو من جسد واحد، ومن الصعب أن ينقل إلى غير مكانه أو ينزع من موضعه. وليس هذا وحده ما يمتاز به العقاد في تجربة المدرسة الجديدة، فقد نَمَّى بناء القصيدة العام تسعفه في ذلك ثقافته الواسعة بالآداب الغربية، ولسنا نقصد البناء اللفظي؛ وإنما نقصد البناء المعنوي، وما يزخر به شعره من تأملات وتوليدات عقلية يرسلها على كل ما حوله خاضعًا للمنطق خضوعًا شديدًا. وأهم الموضوعات التي تستنفد شعره في ديوانه الأول بأجزائه الأربعة الحب

والطبيعة، أما الحب فنراه يعبر فيه تعبيرًا دقيقًا عن المشاعر والإحساسات الدفينة، ومن خير قصائده فيه "نفثة" التي يستهلها بقوله: ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني وقصيدته التي نظمها في قطعتين بعنوانين متواليين "مولد الحب، وموت الحب"، وفيها قارن بين مولد الحب ونهايته السريعة مقارنة طريفة. وتحتل الطبيعة الصامتة والمتحركة حيزًا واسعًا في الديوان، وقد خص النيل بقصائد كثيرة لعل أهمها "على النيل". ووقف كثيرًا عند الليل، وله قصيدة بديعة في الصحراء وقصائد مختلفة في البحر، ويحرك القمر ببهائه فيه كثيرًا من العواطف الحية. ونراه يولع بتصوير فصول السنة، كما يولع بعالم الزهور وخاصة بالوردة. ويقف طويلًا أمام عالم الطير تملؤه الرحمة كما يملؤه العطف والشفقة. وهو في كل ذلك يحلق بأفكاره في مدى بعيد من الحس والشعور والتأمل العقلي الواسع. ولا يخلو شعره من الفكاهة على نحو ما في قصيدته "ثقيل" كما لا يخلو من الأفكار الفلسفية الدقيقة على نحو ما نرى في قصيدتيه "الدنيا الميتة" و"الموسيقى". وهذه الأنغام التي نستقبلها من ديوانه الأول المكوَّن من أربعة أجزاء هي نفس الأنغام التي نستقبلها بعد ذلك في دواوينه التي أخرجها من بعده، أو هي على الأقل أغلب تلك الأنغام. فقد أخرج ديوانًا سماه "وحي الأربعين"، وأكثره تأملات في الحياة وخواطر في الحب والطبيعة. وتلاه بديوان سماه "هدية الكروان"، نظم فيه كثيرًا من القصائد في هذا الطائر المصري الذي يملأ ليالي الوادي بأناشيده العذبة وترتيلاته الشجية، وأمُّ هذه القصائد قصيدته: هل يسمعون سوى صدى الكرْوان ... صوتًا يُرفرف في الهزيع الثاني وهي من قصائد ديوانه الأول، جعلها فاتحة قصائده في هذا الديوان والنبع الذي يستمد منه أنغامه وألحانه فيه. ولا نشك في أنه يستلهم في هذه القصيدة

وذلك الديوان قصيدة شللي الشاعر الإنجليزي "إلى قبرة"، وهي من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفيها يشبه القبرة بالفرح المجرد. وليس معنى ذلك أن العقاد يقتبس من شللي أو ينقل، فهو يلهمه ويوحي إليه، أما بعد ذلك فمعانيه في قصائده له. وقد نحس نفس الإحساس إزاء كثير من قصائده بدواوينه المختلفة في الطبيعة والحب، ففيها جميعًا أثر قراءاته في الآداب الغربية؛ ولكنها مطبوعة بشخصيته، وتستمد من أفكاره وأحاسيسه ما يجعلها مصرية عربية صميمة. ورأى في الغرب منزعًا نما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ انصرف بعض الشعراء عن الحب والطبيعة والميثولوجيا القديمة إلى حياتهم الحاضرة، وحولوا كل ما فيها مما يُعد يوميًّا عاديًّا أو تافهًا إلى شعر لا يقل عن شعر الحب والطبيعة جمالًا وجلالًا. وفي داخل هذا الاتجاه أصدر ديوانه "عابر سبيل"، وفيه نراه يأخذ بعض الموضوعات اليومية ويفيض عليها من تأملاته العقلية والنفسية، على نحو ما نرى في قصيدته "كواء الثياب ليلة الأحد"، وهو يستهلها بقوله: لا تنم لا تنم ... إنهم ساهرون ومن قصائده في هذا اللون الجديد التي تؤثر في قارئها حقًّا قصيدة "صورة الحي في الأذن" و"نداء الباعة قبل انصرافهم في الساعة الثامنة". ونجد بجانب هذه القصائد متفرقات لعل أروعها قصيدته التي حيَّا فيها "دار العمال" ونعى ظلم الأغنياء لهم، بينما ينعمون بعرق جبينهم وجهد أيديهم. وأخرج في الحرب العالمية الثانية ديوانه "أعاصير مغرب"، وسماه هذا الاسم إشارة إلى ظهوره وعالم الدنيا مضطرب بأعاصير الحرب وعالم نفسه مضطرب بأعاصير مختلفة من حب وغير حب. وهو موزع فيه بين العالَمين، وفيه كثير من الرثاء وشعر المناسبات، ولعل أروع قصائده فيه قصيدته في المذياع أو كما سماه "صَدَّاح الأثير"، وهو يفتتحها بقوله: ملأ الآفاق صداح الأثير ... لا فضاء اليوم بل صوت ونور وآخر دواوينه "بعد الأعاصير"، وأكثره مراثٍ ومناسبات، وضمنه مرثية ومقالة بديعة في صديقه المازني.

وهذا هو العقاد، عالم كبير من عوالم شعرنا الحديث، وربما كان أكثر شعرائنا أصالة في تجديده؛ لأنه تجديد يقوم على استيعاب الآداب الغربية والعربية جميعًا واستخلاص صورة جديدة للشاعر، فيها روحه وقومه وشخصيته. وكل ما يمكن أن يلاحظ عليه أنه يسرف أحيانًا في توليداته العقلية، حتى يصبح أسلوب شعره قريبًا من الأسلوب النثري؛ لكثرة ما فيه من منطق ووضوح.

أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م

8- أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م: أ- حياته: وُلد أحمد زكي أبو شادي في 9 من فبراير سنة 1892 بحي عابدين في القاهرة لأب كان محاميًا وخطيبًا مفوهًا، اشتهر بمواقفه الوطنية، هو محمد أبو شادي، ولأم كانت تنظم الشعر وتشدوه هي أمينة أخت الشاعر مصطفى نجيب. فالجو الذي نشأ فيه كان جوًّا أدبيًّا. وقد اختلف على شاكلة لداته إلى المدارس الابتدائية فالثانوية، وتفتحتْ فيه مبكرة مواهبه الأدبية والشعرية؛ إذ لا نصل معه إلى سن السادسة عشرة حتى نجده ينشر طائفة من شعره ونثره بعنوان: "قطرة من يراع في الأدب والاجتماع"، ولا يلبث أن يلحقها في العام التالي بقطرة ثانية، ويتبعهما بقطرتين أخريين من النثر والنظم. وتتضح في هذه الكتب جميعًا ثقافته المنوعة بالآداب العربية والغربية وإحساسه بمشاكل قومه السياسية والاجتماعية ومشاكل الشعر العربي في المادة والشكل والمضمون. ونراه معجبًا بخليل مطران وبآراء "برادلي" أستاذ الشعر حينذاك في جامعة أوكسفورد، ويترجم بعض أشعار غربية، ويعرض لبعض الرسامين، وكأنه يضع تحت أيدينا المؤثرات التي ستظل تؤثر في روحه وفي شاعريته.

وفي إبريل من سنة 1912 أرسله أبوه إلى إنجلترا ليدرس الطب، وأتم هذه الدراسة في ديسمبر من سنة 1915، وظفر بجائزة "وب" في علم "البكتريولوجيا" أو علم الجراثيم، وظل هناك يشتغل بهذا العلم نحو سبع سنوات، وفي أثناء ذلك تيقظ اهتمامه بتربية النحل، وأسس جمعية له، وأسس بجانب الجمعية مجلة عالم النحل "Bee-world". وعُني بالتصوير كما عُني بالشعر، وكأنه كان هناك خلية نحل دويًّا ونشاطًا. وقد أخذ يعمق معرفته بالأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية، وخاصة النزعة الرومانسية التي كان قد أعجب بظلالها عند خليل مطران، فعكف على شللي وكيتس وأضرابهما من شعراء الوجدان الفردي. وأتقن الإنجليزية بحيث أخذ ينظم بها، غير أنه لم ينسَ وطنه وقومه، فكان يرسل بمقالاته وأشعاره إلى الصحف المصرية. وأنشأ جمعية آداب اللغة العربية، وأخذ يجمع أبناء وطنه حوله في النادي المصري بلندن، ويتحدث معهم في شئون بلاده، وتنبهت له الشرطة هناك، فضيقت عليه تضييقًا جعله يؤثر العودة إلى وطنه ومعه زوجته الإنجليزية في ديسمبر سنة 1922. عاد أبو شادي إلى مصر بنشاطه الجم، فلم يمضِ عليه شهران حتى أنشأ "نادي النحل المصري" الذي حيَّاه شوقي بقصيدته المعروفة "مملكة النحل". وفي إبريل من سنة 1923 تولى إدارة قسم "البكتريولوجيا" في معهد الصحة بالقاهرة. ودار العام فنُقل إلى السويس ثم إلى بورسعيد فالإسكندرية، ولم يمكث طويلًا خارج القاهرة، فقد عاد إليها في سنة 1928. وكان في كل مكان يحل فيه يؤسس الجمعيات كجمعية رابطة مملكة النحل "والاتحاد المصري لتربية الدجاج" و"جمعية الصناعات الزراعية" و"الجمعية البكتريولوجية المصرية". وبجانب هذه الجمعيات كان ينشئ المجلات التي تخدم أهدافها مثل "مملكة النحل" و"الدجاج" و"الصناعات الزراعية". وكان في أوقات فراغه يُقبل على نظم الشعر في سرعة شديدة، فكثر إنتاجه الشعري كثرة مفرطة، وما نصل إلى سنة 1932 حتى نراه يؤلف جماعة أبولو التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، والتي ظلت قائمة إلى سنة 1935، وكان لها

أثر كبير في نهضتنا الشعرية حينئذ؛ إذ أسس باسمها مجلة فتحتْ صدرها للشباب وغذتهم بآداب الغرب وآراء نقاده في الشعر والشعراء. وكانت مصر في هذه الأثناء تجتاز محنتها بصدقي؛ إذ كان يحكمها بالحديد والنار تسنده حراب الإنجليز الغاشمين، فانطوى شعراؤنا على أنفسهم متغنين بشعر رومانسي حزين، ويظهر أن كوارث مالية حَفَّت بأبي شادي، فرأيناه في بعض أشعاره يفزع إلى صدقي الجائر ومليكه الطاغية، وهي سقطة يشفع فيها لأبي شادي شعره الوطني الكثير الذي ناصر فيه أحرارنا وزعماءنا الشعبيين منذ مصطفى كامل. ونمضي مع أبي شادي إلى سنة 1935، فتنفضُّ جمعية أبولو وتحتجب مجلتها، وقد أخرج من بعدها مجلتي "الإمام" و"أدبي" ولم يكتب النجاح لهما. ويظل في القاهرة إلى أن تنشأ جامعة الإسكندرية، فيختار أستاذًا "للبكتريولوجيا" بها. وتتوفَّى زوجه، وكأنه ضاق ذرعًا بالحياة بعدها في موطنه فيرحل في سنة 1946 إلى أمريكا. وهناك عاوده نشاطه، فاشترك في الأندية الأدبية، وحرر جريدة "الهدى" العربية، وعمل في "صوت أمريكا"، وأسس "جماعة منيرفا" على غرار جماعة أبولو، ونشر ديوانه "من السماء". وما وافاه القدر سنة 1955 حتى كان قد أعد للطبع أربعة دواوين؛ هي: "من أناشيد الحياة" و"النيروز الحر" و"الإنسان الجديد" و"إيزيس". وحياة أبي شادي على هذا النحو مكتظة بالنشاط، فقد أسس -كما رأينا- جمعيات ومجلات مختلفة، وكتب مقالات أدبية وعلمية كثيرة، بالإضافة إلى ما كان يذيعه من محاضرات في أجوائنا الأدبية وأحاديث في "صوت أمريكا". وقد نقل إلى العربية من الإنجليزية غير قصيدة ومقطوعة، كما نقل رباعيات عمر الخيام وحافظ الشيرازي. ومن مصنفاته العلمية: "تربية النحل" و"أوليات النحالة" و"الطبيب والمعمل" و"إنهاض تربية النحل في مصر" و"مملكة الدجاج" و"مملكة العذارى في النحل وتربيته". ونُشر له بعد وفاته ثلاثة كتب؛ هي: "دراسات إسلامية" و"دراسات أدبية" و"شعراء العرب المعاصرون".

ب- شعره: لعل عصرنا لم يعرف شاعرًا كثر إنتاجه الشعري على نحو ما عرف ذلك عند أبي شادي؛ إذ كان الشعر يتدفق على لسانه منذ نشأته تدفقًا. وأتاحت له ثقافته الواسعة بالآداب الغربية أن يطلع على أنواع الشعر هناك من قصصية وغنائية وتمثيلية، وعلى مذاهبه من واقعية ورومانسية ورمزية. ومن ثم مضى يتأثر في شعره بكل هذه الأنواع والمذاهب، وإن كنا نلاحظ غلبة المذهب الرومانسي عليه، وقد اجتمعت ظروف كثيرة دفعته إلى المعيشة الفنية فيه دفعًا؛ إذ اتصل مبكرًا بأكبر من تأثروا من شعرائنا بهذا المذهب في مطالع القرن، ونقصد خليل مطران الذي يسميه في غير قصيدة أستاذه، وهام في حداثته بفتاة تدعى زينب، غير أنها هجرته، فانسكب الألم في قلبه ومضى يتغناه إلى آخر حياته. وكان مما ضاعفه في نفسه البؤس الجاثم على وطنه؛ بسبب تسلط الإنجليز وظلمهم وطغيانهم، وأيضًا ضاعفته حملات شعواء على شعره، جاءته من عدم تأنيه في صنعه. فعاش يجتر الألم والحزن والحب المحروم، باحثًا عن عزاء له في الطبيعة والأساطير القديمة. ومما لا شك فيه أن أبا شادي بثقافته الواسعة ومواهبه الشعرية كان معدًّا لأن يحتل منزلة رفيعة في شعرنا المعاصر غير أنه كان متعجلًا، لا يستقر عند موقف في الحياة ولا في الشعر؛ بل ينتقل من موقف إلى موقف في سرعة شديدة، وهي سرعة أصابت معانيه بالضحولة وحالت بينه وبين الافتنان في الفكر والخيال؛ ومن ثم كانت كثرة أشعاره مغسولة من كل وميض للذهن إلا ما جاء نادرًا وفي الحين بعد الحين، ولم يأته ذلك من سرعته في نظم الشعر وحدها؛ بل أتاه أيضًا من أنه وزع نفسه في اتجاهات الشعر المختلفة على شاكلة توزيعه لها في حياته العملية؛ بحيث كانت له شخصيات متعددة، فهو طبيب وهو بكتريولوجي، وهو يهتم بتربية الدجاج وبمملكة النحل، كما يهتم بتأسيس الجمعيات المختلفة

وإخراج المجلات العلمية والأدبية. وهو على هذا القياس في شعره إذ حاول أن يجمع فيه بين الشعر القصصي والشعر الدرامي والشعر الرومانسي الحزين والشعر الصوفي والشعر الوعظي والشعر الفلسفي والشعر الواقعي والشعر الرمزي والشعر المرسل والشعر الحر. ولم يكتفِ بفن الشعر؛ إذ ضم له عناية بفني التصوير والموسيقى. فتعددت اتجاهاته، وكثر ما يحمله من أدوات؛ إذ كان يحمل في يد مبضعًا ومجهرًا ومجلات علمية، وفي يد قلمًا وريشة وآلة موسيقية ومجلات أدبية، وربَّة الشعر توحي إليه بين ضجيج المعامل وطنين النحل ودويه. وأول ديوان أخرجه "أنداء الفجر" إذ نشره في الثامنة عشرة من عمره، وتتضح فيه نزعته الرومانسية المبكرة؛ إذ نراه يفسح فيه للحب والطبيعة وأصدائهما في نفسه، غير متناسٍ لمشاكلنا السياسية والاجتماعية. ولا نمضي في قراءته حتى نحس ضعف صياغته ونزارة معانيه وأخيلته؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لا يزال ناشئًا، ولم يتمرس بعدُ بصناعة الشعر تمرسًا كافيًا. ويرحل إلى إنجلترا، ويعود، وقد نظم كثيرًا، وما تلبث دواوينه ومنظوماته أن تتعاقب كالمطر، وكان أول ما ظهر منها ديوانه "زينب" الذي نشره في سنة 1924، وقد اختار له اسم صاحبته القديمة، فذكراها لا تفارقه، والحب والطبيعة هما محور هذا الديوان، وتلقانا فيه قوالب الموشح والدوبيت وقصيدة غزل في زينب "ص16" حاول أن يجدد بها في القوالب الشعرية، ومن خير قصائده فيه قصيدته "الحلم الصادق" التي يفتتحها بقوله: هات لي العود وغنى ... واسمعي شجوى وأني تطرحي الأحزان عني ... فأؤدي صلواتي وفي السنة التالية نشر ديوانين بنفس النغم هما "أنين ورنين" و"شعر الوجدان"، ونجد فيهما مشاعر وطنية صادقة. ونشر في نفس السنة ديوانه "مصريات"، صوَّر فيه أمانيه الوطنية محركًا همم المصريين للخلاص من الإنجليز الغاشمين. ولم يلبث في سنة 1926 أن أخرج ديوانه "وطن الفراعنة"، وفيه

يتغنى بأمجاد مصر وآثارها القديمة. ونراه في نفس السنة يخرج ديوانه الضخم "الشفق الباكي"، وهو يقع في أكثر من ألف صحيفة، تسبقها مقدمات وتليها دراسات في شعره. ونراه في هذا الديوان ينظم بعض الأقاصيص ويترجم عن الإنجليزية بعض الأشعار، ويذكر بين يدي بعض منظوماته أنها من الشعر المرسل، وقد تكون من الشعر الحر "ص535". وقد علق في طائفة من أشعاره على كثير من الأخبار العالمية، وشكا من أعباء مهنته التي تعوق ميله إلى الشعر "ص197"، غير أنه عاد فاعترف بأن ملكة الملاحظة التي تعوَّد عليها في الطب أفادته في شعره، ومن ثم خص مجهره "الميكروسكوب" بقصيدة أطراه فيها، جعل عنوانها "رفيقي الكشاف". وفي رأينا أن هذه الملكة جارت عليه أكثر مما ينبغي؛ إذ جعلته يحوِّل كل ملاحظاته إلى شعر، ونراه يحتفظ في هذا الديوان بطائفة من قصائده التي نظمها في إنجلترا؛ كقصيدته في سقوط الجليد وحديث البحر وصحبة الآلام. وعلى شاكلة دواوينه السابقة تبرز في "الشفق الباكي" أمانيه الوطنية ومشاعره القومية، سواء في بعث الذكرى لدانشوي ويوم التل الكبير، أو في تحيته لعبد الكريم بطل الريف المغربي، وتألمه لكارثة دمشق حين قذفها الفرنسيون بالمدافع سنة 1925، وقد رد على "كبلنج" الشاعر الإنجليزي الاستعماري في قولته: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" ردًّا مفحمًا. ودائمًا نجده يرتبط بأحداثنا السياسية وكثير من المشاهد اليومية. ويحدثنا عن أعياد أسرته التذكارية. ولما توفي سعد زغلول خصه بكتيب ضمنه رثاءه له، حتى إذا كانت ذكرى الأربعين نظم فيه مرثية أخرى بعنوان "التراث الخالد". ولا يكاد يفرغ من نشر ديوانه الكبير "الشفق الباكي" حتى يتخذ العدة لنشر ديوانه "وحي العام"، معلنًا أنه سيصدر كل عام ديوانًا بهذا العنوان على طريقة الحوليات. ونمضي معه إلى سنة 1931، فنراه يخرج ديوانه "أشعة وظلال" نازعًا عن نفس القوس التي رأيناها في الدواوين السابقة، وهو فيه كثيرًا ما يأتي بإحدى الصور لبعض الرسامين العالميين، ويحلل خواطره إزاء موضوعها، كما أنه كثيرًا ما يترجم مقطوعات ومنظومات عن بعض الشعراء الغربيين،

وقد يذكر الأصل الذي نقله، ويفجؤنا أحيانًا بوضعه عنوانين لبعض قصائده: عنوانًا عربيًّا وآخر إنجليزيًّا! ولا نصل إلى سنة 1933 حتى نراه يخرج ديوانيه: "الشعلة" و"أطياف الربيع". ويقدم الحب والطبيعة والأساطير المصرية واليونانية أخصب البواعث في الديوانين جميعًا، ولا ينسى آماله الوطنية، فقد كان يحس مشاعر شعبه، ومن قصائده الجيدة في الديوان الأول "الناس"، وفيها يصور صراعهم وعدوانهم بعضهم على بعض. وتلقانا في ديوانه الثاني قصيدته "الفنان"، وفيها يصور حبه الظامئ أبدًا إلى لقاء الحبيبة، على شاكلة قوله: أمانًا أيها الحب ... سلامًا أيها الآسي أتيت إليك مشتفيا ... فرارًا من أذى الناس أطِلي يا حياة الرو ... ح في عينيَّ تحييني شرابي منكِ أضواء ... وقوتي أن تنجايني ويخرج في سنة 1934 ديوانه "الينبوع" بنفس المادة والمضمون. ونراه فيه يشكو شكوى مرة من نقاده في قصيدته "المهزلة"، وكثيرًا ما تلقانا هذه الشكوى عنده. وفي سنة 1935 نشر ديوانه "فوق العباب" بنفس الروح ونفس الانطلاق في موضوعات الحب والطبيعة والأساطير القديمة ومشاهد الحياة. ويتكاثر غبار النقد من حوله، فيقف إنتاجه الشعري ولكن إلى حين، فقد أخرج في عام 1942 ديوانه "عودة الراعي"، ونراه لا يزال يفكر في الشعر المرسل فينظم منه بعض قصائده كما نراه يحلم بمثالية إنسانية دقيقة في "حلم الغد". وهو في هذا الديوان -كدواوينه السالفة- يحاول دائمًا إيقاظ الوعي في الشعب المصري وإثارته للحصول على حقوقه المقدسة والثورة على الحكام الفاسدين، على نحو ما نجد في قصيدته "حداد القطن"، وفيها يقول: يا شعب قم وانشد حقو ... قك فالخنوع هو الممات تشكو الغريب وعلة الـ ... ـشكوى الزعامات الموات

ويرحل إلى أمريكا، وينشر بها ديوانه "من السماء" سنة 1949، وفيه كثير من صور البحر والطبيعة والحياة هناك. وقد تُوفي -كما أسلفنا- وهو على أهبة إصدار أربعة دواوين. ودفعتْ أبا شادي معرفته الدقيقة بالآداب الغربية وما رآه عند أستاذه مطران من أشعار قصصية إلى أن يقوم بمحاولات في هذا الاتجاه، وكانت أولى محاولاته "نكبة نافارين" التي نشرها في سنة 1924، وفيها خلد ذكرى القوات البحرية المصرية التي ذادت عن الخلافة العثمانية والترك في موقعة نافارين لعهد محمد علي. وقد صور فيها الأسطول المصري منذ خروجه من قواعده إلى أن حاقت به الهزيمة في صور زاخرة بالحياة، وختمها بندب سيز وستريس للقتلى وبكائهم. وفي سنة 1925 نظم قصة جديدة بعنوان "مفخرة رشيد" خلد فيها ذكرى القوات المصرية التي ردت عدوان الإنجليز الآثم عن هذه المدينة في موقعة إبريل سنة 1807. وأتبع ذلك بقصتين اجتماعيتين هما: "عبده بك" و"مها"، وهو فيهما أقل توفيقًا من الناحية القصصية والشعرية. وعلى نحو ما عالج القصة في شعره عالج المغناة "الأوبرا"، فقد مضى منذ سنة 1927 يؤلف فيها آثارًا مختلفة، ومعروف أن المغناة لا تعتمد على الشعر والتمثيل فحسب؛ بل تعتمد أيضًا على موسيقى مركبة. وقد يكون اعتمادها على هذه الموسيقى وألحانها أكثر من اعتمادها على التمثيل والشعر. ولعل ذلك هو السبب في أن مغنياته أو "أوبراته" لم تلقَ النجاح المنشود، وكأنه أحس بما كان ينتظرها، فكتب في ذيل مغناته الأولى "إحسان" بحثًا مسهبًا في تعريف المغناة "الأوبرا" وتاريخها ومدارسها الإيطالية والفرنسية والألمانية، مبينًا أن المدرسة الأولى وحدها هي التي تعوِّل فيها على الموسيقى والغناء، بينما تعترف المدرسة الثانية بالنص الأدبي، وتبالغ الثالثة في الاعتماد عليه وتجعله الأساس. وقد مضى مهتديًا بالمدرسة الأخيرة في صنع مغنياته، محاولًا أن تكون لها قيمة درامية مستقلة. ومما لا شك فيه أنه وفق في الوعاء الذي اختاره لمغنياته؛ إذ اتخذ موضوعها

من التاريخ تارة ومن الأسطورة تارة ثانية، غير أنه لم يستكمل لها القيمة الدرامية التي كان ينشدها، سواء في بنائها وعناصرها الفنية أو في رسم شخوصها وتوليد حوارها وتتابعه بينهم. وهو أيضًا لم يستكمل لها القيمة الغنائية الخالصة؛ إذ يقصر شعره عن النهوض بأعباء الغناء والتلحين وما يستلزمان من أناشيد بسيطة عذبة. وأول ما أخرجه في هذا الاتجاه "مغناة إحسان" -كما قدمنا- وحوادثها تجري في أثناء الحرب المصرية الحبشية التي نشبت في سنة 1876، وكانت إحسان زوجة لابن عم لها ضابط اشترك في تلك الحرب وأظهر بسالة نادرة، غير أنه وقع في الأسر، فأشاع بعض رفاقه أنه مات. وعاد بعد خمس سنوات ليجد امرأته وقرة عينه قد تزوجت ومرضت، وهي في النزع الأخير، وتراه فيُغشى عليها من الدهشة وتموت. وأتبع هذه المغناة بمغناته "أردشير وحياة النفوس" اقتبسها من "ألف ليلة وليلة" وهي في أربعة فصول. وينظم مغناة "الآلهة" وهي مغناة رمزية، يجري فيها حوار بين شاعر فيلسوف وإلهتي الجمال والحب وإلهتي الشهوة والقوة، وهي في حقيقتها حوار خيالي وليست عملًا دراميًّا. ويعود إلى التاريخ فيؤلف مغناة "الزباء" ملكة تدمر. وعلى هذا النحو كان أبو شادي غزير الإنتاج في شعرنا المعاصر غزارة مفرطة، ومن المحقق أنه لم تكن تنقصه موهبة الشعر، وأنه كان يستطيع أن ينظم توًّا في أي موضوع يعن له أو يفكر فيه، غير أنه استرسل في ذلك استرسالًا حال في أكثر الأحيان بينه وبين نضوج تجاربه الشعرية، كما حال بين كثير من شعره وبين إرضاء الفن فيه والنهوض بحقه.

إبراهيم ناجي 1898-1953م

9- إبراهيم ناجي 1898-1953م: أ- حياته: في "شَبْرَا" أحد أحياء القاهرة وُلد إبراهيم ناجي سنة 1898 لأسرة مصرية مثقفة، وأخذ يختلف -مثل أقرانه- إلى الكُتَّاب، ثم المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية. ووجد في أبيه الذي كان ينزع إلى قراءة الآثار الأدبية في العربية والإنجليزية موجِّهًا ممتازًا، فقد كانت له مكتبة حافلة بالكتب القيمة في اللغتين، وكان يعرض عليه طرائفهما، ويقرأ معه في كتبهما، فكان يقرأ معه في دواوين الشريف الرضي وشوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكان يقرأ معه آثار الكاتب الإنجليزي ديكنز، ويشرح له ما يغمض عليه من قصصه وأساليبه. وكان أهم شاعر أُعجب به ناجي في نشأته خليل مطران، وقد تعرف عليه مبكرًا، وكان لذلك أثره في شعره وشاعريته. ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكلية الطب، وتخرج فيها سنة 1923 وهو يحذق الإنجليزية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ في بعض آثارها الأدبية، وعُين طبيبًا بوزارات مختلفة، وكان آخر منصب تولاه إدارة القسم الطبي بوزارة الأوقاف. وحياته من هذه الجهة كانت حياة هادئة، ليس فيها ما يعكر الصفاء غير أنه كان منهومًا بمتاع الحياة، فعاش مضطربًا قلقًا، لا يستقر على حال. وفتحت له معرفته باللغتين الإنجليزية والفرنسية نافذتين كبيرتين، وكان شغوفًا بالقراءة، فعبَّ ونهل ما شاء من الآداب الغربية، وخاصة آداب الرومانسيين الذين كانوا يتفقون وهواه وأحلامه بالحب والحياة. ووسَّع قراءته، فشملت آداب الرمزيين ومن خلفوهم في القرن العشرين من الشعراء، كما شملت علم النفس ونظرياته الحديثة.

ولما أسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي جماعة أبولو سنة 1932 اختاره وكيلًا لها، ونهض معه بإخراج مجلة أبولو المعروفة، فكان ينشر فيها أشعاره كما كان ينشر أبحاثه في بعض أدباء الإنجليز، ونقل قصيدة شللي "أغنية الريح الغربية" في شعر عربي مرسل. وفي سنة 1934 نشر ديوانه "وراء الغمام"، ووالَى من هذا التاريخ أبحاثه في الشعر الغربي الحديث، وكان كثيرًا ما يحاضر في نزعاته الأخيرة بهذا القرن، وكان يعجب أشد الإعجاب بالشاعر الإنجليزي لورانس "د. هـ"، كما كان يعجب بالشاعر الفرنسي بودلير، وطبعت له بعد وفاته دراسة عن هذا الشاعر مصحوبة بترجمة طائفة من قصائده المبثوثة في ديوانه "أزهار الشر". وأسهم مع إسماعيل أدهم في كتاب "توفيق الحكيم الفنان الحائر". وشارك في النهوض بمسرحنا، فترجم للفرقة القومية مسرحية "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، كما ترجم لها المسرحية الإيطالية "الموت في أجازة". وفي سنة 1944 نشر ديوانه الثاني "ليالي القاهرة". وفي أثناء ذلك كان يكتب كثيرًا في علم النفس، وله فيه رسالة بعنوان "كيف تفهم الناس"، وأيضًا له كتاب بعنوان "رسالة الحياة"، ضمنه طائفة من خواطره في الأدب والنفس والعقل والحضارة والنقد والشباب. وترك مخطوطات كثيرة لآثار مترجمة عن شكسبير وغيره، وحاول كتابة القصة بأخرَة. وكان كثير الاتصال بالناس، مشرق الروح، أنيس المجلس، تحس وأنت تجلس معه كأنه عصفور فزع، فهو كثير التلفت، لا يهدأ له قرار، ولكنه يملأ الجو من حوله مرحًا بفكاهته الخفيفة وعذوبة روحه القلقة. وأنشأ رابطة الأدباء في سنة 1946، ولما أنشئت جميعة أدباء العروبة اختير وكيلًا لها. وما زال يشدو بصوته الشجي في الجمعيات والمجالس وعلى واجهات الصحف حتى لبَّى داعي ربه في مارس سنة 1953. وقد نشرت له دار المعارف بعد وفاته ديوانه الثالث "الطائر الجريح".

ب- شعره: رأينا ناجيًا يبدأ حياته الأدبية بالتزود من شعر جماعة النهضة، وكان يعجب منهم خاصة بخليل مطران، ويظهر أنه أصيب به في شكل حمى، حتى قيل: إنه كان يحفظ أكثر شعره. وكان أهم ما يعجبه عنده شعره الوجداني، والتفت من ذلك إلى المعين الغربي الذي ينهل منه مطران، فأقبل على أصحاب المنزع الرومانسي يقرأ في شعرهم وآثارهم وتحمس لهم كما تحمس لأستاذه؛ إذ أعجب إعجابًا شديدًا بمنجهم الذاتي الذي يقوم على تصوير خلجات النفس إزاء الحب والطبيعة دون العناية بحياة المدينة أو حياة الناس من حولهم. فهم شعراء فرديون، يؤمن كل منهم بنفسه ويصدر عنها في شعره، فالفرد هو كل شيء، وشعره إنما هو تجارب نفسية خاصة به، يصور فيها حبه ومشاعره وخواطره الوجدانية دون أن يحسب للمجتمع أي حساب، فهو ليس تعبير المجتمع؛ وإنما هو تعبير النفس. وكان خليل مطران يوازن بين التعبير عن النفس والتعبير عن المجتمع، فكان ينظم في الأحداث السياسية رامزًا وغير رامز، وكان ينظم في أحداثه الوجدانية، وكثيرًا ما كان يتخلى عن نفسه وعن المجتمع لينظم في التاريخ. أما ناجي فقد أسلم زمام شعره لنفسه ولحمى الرومانسيين، وسرعان ما ظهر على شعره "طفح" هذه الحمى. وأخرج في هذا التعبير أو هذا الاتجاه أول دواوينه "وراء الغمام"، وفيه قصيدتان مترجمتان هما: التذكار لألفريد دي موسيه، والبحيرة للامرتين. وكأنه يضع في يدنا مفتاح النغم الذي ينصب في ديوانه، فالشاعران من زعماء الرومانسية في فرنسا وشعرهما يفيض بالحب اليائس الحزين، وخاصة دي موسيه الذي لازمه في مغامراته سوء الطالع، والذي يصور في شعره نفسًا مضطربة قلقة، وكأنه يشرب الحياة من كوب ماء مرير.

وعلى هذا النسق فهم ناجي الشعر، فلم يصور عواطف الناس السياسية والوطنية من حوله؛ بل انصرف إلى نفسه يتغنى بحب شقي عاثر، وهو غناء كله ألم وشجن وارتياب وقلق وهم، غناء عاشق، يخفق دائمًا في حبه، ولا يجد في نفسه ولا في يده منه إلا الذكرى الممضة المحرقة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه: "الناي المحترق" و"العودة"، وفيها يتغنى بذكرياته الحزينة لمعاهد شبابه، وما كان له فيها من حب ذبل قبل أوانه، على مثل ما نرى في قوله: رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلب اتئد فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد لم عدنا؟ أولم نطو الغرام ... وفرغنا من حنين وألم ورضينا بسكون وسلام ... وانهينا لفراغ كالعدم موطن الحسن ثوى فيه السأم ... وسرت أنفاسه في جَوِّه وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه والبِلى أبصرته رأى العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حي لا يموت كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشَجِي وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخُطى الوحدة فوق الدَّرَج وهذا النغم الذي يزخر بالألم نجده في كل صفحة من صفحات "وراء الغمام"، فليس فيه تفاؤل وليس فيه فرح بحاضر ولا مستقبل؛ إذ لا يبدو في ظلام حياته خيط من الأمل؛ بل هو دائمًا غارق في لجج من الشقاء والحرمان. وقد يقف بالطبيعة كما في قصيدته "خواطر الغروب"؛ ولكنه لا يقف بها منفصلة عما في نفسه؛ بل يستغلها لتصوير ما يعتلج في قلبه من مشاعر الأسى والحزن؛ كقوله في القصيدة: ما تقول الأمواج؟ ما آلم الشمـ ... ـس فولت حزينة صفراء تركتنا وخلفَتْ ليل شك ... أبديٍّ والظلمة الخرساء

ويخص "الشك" بقصيدة يبكي فيها قرب حبيبه. فهو يبكي نعيمه كما يبكي شقاءه، إن حياته كلها أنات ودموع، وهو دائمًا يبث عطفه على المرأة، فهي عنده مخلوق نبيل طاهر، وتمثل ذلك أوضح تمثيل قصيدته "قلب راقصة"، وفيها يقص تجربة واقعية له، وكيف أنه دخل أحد المراقص فرأى راقصة يهفو لها قلب الناظرين، وهي ترقص رقصة الذبيح من الألم، والجمهور من حولها يتهلل فرحًا وبشرًا، وما يزال بها حتى يجعلها طاهرة النفس، فقد صهرتها وصفَّتها ناران: نار الصبر ونار الألم: تمضي وتجهل كيف أكبرها ... إذ تختفي في حالك الظُّلَمِ روحًا إذا أثمت يطهِّرها ... ناران نار الصبر والألم وكل هذا شعر ورمانسي خالص، وهو شعر -كما في هذه القصيدة- يصور تجربة حقيقية، ولناجي السبق في هذا الباب؛ إذ أخرج جوانب من شعرنا من الباب القديم باب الرؤية والخيال إلى باب الحقيقة والتجربة الواقعة. ويتسع هذا الجانب عنده في ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" وهو اسم استعاره من "ليالي دي موسيه" المشهورة في الأدب الرومانسي الفرنسي، والتي يصور فيها صاحبها ما ألَمَّ به من آلام الحب، تلك الآلام التي انبعثت من قلبه، وتحولت قصائد رائعة تصور الحب واليأس منه والحسرة والفراغ. ويبدأ ديوان "ليالي القاهرة" بسبع قصائد تحت هذا العنوان تصور ظلام القاهرة في الحرب العالمية الثانية وما حدث للشاعر فيها من تجارب حب. ونراه يقول في إحداها وقد سماها "لقاء في الليل": يا لحظة ما كان أسعدها ... وهناءة ما كان أعظمها مر الغريب فباعدتْ يدها ... وخلا الطريق فقرَّبت فمها وهو يصور هنا ما يكون بين العاشقين من عناق الأيدي، وما يعتريهم من الخوف والقلق أن يراهم الناس، وهم لذلك يهابونهم. ولا تظن أنه يجد في هذا المتاع وما يماثله ما يداوي قلقه المستحوذ على كيانه أو ما يحقق

له السعادة المنشودة، فهمومه لا تزال تصيح في قلبه، وقد رسم خطوطها في لوحتين أو قصيدتين كبيرتين هما: "الأطلال" و"السراب". والأطلال قصة حب عاثر لعاشقين تحابَّا، وتقوض حبهما، فأصبح العاشق أطلال روح وأصبحت عشيقته أطلال جسد، ويصور ناجي وقائع هذا الحب كما حدثت على نحو ما نرى في قوله على لسان العاشق: يا غرامًا كان مني في دمي ... قدرًا كالموت أو في طعمه ما قضينا ساعة في عُرْسه ... وقضينا العمر في مأتمه ما انتزاعي دمعة من عينه ... واغتصابي بسمة من فمه ليت شعري أين منه مهربي ... أين يمضي هارب من دمه أما قصيدة السراب، فهي قصيدة الهزيمة في الحب، وهي هزيمة لا حدود لها؛ إذ تشمل كل عَلاقاته الاجتماعية من مودة وصداقة. وهو يستغل عناصر الطبيعة في هذه القصيدة لتصور أحزانه ومتاعسه من مثل قوله فيها: عندي سماء شتاء غير ممطرة ... سوداء في جنبات النفس جرداء خرساء آونة هوجاء آونة ... وليس تخدع ظني وهي خرساء وكيف تخدعني البيداء غافية ... وللسوافي على البيداء إغفاء أأنتِ ناديتِ أم صوت يخيل لي ... فلي إليك بأذن الوهم إصغاء ومن قصائده الطريفة في هذا الديوان قصيدته "رسائل محترقة"، وهو فيها يعاني من حب أخفق فيه، ويشتد به العناء والانفعال، فيهجم على رسائل صاحبته، ويحرقها منشدًا: أحرقتُها ورميتُ قلـ ... ـبي في صميم ضرامها وبكى الرماد الآدمـ ... ـي على رماد غرامها وعلى هذا النحو نمضي في قراءة هذا الديوان، فلا نجد إلا الأنات والصيحات، وهي أنات وصيحات تقترن بإحساس الانعزال في الحياة، وأن الشاعر غريب

في دنياه. وكنا نود لولم يسلك في هذا الديوان كثيرًا من أشعار المناسبات التي اضطرته إليها المجاملات، حتى يكون كامل التعبير عن هذه الشخصية الفذة التي يصرخ الألم والحزن في أعماقها. ولعل من الغريب أن نجد عنده أحيانًا دعابات مثل قطعته "هجو شاعر"، وهي أيضًا من باب المناسبات، ولا تتصل بالنغم الأساسي للديوان. ونمضي في ديوانه الثالث "الطائر الجريح" الذي نُشر بعد وفاته، فنجده كديوانيه السابقين يتأوه الطعين، ولا مسعف ولا معين؛ إذ لم يعد له من حبه سوى الألم العميق، وهو يتفجر على لسانه شعرًا حارًّا ملتهبًا، شعرًا يصيح فيه كطائر جريح حقًّا، وقد تغلغلت جراحه إلى الشغاف، وكل ما حوله ينذر بالحزن والهم، يقول في قصيدته "قصة حب": يا للمقادير الجسام ولي ... من ظلمها صرخات مجنون باكي الفؤاد مشرَّد الأمل ... وقف الزمان وبابه دوني لقد سُدَّت أمامه جميع أبواب الأمل في استعادة حبه، ولم يبقَ له منه إلا صرخات وإلا ذكريات كأنها حديث خرافة، أو كأنها أضغاث أحلام، يقول في "بقية القصة": حلم كما لمع الشهاب توارى ... سدلت عليه يد الزمان ستارا وحبيس شجو في دمي أطقلته ... متدفقًا ودعوته أشعارا فقد ولَّى حبه أو حلمه، ولم يعد له منه إلا أشباح الهجر وأطياف الحرمان تمر به مواكبها صاخبة، وقد مدت من حوله قضبان سجن مظلم يشكو فيه غربته ووَحْدَته وحبه الشقي التعس، واقرأ قصائده: "بقايا حلم" و"في ظلال الصمت" و"ظلام" و"الطائر الجريح" فستراه يصور لك لوعته في هذا الحب؛ بل احتراقه في لهيبه كفراشة، يقول في القصيدة الأخيرة:

إني امرؤ عشت زما ... ني حائرًا معذَّبا فراشة حائمة ... على الجمال والصبا تعرَّضت فاحترقت ... أغنية على الرُّبَى تناثرت وبعثرت ... رمادها ريح الصبا وتلك صورة ناجي وحبه في دواوينه جميعًا، فهو فراشة تحوم دائمًا على مصباح الهوى، ولا تلبث أن تتلظى بنيرانه، وتحيل ألمها بهذا اللظى؛ بل احتراقها فيه، شعرًا يأخذ بمجامع القلوب؛ لصدقه وحرارته وقوة تأثيره. وواضح من أكثر ما أنشدناه من أشعاره أنه كان يُعْنَى في شعره بالتجديد في عروضه، فأكثر من الرباعيات على طريقة عمر الخيام؛ ولكن هذا التجديد ليس شيئًا بالقياس إلى تجديده في مضمونه وما أذاع فيه من مشاعره وأحاسيسه إزاء حبه التعس المحروم.

علي محمود طه 1902-1949م

10- علي محمود طه 1902-1949م: أ- حياته: في بلدة المنصورة المطلة على فرع دمياط بشمال الدلتا وُلد علي محمود طه سنة 1902 لأسرة متوسطة على حظ من الثقافة. وأرسله أبوه إلى "الكُتَّاب" فالمدرسة الابتدائية. وهنا نراه يحاول اختصار الطريق فلا يدخل التعليم الثانوي؛ بل يلتحق بمدرسة الفنون التطبيقية ويتخرج فيها سنة 1924، ويعين بهندسة المباني في بلدته. وربما كانت النزعة الفنية هي التي جعلته يختصر طريق تعليمه، فعاش من أول الأمر لشعره الذي كان ينظمه في أثناء تعلمه، واختار لنفسه حياة

هيِّنة ليس فيها مشقة في التثقيف والتحصيل، وكأنه لم يكن ينزع به في أول حياته أمل كبير. وكان أهله على شيء من الثراء، فلم يحس بشظف الحياة وما يكون فيها من حرمان وشقاء؛ بل لكأني به دُلِّل طفلًا، وظلت آثار هذا الدلال فيه رجلًا، فهو لا يعرف من الحياة إلا الهناءة والرغد. ومكث طويلًا في وظيفته وفي بلدته يتنقل في محيطها وفي البلاد المجاورة لها وخاصة دمياط؛ فقد كان كثير النزول بها وببلدة "السنانية" التي تقابلها، وهي بستان كبير يمتد إلى مصيف رأس البر، وتقابلها على الضفة اليمنى للنيل بحيرة المنزلة. وكل هذه الأماكن مصورة في ديوانه الأول "الملاح التائه". وقد أخذ يسعى للتعرف على الأدب الفرنسي والاطلاع على روائعه وآثاره، ونراه يراسل مجلتي أبولو والرسالة. ويحاول أن يتصل بالنهضة الأدبية في القاهرة منذ سنة 1933، فترحِّب به دوائر الأدباء. وفي ديوان "ليالي الملاح التائه" ما يدل على أنه زار إيطاليا في سنة 1938، وأخذ منذ هذا التاريخ يتردد على سويسرا والنمسا وأواسط أوربا، وكان لذلك أثره في شعره؛ إذ وصف كثيرًا من المشاهد التي رآها هناك. ويترك وظيفته في وزارة الأشغال ليعمل مدير الْمَعْرِض الخاص بوزارة التجارة، ثم يعين مديرًا لمكتب الوزير، ثم يلحق بسكرتارية مجلس النواب، ويقيم في هذه الفترة بالقاهرة، ويغرق إلى أذنه في مباهج الحياة. ويكثر من الرحلات الصيفية إلى أوربا. ويخرج مع استقالة الوزارة الوفدية من الحكومة. ويعين في سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب ولكن القدر لم يمهله، فلبى نداء ربه في نفس العام مبكيًّا عليه من أصدقائه وعارفيه؛ إذ كانت فيه نواحٍ إنسانية تستحق التقدير، وطالما أعان إخوانه وزملاءه من الأدباء، وكان بيته منتدًى حقيقيًّا لصحبه، وحوَّله إلى ما يشبه متحفًا فنيًّا؛ إذ ملأه باللوحات الباهرة. ومما يؤثر له أنه أهدى مكتبته قبل وفاته إلى مكتبة بلدته "المنصورة"، ولعل في هذا ما يدل على ضرب من الوفاء لقديمه وذكرياته.

ب- شعره: يتبين مما قدمناه من حياة علي محمود طه أنه نشأ في إحدى بلدان الوادي الجميلة، وتيقظت مواهبه الشعرية في وقت مبكر، إلا أنها لم تتغذَّ تغذية كاملة بأصول الشعر العربي، وأكبر الظن أن قراءاته في هذا الشعر لم تكن تتجاوز دواوين حافظ وشوقي ومطران إلا في القليل النادر، فقد كان يقرأ أحيانًا في البحتري وغيره من شعراء العصر العباسي. وقراءاته في الآداب الغربية لم تكن واسعة؛ إذ لم تتح له ثقافة عالية، ومع ذلك تعلم بنفسه اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يتقنها؛ إنما كان يتقن الإنجليزية، وهو على كل حال لم يكن واسع الثقافة بآثار الغربيين، وإن كان قد حاول أن يتأثرهم. وكان أهم من أعجب به "لامرتين" وأضرابه من شعراء الرومانسية. وقرأ أو عرف أشياء مختلفة عن أصحاب الرمزية الفرنسية مثل: "بودلير" و"فرلين". ومن هذا كله تتكوَّن شخصيته الأدبية، وهي شخصية ترجع في جوهرها إلى ملكاته أكثر مما ترجع إلى قراءاته، وكان يقرأ كثيرًا في أدباء شعراء المهاجر، وهم يتأثرون تأثرًا عميقًا بالنزعة الرومانسية الغربية، كما كان يقرأ كثيرًا في مجلة أبولو وما بها من أبحاث أدبية. ومع هذه القراءات غير المتعمقة هنا وهناك لم تنكسر نفسه؛ إذ كان يؤمن بشخصيته وأتاح له هذا الإيمان أن يحتل مكانة بارزة في صفوف الشعراء الذين عاصروه؛ إذ استطاع أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا شعريًّا براقًا. وهو من هذه الناحية أكثر شعرائنا بعد شوقي توفيقًا في صياغته الشعرية، وكأنما كانت لديه خبرة تمكِّنه من أن يقتنص الكلمات الشعرية في القصيدة التي يصنعها، فإذا هي كعقد من الجواهر تتألق فيه حَبَّاته. ويظهر أنه عرف عن شعراء الرمزية

أنهم يعنون عناية شديدة بموسيقاهم، فاستقر ذلك في نفسه، وصدر عنه في شعره؛ ولكن لا تظن أنه نظم قصائد رمزية يجاري بها أصحاب هذا المذهب في شعرهم المجنح الغامض. وليس من شك في أنه فهم المذهب الرومانسي بخير مما فهم المذهب الرمزي؛ لوضوحه وعدم غموضه والتوائه؛ ولكنه على كل حال أفاد من المذهب الرمزي هذه العناية الشديدة بموسيقاه وبالكلمات الشعرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه وقع فريسة لهذه الكلمات، فقد استولت عليه بتموجاتها المختلفة وما ترسله من إشعاعات. وشعر كأن هذه كل مهمته، فما عليه إلا أن يطلق هذه الكلمات في تجربة تسمى قصيدة، فإذا هي كالشِّباك السحرية تصيد له المعجبين من كل مكان. وقد يكون السبب في ذلك ضعف ثقافته الفكرية، فحاول ملء هذا الفراغ بطنين ألفاظه الخلابة التي تستهوي قارئه برنينها، وتؤثر على حواسه بإيقاعاتها. وهذه هي أروع خصائصه، فهو يؤلف القصيدة وكأنه يؤلف جوقات موسيقية، وهي جوقات لفظية، ليس فيها فكر عميق ولا استبطان في الإحساس؛ وإنما فيها هذا الشرر اللفظي الذي يجعل أشعاره -بل ألفاظه- تتوهج توهجًا. وأول دواوينه التي نشرها "الملاح التائه"، وهو يصور منزعه الرومانسي، فأكثره في الحب والطبيعة، وقد ترجم فيه قصيدة البحيرة للامرتين أحد أصحاب هذا المنزع المشهورين في فرنسا، ووضع في مقدمة قصيدة له تسمى "الله والشاعر" عبارة من عباراته يناجي فيها ربه، وهو بذلك يضع في يدنا الدليل المادي على تأثره بنزعة لامرتين وشعره في الطبيعة والحب. ويُكثر في هذا الديوان من ذكريات الشباب وتأثره بالطبيعة في دمياط وببلدة السنانية وجمال مشاهداته في بحيرة المنزلة وما رآه هناك من العراك بين البر والبحر، ومن خير قصائده في ذلك "على الصخرة البيضاء"، وهو في كل قصيدة يذيع حيرة حُلوة، فهو تائه في الكون ضال في مجالي الطبيعة. وعلى الرغم من بساطة تأملاته ووضوح أفكاره -فوجهها دائمًا مكشوف- نجد

عنده جمال الأسلوب الشعري المصفى، حتى لكأنه ناي يصدح أو قيثارة تشدو وتغني. وهو لا يهدف إلى رسم صورة الطبيعة أو الريف المصري من حيث هو؛ إنما يهدف إلى وصف شعوره وحسه وحيرته في الحياة، مازجًا ذلك في أغلب الأحيان بحبه. وربما كانت أجمل قصائده في هذا الديوان قصيدته "غرفة الشاعر"، وهو يستهلها على هذا النمط: أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ ... ـل وما زلتَ غارقًا في شجونك مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ ... ـر وللسُّهْد ذابلات جفونك ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك وفم ناضب به حر أنفا ... سك يطغى على ضعيف أنينك ومضى يصور سراجه الشاحب وعبء عبقريته الشاعرة وما يتردد في نفسه من حزن لعدم تقدير مواطنيه له. ونشر بعد هذا الديوان "ليالي الملاح التائه" بنفس الروح وبنفس الشخصية، وهو يستهله بأغنية "الجندول" التي تَذيع في عصرنا على كل لسان، فقد غناها عبد الوهاب. وهي من خير الأمثلة التي تدل على مهارته في استخدام الألفاظ الشعرية، فإنك إذا حللتها لم تجد فيها فكرًا عميقًا ولا واسعًا؛ وإنما تجد الألفاظ البراقة التي تروعك وتأسر لُبَّك. والقصيدة في وصف "كرنفال فينسيا"؛ إذ يحتفل أهلها بعيد سنوي لهم ينطلقون فيه بشوارعها المائية في سفن، يسمون واحدتها "الجندول" فيغنون ويمرحون. وفي هذا الديوان قصيدة أخرى في بحيرة "كومو" الإيطالية وقصيدة في "خمرة نهر الرين". وجميعها قصائد أوحتها زياراته لأوربا ومواطن الجمال في بلدانها المختلفة. ومن أروع قصائده في هذا الديوان "الموسيقية العمياء". وهي فتاة رآها بمطعم في القاهرة على رأس إحدى الفرق الموسيقية، فأثَّر فقد بصرها في نفسه تأثيرًا عميقًا، صوره في تلك القصيدة تصويرًا رائعًا. ونظم قصيدة سماها "سيرانادا مصرية" والسيرانادا عند الأوربيين أغنية يشدو بها العشاق على الناي

تحت نوافذ معشوقاتهم، وهو يستهلها بقوله: دنا الليل فهيا الآ ... ن يا ربة أحلامي دعانا ملك الحب ... إلى محرابه السامي تعالَيْ فالدجى وحي ... أناشيد وأنغام وفي سنة 1941 أخرج كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي والفرنسي، وقد تحدث فيه عن "فرلين" و"بودلير" الشاعرين الفرنسيين، وترجم قصائد مختلفة لشعراء إنجليز وفرنسيين، وألحق بذلك قصيدة له في دخول الألمان باريس. وتأليفه لهذا الكتاب غريب؛ ولكن يظهر أنه أراد أن يرد به على مَن يتهمونه بقصور ثقافته بالآداب الغربية. ونراه في سنة 1942 يحاول محاولة جديدة في قصيدته الطويلة "أرواح وأشباح"، وهي حوار شعري فلسفي بين شخصيات استمدها من الأساطير الإغريقية وقصص التوراة، مصورًا خلاله ما انبث من صراع عنيف الأرواح والأشباح أو الأجساد منذ هبط دم ابن الطين من السماء يحمل قبس الروح، وهو صراع بين غرائز الطين ومواجد الإنسان الروحية السامية. وأكبر عيب في القصيدة يجثم في شخصياتها الأسطورية الإغريقية، فإنه لم يدرسها حق الدرس، ومن ثم بدت مخالفة في كثير من حقائقها لنسيجها الأسطوري القديم. وأخرج بعد ذلك في سنة 1943 ديوانه "زهر وخمر"، وهو يصور نزعته الإبيقورية التي غمس فيها حياته، وهي ليست نزعة حادة ولا جامحة؛ وإنما هي نزعة مرحة يقبل فيها على كئوس اللذة والمتعة دون تمادٍ في تصوير الغرائز الجسدية، ونراه يفتتحه بقصيدته "ليالي كليوباترا" التي غناها عبد الوهاب، وهي مثل "الجندول" تزخر بالأشراك اللفظية، وقلما نجد فيها فكرًا عميقًا؛ وإنما نجد كليوباترا في زورق بين ضفاف النيل، وفي جوانحها هذا الحب المحموم وتلك الحواس الملتهبة للعشق، ثم جوقات موسيقية متراصة الألفاظ بدون أن يصور الشاعر إحساسًا عميقًا أو فكرًا بعيدًا، فكل همه أن يجمع كلمات متموجة، تنشر بموسيقاها ما يريد من تأثير في نفوس السامعين. ومن خير قصائده في هذا الديوان "حانة الشعراء"، وهو يستهلها على هذا النحو:

هي حانة شتى عجائبها ... معروشة بالزهر والقصب في ظُلَّة باتت تداعبها ... أنفاس ليل مقمر السحب وله قصيدة بديعة في طارق بن زياد فاتح الأندلس سماها "من قارة إلى قارة"، وقد صور فيها طموح هذا الفاتح العربي وظفره العظيم. ونراه ينشر "أغنية الرياح الأربع" وهي أغنية فرعونية اكتشفها "دريتون" عام 1942 وترجمها إلى الفرنسية، فحاول علي محمود طه أن ينقلها إلى العربية في شعره الموسيقي الجميل، محاولًا أن يجعل منها عملًا تمثيليًّا؛ ومن ثم جعل لها بدءًا ونهاية كما جعلها تدور في شكل حوار بين أشخاص مختلفين تتخلله أجزاء من الغناء. ومن الحق أنه لم يستطع أن يحورها إلى مسرحية كاملة؛ إذ كان شاعرًا غنائيًّا ولم يكن شاعرًا مسرحيًّا؛ ومن ثم كان شعره لا يصلح للتمثيل؛ بسبب ما فيه من وفرة الموسيقى والغناء. ويعود إلى مجاله الغنائي، فينشر في سنة 1945 ديوانه "الشوق العائد"، وفيه يتحدث عن بعض ذكرياته لرحلاته إلى أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، ويخص جزيرة كابري في إيطاليا ويسميها جزيرة العشاق بقصيدة طريفة، كما يخص برلين التي نزل بها في سنة 1939 بقصيدة أخرى يسميها "بين الحب والحرب"، وفيها يأمل في غد مرتقب يحقق حلمه وحبه، ويخص موسوليني حين سقط بقصيدة طويلة. وأكثر شعره في هذا الديوان يصور روحه الإبيقورية المرحة، وكيف كان يقبل على متع الحياة وملذاتها، وهو القائل في أولى قصائده به: حياتي قصة بدأت بكأس ... لها غنَّيْتُ وامرأة جميله وآخر دواوينه "شرق وغرب" الذي نشره في سنة 1947، وهو كما يبدو من عنوانه موزع على الغرب والشرق. أما قسمه الغربي فنراه فيه يصدر عن نزعته الإبيقورية متحدثًا عن ذكرياته في أثناء رحلاته بأوربا. وقد استهله بقصيدة رائعة قالها على أثر احتفال بذكرى فاجنر الموسيقار المشهور، شاهده في سويسرا.

وكان قد تعرف في هذا الاحتفال على فتاة، قضى معها بعض نزهاته، فأثارت شاعريته، واندفع يتغنى بهذه القصيدة وبأختٍ تالية لها، وهما من أروع شعره؛ لما بث فيهما من لظى ولواعج فؤاده. أما القسم الشرقي، فقد خصه بأحداث الشرق السياسية والقضايا الوطنية والعربية الإسلامية. وكان قبل هذا الديوان يلم أحيانًا بعيد الهجرة أو بالعرب كما في قصيدة طارق؛ ولكنه لم يوسع هاتين النغمتين الإسلامية والعربية، فقد كان مشغولًا بنفسه وبحبه وما يرى في الطبيعة المصرية والغربية من فتنة وجمال. أما في هذا الديوان فقد نزع إلى التخلص قليلًا من إحساساته وعواطفه؛ ليتحدث عن الوطن والجماعة العربية والإسلامية. وله في فلسطين وفوزي القاووقجي وعبد الكريم بطل المغرب وأندونيسيا شعر كثير. ومن أجمل قصائده "مصر"، وفيها يصور فساد الأحزاب السياسية وشيوخها القائمين عليها، كما نرى في قوله: أحقا ما يقال؟ شيوخ جيل ... على أحقادهم فيه أكبوا وكانوا الأمس أرسخ من جبال ... إذا ما زُلزلزت قمم وهُضْب فما لهم وهت منهم حلوم ... لها بيد الهوى دفع وجذب ونظن ظنًّا لو أن القدر مد في حياته لتحول تمامًا من صوته الأول الشخصي إلى هذا الصوت العام الذي يتغنى فيه أهواءنا وعواطفنا السياسية. ومن قصائده الذائعة في هذا المضمار قصيدته "نداء الفداء" التي يستصرخ فيها العرب لنجدة فلسطين: أخي! جاوز الظالمون المدى ... فحَقَّ الجهادُ وحق الفدا وقد غناها عبد الوهاب، وهي تدور اليوم على كل لسان. ولم نستشهد بقطع طويلة من شعره؛ ليتضح تجديده في الأوزان والقوافي، فقد كان يكثر من الرباعيات، وقصيدته الجندول مثال بيِّن لاستخدامه "فن الموشحات". ومن الواجب أن نشير إلى أن مثله مثل ناجي، كان يفهم وَحْدَة القصيدة، وأنها بناء متناسق، لا نشاز فيه ولا اضطراب.

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه

الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه: 1- تقيد بأغلال السجع والبديع: كان خروج الحملة الفرنسية من مصر بدءًا لحياة جديدة في السياسة والعلم والاجتماع، فقد شعر المصريون -كما أسلفنا- بحقوقهم السياسية، وحقًّا لم يُتِحْ محمد علي لهم استخدام هذه الحقوق؛ ولكنها ظلت مكتنَّةً في الصدور، حتى هُيئ لها النماء والإثمار في عهد إسماعيل وما تلاه من عهود. وقد أخذت مصر منذ عهد محمد علي تحاول الاتصال بالحضارة الغربية لا في العلم فقط؛ بل في النواحي المادية والاجتماعية أيضًا؛ إذ عاش الفرنسيون بين أهلها معيشة لم يكونوا يألفونها، وقد رأوهم يلهون فنونًا من اللهو، فيها التمثيل والغناء والرقص، وكانوا ينكرون بعض هذه الفنون؛ ولكنها كانت تدفعهم إلى التفكير في أن وراء البحر عالمًا جديدًا ينبغي أن يتصلوا به، لا في شئونهم المادية فحسب؛ بل أيضًا في شئونهم العلمية والسياسية. وقد سلَّم المصريون محمد علي مقاليد أمورهم، فاندفع ينظم الجيش على الطريقة الأوربية، وأنشأ لذلك المدرسة الحربية، ثم مدرسة الطب والمدارس الصناعية؛ ليزود الجيش بالضباط والأطباء والصناع والمهندسين. وأقام هذه المدارس المختلفة على نمط أوربي، واستقدم لها العلماء الأوربيين المختلفين، وللتفاهم بينهم وبين المصريين أقام مجموعة من المترجمين، من الأرمن وغيرهم. ثم لم يلبث أن أنشأ مدرسة الألسن، وجَدَّ في إرسال البعوث إلى الغرب؛ ليتقن

المصريون اللغات الأجنبية. ومن حينئذ بدأ الاتصال المنظم بين العقل المصري الخالص والعقل الغربي الحديث. ولكن هذا الاتصال ظل قاصرًا في أول الأمر على النواحي العلمية والفنية التطبيقية. أما النواحي الأدبية فظل فيها الاتصال معدومًا أو كالمعدوم؛ إذ لم تحدث عَلاقة حقيقية بيننا وبين الآداب الغربية. ومن المعروف أن أدب أمة لا يتأثر بآداب أمة أخرى بمجرد التقاء الأمتين؛ بل لا بد من وقت أو أوقات حتى تستطيع الأمة أن تأخذ عن غيرها وتهضم ما تأخذه وتتمثله، ثم تخرجه أدبًا جديدًا له طوابعه وشخصيته. ولعل في هذا ما يفسر لنا جمود أدبنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتخلفه وانطواءه على صورته الموروثة، فقد عشنا فيه بعقليتنا القديمة وذوقنا القديم الذي كان يُعْنَى بالسجع والبديع. وقد نشأت عندنا طبقة من كُتاب الدواوين مثل عبد الله فكري، إلا أنها لم تختلف في شيء عن روح كتاب الدواوين المتأخرين مثل القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وطبقته، فهي تكتب المنشورات والتقريرات بأسلوب السجع، ولا تكتفي بما فيه من أغلال؛ بل تضيف أغلال الجناس والطباق وغيرهما من أغلال البديع. وربما كان من أهم أسباب هذا الجمود أن مصر لم تكن تشعر بوجودها شعورًا محققًا؛ بل لقد عُنِي محمد علي بكبت هذا الشعور، وربما كان أهم مظهر لذلك أنه كان يستعين في المناصب الكبرى بطبقة من الأتراك، ولم يكن يسمح للمصريين بتولي هذه المناصب؛ بل لقد كان يحكمهم حكمًا مستبدًّا، ليس فيه شورى ولا ما يشبه الشورى. فظل الشعب بعيدًا، وظلت لغته معه متخلفة لا تتطور؛ إذ لم يكن هناك بواعث سياسية ولا قومية تدفعها إلى هذا التطور؛ بل لقد كان الحاكم يقدِّم عليها اللغة التركية في دواوينه ومنشوراته وما يطبع من كتب وآثار في مطبعة بولاق؛ بل لقد كان التحدث بها بين طلاب المدارس سُبَّةً حتى عهد عباس الأول، فالشيخ المهدي يقول في مذكرات الأدب التي طبعها لتلامذة القضاء

الشرعي في مطلع هذا القرن: "كانت اللغة العربية مضطهدة في عهد عباس الأول إلى حد أن مَن تكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع في فيه العُقْلة التي توضع في فم الحمار حينما يُقَص، ويبقى كذلك نهارًا كاملًا عقوبة له على تحريك لسانه بلغة القرآن في أثناء فسحته". وطبيعي ألا تنهض لغتنا حينئذ، وأن تظل على عهودها السابقة جامدة راكدة ضيقة مثقلة بالسجع وما يرتبط به من قيود البديع وأغلاله. غير أنه أخذت ناشئة جديدة في الظهور، وهي ناشئة حذقت اللغات الأجنبية، وأخذت تقرأ في آدابها، وتفهم ما تقرأ، وتتذوقه، وتستمتع به. وخير مَن يمثل هذه الناشئة رفاعة الطهطاوي الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، ورافق البعثة الكبرى الأولى لمحمد علي إمامًا لها. ولم يكتفِ بعمله؛ بل أقبل على تعلم اللغة الفرنسية، حتى أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وعاد إلى مصر فاشتغل بالترجمة وعين مديرًا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارًا مختلفة من اللغة الفرنسية. وكان ذلك بدء نهضتنا الأدبية المصرية؛ ولكنه كان بدْأً مضطربًا؛ فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع؛ بل ظلوا يكتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية. ومن الغريب أنهم كانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلى هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التكلف الشديد، فتصبح شيئًا مبهمًا لا يكاد يُفهم إلا بمشقة. ونحن الآن لا نقرأ ما كتبته هذه المدرسة الأولى في تاريخ أدبنا حتى نشعر بضيق؛ لأنها لا تخاطبنا مباشرة؛ وإنما تخاطبنا من وراء حجاب صفيق، ويظهر أنها لم تكن تستطيع أن تُسقط هذا الحجاب؛ إذ كان شائعًا بين جميع الأدباء المصريين، وكانوا يحرصون عليه، ويتعصبون له؛ بل كانوا لا يستطيعون أن يعبروا عن أي شيء إلا به، وكأنما جمدت ألسنتهم عنده، فهي لا تستطيع أن تتحول عنه.

وعلى هذا النحو مضينا في النصف الأول من القرن الماضي وغير قليل من النصف الثاني لا نملك من وسائل التعبير النثري سوى هذه الوسيلة الضيقة، وسيلة السجع والبديع التي تخنق الكلام، وتحول بيننا وبين التعبير الحر عما نريد، وكأن ما نريد كان لا يزال شيئًا ضيقًا محصورًا، فانحصر نثرنا في هذه الصناعة الراكدة الجامدة، ولم يستطع التيار الغربي أن يحرره ولا أن يخلصه من أثقاله وأغلاله.

حركة تحرر وانطلاق

2- حركة تحرر وانطلاق: لا نمضي طويلًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى تجتمع دوافع حقيقية لتحرر النثر وانفكاكه من قيوده الغليظة؛ فإن أمورًا كثيرة متشابكة جدت، وعملت مع أمور أخرى كانت مختفية وظهرت. وتناولت هذه الأمور أو هذه الأسباب عناصر حياتنا من جميع أنحائها وغيَّرتها تغييرًا تامًّا. وكان أول ما حدث من ذلك نشوء الرأي العام، وظهور فكرة الوطنية، وشعور المصريين بحقوقهم السياسية المسلوبة، وقد رأيناهم يشعرون بهذه الحقوق في عهد محمد علي، ويحاول جاهدًا أن يميتها في نفوسهم؛ ولكنها لم تمت؛ بل ظلت مختفية إلى حين. وكان مما عمل على بقائها ونمائها دخول المصريين في جيش محمد علي، فكان هذا الجيش حين ينتصر في حرب يشعر المصريون بأنفسهم وبمصريتهم. وليس هذا فقط، فقد أخذوا يتعلمون ويفدون على أوربا في البعوث، فكانوا يرون حياة سياسية تخالف حياتهم، فالناس في فرنسا مثلًا لا يُحْكَمُون بفرد مستبد؛ بل يشتركون معه في الحكم وفي إدارة بلادهم. وقد كشف رفاعة في كتابه "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" عن الفروق بين الحياة السياسية هناك وبينها في مصر، وأشار إلى أن فرنسا تُحْكم بدستور

قائم من وضع الشعب وتصميمه. ومما زاد شعور المصريين بأنفسهم كشف اللغة الهيروغليفية، وتبينهم لتاريخهم القديم، فاستشعروا من ذلك كله عزة وأنفة، وطلبوا الحياة الحرة الكريمة. ولم يتقدم بهم حكم إسماعيل حتى رأوا رأي العين ضرورة الاشتراك معه في الحكم؛ فإنه يسير في طريق محفوف بالخطر، وإذا تُرك وأهواءه وسياسته المالية السيئة فإن البلاد ستقع حتمًا فريسة في أيدي الغربيين، وقد أخذوا فعلًا يضعون لها الشباك من صندوق دين ومن مراقبة مالية ومستشارين ماليين وغير ذلك من نُذر تنذر بالشر المستطير. وإسماعيل في غَيِّه، وبطانته التركية من حوله لا ترده ولا تهديه سواء السبيل. وأحس المصريون بخطر هذا كله، وأنهم لا يعيشون معيشة كريمة في بلادهم، وأنه حري بهم أن يلوا شئونها، وأن يعيشوا أحرارًا تحت سمائها، واستقر ذلك في نفوسهم، فلا بد من التحرر أولًا من الحاكم المستبد الذي لا يحسن تصريف الأمور، وثانيًا من الترك الذين يؤلفون حاشيته، والذين يسيطرون على المناصب الكبرى في الجيش وغير الجيش. ولم يقف تفكير المصريين عند وطنهم، فقد فكروا في دينهم، وما أصاب المسلمين من ضعف وانحلال، فإذا الغرب يستولي على بعض بلدانهم، وإذا الخلافة الإسلامية في تركيا تكاد تنقض لما يدبِّر لها الغرب عامة. ورأى المصريون عن بصيرة أنه يجب الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى، حتى يُنَقَّى الدين مما علق به من أوهام وخرافات، ورجعوا يدرسون كتبه القديمة وما كتبه المسلمون في العصر العباسي. وكان ذلك تحولًا مهمًّا، فإن الأزهر لم يكن يدرس سوى كتب العصور المتأخرة التي التوت أساليبها وتعقدت أشد ما يكون الالتواء والتعقيد. واقترن هذا الاطلاع على المصادر الأولى في الدين باطلاع آخر على المصادر الأولى في الأدب، فإن المطبعة أخذت في نشر الكتب الأدبية القديمة من مثل كليلة ودمنة لابن المقفع، فرأى المثقفون نماذج جديدة في التعبير

تختلف اختلافًا بينًا عما كانوا يعرفونه، فليس فيها التكلف وليس فيها السجع والبديع؛ وإنما فيها الأسلوب المرسل الشفاف الذي لا يخفي شيئًا من المعنى ولا يستر دلالة من الدلالات. فشكوا فيما يألفون، سواء من جهة الأساليب الدينية الملتوية أو من جهة الأساليب الأدبية المقيدة بالسجع والبديع، وطلبوا طرق التعبير القديمة في الدين والأدب جميعًا. وفي أثناء ذلك كان يشتد الاتصال بالغرب، فقد فُتحت قناة السويس، ونزل في مصر كثير من الأجانب، وأخذ المصريون يطلعون من قرب على الحياة الأوربية المادية. وكان ذلك يزيد من شعور المصريين بقوميتهم، وأن لهم شأنًا في العالم وعلاقاته الاقتصادية، كما كان يؤثر في أذواقهم وعقولهم؛ فإن العلاقات الحضارية يتشابك بعضها ببعض. وجَدَّ المصريون منذ عصر إسماعيل في دعم اتصالهم بالغرب، فهم يكثرون من المدارس ويفتحون أبواب التعليم العالي على مصاريعها، ويؤسسون الأوبرا ويقيمون دار الكتب للقراءة والاطلاع المنظم. وبعث ذلك كله نهضة واسعة في مصر، نهضة غيرت الأذواق، وهيأتها لتطور واسع في الميادين الأدبية. وكانت تدفع هذه النهضة بقوة روحُ المصريين الجديدة وشعورهم بأن وراء ما يقرءون في الدين والأدب نماذج قديمة جديرة بالاحتذاء والتقليد، فأقبلوا عليها يقرءونها ويتأثرونها. ولم يكن هذا التيار العربي القديم وحده هو الذي يغير في أذواقهم وعقلياتهم، فقد كان هناك تيار آخر يأتيهم من وراء البحر، لا بالأوربيين الذين يستوطنون ديارهم فحسب؛ بل بالعلم الأوربي والأدب الأوربي، وكان تصالهم بالعلم أسبق من اتصالهم بالأدب؛ ولكنه لم يُحْدث تبدلًا في حياتهم الأدبية؛ إنما حدث هذا التبدل حين أخذوا يتصلون مباشرة بالآثار الأدبية الغربية ويتذوقونها، ولم يكتفوا بذلك؛ فقد أخذوا يترجمونها، وشاركهم في هذه الترجمة عنصر عربي هاجر إلى ديارنا، هو عنصر السوريين واللبنانيين الذين وفدوا علينا فارين من اضطهاد العثمانيين أو لأغراض اقتصادية.

وكان هذا العنصر السوري اللبناني شديد الاتصال بالآداب الأجنبية؛ فإن البعوث الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية -أو بعبارة أخرى: الفرنسية والأمريكية- وصَلته بآدابها وصلًا محكمًا. فلما نزل بديارنا أخذ يعبر عن هذه الصلة بطريق الترجمة، وبذلك كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حَقلًا واسعًا للترجمة ونقل الآداب الغربية، فقد تُرجم كثير من القصص والروايات، وترجمت كتب لا تكاد تحصى في الاجتماع والقانون والاقتصاد وجميع فروع الفكر الغربي. واضطرت هذه الترجمة الواسعة أصحابها اضطرارًا أن يهجروا الأسلوب الذي ترجم به رفاعة الطهطاوي وتلاميذه، أسلوبَ السجع والبديع، فقد رأوه يفسد المعاني التي يريدون نقلها وأداءها إفسادًا؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يتسع لها، ولا يتيح للمترجم أن يعبر عنها إلا تعبيرًا مضطربًا، أو تعبيرًا ممتلئًا بعوائق السجع والبديع. ولم يلبث هؤلاء المترجمون بعد رفاعة أن عرفوا عن طريق المطابع وما تنشر من آثار الأدب العباسي أن وراء هذا الأسلوب القاصر الذي ترجم به رفاعة أسلوبًا مرسلًا حرًّا آخر، يمكِّنهم من صياغة العبارات بحيث تؤدي المعاني الأوربية أداء سهلًا يسيرًا، فعوَّلوا على هذا الأسلوب، واتخذوه وسيلتهم إلى تصوير معانيهم، وخاصة أنهم رأوه يشبه الأساليب الغربية التي يترجمون منها، فإنها تصاغ في لغة سهلة تخلو خلوًّا تامًّا من أثقال السجع والبديع. وعلى هذا النحو أخذ المترجمون يؤثرون الأسلوب العتيق الفصيح، وينفكون عن أسلوب رفاعة الثقيل الضيق. ولم يكتفوا بذلك؛ بل أخذوا يمرنون هذا الأسلوب على أداء المعاني الغربية الدقيقة، سواء في الفكر أو في الشعور، وأثبتوا أن لغتنا الفصيحة لا تستعصي على أداء هذه المعاني، فكانوا بذلك عاملًا مهمًّا من عوامل بعثها ونهوضها. وحتى الآن لم نتحدث عن المطبعة والصحف، وقد كان لهما أثر بالغ في هذا التحرر من أسلوب السجع والبديع، فإن من كان يترجم مثلًا لم يكن

يترجم للطبقة المثقفة الممتازة؛ بل كان يترجم للجمهور، ولم يكن هذا شأن المترجمين في العصر العباسي والعصور السابقة، فإنهم كانوا يترجمون لطائفة محدودة من الأمة، وكانوا يقدمون لها ما يترجمون في نسخ خطية قليلة. ومعنى ذلك: أن الأدب والعلم جميعًا كانا أرستقراطيين، وكانا محتكرين في جماعة بعينها من جماعة الأمة، فلما عرفنا المطبعة وانتشر التعليم في طبقات الشعب أصبح الأدب والعلم شعبيين، وأصبح المترجمون يلاحظون أنهم لا يخاطبون الطبقة المثقفة العليا في الأمة؛ بل يخاطبون طبقاتها على اختلافها. وأحدث ذلك تطورًا واسعًا في أسلوب الترجمة والكتب الأدبية، فقد أخذ المترجمون والأدباء يلائمون بين أسلوبهم وطبقات الشعب، حتى تفهم عنهم ما يريدون أن يقولوه، وحتى لا تجد مشقة في هذا الفهم. ومن هنا أخذت الأساليب الأدبية تجنح إلى البساطة ومراعاة السهولة، فالكاتب يسعى بجهده إلى تبسيطها وتيسيرها، حتى تروج في الجمهور. فنحن إذن لم نرجع إلى الأسلوب القديم الفصيح أو الأسلوب المرسل الحر فحسب؛ بل أخذ المترجمون والأدباء يبسِّطون أسلوبهم تبسيطًا لا ينزل به إلى مستوى العامة أو إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه لا يعلو عليهم؛ بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءته وفهمه، هو أسلوب بسيط سهل؛ ولكنه عربي فصيح. وما عملته الصحف في هذا الاتجاه كان أوسع وأعمق بحكم أنها تخاطب كل الطبقات في الأمة لا تميز بين طبقة وطبقة؛ بل لعل عنايتها بالطبقات الدنيا تزيد على عنايتها بالطبقات العليا؛ فإنها تريد أن تنتشر في أوسع جمهور ممكن، وأن تغري هذا الجمهور على فَهْمِها والاستمتاع بها حتى يطلبها. وجمهور الكِتَاب المترجم والمؤلف من هذه الناحية أضيق كثيرًا من جمهور الصحيفة، فالكِتَاب يخاطب الطبقات المثقفة التي تقرأ، عاليها ودانيها، أما الصحيفة فإنها تريد أن تخاطب الكثرة الساحقة في الأمة؛ ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في الأسلوب والتفكير بأكثر مما يحتاج مؤلف الكتاب، ومهما كانت الفكرة التي يتناولها مرتفعة في نفسها، فإنه لا بد أن يبسِّطها

إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة أمام القراء، وحتى لا يجدوا أدنى مشقة في فهمها وتصورها، ولا بد أن يُصَفِّي لفظها، ويختار لها لغة سهلة يسيرة، حتى تقترب من الذوق البسيط السهل في الأمة، وحتى يفهم القارئ ما يقرؤه ويعيه وعيًا صحيحًا. فطبيعي لهذا السبب ولما قدمنا من أسباب وبواعث أن يهجر الأدباء والكُتاب اللغة القديمة التي كان يكتب بها رفاعة الطهطاوي، وأن يهجروا معوقاتها من سجع وبديع، فإن هذا كله لا يلائم المعاني الغربية الكثيرة التي يترجمونها ولا يلائم الذوق الشعبي المتواضع الذي يخاطبونه في الكتب والصحف جميعًا؛ إنما الذي يلائم ذلك هو الأسلوب الحر الطبيعي. وقد أخذوا يمرنون كلمات هذا الأسلوب على أن تحمل إلينا الآداب والثقافات الغربية من جهة، كما أخذوا يمرنونها على هجر الموضوعات الضيقة، التي كان يُعْنَى بها كتابنا وأدباؤنا في العصور الوسطى، وهي موضوعات شخصية في جملتها لا تكاد تتجاوز موضوعات الشعر من تهنئة بفتح أو ظفر، ومن تعزية أو وصف، ونحو ذلك من موضوعات النثر القديم. فقد أحلوا محل هذه الموضوعات المحدودة موضوعات عامة، وبعبارة أخرى: أحلوا الأمة محل الأفراد القدماء، فلم يعد الكاتب يتوجه بكتابته إلى شخص معين؛ بل أصبح يتوجه إلى طبقات الأمة على اختلاف درجاتها. ومعنى ذلك: أنه أصبح أديبًا ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا يوجه حديثه إلى أرستقراطيين من أمراء ووزراء وغير أمراء ووزراء؛ لينال مكافآتهم وجوائزهم فيما يعرض له من شئونهم الشخصية، وليمكنوه من المعيشة والحياة. فقد انتهت هذه الدورة أو الدورات في نثرنا -أو كادت- وأخذ هذا النثر يسعى إلى محيط أوسع، هو محيط الشعب الذي يكسب عيشه منه مباشرة بما ينشر من الكتب وبما يكتب في الصحف. ونتج عن هذا التحول أشياء كثيرة، فإن الكاتب لم يعد عبدًا مسترقًّا لأشخاص بأعينهم، أو لهذا الأمير أو هذا الوزير؛ بل رُدَّتْ إليه حريته، فهو يكتب كما يريد، لا كما كان يريد له الأمراء والوزراء ومن إليهم من الحكام، يكتب آراءه وأفكاره كما أحسَّها

وشعر بها دون أن يخضع لفرد من الأفراد مهما كان شأنه. وشيء آخر أتى من تحول الكاتب إلى الجماعة الكبرى جماعة الأمة، فإنه أخذ يُرضي هذه الجماعة وشعورها وذوقها، مما كان سببًا في نشوء رأي أدبي عام يعلن رضاه وسخطه على حياتنا الأدبية. وتحت تأثير هذا الرأي تطور أسلوب النثر وتحرر من أغلال السجع والبديع كما قلنا آنفًا. وشيء أعمق من هذا كله وأبعد أثرًا في حياتنا الأدبية في أثناء النصف الثاني من القرن الماضي، فإن أدبنا أخذ يُعْنَى بتصوير الجماعة وتصوير ميولها السياسية وغير السياسية؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الأدباء تحولوا إلى الجماعة يخاطبونها ويقدمون أدبهم إليهم، فكان لا بد أن يخاطبوها في شئونها التي تهمها وحياتها التي تعيشها أو تريد أن تعيشها. ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى يتكامل وَعْيُ هذه الجماعة، وحتى تريد أن تنال حقوقها السياسية المسلوبة، وقد أخذت تنظر في جوانب حياتها المختلفة سياسية وغير سياسية، وتطمح إلى إصلاحها من جميع أنحائها. وكان من أهم ما فكرت فيه الدين نفسه وأممه وخلافته العثمانية التي ترمز إليه، والتي كان لهم سلطان شرعي في مصر وغير مصر من الأقطار الإسلامية. ولم يلبث الأدباء أن لبوا هذه الغايات الشعبية عند الأمة، فأصدر عبد الله أبو السعود صحيفة "وادي النيل"، وأصدر إبراهيم المويلحي جريدة "نزهة الأفكار". وصدرت جريدة "الوطن". وأخذ السوريون واللبنانيون المهاجرون إلى مصر يشاركون في هذا النشاط الصحفي؛ فأصدر أديب إسحاق وسليم نقاش صحيفة "مصر"، وأصدر سليم وبشارة تقلا "صحيفة الأهرام"، وسليم الحموي "الكوكب الشرقي"، وسليم عنحوري "مرآة الشرق"، وتنحى عنها فتولى تحريرها إبراهيم اللقاني. وبجانب ذلك أصدر يعقوب صنوع صحيفته "أبو نظارة"، كما أصدر عبد الله نديم صحيفته "التنكيت والتبكيت"، وحين اشتد الحماس الوطني قُبيل ثورة عرابي حوَّلها سياسية ثائرة وسماها "الطائف". وهذه الصحف المختلفة كانت تصور عواطف المصريين السياسية، وتنادي

بالإصلاح في الأداة الحكومية قبل أن يستفحل الخطب ويتفاقم الأمر، فإن الأوربيين فرضوا على إسماعيل رقابة مالية، ورقابة المال تؤدي إلى رقابة الحكم. وأخذت صحفنا تنقد الحاكم وتندِّد بسياسته السيئة، وسُرعان ما تحولت ثائرة عليه ثورة غاضبة. واقترن بهذه العواطف السياسية المتأججة في نفوس المصريين عاطفة دينية قوية تدعو إلى إصلاح الدين وتنقيته مما أَلَمَّ به من خرافات. ولم يلبث الشيخ محمد عبده أن مزج بهذه الدعوة دعوة عامة إلى إنقاذ الإسلام والمسلمين مما حل بهم من تأخر واضمحلال، وفكر في وطنه وما أصابه من جَوْر حكامه وسوء أحواله الاجتماعية. ومما لا شك فيه أن جمال الدين الأفغاني هو الذي دفع الشيخ محمد عبده دفعًا قويًّا في هذا الاتجاه؛ إذ كان يلزمه في بيته وفي غَدواته وروحاته، وهو يلقي دروسه الدينية والفلسفية، داعيًا إلى الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي، ومهيجًا الخواطر ضد الحكام الذين يختانون أمانة أوطانهم الإسلامية بما يُطلقون من أيدي المستعمرين الأوربيين في شئونها المالية وغير المالية. وقد أخذ يمرن تلاميذه -وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده- على الخطابة وإنشاء المقالات في الصحف. وتحولت إلى التلميذ النابغ جميع تعاليم أستاذه في السياسة وغير السياسة، وتأججت في صدره حماسة لاهبة لخدمة دينه ووطنه. وهيئت الفرصة له ليذيع آراءه الإصلاحية في الجمهور؛ إذ تولى تحرير "الوقائع المصرية" لأول عهد توفيق. واشترك في الثورة العرابية، حتى إذا أخفقت حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات، فذهب إلى بيروت ثم تركها إلى باريس، وكان قد سبقه جمال الدين إليها، وأصدرا هناك صحيفة "العروة الوثقى" يذيعان فيها على مصر والعالم الإسلامي ما يوقد نار الحمية الإسلامية في النفوس، وكانا يؤمنان بوجوب توحُّد المسلمين تحت راية الخلافة العثمانية، حتى يقفوا رجلًا واحدًا أمام الأوربيين وجشعهم الاستعماري البغيض. وعلى هذا النحو كانت الموضوعات التي يتناولها كُتَّابنا في عصر إسماعيل

وقبل الاحتلال الإنجليزي سنة 1882 موضوعات سياسية ودينية واجتماعية، وهي موضوعات عامة، لم يكن يستمدها الكُتاب من عواطف فردية أو شخصية؛ وإنما كانوا يستمدونها من عواطف الشعب، فقد أصبح الشعب هو كل شيء، وأصبحت ميوله الإطار الذي توضع فيه المقالات الصحفية المختلفة. وتعم الكآبة مصر وتخمد مؤقتًا هذه الجذوة القوية فيها لأول عهد الاحتلال؛ ولكن لا نمضي طويلًا حتى تسترد هذه الجذوة قوتها واشتعالها، فيصدر العفو عن الشيخ محمد عبده وعبد الله نديم اللذين اشتركا في الثورة العرابية، وتصدر صحيفة "المؤيد" يصدرها الشيخ علي يوسف، معبرًا فيها عن نزعتنا الوطنية، ويصدر عبد الله نديم صحيفة "الأستاذ" يناوئ فيها الاستعمار، ويصدر مصطفى كامل صحيفة "اللواء" ويبعثها نارًا ضد الاستعمار والمستعمرين، ويؤلف "الحزب الوطني"، ويصارع الإنجليز صراعًا قويًّا عنيفًا. ويتألف حزب الأمة، ويُصدر صحيفة "الجريدة" ويحررها لطفي السيد، ولم يكن هذا الحزب ثائرًا ثورة الحزب الوطني؛ بل كان يميل إلى الاعتدال في الكفاح، وقد خرج بفكرة أن مصر للمصريين، فينبغي ألا نفكر في الخلافة العثمانية والعثمانيين؛ بل ينبغي أن نقصر تفكيرنا على أنفسنا ومصالحنا. وكان مصطفى كامل يعطف على الخلافة الإسلامية، وهو عطف كان يصور فيه عواطف الشعب المصري الذي كان يعد هذه الخلافة رمزًا لدينه، ولم يكن مصطفى كامل يتعدَّى ذلك، فوجهته وطنه واستقلاله وتخليصه من براثن الاحتلال. وأعلنها حربًا شعواء على الإنجليز لا تضعف ولا تلين كما يلين حزب الأمة وأنصاره، واندفعت الأمة المصرية وراءه غاضبة ناقمة. وهذه الحركة الوطنية التي كانت تصدر عن روح الأمة وما صحبها من ترجمة أو من التيار الغربي الذي أخذ يعمل في مجرى حياتنا الأدبية، كل ذلك كان مصدر نشاط أدبي خصب، سواء من حيث اللغة التي نعبر بها عن أدبنا، أو من حيث الموضوعات التي كان يتناولها. أما اللغة، فقد تحررت من عوائق السجع والبديع. على أنه ينبغي ألا

نطلق هذا القول إطلاقًا عامًّا، فقد كان لا يزال يوجد محافظون يتأثرون في كتابتهم بالسجع وما يتصل به من البديع، وكانوا قليلين؛ ولكنهم ظلوا قائمين في حياتنا الأدبية منذ ثورتنا اللغوية التي نَحَّت هذه العوائق بعيدًا عن الأسلوب الفصيح، وظلنوا ينتجون آثارًا تخضع لذوقهم المحافظ, لا في القرن الماضي فحسب؛ بل أشواطًا من هذا القرن. وكان يوجد ثائرون على اللغة العربية، لا في صورتها المعقدة عند أصحاب السجع والبديع فقط؛ بل أيضًا في صورتها السهلة الميسرة عند أصحاب الأسلوب المرسل، وكانوا يرون أن من الخير أن نهجرها جملة ونستخدم مكانها لغتنا العامية. وظهر هذا الاتجاه قويًّا عند من تثقفوا بالآداب الغربية، فقد رأوا أصحاب هذه الآداب يهجرون في عصر النهضة اللغة اللاتينية التي كانوا يعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم، ويتخذون مكانها لغاتهم المحلية، وأنشئوا بهذه اللغات آدابهم المختلفة من فرنسية وإنجليزية وغير فرنسية وإنجليزية. فقالوا: ما لنا وللغة قديمة ليست لغتنا ولا ملكًا لنا، ولا هي أداة طيِّعة للتعبير الحر الطليق عن عواطفنا ومشاعرنا، وها هي يبدو عجزها عن أداء المعاني الغربية الكثيرة التي نريد أن نؤيدها؟ وقالوا أيضًا: إنها ليست اللغة المصرية الصميمة؛ بل هي منا كاللغة اللاتينية من الأوربيين، فلن يقدر لها البقاء، بل لا بد أن تحل محلها اللغات العامية في البلاد العربية المختلفة. وكان ممن يدافع عن هذا الاتجاه محمد عثمان جلال الذي ترجم بعض روايات موليير إلى لغتنا الدارجة، فاتسعت هذه الدعوة، ولا يزال لها أنصار إلى يومنا الحاضر. ولم تنجح حينئذ لأسباب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها أدبي خالص، فقد دعا بعض الإنجليز إليها في محاضرات عامة بمصر وفي بعض كتاباتهم، كما دعا إليها بعض المستشرقين، فأحس الشعب وأدباؤه خطرًا فيها، وأنها إن صحت كانت كارثة سياسية يريدها المحتل، حتى تنسى الأمة ماضيها العربي والإسلامي. وأيضًا فإن هذه اللغة العربية التي يدفعها محمد عثمان جلال وإخوانه لغةُ القرآن الكريم، أو بعبارة أخرى: لغةٌ مقدسةٌ يقدسها الشعب. فكان صعبًا

-إن لم يكن مستحيلًا- على الشعب أن يتحول عنها، وحتى إن كان لا يحسنها فإنه ينبغي أن يسعى إلى إحسانها. وسبب ثالث، ولكنه لا يأتي من قبل السياسة ولا من قبل الدين، وإنما يأتي من قبل الأدباء أنفسهم، فإن كثرتهم رأت ألا تنزل إلى لغة الشعب، حتى يظل لها شيء من التفوق اللغوي الذي يفصل بينها وبين العامة. وربما كان من أهم الأسباب أيضًا أن هؤلاء الأدباء من صحفيين وكُتاب ومترجمين استطاعوا أن يؤدوا باللغة الفصيحة كل ما أرادوه من معانٍ وأفكار، فهي ليست قاصرة ولا عاجزة؛ بل أثبتوا أن فيها قوة لتحمُّل المعاني فضلًا عما فيها من براعة وجمال. ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الدعوة إلى استخدام العامية في حياتنا الأدبية، واقتصرت على الصحف الفكاهية التي لا تزال تخرج بها إلى اليوم. وبالمثل أخفق الاتجاه المحافظ إلى أسلوب السجع والبديع، وانتصر الأسلوب الجديد، الأسلوب العربي المرسل، ووثب به الكُتاب وثبات واسعة في التعبير والتصوير. ولا بد أن نذكر هنا "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك؛ لتساعد على تعليم هذا الأسلوب الذي ارتضته مصر؛ إذ لم يكن يعلم العربية سوى الأزهر، ولكن علماءه كانوا محافظين، وكانوا مرتبطين بأسلوب السجع والبديع من جهة، وبكتب النحو المعقدة من جهة ثانية، فرأى علي مبارك أن ينشئ هذه المدرسة؛ لتعلم المصريين العربية بأسلوب يتمشى والنهضة الحديثة، وقامت "دار العلوم" بما أريد منها في هذا الطور من التحرر في اللغة والانطلاق من الأسلوب المسجَّع المعقد، فكانت تُخْرج للمدارس المدنية طائفة من المعلمين ييسرون العربية على الطلاب، ويُعدونهم إعدادًا صالحًا لهذه الدورة الجديدة. على كل حال، فَكَّ المصريون، أو بعبارة أدق: فكت كثرتهم أنفسها من أغلال أسلوب السجع التقليدي، ورجعت إلى الأسلوب المرسل تعبر به عن ذات نفسها، واكتفت من هذا الأسلوب بإطاره، أما نماذجه فقد نبذتها نبذًا، لا لأنها سيئة في نفسها؛ بل لأنها لا تلائم حياتها؛ إذ كانت نماذج شخصية

أو ديوانية، وكانت لا تتصل بالجمهور ولا بعواطفه، ولا تمس حياته السياسية والاجتماعية. لذلك كان طبيعيًّا ألا يلتمس الكُتاب المصريون في القرن الماضي نماذجهم عند القدماء، فقد أخذوا يوجدون لأنفسهم نماذج تتصل بحياتهم وما اختلف عليها من أحداث وتهيأ لها من ظروف صحفية وغير صحفية. وقد دفعتهم الصحافة التي حاولوا أن يجاروا بها الصحافة الغربية إلى إنشاء فن المقالة، وهو فن لم يعرفه العرب القدماء؛ إنما عرفوا الرسائل التي تتناول بعض الموضوعات في سعة، وهي أشبه ما تكون بكتيب صغير، فلما وُجدت الصحف، وحاول الكُتاب أن يكتبوا في الموضوعات التي تهم الجمهور استحدثوا هذا النموذج الأدبي القصير، وأخضعوه للضرورات الصحفية من حيث القصر ومن حيث تبسيط الفكر حتى يفهمها الناس وتسهيل اللغة حتى لا تكون عسيرة عليهم. وأخذ الكُتاب يمرنون هذا النموذج الجديد ليصور آراءهم في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وفي الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي كل شأن من شئون الحياة. وكلما تقدمنا مع الزمن قطعنا مرحلة في هذا التمرين، ونحن لا نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى يتكون لنا في هذا النموذج طبقة ممتازة من الكُتاب مثل: علي يوسف ومصطفى كامل وفتحي زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز محمد وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده، وغيرهم ممن كانوا يصارعون الفساد الاجتماعي والفساد السياسي والفساد الديني. وكان لهذه الطبقة من الكُتاب المفكرين أبعد الأثر وأعمقه في حياتنا المصرية، فهم الذين حملوا راية الإصلاح في كل جانب من جوانب حياتنا العامة، ولا تزال دعواتهم الإصلاحية حية مؤثرة في نفوسنا، فقد أشعرونا بحقوقنا وواجباتنا وما يتعلق بحياتنا من أسباب التأخر والانحطاط، وعلمونا كيف نعيش في وطننا أحرارًا، وكيف ننهض إلى تحقيق استقلالنا وتحقيق حياة كريمة لنا. وبذلك أثاروا فينا العناصر الكامنة من قُوانا، وكان لمصطفى كامل الفضل الأول في دفعنا إلى مصارعة الاحتلال مما جنينا آثاره في ثورة سنة 1919، ثم

في ثورتنا الأخيرة المباركة. وحاول محمد عبده محاولة تجديدية جريئة في الدين، وهو أهم مصلح ديني عرفته مصر الحديثة، وقد أخذ يدعو إلى تخليصه من الأوهام والخرافات، والبحث فيه بحثًا حرًّا على نمط البحث القديم عند المعتزلة، فباب الاجتهاد فيه لم يغلق، ولا ضير أبدًا في أن نبحث فيه وفي أصوله على ضوء الفكر الحديث. وأخذ يثبت في مقالاته وأبحاثه أنه دين عالمي حي، وأنه لا يتعارض مع المدنية الحديثة، ورد ردودًا قوية على من يهاجمونه من المستشرقين والمستعمرين. وقام بتفسير القرآن الكريم تفسيرًا جديدًا يتفق وهذه الروح. وأصلح القضاء الشرعي حين عُهد إليه بالإفتاء في عهد عباس الثاني كما أصلح مناهج التعليم في الجامعة الأزهرية. وحمل قاسم أمين راية الإصلاح الاجتماعي، وقد رأى أن من أهم أسباب تأخرنا عن الغرب حجابَ المرأة وجهلها وشل هذا الجزء الحي في مجتمعنا وإهدار جميع حقوقه في الزواج بل في الحياة. وكتب في ذلك مجموعة من المقالات نشرها في صحيفة "المؤيد"، ثم جمعها في كتاب بعنوان "تحرير المرأة"، وأتبعه بكتاب آخر سماه "المرأة الجديدة"، وفيه دافع ثانية دفاعًا حارًّا عن حرية المرأة، ورسم خطوط هذه الحرية، وأنه ينبغي أن تخرج إلى حياتنا العامة، وأن تشترك في أعمالها ومسئولياتها المختلفة. وكان ذلك ثورة في أول القرن، وخاصة في البيئات المحافظة، وكُتب لهذه الثورة أن تنجح نجاحًا هائلًا بعد الحرب الأولى حين رُدت إلينا حريتنا، فخلعت المرأة الحجاب وتعلمت، وأصبحت تشارك في الأعمال الحكومية والمهن الحرة من طب وغير طب. وعلى هذا النحو كانت كانت هذه الطبقة من كُتابنا تجدد حياتنا وعقولنا وتدفعنا خطوات إلى الأمام، وكان كثير من أفرادها قد أتقن اللغات الأجنبية، وأخذ نفسه بقراءة آثار المفكرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فاندفع يقتبس من هذا الفكر الغربي الحي النشيط فيما يكتب لقومه من مقالات، وأهم من يوضح هذا الاتجاه فتحي زغلول وأحمد لطفي السيد، وقد ترجم الأول كتاب

"سر تقدم الإنجليز السكسونيين"، ونشره مقالات مسلسلة في صحيفة "المؤيد" سنة 1899، أما لطفي السيد فعُنِيَ بترجمة بعض آثار أرسططاليس. فكان الأول باعثًا على البحث في عيوبنا الاجتماعية، وكان الثاني رائدًا لاتصالنا بالفلسفة الغربية وأبحاثها في القديم والحديث. ولكن ليس ذلك هو المهم عندهما، فقد دفعا هما وأمثالهما -ممن تثقفوا في عمق الثقافة الغربية- نموذجنا النثري الجديد -نموذج المقالة- إلى أن يصبح نموذجًا فكريًّا نشيطًا، بما اقتبسوا له من أفكار الغربيين في السياسة والأخلاق والاجتماع. وفي أثناء ذلك كان ينمو عندنا فن قديم ويتطور، وهو فن الخطابة، ومعروف أن العرب كانت لهم خطابة نشيطة في العصرين الجاهلي والإسلامي، وأنهم عرفوا الخطابة السياسية عند زياد بن أبيه ونظرائه، كما عرفوا الخطابة الدينية عند الحسن البصري وأقرانه. وازدهر هذان اللونان في العصر الأموي، وسرعان ما ذبلا وفقدا النضرة والحياة في العصر العباسي ثم في العصور التالية، فقد ضغط العباسيون على الناس وحرموهم الحديث في شئونهم السياسية. وجمد العقل العربي فلم يتطور الخطباء بالخطابة الدينية في صلاة الجمعة والأعياد؛ بل اكتفوا بنماذج ابن نباتة معاصر سيف الدولة في القرن الرابع الهجري، وأخذوا يبدئون فيها ويعيدون دون تغيير أو تبديل. جاء عصرنا الحديث إذن والخطابة السياسية ميتة، والخطابة الدينية كأنها الأخرى ميتة، فلما أخذنا نسترد حريتنا وننقل القضاء الغربي إلى ديارنا عادت الخطابة السياسية إلى النشاط، وأنشأنا خطابة جديدة عرفها الأوربيون هي الخطابة القضائية. فوُجد المحامون ووجد المدَّعون، ونبغ في الطرفين مجموعة كبيرة من نابهي الخطباء القضائيين. وبذلك تنهض مصر بهذين اللونين من الخطابة في الأدب العربي الحديث، فهي التي أتيح لها أن تنشط فيهما؛ إذ كانت الحريات مكبوتة في البلاد العربية الخاضعة لتركيا، ولم يُنْقَلْ إليها النظام القضائي الغربي، فكنا السابقين في هذين اللونين.

مصر إذن هي التي سبقت البلاد العربية إلى إنشاء الخطابة القضائية وإحياء الخطابة السياسية وبَعْث حياة رائعة فيها بما كان يقرأ خطباؤها عن الثورات الغربية ومبادئها في الحرية والإخاء، وبما كانوا يقرءون عند كُتاب الغرب المختلفين في الحقوق الإنسانية. ومصر هي التي صنعت نموذج المقالة، وحقًّا أسهم في هذه الصناعة إخواننا السوريون واللبنانيون الذين هاجروا إلينا مثل أديب إسحاق؛ ولكن من الحق أيضًا أننا لم نصل إلى فاتحة هذا القرن حتى كان لنا كُتاب متميزون حملوا خير حمل عبء النهوض بالمقالة سياسية وغير سياسية؛ بل لقد دفعوها أشواطًا حتى أصبحت ثرية بالفكر الحي النشيط. ومن الواجب أن نذكر هنا المنفلوطي، وهو لم يكن يكتب في السياسة؛ إنما كان يكتب في الاجتماع، فكان ينشر في صحيفة "المؤيد" مقالات تتناول بعض جوانب المجتمع بعنوان "النظرات"، ينظر فيها في بعض مساوئنا الاجتماعية، وقد جمعها ونشرها بنفس العنوان. وليس المهم الموضوع فكثيرًا ما طرقه كُتابنا؛ إنما المهم الإطار الذي صاغه فيه، فقد عُني بأسلوبه وأدى معانيه فيه أداء فنيًّا بديعًا، ولم يحاول ذلك في أسلوب السجع الذي أهملناه؛ وإنما حاوله في الأسلوب المرسل الجديد؛ ولكنه عُنِيَ عناية بارعة بهذا الأسلوب، عُنِي باختيار ألفاظه وانتخابها، ووفَّر لها ضروبًا من الموسيقى بحيث تسيغها الآذان وتقبل عليها. وكان شبابنا في أول القرن يعجب بهذا الأسلوب إعجابًا شديدًا، وظل ذلك الإعجاب يرافقنا طويلًا. ولم تكن المحاولات التي حاولناها في هذه الدورة من حياتنا قبل ثورتنا وقبل نهاية الحرب الأولى تقتصر على المقالة والخطابة، فقد أخذ كُتابنا يحاولون محاولة أخرى في لون جديد لم نكن نعرفه، وكان قد تُرجم إلينا منه آثار غربية كثيرة، وهو لون القصة، وقد صنعنا فيه حينئذ بعض محاولات لعل أهمها "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي و"زينب" لمحمد حسين هيكل. أما المحاولة الأولى، فتصور كيف كان بعض كُتابنا لا يزالون يستوحون

النماذج القديمة. ومن أهم هذه النماذج -كما نعرف- المقامة، وهي قصة قصيرة لأديب متسول، يرويها راوٍ عنه في أسلوب مسجَّع، وقلما زادت عن صحيفتين أو ثلاث. وهذا النموذج القصير تحول عند المويلحي إلى قصة اجتماعية طويلة ليست لأديب متسول؛ وإنما هي لأحمد "باشا" المنيكلي الذي تُوفي في عصر محمد علي، ثم بُعث أو رُدت إليه الحياة في أواخر القرن، فنفض عنه تراب القبر، وخرج فالتقى بعيسى بن هشام راويته، وأخذ يعيش في حياة مصر الجديدة حينئذ، فوجد كل شيء تغير، وأخذ يقارن بين الحاضر والماضي في نظام الشرطة والقضاء وعادات الناس مصورًا ذلك في صورة نقد اجتماعي واسع، وهو نقد صاغه في أسلوب المقامات المسجوع، وكأنه يكتب مقامة طويلة. وهذه القصة تدل في وضوح على أنه كان لا يزال بين كُتابنا من يكتبون على الطريقة التقليدية؛ ولكنهم كانوا يحاولون أن يلائموا بينها وبين حياتنا الحديثة، على نحو ما يصنع المويلحي في هذه القصة؛ إذ يخوض في الشئون الاجتماعية التي كان يكتب فيها المصلحون من مثل: قاسم أمين وفتحي زغلول. ومن المؤكد أن أمثال المويلحي الذين كانوا يصطنعون الأسلوب المسجوع كانوا يدخلون في الظلال شيئًا فشيئًا؛ ليحل محلهم ذوق جديد. وخير ما يصور هذا الذوق حينئذ المحاولة الثانية أو القصة الثانية التي ألفها هيكل وهو في باريس سنة 1910، ثم نشرها في صحيفة "الجريدة" وهي محاولة جديدة كل الجدة، فليس فيها شيء من أسلوب المقامات، ليس فيها عيسى بن هشام راوي بديع الزمان، وليس فيها سجع ولا بديع؛ وإنما فيها لغة سهلة قريبة من لغتنا اليومية؛ بل لا بأس عند مؤلفها من اقتراض بعض ألفاظ عامية تدعو إليها ضرورات القصة. وهي قصة مصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تصور حياة ريفنا المصري وطبقاته الغنية والفقيرة وما يقوم بين هذه الطبقات من عوائق اجتماعية. وتتضح في القصة دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، كما يتضح فيها ريف مصر، لا بفلاحيه

فحسب؛ بل أيضًا بمناظره الطبيعية وما فيها من فتنة وجمال. وفي أثناء هذه الحقبة من أوائل القرن العشرين كان جرجي زيدان ينشر قصصه التاريخية التي بلغت نحو عشرين قصة، وقد استمد حوادثها من التاريخ الإسلامي، وهي في جملتها لا تستوفي شروط القصة من الحبكة والتسلسل الروائي؛ ولكنها على كل حال تعد عملًا جديدًا. وبجانب ذلك كتَب تاريخ التمدن الإسلامي في خمسة أجزاء كما كتب تاريخ الأدب العربي في أربعة أجزاء استقى فيها من كتابات المستشرقين. ولا بد أن نذكر هنا أيضًا "ذكرى أبي العلاء" لطه حسين، وهو البحث الذي نال به درجة الدكتوراه من الجامعة القديمة التي أنشأها قاسم أمين وغيره من رجالات الفكر سنة 1908، واستقدموا لها كبار المستشرقين من أوربا، فبعثوا حياة علمية جديدة في دراستنا الأدبية، كانت ثمرتها هذه الرسالة التي حلل فيها كاتبها نفسية أبي العلاء وأثر الوسط المكاني والزماني فيه. وعلى هذا النحو لم نصل إلى الحرب الأولى في هذا القرن حتى ظفرنا بتقدم واضح في الأدب ونقده. ومن المحقق أن جذوة الفكر المصري استطاعت منذ أوائل القرن أن تتوهج وأن ترسل ضوءها وشررها في مختلف الاتجاهات العقلية والفكرية؛ ولكن من المحقق أيضًا أنها كانت تصنع ذلك في أناة ورَيْث.

بين الجديد والقديم

3- بين الجديد والقديم: وتتقدم الأعوام بنا إلى ما بعد الحرب الأولى، فإذا الثورة الوطنية تحتدم، وينشب كفاح مرير بيننا وبين الإنجليز، وينفون ويسجنون، ثم يُضطرون اضطرارًا أن يستجيبوا إلى مطالب الشعب استجابة قاصرة إلا أنها غيرت نظمنا، فانتقلنا إلى دور جديد، وضعنا فيه لنا دستورًا وأقمنا برلمانًا وتبدلت حياتنا من جميع وجوها تبدلًا خطيرًا، فقد أخذنا نعيش مستقلين إلى

حد ما، وأخذنا ننشر التعليم جادين، كما أخذنا نسترد حريتنا. ولم تلبث الأحزاب أن نشأت وتصارعت، وأسَّس كل حزب منها لنفسه صحيفة ينشر فيها آراءه، ويختصم مع غيره من الأحزاب في أسس الحكم وما يرجو للأمة من خير. ومن المحقق أننا تعثرنا طويلًا في حياتنا السياسية في أثناء هذه الدورة الجديدة؛ فإن الأحزاب ولَّت في كثير من الأحوال وجهها من خدمة الأمة إلى خدمة مصالحها في كراسي الحكم، ولكن من المحقق أننا كنا في أثناء ذلك ننهض عقليًّا وروحيًّا؛ إذ كان ضميرنا الوطني أو ضمير شبابنا يزداد يقظة وتنبها بفضل ما كان يكتبه الأدباء والمفكرون في مختلف شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بل لقد دأبت صحف هذه الأحزاب وما عاصرها من مجلات أدبية؛ كالهلال والمقتطف والسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي على أن تنقل إلى القراء مباحث واسعة في الأدب والفكر الغربيين. وكان ذلك سببًا في اتساع نطاق الأدب؛ إذ لم تلبث الخصومات التي اشتدت بين الأحزاب في السياسة أن انتقلت إلى الكُتاب فإذا هم يتخاصمون خصومات عنيفة في الأدب وفي المثل العليا التي ينبغي أن تستقر بين المصريين في حياتهم العقلية والأدبية. وتعنف هذه الخصومات، ويحمل لواءها نفر جديد من الكتاب، وهو ليس جديدًا خالصًا، فقد لمعت بعض أسمائه قبل الحرب مثل: العقاد والمازني وهيكل وطه حسين، بما قدم الأولان من تجديد واسع في الشعر ونقده وما حاوله هيكل في القصة وطه حسين في السيرة التاريخية. وكان العقاد والمازني يحملان في تجديدهما سلاحًا ذا حدين، فهما يهدمان نموذج الشعر عند جماعة النهضة من مثل: شوقي وحافظ، ويقيمان نموذجًا جديدًا. ولما دار الزمان بهما وظفرت مصر بحريتها بعد الحرب رأيناهما يؤلفان كتاب "الديوان"، وفيه نقد العقاد شوقي نقدًا عنيفًا، أما المازني فنقد شكري، ثم نقد المنفلوطي وأسلوبه نقدًا ثائرًا وهو الذي يهمنا الآن، فقد لاحظ عليه ضعف الثقافة، وأن أسلوبه لفظي خالص لا يحوي معنى ولا فكرة ذات بال، وبالغ

فقال: إن أسلوبه ناعم، وإنه فارغ لا يحوي سوى الدموع والعَبَرات مما يستهوي المراهقين. وهو نقد يعود إلى تغير المثل الأعلى في الكتابة، فإن الكاتب الجديد لم يعد يرضيه الأسلوب الجزل الرصين فحسب؛ بل هو يطلب الفكر الواسع الذي يوطد ويمهد للتعبير الدقيق عن الخوالج النفسية ودرجات الإدراك الفكري، ولو أن المازني لم يوضح ذلك تمامًا. وقد أخذ المازني يُثبِّت هذا الاتجاه في النثر، فتارة يترجم نماذج أوربية، وتارة يصوغ نماذج عربية جديدة في القصة وغير القصة. وللعقاد جولات واسعة في هذا الصدد مع مصطفى صادق الرافعي، وكان لا يعجب بالعقاد ولا بشعره ونثره، وكان محافظًا محافظة شديدة، ووضعته الظروف ليحمل راية القديم في تلك الفترة الثائرة من حياتنا الأدبية. وحدث أن كتب في سنة 1923 رسالة عتاب على النمط المسجوع القديم، وأرسلها إلى صحيفة "السياسة" التي يرأس تحريرها هيكل، ويكتب فيها طه حسين بعد أن عاد من بعثته مستمدًّا في كتابته من مقاييس النقد الغربي، ومتأثرًا بمثُل القوم الأدبية. فأحدثت هذه الرسالة ضجة؛ لأن صاحبها قذف بها في معسكر ثائر من معسكرات التجديد، ولم يلبث طه حسين أن أعلن رأيه فيها، وأنها لا تلائم الذوق الأدبي الحديث. ونشبت بينه وبين الرافعي معركة حادة، فالرافعي يذود عن حصنه القديم وطه حسين يرميه بسهام الذوق الحديث الذي تغير تغيرًا تامًّا، والذي أصبح يؤمن أصحابه بأنه ينبغي أن نعبر تعبيرًا حرًّا طبيعيًّا عن حياتنا، ولا بأس من أن نستعير من الغربيين بعض معانيهم وأساليبهم ما دام ذلك لا يفسد جمال اللغة العربية وروعتها. ويكتب طه حسين مقالات في الصحيفة نفسها عن أبي نواس ومجونه ويسمى عصره عصر المجون والزندقة، ويثور كثيرون إذ يرون في ذلك تشويهًا للقرن الثاني الهجري الذي عاش فيه أبو نواس. وتحدث خصومة عنيفة بينهم وبين

الكاتب، وتتحول المسألة من أبي نواس إلى القديم كله والقدماء وما يقولون، فهل نقبل كل ما يقولون أو نعرض ما يقولونه على الامتحان؟ ويذهب طه حسين إلى أن الأحكام التاريخية في الأدب أحكام إضافية، فإذا قال لنا القدماء قولًا في شاعر أو خليفة ينبغي أن نأخذه على أنه رأي ومن حقنا أن نغيره؛ لأنه ليس رأيًا مقدسًا، ولأنه ينبغي ألا نلغي عقلنا، وطبائع الأشياء -كما يقول- تؤيد أن يكون عقل المحدثين أرقى من عقول القدماء، ومن الجائز أن يتورطوا في الخطأ، فلا بد أن نناقش أقوالهم، ولا بد أن نخضعها للبحث والنقد. وفي أثناء ذلك يكتب سلامة موسى في "الهلال" مقالًا عن مصطفى صادق الرافعي، ويجعله ممثلًا للقديم، ويهاجمه هجومًا عنيفًا، وقد بنى هجومه على أنه يحسن الصنعة ولا يحسن الفن؛ أي: أنه يحسن التعبير ولا يحسن تصور المثل الأعلى في الأدب. والحق أنه كان يحسنهما جميعًا على نحو ما سنرى في ترجمته، وقد استطرد سلامة موسى في مقاله يهاجم القديم جملة، فالأدب العربي السابق كله لا يصلح لحياتنا، وكذلك أسلوبه الموشى بالسجع وغير السجع؛ لسبب بسيط؛ وهو الرقي العلمي الحديث! فمن رأيه أن الحياة العلمية والمادية قد تغيرت، وهذا يقتضي تغير الشعور والعواطف وتغير التعبير عنهما، وبالتالي تغير الأدب. وفي هذا الرأي مبالغة؛ لأن رقي العلم والحياة المادية لا يغيران مشاعرنا وعواطفنا تغييرًا تامًّا، وهذا ما يجعل الأدب خالدًا، فنحن نقرأ اليوم ما نظمه هوميروس في اليونانية وفرجيل في اللاتينية، وامرؤ القيس في العربية، ونتأثر بكل الأدب القديم، ونجد فيه متاعًا وغذاء لعقولنا وأرواحنا. ولكن سلامة موسى يتميز في هذه الدورة من أدبنا بعد الحرب الأولى بأنه كان ثائرًا ثورة عنيفة، فهو يدعو بقوة إلى الانغمار في التيار الأوربي بكل ما فيه من علم وأدب ونظم سياسية. وله في ذلك مقالات وكتب كثيرة، وقد أخرج صحيفة هي "المجلة الجديدة" ينشر فيها تعالميه بين الشباب، وقلما ظهر مذهب أوربي في علم أو غير علم إلا نادى به وتقدم الصفوف يدعو إليه دعوة حارة. وقد ظل

إلى الأيام الأخيرة من حياته يدعو إلى مبادئه في إخلاص وحرارة، غير أنه كان يتطرف في دعوته، وخاصة من حيث اللغة؛ إذ يرى -كما نراه الآن في نقده للرافعي- أن ننبذ الإطار القديم جملة، وأن نتخفف في لغتنا، ولا بأس من أن نجعلها أقرب إلى عاميتنا التي نعبر بها في حياتنا اليومية. وكان يقف وحده في هذا الاتجاه، فإن أدباءنا المجددين من أمثال: طه حسين وهيكل والعقاد والمازني، وكانوا يرون أن يظلوا مع الأسلوب الفصيح الرصين الجزل؛ حتى يكون لأدبهم موقع حسن في الأسماع والقلوب، فهم يحرصون على الإعراب وعلى الألفاظ الصحيحة التي تقرها المعاجم، وهم في داخل هذا الإطار يجددون تجديدًا لا يخرج بهم عن أصول العربية، وإنما يُغنيها ويُنمِّيها بما يضيفون من نماذج جديدة وفكر جديد. وهذا الاتجاه هو الذي ثبت واستقر في حياتنا الأدبية الحديثة، وهو اتجاه يقوم على التحول والتطور بلغتنا وأدبنا على نحو ما تحولت وتطورت الآداب الأوربية، فهي لم تقع صلتها بالقديم، وفي الوقت نفسه لم تقف عنده؛ بل جددت نفسها وتطورت من جيل إلى جيل. وإذا كان سلامة موسى يتطرف في التجديد حتى يريد أن يقطع صلتنا بالقديم؛ فقد كان الرافعي يقف له بالمرصاد، وقد رد عليه في صحيفة "الهلال" ردًّا مفحمًا غير أنه أقحم الدين في كلامه، ولم يكن الدين متصلًا بموضوع الخصومة؛ ولكنه أراد أن يجعل قضية التجديد قضية دينية حتى يكسب في صفه أناسًا كثيرين. وقال: إن التجديد إن كان في الأفكار والمعاني فهو لا يدفعه، أما إن كان في اللغة فإنه ينكره إنكارًا شديدًا. وتدخَّل في هذه المعركة طه حسين، فأيد سلامة موسى في التجديد من الناحية العامة، ورد على الرافعي قوله بأن المجددين يمسون أو يفكرون أن يمسوا بتجديدهم اللغة، فهو وكثير غيره من المجددين يكتبون بأسلوب عربي فصيح مستقيم. وكان الرافعي قد تعرض في مقاله للحضارة الغربية وهاجمها، فرد هجومه طه حسين، وقال: إن هذه الحضارة غنية.

ويُكثر طه حسين من المقالات في هذه الجوانب، فتارة يتحدث عن القديم والجديد، وتارة يتحدث عن الذوق الأدبي وتجديده، ثم يُخْرج كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أعاد نشره باسم جديد هو "في الأدب الجاهلي"، وفيه بحث الشعر الجاهلي على أساس مذهب غربي هو مذهب "ديكارت" الذي يقوم على الشك، فالأصل أن نشك في الأشياء ثم نقلبها بعد بحث وامتحان. واستضاء بما كتبه الأوربيون عن إلياذة هوميروس وشكِّهم في حقيقة مَنْ نظم هذه القصيدة القصصية الطويلة، وقد رأى بعضهم أنه نظمها شعراء مختلفون. فحاول طه حسين أن يطبق هذه الدراسات في الشعر اليوناني القديم على الشعر الجاهلي، وأخرج في ذلك كتابه المذكور آنفًا الذي يوضح كثرة الانتحال في الشعر الجاهلي، وأن شعرًا كثيرًا دخل فيه. وأثار هذا البحث بما فيه من آراء جديدة ضجة واسعة في الناس والبرلمان، وكتب الرافعي وغير الرافعي كتبًا في الرد عليه، وكثر الجدال؛ ولكن طه حسين ثبت للمعركة، وكان ثبوته إيذانًا بنجاح مقاييس النقد الجديدة. وهذه المقاييس لم تكن أوربية خالصة، فقد كان أدباؤنا المجددون يقرءون في الأدب والنقد الأوربيين وكانوا يقرءون في الأدب والنقد العربيين، واستطاعوا أن يجمعوا بين الطريقتين -طريقتي العرب والغربيين- ويستخلصوا لأنفسهم مقاييس جديدة لا هي أوربية خالصة ولا عربية خالصة؛ إنما هي مصرية تصور ما كسبته مصر من التيار الغربي ومن التيار العربي القديم، ثم ما كسبته من الحرية الجديدة بعد الثورة الوطنية الأولى في هذا القرن، الحرية إلى أبعد الحدود في الأفكار والآراء. ومعنى ذلك أن هذه النزعة المجددة لم تكن هدمًا للقديم؛ وإنما كانت إحياء له وبعثًا وتنمية في صور جديدة، فنحن في تجديدنا لم ننقطع عن القديم لا في الأدب ولا في النقد؛ بل ظللنا نعتمد على عنصرين متكافئين؛ وهما: المحافظة على إحياء القديم، والإفادة من الآداب الغربية. ونشأ عن ذلك أن مقاييس النقد تغيرت عندنا بالقياس إلى ما كان منها

قبل الحرب، حقًّا أن العقاد والمازني استطاعًا أن يؤصِّلا بعض القواعد النقدية في الشعر في أثناء العشرة الثانية من هذا القرن كما مر في غير هذا الموضع؛ ولكنهما كانا حينئذ يعتمدان كثيرًا على طريقة النقد القديمة، تلك الطريقة اللفظية التي تحلل العبارات والألفاظ وتبحث في السرقات، ونراهما يتطوران بعد الحرب، ويتطور منهجهما النقدي، فتصبح الأصول العامة هي أساس نقدهما، ويكثران من الحديث في القديم والجديد والذوق الأدبي، ويدرسان كثيرًا من شعرائنا القدماء على أصول النقد الغربي وقواعده. وكان يصنع صنيعهما طه حسين وهيكل. ولم يكونوا جميعًا يقفون بدرسهم عند أدبائنا القدماء؛ بل أخذوا يعرضون أدباء الغرب أنفسهم ويحللون آثارهم، ويُصدرون عليهم أحكامًا لا يستمدونها فقط من الباحثين الغربيين؛ وإنما يستمدونها في الغالب من أذواقهم المصرية الجديدة، ومما أتاحوا لأنفسهم من مُثُل أدبية هي مزيج من الآداب العربية القديمة والأوربية الحديثة. وبذلك أصبح لنا نقد مصري ومقاييس أدبية مصرية، وحقًّا ظهر صراع حاد بين هذه المقاييس الجديدة والمقاييس القديمة، فكان هناك مَن يتشددون في التقيد بالقدماء، وأخذ ذلك شكل معارك حادة بين الرافعي وطه حسين من جهة، والرافعي والعقاد من جهة ثانية. على أن الرافعي حين نبحث فيه ونعرض آثاره على الدرس نجده يحاول التجديد، فقد حاول في مقالاته وكتبه أن يعبر عن معانٍ حديثة في العواطف وفي الجمال والحب والبغض، وكان يتعمق في هذه المعاني تعمقًا بعيدًا، فتسرب الغموض إلى بعض أساليبه مما جعل الكثرة من الشباب تنصرف عنه إلى خصومه المجددين الذين استطاعوا بثقافتهم العربية والغربية أن يعبروا عما في نفوسهم وعقولهم تعبيرًا حرًّا سهلًا، لا يتقيدون فيه بألفاظ القدماء وأساليبهم؛ وإنما يحتفظون بإطار لغوي عام، ثم يكيِّفون اللغة بعد ذلك بأشكال مختلفة، فتارة ينقلون إلينا بعض الأساليب الغربية، وتارة يخترعون بعض الأساليب اختراعًا.

والحق أن هؤلاء المجددين من أدبائنا أحدثوا في لغتنا مرونة واسعة، وقد أخذت جماعتهم تتكاثر؛ إذ أخذت تدخل فيها عناصر من الشباب الذي حذق اللغات الأجنبية، وفهم في وضوح الآداب العربية من مثل: توفيق الحكيم ومحمود تيمور وغيرهما، ممن أجبروا اللغة العربية وما فيها من صلابة على اللين والعذوبة. وعلى هذا النحو أصبحنا بين الحربين الأولى والثانية في هذا القرن نملك أدبًا جديدًا، وهو أدب لم يقف عند المقالة أو عند قصة ناقصة التأليف؛ بل أصبحت المقالة فيه أكثر غنًى وتنوعًا، سواء في السياسة أو في الأدب، وكتَبْنا قصصًا ومسرحيات كاملة التأليف، ففيها الحبكة وفيها العقدة، وفيها التسلسل الروائي الدقيق. وكل ذلك يعرض أدبًا مصريًّا جديدًا في لغة عربية فصيحة. وكان طبيعيًّا في هذه الحركة التي خَلقتْ لنا هذا الأدب المصري الخالص أن يدعو بعض نقادنا إلى تمصير أدبنا، وأن نتجه فيه اتجاهًا قوميًّا، وأبلى هيكل في هذا الاتجاه بلاء واسعًا، فقد نشر كثيرًا من المقالات فيه، وجمعها في كتابه "ثورة الأدب"، وفيها ذهب في صراحة إلى أنه ينبغي أن نلتمس مصادر أدبنا المصري الحديث في الأدب الفرعوني القديم، فندرس تاريخنا وأساطيرنا، ونستلهم منهما في أدبنا، ووضَع عدة قصص استوحى فيها تاريخ الفراعنة وأساطيرهم. ولكن هذا الاتجاه القومي لم ينجح، فإن أدباءنا اتجهوا اتجاهًا أوسع، أفادوا من هذا الاتجاه الذي دعا إليه هيكل؛ ولكنهم لم يقصروا أنفسهم عليه؛ بل بسطوها على تراثنا كله من فرعوني ومن عربي إسلامي، ونفس هيكل ابتغى فيما بعد الحياة الإسلامية الخالصة، واتخذ منها مصدرًا لأعماله الأدبية، وبدأ في ذلك بصاحب الرسالة الإسلامية، فكتب عنه كتابه "حياة محمد"، وتلاه بكتابين عن أبي بكر وعمر. وأكبر الظن أن مرجع ذلك إلى أسس هذه الحركة المجددة، فهي ليست حركة هادمة؛ وإنما هي حركة بانية، وهي تبنى على القديم العربي، تبنى عليه في اللغة إذ تحتفظ بإطارها العام، وتبنى عليه في الموضوع، فتدرس تاريخنا القديم، وتستوحي عناصره الإسلامية وغير الإسلامية، كما تدرس حياتنا

الحاضرة وتستوحي بيئاتها المختلفة. وهي في الوقت نفسه تدرس الآداب الأوربية دراسة عميقة، ولا تكتفي بدراستها؛ بل تحاول عرضها عرضًا حسنًا في العربية وتنقدها وتحللها تحليلًا واسعًا، كما تستوحيها وتستلهمها فيما تكتب وتُخْرج للناس. ونحن مهما صورنا من جهود من قاموا على هذه الحركة لن تبلغ من هذا التصوير كل ما نريد؛ لأن عملهم كان واسعًا إلى أبعد الحدود، ويكفي أنهم مرَّنوا لغتنا المصرية الحديثة على التعبير عن أغراضنا وحياتنا في سهولة وبساطة، وجعلوا لها شخصية متميزة؛ بحيث نستطيع أن نقول في غير مغالاة: إنه أصبح لنا أدب مصري، نبت في وطن مصري، على أيدي طائفة من المصريين.

تجديد شامل

4- تجديد شامل: لم تعد مقاييسنا في النقد هي المقاييس القديمة، فقد تطورت حياتنا الأدبية تطورًا واسعًا بفضل هذه الجماعة المجددة التي أتقنت الآداب العربية والأجنبية، واشتقت لنفسها مُثلًا أدبية جديدة تلائم ذوقنا المصري وحياتنا الحديثة التي كادت أن تتغير تغيرًا تامًّا، فلم نعد نعيش كما كان يعيش أسلافنا لا في حياتنا المادية ولا في حياتنا السياسية والعقلية. فقد أخذنا نرفع بقوة الحواجز التي كانت تفصلنا عن الغرب وحضارته، ولم نقف عند جوانب هذه الحضارة المعنوية؛ بل أخذنا نُقْبل قليلًا أو كثيرًا على جوانبها المادية، كلٌّ حسب قدرته وسَعَة يده. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لم يعد بين كثيرين من المصريين وبين الأوربيين؛ أي: فارق في المثل الأعلى للحياة المادية، فهم يعيشون على الطريقة الأوربية وما يشيع فيها من مرافق الحياة وأدوات زينتها ومظاهرها المختلفة. وطبعًا يصيب أهل المدن من ذلك أكثر مما يصيب أهل الريف؛ ولكن حتى هؤلاء يفيدون من تطور المواصلات ووسائلها الأوربية

من القطارات والسيارات. ومعنى ذلك: أن صورًا من حياتنا المادية القديمة تزول ويحل محلها صور غربية جديدة، ويتسع احتلال هذه الصور في حياة أهل المدن وبين الطبقات المثقفة. فحياتنا المادية قد تغيرت فعلًا تحت تأثير الحياة المادية الأوربية، وأصبحنا ندركها ونفهمها على أنحاء جديدة لم يعرفها الآباء والأسلاف إلا معرفة محدودة. وأعمق من ذلك ما حدث في حياتنا المعنوية، فقد أنشأنا البرلمان وأخذنا نعيش في سياستنا على الطريقة الأوربية الديمقراطية، فنشأت الأحزاب، كما أخذنا نعيش في قضائنا وفي اقتصادنا على النمط الأوربي. وكذلك الشأن في حياتنا العسكرية وأسلحتها ونظمها الحديثة؛ بل لا نغلو إذا قلنا: إن حياتنا المعنوية على اختلاف صورها ومظاهرها تجري عندنا الآن منذ نهاية الحرب الأولى في هذا القرن على الطريقة الغربية. وقل مثل هذا أو أكثر منه في حياتنا العقلية، فقد عملنا على نشر التعليم بين جميع الطبقات، وأنشأنا جامعة القاهرة، وفتحنا بجانبها ثلاث جامعات: جامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وجامعة أسيوط، ثم الجامعات الإقليمية. ولم نأخذ في هذا التعليم بمناهجنا الموروثة؛ بل تركناها إلى المناهج الغربية الحديثة، كما تركنا علمنا الموروث إلى العلم الغربي الحديث، وقام على ذلك صفوة من الأساتذة المصريين في الجامعات يعاونهم صفوة من العلماء الغربيين. وقد أقبلنا إقبالًا لا عهد لنا به على تعلم اللغات الأجنبية المختلفة، فنحن الآن لا نتعلم الإنجليزية أو الفرنسية فقط كما كان الشأن في أول القرن؛ بل أصبحنا نتعلم الألمانية والإيطالية والإسبانية، وأصبحنا ندخل إلى أوربا من جميع أبوابها ودروبها اللغوية، لا تمييز بين باب وباب ولا بين درب ودرب؛ بل لقد أصبح بين علمائنا من يحاضرون في الجامعات الأوربية والأمريكية، ويشاركون في التراث العقلي الإنساني مشاركة فعالة. وكل هذا معناه: أن حياتنا العقلية تطورت تطورًا واسعًا لم نألفه من قبل،

وهو تطور ملأ عقولنا ونفوسنا بصور جديدة دفعت أدبنا المصري دفعًا إلى ما يشبه الانقلاب، وتستطيع أن تعود إلى التيارين اللذين يؤلفان ثقافتنا وأدبنا، وهما: التيار العربي القديم والتيار الغربي الحديث؛ لترى مدى عملهما في حياتنا الأدبية. أما التيار الأول فقد أخذنا ننظمه ونخضعه لمناهج الأوربيين من المستشرقين الذين سبقونا إلى نشر تراثنا نشرًا علميًّا، وكانت تعوزهم الحاسة اللغوية الدقيقة، ولم نلبث أن اصطنعنا مناهجهم وأقبلنا على إحياء نصوصنا القديمة بسليقتنا العربية الموروثة، وأخذنا في نقدها وعرضها وتحليلها، وقرَّبناها من نفوس المثقفين وقلوبهم وعقولهم. وعلى هذا النحو أصبحنا نستغل هذا التيار القديم بأوسع مما استغله أسلافنا في القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، فقد تملَّكنا حياة القدماء من شعراء وكُتَّاب، وأصبحنا نحسها كما كانوا يحسونها، ونتأثر بها في حياتنا الأدبية تأثرًا عميقًا. أما التيار الغربي، فكان تأثيره في هذه الحياة أعمق وأعنف؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الجامعات المصرية نظمت حياتنا العقلية تنظيمًا واسعًا، فنشأت أجيال متخصصة في كل فرع من فروع العلم الغربي والأدب الغربي قديمه وحديثه. وأول ما نتج عن ذلك أن العربية أصبحت لسانًا لكثير من ألوان العلم الأوربي، وظهرت بيننا من العلماء طبقة تحسن التعبير العلمي، وتضيف إليه بفضل نمو التيار العربي إحسانًا واسعًا للتعبير الأدبي. وبذلك التحم عندنا الأدب بالعلم ولم يعد لشكوى سلامة موسى في مقاله ضد الرافعي موضع، فقد أصبح عندنا جيل من الأدباء يتخصص في العلم، فمنهم الطبيب مثل إبراهيم ناجي وأبي شادي وكامل حسين، والمهندس مثل علي محمود طه، والرياضي مثل علي مصطفى مشرفة، والكيميائي مثل أحمد زكي، والجغرافي مثل محمد عوض محمد. فلم يعد أدبنا منفصلًا عن الثقافة العلمية؛ بل أصبح يتعاون معها تعاونًا واسعًا. وقل مثل ذلك في القانون وفي الفلسفة، فقد خرَّجت كلية الحقوق غير

كاتب وخاصة في المجال السياسي والصحفي، وكذلك خرَّجت كلية الآداب غير متفلسف، وكنا في أول القرن لا نَحْظَى بمتفلسف سوى لطفي السيد الذي عُني بفلسفة أرسططاليس، أما اليوم فعندنا جمهور كبير لا يقف بدراسته عند أرسططاليس ولا عند الفلسفة اليونانية؛ بل يمد دراسته حتى تشمل كل الإنتاج الفلسفي الأوربي والأمريكي. وأخذنا نحيط إحاطة دقيقة بنظريات علم الاجتماع وعلم النفس الحديثة وما يقال في الشعور واللاشعور أو العقل الباطن. ولا يكتفي علماؤنا والمثقفون منا بالتأليف؛ بل يضيفون إلى ذلك ترجمة الفكر الغربي بجميع ألوانه وصوره. ويأخذ هذا العمل الخصب في ثقافتنا شكل سيول متدفقة، تنحدر إلينا من كل صوب. ويستوفي المجال الأدبي من ذلك حظوظًا واسعة، فقد أقبل أدباؤنا يترجمون عيون الأدب الغربي، وينقلون آثار القوم نقلًا واسعًا، وقلما فاتهم كاتب أو شاعر غربي دون أن ينقلوا بعض أعماله، وللرعيل الأول مثل: المازني وخليل مطران وطه حسين وأحمد حسن الزيات في ذلك جهد مشكور، وقد جاءت في إثرهم جهود واسعة قام بها الشباب الذي أتقن اللغات الأجنبية في جامعاتنا؛ إذ حملوا على عاتقهم هذا العبء وأدوه أداء يستحق الثناء، وإنهم ليتراءون في شكل صفوف تنقل من جميع اللغات الأوربية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، وكأنما تعهدوا ألا يتركوا أثرًا غربيًّا جليلًا دون أن ينقلوه. ولم يقفوا عند نقل آثار بعينها لأدباء الغرب، فقد نقلوا جوانب من تاريخ القوم الأدبي العام، وبسطوا مذاهبهم الأدبية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية إلى رمزية وسريالية وطبيعية. وتنهض معهم بهذا الجهد الخصب البلاد العربية وخاصة لبنان، فلها عمل واسع في هذا الاتجاه. على كل حال، أساغ شبابنا في هذه المرحلة الأخيرة من أدبنا الحديث الآداب الغربية وتمثلوها خير تمثيل وأذاعوها بيننا في صورها وفنونها المختلفة؛ بل لقد فتحوا لنا أبوابها على مصاريعها، ولم يعد بين أدبنا وآداب القوم أيُّ فاصل

أو حاجز، فقد طُمست وانمحت جميع الفواصل والحواجز، وكأنما كانت قائمة على أقواس وهمية. وعلى هذا النحو اتصلت حياتنا الأدبية بالآداب الغربية؛ بل أصبحت سلسلة من الاتصالات، وهي سلسلة أحكم حلقاتها الأولى هيكل وطه حسين والمازني والعقاد بما ترجموا ثم بما أنتجوا، فقد عُني كل منهم بأن يحدث نماذج أدبية مطابقة لنماذج الغربيين، ووجهوا عنايتهم إلى النموذج القصصي خاصة. وتبعهم الشباب الذي خضع في معيشته وتفكيره للحضارة الغربية ينوِّع في تأثره بنماذج الغربيين ويستحدث لنفسه نماذج جديدة في القصة والمسرحية وكل ما يلهج به الغرب من فنون على نحو ما هو معروف عند توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهم كثيرون ممن يجيدون هذا الفن القصصي إجادة رائعة. وبلغ من جودة ما أنتج هؤلاء الأدباء أن أخذت قصصهم تترجم إلى اللغات الأجنبية؛ بل لقد أخذت بعض المسرحيات تترجم وتمثَّل على مسارح الغرب على نحو ما نعرف عن بعض مسرحيات الحكيم التي مثلت في النمسا وإيطاليا وفرنسا. فلم نعد نأخذ من الغرب فقط؛ بل أصبحنا نأخذ ونعطي، وأصبحنا نُقرأ في اللغات الأجنبية. وبذلك تم الاتصال بيننا وبين الغرب، فلم يعد أدبنا منعزلًا يعيش وحده؛ بل أصبح أدبًا عالميًّا إنسانيًّا، وأصبح يسمو إلى مرتبة الآداب العالمية الحية الكبرى. ومن ثم لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن أدبنا المصري الحديث إنما يتم بمعناه الكامل بعد الحرب الأولى في هذا القرن. حقًّا سبقت مقدمات منذ أوائل القرن؛ ولكنها كانت خطوات في سبيل إيجاد هذا الأدب الذي تنوع في موضوعه كما تنوع في شكله وأساليبه. وحتى الآن لم نتحدث عن الصحف وأثرها في هذا الأدب المصري الجديد، ومعروف أن الصحافة نشطت عندنا بعد الحرب الأولى من هذا القرن نشاطًا واسعًا، وكلما مضينا مع السنين ازداد هذا النشاط واتسع من جميع الجهات، فمن حيث النوع ظهرت صحف يومية كثيرة ومجلات أسبوعية وشهرية لا حصر

لها، ومن حيث عدد المحررين زاد عددهم جدًّا، وخاصة في الصحف اليومية الكبيرة. وبعد أن كانت كثرتهم من أوساط المثقفين أصبح كثير منهم يحمل الشهادات العالية والجامعية. ومنذ نشأت الأحزاب أخذت الصحف تستكتب الأدباء حتى يقبل الجمهور على شرائها، ولم يكتب الأدباء في الأدب وحده؛ بل كتبوا في السياسة، ودخلوا في خصوماتها الحزبية، ونقلوا هذه الخصومات -كما قدمنا- إلى معارك في الأدب القديم والحديث. ومن هنا اتصلت الصحافة مباشرة بحركتنا الأدبية وتفاعلتا معًا، وتأثرت كل منهما بالأخرى تأثرًا واضحًا، أما الصحافة فإن دخول الأدباء فيها هذب لغتها ومكنها من التعبير السياسي الدقيق الذي يصور خوالج القارئين وعواطفهم السياسية. وأما الحركة الأدبية، فإنها أخذت تحاول التطابق والتلاؤم مع القراء حتى لا يسخطوا على الصحيفة ولا ينصرفوا عن قراءتها. ونتج عن ذلك أن أدباءنا أخذوا يبسِّطون أدبهم وييسِّرونه حتى يفهمه الجمهور، وأكثره من العامة التي لا ترتفع أفهامها، والتي لا تعرف العمق والصعوبة؛ وإنما تعرف اليسر والسهولة. ومن الطريف أن أدباءنا كانوا يعرضون على هذا الجمهور مقالات في الأدب العربي القديم وفي الأدب الغربي الحديث، وكانوا ما يزالون يبسِّطون في مقالاتهم؛ حتى يقتربوا من أذهان العامة، وحتى تفهم عنهم ما يقولون. ولم يكد الزمن يتقدم حتى بدا للعِيَان أن أدباءنا ينشئون لغة جديدة بين العربية والعامية، فيها فصاحة الأولى وجزالتها، وفيها سهولة الثانية وقربها من الأفهام. وعلى هذا النحو أثرت صحافتنا في لغة أدبنا الحديث؛ بل هي التي جددت هذه اللغة تحت تأثير الجمهور الذي تخاطبه، ومن ثم نشأت محاولات جديدة في تبسيط أساليبنا، ونجح أدباؤنا في هذا التبسيط إلى أقصى حد ممكن، فقد مرنوا اللغة القديمة التي كانت تبدو أساليبها وصيغها كأنها صخور ثابتة، وألانوها وأتاحوا لها نموًّا وسَعَة شديدة، وكادوا لا يبقون من الأساليب القديمة إلا ما صقله اللسان المصري، وشاع، وفهمته العامة.

وأتاحت الصحافة لهذه اللغة المصرية الجديدة أن تنتشر لا في مصر وحدها؛ بل في العالم العربي جميعه؛ إذ يقبل عليها الجمهور القارئ في البلاد العربية في الأردن ولبنان وسوريا والعراق والحجاز والسودان وبلاد المغرب. فأصبحت اللغة الأدبية المصرية هي اللغة الشائعة في البلاد العربية، وتفوقت على كل ما قابلها من لغات، وكان لذلك أثره في أن تصبح مصر زعيمة الشرق العربي، وأن يكون لها بين البلاد العربية مكانة ممتازة في الأدب والثقافة. وأقبلت البلاد العربية تقرأ لأدبائنا لا ما يكتبونه في الصحف فحسب؛ بل ما يكتبونه أيضًا في الكتب والآثار المختلفة. فلم يصبح أدبنا متاعًا خاصًّا بنا؛ بل أصبح متاعًا مشتركًا بينا وبين العالم العربي، وتبع ذلك شيوع لغتنا العلمية في هذه الديار التي أصبحت سوقًا كبيرة لكل ما ننتجه في الحياة الأدبية والعلمية. على أن الصحابة بين الحربين إن كانت قد أعطت أدبنا كل هذه المميزات، فإنها تجنت عليه من بعض الوجوه، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك أنها عملت على السرعة في إنتاجنا الأدبي، حتى أصبحت هذه السرعة من أهم خصائصه، وهي سرعة دفعت إلى السطحية في بعض جوانبه، ومرجعها إلى وقت الصحيفة التي تصدر فيه، فهي لا تستطيع الانتظار؛ بل لا بد للكاتب أن يسرع حتى تنشر مقالته في أول عدد، وقد قُيِّدت حريته الشخصية إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن يكتب ما يخالف رأي الصحيفة، وقيدت حريته الأدبية، فهو لا يستطيع أن يكتب كما يريد؛ بل له في الصحيفة نهر أو نهران، وليس له أن يزيد ولا أن ينقص سطورًا. ولم يتحكم رؤساء التحرير للصحف في السرعة وحدها ولا في الحرية الشخصية والأدبية وحدهما؛ بل تحكموا أيضًا في الموضوع، فليس للأديب أن يكتب في أي موضوع يشاء؛ بل عليه أن يكتب في الموضوعات المقترحة التي كان يفرضها قلم التحرير. وكان عليه أن يخفف أسلوبه حتى يكون أسلوبًا صحفيًّا، يفهمه الجمهور بدون عناء ولا مشقة.

وتدخل الإذاعة في حياة أدبائنا، وترافقها هذه الضرورات الصحفية، فالوقت محدود، والجمهور أكثره من الطبقات العامة؛ بل لعل الإذاعة تتقدم الصحافة في ذلك، فالصحف لا يقرؤها إلا من يحسنون القراءة، أما الإذاعة فيسمعها القارئون والأميون، وهي لذلك تحتاج تبسيطًا أوسع مما تحتاجه الصحافة. وكل هذا يحدث تغيرات جوهرية في أدبنا الحديث، وهي تغيرات لم يكن يعرفها أدبنا قبل هذه الحقبة الأخيرة؛ بحيث نستطيع أن نقول: إنه نشأ عندنا أدب صحافي وإذاعي لم يكن يعرفه أسلافنا، وهو أدب سريع ليس فيه عمق وليس فيه تأنٍّ ولا إبداع إلا ما يأتي عفوًا. ويتناول هذا الأدب جميع فنوننا الحديثة من مقالة وقصة ومسرحية، وكلها تطبع بطابع السرعة والمسافة القصيرة في الزمان والمكان. وينبغي ألا نعمم في أحكامنا، فإن بين أدبائنا طائفة ظلت تحاول الاحتفاظ بحريتها وجودة إنتاجها، قد تشترك في هذا الأدب السريع؛ ولكنها تحاول جاهدة أن تحتفظ له بقيم الفن السامية، وكأنها لا تريد أن تنزل إلى الجمهور؛ بل تريد أن ترفعه إليها مستهدية بمثل الفن العليا وغاياته الرفيعة من الخير والحق والجمال. وهذه الطائفة هي التي تحتل الصفوف الأولى في حياتنا الأدبية المعاصرة، وهي التي تمثل أدبنا المصري بمعناه التام، فهو أدب يُستقى من مصدرين: الأدب العربي القديم والأدب العربي الحديث، ويحيلهما غذاء عقليًّا وروحيًّا قد شقي أصحابه فيه، وأرَّقوا ليلهم في كتابته، وبذلوا فيه صفوة أيامهم وخلاصة حياتهم.

فنون مستحدثة

5- فنون مستحدثة: رأينا أدبنا يتطور تطورًا واسعًا بفضل الأضواء الغربية التي نفذت إليه، وبفضل تحوله من الطبقة الأرستقراطية، طبقة الملوك والأمراء ومن يلوذ بهم، إلى الطبقة الديمقراطية، طبقة الشعب على اختلاف درجاتها. وتحت تأثير هذا التطور عادت الخطابة السياسية إلى الازدهار ازدهارًا لعل العصور القديمة لم تعرفه، فإنها أخذت تستمد من معين الفكر الغربي الذي لا ينضب، وما وصل إليه من مبادئ في الحريات وفي الحقوق السياسية، كما أخذت تستمد من حياتنا وظروفها الماضية التعسة، ظروف الحكم السيئ والاحتلال البغيض. ولم يلبث أن ظهر عندنا خطباء سياسيون مفوَّهون مثل: مصطفى كامل وسعد زغلول. ثم أنشأنا الدستور القديم والأحزاب، ودعا كل حزب لنفسه، وظهر في كل حزب خطباء مختلفون يعدون بالعشرات، فكان ذلك كله سببًا في نمو هذا اللون من الخطابة السياسية وازدهاره. وأخذنا عن الغرب نظام القضاء الحديث، كما أخذنا عنه الخطابة القضائية؛ إذ وُجد نظام المحامين والمدعين العامين، وأصبحت محاكمنا مثل المحاكم الغربية ميدانًا واسعًا يجول فيه الخطباء من رجال القانون. وتعقدت القضايا، وتعقد هذا اللون من الخطابة، واشتهر فيه كثير من الخطباء القانونيين. وبجانب هذين اللونين نشطت الخطابة الاجتماعية التي تُلْقى في النوادي والحفلات العامة، وتتناول جوانب اجتماعية وإنسانية مختلفة. ففن الخطابة قد أصاب حظًّا واسعًا من الرقي في حياتنا الأدبية الحديثة؛ ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه فن استحدثناه وأوجدناه دون أصول سابقة، فقد كانت عندنا خطابة سياسية واجتماعية أو حفلية في العصرين الجاهلي والإسلامي، حقًّا ذبلت الخطابة في العصور التالية؛ ولكنا نَرِثُ منها على كل حال تراثًا قيمًا. وإذا كانت الخطابة -باستثناء الخطابة القضائية- ليست جديدة كل الجدة، فإن هناك فنونًا نثرية أخرى استحدثناها وأنشأناها إنشاء، مستلهمين في إنشائها أعمال الغرب وما أقامه -ويقيمه- فيها من نماذج مختلفة؛ وهي: المقالة والقصة والمسرحية.

المقالة: ونحن نعرف الآن أن المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن العرب يعرفون هذا القالب؛ إنما عرفوا قالبًا أطول منه، يأخذ شكل كتاب صغير، وهو يسمونه الرسالة مثل رسائل الجاحظ. ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم؛ بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التي خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين في عصورهم. أما المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة؛ وإنما تخاطب طبقات الأمة على اختلافها، وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها الطبقات الدنيا، وهي أيضًا لا تلتمس الزخرف اللفظي، حتى تكون قريبة من الشعب وذوقه الذي لا يتكلف الزينة، والذي يؤثر البساطة والجمال الفطري، ومن أجل ذلك لم يكد أدباؤنا يكثرون من كتابتها بالصحف في أواسط القرن الماضي -أو بعبارة أدق: في ثلثه الأخير- حتى اضطروا إلى أن ينبذوا لفائف البديع وثياب السجع وبهارجه الزائفة، التي كانت تثقل أساليب رفاعة الطهطاوي وتعوقها عن الحركة. وسُرعان ما وُجدت عندنا المقالة السياسية الطليقة من أغلال السجع والبديع، وأخذت تخاطب الناس من قريب، وتتحدث إليهم في شئونهم الوطنية، وجعلت تؤثر فيهم تأثيرًا قويًّا، كان من نتائجه قيام الثورة العرابية، ومن أجل ذلك حين حوكم زعماء هذه الثورة حوكم معهم كتاب المقالة حينئذ، فاختفى عبد الله نديم، ونُفي محمد عبده، وكان قد أُبعد جمال الدين الأفغاني، ولم يصبهم ما أصابهم من ذلك، إلا بسبب ما كتبوا من مقالات سياسية. وهي تغلب عليها النزعة الخطابية عند النديم؛ إذ كان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وهو يمسح عليها أحيانًا بسخرية مرة. وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية ماسحًا عليها بدعابة حلوة. وكان يسود مقالات محمد عبده ضرب

من الانفعال؛ ولكن في وقار ورصانة، وقد شفع مقالاته السياسية بمقالات إصلاحية في الدين والمجتمع الإسلامي، كتبها بقلم البصير الحاذق، محمسًا تارة، ودارسًا فاحصًا تارة ثانية. وأخذ هذا اللون من المقالات ينمو مع نمو عقلنا ويرقى مع رقيه، وبَوْنٌ واسع بين مقالات هذا الجيل الأول والجيل الذي تلاه في عصر الاحتلال، من مثل مصطفى كامل والشيخ علي يوسف ولطفي السيد، فقد بث هذا الجيل الثاني في المقالة السياسية حياة وقوة. ومما لا شك فيه أن أقوى شيء قاومنا به الاحتلال البريطاني هو مقالات مصطفى كامل في صحيفة "اللواء" التي شحذت عزائمنا لمناهضة الاحتلال ومصارعته، وهو بحق زعيم حركتنا القومية في عصره غير مدافَع؛ إذ كان شعلة وطنية متقدة، وكان خطيبًا مفوهًا وكاتبًا سياسيًّا لا يشق غباره، فانبرى يوقظ فينا وعينا القومي صائحًا في سمعنا وسمع العالم الأوربي كله صيحاته المدوية في الحرية والاستقلال والحياة الكريمة. وكان الشيخ علي يوسف في صحيفة "المؤيد" يدافع دفاعًا حارًّا بقلمه الرصين عن الإسلام والشرق موغرًا صدورنا على الإنجليز الغاشمين، بينما كان لطفي السيد في "الجريدة" يدعو إلى تربية الشعب تربية قويمة حتى ينتزع حقوقه من المعتدين الآثمين. وكان بجانبهم مصطفى لطفي المنفلوطي الذي اشتهر في مقالاته الاجتماعية بأسلوبه العاطفي الفريد، وببث معاني الرحمة والفضيلة ووصف بؤس البائسين. ولا نصل إلى الدورة الثالثة أو إلى الجيل الثالث الذي خلف هذا الجيل الثاني وهو الجيل الذي نشأ بعد الحرب الأولى في هذا القرن حتى تنشط المقالة السياسية عندنا نشاطًا واسعًا، وكان مما ضاعف هذا النشاط نشوء الأحزاب السياسية بعد تصريح 28 من فبراير 1922 وتعاركها عراكًا عنيفًا، ولعل خير من يمثل هذا الجيل: أمين الرافعي وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وعبد القادر حمزة وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، أولئك الذين كانوا يخلبون قلوبنا بمقالاتهم السياسية، وهي تختلف باختلاف شخصياتهم ومقدراتهم البيانية.

وكانت ترافق هذه المقالة السياسية منذ نشأتها المقالة الأدبية التي تتناول شئون الأدب والثقافة، ولم تلبث أن أُفْردت لها مجلات خاصة أسبوعية أو شهرية مثل: المقتطف والهلال، وعلى طول السنين في هذا القرن تنشأ مجلات مختلفة مثل: السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة. وكان لهذا النوع من المقالة تأثير واسع جدًّا في حياتنا الأدبية في مصر والبلاد العربية. ويمكن أن نلاحظ فيها نفس الدورات الثلاث التي لاحظناها في المقالة السياسية، فهي تنشأ في القرن الماضي نشأة ساذجة، ثم تأخذ في التطور، ولا نصل إلى الجيل الثاني حتى نراه يودع فيها ما قرأه عند الغربيين في الأخلاق والاجتماع وشئون الفكر المختلفة. وقد عُنيت المقتطف منذ ظهورها في أواخر القرن بالحركة العلمية عند الغربيين وتصوير نظرياتها للجمهور المصري الخاص والجمهور العربي العام. ولا نتقدم إلى الجيل الثالث -جيل هيكل والعقاد وطه حسين والمازني- حتى تصبح المقالة الأدبية أثرًا فنيًّا قيمًا حقًّا، فهي تمس القلوب وتثير العواطف، وقد اتسعوا بها إلى مباحث عميقة في الأدب والنقد والفنون الجميلة والنظريات الفلسفية والاجتماعية، مستهدين في ذلك بالمثل الإنسانية العليا مُثل الخير والحق والجمال. وسار في هذا الطريق غير كاتب من مثل توفيق الحكيم وغيره، ممن نقلوا إلينا في مقالاتهم روح الفكر الغربي ومذاهبه الاجتماعية والأدبية. ولم يدعوا مقالاتهم تفنى مع الصحف؛ بل جمعوها وطبعوها في كتب مختلفة حتى يتيحوا لها شيئًا من البقاء. ولا بد أن نشير هنا إلى مقالات مصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين الاجتماعية، وهي تمتاز عند أولهما باستبطان عقلي واسع ساعد عليه صممه المبكر، بينما تمتاز عند الثاني بمحصول فكري وافر ساعدت عليه ثقافته الواسعة، وهو فيها ينقد أحيانًا يعض جوانب المجتمع؛ ولكنه لا ينقدها في سخط عنيف، شأن الخطيب أو الواعظ، وإنما ينقدها في حديث هادئ ممتع.

القصة: ليست القصة جديدة على أدبنا كل الجدة، ففي الأدب الجاهلي قَصَصٌ كثير يدور على أيام العرب وحروبهم. وفي القرآن الكريم قصص مختلف عن الأنبياء ومن أرسلوا إليهم، وقد تُرْجم في العصر العباسي كثير من قصص الأمم الأجنبية، ومن أشهر ما ترجم حينئذ كتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ولكن يلاحظ أن القَصص العباسي وما خلفه من قَصَص عند الشعوب الإسلامية اتخذ اللغات العامية غالبًا لسانًا له، ولم يدخل منه في أدبها الكبير: الأدب العربي الفصيح سوى المقامات، وهي قصص قصيرة تصور مغامرات أديب متسول يخلب سامعيه بحضور بديهته وبلاغة عباراته. وفي الحق أن بديع الزمان مخترعها ومَن جاءوا بعده مثل الحريري لم يفكروا في صنع قصة حقيقية أو أقصوصة؛ إنما فكروا في غرض تعليمي هو جمع طوائف من الأساليب المنمقة الموشاة بزخرف السجع والبديع. وبذلك انقطع الطريق بين القصة الطويلة وبين العربية الفصيحة، فلم تدخلها؛ إنما دخلت في اللغات الدارجة، وشاركتْ لغتنا العامية في هذا النشاط؛ بل لقد سارعت إليه وحاولت أن تتفوق فيه. ويتضح ذلك من كثرة القصص المصرية في قصصنا الشعبي الوسيط، فقد ألفنا قصة عنترة وقصة الهلالية وقصة الظاهر بيبرس وذات الهمة وسيف بن ذي يزن وفيوز شاه. ومَصَّرنا ألف ليلة وليلة فكتبناها بعاميتنا، أو صُغْناها بها، وأضفنا إليها قصصًا جديدة مثل قصة علي الزيبق وأحمد الدنف. فكان لنا في العصور الوسطى قَصَصٌ شعبي، ولكن لم يكن لنا قصص فصيح. ولما اتصلنا بأوربا وأخذنا نتأثر بآدابها اتجه أدباؤنا إلى القصص الغربي، وحاولوا أن يترجموه، وكان رفاعة الطهطاوي هو الرائد لهذه الحركة، فترجم "مغامرات تليماك" لفنلون وسماها "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". ولعل في نفس العنوان وتغييره إلى هذه الصورة المسجوعة ما يدل على عمل رفاعة

في ترجمته، فإنه نقل القصة إلى أسلوب السجع والبديع المعروف في المقامات، ولم يتقيد بالأصل الذي ترجمه إلا من حيث روحه العامة، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف فيه. تَصَرَّفَ في أسماء الأعلام، وتصرف في المعاني، فأدخل فيها آراءه في التربية وفي نظام الحكم، كما أدخل الأمثال الشعبية والحِكَم العربية. فلم يكن رفاعة مترجمًا فحسب؛ بل كان ممصرًا للقصة، واستمر هذا التمصير طويلًا من بعده، حقًّا أخذ أدباؤنا يتحررون من لغة السجع والبديع، ومعنى ذلك: أنهم ملكوا من وسائل التعبير ما لم يكن يملكه رفاعة ومعاصروه؛ ولكنهم ظلوا يميلون إلى التمصير فيما يترجمون من قصص، حتى تقترب من ذوق القارئين؛ بل إن منهم من آثر التمصير إلى اللغة العامية مثل محمد عثمان جلال. ولكن الممصِّرين من أصحاب الفصحى هم الذين رجحت كفتهم، ومن أشهرهم في أوائل هذا القرن حافظ إبراهيم والمنفلوطي، وقد ترجم أولهما البؤساء لفيكتور هيجو، وبعبارة أدق: مصرها تمصيرًا، فإنه لم يحتفظ منها إلا بالخطوط الأساسية، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف في الترجمة وإضافة فقرات ليست في الأصل. وربما كان عمل المنفلوطي في التمصير أوسع من عمله، فإنه لم يكن يعرف شيئًا من اللغة الفرنسية؛ وإنما اعتمد على نفر قرءوا له بعض القصص مثل "بول وفرجيني"، وحاول أن يؤدي ما سمعه منهم في اللغة العربية، فكانت قصة "الفضيلة"، ومثلها القصص الأخرى التي نشرها، وكلها تكاد تفقد الصلة بالأصل، كما تفقد حبكته القصصية، فليس الغرض الأول القصص؛ وإنما الغرض تصوير الانفعالات العاطفية والاسترسال في أسلوب بليغ. على أننا لا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى يستجيب بعض أدبائنا إلى هذا الفن الغربي، ويحاولوا أن يحدثوا فيه نماذج لهم، وسبق أن تحدثنا عن محاولتين: محاولة في إطار المقامة هي حديث عيسى بن هشام، ومحاولة جديدة خالصة هي محاولة زينب لمحمد حسين هيكل، والمحاولة الثانية هي التي تعد بحق أول محاولة كاملة لنا في صنع قصة بالمعنى الغربي الحديث. وتلتها بعد سنوات محاولة

محمد تيمور تأليف مجموعة من الأقاصيص باسم "ما تراه العيون"، وهي أقاصيص قصيرة تمتاز بواقعيتها وبما تحمل من إحساس دقيق بالمفارقات، كما تمتاز بحبكتها القصصية. وقد كثر بعد الحرب الأولى من يكتبون الأقصوصة كتابة فنية بارعة، نذكر منهم محمود تيمور، كما نذكر محمود لاشين في مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، وهو يمتاز بروحه المصرية الصميمة وقدرته على رسم الشخوص وإحاطتها بإطار من الواقعية والفكاهة. أما القصة الاجتماعية الطويلة التي بدأها هيكل، فإنها خطت خطوات واسعة مع نهضتنا الأدبية بعد الحرب الأولى من القرن؛ إذ وُجد لها غير كاتب أصيل، وأصبح لكل كاتب فيها أسلوبه ومميزاته الشخصية التي ينفرد بها عن أقرانه. ومن أهم من لمعت أسماؤهم فيها طه حسين والمازني، وامتاز الأول بتصوير حياتنا المصرية في كثير من قصصه مثل: الأيام ودعاء الكروان وشجرة البؤس، وتناول قصة شهر زاد المعروفة في ألف ليلة وليلة وعرضها بأسلوبه البارع عرضًا طريفًا. أما المازني، فيُعْنَى في قصصه بالجانب النفسي في الرجل والمرأة، ويستمد من الحياة اليومية المصرية وتجاربها التي تعيها مخيلته، ويشفع ذلك بتحليل واسع لمجتمعنا وعاداته وعلاقات أهله وأمزجتهم وما يضطربون فيه من مشاعر وأحاسيس. وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي يستمده من كُتَّاب الغرب النفسيين، وتشيع عنده كما تشيع عندهم النظريات النفسية المعروفة من عُقَد وتعويض وما إلى ذلك، على نحو ما نرى في قصة "إبراهيم الكاتب" و"عود على بدء". وللعقاد قصة تسمى "سارة"، وهي تقترب من ذوق المازني، وإن كانت تمتاز بتحليل عقلي واسع، إلا أنها تمزج هذا التحليل بتحليل نفسي، وتسيطر على التحليلين جميعًا شخصية العقاد التي تبالغ في المنطق وفي إبراز الأسباب والنتائج. وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي في القصة يكاد يقف عند هذين الكاتبين، فالجيل التالي لهما يسير أكثر ما يسير في اتجاه هيكل وطه حسين الذي يعتمد

على التحليل الاجتماعي لا على التحليل النفسي، وفي مقدمة هذا الجيل توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ. أما توفيق الحكيم، فاعتمد في قصصه على بعض حوادث وتجارب رآها في حياته كما نرى في "يوميات نائب في الأرياف"، وحاول أن يتناول بعض مشاكلنا القومية الوطنية كما في "عودة الروح". وهو يطبع قصصه بطوابع إنسانية عامة، وإن كان يحاول في الوقت نفسه محاولة جادة أن يصور معالم الروح المصرية الشرقية. ويُعْنَى محمود تيمور في قصصه بعيوبنا الاجتماعية، وهو يلتقي بطه حسين وتوفيق الحكيم في كثير من قصصه؛ ولكن له أسلوبه وشخصيته المستقلة. أما نجيب محفوظ، فيُعْنَى بتصوير الطبقات الوسطى والشعبية وما تخضع له من الظروف المختلفة في البيئة والمجتمع مما ينتهي بها أحيانًا إلى الانحراف الاجتماعي أو الخلقي. وبجانب القصة الاجتماعية الطويلة وُجدت عندنا القصة التاريخية منذ مطالع هذا القرن، فقد ألف جورجي زيدان نيفًا وعشرين قصة تصور الأحداث العربية الكبرى، وهي ليست قصصًا بالمعنى الدقيق؛ إنما هي تاريخ قصصي، تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أن تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية. غير أننا لا نتقدم طويلًا بعد الحرب العالمية الأولى حتى تأخذ هذه القصة عندنا في النضج، وكان أول من أوفى بها على الغاية من الكمال الفني محمد فريد أبو حديد في قصته "زنوبيا"، وقد أتبعها بقصصه الأخرى: الملك الضليل والمهلهل ثم "جحا في جانبولاد". وهو في قصصه جميعًا يتقن البناء القصصي ورسم شخوصه والنفوذ إلى دخائلها وخباياها النفسية. ويلقانا في هذا المجال كثيرون مثل: علي الجارم ومحمد سعيد العريان ومحمد عوض محمد. ولا بد أن نشير هنا إلى أن سنوات الحرب الأخيرة أتاحت لفن القصة عندنا ازدهارًا واسعًا، فقد أُغْلق البحر الأبيض أمام أدبائنا، فلم تعد تَرِدُ إليهم القصص

الغربية، فعكفوا على أنفسهم أكثر مما كانوا يعكفون، فإذا هذا الفن ينضج على أيديهم نضجًا لا يعتمدون فيه على استيحاء أنماط غربية؛ إنما يعتمدون على أنفسهم وعلى بيئتهم المصرية العربية. وبذلك أصبح فنًّا عربيًّا متوطنًا في بيئتنا لا فنًّا غربيًّا نستورده ونقيس على أمثلته ونماذجه. وإذا كنا قد استطعنا قبل الحرب الأخيرة أن نسمي طائفة ممن لمعوا فيه، فإننا لا نستطيع الآن أن نحصيهم عدًّا؛ إذ وجد الشباب نفسه بعد ثورتنا المجيدة وأحس حياته وكل ما فيها من وقائع اجتماعية وأخذ يعبر عنها أقوى تعبير وأجمله في قصصه وأقاصيصه. وتبرز الآن أسماء كثيرة في عالم القصة والأقصوصة جميعًا، فقد أصبحت عندنا قصة مصرية فعلًا، وأصبح لنا قصاصون مصريون مبدعون، ولكل منهم أسلوبه ومنهجه وطريقته. وإذا كنا لاحظنا الميل الشديد إلى تمصير القصص الغربية قبل الحرب الأولى من هذا القرن، فإن هذا الميل انتهى وحل محله ذوق جديد من الترجمة الحرفية الدقيقة، وقد قامت دور نشر كثيرة على هذه الترجمة مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر ودار الهلال ودار المعارف وغير ذلك من هيآت ومؤسسات، وتضطلع وزارة التربية والتعليم بجهود خصبة في هذا الاتجاه. ومعنى ذلك: أنه أصبح في لغتنا قصص غربية حقيقية، وهي تعد بالمئات، كما أصبحت عندنا قصص مصرية حقيقية لا تقل عن السابقة جمالًا وروعة.

المسرحية

المسرحية: إذا كنا قد وجدنا للقصة في أدبنا الشعبي صورًا مختلفة، فإن المسرحية لم يكن لها عندنا أصول؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لم يوجد عندنا مسرح قديم، ولما نزلت الحملة الفرنسية بلادنا حملت فيما حملت إلينا المسرح الفرنسي، ولكن ما كان يمثَّل عليه من روايات مُثِّلَ بالفرنسية، فلم نتأثر به في حياتنا الأدبية؛ إنما يأتي هذا التأثر فيما بعد حين تنشأ فيما بيننا وبين الغرب العلاقات الأدبية، وهي لم تنشأ إلا منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ بل بعد مضي شطر غير قليل من النصف الثاني حين اعتلى أريكة مصر إسماعيل، فقد أخذنا نتأثر الحضارة الغربية ونمعن في هذا التأثر، فأنشئت دار الأوبرا ومُثلت فيها روايات غنائية إيطالية. وفي هذا التاريخ أنشأ يعقوب صنوع مسرحًا بالقاهرة مَثَّل عليه كثيرًا من المسرحيات المترجمة والتي ألفها، وقد أطلق عليه المصريون اسم "موليير مصر" لبراعته في التمثيل الهزلي وما يقترن به من نقد اجتماعي. ولم يكن يمثل باللغة العربية الفصحى؛ إنما كان يمثل بالعامية الدارجة، فمسرحه وتمثيلياته يخرجان عن دائرة أدبنا العربي الحديث. ولم تلبث الفِرَق التمثيلية السورية واللبنانية أن وفدت على ديارنا، وأنشأت لها مسارح في الإسكندرية ثم القاهرة. وكانت هذه الفرق تمثل روايات فرنسية مترجمة، بحيث تلائم النظارة، وبعبارة أدق: ممصرة؛ حتى يتذوقها الجمهور ويجد فيها متاعه. والتمصير يقل ويكثر حسب من يقوم به، فتستبدل الأسماء بأسماء مصرية، وقد تستبدل الحوادث نفسها، ولا مانع أحيانًا من استخدام الأسلوب المنمق بالسجع والشعر. وكأنما كانت الجهود موجهة أولًا لهذه الحركة من التمصير؛ حتى يستطيع هذا النبات الغريب أن يعيش في البيئة الجديدة. ولذلك كان التمصير في المسرحية أوسع جدًّا من التمصير في القصة؛ حتى لتنقطع العلاقة أحيانًا بينها وبين الأصل. وأسرف الممصِّرون في وضع الأشعار التي تُغَنَّى في المسرحيات؛ حتى يرضوا ذوق الجمهور الذي كان يعجب بالغناء وأناشيد الذكر والذي تعود الاستماع إلى الأوبرا الإيطالية. ومن هنا كان مسرحنا في القرن الماضي وشطر كبير من هذا القرن مزيجًا من التمثيل والغناء، وكان أصحاب هذا المسرح ينقلون غالبًا عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي عن راسين وكورني وموليير، ومرجع ذلك إلى السوريين واللبنانيين الذين تمصروا وقاموا بيننا بالتمثيل مثل سليم النقاش وأبي خليل القباني وإسكندر فرح؛ لأن ثقافتهم كانت غالبًا فرنسية، وكان

المصريون أنفسهم يقبلون على هذه الثقافة منذ أوائل القرن الماضي. ولم تمضِ مدة طويلة حتى أخذ المصريون يشاركون في هذا الفن الجديد، فاشتركوا أولًا مع الفرق السورية واللبنانية، ثم استقلوا وأنشئوا فرقًا مختلفة مثل فرقة عبد الله عكاشة وفرقة الشيخ سلامة حجازي المطرب المشهور، وقد وطَّد بقوة المسرح الغنائي، ومثل فرقة عزيز عيد، وقد عُني بالتمثيل الهزلي. ولا نتقدم طويلًا في هذا القرن العشرين حتى يعود جورج أبيض من باريس سنة 1910 بعد دراسته لفن التمثيل دراسة متقنة، وسرعان ما ألف فرقة مسرحية في سنة 1912، وأخذ يمثل على قواعد درامية سليمة. وفي نفس السنة كوَّن بعض الهواة "جمعية أنصار التمثيل"؛ لغرض إرسائه على أصوله الفنية الصحيحة، وكان ممن انضم إلى هذه الجمعة عبد الرحمن رشدي وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور. وينضم الشيخ سلامة حجازي إلى جورج أبيض ويؤلفان فرقة في سنة 1914 ظلت سنتين متواليتين. ونمضي في أثناء الحرب الأولى، فيؤلف عبد الرحمن رشدي فرقة مسرحية وإن لم تظل طويلًا، ويظهر نجيب الريحاني باستعراضاته الغنائية والهزلية ويبتكر شخصية "كشكش بك" عمدة كفر البلاص، ويؤلف حينًا مع عزيز عيد فرقة تُعْنَى بالمغناة القصيرة "الأوبريت". وكانت هذه الفرق جميعًا تعتمد على ما يترجم ويمصَّر لها من تمثيليات ومغنيات غربية، وأخذ بعض الهواة والمملثين يؤلفون مسرحيات عربية استمدوا فيها من قصص ألف ليلة وليلة وألوانها الخيالية ومن التاريخ العربي الإسلامي وصوره القومية، ومن الحب والعواطف والوجدانية مصورين مجتمعهم وما فيه من دعوات إصلاحية وحركات وطنية. وأكثر هذه الأعمال كان ضعيفًا؛ ولذلك لم يدخل في تراثنا الأدبي. على أنه ينبغي أن نقف قليلًا عند ثلاثة، حذقوا -بفضل ثقافتهم الغربية- فن التأليف المسرحي، وهم فرح أنطون وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور. وقد ألف أولهم في سنة 1913 "مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة" وهي مسرحية اجتماعية صور فيها عيوب مجتمعنا حينئذ، وما تسرب إليه من مساوئ الحضارة

الغربية ومفاسدها، وهي ضعيفة في بنائها المسرحي. غير أنه أتبعها في سنة 1914 بمسرحية تاريخية، هي مسرحية "السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم"، وهي قوية في تصميمها المسرحي وفي رسم شخوصها وتدفق الحوار وحيويته، وقد صوَّر فيها الصراع الحاد بين الشرق الشجاع المسلم والغرب المستعمر الماكر، ناثرًا خلال ذلك آراءه الاجتماعية والوطنية. أما إبراهيم رمزي، فبدأ منذ سنة 1892 يحاول صنع مسرحيات، غير أنه لم ينضج إلا بعد عودته من البعثة إلى إنجلترا وتوفره على دراسة هذا الفن ونقل بعض درره الأوربية. وربما كانت مسرحية "أبطال المنصورة" التي كتبها في سنة 1915 خير مسرحياته جميعًا، وهي مسرحية تاريخية عرض فيها صورة حية من البطولة المصرية في أثناء الحروب الصليبية عرضًا تمثيليًّا رائعًا. ونمضي فنلتقي بمحمد تيمور الذي تُوفي شابًّا في سنة 1921، وكان قد سافر بعد تخرجه من الحقوق إلى فرنسا فعكف على دراسة التمثيل. وعاد يحاول النهوض به، فكان يكتب فيه وينقد ويمثل، وما لبث أن ألف أربع مسرحيات؛ هي: مسرحية "العصفور في قفص" و"عبد الستار أفندي" و"الهاوية" و"العشرة الطيبة"، وهي وحدها التي اقتبسها عن مسرحية فرنسية، غير أنه مصَّرها، وجعل حوادثها تجري في عصر المماليك، ونقد فيها بعنف تصرفات الطبقة التركية. وقد راعى في مسرحياته أصول الفن التمثيلي مراعاة دقيقة، غير أنه كتبها بالعامية. وتضع الحرب العالمية الأولى في هذا القرن أوزارها، وينشط التمثيل الهزلي والغنائي، ويعود يوسف وهبي من إيطاليا، وينشئ فرقة استعراضية، ويقنعه عزيز عيد وزكي طليمات بإنشاء فرقة للدراما الرفيعة، وتنشأ فرقة رمسيس وتنشط بجانبها فرقة جورج أبيض، ويأخذ كثير من الكتاب في تأليف المسرحيات الاجتماعية، ويشتهر أنطون يزبك بمسرحياته العنيفة مثل "عاصفة في بيت" ومسرحية "الذبائح"، ويتخصص يوسف وهبي بتمثيل هذا النوع بينما ينشط نجيب الريحاني وعلي الكسار في التمثيل الهزلي. على أننا لا نصل إلى سنة 1928 حتى يصيب كل هذه الفرق ركود قاتل. وتنشئ الدولة في سنة 1934 الفرقة القومية

كما تنشئ المعهد العالي للتمثيل، غير أن الركود يظل جاثمًا على مسارحنا بسبب ظهور السينما. إلا ما كان من مسرح نجيب الريحاني. وتحاول ثورتنا المجيدة النهوض بالمسرح، فيعود ثانية إلى النشاط، وبذلك تُرَدُّ إليه قواه. وإذا تركنا المسرح إلى التأليف المسرحي وجدناه ينهض نهضة رائعة منذ العقد الرابع من هذا القرن؛ إذ ظهر توفيق الحكيم فوثب به وثبة لم يكن يحلم بها كل من سبقوه، فقد أرسى قواعده في النثر، كما أرسى هذه القواعد شوقي في الشعر، يسعفه في ذلك ثقافة إنسانية واسعة وثقافة مسرحية دقيقة، وتتزواج الثقافتان من روحه المصرية العربية، فإذا لمصر كاتب مسرحي من نوع إنساني بديع. وتَلْقَى مسرحياته رواجًا واسعًا لما تحتفظ به من أصول الفن المسرحي وما تحتوي من عناصره ومقوماته، فهي أعمال مسرحية تامة، لا يقلد فيها توفيق كاتبًا غربيًّا بعينه؛ بل يستمد من مواهبه ومن بيئته وروحه المصرية العربية. وحقًّا أنه يغلب على شخوصه التفكير الفلسفي التجريدي، ولكن هذا مذهبه، وهو يدل دلالة واضحة على رقي حياتنا العقلية، فقد أصبح لكتابنا أو لبعضهم على الأقل فلسفة تستهوي العقول والقلوب. وتعتمد فلسفة توفيق على الإيمان بقصور العقل والاتجاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين وأعماق نفوسهم. وأخذ هذا المجال المسرحي يجذب إليه كثيرين من الجيل الجامعي وغيره، ومن أهم من جذبهم إليه محمود تيمور، وكان يكتب مسرحياته أولًا بالعامية كأخيه محمد، ثم نقل من العامية إلى الفصحى بعض مسرحياته وأنشأ أخرى على اللسان الفصيح من أول الأمر، وهو في أكثر مسرحياته مثل قصصه يُعْنَى بالجوانب الاجتماعية في بيئته، ويمد هذه البيئة فتشتمل الريف وحياة الفلاحين. وقد يستمد في مسرحياته من التاريخ العربي. وهو دائمًا يمسح على عمله بتحليلات نفسية يصور فيها الطبيعة الإنسانية، ومن هنا كان صراع مسرحياته غالبًا يدور بين العقل والغريزة الباطنة.

وبجانب تيمور وتوفيق الحكيم تصنع محاولات كثيرة في هذا الفن المصري الحديث، وكثير منها يستحق الثناء لما يبذله فيه أصحابه من إبداع ومهارة. وعلى هذا النحو استطاعت مصر أن تحقق لنفسها نهضة أدبية رائعة، فإنها رفعت كل الحواجز التي كانت تفصل بينها وبين الآداب الكبرى في العالم، فأصبح لها أدب كبير فيه المقالة والقصة والمسرحية والشعر التمثيلي، وأصبح كثير من هذا الأدب يترجم إلى سائر اللغات.

الفصل الخامس: أعلام النثر

الفصل الخامس: أعلام النثر: 1- محمد عبده 1849-1905م: حياته وآثاره: وُلد محمد عبده في سنة 1849 في قرية "حصة شبشير" من قرى مديرية الغربية، ويقال: إن أباه هاجر إليها من بلدته الأصلية "محلة نصر"، وهي إحدى قرى مديرية البحيرة؛ وذلك فرارًا من ظلم الحكام حينئذ، ولم يلبث أن عاد إليها مع زوجته وابنه، وكان له زوجات غيرها وأبناء آخرون. ويظهر أنه كان من وجهاء قريته، يدل على ذلك مسلكه في تعليم ابنه، فإنه أحضر له معلمين في منزله علموه القراءة والكتابة، وحفظ على أيديهم القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه نشَّأه على ركوب الخيل وحب الفروسية. ولما بلغت سنه الثالثة عشرة حمله إلى بلدة طنطا إحدى مراكز التعليم الديني في هذا الوقت، فجود القرآن على بعض القراء المشهورين، ومكث في ذلك عامين، ثم انتظم في المعهد الديني بين طلابه، وظل فيه عامًا ونصف عام لم يفتح الله عليه فيهما بشيء. ولم يكن ذلك لغباء فيه، فقد كان فطنًا ذكيًّا؛ وإنما كان بسبب عقم التعليم الديني حينئذ في الأزهر وملحقاته بطنطا وغير طنطا، إذا انتهى هذا التعليم إلى طريقة ملتوية شديدة الالتواء، فيها يعقَّد كل شيء. وكان أول ما يدرس في النحو "شرح الكفراوي على متن الآجرومية"، وعبثًا حاول محمد عبده أن يفهم

شيئًا مما يقوله شيخه، فقد رآه يبدأ بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" البسيطة السهلة، فلا يفهمها كما هي؛ بل يثير مع الكفراوي شارح الكتاب بعض المشكلات حولها، فهي تعرب على تسعة أوجه، ويأخذ الشيخ في توجيه هذه الإعرابات قبل أن يعرف الطلاب شيئًا عن النحو وعن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف. وضاق محمد عبده بهذه الطريقة العقيمة في التعليم، ورجع إلى قريته، فزوجه أبوه، وحاول أن يرجعه إلى سيرته في التعليم الديني. وصدع لأمر أبيه وأعدَّ عدة الرحيل، ولكن بدلًا من أن يذهب إلى طنطا ذهب إلى أخوال أبيه، وكانوا يقيمون في قرية قريبة من قريته. وتصادف أن كان بينهم شخص يسمى "درويش خضر" تقلب في البلاد حتى وصل إلى ليبيا، وهناك تعرَّف على الشيخ السنوسي وتلقَّى عنه تعاليمه، وهي تلتقي إلى حد كبير مع تعاليم الوهابية. وأنس محمد عبده لهذا الخال المتصوف أو هذا الشيخ، وأخذ يقرأ معه بعض رسائل صوفية، وجد فيها القبس الذي كان يفتقده. وتبدل محمد عبده بتأثير هذا الشيخ من صبي عابث إلى فتى جاد، يحس إحساسًا عميقًا كأن عليه رسالة في الحياة: أن يَهْدي الناس إلى الطريق المستقيم في الدين. ورحل إلى طنطا، فتلقى على الشيوخ بها بعض الدروس، ولم يلبث أن تحول إلى الأزهر، يعب من علومه الدينية واللغوية. وفي نهاية كل عام كان يعود إلى بلدته، فيجد الشيخ درويش في انتظاره؛ لينفخ في روحه. وكان واسع الأفق، فكان يسأله: هل تعلمت المنطق؟ هل تعلمت الحساب والهندسة؟ وكان في الأزهر عالم عظيم من علمائه يسمى الشيخ حسن الطويل يُعْنَى بإلقاء محاضرات في الفلسفة والهيئة، فانتظم محمد عبده بين تلاميذه. وتصادف أن نزل مصر سنة 1871 السيد جمال الدين الأفغاني، يحمل في صدره وعلى لسانه دعوته للنهوض بالإسلام والمسلمين ضد الاستعمار والمستعمرين، وكانت مصر قد أخذت تتحرك، وأخذ الرأي العام فيها يتكون، وأخذ الناس يشعرون أن حقوقهم مسلوبة، سلبها إسماعيل وأسرته، وكانت مساوئ السياسة

المالية التي سار عليها هذا الحاكم أخذت تتضح للجميع، فقد فُرضت على البلاد الرقابة المالية والمراقبة الثنائية. لذلك كله بدأت الجذوة الوطنية تتقد في النفوس، وكان جمال الدين من أكبر من أمدوا نارها بالحطب الجزل من الخطب والمحاضرات في المقاهي وفي منزله. وكان يُلقي في هذه المحاضرات دروسًا في الكلام والتصوف والفلسفة الإسلامية، فتعرف عليه محمد عبده، وأعجب به جمال الدين إعجابًا شديدًا، حتى أصبح أهم مريديه. لقد كان مريدًا للشيخ درويش، فدفعه إلى اجتياز العقبات الأولى التي صادفته في أول تعلمه بطنطا، واليوم يصبح مريدًا لفيلسوف إسلامي كبير، يعد من حيث تأثيره في العالم الإسلامي في أثناء القرن الماضي في صف الأحرار العالميين؛ إذ لم يترك بلدًا إسلاميًّا حل فيه إلا ألقى في أرضه البذور لثورات وطنية عارمة على حكامه المستبدين الفاسدين. ويُعْجَبُ الفيلسوف الكبير -أو بعبارة أدق: الثائر الكبير- بالشيخ الصغير محمد عبده؛ إذ وجد فيه ذكاء نادرًا، وروحًا متحمسة للإصلاح في جميع الميادين السياسية والدينية والاجتماعية التي كان يصول فيها ويجول، ودفعه كغيره من تلاميذه ومريديه إلى الكتابة في هذه الشئون بالصحف؛ حتى يتنبه الناس ويفيقوا من غفلتهم وسباتهم الطويل. وكتب محمد عبده في صحيفة الأهرام، وكانت أسبوعية، فلفت الأنظار إليه وإلى آرائه الإصلاحية. وتخرج في الأزهر سنة 1877، فكان يلقي فيه بعض الدروس في المنطق والعقائد، وألف حينئذ حاشية على شرح لكتاب يسمى "العقائد العضدية"، وهي تدل على تضلعه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، ووالى مقالاته في الأهرام، وأخذ يدرس لطلابه كتاب "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ في بيته كتابًا مترجمًا في "تاريخ تمدن الممالك الأوربية". ثم عين مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم وللعربية في مدرسة الألسن، وكان يدرس في الأولى "مقدمة ابن خلدون". وتطورت الأمور فعُزِلَ إسماعيل، ورأت بطانة توفيق أن يخرج جمال الدين

الأفغاني من مصر لما يؤجج من ثورة في النفوس، وأُقيل محمد عبده من وظيفته لاتفاقه مع جمال الدين في مبادئه، وخاصة أنهما كانا يطالبان بالإصلاح السياسي. غير أن مقاليد الحكم تحولت إلى رياض "باشا" وكان يعطف على محمد عبده، فأسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" جريدة الحكومة الرسمية، فنهض بها مع طائفة من تلاميذه على رأسهم سعد زغلول، فلم يقف بها عند تقرير الوقائع والأخبار الحكومية؛ بل جعلها صحيفة إصلاحية تتناول بالنقد وزارات الحكومة، وتبث دعوات مختلفة إلى الحرية والبر بالفقراء والأعمال الخيرية وتطهير الإسلام من البدع والخرافات، كما تبث دعوات سياسية تهدف إلى خير الجماعة ومصلحتها الوطنية وقيام حكومة شورية. ولما قامت الثورة العرابية كان من المناهضين لها في أول الأمر لما كان يخشى من عواقبها؛ ولكنه لم يلبث -حين رأى التدخل الأجنبي لإحباطها- أن انضم إليها وأصبح من زعمائها. ويقال: إنه هو الذي وضع صيغة اليمين التي أقسمها ضباط الجيش على رفض هذا التدخل، وهو الذي تولى حَلِفَهم. ولما أخفقت الثورة حوكم مع زعمائها، فحُكم عليه بالنفي ثلاث سنين خارج القطر، فقصد إلى بيروت، وتصدَّر فيها للتدريس، إلا أن أستاذه جمال الدين استدعاه إلى باريس، فلبَّى دعوته. وهناك أصدرا في مارس سنة 1884 صحيفة "العروة الوثقى" وأخذ محمد عبده يطلق منها قذائفه السياسية والإصلاحية إلى مصر والأقطار الإسلامية، وأقضَّ ذلك مضاجع إنجلترا وفرنسا، فقضتا على الصحيفة بعد صدور بضعة أعداد منها. وعاد إلى بيروت كما عاد إلى التدريس، فشرح "مقامات بديع الزمان الهمذاني" و"نهج البلاغة" وألف رسالته المشهورة في "التوحيد" أو علم الكلام وأصوله، وتفسير جزء "عم" وشرح البصائر في المنطق. وتولى الوزارة رياض "باشا"، وكان يقدره حق قدره، فعمل على صدور العفو عنه، ويقال: إن الإنجليز عاونوه في ذلك، فعُفِي عنه وعاد إلى وطنه في سنة 1888، وتقلب في مناصب القضاء، حتى أصبح مستشارًا بمحكمة

الاستئناف، ثم عين مفتيًا للديار المصرية في سنة 1899، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. وأخذ بعد عودته يُعْنَى بالإصلاح الديني والاجتماعي، فكان يكتب في ذلك مقالات مختلفة بالمقتطف والأهرام والمنار "صحيفة تلميذه ومريده الشيخ رشيد رضا"، وكان يدرس للأزهريين وتلاميذه المختلفين كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". وألقى كثيرًا من المحاضرات في تفسير القرآن الكريم تفسيرًا يتمشى وروح العصر، وأطلق لنفسه في هذا التفسير حريتها، فلم يتقيد فيه بأحد من قبله. ومما يذكر له أنه حاول إصلاح الأزهر وطرق التعليم فيه وعمل على أن يجمع طلابه بين علوم الدين والعلوم العصرية، وأيضًا مما يذكر له عمله على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية إحياء الكتب العربية. وكانت قد هبَّت في أواخر القرن الماضي عاصفة من الغرب ضد الإسلام وتعاليمه، فوقف كثيرًا من مقالاته على تصحيح آراء القوم والرد عليها، ومقالاته ضد "هانوتو" معروفة. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه أكبر مصلح ديني عرفته الأمم الإسلامية في عصرها الحديث، فقد كان واسع الأفق بصيرًا بتعاليم الإسلام وغاياته السامية، وكان يدعو دعوة جريئة إلى تحرير الفكر من كل تقليد، وأن نفهم الدين على طريقة السلف في عصر الصحابة والتابعين الأولين قبل أن يظهر الخلاف بين المذاهب الإسلامية المختلفة. وكان يعجب بالمعتزلة وآرائهم؛ لأنه رآهم متحررين في أفكارهم. وقد دعا أيضًا إلى العلم الحديث، فالدين الصحيح لا يخالف العلم وحقائقه الثابتة؛ بل إنه يدعو إلى البحث في أسرار الكون واكتشاف قوانينه، وكان ذلك يُعَد في عصره ثورة على الدين ورجاله الذي رانَ عليهم غير قليل من الجمود. وكان بعد منفاه يهادن الإنجليز، مثله مثل كثير من المصريين الذين يئسوا من خروجهم، وربما كان ذلك زَلته الوحيدة؛ ولكن من غير شك كان ينشد الحرية الفكرية، وظل يجاهد من أجلها طوال حياته، وهو بحق

يعد في طليعة زعمائنا المصلحين، وخاصة في الدين، والملاءمة بينه وبين التقدم العقلي الحديث.

2- مقالاته: لعل محمد عبده خير مَن يصور لنا تطور نثرنا في القرن الماضي بتأثير الصحف والاطلاع على بعض آثار الغربيين، فإنه تعلم الفرنسية في منفاه، وكان قبل أن يُنْفَى كثير القراءة لما تُرجم في عصره من كتب مختلفة. وبدأ حياته الأدبية منذ أن كان طالبًا في الأزهر، فقد كتب في صحيفة الأهرام سنة 1876 مجموعة من المقالات. ومن يقرؤها يلاحظ أن دائرة اطلاعه متوسطة؛ بحكم ثقافته المحدودة. وليس ذلك فحسب، فإنه يكتب بلغة السجع المعروفة على نحو ما نرى في هذه القطعة من مقالة له عنوانها "الكتابة والقلم" يقول: "لما انتشر نوع الإنسان في أقطار الأرض، وبَعُد ما بينهم في الطول والعرض، مع ما بينهم من المعاملات، ومواثيق المعاقدات، احتاجوا إلى التخاطب في شئونهم، مع تنائي أمكنتهم، وتباعد أوطانهم، فكان لسانُ المرسِل إذ ذاك لسانَ البريد، وما يدرك هل حفظ ما يبدئ المرسل وما يعيد، وإن حفظ هل يقدر على تأدية ما يريد، بدون أن ينقص أو يزيد، أو يبعد الغريب أو يقرب البعيد. فكم من رسول أعقبه سيف مسلول، أو عنق مغلول، أو حرب تخمد الأنفالس، وتعمر الأرماس، ومع ذلك كان خلاف المرام، ورمية من غير رام ... فالتجئوا إلى استعمال رقم القلم، ووكلوا الأمر إليه فيما به يتكلم". وواضح أنه في هذا التاريخ لم يكن يملك وسائل الكتابة الطبيعية للتعبير عما في نفسه؛ لأن هذه الوسائل في ذلك الوقت لم يكن يملكها أحد من المصريين،

غير أن اتصاله بالكتب القديمة وبمثل مقدمة ابن خلدون التي كان يدرسها لطلاب دار العلوم نبهه إلى أن وراء هذه اللغة المعقدة الملتوية لغة سهلة مرنة على أداء المعاني بدون صعوبات السجع وما يتصل به. فلما وُكل إليه في سنة 1880 تحرير الوقائع المصرية لجأ مباشرة إلى الأسلوب المرسل الطبيعي الذي يؤدي المعاني بدون عناء. ولم يكتفِ بذلك؛ بل أخذ يعمل على نشر هذا الأسلوب بين تلاميذه الذين كانوا يكتبون معه من أمثال سعد زغلول، كما أخذ يشجع الصحف على احتذائه والضرب على قوالبه، وفي الوقت نفسه كان ينتقد من يكتبون فيها، ويطلب إلى أصحابها أن يختاروا من يحسن الكتابة بالأسلوب الجديد. وفتَح في الوقائع صفحات أدبية واجتماعية وسياسية، يكتب فيها هو وتلاميذه، وكأنه يريد أن يضع بين الكُتَّاب النموذج الأدبي الجديد الذي ينبغي أن يتوفروا عليه. وقد أخذ يرقى بلغة المخاطبات الرسمية في دواوين الحكومة بما ينشر منها على وجه صحيح، وكانوا في دواوين الحكومة يتخاطبون حينئذ "بضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رَثٍّ غير مفهوم، ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته". فتحريره الوقائع كان خطوة كبيرة في سبيل الرقي بلغة المخاطبات الحكومية وبلغة الصحافة، فقد خرج بها من أسلوب السجع والفواصل وأنواع الجناس والبديع إلى أسلوب مرسل حر، لا يضيق بالمعاني، ولا يضيق به القراء. وكان الإصلاح الاجتماعي هو المحور الذي يدور عليه ما يكتبه في الوقائع، فكان يدعو إلى تأسيس الجمعيات الخيرية، ويبحث في بعض مشاكل التعليم، وينتقد من يأخذون من المدنية الغربية بقشورها الإباحية، ويدعو إلى نبذ الخرافات في الدين والتعاون على مصالح المعيشة. ونراه -مع طلائع الثورة العرابية سنة 1881- يكتب ثلاث مقالات في الشورى ووجوب الأخذ بالنظام النيابي المعروف عند الغربيين، ومن قوله في أولى هذه المقالات: "معلوم أن الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحُكَّام ولا طريقة

معروفة للشورى عليهم، كما لم يمنع كيفية من كيفياتها الموجبة لبلوغ المراد منها. فالشورى واجب شرعي، وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين. فاختيار الطريق المعين باقٍ على الأصل من الإباحة والجواز كما هو القاعدة في كل ما لم يرد نص بنفيه أو إثباته. غير أنا إذا نظرنا إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو "كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يَفْرِقون رءوسهم، فسدل النبي ناصيته، ثم فَرَق بعد" نُدِبَ لنا أن نوافق في كيفية الشورى ومناصحة أولياء الأمر الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلًا عنا وأنشأت له نظامًا مخصوصًا، متى رأينا في الموافقة نفعًا ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، وإلا اخترنا من الكيفيات والهيئات ما يلائم مصالحنا ويطابق منافعنا ويثبِّت بيننا قواعد العدل وأركانه؛ بل وجب علينا إذا رأينا شكلًا من الأشكال مجلبة للعدل أن نتخذه ولا نعدل عنه إلى غيره، كيف وقد قال ابن قيم الجوزية ما معناه: إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين. فتألف من مجموع هذا أن الشورى واجبة، وأن طريقها مُناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها. على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوبًا شرعيًّا. ومن هنا تعلم أن نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى ونفورهم من الاستبداد ليس واردًا عليهم من طريق التقليد للأجانب ... بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشرع، ونفور عما منعه الدين، وقبحه العلماء، وشهدوا من آثاره المشئومة ما عرفوا به قبح سيرته ووخامة عقباه". وهذه القطعة من المقال تصور لك ما حدث من تطور في أسلوب محمد عبده، فقد أصبح أسلوبًا طبيعيًّا، وهو أسلوب يعتمد على جزالة اللفظ، بالضبط كما كان يعتمد أسلوب البارودي في الشعر على رصانة الكلمات

ومتانتها، وكأن ما حدث في الشعر حدث نظيره في النثر، فقد عادت اللغة إلى حريتها وطلاقتها، ولم تعد ترزح تحت معوقات السجع والبديع. وفي القطعة ما يدل على اتساع أفق محمد عبده، فهو يعرض مسألة الشورى، وأنها نظام عُرف عند الغربيين من المسيحيين عرضًا طريفًا من جهة الإسلام، وما جاء في نصوصه من إباحة الأخذ عن الأمم الأجنبية، ما دام فيما نأخذ مصلحة من مصالح الجماعة. ويقرر قاعدة كبرى هي جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. وما يزال يناقش المسألة حتى ينتهي إلى أن الشورى واجبة. وتتردد في المقال اصطلاحات الفقهاء من كلمات الأصل والجواز والندب والوجوب، وهذا طبيعي لكاتب أزهري يبحث المسألة من الوجهة الدينية. ونلقاه بعد ذلك في باريس على صفحات "العروة الوثقى" وقد اتسع تفكيره واشتعلت روحه، فهو ثائر ثورة عنيفة، يدعو إلى اتحاد المسلمين في بقاع الأرض ضد عدوان المستعمرين، ويحثهم على أن يلتزموا أصول دينهم ويدفعوا قوة الغرب الباطشة بقوة عزيمتهم وبما يتخذون من عُدة وسلاح. وأخذ يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع المدنية والفكر العصر الحديث. وحاول منذ نزوله في فرنسا أن يتعلم اللغة الفرنسية؛ ولكنه لم يتقنها إلا بعد عودته وبعد اشتغاله في مصر بالقضاء. وهو في هذه الفترة من حياته يحقق لنفسه ثقافة واسعة؛ فقد أمعن في قراءة الآداب الفرنسية، كما أمعن في قراءة آثارنا القديمة ذات الأسلوب الحر الطليق، وكوَّن لنفسه أسلوبًا قويًّا جزلًا، كثير المعاني والأفكار. ونراه يكتب مقالات ضافية في الرد على من يتهجمون على الإسلام مثل "هانوتو" الفرنسي وغيره، كما يكتب مقالات ورسائل في دعواته الإصلاحية، وخاصة في شئون الدين وتطيره من الخرافات. وكان يفسر القرآن الكريم فيحاول الوصل بين آياته وبين التقدم العقلي الحديث. والحق أنه كان مفكرًا من طراز ممتاز، وإليه يرجع الفضل في تأسيس حركة التجديد الديني الذي نرى آثارها اليوم في العالم الإسلامي جميعه؛ إذ كان يرى العودة إلى منابع الدين الأولى، كما كان يرى أن يتخلص رجال الدين من

التقليد، فالاجتهاد لم تغلق أبوابه. وعلى نحو ما كان مصلحًا في الدين كان مصلحًا في الأدب واللغة، فهو الذي أخرج كتاباتنا الصحفية من الدائرة البالية العتيقة دائرة السجع وما يرتبط به من أنواع البديع إلى دائرة الأسلوب الحر السليم. وكان على رأس من طوَّعوا هذا الأسلوب ومرنوه على تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة، فقد بسَّطه حتى يفهمه الجمهور، وافتن في طرق أدائه مبتعدًا عن الصيغ المتكلفة التي لم تكن تقبل سعة. ومعنى ذلك: أنه تطور بنثرنا من حيث الشكل والموضوع، فلم يعد يستخدم أسلوب البديع الضيق المليء بانحرافات الجناس وما يشبهه، وفي الوقت نفسه عبَّر بأسلوبه المرسل الجديد عن معانٍ عصرية، فيها أثر الفكر الغربي، وفيها أثر الفصل الزمني أو الفترة الزمنية التي عاشها في بيئته المصرية.

مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م

2- مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م: حياته وآثاره: وُلد مصطفى لطفي المنفلوطي سنة 1876 ببلدة منفلوط إحدى بلدان مديرية أسيوط لأسرة مصرية معروفة بالشرف والحسب. واختلف في أول حياته على عادة أضرابه من أبناء الريف إلى "الكُتَّاب" فحفظ القرآن الكريم، ولما يتجاوز الحادية عشرة من سنه. وأرسله أبوه إلى الأزهر؛ ليتم تعليمه فيه، وظل به عشر سنوات يدرس ويحصِّل، ولم يلبث حين وجد الشيخ محمد عبده يدرس للطلاب تفسير القرآن وكتابي عبد القاهر في البلاغة: "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" أن أعجب به، فلزم دروسه، وانصرف عن الأزهر وعلومه ورجاله. ويظهر

أنه ضاق بطريقة التعليم فيه، وتحول ذلك عنده إلى يأس، وسرعان ما وجد ما كان يطلبه عند محمد عبده، وقد تأثر تأثرًا قويًّا بتعاليمه. ولم يكن يطلب التعمق في الدين؛ وإنما كان يطلب الأدب، فأخذ يختلف إلى دروس محمد عبده كما أخذ يختلف إلى كتب القدماء ودواوينهم، فهو يقرأ في ابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان الهمذاني كما يقرأ في النقاد: الآمدي والباقلاني وعياض وغيرهم ممن تناولوا وصف الكلام الجيد، وممن وقفوا عند إعجاز القرآن وجمال أساليبه. وله كتاب يسمى "مختارات المنفلوطي" فيه منتخبات لمن سميناهم، ولكبار الشعراء من أمثال أبي تمام وابن الرومي وأبي العلاء. وكان له ذوق جيد يعرف به كيف ينتخب لنفسه أروع ما في الكتب ودواوين الشعر العباسية من قطع وقصائد أدبية رائعة، فعكف على ذلك كله كما عكف على كتابات أستاذه محمد عبده يعب منها وينهل كما يعب وينهل من آثار معاصريه المترجمة والمؤلفة. وبذلك هيأ نفسه ليكون صحفيًّا بارعًا، ولسنا نقصد صحافة الأخبار؛ وإنما نقصد صحافة المقال. ويقال: إنه أسف أسفًا شديدًا لموت محمد عبده، فرجع إلى بلدته ومكث بها عامين يكاتب صحيفة المؤيد، ثم عاد. وكان سعد زغلول معجبًا به، وتولى وزارة المعارف أو التربية والتعليم، فعينه محررًا عربيًّا لوزارته، وانتقل سعد إلى وزارة العدل، فنقله معه. ولكنه لم يظل في الوظيفة، فقد فُصل منها بعد خروج سعد من الوزارة، وظل يكتب في الصحف إلى أن قام البرلمان في سنة 1923 فعينه سعد رئيسًا لطائفة من الكُتَّاب في مجلس الشيوخ، ولم يمهله القدر؛ إذ سرعان ما لبَّى نداء ربه. وهذه هي حياته، وهي ليست حياة هنيئة، فقد كان يشقى في سبيل الحصول على ما يقيم به أوَده، وقد نظم وهو لا يزال طالبًا في الأزهر قصيدة في هجاء عباس، فحكم عليه بالسجن مدة عرف فيها مرارة السجون، وكان لذلك ولعدم توفيقه في حياته أثره في إحساسه بالبؤس والبؤساء وآلامهم.

وكانت مصر حينئذ ترزح تحت كابوس الاحتلال الإنجليزي، الذي كان يضيق الخناق على أبنائها، فكانوا يشعرون بغير قليل من اليأس والبؤس. والتأم في نفس المنفلوطي بؤس أمته ببؤس نفسه، فتحول بوقًا لهذا البؤس يبكي في كتاباته ويَئِن. ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فكانت ثقافته ضيقة؛ ولكنه عكف على المترجمات يقرأ فيها ويوسِّع آماد فكره بكل ما يستطيع من قوة. وكان فيه طموح، فرأى أن يترجم بعض القصص والمسرحيات الغربية، ولكن أنَّى له وهو لا يحسن الفرنسية ولا غيرها من اللغات الأوربية، إلا أن ذلك لم يقف دونه، فقد طلب إلى بعض أصدقائه أن يترجموا له بعض آثار القوم الأدبية، ينقلونها هم أولًا، ثم ينقلها هو إلى أسلوبه الرصين. ويظهر أنه عرَّفهم ما يريد؛ لأننا نجد ما يُتَرْجَمُ له من آثار المذهب الرومانسي الذي كان يُعْنَى أصحابه بالفضيلة والعدالة والانتصار للفقراء ونقد الأغنياء في أسلوب مليء بالانفعال العاطفي. وكانت طريقة المنفلوطي أن يأخذ ما تُرْجم له، ويمصِّره تمصيرًا، ويعطي لنفسه في ذلك حرية واسعة، حتى لكأنه يعيد كتابته وتأليفه من جديد، وهو تأليف يقوم على الاسترسال الإنشائي والانطلاق الوجداني والوعظ الأخلاقي. ومن القصص التي أعاد تأليفها على هذا النحو قصة بول وفرجيني لبرناردين دي سان بيير وسماها الفضيلة، وقصة ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون لألفونس كار وقصة الشاعر أوسيرانودي برجراك لأدمون روستان، وفي سبيل التاج لفرنسوا كوبيه. وبهذا الأسلوب من حرية التصرف والتحوير الواسع مصَّر طائفة من القصص القصيرة لبعض الكتاب الفرنسيين، ونشرها في كتابه "العبرات" بعد أن أضاف إليها بعض قصص من تأليفه، وجميعها قصص حزينة باكية. ومن غير شك أفسد هذه القصص الفرنسية بتمصيره؛ إذ أحالها عن أصلها، وكأنه ظن القصة مجموعة من المقالات في غير حبكة، ومن ثم أدخل في هذه القصص تغييرًا واسعًا وهو تغيير لم يستطع إحكامه؛ إذ كانت تنقصه موهبة القصاصين،

ويتضح ذلك في قصصه التي حاول أن يؤلفها إذ ينقصها الخيال والدقة في مراقبة أحداث الحياة وتجارب الأشخاص، كما أنه تنقصها طرافة المفاجأة. وإذا كان في هذه القصص شيء يعجب به القارئ فهو الأسلوب المصفى الذي يتميز به المنفلوطي، والذي أتاح لمقالاته أن تذيع وتنتشر في الناشئة من عصره إلى يومنا الحاضر، وقد جمعها وطبعها باسم النظرات.

النظرات: تقع النظرات في ثلاثة مجلدات، وهي مجموعة كبيرة من المقالات الاجتماعية نشرها المنفلوطي في أوائل القرن بصحيفة "المؤيد" التي كان يحررها الشيخ علي يوسف. وتمتاز هذه المقالات بميزتين أساسيتين: ميزة تتناول الشكل وميزة تتناول الموضوع، أما من حيث الشكل فإنها كتبت في أسلوب نقي خالص، ليس فيه شيء من العامية ولا من أساليب السجع الملتوية إلا ما يأتي عفوًا. فقد قرأ المنفلوطي واستوعب ما قرأه، ولم يكتفِ بأن يعيش على تقليد كاتب قديم بعينه مثل ابن المقفع أو الجاحظ أو بديع الزمان؛ بل حاول أن يكون له أسلوبه الخاص به، حقًّا تلمع في كتابته آثار القدماء، فقد تحس أحيانًا أنه يحتذي نثر الجاحظ أو نثر بديع الزمان؛ ولكن ما يحتذيه أو ما ينقله يدخل في كيان تعبيره؛ بحيث يصبح كأنه يُعاد خلقه من جديد. وذلك ما نسميه بشخصية الكاتب، فكل ما يكتبه يُطْبَعُ بطابعه، وكأنه عملة خاصة به، وهي ليست عملة مزيفة؛ وإنما هي عملة صحيحة تنبع من فكره وقلبه، وتعطيه سماته الخاصة به، فتقرؤه، ولا تلبث أن تقبل عليه؛ لأنك تجد عنده ما يحدث لذة فنية في نفسك؛ إذ يقدم لك أثرًا أدبيًّا حقيقيًّا يمس قلبك، ويثير عاطفتك. وهذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع، فقد اختار الحياة الاجتماعية

لبيئته، واتخذها ينبوعًا لأفكاره وتحول فيها بتأثير أستاذه محمد عبده إلى مصلح اجتماعي، فهو يردد آراء المصلحين من حوله، ويؤديها بلغته التي تأسر السامع وتَخْلُب لُبَّه. وارجع إلى النظرات فستراه يتحدث في عيوب المجتمع وما يشعر به من مساوئ الأخلاق مثل: القمار والرقص والخمر وسقوط الفتيان والفتيات، فيتساءل: أين الشرف وأين الفضيلة؟ ويحس أن بعض ذلك جاءنا من المدنية الغربية، فيصب عليها جام غضبه. ويدور بعينه في بيئته فيرى كثرة المصابين بعاهة الفقر والبؤس فيبكي ويستغيث. ويكتب في الغنى والفقر، ويدعو إلى الإحسان والبر بالضعيف العاجز ويصوِّر أكواخ الفقراء وما هم فيه من مهانة وذلة، ويدعو دعوة حارة إلى التمسك بالفضائل من مثل الوفاء، وينادي: الرحمة الرحمة! ومن قوله في مقال بهذا العنوان: "ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفئود1، فتبتسم سرورًا ببكائك واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في صحيفتك البيضاء أنك إنسان. إن السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق، وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان. ونحن أبناء الطبيعة فلنجارها في بكائها وأنينها. إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء والتي تشرح الصدور أشرف من التي تَبْقُرُ البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين مَن يحيي الميت ومن يميت الحي؟ إن الرحمة كلمة صغيرة؛ ولكن ما بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها والشمس في حقيقتها. وإذا وجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناءة. لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عارٍ ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في

_ 1 المفئود: المصاب في فؤاده من ألم ونحره.

المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام ... أيها الإنسان! ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها، فتؤثر الموت على الحياة. ارحم المرأة الساقطة لا تزيِّن لها خلالها ولا تشتر منها عرضها، علَّها تعجز عن أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به سالمًا إلا كسر بيتها. ارحم الزوجة أمَّ ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفة، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذِّب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته، فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحيَّن فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا، تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين ... أيها السعداء! أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". وواضح أن المنفلوطي لا يُعْنَى بموضوعه فحسب؛ بل هو يحاول أن يؤديه أداء فنيًّا يتخير فيه اللفظ، ويحاول أن يؤثر به في سمع القارئ ووجدانه. وهو في ذلك يتأثر بطريقة القدماء الذين كانوا يعنون بالجرس الموسيقي للكلام، وانتهت بهم هذه العناية إلى السجع. والمنفلوطي لا يسجع؛ ولكنه يُعْنَى عناية شديدة بموسيقى ألفاظه، وكأن الناس لا يقرءونه بأبصارهم في الصحف؛ بل هم يقرءونه أو يسمعونه بآذانهم على طريقة القدماء قبل أن تتحول القراءة من السمع إلى البصر. وهو يبدئ ويعيد في معانيه على طريقة الخطباء؛ بل هو يستعير منهم النداء بمثل أيها الإنسان. وترى عنده مثلهم التكرار في الكلمات مثل: ارحم، ارحم، كما ترى عنده كثرة الفواصل بين العبارات؛ إذ كثيرًا ما يقطع المعاني ويستأنفها. وقد يكون ذلك بسبب انفعالاته العاطفية، ونظن ظنًّا أنه يتأثر أسلوب الخطابة في عصره، عند مصطفى كامل وأضرابه.

وقد وقف وقفات طويلة عند الإسلام والمسلمين، فبكى ما هم فيه حينئذ من تأخر وانحطاط وانغماس في الشهوات والملذات، ورماهم بأنهم عطلوا الأحكام وعصوا أوامر الدين ونواهيه، وكأنه تحول إلى خطيب في مسجد، فهو يعظ، ويبالغ مبالغة تخرجه عن جادة الحقيقة. ويمثل ذلك موقفه من المدنية الغربية، فقد أساء الظن بها، ورد إليها معايب الشباب وانغماسهم في حمأة الرذيلة، وكأنه غاب عنه ما تحمل هذه المدنية من خير للإنسانية، ففيها الشر وفيها الخير، فيها ما ينبغي أن نرفضه وما ينبغي أن نأخذه. ومن المحقق أنه لم يكن منوع التفكير بسبب قصور ثقافته؛ إذ لم يطلع على آفاق جديدة، توسع ذهنه ومداركه. ولعل ذلك ما يهبط في عصرنا الحاضر بنظراته، فقد اتسعت معارفنا، ونمت صلتنا بالغرب؛ بل لقد تحول إلينا كثير من عيونه وذخائره النفيسة، وكثر بيننا من يطلعون على آثار القوم في لغتهم كما كثر بيننا من يحسنون التفكير والتغلغل فيه إلى أعماقه وخفياته. ومن هنا خَفَّت بين أدبائنا الحدة المنفلوطية لإرضاء العاطفة، فقد أصبحوا يطلبون في كتابتهم إرضاء الذهن بغذاء عقلي خصب. وما أشبه أدب المنفلوطي في عباراته الرصينة المنغمة بالآنية المزخرفة؛ ولكنها آنية قلما حملت غذاء للذهن والفكر، ونحن نطلب اليوم الغذاء الفكري بأكثر مما نطلب الوسائل التي تؤديه، ولعل هذا ما جعل المازني يحمل عليه في كتاب "الديوان" غير أنه يقسو في حملته. ومن الواجب أن نقيس الأديب بمقاييس عصره، وأن نحكم عليه بظروف بيئته، وألا ننتقل به إلى عصر تالٍ نستمد منه مقاييسنا عليه، والمنفلوطي من هذه الناحية أدَّى لمصر في أوائل القرن وإلى الحرب العالمية الأولى آثارًا أدبية بارعة، وكانت هذه الآثار المثل الأعلى للشباب في إنشائهم وفي صَقْل أساليبهم. وفي النظرات جولات في النقد الأدبي إلا أنها غير عميقة، وليس فيها تحليل واسع لضيق ثقافته، وفيها مراثٍ لطائفة من الأدباء وربما كان خيرها مرثيته لابنه، وفيها يقول متأثرًا لما سقاه من الدواء، والموت يقتطع

الحياة من بين جنبيه قطعة قطعة: "لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكِلَ إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي في يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشمك إياها، فلقد أصبحت أعتقد أنني كنت عونًا للقضاء عليك، وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمر مذاقًا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها في يدي". والمقالة جميعها على هذا النحو المؤثر الذي كان المنفلوطي يتقنه. ودائمًا تجد عنده هذا اللفظ الجزل الرصين، الذي كان يحرص فيه على أن تسيغه الأذن بما يحمل من هذه الموسيقى العذبة التي تؤثر في النفس، وتحدث في الذهن تلك اللذة الفنية، التي نطلبها في الآثار الأدبية.

محمد المويلحي 1858-1930م

3- محمد المويلحي 1858-1930م: أ- حياته وآثاره: وُلد محمد المويلحي في القاهرة سنة 1858 لأسرة ثرية تأخذ بحظها من الثقافة، فهو حفيد سر التجار في عهد محمد علي. وكان أبوه إبراهيم يشتغل بالتجارة، إلا أنه كان يجد في نفسه ميلًا شديدًا إلى الأدب، فعكف على قراءة عيونه، وصحب كبار الأدباء في عصره، وتتلمذ لجمال الدين الأفغاني مع مَن تتلمذوا عليه. وكان يحذق الفرنسية والتركية، كما كان يحذق العربية. ولم يلبث أن اشتغل بالصحافة؛ فأخرج مع محمد عثمان جلال صحيفة "نزهة الأفكار" إلا أنها لم تستمر طويلًا. ونراه بعدها قريبًا من الخديو إسماعيل فيعيَّن عضوًا في مجلس الاستئناف، ولما نُفي الخديو إلى إيطاليا صحبه مدة من الزمن، ثم نزل في الآستانة، فأُكْرم هناك، وجُعل عضوًا في مجلس المعارف. وعاد مع أواخر القرن إلى مصر، فأخرج مجلة "مصباح الشرق"

وكانت أهم مجلة أدبية عندنا إلى أن تُوفي سنة 1906. وإنما قدمنا هذه المقدمة لندل على أن محمدًا نشأ في بيت ثراء وأدب، وقد ألحقه أبوه بمدرسة الأنجال التي كان يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان في الوقت نفسه يدرس في الأزهر ليتقن اللغة العربية، كما كان يختلف إلى دروس جمال الدين ومحمد عبده، ووجد في أبيه أستاذًا أصيلًا تلقى عنه أصول الأدب علمًا وعملًا. ووظفه أبوه في دواوين الحكومة، غير أنه اشترك في ثورة عرابي، ففُصل من وظيفته بعد إخفاق الثورة. ونراه يخرج من مصر إلى أبيه في إيطاليا، ويستدعيه جمال الدين إلى باريس؛ ليساعده في إخراج صحيفة "العروة الوثقى" ويلبِّي دعوته. وتسنح له الفرصة ليتقن الفرنسية ويصادق بعض أدباء فرنسا من مثل "إسكندر ديماس الصغير". ويقال: إنه تعلم -وهو مع أبيه- الإيطالية وبعض مبادئ اللغة اللاتينية. ويمضي في إيطاليا وفرنسا ثلاث سنوات، ثم يبرحهما إلى الآستانة قبل نزول أبيه بها، ويشتغل بإخراج رسالة الغفران لأبي العلاء وغيرها من الكتب. ويعود إلى القاهرة، فيشترك في تحرير الأهرام والمؤيد والمقطم. ويعود أبوه ويُخرج مجلة "مصباح الشرق" فيعاونه فيها، وينشر بها قصته "حديث عيسى بن هشام" في حلقات متتابعة، ويجمع هذه الحلقات ويذيعها سنة 1906. ونراه يعين مديرًا للأوقاف في سنة 1910، وهو مع ذلك يحرِّر صحيفة "المقطم" ويكتب مقالات مختلفة في شئون السياسة والاجتماع في روح ثائرة ضد الاحتلال، وألف كتابًا سماه "أدب النفس" وهو رسائل في الأخلاق وشئون الحياة، وما زال يتابع هذه الكتابات حتى توفي سنة 1930. ومع ثقافته الواسعة بالآداب الفرنسية كان محافظًا شديد المحافظة. وتتضح هذه المحافظة في سلسلة مقالات نشرها في "مصباح الشرق" حين أخرج شوقي ديوانه الأول سنة 1898، وزعم في مقدمته أنه سيحاول التجديد على ضوء ما قرأ في الآداب الغربية، وأشاد بشعر الطبيعة عند القوم. وتساءل المويلحي في مقالاته: ما الجديد الذي يريد شوقي إدخاله إلى العربية؟ وقال له: إنك تنظم

بهذه اللغة فلا بد أن ترجع في ألفاظك إليها لأنك تتحدث بها، وقد قرأنا مثلك في الآداب الغربية، فلم نجد للقوم معاني يتفوقون بها على الشرقيين؛ بل إننا معشر الشرقيين نفوقهم في المعاني، وحتى موضوعات شعرهم التي تتغنَّى بها مثل "الطبيعة" للعرب فيها كثير، وما على الشاعر المجدد من أمثالك إلا أن يتصفح دواوين القدماء، فيجد فيها -لا في الغرب- ضالته التي ينشدها. ونظن ظنًّا أن هذا النقد الخاطئ كان له أثر سيئ في شوقي، فإنه شك في الجديد الذي جاء به، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي رده إلى معارضة الشعراء القدماء؛ ليثبت تفوقه عليهم، وليقتنع محمد المويلحي وأضرابه من المحافظين بأنه لا يقل عنهم إبداعًا ومهارة.

ب- حديث عيسى بن هشام: رأينا محمد المويلحي رغم ثقافته بالآداب الغربية محافظًا شديد المحافظة، ومع ذلك حاول أن يدخل القصة المعروفة عند الغربيين في مجال أدبنا الحديث؛ ولكن كيف يدخلها؟ هل يدخلها بصورتها الغربية أو يبحث عن صورة عربية يقدمها فيها؟ ولم نكن حتى هذا التاريخ قد صنعنا محاولات قصصية سوى "علم الدين" لعلي مبارك، وهي رحلة تقع في أربعة أجزاء، قام بها الشيخ علم الدين مع مستشرق إنجليزي، فطافا معًا بجوانب الحياة المصرية ثم رحلا إلى بلاد الإنجليز. وصور علي مبارك مشاهداتهما هنا وهناك. وقد وُضعت الرحلة في شكل مسامرات بلغت خمسًا وعشرين ومائة. وفيها يصف الكاتب حياة الشيخ علم الدين في الأزهر كما يصف حياتنا في حفلات الزواج، وفي المواسم والأعياد، ويلم بحياة الإنجليز. وفي أثناء ذلك تُنْثَر فوائد متفرقة في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الكون والخليقة. وربما استلهم علي مبارك في هذه الرحلة كتاب "إميل" للكاتب الفرنسي جان جاك روسو؛ إذ أجرى على لسانه آراءه وأفكاره.

وقد اختار لرحلته الأسلوب المسجوع. كان هذا هو المثال الوحيد أمام المويلحي، فرأى أن ينتفع به في قصته؛ ولكن مع هدف جديد، فإن رحلة علي مبارك كُتبت قبل عصر الاحتلال، ولم تكن قد برزت مشاكلنا الاجتماعية على ألسنة المصلحين من مثل: محمد عبده وقاسم أمين، وأيضًا لم نكن قد اندفعنا اندفاعًا شديدًا في تقليد الحضارة الغربية المادية، فقد أخذ الاتصال بيننا وبين أوربا يشتد بعد الاحتلال، وأخذ كثيرون منا يقلدون الغربيين حتى في العادات بدون ملاحظة ما بيننا وبين القوم من أسوار فاصلة في المشارب والأذواق. وإذن فليتغير هدف القصة، فلا يكون تعليميًّا كما هو الشأن في "علم الدين"؛ بل يكون إصلاحيًّا في ضوء ما يكتبه المصلحون من أمثال: النديم وقاسم أمين ومحمد عبده، وفي ضوء ما يُكْتَب عن تطرفنا في استيراد المدنية الغربية. ولكن كيف توضع هذه القصة وفي أي إطار؟ إن المويلحي محافظ، وقد رأيناه يأخذ على شوقي محاولته التجديد على أسس النماذج الغربية، فليبحث لقصته عن إطار عربي خالص، حتى لا يخرج على ذوقه ولا على ذوق أمثاله من المحافظين المتعصبين الذين يأبون محاكاة النماذج الأدبية الغربية. وفكر في ذلك طويلًا، وسرعان ما هداه تفكيره إلى إطار المقامة الذي صنعه بديع الزمان، وهو إطار يقوم على راوٍ يسمى عيسى بن هشام، يصف طائفة من الحِيَل لأديب متسول يسمى أبا الفتح الإسكندري، وكل حيلة تسمى مقامة، وفي كل مقامة يظهر هذا الأديب براعته البيانية بما يصوغ من أسلوب مسجوع، كان يعد تُحْفَة التحف في عصورنا الوسطى. ورأى المويلحي أن يتخذ لقصته هذا الإطار. فراوي قصته هو نفس راوي مقامات بديع الزمان؛ ولذلك سماها حديث عيسى بن هشام؛ ولكن بطل بديع الزمان أديب متسول، فهل يكون بطل المويلحي على نمطه أديبًا متسولًا؟ لقد رأى أنه إن صنع ذلك لن تتاح له الفرصة لكي يُلم بما يريد من موضوعات اجتماعية، وفكَّر، وهداه تفكيره إلى أن يتخذ بطله من جيل سابق لجيله،

مستلهمًا في ذلك قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم، وما تشير إليه من أن سبعة دخلوا أحد الكهوف فماتوا، وظلوا في موتهم ثلاثمائة سنة وازدادو تسعًا، ثم بُعثوا من رقادهم، فكانوا معجزة خارقة في مدينتهم. فألهمت هذه القصة المويلحي أن يختار بطل قصته أحمد "باشا" المنيكلي ناظر الجهادية الذي تُوفي سنة 1850. فبينما كان عيسى بن هشام يطوف بالمقابر في ليلة قمراء مستعبرًا مفكرًا في سُنَّة الموت والحياة إذا به يخرج عليه من أحد القبور هذا الدفين، ويكون بينهما حوار يعرف منه عيسى بن هشام حقيقته وهويته. ويعود معه إلى القاهرة، ويرافقه في رحلة كبرى بعالم الأحياء المصري في فترة الاحتلال. ويلاحظ المنيكلي أن كل شيء قد تغير في هذا العالم بالقياس إلى ما كان في عصره زمن محمد علي، فقد أصبح المصريون يعيشون في عالم جديد، هو خليط من نظم تقليدية ونظم غربية، وهو عالم مليء بالعيوب الخلقية والاجتماعية. وتتوالى علينا مشاهد القصة، فمن وصف للمُكارين إلى وصف لرجال الشرطة ووصف للمحاكم على اختلاف أنواعها، ومن وصف لحياة الحكام والتجار والأغنياء ومباذلهم إلى وصف لدور اللهو والتمثيل، وفي أثناء ذلك يوصَف ما في الحياة الحديثة من تقدم في العمران وفي العلم وخاصة الطب. ويكاد الإنسان يظن أن المويلحي لم يترك جانبًا من حياتنا حينئذ إلا تناوله بالوصف والنقد، ويسوق ذلك في سخرية مرة تصور ضعف المصريين وانقيادهم لأهوائهم وملذاتهم. والمويلحي يرسم في تضاعيف ذلك بعض الشخصيات رسمًا بارعًا، ومن بديع رسومه رسم "العمدة" الذي يُبْرز فيه ثراءه وغفلته حين ينزل القاهرة، فيُلم به بعض السماسرة وبعض القوَّادين، ويُغْوونه، ويخدعونه عن ماله وشرفه، فإذا هو يسقط سقوطًا مزريًا في ملذاته. وبنفس البراعة والمهارة في رسم الشخصيات وتحليل طباعها يرسم "المحامي الشرعي" الذي قصده المنيكلي مع عيسى للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى على هذا النحو:

المحامي: قولا لي ما حقكم فيه الوقف؟ وما شرط الواقف؟ وكم يقدر ثمن العين لتقدر قيمة الأتعاب بحسبه؟ عيسى بن هشام: إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائق، فوضع سواه عليه يده، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد. المحامي: سألتك: ما قيمة العين؟ عيسى بن هشام: لست أدري على التحقيق؛ ولكنها تبلغ الألوف. المحامي: لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات. عيسى بن هشام: لا تَشْطُطْ أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق. غلام المحامي: وهل ينفع في رفع الدعوى اعتذار بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا شغل له "اشتراكات" ولكتبته والمحضرين "تطلعات"؟ وأنَّى لكما بمثل مولانا الشيخ، يضمن ربح الدعوى وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه؟ وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم واستجلاب عناية القضاة؟ عيسى بن هشام: دونك هذه الدراهم التي معنا، فخذها الآن ونكتب لك صكًّا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمونًا لديك على كل حال. المحامي -بعد أن استلم الدراهم بعدِّها: أنا أقبل منك هذا العدد القليل الآن ابتغاء ما ادَّخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين. وعليك بشاهدين للتوكيل. ويستمر الحوار على هذا النحو، فنطَّلع منه على طباع المحامين الشرعيين وجشعهم وطرق احتيالهم. ولم يسجع المويلحي في هذه القطعة؛ ولكن هذا إنما يأتي شذوذًا، فالأصل في الكتاب كله السجع على طريقة المقامات. وهو

يمضي فيصف المحكمة الشرعية حين وصلها عيسى بن هشام مع صاحبه على هذا النمط: "ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا: لمن هذي الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكُتَّاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب. ونحونا نَحْوَ الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شبحًا حنتْ ظهرَه السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولَجَّ به الخرف والسقم. وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء. ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس، مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويُبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان ويتساقطون على الأرض. وما زلنا نزاحم على الصعود في الدَّرَج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى منَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق". وواضح أن هذا الوصف يعتمد إلى حد ما على محاولة الإغراب باللفظ الفصيح والسجع، وكأن المويلحي يحتال للمواقف، حتى يعرض مهارته البيانية على طريقة بديع الزمان والحريري في مقاماتهما، وله في ذلك طرائف كأن يصف روضًا من الرياض أو يصف الأهرام أو يصف الصباح، وفيه يقول: "جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها، وبان أثر الوضح في جلدها، فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم، من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يديها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها. وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء،

ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردِّد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل، نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدَّل النحيبُ بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار". والمويلحي في مثل هذا الوصف إنما يحاول صنع قطعة أدبية على الطريقة القديمة، التي كان يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصفون، وكأنه يصف كل صباح لا صباحًا بعينه شاهده وأثَّر في نفسه تأثيرًا خاصًّا، فأفرده بالوصف والتصوير. غير أن هذه القطع تمتد في حوار طويل بين المنيكلي وعيسى بن هشام أو بين أحدهما وبعض شخصيات القصة أو بين الشخصيات نفسها. ومن الحق أنه وسَّع جنبات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع؛ تأثر فيه بطريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور والشخصيات تصوَّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة. ومن حين إلى حين نشاهد ضروبًا من الصراع كما نشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها يستمد من الواقع المحلِّي ونُظُم بيئته المصرية، إلا أن ذلك كله وُضع في إطار المقامة الضيق بسجعه. ومع ذلك استطاع المويلحي أن يكتب في هذا الإطار نحو ثلاثمائة وسبعين صحيفة. وفي الطبعة الرابعة للكتاب أضاف إلى رحلة المنيكلي وعيسى بن هشام في عالم الأحياء المصري رحلة ثانية إلى باريس؛ ليشاهد المنيكلي معالم المدنية في الغرب وليرى بعض معارضها. ويعودان إلى مصر وقد اقتنع المنيكلي بأن المدنية الغربية ليست شرًّا خالصًا، وأنه لا بأس من أن نستمد منها؛ ولكن على أن يوافق ما نستمده تقاليدنا وطباعنا وأمزجتنا وروحنا الشرقية، وبعبارة أدق: على أن نمصِّره على نحو ما مصَّر المويلحي القصة الاجتماعية في حديث عيسى بن هشام.

مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م

4- مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م: أ- حياته وآثاره: وُلد مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880 لأسرة لبنانية الأصل من "طرابلس الشام"، هاجر كثير من أفرادها في القرن الماضي إلى مصر، واشتغلوا فيها بالقضاء الشرعي. وكان والد مصطفى رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من أقاليمنا المصرية، ويسمى عبد الرزاق. وقد عُين أحد أفراد هذه الأسرة -وهو الشيخ عبد القادر الرافعي- مفتيًا بعد وفاة الشيخ محمد عبده، إلا أن القدر لم يمهله طويلًا. فالجو الذي تنفس فيه مصطفى كان جوًّا إسلاميًّا عربيًّا. وقد عُني به أبوه، فحفَّظه القرآن ولقنه تعاليم الدين الحنيف، ثم ألحقه في سن الثانية عشرة بمدرسة دمنهور الابتدائية؛ حيث كان يتولى عمله القضائي. ونُقل إلى المنصورة فأتم مصطفى دراسته الابتدائية هناك، وهو في السابعة عشرة من عمره. وبمجرد فراغه من هذه الدراسة أصابته حمى عنيفة -لعلها حمى التيفويد- وشفي منها، إلا أنها خلفت وراءها حُبْسة في صوته، ووقرًا في أذنيه، ولم يفد العلاج معه شيئًا؛ بل لقد أخذ سمعه يضعف، حتى انتهى إلى الصمم الخالص في سن الثلاثين. وكان هذه الصدمة سببًا في أنه لم يتم تعلمه، غير أنه عكف على الكتب ينهل منها ويفيد معتمدًا على ذكائه، وعُين في إبريل سنة 1899 كاتبًا بمحكمة طلخا الشرعية، ونُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود ثم محكمة طنطا الشرعية، فالأهلية، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. ويقال: إن أواصر الصداقة انعقدت بينه وبين الكاظمي، وهو لا يزال بطلخا، ولعله هو الذي شجعه على نظم الشعر في باكورة حياته، كما يقال: إنه عرف الحب في إيتاي البارود.

ونحن نلتقي به في مطالع القرن العشرين شاعرًا ناضجًا من ذوق مدرسة البارودي، وقد قرَّظه وأشاد بفضله حين نشر الجزء الأول من ديوانه سنة 1902 كما نوَّه به المنفلوطي، وفي العام التالي نشر الجزء الثاني من هذا الديوان، فقرظه البارودي ثانية، وحيَّاه الشيخ محمد عبده راجيًا أن يسدي في خدمة الإسلام ما أسداه حسان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام. ونشر الجزء الثالث من ديوانه سنة 1912، وناب حافظ إبراهيم عن البارودي في تقريظه. وبجانب هذا الديوان نشر ديوانًا ثانيًا بعنوان النظرات سنة 1908، كما نشر قصائد متفرقة في مجلتي فتاة الشرق وأبولو. ويبدو في أشعاره جميعها تمسكه -على شاكلة مدرسة البارودي- بالصياغة القديمة. وقد فسح للغزل في دواوينه كما فسح للتهاني والمراثي والمشاعر الوطنية والإسلامية وأحاسيس المرارة من حالة مصر الاجتماعية حينئذ. ونراه دائمًا يحاول أن يبعث شعور الثقة إلى بني وطنه، كما نراه مهتمًّا بقضية المرأة العربية محذرًا لها من المغالاة في تقليد الأوربيات اللائي لا يعصمهن دين ولا عقيدة. وقد عُني إلى ذلك بوصف الطبيعة ووصف بعض المخترعات الحديثة كالخيالة وآلة التصوير. ولا نكاد نتقدم في العقد الثاني من هذا القرن حتى نراه يتجه باطراد إلى النثر، وتصادف أن رصدت الجامعة المصرية جائزة لكتاب في "أدبيات اللغة العربية"، فعكف على الأدب العربي يدرسه، ولم يلبث أن نشر الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب" سنة 1911، وهو يدل على إيمانه الشديد بهذه الآداب، وأنها تعلقت قلبه حتى الشغاف. ودار العام، فأصدر الجزء الثاني من هذا التاريخ، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وقد طبعه فيما بعد مستقلًّا باسم إعجاز القرآن، وكتب سعد زغلول تقريظًا له شبَّه فيه أسلوب المؤلف بالتنزيل الحكيم، وهو تشبيه يصور حقيقة كبيرة، فإن الرافعي يتأثر في نثره العبارة القرآنية في بلاغتها وسموها. ويتراءى الرافعي منذ هذا التاريخ مالكًا لأزمة اللغة والبيان، وكان أول ما جاشت به نفسه من النثر الفني كتابه "حديث القمر" الذي نشره في سنة

1912 بعد رحلة طاف بها لبنان، وعرف شاعرة كان بينه وبينها حديث عاطفي طويل في الحب، ومن ثم كان الكتاب فصولًا في الحب والجمال والزواج والطبيعة، تتخللها أشعار متفرقة. وهو فيه يتفنن في معانيه وأساليبه تفننًا رائعًا. ونتقدم معه إلى سنة 1917 فنراه يخرج كتابه "المساكين" معارضًا به كتاب "البؤساء" لفيكتور هيجو، وهو فصول شتى تصف بؤس البائسين وآلامهم، وتعرض آراء مختلفة في الفقر والحظ والحب والجمال والخير والشر. ونراه بعد ثورتنا في سنة 1919 يُعْنَى بأناشيدنا الوطنية، ونشيده "اسلمي يا مصر" يدور على كل لسان. ويهتم بقضية المرأة، فيؤلف من أجلها كتابه "رسائل الأحزان" الذي نشره في سنة 1924، ويزعم في مطلعه أنه رسائل صديق بعث بها إليه، وهو يقص فيه حكاية حب مصورًا خواطره في العشق والزواج بقلمه البليغ. وقد مضى ينشر في نفس السنة كتابه "السحاب الأحمر" يتحدث فيه عن فلسفة الغضب وحمق الحب وخبث المرأة. وانطوت ست سنوات فعاد إلى هذا الموضوع ونشر "أوراق الورد" مصورًا آراءه في الحب والجمال. والرافعي في هذه الكتب جميعها يفتنُّ في العبارة وفي توليد المعاني. ونراه منذ احتدمت المعركة بين القديم والجديد في سنة 1923 يحمل لواء المحافظين مدافعًا بقوة عن مُثله العربية الإسلامية، وقد عرضنا لهذه المعركة وموقفه منها في غير هذا الموضع، إلا أنه ينبغي أن نعود فنشير إلى كتابه "تحت راية القرآن أو المعركة بين القديم والجديد" الذي نشره في سنة 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وفيه صوَّب سهامه إلى كل ما في هذا الكتاب من آراء وأفكار. وتحول إلى المجددين في الشعر ممثَّلين في عباس العقاد يرميهم بأقذع صور الهجاء في كتابه "على السَّفُّود". وظل بقية حياته ثابتًا للمجددين من الشعراء والكتاب جميعًا، ينقدهم نقدًا مرًّا، كما ظل مؤمنًا بالميراث العربي في لغته وآدابه، وأن نهضة العرب لا تقوم إلا على أساس وطيد من الدين وعربيته الفصحى السليمة، وكان يكتب في ذلك المقالات المختلفة في المجلات. ودعاه أحمد حسن الزيات للإسهام في تحرير مجلة الرسالة، فلبَّى

الدعوة، وأخذت مقالاته في الإسلام والعروبة تتوالى، حتى وافاه القدر، وقد جُمعت هذه المقالات وطُبعت في لجنة التأليف والترجمة والنشر باسم "وحي القلم" وهي في ثلاثة أجزاء.

ب- "مقالات وحي القلم": رأينا الرافعي ينشأ نشأة إسلامية عربية، وهي نشأة تغلغلت أصداؤها في فؤاده ونمت مع الزمن، فإذا هي تتحول إلى نثر فني بليغ يفيض بالإخلاص والطهر والإحساس بآلام الجماعة وكوارثها والشعور الدقيق بمآثر العرب ودَوْرهم في التاريخ وبمعاني الإسلام ومُثله الرفيعة. وهو إلى ذلك يصف الحب ومعانيه والجمال وألوانه والطبيعة ومفاتنها وما أودع الله فيها من المعاني التي تبهج الإنسان. وفي كل ذلك يغمس قلمه متأنيًا مترويًا، فالكتابة البيانية ليست شيئًا يسيرًا؛ بل هي شيء عسير، لا بد فيه من تأمل طويل، تأمل في الفكرة واستنباط فيها وتوليد، حتى تستحيل إلى موضوع متشعب كبير، وقد صوَّر ذلك في تقديمه للجزء الأول من وحي القلم، فقال: "لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يقيمها الكاتب على حدود، ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، منيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن، تاركًا بوزن؛ لتأخذ النفس كما يشاء وتترك. ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه

كل شيء في خاص معناه، وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة، تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به. فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تصور به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب، والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب، وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يُخْلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق، تنفذ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني. وإذا اختير الكاتب لرسالة ما شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر، ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه، ويُلْقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ. هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تامًّا، وتحوِّل الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة ... ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى كالإيمان والجمال والحب والخير والحق سبتقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة". وهو يشير في أول كلامه إلى معاني المقالة البيانية وما تستلزم من الدقة حتى تؤثر في العاطفة والخيال، ويقول: إنه لا بد لصاحبها من أن تكون له بصيرة نافذة يزيح بها الأستار عن حقائق الدنيا الخارجية، وبذلك ينكشف له عالمها الداخلي وما يموج به من أسرار ويلمع فيه من أفكار، فيعيش فيه هذه المعيشة التي تجعله يحمله إلينا بكل ما فيه من جمال وروعة.

والرافعي حقًّا من كتابنا القلائل الذين عاشوا معيشة داخلية في حقائق دنيانا، متجاوزًا ظاهرها الحسي إلى قواها الروحية الباطنة، وقد أعانه على ذلك صممه المبكر الذي جعله يحيا بين الناس وكأنه غريب عنهم، ويتحدث إليهم وهو لا يسمعهم. فكان طبيعيًّا أن يفضي إلى ذات نفسه، وأن يعيش هذه المعيشة الداخلية التي عكف فيها على عقله، وانطلق به متجولًا في باطن الحقائق الظاهرة، مسلطًا عليها من إشعاعاته العقلية ما جعل معانيها الخفية تتألق أمام عينيه. واقرأ له في وحي القلم أي مقالة، فستراه يحوِّل أي موضوع اجتماعي أو سياسي أو تاريخي وأي مشهد في الطبيعة أو في حياة الناس وأي خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعًا لا تزال تتفجر منه المعاني الخفية التي تروع بدلالاتها، وبما أخرجها فيها من صيغة عربية بديعة. فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حقائق الأشياء. ولمن يكن يتقن لغة أجنبية إلا أطرافًا من الفرنسية ليس فيها غناء؛ ولكنه وجد في موارده الداخلية ما يعوِّض هذا النقص؛ بل ما جعله يتقدم بطرائف فكره كثيرين ممن تعمقوا الآداب الغربية وأفادوا من كنوزها المعنوية. وحقًّا قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافًا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانًا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي؛ إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة. وهو في مقالاته بوحي القلم يستلهم دائمًا مثله الإسلامية مستضيئًا بها في كل ما يكتب، كما يستلهم مثله العربية الرفيعة؛ بحيث يمكن أن نلقبه "كاتب الإسلام والعروبة". واقرأ له مقالاته: "الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" و"الإنسانية العليا" و"الله أكبر" و"وحي الهجرة" وغير ذلك من مقالات إسلامية فستراها حافلة بمعانٍ تملأ النفس إعجابًا. وحين تراءت

محنة فلسطين في الأفق وقف يستصرخ المسلمين للذود عن هذا الوطن المقدس وأهله من العرب أمام اليهود الجشعين، داعيًا إلى جهادهم وجهاد المستعمرين من ورائهم بأسلوب ناري متأجج، وقد جعل عنوان هذا الاستصراخ "أيها المسلمون" وفيه يقول: "ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر. ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم. ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود. في أنفسهم الحقد وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيمًا لأنه في أيديهم ... يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم! وقد صنعوا للإنجليز أسطولًا عظيمًا لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا. ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمنكسة أيها اليهود، أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد. قوة تخرج سلاحها بنفسها؛ لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليؤكل، ولم يخلق ليذل. قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر، كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع. قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم. ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوفاتها لمعنى آخر. لو سئلت: ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟ فإن قيل: ثلثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة. أيها المسلمون! كونوا هناك، كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني". ويصرخ بنفس الصوت في شباب العرب ناعيًا عليهم قعودهم عن كفاح المستعمرين وجهادهم وانحصارهم في طعامهم وشرابهم ولذاتهم، يستثير بذلك عزائمهم، حتى يضربوا عدوهم الضربة القاضية، وفي تضاعيف ذلك يقول: "ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قُتل

فيها الواجب، والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما تكون فيكم، أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق. يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملًا من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي، وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه، واخترعهم الإيمان اختراعًا نفسيًّا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل. هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه. يا شباب العرب! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: "اطلب الموت تُوهَبْ لك الحياة". والنفس إذا لم تخشَ الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل. وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرًا؛ إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة. غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسد لا يسمَّن كما تسمن الشاة للذبح. وإذا انكسرت يومًا فالحجر الصلد إذا تَرَضْرَضَتْ منه قطعة كانت دليلًا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد. يا شباب العرب! إن كلمة "حقي" لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها. فالقوة القوة يا شباب! القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة "نعم" معنى نعم، القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة "لا" معنى لا. يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا". ودائمًا ينفخ في روح الشباب المصري، موقظًا فيه حميته لوطنه، حتى ينقض كالأسد الكاسر على الإنجليز ويذيقهم وبال استعمارهم، إن كل مصري ينبغي أن يتحول شعلة آدمية تأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. إنه لم يبقَ لهم إلا لحظات وأنفاسها، فقد اتقدت الشعل، وسيرون عما قريب مسها وتحريقها، ويومها يولون على أعقابهم نادبين مولولين. واقرأ له في ذلك مقالاته: "أجنحة المدافع المصرية" و"الطماطم السياسي" و"المعنى السياسي

في العيد" يقول: "ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير ... ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا رجال في أيديهم سيوف من خشب". وتشغله في كثير من مقالاته قضية المرأة، ونراه يقدم لها النضج دائمًا بروح المسلم المحافظ على تقاليده الدينية. واسترعته حياتها الجديدة على شوطئ الإسكندرية صيفًا، فوصف هذه الحياة في مقالين بعنوان "لحوم البحر" و"احذري" أدارهما على أنشودتين لشيطان وملاك، لاعنا للرذيلة وداعيا إلى الفضيلة، ومحذرًا المرأة من أن تُخدع عن نفسها وتتعرى من ثيابها أمام الصقور الجائعة، فتجلب على نفسها العار الذي يزلزل كيان أسرتها زلزالًا عنيفًا. ويفسح في مقالاته لآلام البؤساء والمشرَّدين وأسقامهم، ويئن بصوت الإنسانية الرحيم، حتى لكأنه المشرد أو البائس الذي يصفه، وتتدفق عليه أنات البشرية وعبراتها من كل صوب. ومن خير ما يصور ذلك عنده مقالته "أحلام في الشارع" وفيها يصور بؤس طفل مشرد وأخته رآهما نائمين على عتبة "بنك" يفترشان الرخام البارد ويلتحفان السماء، فأَنَّ وأعول في أنينه. وبهذا الشعور الرقيق نراه يصف جمال الطبيعة في غير مقال، فيكسبها من روحه جمالًا فوق جمالها، ويزيدها بصناعته حسنًا فوق حسنها، يقول في مقالة بعنوان الربيع: "في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس، ويصنع الماء صنيعه في الطبيعة، فتخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنيعه، فيخرج تهاويل الأحلام. ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة، يتنفس بعضها على بعض. ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلها ينبض فيها عرق النور. ويرجع كل حي يغنِّي؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته". ونراه في بعض مقالاته يصور مُثله الخاصة في الشعر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا شخصية الرافعي في مقالاته وأدبه بكل خصائصها الروحية والعقلية واللغوية، فقد كان يؤمن بِمُثُل الإسلام والعروبة والوطنية، وكان يحس كل

ما حوله من طبيعة وغير طبيعة. وقد استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وأن يصرف ألفاظها في يده كما يشاء. وأعانته على ذلك كله عزلة ضربها الصَّمَم من حوله، فإذا هو يخلص لعالمه الباطني، يغوص فيه على المعاني الدقيقة فيبرزها. وكان لا يزال يتعمقها حتى يحدث فيها ضربًا من الفلسفة المنطقية، وكان ذلك من أهم الأسباب في غموضه والتوائه أحيانًا. والذي لا شك فيه أنه كان يكتب في حذر شديد، فهو لا يكتب كل ما يفد على ذهنه؛ بل ما زال ينتخب ويختار، ينتخب المعاني ويختار الألفاظ محتاطًا في ذلك أشد الاحتياط. وكأنه لم يكن يريد أن يكون أديبًا فحسب؛ بل كان يريد أن يكون أديبًا ممتازًا بفكره العميق وعبارته الدقيقة، ومن ثم آثر في أدبه ومقالاته الجهد العنيف والعناء الشاق، حتى يصبح حقًّا من راضة المعاني وصاغة الكلام.

أحمد لطفي السيد 1872-1964م

5- أحمد لطفي السيد 1872-1964م: ب- حياته وآثاره: في قرية "بَرْقين" من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة المنصورة وُلد أحمد لطفي السيد سنة 1872 لأب مصري ريفي ثري هو "السيد باشا أبو علي"، وكان وقورًا مهيب الشخصية حليمًا عطوفًا، وأنشأ ابنه على غراره. ولما بلغ الرابعة من عمره أدخله على عادة أبناء الريف كُتَّاب القرية، وكانت مقرئته "الشيخة فاطمة" فعُنيت به، وحفَّظته القرآن الكريم، وهو لا يزال في العاشرة. ولما أتم حفظ القرآن ألحقه أبوه بمدرسة المنصورة الابتدائية، فأمضى بها ثلاث سنوات ظفر في نهايتها بالشهادة الابتدائية سنة 1885. وتحول بعد ذلك إلى المدرسة الخديوية بالقاهرة. فاجتاز بها مرحلة التعليم الثانوي التي انتهى منها

سنة 1889، ودل في هذه المرحلة على نبوغ في الدرس، وخاصة درس اللغة العربية. وأقبل على قراءة الكتب المترجمة، وكان مما أعجب به كتاب "أصل الإنسان" لداروين؛ إذ ترجمه شبلي شميل في هذا التاريخ. وعقب إنهائه لمرحلة التعليم الثانوي التحق بمدرسة الحقوق، وكان من مدرسيها حفني ناصف، وحسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وكان يعجب بتلميذه الحقوقي، فكان يدعوه إلى منزله، وما لبث أن اصطفاه ليقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه بالأزهر في الصباح الباكر. وفتح له ذلك بابًا كان مغلقًا أمام أقرانه، وهو باب التزود بالدراسات الدينية. وتصادف أن اشترك محمد عبده في لجنة امتحان العلوم العربية بالحقوق، فلفتته كتابة التلميذ الناضج وهنأه بما كتب. وكان لذلك أثره في نفس التلميذ، فإنه عُني مع طائفة من رفقائه بإخراج مجلة "التشريع"، وأحس أن فيه مواهب صحفية، فكتب في صحيفة المؤيد، واشتغل فترة في القسم الخاص بنقل رسائل البرق الأجنبية. وسافر وهو لا يزال بالحقوق إلى إستانبول فوجد هناك علي يوسف صاحب صحيفة المؤيد وسعد زغلول، فعرَّفاه بجمال الدين الأفغاني، وكان ينزل حينئذ هناك، فلازمه فترة ونفخ فيه من روحه ودعوته إلى الحرية ونهوض الأمم الإسلامية ضد الاستعمار والمستعمرين. وأتم دراسته في "الحقوق" سنة 1894 وعُيِّن في سلك النيابة، غير أن تعيينه لم يصرفه عن التفكير في شئون بلده السياسية، فألف مع جماعة من زملائه القانونيين جمعية سرية غرضها تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي. وعرفه مصطفى كامل، فعرض عليه في سنة 1897 أن يؤلف معه ومع محمد فريد وطائفة من أصدقائهما الحزب الوطني، فلبى دعوته، واتفق معه مصطفى أن يعتزل الحكومة ويذهب إلى سويسرا، فيمكث بها سنة لينال حق الجنسية السويسرية، ثم يعود إلى مصر فيحرر صحيفة تقاوم الاحتلال البريطاني، فلا تستطيع بريطانيا أن تحول بينه وبين ما يريد بحكم جنسيته الأجنبية. وصدع

لمشيئته، فسافر إلى سويسرا، وتصادف أن سافر إليها أيضًا قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول، وأخذ يختلف مع ثانيهما إلى ما يلقي من محاضرات في جامعة جنيف، وكان قاسم أمين يؤلف حينئذ كتابه "تحرير المرأة"، فكان يقرأ منه فصولًا عليهم. ورجع لطفي إلى مصر فوجد الخديو عباسًا غاضبًا لاتصاله بمحمد عبده، وكان الخديو ناقمًا عليه. ولم ينشئ الجريدة التي أشار بها مصطفى كامل؛ لأنه وقر في نفسه أن سياسته التي كان يمليها عليه الخديو ليست هي السياسة التي تنقذ مصر؛ إذ كان مصطفى ينادي بالجامعة الإسلامية في ظل تركيا، ولم يكن غرض مصطفى أن تعود مصر حقًّا إلى تركيا؛ ولكنه كان يظن أن هذه الدعوة تساعد مصر في التخلص من نير الاحتلال. ونرى لطفي ينتظم في سلك النيابة ثانية، حتى إذا كانت سنة 1905 تركها مستقيلًا منها لخلاف بينه وبين النائب العمومي واشتغل بالمحاماة. ولم يلبث أن أخرج صحيفة "الجريدة" سنة 1907، وألف مع طائفة من نابهي المصريين حزب الأمة، واختير سكرتيرًا له، واختير محمود سليمان رئيسًا وحسن عبد الرزاق وكيلًا. وكان برنامج هذا الحزب المطالبة بالاستقلال التام وبالدستور وتوسيع اختصاص مجلس شورى القوانين ومجالس المديريات. وانضم إلى هذا الحزب كثيرون من أعيان البلاد المصرية المختلفة، وأهم من ذلك أنه انضم إليه أكثر المفكرين المصريين الذين كانوا يلتفون حول الشيخ محمد عبده والذين يرجع إليهم أكثر الفضل في وضع أسس نهضتنا المباركة من أمثال: قاسم أمين وفتحي زغلول وعبد العزيز فهمي وعبد الخالق ثروت. وكان هؤلاء المفكرون يؤلفون في أول هذا القرن طبقة ممتازة تشعر بآلام الشعب وآماله، وتصور لنفسها -بفضل ثقافتها الواسعة بآداب الغرب- مُثله العليا غير المحدودة في الحرية والاستقلال والحكم العادل الرشيد، وهي نفسها الطبقة التي عملت على إقامة الجامعة المصرية الأهلية وفتح أبوابها للطلاب منذ سنة 1908. غير أنه يلاحظ على هذه الطبقة أنها لم تكن ثائرة ثورة مصطفى كامل على الإنجليز،

هي تدعو إلى التخلص من احتلالهم؛ ولكن في رفق ومع اصطناع الدهاء؛ بل مصانعتهم أحيانًا. وقد يكون من أسباب ذلك أن كثيرًا من أعضاء الحزب كانوا يحتلون المناصب العليا في مرافق البلاد المختلفة، فرأى الحزب أن يعرض للإنجليز في دقة واحتياط حتى لا يقصوهم عن مناصبهم، وكانوا يرون أن العلة الحقيقة في الاحتلال هي القصر وحاكمه التركي، فهاجموه مهاجمة عنيفة. وعلى العكس من ذلك كان مصطفى كامل وأعضاء الحزب الوطني ثائرين ثورة عنيفة على الإنجليز؛ ولذلك عدهم الشعب رُسُل الوطنية الحقيقيين؛ ولكن ينبغي ألا نتهم حزب الأمة ورجاله في وطنيتهم، فقد كانوا يرون التريث في هذه الحرب السافرة، حتى تتاح الفرصة الحقيقية لها عن طريق النهوض بالشعب في التعليم وغير التعليم، واستقر في نفوسهم أن أعداء مصر ليسوا هم الإنجليز وحدهم؛ بل أيضًا الخديو التركي وبطانته. وعن هذه المبادئ كان يصدر محرر الجريدة لطفي السيد فيما يكتب من مقالات سياسية واجتماعية، يصور فيها دعوات حزبه الإصلاحية. وظل على ذلك سبع سنوات، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت إنجلترا في ديارنا الأحكام العرفية، فحاول أول الأمر أن يكسب شيئًا لبلده من الإنجليز، حين ترفرف راية السلام، وقابل ممثِّل إنجلترا مع بعض رفاقه يدعوه أن يعرض الأمر على حكومته، فماطله. ويئس لطفي، فاستقال من تحرير الجريدة، وعاد إلى بلدته "برقين" وكأنه رأى أن الجهاد السياسي العلني أصبح مستحيلًا في هذه الظروف. وتطورت الأمور فأُعلنت الحماية على مصر، وعاد لطفي ولكن لا ليشترك في تحرير الجريدة، وإنما ليتقلد بعض الوظائف، وعُين مديرًا لدار الكتب المصرية، فاعتزل في هذه الركن الثقافي، وأخذ يترجم في "أرسططاليس" وبدأ بكتابه "الأخلاق". حتى إذا وضعت الحرب أوزارها استأنف نشاطه السياسي مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم، وظل معهم في جهادهم وبلائهم، حتى ظهرت بوادر الخلاف والانشقاق في الصفوف، فاعتزل السياسة ثانية وعاد إلى وظيفته في دار الكتب وإلى أرسططاليس يقرأ فيه

ويترجم، حتى انتهى من كتاب الأخلاق وفصوله الخمسة. وفكرت الحكومة المصرية في تحويل الجامعة الأهلية -وكان وكيلًا لها- إلى جامعة حكومية، ونُفِّذَت الفكرة، فاختير مديرًا للجامعة الجديدة، وفتح أبوابها للفتاة المصرية، فحقق الأمل الذي كان يراود صديقه قاسم أمين في أول القرن، أمل النهوض الحقيقي بالمرأة المصرية. وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم، فنهض بشئونها المختلفة. واستقالت وزارة محمد محمود الذي كان يعمل معه، فلزم بيته وعاد إلى أرسططاليس، وسرعان ما استدعى إلى الجامعة، فلبى الدعوة. وتطورت الأمور فتولى إسماعيل صدقي الوزارة وألغى الدستور ووقف الحياة النيابية، وتدخل في شئون الجامعة، وأقال طه حسين عميد كلية الآداب حينئذ، فغضب لطفي بسبب هذا الاعتداء على استقلال الجامعة، وقدم استقالته، حتى إذا استقالت وزارة صدقي، عاد إلى الجامعة في إبريل سنة 1935. وأخرج في فترة حكم صدقي كتاب الكون والفساد لأرسططاليس سنة 1932، وتبعه بكتاب الطبيعة سنة 1935، وفي سنة 1940 نشر كتاب السياسة، وهو آخر الكتب التي ترجمها للمعلم الأول. وظل في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ رأى أن يستمتع بنصيب من الراحة، فعُين عضوًا بمجلس الشيوخ، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وما زال يشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1964. وقد منح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ اعترافًا بجهوده العقلية.

ب- مقالات الجريدة: رأينا لطفي ينشأ في وسط ثري من أوساط ريفنا المصري، وقد ورث عن أبيه اعتداده بنفسه وسمو أخلاقه، كما ورث عنه ذكاء فطريًّا سليمًا. وأخذ هذا الغرس الطيب ينمو في عصر الاحتلال، ويتلون بالمعارف المختلفة من عربية إسلامية وغربية فرنسية. وكان منذ شبابه يفكر في أحوال بلده، فصحب

جمال الدين الأفغاني فترة في إستانبول كما صحب محمد عبده في جنيف وبعد جنيف، ولم تلبث مبادئهما أن تسربت إلى روحه؛ بل أخذت تتأجج بين ضلوعه نارُ الشوق إلى التخلص من الاحتلال، وأن تُرَدَّ إلى بلده كرامته القومية. ووضع يده في يد مصطفى كامل؛ ولكنه كان يختلف عنه؛ إذ كان من مدرسة أخرى، مدرسة الشيخ محمد عبده، التي لم تكن ترى الثورة حينئذ على الأوضاع عملًا ناجعًا لإنقاد الوطن، ولم يكن يعجبها صنيع مصطفى كامل في الاتجاه تارة إلى الدولة العثمانية، وتارة إلى فرنسا والأمم الغربية ظانًّا أن هذه الدول تنقذ مصر من براثن الاحتلال، وترد إليها حريتها. إن الكفاح لاستقلال أي شعب ينبغي أن يصدر عنه، وإن من الخطأ أن نطالب أممًا باستقلالنا، وهي إنما تحرص على مطامحها السياسية التي قد تتعارض مع رغباتنا وأمانينا الوطنية. وفعلًا اتفقت إنجلترا مع فرنسا على أن تطلق الأولى يدها في مصر، نظير إطلاق يد فرنسا في مراكش. فلا أمل في الخارج ولا في الدول الغربية المستعمرة، وكذلك لا أمل في الدولة العثمانية المريضة. ونحن في كفاحنا ينبغي أن نفكر أول ما نفكر في الإصلاح، فنعلِّم الشعب، ونلقِّنه حقوقه وواجباته السياسية، ونوجد فيه الرغبة الأكيدة لاستقلاله، وندعو دعوة حارة إلى أن تسود فيه مبادئ الحرية، حرية الفرد وحرية الأمة، ونحضه على أن يستمسك بشخصيته ومصريته؛ حتى يذود بروحه عن كيانه ووجوده، ولكن كيف يكون ذلك؟ إنه لا بد من تربية الشعب وتعريفه المثل العليا التي ينبغي أن يحوزها لنفسه في النظم السياسية والاجتماعية، وفي شئون حياته المختلفة. وآمن أعضاء حزب الأمة بأن هذه التربية هي الوسيلة الحقيقية للتخلص من الاحتلال، وهي وسيلة متأنية؛ إذ تحتاج وقتًا لبثها في أفراد الشعب، فهي ليست ثورة وطنية عنيفة كثورة مصطفى كامل؛ وإنما هي دعوة للتطور والرقي من الداخل؛ حتى تقف الأمة على أقدامها، وتصرخ في وجه الإنجليز الصرخة المدوية المنبعثة من أعماقها. وكان يؤمن بذلك رجالات حزب الأمة من هؤلاء المصلحين المختلفين الذين انبثوا في أعمال الدولة، والذين استطاعوا بفضل ثقافتهم أن يفهموا

فَهْمًا صحيحًا الأصول السياسية والاجتماعية التي عُرفت في الغرب، وكانوا يرون من الواجب أن تدخل مصر؛ ولكن مع التطور والتدرج، والانتفاع منها بالصالح، مما يلائم طبائع المصريين. وتولى لطفى بحكم تحريره لصحيفة الحزب "الجريدة" هذه المهمة التربوية، وكانت مهمة صعبة؛ إذ عليه أن يربي شعبًا، ويغرس فيه أطماعه الوطنية وحقوقه وواجباته السياسة. ومن هنا أخذ لقب "المعلم"، والحق أنه علم الشعب كثيرًا مما أصبح بعد تصريح 28 من فبراير سنة 1922 قائمًا قيام الأهرامات الراسخة في حياتنا السياسية من مثل سلطة الأمة والحرية الدستورية وتعليم الفتاة وغير ذلك من معانٍ وطنية. فقد عكف على قراءة ما كتبه المصلحون الغربيون في شئون التربية القومية وفي الحقوق السياسية، ونقل ذلك إلى المصريين في مقالاته بالجريدة، فتارة يردد ذكر المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وتارة يردد آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين قرروا تلك المبادئ من مثل روسو وستيوارت مل وتولستوي ومونتسكيو وفولتير؛ وبذلك وُجدت عندنا المقالة السياسية بالمعنى الدقيق، فهي ليست كلامًا ارتجاليًّا يقال؛ وإنما هي دراسة وخبرة بالفكر الغربي ونقل ما يلائمنا منه. ونكتفي بذكر مقتطفات من بعض مقالاته، يقول في مقالة بعنوان "غرض الأمة هو الاستقلال": "استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية كالخبز في الحياة الفردية لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته؛ بل عارٌ يجب نفيه ... استقلال الأمة عمن عداها أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تَنِيَ في العمل للحصول عليه؛ بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها -لا بكله ولا بجزئه- لأن الحرية لا تقبل القسمة ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها كلها أو بعضها باطل بطلانًا أصليًّا لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال. فلا جرم مع هذا المبدأ المسلَّم به عند علماء السياسة، إن قلت: إنه يجب على الأمة

أن توجه كل قواها بغير استثناء إلى الحصول على وجودها أي الحصول على الاستقلال ... أما نية الاستقلال فهي فهمه والتشبث بمزاياه، وتمثل هذا الفهم في شعور الأمة تمثلًا صحيحًا شائعًا؛ أي: اعتقاد الأمة بضرورته وأنه هو العيش، وهو الكساء، وهو المبيت، وهو الوجود وبغيره لا وجود. ولا بد لذلك من أن يربَّى في الأمة معنى القومية المصرية. إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد الوطنية المصرية، والاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع وسط ما يسمى خطأ بالجامعة الإسلامية ... يعجبني في هذا المعنى أن أورد عبارة أحد الكتاب الإنجليز، قال: مهما كان اللوم على الأمة المتغلبة على غيرها، فإنه لا يصح أن تنجو الأمة المغلوبة من اللوم؛ فإنه من السهل أن يدوس الإنسان بقدمه حشرة، لكن إذا كانت هذه الحشرة من العقارب يصعب دَوْسُها بالقدم. وعندنا أن الأمة كائن طبيعي يستحيل مهما كانت ضعيفة أن تكون مجردة من آلات الدفاع عن نفسها؛ لأن الله قد سلح جميع كائناته بسلاح الدفاع عن ذواتها، والأمة بصفتها إحدى هاته الكائنات الطبيعية لا يمكن أن تكون فاقدة السلاح، فلئن تركته أو أساءت استعماله فاللوم عليها بمقدار تقصيرها. ولقد كُتب على مصر أن ترتقي بالسلام وتستقل بالسلام، فما أسلحة السلام إلا ذكاء في العقل والقلب يهدينا إلى معرفة مصريتنا، وقَصْر عملنا على مصرنا وإنماء كفاءتنا قبل كل شيء". ويقول في مقال بعنوان "الحرية": "لو كنا نعيش بالخبز والماء لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية؛ ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة؛ بل هو غذاء طبيعي أيضًا كالخبز والماء؛ لكنه كان دائمًا أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبًا وأغلى ثمنًا. هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية. إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئًا كثيرًا؛ إنما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب ألا نموت. ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي

لا يطلب إلى الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرمًا من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة، إن الحرية هي المقوِّم الأول للحياة، ولا حياة إلا بالحرية". وفي مقال بعنوان "مصريتنا": "إن الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارًا؛ فإن مصر بلد طيب، قد ولد التمدن مرتين، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي، متى كرم أهلوه، وكرمت عليهم نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفه، وسموا به إلى مجد آبائهم الأولين". وبمثل هذا الأسلوب الجزل الرصين كان لطفي يعلم أمته بمقالاته، وهي ليست مقالات فارغة؛ وإنما هي مقالات مليئة بالثقافة الواسعة وبالفكر العميق. ووسَّع دائرة هذه المقالات وجعلها تشمل كل ما يتصل بتربية الأمة من وجهات أخلاقية واجتماعية؛ إذ عُنِيَ بكل جوانب الحياة المصرية عناية فاحصة دقيقة، تقوم على الدرس وتبين الخصائص والصفات حتى نعرف ما ينقصنا بالقياس إلى مُثلنا العليا معرفة واضحة. ومن أهم ما يمتاز به في كتابته المنطق والوضوح وحشد الأدلة والأقيسة والانتقال من العام إلى الخاص والخاص إلى العام، يُلهمه في ذلك ذكاؤه واتساع قراءاته في الفكر الغربي. وهو يعبر عن ذلك كما في هذه الفقرات بسهولة، ويصل دائمًا قاصدًا إلى غايته مما يريد التعبير عنه، فأنت لا تجد عنده أي تعبير شائك أو معقد في أي جانب من جوانب مقالاته؛ إنما تجد التعبير السريع الواضح الذي يصور لك ما بنفس الكاتب من جميع أطرافه. وهذا التعبير المباشر الذي يقصد إلى غايته بدون أي تعقيد هو أهم خصائص لطفي، وهو تعبير يصور القمة التي استطاع مفكرونا أن يصلوا إليها منذ أوائل هذا القرن، مسلحين بالثقافة الغربية؛ بل إن لطفي يصل من ذلك إلى أبعد الغايات بفضل عقله الذي خُلق ليكون عقل معلِّم. وأكبر الظن أننا لا نبالغ إذا قلنا: إنه خُلق ليكون عقل "فيلسوف" يبحث في خصائص الأشياء وصفاتها، ويردها

إلى عناصرها ومكوناتها. فأنت في قراءة مقالاته التي جُمعت طائفة منها ونشرت باسم "المنتخبات" و"تأملات" تحس بأنك تجد غذاء محققًا لعقلك ولقلبك ولشخصيتك المصرية التي عمل على إنمائها وإذكائها بكل ما استطاع، حتى لنجده يدعو إلى تقريب العربية من لغتنا العامية؛ حتى تكون لنا لغة مصرية مستقلة. ولم يدع إلى العامية -كما يُظَنُّ- وإنما دعا إلى التقريب بينها وبين العربية واستخدام ما فيها من كلمات أصلها فصيح، وهي تدور على كل لسان. ولم يجد حرجًا في أن تدخل منها بعض الألفاظ في أساليبنا الأدبية. وكان لذلك أثره عند المازني وهيكل وتوفيق الحكيم، فإنهم عمدوا إلى ذلك في بعض آثارهم. وأظن ليس من العجب أن نرى هذا المعلم الأول لناشئة الأدباء والمفكرين بيننا يسعى إلى ترجمة أرسططاليس، وكأنه أحس إحساسًا عميقًا بأنه لا بد أن تؤسَّس حياتنا العقلية على أصول غربية، ورأى هذه الأصول عند الغربيين تتجاوز عصرهم الحديث إلى الإغريق وإلى المعلم الأول عندهم أرسططاليس، الذي كان له أكبر الأثر في حضارة الغرب الحديثة، وكان له نفس الأثر عند العرب في العصر العباسي وما بعده من عصور، فتحوَّل إليه يريد أن يترجمه ترجمة دقيقة؛ حتى يضع بين يدي المثقفين هذا العقل الإغريقي الخصب، فيساعدهم على تكوين عقولهم وما تحتاجه من قدرة على التفلسف والتبويب والتنظيم. ولعلنا بذلك كله نستطيع أن نعرف فضل هذا الكاتب الكبير، فقد عمل جاهدًا على تربية الشعب المصري وتطوير حياته العقلية على ضوء الفكر الغربي قديمه وحديثه، وكانت جريدته المنارة التي ترسل هذه الأشعة الهادية إلى عقول الشباب وقلوبهم؛ بل كانت أشبه ما يكون بملعب "الليسيه" الذي كان يحاضر فيه أرسططاليس تلاميذه. وعلى نحو ما كان الفيلسوف الإغريقي يمرن تلاميذه على بحث الموضوعات المختلفة كان لطفي يمرن محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما على الكتابة في المسائل السياسية والأدبية، وقد بعث في قلوب الشباب الشعور

بقيمة الغرب ووجوب الاقتباس من أضوائه. وهو بذلك يعد حقًّا خير من أعدونا من مفكري أول القرن لنمو حياتنا العقلية، هذا النمو الذي سنرى آثاره عند الأدباء التالين.

إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م

6- إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م: أ- حياته وآثاره: في بيت عتيق على حدود الصحراء في القاهرة وُلد إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1889 في بيئة دينية متواضعة؛ إذ كان أبوه محاميًا شرعيًّا ولم يكن على شيء من الثراء. ولم يتمتع إبراهيم طويلًا برعاية أبيه، فقد توفي وهو في سنيه الأولى، ولم تقعد بأمه فاقتها، فقد رعته وألحقته بالمدرسة الابتدائية، حتى إذا أتمها التحق بالمدرسة الثانوية، وعينها من ورائه. وطمح بعد إكمال دراسته الثانوية إلى الالتحاق بمدرسة الطب؛ لكنه لم يكد يدخل غرفة التشريح، حتى أصابه غثيان شديد، فانصرف عن الطب، وفكر في الالتحاق بمدرسة الحقوق، إلا أن ضيق ذات يده رده عنها إلى مدرسة المعلمين. وفي هذه المدرسة أخذت ملكته الأدبية في الظهور، فعكف على قراءة الأدب القديم يقرأ في كتابات الجاحظ وفي كتاب الأغاني وفي الكامل للمبرد والأمالي لأبي علي القالي وغير ذلك من عيون النثر العربي القديم، كما أخذ يقرأ في الشريف الرضي ومهيار وابن الرومي والمتنبي وأضرابهم من الشعراء البارعين. وكانت مدرسة المعلمين تهتم باللغة الإنجليزية وآدابها، فأقبل على هذه الآداب لا فيما يُصْرَفُ إليه من كتبها فحسب؛ بل أيضًا في عيونها عند شعرائها من مثل شللي وشكسبير وبيرون وكتابها مثل: ديكنز وثاكري ووالتر سكوت وشارلز لام. واتجه

إلى مؤلفات النقاد الإنجليز الممتازين مثل: هازليت وأرنولد وسانتسبري. واستقامت له من كل هذه القراءات في الأدبين العربي والغربي صورة جديدة من التفكير في الحياة وفي الأدب شعره ونثره، نرى آثارها فيما كان يكتبه في صحيفة "الجريدة" وهو لا يزال طالبًا في مدرسة المعلمين. وانعقدت أسباب المودة بينه وبين أحد رفقائه، وهو عبد الرحمن شكري، وأخذ ينظم معه الشعر على أسلوب جديد في ضوء ما قرآ من شعر الإنجليز، وخاصة عند أصحاب النزعة الرومانسية أمثال شللي شعراء البحيرة. وتخرج في مدرسة المعلمين سنة 1909 فعُين أستاذًا للترجمة في المدرسة السعيدية، ثم في المدرسة الخديوية، وعُني بأن يترجم لتلاميذه قطعًا مختلفة من كليلة ودمنة إلى الإنجليزية، كما ترجم لهم من هذه اللغة كثيرًا من نماذجها الممتازة التي قرأها لكبار كتابها وشعرائها. وسرعان ما تعرَّف على العقاد وكوَّن معه ومع شكري الجيل الجديد الذي سبق أن تحدثنا عنه. وكان أهم ما اتجه إليه هذا الجيل في أوائل القرن صنع الشعر على شاكلة ما يصنع الغربيون شعرهم الغنائي، ونشر شكري أول محاولة للجماعة ممثلة في ديوانه "ضوء الفجر"، وأخذ المازني يشيد بالمحاولة، وجرَّه ذلك إلى نقد حافظ وشعره التقليدي نقدًا عنيفًا، وتصادف أن كان وزير التربية والتعليم حينئذ -أحمد حشمت "باشا"- صديقًا لحافظ، فكان يتهدد المازني بأن سيلقى جزاء نقده. ونقل المازني إلى مدرسة دار العلوم، فغضب، وقدم استقالته، وخرج إلى الحياة الحرة، فاشتغل مدرسًا مع العقاد بالمدرسة الإعدادية، وظل على ذلك أربع سنوات، أخرج فيها الجزء الأول من ديوانه سنة 1914 ثم الجزء الثاني سنة 1917. وشعره في هذين الجزأين على غرار شعر شكري ليس فيه سياسة ولا وطنية ولا دعوات اجتماعية؛ وإنما هو تجربة نفسية تامة، وهي تجربة تفيض بالألم والكآبة إزاء الطبيعة والتفكير في النفس والحياة الإنسانية ومتاعس البشرية، ويأخذ ذلك شكل انفجارات وجدانية. وربما كان مرجع ذلك عنده إلى أنه كان صاحب نفس حساسة وشعور مرهف إلى أبعد ما يكون الإرهاف الدقيق. ولم يكن شيء في حياته مفرحًا، فقد ذاق ألم اليتم صغيرًا،

وكان قصيرًا تقتحمه العين، وأحس ذلك في نفسه، فضاق بحياته وتبرَّم بها غاية التبرم، وزاد تبرمه حدة أن أصيب ساقه في حادثة سببت فيه عرجًا، لازمه إلى مماته. ويقرأ المازني وتتسع قراءته، وينفتح أمامه العالم الغربي عن طريق إتقانه للإنجليزية، فلا يقف عند ما يقرؤه في الأدب الإنجليزي؛ بل يقرأ كل ما استطاع في الآداب الغربية المختلفة، يقرأ لتورجنيف ولهاتزيباشيف الروسيين، ويترجم للأخير قصة "سانين" باسم "ابن الطبيعة" كما يقرأ لمارك توين الأمريكي ولغير هؤلاء جميعًا ممن يُطْبَعُ أدبهم بطوابع السخرية. وتُحْدث هذه القراءات أثرها العميق في نفس المازني، فإذا هو ينقلب من شاعر وجداني تطفح نفسه بالمرارة والألم إلى كاتب من طراز ساخر يستخف بالحياة وبكل من فيها وما فيها من أشخاص وأشياء وأمانٍ وآلام. ويترك المدرسة الإعدادية، وينتظم في سلك الصحافة إلى نهاية حياته؛ ولكنه لا ينغمر في السياسة؛ إذ يظل مستقلًّا بآرائه وأفكاره شاعرًا بأنه من رجال الأدب لا من رجال السياسة؛ بل تظل له شخصيته الأدبية الساخرة، وكأنه وجد نفسه التي كان يبحث عنها من أوائل القرن كما وجد فلسفته، وهي فلسفة تقوم على لقاء الحياة بالابتسام والسخرية في كل الأحوال والظروف. فلم تعد عيناه تدوران في جوانبها الحالكة، ولم يعد يندبها ويبكيها، فهي لا تستحق عنده سوى الاستخفاف والاستهانة؛ بل لكأنما شعر أن عليه لقرائه واجبًا أن يعينهم بسخريته وفكاهته على تحمل أعباء دنياهم والنهوض بأثقالها. ونراه يبدأ هذه المرحلة الجديدة بمهاجمة المنفلوطي وأسلوبه الإنشائي الفارغ من الفكر العميق ومن الثقافة، وذلك في كتاب "الديوان" الذي أخرجه مع العقاد، كما يهاجم شكري في شعره الجديد، وربما كان ذلك دليلًا على أنه استوى شخصًا آخر غير الشاعر القديم الذي كان يدعو دعوة حارة لمحاولة التجديد في الشعر. إنه لم يعد يعجب بهذه المحاولة ولا بصاحبها شكري، وإنه يحاول الآن محاولة جديدة؛ ولكن ليست في الشعر؛ وإنما هي في النثر وفي

توسيع جنباته؛ بحيث تسمح بإدخال الأفكار الغربية التي لم يكن يعرفها هذا النثر من قبل. واتخذ المقالة الصحفية طريقه إلى ذلك، وحَمَّلها كل ما أراد من فكر جديد، ومن سخرية مُرة تارة، ومن ظرف وخفة روح تارة أخرى. وهو في الحق أحد كتابنا الممتازين الذين استطاعوا أن يحدثوا لنا أدبًا مصريًّا جديدًا، وهو أدب مليء بالفكر والشعور والسخرية الحادة. وليس هذا كل ما يميزه، فإنه يتميز أيضًا بأسلوب خاص كان لا يتحرج فيه من استخدام بعض كلماتنا العامية، ما دامت توجد في العربية الفصيحة، وبذلك كان له أسلوبه الشخصي الذي ينفرد به بين معاصريه، لا بخصائصه اللفظية فحسب؛ بل أيضًا بخصائصه المعنوية وما فيه من سخرية وفكاهة مستملحة. ولعل من الطريف أنه كان من السابقين إلى الإيمان بفكرة جامعة الدول العربية، فقد كتب في سنة 1935 مقالًا تحت عنوان "القومية العربية"، دعا فيه إلى جمع كلمة العرب وأن تنتظمهم هيئة سياسية واحدة تؤلف بينهم ضد الاستعمار والمستعمرين، ومن قوله في هذا المقال: "لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقًا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة ... وإن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلًا بلحمهم وعظمهم؛ ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلًا يصبحون شيئًا له بأس يُتَّقَى". وهو لا يبارَى في مقالاته التي يصف فيها مشاعره وخوالجه؛ إذ كان مرهف الإحساس، وكان إذا تعمق التأثر نفسه فاضت عليه خواطره، وكأنها تفيض من نبع لا ينضب. ومن خير ما دبجته يراعته من ذلك ما جاء بكتابه "في الطريق" من حديثه عن ابنته الصغيرة التي اختطفها القدر من بين يديه

وهي في غرارة الطفولة، فقد صوَّر ذكرياته معها وما كانت تأتيه من لعب وعبث تصويرًا باكيًا رائعًا. وقد نشر أول مجموعة مختارة من مقالاته سنة 1924 بعنوان "حصاد الهشيم"، وفيها نراه يتحدث عن شكسبير ورواية تاجر البندقية التي نقلها إلى العربية خليل مطران، كما يتحدث عن ماكس نوردو وآرائه في مستقبل الأدب والفنون، ويناقش آراءه مناقشة تدل على اتساع ثقافته الغربية. ويدرس بجانب ذلك المتنبي وابن الرومي، ويترجم بعض رباعيات الخيام عن الإنجليزية، ويعرض لكثير من مشاكل الأدب والنقد. وفي سنة 1927 نشر مجموعة ثانية من مقالاته باسم "قبض الريح"، وفيها تعرض بالنقد الساخر لكثير من آراء طه حسين في الأدب الجاهلي وفي الأدب العربي بعامة. ونشر في سنة 1929 مجموعة ثالثة باسم "صندوق الدنيا"، وفيها اتجه إلى المقالات الساخرة التي تمسح عليها الدعابة والفكاهة، ومما جاء في تقديمه لهذه المجموعة: "كنت أجلس إلى الصندوق في أيام طفولتي وأنظر إلى ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصُوَرَ العيش فيها، عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الدنيا الكبار، فأحط "الدكَّة" وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا، ويعجبوا، ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة، يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر". وبهذا الأسلوب المستملح الساخر الخفيف كتب مقالات هذه المجموعة ومقالاته في المجموعة الرابعة "خيوط العنكبوت" التي نشرها في سنة 1935، وصور فيها بأسلوبه الفكه معايب حياتنا الاجتماعية. ويدخل في هذا الباب من كتابة المقالة كتابه: "رحلة الحجار". واتجه منذ سنة 1932 إلى كتابة القصة، وله فيها آثار مختلفة هي "إبراهيم الكاتب"، وأتبعها بمجموعات من القصص القصيرة، هي في "الطريق" سنة 1936 ثم "ميدو وشركاه" و"عود على بدء" و"ثلاثة رجال وامرأة" و"عَ الماشي"

و"إبراهيم الثاني" و"من النافذة". والمسرحية الوحيدة التي نشرها "بيت الطاعة أو غريزة المرأة". والمازني في كل هذه القصص كاتب اجتماعي يستمد من بيئته وألوانها المحلية المصرية محللًا شخصيات قصصه وأبطالها تحليلًا نفسيًّا واسعًا، باسطًا في هذا التحليل وصف علاقات الرجل بالمرأة خلال أحداث وتجارب يومية. وهو يتأثر في ذلك بالقصص الأوربي الواقعي التحليلي مما قرأه في الآداب الغربية المختلفة، ومما ينهج فيه الكُتَّاب منهجًا نفسيًّا يحللون فيه الشعور وما وراء الشعور وما يصيب الإنسان أحيانًا من عقد نفسية تكمن في أطواء قلبه. ويصور ذلك بأسلوبه الساخر، الذي يستمد السخرية فيه من مفارقات الأمزجة واختلاف الطبائع، وما يقيمه في القصة من مآزق مختلفة. وللمازني بجانب ذلك جهد ممتاز في ترجمة بعض الذخائر الغربية، ومن أهم ما ترجمه قصة "ابن الطبيعة" التي سبقت الإشارة إليها، ومسرحية "الشاردة" لجازورثي و"مختارات من القصص الإنجليزي". وهو يعد في طليعة من حذقوا الترجمة والنقل من الآداب الأجنبية. وقد برهن في ترجماته كما برهن في كتاباته أن اللغة العربية مرنة، وأنها تتسع لكل المعاني الحديثة. ومما يذكر له بالثناء بحثه الأدبي في "بشار بن برد" زعيم المحدثين في العصر العباسي. وتقديرًا له ولمكانته الأدبية وما بذل من جهود قيمة في أدبنا المعاصر اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية. وما زال مكبًّا على التحرير في الصحف وإخراج القصص والأعمال الأدبية المختلفة حتى انطفأت شعلة حياته في سنة 1949. ونقف الآن وقفة قصيرة عند قصة "إبراهيم الكاتب".

2- إبراهيم الكاتب: تدور هذه القصة حول مشكلة عامة؛ هي إمكان أن يحب الرجل أكثر من امرأة، وهي مشكلة تتحول إلى أزمات متعاقبة في حياة إبراهيم الكاتب ومَن يبادلهن حبه، فقد كانت له زوجة لبَّت داعي ربها، وتركت له ولدًا. ويحدث أن يصيبه المرض، ويدخل مستشفى، فيشغف حبًّا بماري ممرضته. ويترك المستشفى إلى الريف، فيلتقي ببنت خالته "شوشو" الفتاة الجميلة التي كان يبادلها في القديم علاقات تطورت إلى حب، وهو يعود إليها الآن ويعود إليه حبه القديم، ويتمنى لو تزوجها وسكن إليها؛ ولكن عائقًا من التقاليد يقف في طريقهما، فإن لها أختًا تكبرها، فإذا كان يريد الزواج فعليه بالكبرى، وليترك الصغرى، فالدور ليس دورها، ولو "دفع لأهلها وزنها ذهبًا". ويحز الألم في نفس إبراهيم ضحية التقاليد الجامدة، ويسافر إلى الأقصر، فيلتقي بفتاة متحررة من الطراز الحديث تسمى "ليلى" على نصيب من الجمال، فيقع في حبها، وتبادله حبًّا بحب، ويمرض إبراهيم. ثم يعود إلى القاهرة، وقد عرفنا أن ليلى تزوجت، أما هو فيتزوج بسميرة التي اختارتها له أمه. وهذا الهيكل العام للقصة يساق في تحليل واسع للمواقف العاطفية وللأشخاص ونفسياتهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم الجنسية تحليلًا بسيكولوجيا صريحًا. وأشار إلى ذلك في تقديمه للقصة؛ إذ يقول: إنها "فوق استيفائها كل ما يجعل الأدب ساميًا تكاد أن تكون بحثًا بسيكولوجيا يعرض بالتحليل لمشكلة الحب الأبدية". وهو يبدؤها بوصف شوشو وصفًا يبرز ملامحها الجسمية والنفسية، يقول: "شوشو فتاة يقول لك جسمها: إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة، وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفه جملة، وتُشْغَل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت الشطر الأول من عمرها في عزلة، قلما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تحس محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية؛ هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما أو ينقل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلى نفسها وروحها

وطبيعتها وجمالها مركزًا، وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع، تحدق فيه تحديقك في بئر، ولا ترنو إليه كما ترنو إلى رسم". وهي صورة حية تامة الملامح الجسدية والقسمات النفسية، ويسترسل في بيان ذلك، فيقول: "ومن الفتيات مَن لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها لأول وهلة؛ ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب؛ بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فُطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يُتَّقَى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومن خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانًا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هي أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة أو أوجع من أن ترفه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر! ". وواضح أن المازني يحاول منذ السطور الأولى من قصته أن يحلل الصفات النفسية للأشخاص وما يرتبط بها من تعبيرات الجسد، وهو يعمد إلى التفصيل في ذلك مستطردًا إلى تعليقات ومقابلات من شأنها أن تضعف الحركة في قصته. وفي القصة حوار مرن شفاف في مواضع مختلفة، وهو ينتهز الفرصة فيه كثيرًا ليضيف تحليلاته النفسية. وأنت لا تشتعر بملل في قراءته لسببين؛ هما: غِنَى خواطره وخوالجه، ومسحه على هذه الخواطر بظرفه وفكاهته. ويأخذ عنده الحوار هذا الشكل الخفيف الذي يصادفنا في أول القصة. "قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظًّا من الراحة: تعالَ بنا إلى بهو السلم؛ فإن الجو بديع في هذه الليلة. - ولكن السلم يؤدي إلى "الغيط" مباشرة بلا حاجز ... والكلاب. - آه. الكلاب، أتخافها؟ إنها لن تؤذيك.. تعالَ، تعالَ.. أيصح أن تكون أضعف مني قلبًا؟ فمضيا إلى البهو، وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي:

مرجان، بخيت، مرزوق، فعجب الفتى، وقال: وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تُتعبي الخدم يا شوشو بلا داع. والتفت، فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم، وتقبل عليها، وتتوثب حولها، وتتمسَّح بثوبها، وتحرك أذنابها، وتعلق حذاءها. فأشارت إليها، فربض واحد إلى يمين الفتى وثانٍ أمامه وثالث إلى يساره. وعادت هي تحادث قريبها، حتى عرضت مناسبة، فنهضت، وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما هَمَّ أن يقوله، إذا صح أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته". ويتخلل الحوار عنده بعض الألفاظ العامية؛ ولكنه لا يأتي بها إلا نادرًا، وفي المواضع التي تكون فيها العربية نابية، أما في غير الحوار فإنه كان يلتزم الفصحى. وكان من رأيه أنها لا تنقصها عناصر التعبير، وشرح ذلك في مقدمة قصته، فقال: إن محاكاة الواقع بالمعنى الحرفي لا معنى لها في الأدب؛ لأنه ليس مجرد نقل عن الطبيعة ومحاكاة؛ بل هو تحوير وتعديل. ومن ثم آثر للحوار أن يكون بالعربية إلا في مواقف قليلة رأى فيها الألفاظ العامية أقوى في التصوير وأوضح في التعبير. ولاحظ النقاد على هذه القصة أن كاتبها تأثر بقصة "سانين" التي ترجمها قديمًا تأثرًا واضحًا؛ بل زعموا أنه نقل عنها كثيرًا. ولكن ذلك لا يقلل من أهمية هذه القصة البديعة التي تعرض لنا إبراهيم الكاتب شخصية حية تضطرب في محيط حياتنا المصرية بريفها ومدنها وروحها وتقاليدها. وظن غير ناقد أن المازني إنما صور شخصيته على لسان هذا البطل وأفكاره ومشاكله وأزمات نفسه وسخريته بالحياة وكل ما انطوى في قلبه من حزن ومرارة وكل ما ارتسم على شفته من ابتسام وفكاهة. والحق أن أكثر قصص المازني ومقالاته يشبه أن يكون اعترافات، فهو دائم التصوير لنفسه وخصاله وحياته اليومية، وهو لذلك تفيض كتاباته بالحيوية؛ لأنها كتابات عقل غزير وروح غنية.

محمد حسين هيكل 1888-1956م

7- محمد حسين هيكل 1888-1956م: أ- حياته وآثاره: في "كفر غنام" من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية وُلد محمد حسين هيكل سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية صميمة، لها بعض الوجاهة والثراء. ولما بلغ الخامسة من عمره ألحقه أبوه بكُتَّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ نحو ثلث القرآن الكريم، وتحول من هذا الكُتَّاب في السابعة من عمره إلى القاهرة، فالتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، ثم مدرسة الخديوية الثانوية، ولما أتم هذه المرحلة انتظم في مدرسة الحقوق وتخرج فيها سنة 1909. وظهر فيه ميله إلى الأدب منذ أن كان في الحقوق، فعكف على قراءة الآثار العربية القديمة. واتصل بلطفي السيد محرر الجريدة، وفتح له صدر هذه الصحيفة ليكتب الحقوقي الصغير، ورعاه خير رعاية، وكان لهذه الرعاية أثرها البعيد في نفسه، فقد التقى بمعلم الشباب الناهض مباشرة، أصبح من مريديه وممن يتلقون عنه دروسه في السياسة والاجتماع والأخلاق. وشعر شعورًا كاملًا بما كان يدعو إليه لطفي من الإيمان بالمصرية والعمل على إبرازها في حياتنا السياسية والأدبية واللغوية، كما شعر شعورًا عميقًا بما كان يدعو إليه من وَصْل حياتنا العقلية بالغرب والتزود من ينابيعه، وظهر أثر ذلك فيما كان يكتبه بالجريدة. فلما تخرج في الحقوق رأى أن يتم تعليمه في فرنسا، فسافر إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق فيها، وحصل منها على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912. وكتب وهو في باريس "قصة زينب" وهي أول محاولة قصصية بارعة في أدبنا، عمد فيها إلى وصف حياة الريف والفلاحين بصورة لم يسبقه فيها أحد من المصريين.

وعاد إلى مصر، فاشتغل بالمحاماة في مدينة "المنصورة". ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة المصرية الأهلية، حتى إذا أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة السياسة سنة 1922 تولى تحريرها. وطبيعي أن ينضم إلى هذا الحزب وأن يتولى تحرير جريدته؛ لأنه امتداد لحزب الأمة الذي كان يحرر أستاذه لطفي السيد صحيفته "الجريدة". وانضم إليه في هذا التحرير زميل من تلاميذ لطفي السيد، عاد هو الآخر إلى مصر من باريس، هو طه حسين، فنهضا معًا بتحرير صحيفة الأحرار الدستوريين. وغلبت على هيكل في كتاباته النزعة السياسية، بينما غلبت على طه حسين النزعة الأدبية. وأخرج هيكل في سنة 1921 جزءًا عن جان جاك روسو وأتبعه بجزء ثانٍ في سنة 1923، فتم له بذلك كتاب طريف عن روسو وآرائه وتعاليمه. ولم يقصر هيكل نفسه على السياسة؛ بل أخذ يكتب مع طه حسين فصولًا في الأدب والنقد، وجمع طائفة من هذه الفصول ونشرها في كتاب "أوقات الفراغ" سنة 1952، والكتاب مقسم إلى ثلاث مجموعات؛ وتتناول المجموعة الأولى مباحث قيمة في النقد، وهو فيها يدل دلالة واضحة على تمثله للثقافة الغربية مع تعلقه بشعبه وثقافته وأمانيه في الحياة الفكرية الراقية. وترجم في هذه المجموعة ترجمة باهرة لأناتول فرانس وبيير لوتي، وتحدث حديثًا طويلًا عن قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة، وما كان يكنه لوطنه ودينه من حب وإجلال، ووصَف كيف رد في أثناء تعلمه بفرنسا على دوق داركور الذي عزا تأخر المسلمين إلى دينهم، فلما عاد إلى مصر تحول مصلحًا اجتماعيًّا، يريد أن ينفي عن أمته كل ما يعوق تأخرها، كما ينفي عن الدين كل ما يوصم به من جمود؛ ولذلك دعا دعوة حارة إلى النهوض بالمرأة المصرية المسلمة، حتى تكون على قدم المساواة للمرأة الغربية. وتناول هيكل في المجموعة الثانية بعض الشئون المصرية بمناسبة كشف مقبرة توت عنخ آمون، وهو يصور هنا إيمانًا شديدًا بقومه وتاريخهم القديم. وفي المجموعة الثالثة خواطر في التاريخ والأدب، دعا فيها إلى الأدب القومي الذي يمثل بيئتنا وعصرنا وحياتنا؛ حتى تتضح ذاتيتنا، وحتى ننفصل في أدبنا بطوابع تميزنا من قدمائنا

وجيراننا، فلا نكون نسخة من غيرنا أو نسخة مطموسة في النسخ العربية المعاصرة؛ بل يكون لنا وجودنا وكياننا الأدبي المستقل. وأخرج بعد ذلك في سنة 1927 كتابه "عشرة أيام في السودان"، وهو إلى أن يكون مناسبات صحفية أقرب منه إلى أن يكون فصولًا أدبية. ومنذ سنة 1926 كان يصدر ملحقًا لصحيفة السياسة اليومية باسم "السياسة الأسبوعية"، وكاد هذا الملحق أن يكون قاصرًا على مباحث في الأدب والنقد. وكان يكتب معه فيه طه حسين ونخبة من الأدباء. وتحول هذا الملحق إلى ما يشبه مدرسة يتمرن فيها الأدباء الناشئون على الكتابة والتحرير. وفي سنة 1929 نشر طائفة من مقالاته باسم "تراجم مصرية وغربية"، وتبدأ تراجمه الأولى بكليوباترا، ثم يتبعها بتراجم لكبار المصريين السياسيين والمصلحين مثل: مصطفى كامل وعبد الخالق ثروت وبطرس غالي، أما التراجم الغربية فقصرها على بيتهوفن وتين وشكسبير وشللي. ويوضح هذا الكتاب امتلاء نفسه بحب وطنه ورجاله الأفذاذ وحب الغرب وأعلام الفن والشعر والنقد فيه. وفي سنة 1930 صادر إسماعيل صدقي رئيس الوزارة المصرية حينئذ صحيفة السياسة؛ ولكن هيكلًا لا يخلد إلى الراحة، فنراه يخرج مع المازني ومحمد عبد الله عنان كتاب "السياسة المصرية والانقلاب الدستوري" ولا تميز مقالات هذا الكتاب من كتبوها، إلا أنه يمكن معرفة الجزء الخاص به من أسلوبه القانوني ومسحته الغربية. وألف في هذه الفترة السياسية فترة حكم صدقي كتابه "ولدي"، وهو كتاب تذكاري لابنه المتوفَّى سنة 1925. وفي هذا الكتاب يصف رحلاته إلى أوربا مع زوجته في شهور الصيف من سنة 1926 إلى سنة 1928، ونراه يصف وصفًا بارعًا مصايف سويسرا، ويقارن مقارنة طريفة بين باريس الحديثة وباريس القديمة أيام دراسته بها، ويتحدث عن إستانبول وما بعث فيها حكم مصطفى كمال من حياة حرة قوية. وفي سنة 1933 نشر كتابه "ثورة الأدب"، وهو في هذا الكتاب يتحدث

عن نهضتنا الأدبية منذ ثورة عرابي، ويبدأ حديثه بفصل عن "الطغاة وحرية القلم"، وكأنه يرد على الحرب العلنية التي شنَّها صدقي على كُتَّاب الصحف والسياسة. ثم يتحدث عن المراحل المختلفة لشعرنا ونثرنا ويعرض بالتفصيل لما أصاب النثر من تطور بينما جمد الشعر ولم يستطع اللحاق به، وأكَّد في غير موضع ضرورة تثقف الأديب المصري الناشئ بالآداب الغربية؛ حتى نستطيع أن نحصل على مراتب الكمال الفني. وعرض في إسهاب لنواحي النقص عندنا في الإنشاء الأدبي وخاصة في بابي القصة والمسرحية. ورفع صوته مجلجلًا بضرورة إقامة أدب مصري وطني، وقدَّم نماذج قصصية استلهم فيها أساطيرنا الفرعونية. ونراه بعد ذلك يعمد إلى مصادر الإسلام الأولى، فيُلقي عليها أضواء جديدة بمباحث تاريخية في الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر. ومن المحقق أنه يتفوق في الكتابة التاريخية لاتساع نظرته ودقة بحثه، وقد أخذ في أثناء ذلك يتولى شئون بعض الوزارات، وكان أول ذلك في سنة 1937 حين جعله محمد محمود في وزارته وزيرًا للدولة، ثم جعله وزيرًا للتربية والتعليم، وما زال يتولى هذه الوزارة من حين إلى حين حتى عُين في سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل في هذه الرياسة حتى سنة 1950. ونشر "مذكرات في السياسة المصرية" جعلها في جزأين، أماط فيها اللثام عن كثير من حقائقنا وشئوننا السياسية في هذا القرن. ورجع أخيرًا إلى كتابة القصة، فأخرج في سنة 1955 قصة "هكذا خُلقت"، وهي قصة طويلة تقص حياة امرأة مصرية عصرية أصيبت بشذوذ الغيرة، واضطربت بهذا الشذوذ في محيط الدعوة الجديدة إلى الحرية النسوية، وسلَّطته على حياتها الزوجية فحطمتها مرتين كما يحطم الطفل لعبته. ونراه يقول عنها بلسانها: "إنها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر يكاد يُخيَّل إليك معها أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها؛ ولكنك تقف بعد قليل دهشًا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومَن هي؟ إنها فريدة في طرازها؛ بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها؛ بل تريد أن تصوغ الحياة كما

تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته؛ بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه". ويتابع هيكل بعد ذلك كتابة القصة القصيرة، وينشرها في الصحف الأسبوعية. وما يلبث أن يلبِّي داعي ربه في ديسمبر سنة 1956. ونحن نعرض بشيء من التفصيل لقصة "زينب" باعتبارها أولى محاولات أدبائنا في عالم القصة بمعناها الغربي.

ب- زينب: كتب هيكل هذه القصة وهو يدرس القانون بباريس، ونراه يقول في مقدمتها: إنها "ثمرة الحنين للوطن وما فيه، صوَّرها قلمُ مقيمٍ في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابًا بباريس وبالأدب الفرنسي". وتتخلص حوادث القصة في أن فتى متعلمًا يسمى حامدًا من أبناء أعيان الريف أحب ابنة عم له تسمى عزيزة، ومنعته تقاليد الريف من الاعتراف لها بحبه، وفوجئ بزواجها. وبحث عن سلوى لحبه فوجدها عند زينب الجميلة، إحدى الأجيرات اللائي يشتغلن في حقل أبيه، وشعرت بحبه لها؛ ولكنها رأت أن زواجها منه غير ممكن لما بين أسرتها وأسرته من فروق اجتماعية، فمنحت قلبها شابًّا من وسطها وعلى شاكلتها. وتلعب التقاليد الريفية العتيقة دورها، فلا تبوح الفتاة بحبها لأهلها، وترضخ لرغبتهم في قرانها من شاب لم تكن تحبه؛ بينما يرحل محبوبها إبراهيم إلى السودان عاملًا في الخدمة العسكرية. ويترك حامد القرية إلى القاهرة ليبدأ حياة جديدة، على حين تقع زينب فريسة لآلام نفسية كثيرة، تفضي بها إلى مرض ذات الرئة، ويقضي عليها هذا المرض. والقصة تعرض علينا في أثناء ذلك الريفَ المصري بعاداته وتقاليده وبساطة أهله ومحاسن حياتهم ومساوئها وما رَانَ عليها من اعتقادات في الجن والشياطين ومشايخ الطرق. ونقل ذلك هيكل نقلًا دقيقًا؛ بحيث تمثِّل قصته واقعَ حياة الريف المصري في أول القرن تمثيلًا صادقًا. ونراه يقف كثيرًا لينقد هذا الواقع

وما فيه من نظم اجتماعية غير متسقة، وخاصة من حيث الزواج، وأن المرأة ليس لها رأي في اختيار زوجها وشريك حياتها. ونشعر هنا بترديد المؤلف لآراء قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة. ومن غير شك تأثر هيكل في وضع هذه القصة بما قرأه من القصص الفرنسي، ويتبين ذلك في تصويره زينب، فقد جعلها رقيقة أكثر مما ينبغي لفتاة ريفية ساذجة، واختار لها وسيلة تتخلص بها من آلام حبها هي مرض السل، طبقًا لنموذج بعض القصص الفرنسية التي قرأها، والتي تتخذ هذه الوسيلة لتخليص العاشقات المعذبات، وتحريرهن من عذابهن وآلامهن. ولم يفسح هيكل لنفسه في تصوير الشخصيات الجانبية وطبائعها، الجانبية وطبائعها، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه كان لا يزال في مقتبل عمره، ولم تتسع خبرته بالحياة وتجاربها العميقة. ولكن إن كان فاته ذلك فإنه عوَّضه بأوصافه الغنية للطبيعة الريفية في مصر، وفي الحق أنه نجح إلى أبعد حد في وصف حياة القرية المصرية، وكثير من صفحات قصته يتحول إلى ما يشبه لوحات بديعة، كهذه اللوحة التي عرض فيها صراع حامد النفسي إزاء بَوْحِه لابنة عمه بحبه، وهي تجري على هذا النسق: "انساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبًا، حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة "شجرة" كبيرة، وجلس كأن به مسًّا من الجن يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبًا لجنب، ولتحدثه وليمضها إليه، ولتكون ملكه؟ ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارًا، وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود، وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميَّز بعد، قد بهت عليها حجاب الليل الهزيم والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يخيم على الوجود فلا تسمع هسيسًا، إلا أن يقطعه

من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السماوات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل، ثم احمرت السماء في المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيِّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على الْمَرْوَى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها. وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا، ويتطلع إلى ما حوله أخرى. ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فُرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشًا، ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار. وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، أو أن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه. يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟ واستولى ذلك على كل جوارحه، وملَك كل عواطفه؛ حتى لجعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به. تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به نظرة ساخرة؛ لأنها لا تفهم منه شيئًا، وتحسب أن حياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يكُ إلا طاحونًا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبًا ونصبًا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدَّم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط

الناس علينا وانهيالهم بما لا يقل عن سياط السائق إيلامًا ووخزًا، أو كأن النفس الإنسانية من الخسة والميل إلى الشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إرادتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية". وبهذا الأسلوب الساخر من العادات والتقاليد الاجتماعية وبما يُطْوَى فيه من وصف حسي بارع للريف والقرية المصرية كتب هيكل قصته في لغة عذبة ليس فيها سجع ولا بديع؛ بل حاول أن يجعلها لغة مصرية، فاستعار في بعض المواضع -وخاصة في الحوار- كلمات من العامية الريفية، وكأنه يستجيب لدعوة أستاذه لطفي السيد؛ إذ دعا إلى أن تكون لنا في الأدب لغة تميزنا بحيث تقترب الفصحى من العامية. غير أن هيكلًا لا يتوسع في ذلك؛ بل عاد في مقالاته وفيما ألفه بعد زينب إلى الأسلوب الفصيح. وفي الحق أنه أحد من طوعوا العربية ومرَّنوها لتؤدي المعاني والأفكار الحديثة في أسلوب شفاف بديع. وقد عاون جاهدًا منذ أوائل القرن في أن يكون لنا أدب مصري قومي منبعث من بيئتنا وشخصيتنا وحاضرنا وماضينا وعواطفنا ومشاعرنا، وكانت قصة زينب اللبنة الأولى في هذا الأدب المصري الجديد.

طه حسين 1889-1973م

8- طه حسين 1889-1973م: أ- حياته وآثاره: وُلد طه حسين سنة 1889 لأب مصري من قرية في صعيد مصر على مقربة من مدينة مغاغة الواقعة على الجانب الأيسر للنيل. وكان أبوه موظفًا صغيرًا في شركة زراعية من شركات السكر، وأنجب أبناء كثيرين، كان طه سابعهم، وفقد بصره في الثالثة من عمره؛ ولكنه عُوِّض عن بصره ذكاء حادًّا وذاكرة قوية. وحدَّد فقده لبصره الطريق الذي يختاره في حياته، وهو طريق التعليم

الديني، فالتحق بكُتَّاب، حفظ فيه القرآن الكريم، ولما أتم حفظه أخذ في حفظ "مجموع المتون" وقراءة بعض الكتب والأشعار القديمة استعدادًا لدخول الأزهر، وكان قد سبقه إليه أخ أكبر منه، فصحبه معه وهو في الثالثة عشرة. وعكف طه على دراسة العلوم الدينية واللغوية بالأزهر، وكان الشيخ سيد المرصفي يدرس الأدب، فأعجب به، ولزم دروسه التي كان يقرأ فيها الكامل للمبرَّد والأمالي لأبي علي القالي وحماسة أبي تمام. ولم يلبث أن أخذ يضطرب في محيط الحركات الإصلاحية التي كان ينادي بها تلاميذ محمد عبده، من مثل قاسم أمين الذي كان يدعو إلى حرية المرأة، ولطفي السيد الذي أخذ يدعو في "الجريدة" إلى مقاييس جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع. وسرعان ما تحول إلى هذا المعلم يستضيء به في حياته العقلية، فاختلف إلى صحيفته، مستمعًا لأفكاره تارة، وكاتبًا بإرشاده وعلى هديه تارة أخرى. وفتحت الجامعة الأهلية أبوابها للطلاب سنة 1908 فانتظم فيها، وسمع إلى مَن كانوا يحاضرون بها من المصريين أمثال: الشيخ المهدي ومحمد الخضري وحفني ناصف، ومن المستشرقين أمثال: نالينو وجويدي. وسرعان ما انكشف له آفاق جديدة في بحث الأدب ودراسته؛ بفضل المناهج العلمية في النقد التي استمع إليها من الأساتذة الأوربيين. واتجه توًّا إلى تعلم الفرنسية في مدارس ليلية وعلى أيدي بعض المعلمين؛ حتى يفهم المحاضرات التي كانت تُلْقَى بهذه اللغة. ولا نصل إلى سنة 1914 حتى نجده يتقدم إلى درجة الدكتوراه برسالة عن أبي العلاء، ويظفر بالدرجة التي يبتغيها بين الإعجاب والثناء. وطُبعت الرسالة باسم "ذكرى أبي العلاء" وهي تصور استعدادًا علميًّا واضحًا، لا بما فيها من حاسة تاريخية سليمة فقط؛ بل أيضًا بما فيها من أحكام أدبية جديدة لا تتأثر رأيًا سابقًا ولا عقيدة سابقة. وعلى الرغم من أنه لم يكن قد وسَّع محيط قراءته في الآداب الغربية وفي آثار المستشرقين نجده يبحث الضرير العربي القديم بحثًا دقيقًا يستوفي فيه حياته وبيئته وعصره وظروفه التي أحاطت به، وكوَّنت أدبه وفلسفته. لذلك قررت الجامعة الأهلية إرساله في بعثة إلى فرنسا، فنزل في مونبلييه

والتحق بجامعتها يدرس العلوم التاريخية وظل فيها نحو عام، عاد في نهايته إلى مصر لسوء حالة الجامعة المالية. وسرعان ما تحسنت ظروف الجامعة، فرجع بعد ثلاثة أشهر ولكن لا إلى مونبلييه، وإنما إلى باريس. وهناك أخذ يختلف إلى محاضرات المؤرخين والأدباء في السوربون والكوليج دي فرانس، تارة يستمع إلى محاضرات في التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتارة ثانية يستمع إلى محاضرات في الفلسفة وعلم النفس، وتارة ثالثة يستمع إلى محاضرات بعض المستشرقين. ويتعلم في أثناء ذلك اليونانية واللاتينية، تعاونه فتاة فرنسية كريمة تعرَّف عليها في أثناء الدرس، وهي التي اختارها فيما بعد شريكة لحياته؛ إذ وجد عندها كل ما كان يفقده، وقد وصفها فقال: إنها بدلته من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادة وصفوًا. وكان أهم ما شُغف به من دراسات في السوربون المشاكل الفلسفية والاجتماعية، وانتهى به هذا الشغف إلى أن يجعل رسالته للدكتوراه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية". ومن المحقق أنه استطاع بجانب ذلك أن يفهم الأدب اليوناني واللاتيني القديم فهمًا عميقًا، كما استطاع أن يفهم الأدب الفرنسي الحديث فهمًا دقيقًا، حتى إذا عاد إلى مصر عقب الحرب العالمية الأولى أخذ يُعْنَى في محاضراته بالجامعة بدرس تاريخ اليونان وأدبهم؛ حتى يفهم المصريون الحضارة القديمة. وأخرج كتابين هما: "صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان". و"نظام الأثينيين" لأرسططاليس. وكأنه بذلك يريد أن نعتمد في نهضتنا الأدبية على الأصول اليونانية التي اعتمد عليها الأوربيون في تكوين نهضتهم الأدبية، وإليه وإلى أستاذه لطفي السيد مترجم أرسططاليس يرجع اهتمامنا بالحضارة اليونانية القديمة. ونقل فيما بعد طائفة من تمثيليات سوفوكليس باسم "من الأدب التمثيلي اليوناني". ويُصدر حزب الأحرار الدستوريين صحيفة السياسة، ويصبح محررها الأدبي، وهنا نراه يعدِّل في اتجاهه؛ إذ ينشر يوم الأحد قصة ملخصة من الأدب الفرنسي، وفي يوم الأربعاء ينشر بحثًا في الشعر العربي. وأكبر

الظن أنه انصرف عن الأدب اليوناني؛ لأنه لم يجد قبولًا له عند المصريين حينئذ. وكان المسرح المصري متأخرًا، فرأى أن يُطْلع القراء على بعض المسرحيات الفرنسية؛ حتى يفهموا هذا المسرح الغربي الحديث، فنشر في سنة 1924 كتابه "قصص تمثيلية" لطائفة من أشهر الكتاب الفرنسيين، كما نقل بعد ذلك مسرحية "أندروماك" لراسين و"زاديج" لفولتير. وحاول في المقالات التي نشرها في الشعر العربي أن يفهم طبيعة العصر العباسي الأول -عصر أبي نواس- فهمًا جديدًا غير متأثر فيه بآراء من سبقوه، ودعاه عصر الشك والزندقة والمجون. وثار عليه كثيرون في مقدمتهم أديب سوريا رفيق العظم؛ لأنهم عدوه مشوهًا لتاريخ العرب في حقبة باهرة من حقب حياتهم. ورد طه حسين بأن العلم ينكر مذهب تقديس السلف، وبأن النقد العلمي ينبغي ألا يعرف الهوى، وألا يتأثر بالميول والعواطف، واستشهد بعصور في تاريخ اليونان القديم وتاريخ فرنسا الحديث كانت من أزهى العصور، وكانت من أكثرها لهوًا ومجونًا، وانتهى إلى أن القرن الثاني الهجري كان قرن لهو ولعب وشك ومجون. وتحولت الجامعة الأهلية في سنة 1924 إلى جامعة حكومية، وأصبح أستاذًا لآداب اللغة العربية في الجامعة الجديدة بكلية الآداب. ونراه بعد أن ترجم في سنة 1922 كتابًا في علم النفس التربوي من تأليف لوبون بعنوان "روح التربية" ينشر في سنة 1925 كتاب "قادة الفكر"، وفيه يصور مراحل التطور الفكري والثقافي في الغرب، وقد جعلها أربعة مراحل: مرحلة شعرية يصورها هوميروس، ثم مرحلة فلسفية يمثلها سقراط وأفلاطون وأرسططاليس، ثم مرحلة سياسية يمثلها الإسكندر الأكبر، وأخيرًا مرحلة دينية تمثلها المسيحية والإسلام. وفي سنة 1926 نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، وبنى دراسته فيه على منهج ديكارت الذي يدعو إلى الشك في كل شيء حتى نصل إلى اليقين على أسس وطيدة، وبهذا المنهج اعتبر الأحكام التاريخية القديمة إضافية يمكن أن يعاد النظر فيها، فإذا قال القدماء رأيًا في

شاعر فلا مانع من أن نذكر بجانب هذا الرأي رأيًا آخر، ربما كان أدق وأصدق، فكثير من الأشياء يمكن أن يكون قد فات القدماء. وقد انتهى إلى نظرية عامة هي نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي. وفي أثناء ذلك دعا إلى حرية الفكر، وأن ننظر في الأدب نظرًا غير مقيد بمذهب أو عقيدة سوى روح البحث التحليلي. وثارت ثائرة النقاد وخاصة مصطفى صادق الرافعي ورجال الأزهر، وتخلف عن هذه الثورة كثير من الكتب وتدخلت الحكومة؛ ولكن العاصفة مرت بسلام، وأعاد طبع كتابه باسم "في الأدب الجاهلي". ووجهته هذه المعركة العنيفة إلى النظر في شأنه وتطوره، ومن هنا بدأ يكتب ترجمته الذاتية "الأيام"؛ فأخرج الجزء الأول منها في سنة 1929 بعد أن نشره فصولًا في مجلة الهلال ... وأصبح عميدًا لكلية الآداب، إلا أن عهد إسماعيل صدقي يُظلُّ مصر، وتدخل في أيام مظلمة، في السياسة وغير السياسة، فيُبْعَدُ طه حسين عن الجامعة، ويستقيل منها لطفي السيد. ولا يلبث أن ينضم إلى حزب الوفد، ويكتب في "صحيفة كوكب الشرق"، ويخرج صحيفة "الوادي"، ويحول قلمه إلى ما يشبه سوطًا، يلهب به لحم صدقي الطاغية. ويظل في هذا الصراع من سنة 1931 إلى سنة 1934؛ أي: طوال حكم صدقي، ولكنه لا ينصرف عن الأدب والكتابة فيه؛ فقد أخرج في سنة 1932 كتابه "في الصيف"، وهو مجموعة رسائل كتبها بأوربا في صيف سنة 1928 يصف فيها رحلته في البحر وأثرها فيه، ويجره ذلك إلى ذكريات أول رحلة له إلى فرنسا، وتتجسم في مخيلته صور أخرى من شبابه حين كان في الأزهر وحين كان يشغف مع رفقائه فيه بالنزعة العقلية المتحررة التي دعا إليها محمد عبده. وفي سنة 1933 ينشر دراسته عن "حافظ وشوقي"، كما ينشر أول جزء له من سلسلته البديعة "على هامش السيرة"، وظهر له بعد هذا الجزء جزآن. وفي الأجزاء الثلاثة يتخذ من السيرة النبوية وما فيها من أحداث وأشخاص مادة لقصص رائع.

ويعود إلى عمادة كلية الآداب في نهاية سنة 1934، وينشر سلسلة من محاضراته في نشأة النثر العربي وفي طائفة من الشعراء العباسيين باسم "من حديث الشعر والنثر"، كما ينشر طائفة من مقالات كتبها في باريس وفي بلجيكا وفيينا باسم "من بعيد". ومن أروع مقالاته في هذه المجموعة مقالته عن "ديكارت" ومذهبه في الشك واليقين. وهو في دراساته المختلفة يُعد مثلًا حيًّا لتطبيق هذا المذهب الفلسفي وحَمْل الباحثين في الأدب العربي عليه. وفي هذه الفترة نشر قصة "أديب" صور فيها أحد زملائه في البعثة، وتحدث في أثناء ذلك عن الجامعة القديمة وعن سفره إلى أوربا، ويُعد هذا الكتاب من روائع أدبنا التصويري الحديث. وعقب ذلك وضع كتابًا عن المتنبي سنة 1936 سماه "مع المتنبي"، حلل فيه حياته وشعره. ويتصادف أن يقضي الصيف في قرية من قرى جبال الألب ويلتقي بتوفيق الحكيم، وتكون ثمرة هذا اللقاء "القصر المسحور"، وهو مجموعة رسائل أدبية، تخيلا فيها شهرزاد، وأفضى كل منهما أمامها بآرائه في الأدب والحياة. ومضى طه حسين يفكر في حياتنا الثقافية والتعليمية، ووضع لها برنامجًا مفصلًا في كتابه "مستقبل الثقافة" الذي أصدره في سنة 1939 وهو يقع في جزأين. وكان قد ترك الجامعة ليعمل في وزارة التربية والتعليم. وعُين مستشارًا فنيًّا لهذه الوزارة، ثم عين مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1942 فأتم إنشاءها. وفي أثناء ذلك يقبل على الدرس والكتابة، فنراه بعد أن أعاد كتابه القديم عن أبي العلاء باسم "تجديد ذكرى أبي العلاء" ينشر عنه بحثًا جديدًا باسم "مع أبي العلاء في سجنه"، يصور فيه جوانب نفسية وفلسفية دقيقة لهذا العقل الكبير، وأفرده بعد ذلك بكتيب سماه "صوت أبي العلاء" نثر فيه بعض أشعاره. واتجه إلى القصة، فنشر "أحلام شهرزاد" و"شجرة البؤس" و"دعاء الكروان"، وهو فيها جميعًا يعبر عن مُثُله القومية والإنسانية. أما

في الأولى فيعرض مشاكل العصر ونظام الطبقات خلال هذه الأسطورة القديمة عن شهرزاد وشهريار، وبذلك تُبعث الأسطورة من جديد وتحيا في محيط حياة الكاتب وآرائه. وأما القصة الثانية فيعرض علينا فيها صورة حية لأسرة مصرية تعاقب فيها ثلاثة أجيال، أعدوا لظهور صراع عنيف بين المثل العليا للعقل والعلم وبين التقاليد البالية، وفي أثناء ذلك تصوَّر الطبقة المصرية الفقيرة وما تعاني من بؤس واعتقاد في التوكل والقضاء. وفي القصة الثالثة يشترك الكروان مع أشخاص القصة في الآلام، وتصوَّر حياة المصريين في طوائف من البدو والفلاحين والموظفين كما تصور مشاكل التعليم، ويقوم صراع بين الغريزة والضمير ومطالب الفرد والجماعة. وينشر في هذه الفترة مجموعة من مقالاته في النقد باسم "فصول في الأدب والنقد"، كما ينشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بعنوان "صوت باريس" و"لحظات". وتستقيل الوزارة الوفدية، ويخرج من الحكومة، فيحرر صحيفة "الكاتب المصري"، ويعمل على نهضة كبيرة في الترجمة، ويترجم أوديب لأندريه جيد. ويكتب في صحيفته مقالات أدبية مختلفة تتناول بعض الأدباء الغربيين وبعض الدراسات في الأدب العربي، وينشر منها مجموعة باسم "ألوان". ويؤلف كتابًا عن "عثمان" يصور فيه فتنته وكل ما اقترن بها من مؤثرات ودوافع بشرية. ويصف رحلة له إلى أوربا في صيف سنة 1948 ويذيعها باسم "رحلة الربيع". وينشر كتاب "جنة الحيوان" وهو مجموعة رسائل أدبية رمزية، كما ينشر "مرآة الضمير الأدبي" وهي رسائل في نقد الأخلاق والمجتمع. ويذيع "جنة الشوك" وهي تجري في محاورات قصيرة بين شيخ وتليمذه، وهي محاورات لاذعة ترمي إلى إصلاح الفاسد في مجتمعنا وتقويم المعوج في صور قوية. ويكتب أقاصيصه "المعذبون في الأرض" راسمًا فيها ما كان يقع على المصريين من ظلم في عهود الإقطاع والفساد السياسي. ويصبح في سنة 1950 وزيرًا للتربية والتعليم، فينادي بتكافؤ الفرص ويصيح بأن التعليم ضروري لكل أفراد الشعب ضرورة الغذاء والماء والهواء،

ويفكه من عقال المصاريف، ويجعله مجانًا للشعب كله. ويخرج قصته "الوعد الحق" مصورًا فيها ظهور الإسلام، وداعيًا إلى مثله الاشتراكية في الحياة. وينشر كتابًا باسم "بين بين"، وهو خواطر في الحياة والمجتمع. وتقوم ثورتنا المباركة ويجد مجالًا فسيحًا لنشر آرائه في السياسة والأدب، ويؤلف كتابًا عن "علي بن أبي طالب"، وكتابًا ثانيًا عن أبي بكر وعمر، وينشر كتابه "مرآة الإسلام"، كما ينشر مجاميع من مقالاته في الحياة والأدب والنقد. وهذه هي حياة طه حسين حتى وفاته سنة 1973، وهي حياة كانت حافلة بالكفاح؛ إذ نراه يكافح المحافظين في الدين والأدب والسياسة، ويكافح من أجل تغذية أمته بالمثل الأدبية عند اليونان وعند الغربيين، ويختط طرقًا جديدة في أبحاثه الأدبية وفي عالم القصة، يسعفه في ذلك استعداد أدبي أصيل، وهو استعداد شهد له به عالمه العربي، فمنح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، كما شهد له به العالم الغربي فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات أوربية مختلفة. ونقف وقفة قصيرة عند قصته الأولى "الأيام".

ب- الأيام: في رأي كثير من النقاد الشرقيين والغربيين أن هذه القصة أروع ما كتبه طه حسين، وقد أخرج منها جزأين يقص في أولهما طفولته، وفي الثاني صباه وشبابه الأول قَصَصًا بديعًا، يتحول إلى اعترافات صادقة صريحة، وهي اعترافات لا تقل روعة وجمالًا عما كتبه أدباء الغرب المشهورون من أمثال: جيته وروسو وشاتوبريان؛ إذ يعرض طه ذكرياته عن طفولته وشبابه برقَّة وصراحة منقطعة النظير. وهو يقص علينا في الجزء الأول كيف نما هذا الطفل الضرير وسط بيئته المتوسطة، وكيف أخذ يسيطر تدريجًا على صورة العالم الخارجي من حوله يرعاه

حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى تفاجأ بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا". وينتقل بنا إلى الجزء الثاني، فنراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، وتفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين. وعلى هذا النحو يعرض الجزآن صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه: "عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغني، تقتحمه العين اقتحامًا في

عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظة في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو. عرفته يابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنَّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيمًا وصفوًا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يابنتي من هذا اللون حظًّا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمك، ولقدمت إليك قدحًا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب. لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا يجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه". وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه الترجمة الذاتية "الأيام" كما كتب بقية قصصه وكتبه. وقد تُرْجمت الأيام إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والعبرية. ومن أهم ما يميز طه حسين في "الأيام" -وغير الأيام- أسلوبه المتموج الزاخر

بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في جرس موسيقي بديع. وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه. وطه حسين من هذه الناحية يشبه أدباءنا القدماء من أمثال الجاحظ الذين كانوا يقصدون قصدًا إلى التأثير بموسيقى كلامهم، فالكلام لا يؤدَّى بأوجز عبارة؛ وإنما يُبْسَط بسطًا ليحمل أداء موسيقيًّا يضاف إلى أداء الأفكار والمعاني. وقد يكون سبب ذلك في القديم أن الناس لم يكونوا -مثلنا الآن- يقرءون الأدب بعيونهم؛ بل كانوا يقرءونه بأصواتهم وآذانهم، فكان الشعر ينشد إنشادًا، وكان النثر يُتلى في الصحف تلاوة؛ لذلك حافظوا على موسيقى الكلام محافظة دقيقة. واحتفظ لنا في هذا العصر طه حسين بخصائص لغتنا القديمة، فوفر لأسلوبه كل ما يستطيع من جمال صوتي، وأتاح لهذا الجمال أن يعبر تعبيرًا طبيعيًّا عن نظراته وتحليلاته وكل ما نقله إلينا من الغرب، وكل ما جدده وابتكره من أبحاث في الأدب ومن قصص وصور فنية مختلفة. فلم يعد الجمال الصوتي عنده فارغًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبه؛ بل لقد غدا في يده أداة مرنة شفافة، تنقل إلينا كل ما يختلج في عقله وقلبه من خواطر ومشاعر نقلًا دقيقًا، فالأسلوب ليس عنده كساء أو طلاء؛ وإنما هو قوام أدبه ومادة فنه، يسند به كل ما يتدفق على ذهنه من معانٍ وأفكار وألفاظ وكلمات.

توفيق الحكيم

9- توفيق الحكيم: ب- حياته وآثاره: وُلد توفيق الحكيم في الإسكندرية سنة 1898 لأب كان يشتغل في السلك القضائي، من قرية "الدلنجات" إحدى أعمال إيتاي البارود بمديرية البحيرة. وورث هذا الأب عن أمه ضيعة كبيرة، فهو يُعد من أثرياء الفلاحين، وقد تعلم وانتظم في وظائف القضاء، واقترن بسيدة تركية، أنجب منها توفيقًا، وكانت صارمة الطباع، تعتز بعنصرها التركي أمام زوجها المصري، وتشعر بكبرياء لا حد له أمام الفلاحين من أهله وأقاربه. وقضت أيامها الأولى مع الطفل بين هؤلاء الفلاحين في الدلنجات، فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال، وتسد بكل حيلة أي طريق يصله بهم. ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي؛ إذ كانت تغلق في وجهه كل الأبواب التي تصله بالعالم الخارجي. ولما بلغ السابعة من عمره ألحقه أبوه بمدرسة دمنهور الابتدائية، وظل بها ردحًا من الزمن، حاول فيه أن يحرر نفسه من وثاق أمه وحياة الانفراد التي أخذته بها؛ ولكنه لم يستطع إلا في حدود ضيقة. ولما أتم تعليمه الابتدائي رأى أبوه أن يرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، وكان له بها عَمَّان يشتغل أحدهما مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية، أما الثاني فكان طالبًا بمدرسة الهندسة، وكانت تقيم معهما أخت لهما. فرأى أبوه أن يسكن مع عمَّيه وعمته؛ ليساعدوه على التفرغ للدرس، وأتاح له بُعْده عن أمه شيئًا من الحرية، فأخذ يُعْنَى بالموسيقى والتوقيع على العود. وإذا كان الفتى المراهق قد عُنِي بالموسيقى فإنه أخذ يُعْنَى بالتمثيل والاختلاف إلى فرقه المختلفة، وفي هذه الأثناء أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الحقوق، وكانت مواهبه الأدبية قد أخذت تستيقظ في قلبه وعقله، ورأى محمد تيمور

وكثيرًا من الشباب حوله يقدمون لفرق الممثلين مسرحيات يقومون بتمثيلها وعَرْضها على الجمهور، وكانت الثورة المصرية قد انبعثت قبل ذلك، ووجهت الممثلين والمؤلفين من الشباب إلى العناية بالروح القومية. ولم يلبث توفيق أن ألَّف في سنة 1922 مجموعة من المسرحيات مثلت بعضها فرقة عكاشة على مسرح الأزبكية؛ منها: "المرأة الجديدة" و"الضيف الثقيل" و"علي بابا". وهي في جملتها محاولات ناقصة. وتخرج توفيق في الحقوق سنة 1924، وزيَّنَ لأبيه سفره إلى باريس لإكمال دراسته في القانون، ووافق الأب على رغبته، وهناك أمضى نحو أربع سنوات لم يعكف فيها على دراسة القانون؛ وإنما عكف على قراءة القصص وروائع الأدب المسرحي في فرنسا وغير فرنسا، وشُغف بالموسيقى الغربية شغفًا شديدًا، واستطاع بما لأبيه من ثراء أن يعيش في باريس عيشة فنية خالصة، فَوَقْتُهُ كله موزَّع بين المسارح والموسيقى والتمثيل، وهو في أثناء ذلك يقرأ ويفهم ويتمثل ثقافات العصور الغابرة والمعاصرة. واستقر في ضميره أنه أُعِدَّ ليكون أديب وطنه القصصي والمسرحي، ورأى أوربا تؤسِّس مسرحها على أصول المسرح الإغريقي فتحول إلى هذا المسرح يدرسه، ويتقن درسه وما انتهى إليه من تطور على أيدي الغربيين المحدثين، كما أخذ يدرس القصة الأوربية ومدى تمثيلها لروح أقوامها وأحوالهم النفسية والاجتماعية. ووعى ذلك كله وعيًا دقيقًا، وأخذ يحاول كتابة قصة تصور كفاح الشعب المصري في سبيل الحرية، فكتب قصته "عودة الروح" وحاول أن يكتبها بالفرنسية، ثم حولها إلى العربية ونشرها في سنة 1933 في جزأين. وفيها يعرض المحيط الاجتماعي في بلاده قبل ثورة سنة 1919، واختار لذلك أسرة متباينة الأمزجة، هي نفس الأسرة التي كان يعيش معها بالقاهرة أسرة عمَّيه وعمته وما اضطربوا فيه من علاقات. وهو نفسه محسن الفتى المراهق الذي وقع في حب جارة له، هي فتاة ضابط متقاعد، وكانت واقعية النظر، فلم تَجْرِ معه في حبه أشواطًا بعيدة؛ بل انصرفت عنه إلى شاب كانت تعجب به، ويتعكر صفو السلام بين أسرتها وأسرته. وفي الجزء الثاني من القصة

نرى محسنًا في الريف، ونسمع خلال فنون من الحوار إلى دفاع عن الفلاح المصري وعراقة روحه، تلك الروح التي أنشأت عصر الفراعنة، والتي تنشئ نهضتنا الحديثة. ويعود إلى القاهرة ليرى حبه يتحطم، وتنشب الثورة المصرية، ويضطرب أفراد الأسرة فيها ويتَّحدون في مثل أعلى سامٍ، هو الجهاد في سبيل الحرية. وقد كُتبت هذه القصة في كثير من جوانبها بلغتنا العامية. وقد عاد توفيق إلى مصر في سنة 1928 ووُظف في سلك النيابة حتى سنة 1934، ثم انتقل مديرًا للتحقيقات بوزارة التربية والتعليم، وظل بها إلى سنة 1939؛ إذ نقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية مديرًا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي. وصَمَّم منذ عاد من بعثته أن يقتحم فن التمثيل الغربي بعد أن عرف أصوله وتلقَّن أسسه عند الإغريق والفرنسيين، وأُلْهم كما ألهم لطفي السيد وطه حسين أنه لا بد من الرجوع إلى الإغريق الذين هيئوا لأوربا نهضتها في التمثيل وغير التمثيل؛ لنبني نهضتنا الثقافية على نفس القواعد التي بَنَى عليها الأوربيون. ويتعمق بنظره المأساة الإغريقية، فيجدها تستمد موضوعها من الأساطير ومن شعور ديني بصراع عنيف بين الإنسان والقوى الإلهية المسيطرة على الكون، وتصوِّر المأساة هذا الصراع صاعدًا إلى نهايته، وهي الفاجعة التي تنتج عن صرامة القضاء. ولم يلبث توفيق الحكيم أن عمد إلى تطبيق ذلك في أسطورة إسلامية عَرضتْ لها الروايات المسيحية، وهي قصة أهل الكهف التي أشير إليها في القرآن الكريم، وهم سبعة نفر ماتوا في الكهف، وظلوا نحو ثلاثمائة سنة، ثم بُعثوا، وعادوا إلى الموت بعد أن ظهرت معجزتهم الخارقة، إلا أن توفيقًا جعلهم يستأنفون الحياة، وجعل لهم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمن، فقد كان كل شيء مُعَدًّا ليعيشوا معيشة رغد وهناءة؛ ولكن حائلًا يحول بينهم وبين هذه المعيشة؛ هو الحقيقة التي تصطرع مع الواقع. فهذا أحدهم يعلم أن ابنه مات منذ مائة عام، فيؤثر الموت على الحياة، ويعود إلى الكهف، وهذا ميشلينا الذي كان قد وقع قديمًا في حب بريسكا بنت ديقيانوس يلتقي في قصر الملك المسيحي بحفيدة جميلة لها سميت باسمها، وانطبعت على وجهها صورتها، فظنها معشوقته القديمة، وتُفْتَنُ به، ويتبادلان

الحب. وتتضح لهما الحقيقة، فتُفسد واقعهما، ويعود ميشلينا إلى الكهف مؤثرًا للموت كما يعود جميع رفقائه، وقد رأوا أنهم لا يستطيعون استئناف الحياة في هذا الواقع الجديد، وبذلك ينهزم الواقع أو الإنسان أمام الزمن أو أمام هذا الشيء الغيبي الغامض الذي يسمى الحقيقة. وعلى هذا النحو بدأ توفيق كتابة المأساة مؤمنًا بأن قوة تسيطر على الإنسان، فهو لا يعيش وحده في الكون؛ بل تسيطر عليه قوة إلهية عُلْوية، توجهه وتوحي إليه، وتدفعه يمينًا أو شمالًا. وتوفيق في ذلك يخضع لروحنا الشرقية المتدينة التي تؤمن بالقوى الغيبية المهيمنة على الناس. وأخذت تنبثق في نفسه هذه الروح لا بشعورها الديني فحسب؛ بل بشعورها الصوفي الذي يُعْلِي الروح والقلب على المادة والعقل. ويتبين ذلك في مأساته الثانية "شهرزاد" التي مثَّل في بطلها "شهريار" الصراع بين الإنسان والمكان، فقد استنفد في صاحبته كل ما أراد من متاع ولذة، وتحول قلقًا ظامئًا يريد معرفة الكون وأسراره. وهنا يبدأ الصراع العنيف بين الإنسان الشقي بقصور فهمه وبين حقائق العالم وأسراره. ويحاول شهريار أن يرحل عن واقعه ومكانه ناشدًا للمعرفة، ولكن لا يلبث أن يعود، فهو لا يستطيع فرارًا من مادته، ويصطدم بخيانة شهرزاد، وينتهي إلى حال شاذة. وعلى هذا النحو لن يستطيع الإنسان أن يخلص من مكانه وزمانه والقوى الغيبية التي تسيطر عليه، وإن خيرًا للعالم أن يعتصم بقيم الشرق الروحية؛ بل إن علينا أن نحارب العقل الغربي الذي يؤمن بالمادة وحدها، وينفي عن عالمنا قيمه الروحية الجميلة. وبهذه الروح الشرقية مضى يكتب قصته "عصفور من الشرق" وفيها يقول: "وما صنع لنا العلم وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعُمَّالنا وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع". وأتاح له عمله في النيابة وفي مراكز ريفية مختلفة أن يكتب "يوميات نائب في الأرياف"، وفيه وصَف وصفًا دقيقًا ريفنا، وكيف أن أهله لا يفهمون مدلول

القانون، وكيف يتعسف الحكام في حكمهم مبينًا عيوب النظم الإدارية والقضائية والتشريعية، وهو في أثناء ذلك يعرض الحوادث والأشخاص عرضًا واقعيًّا حيًّا في سخرية مرة وفي مقابلة حادة بين واقعية الفلاحين والمثالية. ويُخْرج "أهل الفن" وهي ثلاث قطع مسرحية، فكاهية قصيرة وأقصوصتان. ويخرج سيرة "محمد" صلى الله عليه وسلم في قالب حواري، حافظ فيه على حوادث السيرة محافظة تامة. ويلتقي مع طه حسين في صيف سنة 1936 بقرية من قرى جبال الألب في فرنسا، ويكتب معه "القصر المسحور" متحدثين معًا عن سر شهرزاد وعن حقائق مختلفة في الأدب والفن. ويستقيل من الوظيفة الحكومية في سنة 1943 ويخلص لفنه، ويتعاقب إنتاجه بين مقالات نقدية في الصحف، يجمعها وينشرها، وبين قصص وأقاصيص اجتماعية مثل عهد الشيطان، ويتضخم إنتاجه في المسرحيات تارة يستوحيها من محيطه الاجتماعي المصري على نحو ما نعرف في مجموعته "مسرح المجتمع" التي نشرها في الصحف أولًا ثم جمعها في هذا الكتاب معالجًا فيها مشاكلنا الاجتماعية والسياسية بروح فكهة، وتارة يستوحيها من موضوعات قديمة وأساطير إغريقية وغير إغريقية حتى يأخذ الفرصة كاملة لمسرحه الذهني الذي اشتهر به من قبل في "أهل الكهف" و"شهرزاد"، والذي يذهب بعض النقاد إلى أن صلاحية مسرحياته للقراءة فيه أكثر من صلاحيتها للتمثيل. وقد مضى فألف مسرحية "براكسا أو مشكلة الحكم" التي نشرها في سنة 1939، وهي تعرض لمشكلة توزيع السلطات، وتكشف عن فسادنا السياسي قبل الثورة. ونراه ينشر في سنة 1942 مأساة بيجماليون، يستوحيها أيضًا من أسطورة إغريقية، تصور المشكلة بين الفن والحياة، فهذا مَثَّال انصرف عن النساء إلى فنه، وصنع تمثالًا آية في الجمال والفتنة، وأحب هذا التمثال الذي صنعه بيديه، وسوَّلت له نفسه أن يطلب إلى "فينوس" أن تبعث الحياة فيه،

فاستجابت له، وأحالت تمثاله امرأة اقترن بها. وحوَّل الحكيم هذه الأسطورة إلى مأساة يقوم فيها صراع عنيف بين الفنان وإخلاصه لفنه وبين نداء الحياة الذي يلاحقه ولا يستطيع فكاكًا منه، وبعبارة أخرى: يصعد صراع بين ملكات الفنان وبين الإنسان الراقد في أطوائه. ويطلب بيجماليون إلى الآلهة أن تعيد له تمثاله، وتستجيب إليه، وما يلبث أن يتولاه القلق ويثور، فيحطم تمثاله، وتنتهي حياته بنفس الحيرة التي أنهى بها توفيق حياة شهريار في مأساته "شهرزاد". ويعود توفيق إلى موضوعاتنا الدينية، ويختار سليمان الحكيم وقصة الهدهد وبلقيس التي جاءت في القرآن الكريم. ويمزج بين ذلك وبين قصة الجني والصياد في ألف ليلة وليلة، ويكتب مسرحيته "سليمان الحكيم"، يعرض فيها مُلْكه العظيم وحبه لبلقيس. وتتوالى الأحداث كما يميلها القضاء، وتتعطل إرادة الأشخاص حتى سليمان الحكيم نفسه، وقد اتخذ توفيق من الجني أو العفريت رمزًا للعقل المغرور الذي يظن واهمًا أنه قادر على كل شيء. وفي سنة 1949 يخرج قصة "الملك أوديب" التي تزعم الأسطورة الإغريقية أنه قتَل أباه وتزوج أمه، بدون معرفته. وكانت الآلهة قد تنبأت للأب بذلك نتيجة لخطيئة أحلت عليه اللعنة، فلما رُزق هذا الولد أمر راعيًا أن يحمله إلى أحد الجبال المهجورة ويقتله؛ ولكن الطفل أنقذ وتربى في بلاط ملك آخر، وتطورت الأحداث كما شاءت الآلهة. وعرَف أوديب وأمه أو زوجته ذلك أخيرًا، فانتحرت، وفقأ عينيه وحلت عليه اللعنة الأبدية. وأخذ الحكيم هذه الأسطورة، فجردها من النبوءة الوثنية عند الإغريق وما يعتقدون في آلهتهم، ومضى في ظلالها يهاجم العقل ومحبته للبحث والاستطلاع، فإن أوديب يسعى للبحث عن حقيقته، بعد أن استوى ملكًا وتزوج أمه، وتصدمه الحقيقة هو وأمه؛ بل تقضي عليهما قضاء مبرمًا. وإنما أطلنا في عرض هذه المسرحيات والمآسي؛ ليقف القارئ على أن لتوفيق فلسفة في مسرحه الذهني. وهي فلسفة يستمدها من الشرق وروحه العميقة التي تؤمن بقوى غيبية تسيطر على الإنسان وملكاته، والتي تشك في العقل وكل

ثمراته. ومعنى ذلك: أنه أوجد لنا مسرحًا مصريًّا، له فلسفته التي يقف بها بجانب المسارح الغربية القديمة والحديثة. وكتب بنفس هذه الفلسفة وما يتصل بها من صوفية الشرق كثيرًا من قصصه، ولعل ذلك ما جعل الغربيين يترجمون آثاره إلى لغاتهم؛ بل لقد مثَّلوا بعض مسرحياته، وخاصة شهرزاد؛ إذ وجدوها خليقة حقًّا بالتمثيل؛ لما فيها من جمال ودقة وعمق. وكان طه حسين قد أشاد بهذا الكاتب الفذ حين أخرج أول آثاره المسرحية "أهل الكهف" سنة 1933 فقال: إنها حَدَثٌ في تاريخ الأدب العربي، وإنها تضاهي أعمال فطاحل أدباء الغرب. فلما تولى وزارة التربية والتعليم عينه مديرًا لدار الكتب المصرية سنة 1951. وعُين في سنة 1956 عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى للآداب والفنون. وفي سنة 1959 عُين مندوبًا مقيمًا لجمهوريتنا العربية المتحدة في "اليونسكو" بباريس، غير أنه فضل العودة في سنة 1960 إلى عمله بالمجلس الأعلى. وقد أخرج في السنوات الأخيرة ثلاث مسرحيات رائعة؛ هي: "إيزيس" و"السلطان الحائر" و"صفقة"، وفيها عصير شعبي بديع.

ب- شهرزاد: استلهم توفيق في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قَصَصٌ قصته شهرزاد على زوجها شهريار. وذلك أنه فاجأ زوجته الأولى بين ذراعي عبد خسيس، فقتلهما، ثم أقسم أن تكون له كل ليلة عذراء، يبيت معها، ثم يقتلها في الصباح انتقامًا لنفسه من غدر النساء. وحدث أن تزوج بنت أحد وزارئه "شهرزاد"، وكانت ذات عقل ودراية. فلما اجتمعت به أخذت تحدثه بقصصها الساحر الذي لا ينضب له معين، وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على استبقائها في الليلة التالية لتتم له الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، رُزقت في نهايتها بطفل منه، فأرته إياه وأعلمته حيلتها، فاستعقلها واستبقاها.

ويبدأ توفيق مسرحيته بنهاية الأسطورة، فإن شهرزاد كشفت لشهريار عن معارف لا تُحَد، وأصبح ظامئًا للمعرفة، ولم يعد يُعْنَى بالجسد ولذاته، فقد تحول عقلًا خالصًا يبحث عن الألغاز والأسرار حتى ليريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطَّلع على مصادر الأشياء وغاياتها، ويعرف كُنْهَهَا وحقائقها. والمسرحية في سبعة فصول، ونلتقي في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله، وكيف يغدو إلى كاهن يطلب عنده حلًّا لبعض ألغازه، ونسمع بوزيره قمر. ويتراءى لنا العبد مثالًا للبوهيمية التي تقبع في داخله؛ إذ يرى عذراء مع الجلاد، فيقول: "ما أجمل هذه العذراء! وما أصلح جسدها مأوى! " ويتحول متسائلًا عن شهرزاد. وننتقل إلى الفصل الثاني، فنجد قمرًا الوزير مع الملكة في قاعتها، ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لا محبة العاشق لمعشوقته، فقد سما بعواطفه إزاءها سموًّا بعيدًا، وهي تعرف ذلك وتعبث به، ويخشى أن تكتشف سره، فينقل الحديث معها إلى الملك على هذا النحو: قمر: إني ... أردت أن أقول: إنك غيَّرتِه، وإنه انقلب إنسانًا جديدًا منذ عرفكِ. شهرزاد: إنه لم يعرفني. قمر: لقد قلت لك قبل اليوم: إن الملك بفضلك قد أمسى أيضًا لغزًا مغلقًا أمامي، وكأنما كُشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له، فهو دائمًا يسير مفكرًا باحثًا عن شيء، منقبًا عن مجهول، هازئًا بي كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقًا على رأسه المكدود. شهرزاد: أتسمِّي هذا فضلًا يا قمر؟ قمر: وأي فضل يا مولاتي، فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء. ويُشيد قمر بحبها للملك، فتعترضه قائلة: ما أبسط عقلك يا قمر! أتحسبني فعلت ما فعلت حبًّا للملك؟

قمر: لمن غيره إذن؟ شهرزاد: لنفسي. قمر: لنفسك! ماذا تعنين؟ شهرزاد: أعني أني ما فعلت غير أني احتلت لأحيا. ويعود شهريار من لدن الساحر كاسفًا مقهورًا، شاعرًا بالفناء ككل قوة في نهايتها. وتحاول شهرزاد أن تسترده من قلقه وحيرته، وتقول له: إنها جسد جميل وقلب كبير، فيقول: سحقًا للجسد الجميل والقلب الكبير، ويكون بينهما حوار طويل، تتخلله هذه القطعة: شهريار: ما عدت أحفل بك ولا بشيء. شهرزاد: تُشيح بوجهك أيها الأعمى! لو كانت تبصر قليلًا! شهريار: لقد أبصرت أكثر مما ينبغي. شهرزاد: أنت غافل يا شهريار. شهريار: أنا أطلب شيئًا واحدًا. شهرزاد: ما هو؟ شهريار: أن أموت. شهرزاد: لماذا؟ ما الذي بك؟ شهريار: ليس في الحياة من جديد، استنفدت كل شيء. شهرزاد: الطبيعة كلها ليس فيها لذة تغريك بالبقاء! شهريار: الطبيعة كلها ليست سوى سَجَّان صامت يضيِّق عليَّ الخناق. شهرزاد: أقسم أنك جُننت، أجهدت عقلك حتى اضطرب، أي سر تبحث عنه أيها الأبله؟ ألا تراك تضيع عمرك الباقي وراء حب اطلاع خادع؟ شهريار: ما قيمة عمري الباقي؟ لقد استمتعت بكل شيء وزهدت في كل شيء. شهرزاد: وهل تحسب هذا هو السبيل إلى ما تطلب؟ بل مَن أدراك أن ما تطلب موجود؟ أترى شيئًا في ماء هذا الحوض؟ أليست عيناي أيضًا

في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرًّا من الأسرار؟ شهريار: تبًّا للصفاء وكل شيء صافٍ! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي! ويل لمن يغرق في ماء صاف. شهرزاد: ويل لك يا شهريار. شهريار: الصفاء! الصفاء قناعها. شهرزاد: قناع مَن؟ شهريار: قناعها، هي، هي، هي. شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار. شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء، السماء الصافية، الأعين الصافية، الماء الصافي، الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف، ما بعد الصفاء؟ إن الحجب الكثيفة لأشفُّ من الصفاء! شهرزاد: كل البلاء يا شهريار أنك ملك تَعِسٌ، فقد آدميته وفقد قلبه. شهريار: إني براء من الآدمية، براء من القلب، لا أريد أن أشعر، أريد أن أعرف. ويمضي شهريار متحدثًا عن حقيقة شهرزاد، وكيف تحولت في نفسه إلى لغز عقلي هائل، يقول موجهًا الخطاب إليها عنها: "قد لا تكون امراة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها، تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال! وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض، فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة، كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين، قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السُّجُف، ما سِرُّها؟ أعمرها عشرون عامًا أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان أم وُجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي

في وعائه يريد أن يعرف.. أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة". وتلك صورة شهرزاد في عين شهريار بالمسرحية، فهي لغز عميق ينطوي على أسرار الوجود. أما في عين قمر الوزير فملاك سماوي، بينما هي في عين العبد الأسود القبيح بنت الأرض بغريزتها الجسدية، وكأنها الطبيعة، يرى كل من الثلاثة فيها نفسه مطبوعة كأنها المرآة المصقولة، شهريار بحيرته وتنقيبه عن المجهول وأسراره، والوزير بطهارة روحه وسمو نفسه، والعبد بغريزته الحيوانية التي ستنكشف لنا عما قليل لا عنده وحده؛ بل عند شهرزاد أيضًا التي تخضع كغيرها من النساء لمطالب المرأة الجسمية. وفي الفصل الثالث تصعد أزمة شهريار وتشتد، فنجده مع الساحر وقمر مصممًا على الرحيل في أطراف العالم، ويحاول قمر أن يرده عن عزمه قائلًا: "هل يحسب مولاي، لو جاب الدنيا طولًا وعرضًا، أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه". وتظهر شهرزاد وتحاول أن ترجعه إليها، قائلة: "إن رجلًا بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله"؛ ولكنه يصمم على الرحيل حتى يتحرر من عقال المكان. ويرحل في الفصل الرابع مع وزيره، وتلتقي شهرزاد بالعبد رمز الشهوة الجسدية في الفصل الخامس وتنغمس معه في إثم الخطيئة رغم سواده وغلظته وضَعة أصله ومنبته. ويدخل شهريار مع وزيره في الفصل السادس "خان" أبي ميسور، ويعلمان فيه خيانة شهرزاد وترتجف نياط قلب العابد الولهان قمر، ويعود بمولاه في الفصل السابع إلى شهرزاد، لعله ينتقم من زوجته وعبدها الخسيس؛ ولكن شهريار قد تحوَّل وأصبح فكرًا محضًا، فلا ينتقم. وينتحر قمر، ويحس مولاه بالهزيمة، وأنه لا يستطيع انطلاقًا من المكان، من الأرض: "دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض؛ إنما نحن ندور، كل شيء يدور". ويصبح معلقًا بين الأرض والسماء ينهشه القلق والحيرة. وأكبر الظن أنه قد اتضحت فلسفة توفيق في هذه المسرحية، وأنه يؤمن

بالقلب أكثر مما يؤمن بالعقل الذي يحطم حياة الناس، ومع ذلك تَحْلم به البشرية، وتحاول عن طريقه أن تكشف أسرار الكون وتجتاز حدود المكان، وفي ذلك اندحارها وهزيمتها كما انهزم شهريار. وقد دفعت ضرورات المسرحية كاتبنا إلى هذا الوضع الشائن لشهرزاد التي عُرفت بعقلها وحكمتها، فسقط بها سقطة بشعة، ومن أجل ذلك تولى طه حسين في "القصر المسحور" الدفاع عنها عاتبًا على توفيق صنيعه بها، غير أن توفيقًا حولها إلى صورة جديدة تتمشى مع تطور الأشخاص في مسرحيته، ولم يُعْنَ بصورتها التاريخية.

محمود تيمور 1894-1973م

10- محمود تيمور 1894-1973م: أ- حياته وآثاره: في درب سعادة -أحد دروب القاهرة- وُلد محمود سنة 1894 لأحمد تيمور "باشا" أحد مفاخر مصر الحديثة في تحصيل الكتب العربية القديمة وجمع مخطوطاتها ونفائسها، وأحد علمائنا الباحثين في اللغة والأدب والتاريخ. ويرجع تيمور "باشا" إلى أصول كردية عربية، وقد ورث ثروة كبيرة عن آبائه، فكانت له ضياع وأملاك، ولم يبدِّد هذه الثروة؛ وإنما احتفظ بها لأبنائه، وأهدى إلى مصر ودار كتبها أنفس مكتبة أهديت إليها في تاريخنا الحديث. وكان تيمور "باشا" دمثَ الأخلاق متواضعًا، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والعلماء من أمثال: محمد عبده والشنقيطي. وكثيرًا ما حج إلى هذا البيت المستشرقون ورجال الأدب والعلم في الأقطار الشقيقة. ولما تُوفيت زوجته انتقل بأبنائه إلى "عين شمس" إحدى ضواحي القاهرة، ثم اتخذ له بيتًا في "الزمالك".

وكان يقضي الصيف في بعض ضياعه، مختلطًا هو وأبناؤه بالفلاحين، كأنهم منهم. وفي هذا الوسط وتلك البيئة نشأ محمود، وأخوه محمد، وبقية إخوتهما، يتنفسون في هذا الجو الهادئ السعيد. وانتظم محمود في المدرسة الابتدائية، ثم الثانوية، وعَيْنُ أبيه ترعاه، وقد أخذ يصله بهوايته من قراءة الأدب، وألزمه هو وإخوته حِفْظَ معلقة امرئ القيس، وكأنه يريد أن يعلق في ذاكرتهم تميمة اللغة العربية، ووصَلَهم بالكتب القديمة، وخاصة القصصي منها مثل ألف ليلة وليلة. ولم يلبث الأخوان محمد ومحمود أن أصدرا صحيفة منزلية يسجلان فيها أخبار المنزل والأصدقاء، وأنشآ مسرحًا بيتيًّا يمثلان فيه بعض المسرحيات الساذجة، ودفعهما ذلك إلى الإقبال على قراءة الروايات والقصص المترجمة، وأكثرا من قراءة المنفلوطي والآثار الجديدة التي كان يُحْدثها أدباء المهجر من أمثال جبران. وأخذ محمود ينظم الشعر، ويكتب طرائف من الشعر المنثور. وسافر محمد إلى باريس سنة 1911، وظل بها إلى سنة 1914، وهناك استوت له معرفة دقيقة بأدب القصة والمسرحية. وفي هذه الأثناء كان محمود قد أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الزراعة العليا، إلا أنه مرض بمرض التيفود وأثَّر في بنيته وقواه الجسمية، فاضطُر إلى قطع دراسته. وعاد محمد، فوقف منه على ما وراء البحر من أدب قصصي وتمثيلي، وأخذ يصور له قواعده وأصوله، وحبَّب إليه قراءة حديث "عيسى بن هشام" للمويلحي و"زينب" لهيكل. ولم يلبث محمد -كما مر بنا في غير هذا الموضع- أن انضم إلى جمعية من هواة التمثيل، وألف بعض مسرحيات وأقاصيص بلغتنا العامية. وأخذ محمد يلقن أخاه محمودًا المذهب الواقعي في الأقصوصة الغربية، وأخذ محمود يقرأ فيه، وخاصة في موباسان القصاص الفرنسي الواقعي، الذي كان يعجب به أخوه إعجابًا شديدًا. وقد جرى في إثره يعجب به وبأسلوبه القصصي القائم على التركيز وتماسك الأحداث في الأقصوصة تماسكًا متينًا.

وبدأ يكتب محاولاته في هذا الفن، فكتب أقصوصتي: "الشيخ جمعة" و"يُحْفَظُ بالبوسطة". ويموت محمد في شرخ شبابه سنة 1921 فلا تَهْوِي الراية من يده؛ بل يتسلمها منه محمود، ليُتم ما بدأه، ولا يصل إلى سنة 1925 حتى تتجمع له مادة من الأقاصيص، تتيح له أن ينشر في الناس في مجموعته الأولى: "الشيخ جمعة وقصص أخرى"، ومجموعته الثانية: "عم متولي وقصص أخرى". ونراه في المجموعة الأولى يتحدث عن الأقصوصة ومكانتها في عالم الأدب كما يتحدث عن المذهب الواقعي وضرورة الأخذ به في التأليف القصصي. ثم ينشر "الشيخ سيد العبيط وأقاصيص أخرى"، ويتحدث في مقدمتها عن القصة في اللغة العربية وعن جهد المويلحي وهيكل وأخيه محمد تيمور مبينًا أنه يعبِّد فيها طريقًا جديدًا بدأه من قبله أخوه، وهو يحاول أن يسير بها في نفس الطريق مستمدًّا من البيئة المصرية بأشخاصها وجوِّها وصورها المختلفة في الريف والمدينة. ولا تظن أن فن محمود تيمور استوى تمامًا في هذه المجاميع الأولى، فإنه يغلب عليها المبالغة، كما يغلب عليها شيء من النزعة الخيالية التي تركتها في نفسه قراءاته للمنفلوطي ولأدباء المهجر، وإن كنا نلاحظ من طرف آخر أنه ينزع إلى الخير والإصلاح الاجتماعي، فهو يسعى بأقاصيصه التي يكشف بها عن نقائص المجتمع إلى غاية خلقية. ويتاح له أن ينزل في فرنسا سنتين، يقضيهما فيها وفي سويسرا، فيطلع على الأدب الفرنسي من قريب، ويقبل على قراءة الأدب الروسي عند تورجنيف وتشيخوف وأضرابهما، كما يقبل على قراءة الآداب الغربية المختلفة، وتستوي في نفسه للأقصوصة صورة أدق من الصورة الأولى، وتتببين له معالم الطريق واضحة، ويأخذ في إنتاجه الضخم الذي بلغ إلى اليوم نحو عشرين مجموعة من الأقاصيص والقصص الطويلة. وأقاصيصه في هذه المجاميع منوعة تنويعًا واسعًا، وهي في أكثرها لوحات لحوادث ومواقف وأحوال اجتماعية ونفسية، ويظهر في كثير منها نزعة تحليلية،

كما يظهر في كثير منها نوع من العطف على شخوصه، مع الاعتدال في التصوير، فالخيال لا يجمح به. وقد يسوق لك عقدة نفسية، أو صراعًا نفسيًّا باطنًا؛ ليصور لك جوانب الضعف في الإنسان. وهو في كل ذلك يتخذ أسلوبًا بسيطًا لا مبالغة فيه ولا إغراق؛ وإنما فيه الصدق وتمثيل الواقع في بساطة. ولم يقف بأقاصيصه عند غايات محلية، فقد جعلها تتسع لنزعات إنسانية عامة؛ كنزعة الخير أو نزعة الكمال أو نزعة الإحساس بالجمال في الطبيعة أو في الموسيقى والأشياء. والحق أنه بلغ في ذلك كله مرتبة رفيعة، ويكفي أنه مؤسس فن الأقصوصة في الأدب العربي الحديث، حقًّا سبقه إليها أستاذه وأخوه محمد؛ ولكنه هو الذي نَمَّاها ووسَّع طاقتها، وجعلها شبيهة بما ينتجه أدباء الغرب في هذا المضمار، مما كان سببًا في أن تُتَرجم كثير من أقاصيصه إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والروسية، فهو أستاذ الأقصوصة في عصرنا غير منازَع، وهو فيها لا يقف عند مذهب غربي معين. يؤثر المذهب الواقعي، وقد يعدل عنه إلى بعض صور خيالية أو بعض صور تأثيرية؛ إذ نراه يقدم الحادثة ويتركها بدون شرح؛ لنتأثر بها على النحو الذي نريده. ومن بديع مجموعاته التي تصور كل ما قدمنا: "مكتوب على الجبين" و"كل عام وأنتم بخير" و"إحسان لله" و"شفاه غليظة" و"شباب وغانيات". ومن خير أقاصيصه الطويلة "ثائرون"، وهو يصور فيها ما كان يحتدم في قلوب شبابنا من ثورة على أوضاع العهد البائد الفاسد، وقد كتبها في صورة مذكرات على لسان طالب جامعي. ولم يقف محمود تيمور عند محاولة الأقصوصة القصيرة، فقد حاول أيضًا القصة الطويلة وأخرج فيها: "نداء المجهول" و"كليوباترا في خان الخليلي" و"سلوى في مهب الريح". وهو ينزع في القصة الأولى منزع توفيق الحكيم الذي يسعى إلى تصوير الروح الشرقية، وهي قصة تشبه قصص الحب العذري القديمة، وحوادثها تجري في لبنان. ونحس فيها النزعة الخيالية واضحة، وفي الوقت نفسه يحلل الكاتب البيئة والشخصيات وعواطفهم تحليلًا واقعيًّا،

فالخيال والواقع يتقابلان، كما تتقابل معهما روح الفكاهة ممثلة في الأستاذ كنعان المتعالم المغرور. و"كليوباترا في خان الخليلي" قصة خيالية، يتصور فيها الكاتب مؤتمرًا للسلام عُقد في القاهرة. واجتمع فيه فلاسفة العالم، وقد رأى أحدهم أن يتصل ببعض الأرواح من العالم الآخر، فتحضر كليوباترا ويحضر تيمورلنك المحارب التتري القديم، وكل منهما يغاير الصورة المعروفة له، فلا يفيد منهما المؤتمر ما كان يرجوه. ويأخذ المؤتمر في مناقشة أمور فرعية. ويعرض تيمور في القصة نقدًا ساخرًا للمؤتمر وحماقات الإنسان وترهاته، وفي ذلك كله تجري روح الفكاهة والدعابة. أما "سلوى في مهب الريح" فقصة تحليلية واقعية للجانب العابث في حياة الطبقة الأرستقراطية، وبطلتها سلوى فتاة فقيرة تضطرب في خضم الحياة، وتدفعها عوامل البيئة والوراثة إلى الزلل. وهذه الموهبة القصصية البارعة رأى محمود تيمور أن يستغلها في صنع المسرحية، فكتب مسرحيات من فصل واحد، كما نرى في "حقله شاي" وهي مسرحية تصور حب الظهور في أنماط متباينة من الناس لا نكاد نقرؤهم حتى نغرق في الضحك. ولم يقف بهذه المسرحيات القصيرة عند واقع بيئته، فقد تحول بموضوعها إلى التاريخ القومي والعربي يتخذ منه موضوعه كما نرى في "مسرحية المنقذة" التي صور في بطلتها بنت خليل بك شيخ البلد الصراعَ النفسيَّ بين الاعتراف بالجميل وإنكاره. وبجانب هذه المسرحيات القصيرة يكتب مسرحيات طويلة يستمدها من التاريخ العربي مثل "ابن جلا"، وفيها صور الحجاج الثقفي لا في صورته التاريخية؛ وإنما في صورة إنسانية جديدة، ومثل "حواء الخالدة" التي عالج فيها حب عنترة وعبلة، ومثل "اليوم خمر" وقد صور فيها حياة امرئ القيس، ومثل "صقر قريش" التي صور فيها عبد الرحمن الداخل أول الخلفاء الأمويين في الأندلس. وقد يستمد مسرحياته الطويلة من الحياة الواقعة كما نرى في

مسرحيته "المخبأ رَقْم 13"، وفيها صور الخوف من الموت في صور زاخرة بالسخرية، عرضها في أشتات من الناس، منهم الأرستقراطي ومنهم البائس الفقير، ومنهم من يؤمن بالخرافات والكرامات إيمان البُلْه. ومن مسرحياته "أشطر من إبليس"، وفيها يصور المجتمع المصري إزاء ثورتنا المباركة ويحلل عوامل الخير والشر في الإنسان. وتزخر هذه المسرحيات جميعًا بالتحليل النفسي وبالصراع بين العقل والغريزة وبالعقد الباطنة، حتى لتصبح بعض الشخوص مزدوجة الشخصية، فلها ظاهرها في سلوكها، ووراء هذا الظاهر باطن خفي يلمع على جنباتها من حين إلى حين. ولعل من الغريب أنه في مسرحيته الأخيرة "أشطر من إبليس" يقف الحوار، ويعمد إلى الشرح؛ حتى نفهم تعاقب المناظر والحركة في المسرحية، وكأنما موهبته القصصية تطغى على مسرحياته، وفي الحق أنه قصاصًا أبدع منه مسرحيًّا. ولعل من الغريب أيضًا أنه كتب بعض مسرحياته مثل "المخبأ رَقْم 13" في نسختين إحداهما بالعربية الفصحى والثانية بالعامية. وهذا الصنيع يوضح تطورًا عنده، فقد بدأ أقاصيصه بالعامية، ثم عدل عنها وكتب باللغة الفصحى؛ بل حاول أن ينقل بعض أقاصيصه القديمة من العامية إلى الفصحى، وصنع ذلك فعلًا بمجموعة أقاصيصه "أبو علي عامل أرتيست" فدعاها "أبو علي الفنان". ثم أجرى فيها النقل والترجمة. والحق أنه يبلغ الذورة في عالم الأقصوصة، وقد نال فيها جوائز مختلفة، وتقديرًا لمكانته الأدبية انتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية، وظل في هذا المنصب حتى وفاته سنة 1973. ونقف قليلًا عند قصته الطويلة "سلوى في مهب الريح".

ب- سلوى في مهب الريح: قصة واقعية تحليلية. بطلتها سلوى، فتاة نشأت في الإسكندرية في رعاية جدها، محرومة الأب والأم، فإن أباها طلق أمها لسوء سلوكها، ثم وافاه الموت. ويقدم لنا تيمور بيت الجد المتواضع بكل ما فيه من غلظة الجد ووقاره، وإحساس الفتاة بالعزلة والوَحْدَة، لولا ما كانت تُدْخله عليها خادم البيت "أم يونس" من أنس وطمأنينة. وتنشأ الفتاة على البراءة والطهارة، ويأخذها جدها بحفظ بعض سور الذكر الحكيم. ويتصادف أن تشهد مع خادمها احتفال جمعية العروة الوثقى، فتتعرف على فتاة ثرية من الطبقة الأرستقراطية؛ إذ كانت بنتًا لأحد الباشوات. وتنعقد بينهما أواصر الصداقة، وتتعرف عندها على خطيبها "شريف" وشاب يسمى "حمدي" كان صديقًا لشريف. ويتوفَّى جدها، فتعيش فترة عند صاحبتها، ترعاها. وتعلم الأم بموت الجد فتحضر؛ لتأخذ بنتها، وتقيم معها بحي السيدة زينب في القاهرة، وتظل على علاقتها بصديقتها، وتعرف حقيقة أمها، وتشب على أسرارها وما تتردى فيه من علاقات أثيمة. ثم تتطور الحوادث فتموت أمها، وتتزوج صديقتها بشريف، وتتزوج هي بحمدي، وكان من أسرة متوسطة متواضعة، ويصاب بالسل فينقل إلى المستشفى، وتنشأ في هذه الأثناء صلة حب بينها وبين شريف. ويتطور هذا الحب إلى مغامرة رهيبة جنتها عليها وراثتها السيئة. ويندفع شريف الشاب الثري المترف في القمار، ويفقد ماله ووظيفته وينتحر فرارًا من الحياة. ويموت حمدي بدائه. وتعمد سلوى إلى العمل في مشغل للحياكة، وهي حامل، وتلد في مستشفى وليدها؛ ولكنه يموت. ويُؤْتَى لها بطفل ترضعه؛ لأن أمه مريضة ولا تستطيع أن تقدم له غذاءه، وتحس نحوه بحنان، ثم تكتشف أنه ابن صديقتها سنية من شريف،

وتغفر لها سنية زلتها معها، وتتخذها مرضعة لطفلها. والقصة محبوكة الأطراف، لا تقرؤها حتى تشعر بلذة، مردُّها إلى خبرة الكاتب بفن القصة وما يحتاجه من تشابك الحوادث والمفارقات والمفاجآت، وما يتخلل ذلك من نقد وفكاهة وتهكم وصراع. إنه قصاص بارع قد عرف أصول القصة، وطالما كتب في هذه الأصول بمقدمات قصصه، وقد أفردها ببحث مستقل، فهو أستاذ ماهر لا تعوزه ثقافة في عمله. والشخصيات واضحة تمام الوضوح، وهي تنكشف تارة بوصف الكاتب لها، وتارة بسلوكها وأقوالها، وألقيت على سلوى أضواء كثيرة تصور تطورها النفسي من فتاة طاهرة إلى فتاة دنسة تعسة، وقد كانت اليد التي تنكرت لها هي نفسها اليد التي تقدمت لها في محنتها، تريد أن تخرجها منها. فالخير الذي يؤمن به الكاتب لا يزال يرسل شعاعه على البشر وما انطووا عليه من شرور. وتُصوِّر القصة طبقاتنا المختلفة من غنية وفقيرة، وتحلَّل هذه الطبقات في خلقها وفي سموها ومباذلها، كما تحلَّل الشخصيات تحليلًا عميقًا، وهو تحليل يتناول الظاهر كما يتناول الباطن، والقصة تبدأ على هذا النحو؛ إذ تقول سلوى: "لا أذكر من تاريخ حياتي قبل العاشرة من عمري إلا أطيافًا شاحبة. في تلك الفترة كان يَكْفُلني جدي لأبي، فأقمت معه في منزلنا العتيق، منزل لا فخامة فيه، تحيط به حديقة شعثاء، ويطل على حارة منزوية لا تُطْرَق، وكان جدي منذ تُوفي أبي قد أخلد إلى العزلة وآثر الوَحْدَة، وتوضحت على محيَّاه سمات التجهم للدنيا والتبرم بالحياة. ولم يكن يزوره إلا رجل علت به السن، وقوضت بناءه الأيام، يدعى "الطوخي أفندي" فيُمضي كلاهما بعض الوقت في حجرة الضيافة القائمة في ركن من الحديقة، فأراهما حينًا يتناقلان الحديث، وحينًا يلعبان بالنَّرْد ناشطين لا يعتريهما ملال. وكنت أنا في حجرتي يصك سمعي صوتهما مدويًا كهزيم الرعود، فتنتظمني رجفة ويخيل إليَّ أنهما مشتبكان في تضارب وسباب. ولم يكن في الدار من الخدم غير أم يونس والحاج مسرور، الأولى ضامرة عجفاء، توهم من يراها أنها تنوء بالأمراض؛

ولكنها في الحقيقية صُلْبة العود قوية الأعصاب. أما الحاج مسرور فكان سودانيًّا، أميل إلى البدانة، طلق الوجه، هادئ الصوت. وكان كلاهما يحسن معاملتي ويتعهدني بعطف وحدب؛ فشعرت نحوهما بحب وشغف. وأشد ما كان يسوؤني أن أرى جدي لا يعاملهما بالحسنى، فهو يُنْحي دائمًا عليهما باللائمة، ولا يفتأ يؤاخذهما ويُسفِّه آراءهما في كل شيء". وبهذا الأسلوب البارع في رسم الشخصيات كتَب تيمور قصته، كما كتب قصصه وأقاصيصه الأخرى التي يثير فيها مشاكل مجتمعه وما ينطوي فيه من نقائص وعيوب. وعلى الرغم من أنه يستمد قصصه من بيئته وشخوص وطنه غالبًا فإنه لا يقف عند نظرة محلية خاصة؛ بل يرتفع إلى نظرة إنسانية عامة، ويبدو ذلك واضحًا في أعماله الأخيرة، وهو دائمًا تشيع الرحمة في جوانب نفسه، ويشعر بالأسى لمن يصفهم في مِحَنهم، فلا يعنف عليهم. وكل ذلك يسوقه في عرض شائق بسيط لا تعقيد فيه ولا تكلف؛ وإنما فيه الصدق وهدوء الطبع واعتدال المزاج.

§1/1