الأدب الصغير ت خلف
ابن المقفع
مقدمة المحقق
مقدَِّمة الْمُحَقِّقِ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمينَ. والصلاة والسلام على الرسل والنبيينَ، لا سيما خاتمِهم العربي ذي المقام المأنوق في أعلى عِلِّيِّينَ. والرِّضَاءُ عن آله الطاهرينَ، وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان أجمعين. أما بعد: فَهَذَا كِتَابُ "الأدب الصغير" للأديب الأريب عبدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ (¬1). ¬
وَهُوَ خَلِيقٌ بِأنْ يصلَ ليد كُلِّ عربي قارئ، وَمَقْمَنَةٌ لأن يُتلى على كل أمي عابئ. وقد اشتمل على حِكَم شتى في الأخلاق والآداب لا تتساوق تحت معنى واحد، إنما هي أشبه شيء بخواطرَ كانت تسنح كلما قَدَحَ تَأَمُّلُ ابنِ المقفعِ زَنْدَ فِكْرِهِ، ثم تأتي الْقَرِيحَةُ بَعْدُ. وابن المقفع رَجُلٌ ثَبِيتٌ عَرُوفٌ، مُجَرَّذٌ مُجَرِّبٌ، طَلاَّعُ الثَّنَايا (¬1)، ثم هو رشيقُ القلم. وقد سطر في رَقِّ هذا الكتاب بقلمه السيال وأسلوبه البديع - الذي قلما يُبارى ويُوازى وإن ضَرَّجَ المحاكي الكلامَ وزينه - ما أفادته تجارِب الزمان، وما انتقاه من عيون الكلام (¬2). ¬
وقدمه بمقدمة لها القِدْحُ المُعَلَّى من البلاغة والفصاحة والبيان والتبيين. قال فيها: ((وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ)). وقد بدا لنا أن نعيد للكتاب بهاءَهُ، ونجدد رُوَاءَهُ؛ ففعلنا وحققناهُ. فجمعنا ما استطعنا من نسخ الكتاب المطبوعة (¬1) وقابلنا بينها، وأثبتنا في ¬
المتن ما خلناه الأصوبَ منها، وما عُد اختلافًا ففي الحاشية مكانهُ، وما كان خطأً أهملناهُ. وعمدنا إلى بعض الغريب فشرحناهُ، وقصدنا إلى النص فضبطناهُ، وبالشكل التام زيناهُ. فَدُونَكَهُ.
بَيْدَ أَنَّ بعضَ مَن تناول الكتاب بالطبع قد عَلْوَنَ فِقَرَهِ (¬1) بعناوينَ ارتآها، ولو شئنا لفعلنا مثل هذا، غير أننا آثرنا أن يظل الكتاب كما وضعه صاحبُهُ. وللأخلاق الحسنة ومكارم الآداب في ديننا منزلةٌ سَنِيَّةٌ سَامِقَةٌ، بلغ من علو شأنها أن قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -): ((إنما بُعِثْتُ لأتمم صالحَ الأخلاقِ)) وفي لفظ: ((إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاقِ)) (¬2). وفرض الشارع الحكيم على الآباء تأديبَ الأبناء وتعليمَهم جميل الخصال ليكملَ نفعهم (¬3)، فإن الذي يرجو منفعةَ غير المؤدب ويبتغي خيرَ ذي النَّزَقِ كالذي يبل الصخر الأصم كي يلينَ، أو يطبخ الحديد يلتمس أدمه. - قال ربنا (جل ثناؤه): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:12]. قال غير واحد: معنى قوله (تعالى ذكره): {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} أي: علموهم وأدبوهم. - ورُوِيَ عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: ((مَا نَحَلَ والِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ ¬
أَدَبٍ حَسَنٍ)). أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"، والترمذي في "السنن" (1952)، والبيهقي في "السنن الكبير" (ج3/ص84) وضعفوه، وكذا ضعفه الذهبي وهو الصواب. وصححه الحاكم في "المستدرك" (4/ 263)!، ورمز له السيوطي بالصحة في "الجامع الصغير" (8118)!. - وعن عثمان الحاطبي قال: سمعت ابن عمر (رضي الله عنهما) يقول لرجل: ((أدب ابنك؛ فإنك مسئول عن ولدك ماذا أدبته وماذا علمته؟، وإنه مسئول عن برك وطواعيته لك)). أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبير" (ج3/ص84). - وعن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت سفيان الثوري (رحمه الله) يقول: ((كان يقال: حُسْنُ الأدبِ يطفئ غضبَ الربِّ عز وجل)) ا. هـ. أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" [(ج6/ص339/رقم9097) ط/ مكتبة الإيمان بالمنصورة]. - وعن أبي زكريا العنبري قال: ((علم بلا أدب، كنار بلا حطب. وأدب بلا علم، كروح بلا جسم)) رواه الإمام السمعاني في أول كتابه "أدب الإملاء والاستملاء ". وانظر "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (1/ 80). - قال ابن المقفع: ((أَحَقُّ النَّاسِ بِالْعِلْمِ أَحْسَنُهُمْ تَأْدِيبًا)). - وقال أيضًا: ((أَفْضَلُ مَا يُورِثُ الآبَاءُ الْأَبْنَاءَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالْأَدَبُ النَّافِعُ، وَالْإِخْوَانُ الصَّالِحُونَ)). "الأدب الصغير". - عن حَبِيبٍ الْجَلاَّبِ قَالَ: قِيلَ لابن المبارك (رحمه الله): مَا خَيْرُ ما أُعْطِيَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: ((غَرِيزَةُ عَقْلٍ فِيهِ)). قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: ((أَدَبٌ حَسَنٌ)).
قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: ((أَخٌ صَالِحٌ يَستَشِيرُهُ)). قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: ((صَمْتٌ طَوِيلٌ)). قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: ((مَوْتٌ عَاجِلٌ)) ا. هـ أخرجه ابن حبان في أول كتابه "روضة العقلاء". - وعن ابن المبارك (رحمه الله)، قال: ((مَن تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة)). - قال أبو نصر الفقيه: سمعت البوشنجيَّ - (أبا عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي الفقيه المالكي. رحمه الله) - يقول: ((مَن أراد العلم والفقه بغير أدب؛ فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم))) "سير أعلام النبلاء" (13/ 586). - وقال الطَّيبي في شرح حديث: ((مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ شَانَهُ، وَلاَ كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ)) قال: ((وأشار (يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) بهذين إلى أن الأخلاق الرذلة مِفتاح كل شر، بل هي الشر كله. والأخلاق الحسنة السَّنية مفتاح كل خير، بل هي الخير كله)) "فيض القدير" للعلامة المناوي [(ج5ص598) ط/ مكتبة مصر]. - وقال الحجاج بن أرطأة: ((إن أحدَكم إلى أدب حسن أحوجُ منه إلى خمسين حديثا)). - وقال ابن المبارك: قال لي مَخْلد بن الحسين: ((نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث)) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي. - وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لابنه محمد ابن الحنفية: ((أذك قلبك
بالأدب كما تذكي النار بالحطب)) "العِقد الفريد" للعلامة ابن عبد ربه. - عن ابن أبي أويس قال: سمعت خالي مالكَ بْنَ أنسٍ (رحمه الله) يقول: ((كانت أمي تلبسني الثياب، وتعممني وأنا صبي، وتوجهني إلى ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن المدني، وتقول: ((يا بُني! ائت مجلس ربيعة، فتعلم من سمته وأدبه، قبل أن تتعلم من حديثه وفقهه)) أخرجه الإمام الكبير ابن عبد البر (رحمه الله) في "التمهيد لما في الموطإِ من المعاني والأسانيد" [(ج2ص5) ط/ دار الكتب العلمية - بيروت- لبنان]. - وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: قال لي أبي: ((يا بني! ائت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إليَّ من كثير من الحديث)). - وقال ابن قيم الجوزية (قدس الله روحه ونور ضريحه): ((أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره. فما استُجْلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب)) ا. هـ "مدارج السالكين" (ج2/ص297 - 298). - وقال محمد بن علي: أدب الله محمدًا (- صلى الله عليه وسلم -) بأحسن الآداب، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فلما وعى قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7]. "البيان والتبيين" للجاحظ [(ج2ص14) ط/ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان].
ذلك، واللهَ (جل ثناؤه) أسألُ أن يهديني لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عني سيئ الأخلاق والأعمال لا يصرف عني سيئها إلا هو، وأن يحسن خُلُقي كما حسن خَلْقي، وأن يجعل عملي كله صالحًا، ولوجهه خالصًا، ولعباده نافعًا؛ إن ربي لسميع الدعاء،،، وخطه بيمينه وائل بنُ حافظ بنِ خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه ليلة الأربعاء الثامنَ عشرَ من شهر ربيع الآخِر لسنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة. الموافق: الثالث والعشرين من مارس (آذار) لعام ألفين وأحد عشر من الميلاد. بمنزلي الكائن بقرية العكريشة - مركز كفر الدوار - محافظة البحيرة - جمهورية مصر العربية هاتف رَقْم: 002/ 0160827836 [email protected]
ترجمة ابن المقفع
ترجمة ابن المقفع مقتبسة من كتاب "تاريخ الإسلام" للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ) (رحمه الله وطيب ثراه) عبد الله بن المقفع: أحد المشهورين بالكتابة والبلاغة، والترسل والبراعة [زاد في "سير أعلام النبلاء": أحد البلغاء والفصحاء، ورأس الكتاب، وأولي الانشاء، من نظراء عبد الحميد الكاتب]. وكان فارسيًّا فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح وهو كهل، ثم كتب له واختص به. ومن كلام ابن المقفع قال: ((شربت من الخطب ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظامًا، ولا هي غيرها كلامًا)). قال الأصمعي: صنف ابن المقفع "الدرة اليتيمة" التي لم يصنف مثلها في فنها. وقد سُئل: مَن أدبك؟ قال: ((نفسي. كنت إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإذا رأيت قبيحًا أبيته)). ويقال: كان ابن المقفع علمه أكثر من عقله. وهو الذي وضع كتاب "كليلة ودمنة" فيما قيل، والأصح: أنه هو الذي
عربه من الفارسية (¬1). قال الهيثم بن عدي: جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال: أريد أن أسلم على يديك، فقال: ليكن ذلك بمحضر من وجوه الناس غدًا. ثم جلس ابن المقفع وهو يأكل ويزمزم على دين المجوسية، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت تريد أن تسلم؟! قال: ((أكره أن أبيت على غير دين)). وكان ابن المقفع يتهم بالزندقة. وعن المهدي قال: ((ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع)) [تقدم أنا لا نُسلم بذلك. فكن على ذُِكر. راجع الحاشية رَقْم (1) من ¬
مقدمة المحقق]. وقيل: إن ابن المقفع كان ينال من متولي البصرة سفيانَ بنِ معاويةَ بن يزيد بن المهلب ويسميه ابن المغتلمة، فحنق عليه وقتله بإذن المنصور، ولكونه كتب في توثق عبد الله بن علي من المنصور يقول: ((ومتى غدر بعمه فنساؤه طوالق، وعبيده أحرار، ودوابه حبس، والمسلمون في حل من بيعته)). فلما وقف المنصور على ذلك عظم عليه وكتب إلى سفيان يأمره بقتله. وقال المدائني: دخل ابن المقفع على سفيان، وقال: أتذكر ما كنت تقول في أمي؟ قال: ((أنشدك الله أيها الأمير في نفسي))، فأمر له بتنور فسجر، ثم قطع أربعته ثم سائر أعضائه وألقاها في التنور، وهو ينظر، وقال: ((ليس عليَّ في المثلة بك حرج؛ لأنك زنديق قد أفسدت الناس)). فسأل سليمان بن علي وعيسى عنه، فقيل: إنه دخل دار سفيان بن معاوية سليمًا ولم يخرج، فخاصماه إلى المنصور وأحضراه مقيدًا، فشهد شهود بالحال، فقال المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان، فخرج ابن المقفع من هذا المجلس أأقتلكم بسفيان؟ فنكلوا عن الشهادة كلهم، وعلموا أنه برضا المنصور. ويقال: إن ابن المقفع عاش ستًّا وثلاثين سنة. وحكى البلاذري أن سفيان ألقاه في بئر. وقيل: أدخله حمامًا وأغلقه عليه. وقيل: إن قتله كان في سنة خمس وأربعين ومائة. وقيل: في نحو سنة اثنتين وأربعين. [وذُكر أنه توفي سنة سبع وثلاثين ومائة].
وكان اسم أبيه داذويه، وكان كاتبًا، ولي للحجاج خراج فارس فخان وأخذ من الأموال، فعذبه الحجاج، فتقفعت يده فلقب المقفع. وقيل: بل الذي عذبه يوسف بن عمر الثقفي الأمير. والمقفَّع: بفتح الفاء، الصحيح. وقال ابن مكي في كتاب "تثقيف اللسان": يقولون ابن المقفَّع، والصواب بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع ويبيعها، وهي قفاف الخوص)) ا. هـ.
الأدب الصغير
الْأَدَبُ الصَّغِيرُ لِلْأَدِيبِ الْكَبِيرِ الْعَلاَّمَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُقَفَِّعِ ((وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ)) (ابن المقفع) قَرَأَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ وائلُ بْنُ حَافِظِ بْنِ خَلَفٍ عَفَا اللهُ عَنْهُ الطَّبْعَةُ الأُولَى
بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن المقفع: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ حَاجَةً، وَلِكُلِّ حَاجَةٍ غَايَةً، وَلِكُلِّ غَايَةٍ سَبِيلاً. وَاللهُ وَقَّتَ لِلْأُمُورِ أَقْدَارَهَا، وَهَيَّأَ إِلَى الْغَايَاتِ سُبُلَهَا، وَسَبَّبَ الْحَاجَاتِ بِبَلاَغِهَا. فَغَايَةُ النَّاسِ وَحَاجَاتُهُمْ صَلاَحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالسَّبِيلُ إِلَى دَرَْكِهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ. وَأَمَارَةُ صِحَّةِ الْعَقْلِ: اخْتِيَارُ الْأُمُورِ بِالْبَصَرِ، وَتَنْفِيذُ الْبَصَرِ بِالْعَزْمِ. وَلِلْعُقُولِ سَجِيَّاتٌ وَغَرَائِزُ بِهَا تَقْبَلُ الْأَدَبَ، وَبِالْأَدَبِ تَنْمَى الْعُقُولُ وَتَزْكُو. فَكَمَا أَنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الْأَرْضِ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَخْلَعَ يَبَسَهَا وَتُظْهِرَ قُوَّتَهَا وَتَطْلُعَ فَوْقَ الْأَرْضِ بِزَهْرَتِهَا وَرَيْعِهَا (¬1) وَنَضْرَتِهَا وَنَمَائِهَا إِلاَّ بِمَعُونَةِ الْمَاءِ الَّذِي يَغُورُ (¬2) إِلَيْهَا فِي مُسْتَوْدَعِهَا فَيُذْهِبَ عَنْهَا أَذَى الْيَبَسِ وَالْمَوْتِ، وَيُحْدِثَ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ الْقُوَّةَ وَالْحَيَاةَ = فَكَذَلِكَ سَلِيقَةُ الْعَقْلِ مَكْنُونَةٌ (¬3) فِي مَغْرِزِهَا مِنَ الْقَلْبِ، لاَ قُوَّةَ لَهَا وَلاَ حَيَاةَ بِهَا وَلاَ مَنْفَعَةَ عِنْدَهَا حَتَّى يَعْتَمِلَهَا الْأَدَبُ الَّذِي هُوَ ثِمَارُهَا وَحَيَاتُهَا وَلِقَاحُهَا. ¬
وَجُلُّ الْأَدَبِ بِالْمَنْطِقِ، وَجُلُّ الْمَنْطِقِ بِالتَّعَلُّمِ، لَيْسَ مِنْهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ مُعْجَمِهِ، وَلاَ اسْمٌ مِنْ أَنْوَاعِ أَسْمَائِهِ إِلاَّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ مُتَعَلَّمٌ مَأْخُوذٌ عَنْ إِمَامٍ سَابِقٍ مِنْ كَلاَمٍ أَوْ كِتَابٍ؛ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَبْتَدِعُوا أُصُولَهَا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ عِلْمُهَا إِلاَّ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ. فَإِذَا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ أَصِيلٌ وَأَنْ يَقُولُوا قَوْلاً بَدِيعًا؛ فَلْيَعْلَمِ الْوَاصِفُونَ الْمُخْبِرُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ - وَإِنْ أَحْسَنَ وَأَبْلَغَ - لَيْسَ زَائِدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ فُصُوصٍ وَجَدَ يَاقُوتًا وَزَبَرْجَدًا وَمَرْجَانًا، فَنَظَمَهُ قَلاَئِدَ (¬1) وَسُمُوطًا (¬2) وَأَكَالِيلَ (¬3)، وَوَضَعَ كُلَّ فَصٍّ مَوْضِعَهُ، وَجَمَعَ إِلَى كُلِّ لَوْنٍ شِبْهَهُ وَمَا يَزِيدُهُ بِذَلِكَ حُسْنًا، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ صَانِعًا (¬4) رَفِيقًا. وَكَصَاغَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ صَنَعُوا مِنْهَا مَا يُعْجِبُ النَّاسَ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْآَنِيَةِ. وَكَالنَّحْلِ وَجَدَتْ ثَمَرَاتٍ أَخْرَجَهَا اللهُ طَيِّبَةً، وَسَلَكَتْ سُبُلاً جَعَلَهَا اللهُ ذُلُلاً؛ فَصَارَ ذَلِكَ شِفَاءً وَطَعَامًا وَشَرَابًا مَنْسُوبًا إِلَيْهَا، مَذْكُورًا بِهِ أَمْرُهَا وَصَنْعَتُهَا. فَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلاَمٌ يَسْتَحْسِنُهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُ مِنْهُ، فَلاَ يَعْجَبَنَّ إِعْجَابَ الْمُخْتَرِعِ الْمُبْتَدِعِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا اجْتَنَاهُ كَمَا وَصَفْنَا. وَمَنْ أَخَذَ كَلاَمًا حَسَنًا عَنْ غَيْرِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى وَجْهِهِ، فَلاَ تَرَيَنَّ ¬
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضُؤُولَةً (¬1)؛ فَإِنَّ مَنْ أُعِينَ عَلَى حِفْظِ كَلاَمِ الْمُصِيبِينَ، وَهُدِيَ لِلاقْتِدَاءِ بِالصَّالِحِينَ، وَوُفِّقَ لِلْأَخْذِ عَنِ الْحُكَمَاءِ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَزْدَادَ؛ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ، وَلَيْسَ بِنَاقِصِهِ فِي رَأْيِهِ وَلاَ غَامِطِهِ (¬2) مِنْ حَقِّهِ أَنْ لاَ يَكُونَ هُوَ اسْتَحْدَثَ ذَلِكَ وَسَبَقَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا إِحْيَاءُ الْعَقْلِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ وَيَسْتَحْكِمُ خِصَالٌ سَبْعٌ: الْإِيثَارُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي الاخْتِيَارِ، وَالاعْتِقَادُ (¬3) لِلْخَيْرِ، وَحُسْنُ الْوَعْيِّ (¬4)، وَالتَّعَهُّدُ لِمَا اخْتِيرَ وَاعْتُقِدَ، وَوَضْعُ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ قَوْلاً وَعَمَلاً. أَمَّا الْمَحَبَّةُ: فَإِنَّمَا (¬5) يَبْلُغُ الْمَرْءُ مَبْلَغَ الْفَضْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حِينَ يُؤْثِرُ بِمَحَبَّتِهِ؛ فَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ أَمْرَأَ وَلاَ أَحْلَى عِنْدَهُ مِنْهُ. وَأَمَّا الطَّلَبُ: فَإِنَّ النَّاسَ لاَ يُغْنِيهِمْ حُبُّهُمْ مَا يُحِبُّونَ وَهَوَاهُمْ مَا يَهْوَوْنَ عَنْ طَلَبِهِ وَابْتِغَائِهِ، وَلاَ يُدْرِكُ لَهُمْ بُغْيَتَهُمْ نَفَاسَتُهَا فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ الْجِدِّ وَالْعَمَلِ (¬6). ¬
وَأَمَّا التَّثَبُّتُ وَالتَّخَيُّرُ: فَإِنَّ الطَّلَبَ لاَ يَنْفَعُ إِلاَّ مَعَهُ وَبِهِ. فَكَمْ مِنْ طَالِبِ رَُشَْدٍ وَجَدَهُ وَالْغَيَّ مَعًا، فَاصْطَفَى مِنْهُمَا الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَأَلْغَى الَّذِي إِلَيْهِ سَعَى. فَإِذَا كَانَ الطَّالِبُ يَحْوِي غَيْرَ مَا يُرِيدُ وَهُوَ لاَ يَشُكُّ بِالظَّفَرِ؛ فَمَا أَحَقَّهُ بِشِدَّةِ التَّبْيينِ وَحُسْنِ الابْتِغَاءِ! وَأَمَّا اعْتِقَادُ الشَّيْءِ بَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ: فَهُوَ مَا يُطْلَبُ مِنْ إِحْرَازِ الْفَضْلِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. وَأَمَّا الْحِفْظُ وَالتَّعَهُدُّ: فَهُوَ تَمَامُ الدَّرَْكِ (¬1)؛ لأَنَّ الْإِنْسَانَ مُوَكَّلٌ بِهِ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ، فَلاَ بُدَّ لَهُ إِذَا اجْتَبَى صَوَابَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَيْهِ ذِهْنُهُ لِأَوَانِ حَاجَتِهِ. وَأَمَا الْبَصَرُ بِالْمَوْضِعِ: فَإِنَّمَا تَصِيرُ الْمَنَافِعُ كُلُّهَا إِلَى وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَبِنَا إِلَى هَذَا كُلِّهِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. فَإِنَّنَا لَمْ نُوضَعْ فِي الدُّنْيَا مَوْضِعَ غِنىً وَخَفْضٍ (¬2) وَلَكِنْ مَوْضِعَ فَاقَةٍ وَكَدٍّ (¬3)، وَلَسْنَا إِلَى مَا يُمْسِكُ بِأَرْمَاقِنَا (¬4) مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجَ مِنَّا إِلَى مَا يُثْبِتُ عُقُولَنَا مِنَ الْأَدَبِ الَّذِي بِهِ تَفَاوُتُ الْعُقُولِ. وَلَيْسَ غِذَاءُ الطَّعَامِ بِأَسْرَعَ فِي نَبَاتِ الْجَسَدِ مِنْ غِذَاءِ الْأَدَبِ فِي نَبَاتِ الْعَقْلِ. وَلَسْنَا بِالْكَدِّ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ الَّذِي يُلْتَمَسُ بِهِ دَفْعُ الضَّرَرِ وَالْغَلَبَةُ بِأَحَقَّ مِنَّا بِالْكَدِّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي ¬
يُلْتَمَسُ بِهِ صَلاَحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ الْمَحْفُوظِ حُرُوفًا فِيهَا عَوْنٌ عَلَى عِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَصِقَالِهَا (¬1) وَتَجْلِيَةِ أَبْصَارِهَا، وَإِحْيَاءٌ لِلتَّفْكِيرِ، وَإِقَامَةٌ لِلتَّدْبِيرِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَحَامِدِ الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلاَقِ إِنْ شَاءَ اللهُ. الْوَاصِفُونَ أَكْثَرُ مِنَ الْعَارِفِينَ، وَالْعَارِفُونَ أَكْثَرُ مِنَ الْفَاعِلَينَ. فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ نَفْسَهُ. فَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ آفَةٌ نَصِيبًا مِنَ اللُّبِّ يَعِيشُ بِهِ، لاَ يُحِبُّ أَنَّ لَهُ بِهِ مِنَ الدُّنيا ثَمَنًا. وَلَيْسَ كُلُّ ذِي نَصِيبٍ مِنَ اللُّبِّ بِمُسْتَوْجِبٍٍ أَنْ يُسَمَّى فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلاَ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَاتِهِمْ. فَمَنْ رَامَ (¬2) أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ الاسْمِ وَالْوَصْفِ أَهْلاً، فَلْيَأْخُذْ لَهُ عَتَادَهُ (¬3)، وَلْيُعِدَّ لَهُ طُولَ أَيَّامِهِ، وَلْيُؤْثِرْهُ عَلَى أَهْوَائِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَامَ أَمْرًا جَسِيمًا لاَ يَصْلُحُ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْمَعْجَِزَةِ (¬4)، وَلاَ يَصِيرُ عَلَى الْأَثَرَةِ. وَلَيْسَ كَسَائِرِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا وَمَالِهَا وَزِينَتِهَا الَّتِي قَدْ يُدْرِكُ مِنْهَا الْمُتَوانِي مَا ¬
يَفُوتُ الْمُثَابِرَ، وَيُصِيبُ مِنْهَا الْعَاجِزُ مَا يُخْطِئُ الْحَازِمَ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْعَاقِلِ أُمُورًا إِذَا ضَيَّعَهَا حَكَمَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ بِمُقَارَنَةِ الْجُهَّالِ. فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النَّاسَ مُشْتَرِكُونَ مُسْتَوُون فِي الْحُبِّ لِمَا يُوافِقُ، وَالْبُغْضِ لِمَا يُؤْذِي، وَأَنَّ هَذِهِ مَنْزِلَةٌ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْحَمْقَى وَالْأَكْيَاسُ (¬1)، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَهَا فِي ثَلاَثِ خِصَالٍ هُنَّ جِمَاعُ الصَّوَابِ وَجِمَاعُ الخَطَإِ، وَعِنْدَهُنَّ تَفَرَّقَتِ الْعُلَمَاءُ وَالْجُهَّالُ، وَالْحَزَمَةُ (¬2) وَالْعَجَزَةُ. الْبَابُ الْأَوَلُ (¬3) مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ فِيمَا يُؤْذِيهِ وَفِيمَا يَسُرُّهُ، فَيَعْلَمَ أَنَّ أَحَقَّ ذَلِكَ بِالطَّلَبِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحِبُّ، وَأَحَقَّهُ بِالاتِقَاءِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَكْرُهُ، أَطْوَلُهُ وَأَدْوَمُهُ وَأَبْقَاهُ؛ فَإِذَا هُوَ قَدْ أَبْصَرَ فَضْلَ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَفَضْلَ سُرُورِ الْمُرُوءَةِ عَلَى لَذَّةِ الْهَوَى، وَفَضْلَ الرَّأْيِ الْجَامِعِ الْعَامِّ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْأَنْفُسُ وَالْأَعْقَابُ عَلَى حَاضِرِ الرَّأْيِ الَّذِي يُسْتَمْتَعُ بِهِ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ (¬4)، وَفَضْلَ الْأَكَلاَتِ عَلَى الْأَكْلَةِ، وَالسَّاعَاتِ عَلَى السَّاعَةِ. وَالْبَابُ الثَّانِي (¬5) مِنْ ذَلِكَ: هُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا يُؤْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَضَعَ الرَّجَاءَ ¬
وَالْخَوْفَ فِيهِ مَوْضِعَهُ، فَلاَ يَجْعَلُ اتِّقَاءَهُ لِغَيْرِ الْمَخُوفِ، وَلاَ رَجَاءَهُ فِي غَيْرِ الْمُدْرَكِ. فَيَتْرُكُ (¬1) عَاجِلَ اللَّذَاتِ طَلَبًا لِآجِلِهَا، وَيَحْتَمِلُ قَرِيبَ الْأَذَى تَوَقِيًّا لِبَعِيدِهِ. فَإِذَا صَارَ إِلَى الْعَاقِبَةِ؛ بَدَا لَهُ أَنَّ قَرَارَهُ (¬2) كَانَ تَوَرُّطًا، وَأَنَّ طَلَبَهُ كَانَ تَنَكُّبًا. الْبَابُ الثَّالِثُ (¬3) مِنْ ذَلِكَ: هُوَ تَنْفِيذُ الْبَصَرِ بِالْعَزْمِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِفَضْلِ الَّذِي هُوَ أَدْوَمُ، وَبَعْدَ التَّثَبُّتِ فِي مَوَاضِعِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ طَالِبَ الْفَضْلِ بِغَيْرِ بَصَرٍ تَائِهٌ حَيْرَانُ، وَمُبْصِرَ الْفَضْلِ بِغَيْرِ عَزْمٍ ذُو زَمَانَةٍ (¬4) مَحْرُومٌ. وَعَلَى الْعَاقِلِ مُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ، وَمُخَاصَمَتُهَا (¬5)، وَالْقَضَاءُ عَلَيْهَا، وَالْإِثَابَةُ لَهَا، وَالتَّنْكِيلُ بِهَا. أَمَّا الْمُحَاسَبَةُ: فَيُحَاسِبُهَا بِمَالِهَا، فَإِنَّهُ لاَ مَالَ لَهَا إِلاَ أَيَّامُهَا الْمَعْدُودَةُ الَّتِي مَا ذَهَبَ مِنْهَا لَمْ يُسْتَخْلَفْ كَمَا تُسْتَخْلَفُ النَّفَقَةُ، وَمَا جُعِل مِنْهَا فِي الْبَاطِلِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ، فَيَتَنَبَّهُ لِهَذِهِ الْمُحَاسَبَةِ عِنْدَ الْحَوْلِ إِذَا حَالَ (¬6)، وَالشَّهْرِ إِذَا انْقَضَى، وَالْيَوْمِ إِذَا وَلَّى، فَيَنْظُرُ فِيمَا أَفْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا كَسَبَ لِنَفْسِهِ، وَمَا اكْتَسَبَ عَلَيْهَا، فِي أَمْرِ الدِّينِ وَأَمْرِ الدُّنْيَا، فَيَجْمَعُ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ فِيهِ إِحْصَاءٌ، ¬
وَجِدٌّ، وَتَذْكِيرٌ لِلْأُمُورِ، وَتَبْكِيتٌ لِلنَّفْسِ، وَتَذْلِيلٌ لَهَا؛ حَتَّى تَعْتَرِفَ وَتُذْعِنَ. وَأَمَّا الْخُصُومَةُ: فَإِنَّ مِن طِبَاعِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ (¬1) أَنْ تَدَّعِيَ الْمَعَاذِيرَ فِيمَا مَضَى، وَالْأَمَانِيَ فِيمَا بَقِيَ، فَيَرُدَّ عَلَيْهَا مَعَاذِيرَهَا وَعِلَلَهَا وَشُبُهَاتِهَا. وَأَمَّا الْقَضَاءُ: فَإِنَّهُ يَحْكُمُ فِيمَا أَرَادَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَنَّهَا فَاضِحَةٌ مُرْدِيَةٌ مُوْبِقَةٌ (¬2)، وَلِلْحَسَنَةِ بِأَنَّهَا زَائِنَةٌ مُنْجِيَةٌ مُرْبِحَةٌ. وَأَمَّا الْإِثَابَةُ وَالتَّنْكِيلُ: فَإِنَّهُ يَسُرُّ نَفْسَهُ بِتَذَكُّرِ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ وَرَجَاءِ عَوَاقِبِهَا وَتَأْمِيلِ فَضْلِهَا، وَيُعَاقِبُ نَفْسَهُ بِالتَّذَكُّرِ لِلسَّيِّئَاتِ وَالتَّبَشُّعِ بِهَا وَالاقْشِعْرَارِ مِنْهَا وَالْحُزْنِ لَهَا. فَأَفْضَلُ ذَوِي الْأَلْبَابِ أَشَدُّهُمْ لِنَفْسِهِ بِهَذَا أَخْذًا، وَأَقَلُّهُمْ عَنْهَا فِيهِ فَتْرَةً (¬3). وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَذْكُرَ الْمَوْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِرَارًا، ذِكْرًا يُبَاشِرُ بِهِ الْقُلُوبَ وَيَقْذَعُ (¬4) الطِّمَاحَ (¬5)؛ فَإِنَّ فِي كَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ عِصْمَةً مِنَ الْأَشَرِ (¬6)، وَأَمَانًا بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْهَلَعِ. ¬
وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُحْصِيَ عَلَى نَفْسِهِ مَسَاوِيَهَا فِي الدِّينِ [وَفِي الرَّأْيِ] (¬1) وَفِي الْأَخْلاَقِ وَفِي الْآدَابِ، فَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي كِتَابٍ، ثُمَّ يُكْثِرُ عَرْضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُكَلِّفُهَا إِصْلاَحَهُ، وَيُوَظِّفُ ذَلِكَ عَلَيْهَا تَوْظِيفًا مِنْ إِصْلاَحِ الْخَلَّةِ (¬2) وَالْخَلَّتَيْنِ وَالْخِلاَلِ فِي الْيَوْمِ أَوِ الْجُمُْعَةِ أَوِ الشَّهْرِ. فَكُلَّمَا أَصْلَحَ شَيْئًا مَحَاهُ، وَكُلَّمَا نَظَرَ إِلَى مَحْوٍ اسْتَبْشَرَ، وَكُلَّمَا نَظَرَ إِلَى ثَابِتٍ اكْتَأَبَ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَفَقَّدَ مَحَاسِنَ النَّاسِ وَيَحْفَظَهَا عَلَى نَفْسِهِ (¬3)، وَيَتَعَهَدَهَا بِذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي وَصَفْنَا فِي إِصْلاَحِ الْمَسَاوِئِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يُخَادِنَ (¬4) وَلاَ يُصَاحِبَ وَلاَ يُجَاوِرَ مِنَ النَّاسِ - مَا ¬
اسْتَطَاعَ - إِلاَّ ذَا فَضْلٍ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَخْلاَقِ؛ فَيَأْخُذَ عَنْهُ، أَوْ مُوَافِقًا لَهُ عَلَى إِصْلاَحِ ذَلِكَ؛ فَيُؤَيِّدَ مَا عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ؛ فَإِنَّ الْخِصَالَ الصَّالِحَةَ مِنَ الْبِرِّ لاَ تَحْيَا وَلاَ تَنْمَى إِلاَّ بِالْمُوَافِقِينَ وَالْمُؤَيِّدِينَ، وَلَيْسَ لِذِي الْفَضْلِ قَرِيبٌ وَلاَ حَمِيمٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ [وَأَحَبَّ] (¬1) مِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى صَالِحِ الْخِصَالِ فَزَادَهُ وَثَبَّتَهُ. وَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ الأَوَّلِينَ أَنَّ صُحْبَةَ بَلِيدٍ نَشَأَ مَعَ الْعُلَمَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ صُحْبَةِ لَبِيبٍ نَشَأَ مَعَ الْجُهَّالِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَحْزَنَ عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا أَوْ تَوَلَّى، وَأَنْ يُنْزِلَ مَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُ مَنْزِلَةَ مَا لَمْ يُصِبْ، وَيُنْزِلَ مَا طَلَبَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ (¬2) مَنْزِلَةَ مَا لَمْ يَطْلُبْ، وَلاَ يَدَعَ حَظَّهُ مِنَ السُّرُورِ بِمَا أَقْبَلَ مِنْهَا، وَلاَ يَبْلُغَنَّ ذَلِكَ سُكْرًا وَلاَ طُغْيَانًا؛ فَإِنَّ مَعَ السُّكْرِ النِّسْيَانَ، وَمَعَ الطُّغْيَانِ التَّهَاوُنَ، وَمَنْ نَسِيَ وَتَهَاوَنَ خَسِرَ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُؤْنِسَ ذَوِي الْأَلْبَابِ بِنَفْسِهِ وَيُجَرِّئَهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَصِيرُوا حَرَسًا عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَرَأْيِهِ، فَيَسْتَنِيمَ (¬3) إِلَى ذَلِكَ وَيُرِيحَ لَهُ قَلْبَهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُمْ لاَ يَغْفُلُونَ عَنْهُ إِذَا هُوَ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ. ¬
وَعَلَى الْعَاقِلِ - مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى نَفْسِهِ - أَنْ لاَ يَشْغَلَهُ شُغْلٌ (¬1) عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يَرْفَعُ فِيهَا حَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ وَثِقَاتِهِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَهُ عَنْ عُيُوبِهِ وَيَنْصَحُونَهُ فِي أَمْرِهِ، وَسَاعَةٍ يُخْلِي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا مِمَّا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى السَّاعَاتِ الْأُخَرِ، وَإِنَّ اسْتِجْمَامَ الْقُلُوبِ وَتَوْدِيعَهَا (¬2) زِيَادَةُ قُوَّةٍ لَهَا وَفَضْلُ بُلْغَةٍ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ رَاغِبًا (¬3) إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ (¬4) لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مَحْرَمٍ. ¬
وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ طَبَقَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ، وَيَلْبَسَ لَهُمْ لِبَاسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: فَطَبَقَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ: يَلْبَسُ لَهُمْ لِبَاسَ انْقِبَاضٍ وَانْحِجَازٍ وَتَحَفُّظٍ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَخَطْوَةٍ. وَطَبَقَةٌ مِنَ الْخَاصَّةِ: يَخْلَعُ عِنْدَهُمْ لِبَاسَ التَّشَدُّدِ، وَيَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَنَسَةِ وَاللُّطْفِ (¬1) وَالْبِذْلَةِ وَالْمُفَاوَضَةِ. وَلاَ يُدْخِلُ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ إِلاَّ وَاحِدًا (¬2) مِنْ أَلْفٍ كُلِّهِمْ ذُو فَضْلٍ فِي الرَّأْيِ، وَثِقَةٍ فِي الْمَوَدَّةِ، وَأَمَانَةٍ فِي السِّرِّ، وَوَفَاءٍ بِالْإِخَاءِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَسْتَصْغِرَ شَيْئًا مِنَ الْخَطَإِ فِي الرَّأْيِّ، وَالزَّلَلِ فِي الْعِلْمِ، وَالْإِغْفَالِ فِي الْأُمُورِ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَصْغَرَ الصَّغِيرَ أَوْشَكَ أَنْ يَجْمَعَ إِلَيْهِ صَغِيرًا وَصَغِيرًا، فَإِذَا الصَّغِيرُ كَبِيرٌ، وإِنَّمَا هِيَ ثُلَمٌ (¬3) يَثْلِمُهَا الْعَجْزُ والتَّضْيِيعُ، فَإِذَا لَمْ تُسَدَّ أَوْشَكَتْ أَنْ تَتَفَجَّرَ بِمَا لاَ يُطَاقُ. وَلَمْ نَرَ شَيْئًا قَطُّ إِلاَّ قَدْ أُوتِيَ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ الْمُتَهَاوَنِ بِهِ. قَدْ رَأَيْنَا الْمُلْكَ يُؤْتَى مِنَ الْعَدُوِّ الْمُحْتَقَرِ بِهِ، وَرَأَيْنَا الْصِّحَّةَ تُؤْتَى مِنَ الدَّاءِ الَّذِي لاَ يُحْفَلُ بِهِ، وَرَأَيْنَا الْأَنْهَارَ تَنْبَثِقُ مِنَ الْجَدْوَلِ الَّذِي يُسْتَخَفُّ بِهِ. وَأَقَلُّ الْأُمُورِ احْتِمَالاً للضَّيَاعِ الْمُلْكُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَضِيعُ - وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا - إِلاَّ اتَّصَلَ بِآخَرَ ¬
يَكُونُ عَظِيمًا. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجْبُنَ عَنِ الرَّأْيِ (¬1) الَّذِي لاَ يَجِدُ عَلَيْهِ مُوَافِقًا وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى الْيَقِينِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الرَّأْيَ وَالْهَوَى مُتَعَادِيَانِ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ تَسْوِيفَ الرَّأْيِّ وَإِسْعَافَ الْهَوَى. فَيُخَالِف ذَلِكَ وَيَلْتَمِس أَنْ لاَ يَزَالَ هَوَاهُ مُسَوَّفًا وَرَأْيُهُ مُسْعَفًا. وَعَلَى الْعَاقِلِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ فَلَمْ يَدْرِ فِي أَيِّهِمَا الصَّوَابُ أَنْ يَنْظُرَ أَهْوَاهُمَا عِنْدَهُ؛ فَيَحْذَرَهُ. وَمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا فِي الدِّينِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ وَتَقْوِيمِهَا فِي السِّيرَةِ وَالطُِّعْمَةِ (¬2) وَالرَّأْيِ وَاللَّفْظِ وَالْأَخْدَانِ (¬3)؛ فَيَكُونَ تَعْلِيمُهُ بِسِيرَتِهِ أَبْلَغَ مِنْ تَعْلِيمِهِ بِلِسَانِهِ (¬4)؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ كَلاَمَ الْحِكْمَةِ يُونِقُ ¬
الْأَسْمَاعَ (¬1)، فَكَذَلِكَ عَمَلُ الْحِكْمَةِ يَرُوقُ الْعُيُونَ وَالْقُلُوبَ. وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ وَالتَّفْضِيلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِم. وِلاَيَةُ النَّاسِ بَلاَءٌ عَظِيمٌ (¬2). وَعَلَى الْوَالِي أَرْبَعُ خِصَالٍ هِيَ أَعْمِدَةُ السُّلْطَانِ وَأَرْكَانُهُ الَّتِي بِهَا يَقُومُ ¬
وَعَلَيْهَا يَثْبُتُ: الاجْتِهَادُ فِي التَّخَيُّرِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّقَدُّمِ، وَالتَّعَهُّدُ الشَّدِيدُ، وَالْجَزَاءُ الْعَتِيدُ. فَأَمَّا التَّخَيُّرُ لِلْعُمَّالِ وَالْوُزَرَاءِ: فَإِنَّهُ نِظَامُ الْأَمْرِ وَوَضْعُ مَؤُونَةِ الْبَعِيدِ الْمُنْتَشِرِ؛ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بِتَخَيُّرِهِ رَجُلاً وَاحِدًا قَدِ اخْتَارَ أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ مَنْ كَانَ مِنَ العُمَّالِ خِيَارًا فَسَيَخْتَارُ كَمَا اخْتِيرَ. وَلَعَلَّ عُمَّالَ الْعَامِلِ وَعُمَّالَ عُمَّالِهِ يَبْلُغُونَ عَدَدًا كَثِيرًا. فَمَنْ تَبَيَّنَ التَّخَيُّرَ فَقَدْ أَخَذَ بِسَبَبٍ وَثِيقٍ، وَمَنْ أَسَّسَ أَمْرَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ لِبُنْيَانِهِ (¬1) قِوَامًا (¬2). ¬
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّوْكِيدُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ذِي لُبٍّ أَوْ ذِي أَمَانَةٍ يَعْرِفُ وُجُوهَ الْأُمُورِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِذَلِكَ عَارِفًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ حَقِيقًا أَنْ يَكِلَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ دُونَ تُوْقِيفِهِ عَلَيْهِ وَتَبْيِينِهِ لَهُ وَالاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِهِ. وَأَمَّا التَّعَهُّدُ: فَإِنَّ الْوَالِي إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَإِنَّ الْعَامِلَ إِذَا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ كَانَ مُتَحَصِّنًا حَرِيزًا. وَأَمَّا الْجَزَاءُ: فَإِنَّهُ تَثْبِيتُ الْمُحْسِنِ، وَالرَّاحَةُ مِنَ الْمُسِيءِ. لاَ يُسْتَطَاعُ السُّلْطَانُ إِلاَّ بِالْوُزَرَاءِ وَالْأَعْوَانِ، وَلاَ يَنْفَعُ الْوُزَرَاءُ إِلاَّ بِالْمَوَدَّةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَلاَ الْمَوَدَّةُ إِلاَّ مَعَ الرَّأْيِ وَالْعَفَافِ. وَأَعْمَالُ السُّلْطَانِ كثيرةٌ، وَقَلِيلٌ مَا تُسْتَجْمَعُ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ وَالسَّبِيلُ الَّذِي بِهِ يَسْتَقِيمُ الْعَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ عَالِمًا بِأُمُورِ مَنْ يُرِيدُ الاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَمَا عِنْدَ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الرَّأْيِ وَالْغَنَاءِ (¬1)، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَنْ عِلْمِهِ وَعَلِمَ (¬2) مَنْ يَأْتَمِنُ، وَجَّهَ لِكُلِّ عَمَلٍ مَنْ قَدْ عَرَفَ أَنَّ عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ وَالْأَمَانَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ لاَ يَضُرُّ بِذَلِكَ. وَيَتَحَفَّظُ مِنْ أَنْ يُوَجِّهَ أَحَدًا وَجْهًا لاَ يَُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُرُوءَةٍ إِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَلاَ يَأْمَنُ عُيُوبَهُ وَمَا يَُكْرَهُ مِنْهُ. ¬
ثُمَّ عَلَى الْمُلُوكِ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَهُّدُ (¬1) عُمَّالِهِمْ وَتَفَقُّدُ أُمُورِهِمْ، حَتَّى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ إِحْسَانُ مُحْسِنٍ، وَلاَ إِسَاءَةُ مُسِيءٍ. ثُمَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَتْرُكُوا مُحْسِنًا بِغَيْرِ جَزَاءٍ، وَلاَ يُقِرُّوا مُسِيئًا وَلاَ عَاجِزًا عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالْعَجْزِ. فَإِنَّهُمْ إِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ؛ تَهَاوَنَ الْمُحْسِنُ، وَاجْتَرَأَ الْمُسِيءُ، وَفَسَدَ الْأَمْرُ، وَضَاعَ الْعَمَلُ. اقْتِصَارُ السَّعْيِ إِبْقَاءٌ لِلْجَمَامِ (¬2). وَفِي بُعْدِ الْهِمَّةِ يَكُونُ النَّصَبُ (¬3). وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَ قَدْرِهِ (¬4) اسْتَحَقَّ الْحِرْمَانَ (¬5). وَسُوءُ حَمْلِ الْغِنَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْفَرَحِ مَرِحًا. وَسُوءُ حَمْلِ الْفَاقَةِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الطَّلَبِ شَرِهًا (¬6). وَعَارُ الْفَقْرِ ¬
أَهْوَنُ مِنْ عَارِ الْغِنَى. وَالْحَاجَةُ مَعَ الْمَحَبَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْبِغْضَةِ (¬1). الدُّنْيَا دُوَلٌ، فَمَا كَانَ لَكَ مِنْهَا أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ، وَمَا كَانَ عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ. إِذَا جُعِلَ الْكَلاَمُ مَثَلاً؛ كَانَ ذَلِكَ أَوْضَحَ لِلْمَنْطِقِ، وَأَبْيَنَ فِي الْمَعْنَى، وَآنَقَ لِلسَّمْعِ، وَأَوْسَعَ لِشُعُوبِ (¬2) الْحَدِيثِ. أَشَدُّ الْفَاقَةِ عَدَمُ الْعَقْلِ. وَأَشَدُّ الْوَحْدَةِ وَحْدَةُ اللَّجُوجِ (¬3). وَلاَ مَالَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَقْلِ (¬4). وَلاَ أَنِيسَ آنَسُ مِنَ الاسْتِشَارَةِ. ¬
مِمَّا يُعْتَبَرُ بِهِ صَلاَحُ الصَّالِحِ وَحُسْنُ نَظَرِهِ لِلنَّاسِ أَنْ يَكُونَ إِذَا اسْتَعْتَبَ الْمُذْنِبَ سَتُورًا لاَ يُشِيعُ وَلاَ يُذِيعُ، وَإِذَا اسْتُشِيرَ سَمْحًا بِالنَّصِيحَةِ مُجْتَهِدًا لِلرَّأْيِ، وَإِذَا اسْتَشَارَ مُطَّرِحًا لِلْحَيَاءِ مُنَفِّذًا لِلْحَزْمِ مُعْتَرِفًا لِلْحَقِّ. الْقَسْمُ الَّذِي يُقْسَمُ لِلنَّاسِ وَيُمَتَّعُونَ بِهِ نَحْوَانِ: فَمِنْهُ حَارِسٌ، وَمِنْهُ مَحْرُوسٌ. فَالْحَارِسُ الْعَقْلُ، وَالْمَحْرُوسُ الْمَالُ (¬1). وَالْعَقْلُ - بِإِذْنِ اللهِ - هُوَ الَّذِي يُحْرِزُ الْحَظَّ، وَيُؤْنِسُ الْغُرْبَةَ، وَيَنْفِي الْفَاقَةَ، وَيُعَرِّفُ النَّكِرَةَ، وَيُثَمِّرُ الْمَكْسَبَةَ، وَيُطَيِّبُ الثَّمَرَةَ، وَيُوَجِّهُ السُّوقَةَ (¬2) ¬
عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَيَسْتَنْزِلُ لِلسُّلْطَانِ نَصِيحَةَ السُّوقَةِ، وَيُكْسِبُ الصَّدِيقَ، وَيَكْفِي الْعَدُوَّ. كَلاَمُ اللَّبِيبِ - وَإِنْ كَانَ نَزْرًا (¬1) - أَدَبٌ عَظِيمٌ. وَمُقَارَفَةُ الْمَأْثَمِ - وَإِنْ كَانَ مُحْتَقَرًا - مُصِيبَةٌ جَلِيلَةٌ. وَلِقَاءُ الْإِخْوَانِ - وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا - غُنْمٌ (¬2) حَسَنٌ. قَدْ يَسْعَى إِلَى أَبْوَابِ السُّلْطَانِ أَجْنَاسٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ. أَمَّا الصَّالِحُ فَمَدْعُوٌ، وَأَمَّا الطَّالِحُ فَمُقْتَحِمٌ، وَأَمَّا ذُو الْأَدَبِ فَطَالِبٌ، وَأَمَّا مَنْ لاَ أَدَبَ لَهُ فَمُحْتَبَسٌ (¬3)، وَأَمَّا الْقَوِيُّ فَمُدَافِعٌ، وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَمَدْفُوعٌ، وَأَمَّا الْمُحْسِنُ فَمُسْتَثِيبٌ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَمُسْتَجِيرٌ. فَهُوَ مَجْمَعُ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَالشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ. النَّاسُ - إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ عَصَمَ اللهُ - مَدْخُولُونَ (¬4) فِي أُمُورِهِمْ: فَقَائِلُهُمْ بَاغٍ، وَسَامِعُهُمْ عَيَّابٌ، وَسَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ، وَمُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ، وَوَاعِظُهُمْ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لِقَوْلِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَوْعُوظُهُمْ غَيْرُ سَلِيمٍ مِنَ الاسْتِخْفَافِ، وَالْأَمِينُ مِنْهُمْ ¬
غَيْرُ مُتَحَفِّظٍ مِنْ إِتْيَانِ الْخِيَانَةِ، وَذُو الصِّدْقِ (¬1) غَيْرُ مُحْتَرِسٍ مِنْ حَدِيثِ الْكَذَبَةِ، وَذُو الدِّينِ غَيْرُ مُتَوَرِّعٍ عَنْ تَفْرِيطِ الْفَجَرَةِ، وَالْحَازِمُ مِنْهُمْ غَيْرُ تَارِكٍ لِتَوَقُّعِ الدَّوَائِرِ (¬2). يَتَنَاقَضُونَ الْبُِنَى (¬3)، وَيَتَرَقَّبُونَ (¬4) الدُّوَلَ، وَيَتَعَايَبُونَ بِالْهَمْزِ. مُولَعُونَ فِي الرَّخَاءِ بِالتَّحَاسُدِ، وَفِي الشِّدَّةِ بِالتَّخَاذُلِ. كَمْ قَدِ انْتُزِعَتِ الدُّنْيَا مِمَّنْ قَدِ اسْتَمْكَنَ مِنْهَا وَاعْتَكَفَتْ لَهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَعْمَالُ أَعْمَالَهُمْ وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُمْ، وَخَرَجُوا إِلَى مَنْ لاَ يَعْذُرُهُمْ. فَأَصْبَحْنَا خَلَفًا مِنْ بَعْدِهِمْ، نَتَوَقَّعُ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ. فَنَحْنُ إِذَا تَدَبَّرْنَا أُمُورَهُمْ، أَحِقَّاءُ أَنْ نَنْظُرَ مَا نَغْبِطُهُمْ بِهِ فَنَتَّبِعَهُ، وَمَا نَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ فَنَجْتَنِبَهُ. كَانَ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ (تَعَالَى) قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَيَبْتَلِي بِثِقَلِهِ، وَيَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيَبْتَلِي بِشَهْوَتِهِ. فَإِذَا كُنْتَ لاَ تَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ مَا اشْتَهَيْتَ (¬5)، وَلاَ تَتْرُكُ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ مَا ¬
كَرِهْتَ (¬1)، فَقَدْ أَطْلَعْتَ الشَّيْطَانَ عَلَى عَوْرَتِكَ، وَأَمْكَنْتَهُ مِنْ رُمَّتِكَ (¬2)، فَأَوْشَكَ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيْكَ فِيمَا تُحِبُّ مِنَ الْخَيْرِ فَيُكَرِّهَهُ إِلَيْكَ، وَفِيمَا تَكْرَهُ مِنَ الشَّرِّ فَيُحَبِّبَهُ إِلَيْكَ. وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَكَ فِي حُبِّ مَا تُحِبُّ مِنَ الْخَيْرِ التَّحَامُلُ عَلَى مَا يُسْتَثْقَلُ مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لَكَ فِي كَرَاهَةِ مَا تَكْرَهُ مِنَ الشَّرِّ التَّجَنُّبُ (¬3) لِمَا تُحِبُّ مِنْهُ. الدُّنْيَا زُخْرُفٌ يَغْلِبُ الْجَوَارِحَ مَا لَمْ تَغْلِبْهُ الْأَلْبَابُ. وَالْحَكِيمُ مَنْ يُغْضِي عَنْهُ طَرْفَهُ وَلَمْ يَشْغَلْ بِهِ قَلْبَهُ. اطَّلَعَ مِنْ أَدْنَاهُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَذَكَرَ [فِي بَدْئِهِ] (¬4) لَوَاحِقَ شَرِّهِ، فَأَكَلَ مُرَّهُ، وَشَرِبَ كَدِرَهُ؛ لِيَحْلَوْلِيَ (¬5) لَهُ، وَيَصْفُوَ فِي طُولٍ مِنْ إِقَامَةِ الْعَيْشِ الَّذِي يَبْقَى وَيَدُومُ، غَيْرَ عَائِفٍ لِلرَُّشَْدِ (¬6) إِنْ لَمْ يَلْقَهُ بِرِضَاهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ طَرِيقِ هَوَاهُ. ¬
لاَ تَأْلَفِ الْمُسْتَوْخمَ (¬1)، وَلاَ تُقِمْ عَلَى غَيْرِ الثِّقَةِ. قَدْ بَلَغَ فَضْلُ اللهِ عَلَى النَّاسِ مِنَ السَّعَةِ وَبَلَغَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السُّبُوغِ (¬2) مَا لَوْ أَنَّ أَخَسَّهُمْ حَظًّا وَأَقَلَّهُمْ مِنْهُ نَصِيبًا وَأَضْعَفَهُمْ عِلْمًا وَأَعْجَزَهُمْ عَمَلاً وَأَعْيَاهُمْ لِسَانًا بَلَغَ مِنَ الشُّكْرِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا خَلَصَ إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِهِ وَوَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ نِعْمَتِهِ مَا بَلَغَ لَهُ مِنْهُ أَعْظَمُهُمْ حَظًّا وَأَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا وَأَفْضَلُهُمْ عِلْمًا وَأَقْوَاهُمْ عَمَلاً وَأَبْسَطُهُمْ لِسَانًا؛ لَكَانَ عَمَّا اسْتَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مُقَصِّرًا، وَعَنْ بُلُوغِ غَايَةِ الشُّكْرِ بَعِيدًا. وَمَنْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ شُكْرِ اللهِ، وَحَمْدِهِ، وَمَعْرِفَةِ نِعَمِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّحْمِيدِ لَهُ؛ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ مِنْ أَدَائِهِ إِلَى اللهِ الْقُرْبَةَ (¬3) عِنْدَهُ، وَالْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَالْمَزِيدَ فِيمَا شَكَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَحُسْن ثَوَابِ الْآخِرَةِ. أَفْضَلُ مَا يُعْلَمُ بِهِ عِلْمُ ذِي الْعِلْمِ وَصَلاَحُ ذِي الصَّلاَحِ أَنْ يَسْتَصْلِحَ بِمَا أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَاعَ (¬4) مِنَ النَّاسِ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِيمَا رَغِبَ فِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ حُبِّ اللهِ، وَحُبِّ حِكْمَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَالرَّجَاءِ لِحُسْنِ ثَوَابِهِ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الْأَخْذِ بِذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهِ، وَأَنْ يُوَرِّثَ ذَلِكَ ¬
أَهْلَهُ وَمَعَارِفَهُ؛ لِيَلْحَقَهُ أَجْرُهُ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ. الدِّينُ أَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ الَّتِي وَصَلَتْ مِنَ اللهِ (تَعَالَى) إِلَى خَلْقِهِ، وَأَعْظَمُهَا مَنْفَعَةً، وَأَحْمَدُهَا فِي كُلِّ حِكْمَةٍ. فَقَدْ بَلَغَ فَضْلُ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ مُدِحَا عَلَى أَلْسِنَةِ الْجُهَّالِ، عَلَى جَهَالَتِهِمْ بِهِمَا وَعَمَاهُمْ عَنْهُمَا. أَحَقُّ النَّاسِ بِالسُّلْطَانِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ. وَأَحَقُّهُمْ بِالتَّدْبِيرِ الْعُلَمَاءُ. وَأَحَقُّهُمْ بِالْفَضْلِ أَعْوَدُهُمْ عَلَى النَّاسِ بِفَضْلِهِ. وَأَحَقُّهُمْ بِالْعِلْمِ أَحْسَنُهُمْ تَأْدِيبًا. وَأَحَقُّهُمْ بِالْغِنَى أَهْلُ الْجُودِ. وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى اللهِ أَنْفَذُهُمْ فِي الْحَقِّ عِلْمًا وَأَكْمَلُهُمْ بِهِ عَمَلاً. وَأَحْكَمُهُمْ أَبْعَدُهُمْ مِنَ الشَّكِّ فِي اللهِ (تَعَالَى). وَأَصْوَبُهُمْ رَجَاءً أَوْثَقُهُمْ بِاللهِ. وَأَشَدُّهُم انْتِفَاعًا بِعِلْمِهِ أَبْعَدُهُمْ مِنَ الْأَذَى. وَأَرْضَاهُمْ فِي النَّاسِ أَفْشَاهُمْ مَعْرُوفًا. وَأَقْوَاهُمْ أَحْسَنُهُمْ مَعُونَةً. وَأَشْجَعُهُمْ أَشَدُّهُمْ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَأَفْلَجُهُمْ بِالْحُجَّةِ (¬1) أَغْلَبُهُمْ لِلشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ. وَآخَذُهُمْ بِالرَّأْيِ أَتْرَكُهُمْ لِلْهَوَى. وَأَحَقُّهُمْ بِالْمَوَدَّةِ أَشَدُّهُمْ لِنَفْسِهِ حُبًّا. وَأَجْوَدُهُمْ أَصْوَبُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ مَوْضِعًا. وَأَطْوَلُهُمْ رَاحَةً أَحْسَنُهُمْ لِلْأُمُورِ احْتِمَالاً. وَأَقَلُّهُمْ دَهَشًا (¬2) أَرْحَبُهُمْ ذِرَاعًا (¬3). وَأَوْسَعُهُمْ غِنًى أَقْنَعُهُمْ بِمَا أُوتِيَ. وَأَخْفَضُهُمْ عَيْشًا (¬4) ¬
أَبْعَدُهُمْ مِنَ الْإِفْرَاطِ. وَأَظْهَرُهُمْ جَمَالاً أَظْهَرُهُمْ حَصَافَةً (¬1). وَآمَنُهُمْ فِي النَّاسِ آكَلُهُمْ نَابًا وَمِخْلَبًا. وَأَثْبَتُهُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمِ أَنْطَقُهُمْ عَنْهُمْ. وَأَعْدَلُهُمْ فِيهِمْ أَدْوَمُهُمْ مُسَالَمَةً لَهُمْ. وَأَحَقُّهُمْ بِالنِّعَمِ أَشْكَرُهُمْ لِمَا أُوتِيَ مِنْهَا. أَفْضَلُ مَا يُورِثُ الآبَاءُ الْأَبْنَاءَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالْأَدَبُ النَّافِعُ، وَالْإِخْوَانُ الصَّالِحُونَ. فَصْلُ مَا بَيْنَ الدِّينِ وَالرَّأْيِ: أَنَّ الدِّينَ يَسْلَمُ (¬2) بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الرَّأْيَ يَثْبُتُ بِالْخُصُومَةِ. فَمَنْ جَعَلَ الدِّينَ خُصُومَةً فَقَدْ جَعَلَ الدِّينَ رَأْيًّا، وَمَنْ جَعَلَ الرَّأْيَ دِينًا فَقَدْ صَارَ شَارِعًا، وَمَنْ كَانَ هُوَ يُشَرِّعُ لِنَفْسِهِ الدِّينَ فَلاَ دِينَ لَهُ. قَدْ يَشْتَبِهُ الدِّينُ وَالرَّأْيُ فِي أَمَاكِنَ لَوْلاَ تَشَابُهُهُمَا لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى الْفَصْلِ. الْعُجْبُ آفَةُ الْعَقْلِ، وَاللَّجَاجَةُ (¬3) قُعُودُ الْهَوَى، وَالْبُخْلُ (¬4) لِقَاحُ الْحِرْصِ، وَالْمِرَاءُ فَسَادُ الِّلسَانِ، وَالْحَمِيَّةُ سَبَبُ الْجَهْلِ، وَالْأَنَفَةُ تَوْءَمُ السَّفَهِ، ¬
وَالْمُنَافَسَةُ أُخْتُ الْعَدَاوَةِ. إِذَا هَمَمْتَ بِخَيْرٍ فَبَادِرْ هَوَاكَ، لاَ يَغْلِبْكَ. وَإِذَا هَمَمْتَ بِشَرٍّ فَسَوِّفْ هَوَاكَ لَعَلَّكَ تَظْفَرُ. فَإِنَّ مَا مَضَى مِنَ الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْغُنْمُ. لاَ يَمْنَعَنَّكَ صِغَرُ شَأْنِ امْرِئٍ مِنَ اجْتِنَاءِ مَا رَأَيْتَ مِنْ رَأْيِهِ صَوَابًا، وَالاصْطِفَاءِ لِمَا رَأَيْتَ مِنْ أَخْلاَقِهِ كَرِيمًا؛ فَإِنَّ اللُّؤْلُؤَةَ الْفَائِقَةَ لاَ تُهَانُ لِهَوَانِ غَائِصِهَا الَّذِي اسْتَخْرَجَهَا. مِنْ أَبْوَابِ التَّرَفُّقِ (¬1) وَالتَّوْفِيقِ فِي التَّعْلِيمِ (¬2) أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الرَّجُلِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِيمَا يُوَافِقُ طَاعَةً، وَيَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ مَحْمَلٌ وَقَبُولٌ. فَلاَ يَذْهَبُ عَنَاؤُهُ فِي غَيْرِ غَنَاءٍ (¬3)، وَلاَ تَفْنَى أَيَّامُهُ فِي غَيْرِ دَرَْكٍ (¬4)، وَلاَ يَسْتَفْرِغُ نَصِيبَهُ فِيمَا لاَ يَنْجَعُ فِيهِ (¬5)، وَلاَ يَكُونُ كَرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُعَمِّرَ أَرْضًا تَهَِمَةً (¬6). فَغَرَسَهَا جَوْزًا وَلَوْزًا، وَأَرْضًا ¬
جَلْسًا (¬1) فَغَرَسَهَا نَخْلاً وَمَوْزًا. الْعِلْمُ زَيْنٌ لِصَاحِبِهِ فِي الرَّخَاءِ، وَمَنْجَاةٌ لَهُ فِي الشِّدَّةِ. بِالْأَدَبِ تَعْمُرُ الْقُلُوبُ. وَبِالْعِلْمِ تَسْتَحْكِمُ الْأَحْلاَمُ. وَالْعَقْلُ الذَّاتِيُّ غَيْرُ الصَّنِيعِ كَالْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ الْخَرَابِ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَسَبَبُ الْإِيمَانِ (¬2) أَنْ يُوَكِّلَ بِالْغَيْبِ لِكُلِّ ظَاهِرٍ مِنَ الدُّنْيَا صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ عَيْنًا، فَهُوَ يُصَرِّفُهُ وَيُحَرِّكُهُ. فَمَنْ كَانَ مُعْتَبِرًا بِالْجَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ فَسَيَعْلَمُ أَنَّ لَهَا رَبًّا يُجْرِي فَلَكَهَا وَيُدَبِّرُ أَمْرَهَا. وَمَنِ اعْتَبَرَ بِالصَّغِيرِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى حَبَّةِ الْخَرْدَلِ فَسَيَعْرِفُ أَنَّ لَهَا مُدَبِّرًا يُنْبِتُهَا، وَيُزْكِيهَا، وَيُقَدِّرُ لَهَا أَقْوَاتَهَا مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ، وَيُوَقِّتُ لَهَا زَمَانَ نَبَاتِهَا وَزَمَانَ تَهَشُّمِهَا. وَأَمْرِ [النُّبُوءَةِ] (¬3) وَالْأَحْلاَمِ، وَمَا يَحْدُثُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. ¬
ثُمَّ اجْتِمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالْمُهْتَدِينَ وَالضُّلاَّلِ عَلَى ذِكْرِ اللهِ (تَعَالَى) وَتَعْظِيمِهِ، وَاجْتِمَاعِ مَنْ شَكَّ فِي اللهِ (تَعَالَى) وَكَذَّبَ بِهِ عَلَى الإِقْرَارِ بِأَنَّهُمْ أُنْشِئُوا حَدِيثًا، وَمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْدِثُوا أَنْفُسَهُمْ. فَكُلُّ ذَلِكَ يَهْدِي إِلَى اللهِ، وَيَدُلُّ عَلَى الَّذِي كَانَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ، مَعَ مَا يَزيدُ ذَلِكَ يَقِينًا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللهَ حَقٌّ كَبِيرٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ (¬1). إِنَّ لِلسُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ حَقًّا لاَ يَصْلُحُ لِخَاصَّةٍ وَلاَ عَامَّةٍ أَمْرٌ إِلاَّ بِإِرَادَتِهِ، فَذُو اللُّبِّ حَقِيقٌ أَنْ يُخْلِصَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ، وَيَبْذُلَ لَهُمُ الطَّاعَةَ، وَيَكْتُمَ سِرَّهُمْ، وَيُزَيِّنَ سِيرَتَهُمْ، وَيَذُبَّ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ عَنْهُمْ، وَيَتَوَخَّى مَرْضَاتِهِمْ، وَيَكُونَ مِنْ أَمْرِهِ الْمُؤَاتَاةُ (¬2) لَهُمْ، وَالْإِيثَارُ لِأَهْوَائِهِمْ وَرَأْيِهِمْ عَلَى هَوَاهُ وَرَأْيِهِ، وَيُقَدِّرَ الْأُمُورَ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ مُخَالِفًا، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْجِدُّ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَنْ جَانَبَهُمْ وَجَهِلَ حَقَّهُمْ، وَلاَ يُوَاصِلَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَنْ لاَ تُبَاعِدُ مُوَاصَلَتُهُ إِيَّاهُ مِنْهُمْ، وَلاَ تَحْمِلَهُ عَدَاوَةُ أَحَدٍ لَهُ وَلاَ إِضْرَارٌ بِهِ عَلَى الاضْطِغَانِ (¬3) عَلَيْهِمْ، وَلاَ مُؤَاتَاةُ أَحَدٍٍ عَلَى الاسْتِخْفَافِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ وَالانْتِقَاصِ لِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ، وَلاَ يَكْتُمَهُمْ شَيْئًا مِنْ نَصِيحَتِهِمْ، وَلاَ يَتَثَاقَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَلاَ يَبْطَرَ إِذَا أَكْرَمُوهُ، وَلاَ يَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَرَّبُوهُ، وَلاَ ¬
يَطْغَى إِذَا سَلَّطُوهُ، وَلاَ يُلْحِفَ (¬1) إِذَا سَأَلَهُمْ، وَلاَ يُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْمَؤُونَةَ (¬2)، وَلاَ يَسْتَثْقِلَ مَا حَمَّلُوهُ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِمْ (¬3) إِذَا رَضُوا عَنْهُ، وَلاَ يَتَغَيَّرَ لَهُمْ إِذَا سَخِطُوا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْمَدَهُمْ عَلَى مَا أَصَابَ مِنْ خَيْرٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يُصِيبَهُ بِخَيْرٍ إِلاَّ بِدِفَاعِ اللهِ عَنْهُ بِهِمْ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْعَالِمِ مَعْرِفَتُهُ بِمَا يُدْرَكُ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِمْسَاكُهُ عَمَّا لاَ يُدْرَكُ، وَتَزْيِينُهُ نَفْسَهُ بِالْمَكَارِمِ، وَظُهُورُ عِلْمِهِ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ فَخْرٌ وَلاَ عُجْبٌ، وَمَعْرِفَتُهُ زَمَانَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَبَصَرُهُ بِالنَّاسِ، وَأَخْذُهُ بِالْقِسْطِ، وَإِرْشَادُهُ الْمُسْتَرْشِدَ، وَحُسْنُ مُخَالَقَتِهِ خُلَطَاءَهُ، وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَتَحَرِّيهِ الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَرَُحْبُ ذَرْعِهِ فِيمَا نَابَهُ، وَاحْتِجَاجُهُ بِالْحُجَجِ فِيمَا عَمِلَ، وَحُسْنُ تَبْصِيرِهِ. مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْصُرَ (¬4) شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الآخِرَةِ فَبِالْعِلْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْصُرَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الدُّنْيَا (¬5) فَبِالْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ. لِيَكُنِ الْمَرْءُ سَؤُولاً، وَلْيَكُنْ فَصُولاً بَيْنَ الْحَقِّ وَالَبَاطِلِ، وَلْيَكُنْ صَدُوقًا ¬
لِيُؤَمَّنَ عَلَى مَا قَالَ، وَلْيَكُنْ ذَا عَهْدٍ لِيُوَفَّى لَهُ بِعَهْدِهِ، وَلْيَكُنْ شَكُورًا لِيَسْتَوْجِبَ الزِّيَادَةَ، وَلْيَكُنْ جَوَادًا لِيَكُونَ لِلْخَيْرِ أَهْلاً، وَلْيَكُنْ رَحِيمًا بِالْمَضْرُورِينَ لِئَلاَّ يُبْتَلَى بِالضَُّرِّ، وَلْيَكُنْ وَدُودًا لِئَلاَّ يَكُونَ مَعْدِنًا لِأَخْلاَقِ الشَّيْطَانِ، وَلْيَكُنْ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِهِ لِئَلاَّ يُؤْخَذَ بِمَا لَمْ يَجْتَرِمْ، وَلْيَكُنْ مُتَوَاضِعًا لِيُفْرَحَ لَهُ بِالْخَيْرِ وَلاَ يُحْسَدَ عَلَيْهِ، وَلْيَكُنْ قَنِعًا لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِمَا أُوتِيَ، وَلْيُسِرَّ (¬1) لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ لِئَلاَّ يُؤْذِيَهُ الْحَسَدُ، وَلْيَكُنْ حَذِرًا لِئَلاَّ تَطُولَ مَخَافَتُهُ، وَلاَ يَكُونَنَّ (¬2) حَقُودًا لِئَلاَّ يَضُرَّ بِنَفْسِهِ إِضْرَارًا بَاقِيًا، وَلْيَكُنْ ذَا حَيَاءٍ لِئَلاَّ يُسْتَذَمَّ لِلْعُلَمَاءِ (¬3). فَإِنَّ مَخَافَةَ الْعَالِمِ مَذَمَةَ الْعُلَمَاءِ أَشَدُّ مِنْ مَخَافَتِهِ عُقُوبَةَ السُّلْطَانِ. حَيَاةُ الشَّيْطَانِ تَرْكُ الْعِلْمِ، وَرُوحُهُ وَجَسَدُهُ الْجَهْلُ، وَمَعْدِنُهُ فِي أَهْلِ الْحِقْدِ وَالْقَسَاوَةِ، وَمَثْوَاهُ فِي أَهْلِ الْغَضَبِ، وَعَيْشُهُ فِي الْمُصَارَمَةِ (¬4)، وَرَجَاؤُهُ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ. وَقَالَ (¬5): لاَ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَعْتَدَّ بِعِلْمِهِ وَرَأْيِهِ مَا لَمْ يُذَاكِرْهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ ¬
وَلَمْ يُجَامِعُوهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَكْمَلُ عِلْمُ الْأَشْيَاءِ بِالْعَقْلِ الْفَرْدِ. أَعْدَلُ السِّيَرِ أَنْ تَقِيسَ النَّاسَ بِنَفْسِكَ، فَلاَ تَأْتِي إِلَيْهِمْ إِلاَّ مَا تَرْضَى أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ (¬1). وَأَنْفَعُ الْعَقْلِ أَنْ تُحْسِنَ الْمَعِيشَةَ فِيمَا أُوتِيتَ مِنْ خَيْرٍ، وَأَنْ لاَ تَكْتَرِثَ مِنَ ¬
الشَّرِّ (¬1) بِمَا لَمْ يُصِبْكَ. وَمِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ بِمَا لاَ تَعْلَمُ. وَمِنْ أَحْسَنِ ذَوِي الْعُقُولِ عَقْلاً مَنْ أَحْسَنَ تَقْدِيرَ أَمْرِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ تَقْدِيرًا لاَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا نَفَادُ الآخَرِ (¬2)، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ رَفَضَ الْأَدْنَى وَآثَرَ عَلَيْهِ الْأَعْظَمَ. وَقَالَ: الْمُؤْمِنُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ - وَإِنْ كَانَ سِحْرًا - خَيْرٌ مِمَّنْ لاَ يُؤْمِنُ بِشَيْءٍ وَلاَ يَرْجُو مَعَادًا. لاَ تُؤَدِّي التَّوْبَةُ أَحَدًا إِلَى النَّارِ، وَلاَ الْإِصْرَارُ عَلَى الذُّنُوبِ أَحَدًا إِلَى الْجَنَّةِ. مِنْ أَفْضَلِ [أَعْمَالِ] (¬3) الْبِرِّ ثَلاَثُ خِصَالٍ: الصِّدْقُ فِي الْغَضَبِ، وَالْجُودُ فِي الْعُسْرَةِ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدَُِرَةِ (¬4). ¬
رَأْسُ الذُّنُوبِ الْكَذِبُ: هُوَ يُؤَسِّسُهَا وَهُوَ يَتَفَقَّدُهَا وَيُثَبِّتُهَا. وَيَتَلَوَّنُ ثَلاَثَةَ أَلْوَانٍ: بِالْأُمْنِيَّةِ، وَالْجُحُودِ، وَالْجَدَلِ. يَبْدُو لِصَاحِبِهِ (¬1) بِالْأُمْنِيَّةِ الْكَاذِبَةِ فِيمَا يُزَيَّنُ لَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ (¬2) فَيُشَجِّعُهُ عَلَيْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى. فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ قَابَلَهُ بِالْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ. فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ خَتَمَ بِالْجَدَلِ، فَخَاصَمَ عَنِ الْبَاطِلِ وَوَضَعَ لَهُ الْحُجَجَ، وَالْتَمَسَ بِهِ التَّثَبُّتَ وَكَابَرَ بِهِ الْحَقَّ حَتَّى يَكُونَ مُسَارِعًا لِلضَّلاَلَةِ وَمُكَابِرًا بِالْفَوَاحِشِ. لاَ يَثْبُتُ دِينُ الْمَرْءِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ لاَ يَزَالُ إِمَّا زَائِدًا وَإِمَّا نَاقِصًا. مِنْ عَلاَمَاتِ اللَّئِيمِ الْمُخَادِعِ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْقَوْلِ، سَيِّئَ الْفِعْلِ، بَعِيدَ الْغَضَبِ، قَرِيبَ الْحَسَدِ، حَمُولاً لِلْفُحْشِ، مُجَازِيًا بِالْحِقْدِ، مُتَكَلِّفًا لِلْجُودِ، صَغِيرَ الْخَطَرِ، مُتَوَسِّعًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ، ضَيِّقًا فِيمَا يَمْلِكُ. ¬
وَكَانَ يُقَالُ: إِذَا تَخَالَجَتْكَ (¬1) الْأُمُورُ فَاسْتَقِلَّ أَعْظَمَهَا خَطَرًا (¬2)، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ (¬3) ذَلِكَ فَأَرْجَاهَا دَرْكًا (¬4)، فَإِنِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ فَأَجْدَرَهَا أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَرْجُوعٌ حِينَ (¬5) تُوَلِّي فُرْصَتُهُ. وَكَانَ يُقَالُ: الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يُخْتَبَرُ (¬6) مَا عِنْدَهُمَا بِالتَّجْرِبَةِ، وَاثْنَانِ قَدْ كُفِيتَ تَجْرِبَتَهُمَا. فَأَمَّا اللَّذَانِ يُحْتَاجُ (¬7) إِلَى تَجْرِبَتَهُمَا: فَإِنَّ أَحَدَهُمَا بَرٌّ كَانَ مَعَ أَبْرَارٍ، وَالآخَرَ فَاجِرٌ كَانَ مَعَ فُجَّارٍ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ الْبَرَّ مِنْهُمَا إِذَا خَالَطَ الْفُجَّارَ أَنْ يَتَبَدَّلَ فَيَصِيرَ فَاجِرًا، وَلَعَلَّ الْفَاجِرَ مِنْهُمَا إِذَا خَالَطَ الْأَبْرَارَ أَنْ يَتَبَدَّلَ بَرًّا، فَيَتَبَدَّلُ الْبَرُّ فَاجِرًا، وَالْفَاجِرُ بَرًّا. وَأَمَّا اللَّذَانِ قَدْ كُفِيتَ تَجْرِبَتَهُمَا وَتَبَيَّنَ لَكَ ضَوْءُ أَمْرِهِمَا: فَإِنَّ أَحَدَهُمَا فَاجِرٌ كَانَ فِي أَبْرَارٍ، وَالآخَرَ بَرٌّ كَانَ فِي فُجَّارٍ. حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ مِرْآتَيْنِ: فَيَنْظُرَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فِي مَسَاوِئِ نَفْسِهِ فَيَتَصَاغَرَ بِهَا وَيُصْلِحَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْهَا، وَيَنْظُرَ مِنَ (¬8) الْأُخْرَى فِي مَحَاسِنِ ¬
النَّاسِ فَيُحَلِّيَهُمْ بِهَا وَيَأْخُذَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْهَا. احْذَرْ خُصُومَةَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالصَّدِيقِ وَالضَّعِيفِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَجِ. لاَ يُوقِعَنَّكَ بَلاَءٌ تَخَلَّصْتَ (¬1) مِنْهُ فِي آخَرَ لَعَلَّكَ أَنْ لاَ تَخْلُصَ مِنْهُ. الْوَرِعُ لاَ يَخْدَعُ، وَالْأَرِيبُ لاَ يُخْدَعُ. وَمِنْ وَرَعِ الرَّجُلِ أَنْ لاَ يَقُولَ مَا لاَ يَعْلَمُ، وَمِنَ الْإَِرْبِ (¬2) أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيمَا يَعْلَمُ. وَكَانَ يُقَالُ: عَمَلُ الرَّجُلِ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ هَوَى، وَالْهَوَى آفَةُ الْعَفَافِ. وَتَرْكُهُ الْعَمَلَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ تَهَاوُنٌ، وَالتَّهَاوُنُ آفَةُ الدِّينِ. وَإِقْدَامُهُ عَلَى مَا لاَ يَدْرِي أَصَوَابٌ هُوَ أَمْ خَطَأٌ جِمَاحٌ، وَالْجِمَاحُ (¬3) آفَةُ الْعَقْلِ. ¬
وَكَانَ يُقَالُ: وَقِّرْ مَنْ فَوْقَكَ، وَلِنْ لِمَنْ دُونَكَ، وَأَحْسِنْ مُؤَاتَاةَ (¬1) أَكْفَائِكَ (¬2). وَلْيَكُنْ آثَرَ ذَلِكَ عِنْدَكَ مُؤَاتَاةُ (¬3) الْإِخْوَانِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّ (¬4) إِجْلاَلَكَ مَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ بِخُضُوعٍ مِنْكَ لَهُمْ، وَأَنَّ لِينَكَ لِمَنْ دُونَكَ لَيْسَ لالْتِمَاسِ خِدْمَتِهِمْ. خَمْسَةٌ مُفَرِّطُونَ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ يَنْدَمُونَ عَلَيْهَا: (¬5) الْوَاهِنُ الْمُفَرِّطُ إِذَا فَاتَهُ الْعَمَلُ، وَالْمُنْقَطِعُ مِنْ إِخْوَانِهِ وَصَدِيقِهِ إِذَا نَابَتْهُ النَّوَائِبُ، وَالْمُسْتَمْكِنُ مِنْهُ عَدُوُّهُ لِسُوءِ رَأْيِهِ إِذَا تَذَكَّرَ عَجْزَهُ، وَالْمُفَارِقُ لِلزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ إِذَا ابْتُلِيَ بِالطَّالِحَةِ، وَالْجَرِيءُ عَلَى الذُّنُوبِ إِذَا حَضَرهُ الْمَوْتُ. أُمُورٌ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ بِقَرَائِنِهَا: لاَ يَنْفَعُ الْعَقْلُ بِغَيْرِ وَرَعٍ، وَلاَ الْحِفْظُ بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَلاَ شِدَّةُ الْبَطْشِ بِغَيْرِ شِدَّةِ الْقَلْبِ، وَلاَ الْجَمَالُ بِغَيْرِ حَلاَوَةٍ، وَلاَ الْحَسَبُ بِغَيْرِ أَدَبٍ، وَلاَ السُّرُورُ بِغَيْرِ أَمْنٍ، وَلاَ الْغِنَى بِغَيْرِ جُودٍ، وَلاَ الْمُرُوءَةُ بِغَيْرِ تَوَاضُعٍ، وَلاَ الْخَفْضُ (¬6) بِغَيْرِ ¬
كِفَايَةٍ، وَلاَ الاجْتِهَادُ بِغَيْرِ تَوْفِيقٍ. أُمُورٌ هُنَّ تَبَعٌ لِأُمُورٍ: فَالْمُرُوءَاتُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِلْعَقْلِ، وَالرَّأْيُ تَبَعٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالْغِبْطَةُ (¬1) تَبَعٌ لِحُسْنِ الثَّنَاءِ، وَالسُّرُورُ تَبَعٌ لِلْأَمْنِ، وَالْقَرَابَةُ تَبَعٌ لِلْمَوَدَّةِ، وَالْعَمَلُ تَبَعٌ لِلْقَدَرِ، وَالْجِدَّةُ (¬2) تَبَعٌ لِلْإِنْفَاقِ. أَصْلُ الْعَقْلِ التَّثَبُّتُ، وَثَمَرَتُهُ السَّلاَمَةُ. وَأَصْلُ الْوَرَعِ الْقَنَاعَةُ، وَثَمَرَتُهُ الظَّفَرُ. وَأَصْلُ التَّوْفِيقِ الْعَمَلُ، وَثَمَرَتُهُ النَّجَاحُ (¬3). لاَ يُذْكَرُ الْفَاجِرُ فِي الْعُقَلاَءِ، وَلاَ الْكَذُوبُ فِي الْأَعِفَّاءِ (¬4)، ¬
وَلاَ الْخَذُولُ (¬1) فِي الْكُرَمَاءِ، وَلاَ الْكَفُورُ (¬2) بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ. لاَ تُؤَاخِيَنَّ خَِبًّا (¬3)، وَلاَ تَسْتَنْصِرَنَّ عَاجِزًا، وَلاَ تَسْتَعِينَنَّ كَسِلاً (¬4). إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرَوِّحُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ أَنْ لاَ يَجْرِيَ لِمَا يَهْوَى وَلَيْسَ كَائِنًا، إِلاَّ (¬5) لِمَا لاَ يَهْوَى وَهُوَ لاَ مَحَالَةَ كَائِنٌ. اغْتَنِمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا تَعَجَّلْتَ، وَمِنَ الْأَهْوَاءِ مَا سَوَّفْتَ، وَمِنَ النَّصَبِ مَا عَادَ عَلَيْكَ. وَلاَ تَفْرَحْ بِالْبَطَالَةِ، وَلاَ تَجْبُنْ عَنِ الْعَمَلِ. مَنِ اسْتَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا فَبَطِرَ، وَاسْتَصْغَرَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا فَتَهَاوَنَ، وَاحْتَقَرَ مِنَ الْإِثْمِ شَيْئًا فَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ، وَاغْتَرَّ بِعَدُوٍّ وَإِنْ قَلَّ فَلَمْ يَحْذَرْهُ؛ فَذَلِكَ مِنْ ضَيَاعِ الْعَقْلِ. ¬
لاَ يَسْتَخِفُّ ذُو الْعَقْلِ بِأَحَدٍ. وَأَحَقُّ مَنْ لَمْ يُسْتَخَفَّ بِهِ ثَلاَثَةٌ: الْأَتْقِيَاءُ، وَالْوُلاَةُ، وَالْإِخْوَانُ. فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْأَتْقِيَاءِ أَهْلَكَ دِينَهُ. وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْوُلاَةِ أَهْلَكَ دُنْيَاهُ. وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالْإِخْوَانِ أَفْسَدَ مُرُوءَتَهُ. مَنْ حَاوَلَ الْأُمُورَ (¬1) احْتَاجَ فِيهَا إِلَى سِتٍّ: الْعِلْمِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالْفُرْصَةِ، وَالْأَعْوَانِ، وَالْأَدَبِ، وَالاجْتِهَادِ. وَهُنَّ أَزْوَاجٌ: فَالرَّأْيُ وَالْأَدَبُ زَوْجٌ: لاَ يَكْمُلُ الْأَدَبُ إِلاَّ بِالرَّأْيِ، وَلاَ يَكْمُلُ الرَّأْيُ بِغَيْرِ الْأَدَبِ. وَالْأَعْوَانُ وَالْفُرْصَةُ زَوْجٌ: لاَ يَنْفَعُ الْأَعْوَانُ إِلاَّ عِنْدَ الْفُرْصَةِ، وَلاَ تَنْفَعُ (¬2) الْفُرْصَةُ إِلاَّ بِحُضُورِ الْأَعْوَانِ. وَالتَّوْفِيقُ وَالاجْتِهَادُ زَوْجٌ: فَالاجْتِهَادُ سَبَبُ التَّوْفِيقِ، وَبِالتَّوْفِيقِ يَنْجَحُ الاجْتِهَادُ. ¬
يَسْلَمُ الْعَاقِلُ مِنْ عِظَامِ الذُّنُوبِ وَالْعُيُوبِ بِالْقَنَاعَةِ وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ. لاَ تَجِدُ الْعَاقِلَ يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ، وَلاَ يَسْأَلُ مَنْ يَخَافُ مَنْعَهُ، وَلاَ يَعِدُ بِمَا لاَ يَجِدُ إِنْجَازَهُ، وَلاَ يَرْجُو مَا يُعَنَّفُ بِرَجَائِهِ، وَلاَ يُقْدِمُ عَلَى مَا (¬1) يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ. وَهُوَ يُسَخِّي بِنَفْسِهِ (¬2) عَمَّا يُغْبَطُ بِهِ الْقَوَّالُونَ خُرُوجًا مِنْ عَيْبِ التَّكْذِيبِ، وَيُسَخِّي بِنَفْسِهِ عَمَّا يَنَالُ [بِهِ] (¬3) السَّائِلُونَ سَلاَمَةً مِنْ مَذَلَّةِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُسَخِّي بِنَفْسِهِ عَنْ مَحْمَدَةِ الْمَوَاعِيدِ بَرَاءَةً مِنْ مَذَمَّةِ الْخُلْفِ، وَيُسَخِّي بِنَفْسِهِ عَنْ فَرَحِ الرَّجَاءِ خَوْفَ الْإِكْدَاءِ (¬4)، وَيُسَخِّيهِ عَنْ مَرَاتِبِ الْمُقْدِمِينَ مَا يَرَى مِنْ فَضَائِحِ الْمُقَصِّرِينَ. لاَ عَقْلَ لِمَنْ أَغْفَلَهُ عَنْ آخِرَتِهِ مَا يَجِدُ مِنْ لَذَّةِ دُنْيَاهُ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ يَحْرِمَهُ حَظَّهُ مِنَ الدُّنْيَا بَصَرُهُ بِزَوَالِهَا. ¬
حَازَ الْخَيْرَ رَجُلاَنِ: سَعِيدٌ، وَمَرْجُوٌّ. فَالسَّعِيدُ: الْفَالِجُ (¬1)، وَالْمَرْجُوُّ: مَنْ لَمْ يَخْصِمْ (¬2). وَالْفَالِجُ الصَّالِحُ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ وَتَعَرُّضِ الْفِتَنِ فِي مُخَاصَمَةِ الْخُصَمَاءِ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ. السَّعِيدُ يُرَغِّبُهُ اللهُ فِي الآخِرَةِ حَتَّى يَقُولَ: لاَ شيْءَ غَيْرُهَا، فَإِذَا هَضَمَ دُنْيَاهُ وَزَهِدَ فِيهَا لآخِرَتِهِ، لَمْ يَحْرِمْهُ اللهُ بِذَلِكَ نَصِيبَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُنْقِصْهُ مِنْ سُرُورِهِ فِيهَا. وَالشَّقِيُّ يُرَغِّبُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَقُولَ: لاَ شيْءَ غَيْرُهَا، فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ التَّنْغِيصَ (¬3) فِي الدُّنْيَا الَّتِي آثَرَ مَعَ الْخِزْيِ الَّذِي يَلْقَى بَعْدَهَا. الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ: جَوَادٌ، وَبَخِيلٌ، وَمُسْرِفٌ، وَمُقْتَصِدٌ. فَالْجَوَادُ الَّذِي يُوَجِّهُ نَصِيبَ آخِرَتِهِ وَنَصِيبَ دُنْيَاهُ جَمِيعًا فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ. وَالْبَخِيلُ الَّذِي لاَ يُعْطِي (¬4) وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَصِيبَهَا. وَالْمُسْرِفُ الَّذِي يَجْمَعُهُمَا لِدُنْيَاهُ. ¬
وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُلْحِقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهَا. أَغْنَى النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ إِحْسَانًا. قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ (¬1): مَا خَيْرُ مَا يُؤْتَى الْمَرْءُ؟ قَالَ: ((غَرِيزَةُ عَقْلٍ)). قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: ((فَتَعَلُّمُ عِلْمٍ)). ¬
قَالَ: فَإِنْ حُرِمَهُ؟ قَالَ: ((صِدْقُ اللِّسَانِ)). قَالَ: فَإِنْ حُرِمَهُ؟ قَالَ: ((سُكُوتٌ طَوِيلٌ)). قَالَ: فَإِنْ حُرِمَهُ؟ قَالَ: ((مِيتَةٌ عَاجِلَةٌ)). مِنْ أَشَدِّ عُيُوبِ الْإِنْسَانِ خَفَاءُ عُيُوبِهُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ عَيْبُهُ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مَحَاسِنُ غَيْرِهِ، وَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ عَيْبُ نَفْسِهِ وَمَحَاسِنُ غَيْرِهِ فَلَنْ يُقْلِعَ عَنْ عَيْبِهِ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ، وَلَنْ يَنَالَ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ الَّتِي لاَ يُبْصِرُهَا (¬1) أَبَدًا. خُمُولُ الذِّكْرِ أَجْمَلُ مِنَ الذِّكْرِ الذَّمِيمِ. لاَ يُوجَدُ الْفَخُورُ مَحْمُودًا، وَلاَ الْغَضُوبُ مَسْرُورًا، وَلاَ الْحُرُّ حَرِيصًا، وَلاَ الْكَرِيمُ حَسُودًا، وَلاَ الشَّرِهُ (¬2) غَنِيًّا، وَلاَ الْمَلُولُ ذَا إِخْوَانٍ. ¬
خِصَالٌ يُسَرُّ بِهَا الْجَاهِلُ، كُلُّهَا كَائِنٌ عَلَيْهِ وَبَالاً: مِنْهَا: أَنْ يَفْخَرَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمُرُوءَةِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَرَى بِالْأَخْيَارِ مِنَ الاسْتِهَانَةِ وَالْجَفْوَةِ مَا يُشْمِتُهُ بِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يُنَاقِلَ (¬1) عَالِمًا وَدِيعًا مُنْصِفًا لَهُ فِي الْقَوْلِ فَيَشْتَدَّ صَوْتُ ذَلِكَ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُفْلِجُهُ (¬2) نُظَرَاؤُهُ مِنَ الْجُهَّالِ حَوْلَهُ بِشِدَّةِ الصَّوْتِ وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ. وَمِنْهَا: أَنْ تَفْرُطَ مِنْهُ الْكَلِمَةُ (¬3) أَوِ الْفِعْلَةُ الْمُعْجِبَةُ لِلْقَوْمِ فَيُذْكَرَ بِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُهُ فِي الْمَحْفِلِ (¬4) وَعِنْدَ السُّلْطَانِ فَوْقَ مَجَالِسِ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَيْهِ. مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى سَخَافَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَكُونَ مَا يُرَى مِنْ ضَحِكِهِ لَيْسَ عَلَى حَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقَوْلِ، أَوِ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فَيُجَاذِبَهُ الْكَلاَمَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ، أَوْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ فَرَغَ وَأَنْصَتَ لَهُ فَإِذَا نَصَتَ (¬5) لَهُ ¬
لَمْ يُحْسِنِ الْكَلاَمَ. فَضْلُ الْعِلْمِ (¬1) فِي غَيْرِ الدِّينِ مَهْلَكَةٌ. وَكَثْرَةُ الْأَدَبِ فِي غَيْرِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَنْفَعَةِ الْأَخْيَارِ قَائِدٌ إِلَى النَّارِ. وَالْحِفْظُ الذَّاكِي الْوَاعِي (¬2) لِغَيْرِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْعَقْلُ غَيْرُ الْوَازِعِ (¬3) عَنِ الذُّنُوبِ خَازِنٌ لِلشَّيْطَانِ (¬4). لاَ يُؤَمِنَنَّكَ شَرَّ الْجَاهِلِ قَرَابَةٌ وَلاَ جِوَارٌ وَلاَ إِلْفٌ، فَإِنَّ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ لِحَرِيقِ النَّارِ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ الْجَاهِلُ: إِنْ جَاوَرَكَ أَنْصَبَكَ، وَإِنْ نَاسَبَكَ جَنَى عَلَيْكَ، وَإِنْ أَلِفَكَ حَمَلَ عَلَيْكَ مَا لاَ تُطَيقُ، وَإِنْ عَاشَرَكَ آذَاكَ وَأَخَافَكَ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْجُوعِ سَبُعٌ ضَارٍ، وَعِنْدَ الشِّبَعِ مَلِكٌ فَظٌّ، وَعِنْدَ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ قَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ. فَأَنْتَ بِالْهَرَبِ مِنْهُ أَحَقُّ مِنْكَ بِالْهَرَبِ مِنْ سَُمِّ الْأَسَاوِدِ (¬5) وَالْحَرِيقِ الْمَخُوفِ وَالدَّيْنِ الْفَادِحِ (¬6) وَالدَّاءِ الْعَيَاءِ (¬7). ¬
وَكَانَ يُقَالُ: قَارِبْ عَدُوَّكَ بَعْضَ الْمُقَارَبَةِ تَنَلْ حَاجَتَكَ، وَلاَ تُقَارِبْهُ كُلَّ الْمُقَارَبَةِ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ عَدُوُّكَ وَتَذِلَّ نَفْسُكَ وَيَرْغَبَ عَنْكَ نَاصِرُكَ. وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعُودِ الْمَنْصُوبِ فِي الشَّمْسِ، إِنْ أَمَلْتَهُ قَلِيلاً زَادَ ظِلُّهُ، وَإِنْ جَاوَزْتَهُ الْحَدَّ فِي إِمَالَتِهِ نَقَصَ الظِّلُّ. الْحَازِمُ لاَ يَأْمَنُ عَدُوَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ: إِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يَأْمَنْ مُعَاوَدَتَهُ (¬1)، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَمْ يَأْمَنْ مُوَاثَبَتَهُ، وَإِنْ كَانَ مُنْكَشِفًا لَمْ يَأْمَنْ اسْتِطْرَادَهُ وَكَمِينَهُ، وَإِنْ رَآهُ وَحِيدًا لَمْ يَأْمَنْ مَكْرَهُ. الْمَلِكُ الْحَازِمُ يَزْدَادُ بِرَأْيِ الْوُزَرَاءِ الْحَزَمَةِ كَمَا يَزْدَادُ الْبَحْرُ بِمَوَادِّهِ مِنَ الْأَنْهَارِ (¬2). الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَالْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ، والرَّأْيُ [بِتَكْرَارِ (¬3) ¬
النَّظَرِ] (¬1) وَتَحْصِينِ الْأَسْرَارِ. إِنَّ الْمُسْتَشِيرَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْمُسْتَشَارِ رَأْيًا فَهُوَ يَزْدَادُ بِرَأْيِهِ رَأْيًا، كَمَا تَزْدَادُ النَّارُ بِالْوَدَكِ (¬2) ضَوْءًا. عَلَى الْمُسْتَشَارِ مُوَافَقَةُ الْمُسْتَشِيرِ عَلَى صَوَابِ مَا يَرَى، وَالرِّفْقُ بِهِ فِي تَبْصِيرِ خَطَإٍ إِنْ أَتَى بِهِ، وَتَقْلِيبُ الرَّأْيِ فِيمَا شَكَّا فِيهِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ لَهُمَا مُشَاوَرَتُهُمَا. لاَ يَطْمَعَنَّ ذُو الْكِبْرِ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ، وَلاَ الْخَِبُّ (¬3) فِي كَثْرَةِ الصَّدِيقِ، وَلاَ السَّيِّئُ الْأَدَبِ فِي الشَّرَفِ، وَلاَ الشَّحِيحُ فِي الْمَحْمَدَةِ، وَلاَ الْحَرِيصُ فِي ¬
الْإِخْوَانِِ، وَلاَ الْمَلِكُ الْمُعْجَبُ بِثَبَاتِ الْمُلْكِ. صَرْعَةُ اللِّينِ أَشَدُّ اسْتِئْصَالاً مِنْ صَرْعَةِ الْمُكَابَرَةِ. أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ لاَ يُسْتَقَلُّ مِنْهَا قَلِيلٌ: النَّارُ، وَالْمَرَضُ، وَالْعَدُوُّ، وَالدَّيْنُ. أَحَقُّ النَّاسِ بِالتَّوْقِيرِ الْمَلِكُ الْحَلِيمُ، الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَفُرَصِ الْأَعْمَالِ وَمَوَاضِعِ الشِّدَّةِ وَاللِّينِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْمُعَاجَلَةِ وَالْأَنَاةِ، النَّاظِرُ فِي أَمْرِ يَوْمِهِ وَغَدِهِ وَعَوَاقِبِ أَعْمَالِهِ. السَّبَبُ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ الْعَاجِزُ حَاجَتَهُ هُوَ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْحَازِمِ وَبَيْنَ طَلِبَتِهِ (¬1). إِنَّ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْكَرَمِ يَبْتَغُونَ إِلَى كُلِّ مَعْرُوفٍ وُصْلَةً وَسَبِيلاً. وَالْمَوَدَّةْ بَيْنَ الْأَخْيَارِ سَرِيعٌ اتِّصَالُهَا بَطِيءٌ انْقِطَاعُهَا، وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ كُوبِ الذَّهَبِ الَّذِي هُوَ بَطِيءُ الانْكِسَارِ هَيِّنُ الْإِصْلاَحِ. ¬
وَالْمَوَدَّةْ بَيْنَ الأشرار سَرِيعٌ انْقِطَاعُهَا بَطِيءٌ اتِّصَالُهَا، كَالْكُوزِ مِنَ الْفَخَّارِ يَكْسِرُهُ أَدْنَى عَبَثٌ ثُمَّ لاَ وَصْلَ لَهُ أَبَدًا (¬1). وَالْكَرِيمُ يَمْنَحُ الرَّجُلَ مَوَدَّتَهُ عَنْ لُقْيَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعْرِفَةِ يَوْمٍ. وَاللَّئِيمُ لاَ يَصِلُ أَحَدًا إِلاَّ عَنْ رَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ. فَإِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يَتَعَاطَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَمْرَيْنِ وَيَتَوَاصَلُونَ (¬2) عَلَيْهِمَا: ذَاتَ النَّفْسِ، وَذَاتَ الْيَدِ. فَأَمَّا الْمُتَبَادِلُونَ ذَاتَ الْيَدِ فَهُمُ الْمُتَعَاوِنُونَ الْمُسْتَمْتِعُونَ الَّذِينَ يَلْتَمِسُ بَعْضُهُمُ الانْتِفَاعَ بِبَعْضٍ مُنَاجَزَةً وَمُكَايَلَةً (¬3). مَا التَّبَعُ وَالْأَعْوَانُ وَالصَّدِيقُ وَالْحَشَمُ إِلاَّ لِلْمَالِ. وَلاَ يُظْهِرُ الْمُرُوءَةَ إِلاَّ الْمَالُ. وَلاَ الرَّأْيُ وَلاَ الْقُوَّةُ إِلاَّ بِالْمَالِ. ¬
وَمَنْ لاَ إِخْوَانَ لَهُ فَلاَ أَهْلَ لَهُ، وَمَنْ لاَ أَوْلاَدَ لَهُ فَلاَ ذِكْرَ لَهُ، وَمَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ فَلاَ دُنْيَا لَهُ وَلاَ آخِرَةَ، وَمَنْ لاَ مَالَ لَهُ فَلاَ شَيْءَ لَهُ. وَالْفَقْرُ دَاعِيَةٌ إِلَى صَاحِبِهِ مَقْتَ النَّاسِ، وَهُوَ مَسْلَبَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ، مَذْهَبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَمَعْدِنٌ لِلتُّهَْمَةِ، وَمَجْمَعَةٌ لِلْبَلاَيَا. وَمَنْ نَزَلَ بِهِ الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ تَرْكِ الْحَيَاءِ، وَمَنْ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ ذَهَبَ سُرُورُهُ، وَمَنْ ذَهَبَ سُرُورُهُ مَقُتَ (¬1)، وَمَنْ مَقُتَ أُوذِيَ، وَمَنْ أُوذِيَ حَزِنَ، وَمَنْ حَزِنَ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ وَاسْتُنْكِرَ حِفْظُهُ وَفَهْمُهُ. وَمَنْ أُصِيبَ فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَحِفْظِهِ كَانَ أَكْثَرُ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ فِيمَا يَكُونُ عَلَيْهِ لاَ لَهُ. فَإِذَا افْتَقَرَ الرَّجُلُ اتَّهَمَهُ مَنْ كَانَ لَهُ مُؤْتَمِنًا، وَأَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّ بِهِ حَسَنًا. فَإِذَا أَذْنَبَ غَيْرُهُ ظَنُّوهُ (¬2)، وَكَانَ لِلتُّهَْمَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ مَوْضِعًا. وَلَيْسَ مِنْ خَلَّةٍ (¬3) هِيَ لِلْغَنِيِّ مَدْحٌ إِلاَّ وَهِيَ لِلْفَقِيرِ عَيْبٌ: فَإِنْ كَانَ شُجَاعًا سُمِّيَ أَهْوَجَ (¬4). ¬
وَإِنْ كَانَ جَوَادًا سُمِّيَ مُفْسِدًا. وَإِنْ كَانَ حَلِيمًا سُمِّيَ ضَعِيفًا. وَإِنْ كَانَ وَقُورًا سُمِّيَ بَلِيدًا. وَإِنْ كَانَ لَسِنًا (¬1) سُمِّيَ مِهْذَارًا (¬2). وَإِنْ كَانَ صَمُوتًا سُمِّيَ عَيِيًّا (¬3). وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ فِي جَسَدِهِ لاَ يُفَارِقُهُ، أَوْ بِفِرَاقِ الْأَحِبَّةِ وَالْأِخْوَانِ، أَوْ بِالْغُرْبَةِ حَيْثُ لاَ يَعْرِفُ مَبِيتًا وَلاَ مَقِيلاً (¬4) وَلاَ يَرْجُو إِيَابًا (¬5)، أَوْ بِفَاقَةٍ (¬6) تَضْطَرُّهُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ: فَالْحَيَاةُ لَهُ مَوْتٌ، وَالْمَوْتُ لَهُ رَاحَةٌ. ¬
وَجَدْنَا الْبَلاَيَا فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَسُوقُهَا إِلَى أَهْلِهَا الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ (¬1)، فَلاَ يَزَالُ صَاحِبُ الدُّنْيَا يَتَقَلَّبُ فِي بَلِيَّةٍ وَتَعَبٍ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَزَالُ بِخَلَّةِ الْحِرْصِ وَالشَّرَهِ. وَسَمِعْتُ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: لاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلاَ وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلاَ حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلاَ غِنًى كَالرِّضَى (¬2). وَأَحَقُّ مَا صُبِرَ عَلَيْهِ مَا لاَ سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِهِ. وَأَفْضَلُ الْبِرِّ الرَّحْمَةُ، وَرَأْسُ الْمَوَدَّةِ الاسْتِرْسَالُ، وَرَأْسُ الْعَقْلِ الْمَعْرِفَةُ بِمَا يَكُونُ وَمَا لاَ يَكُونُ، وَطِيبُ النَّفْسِ حُسْنُ الانْصِرَافِ عَمَّا لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ فِي (¬3) الدُّنْيَا سُرُورٌ يَعْدِلُ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ، وَلاَ فِيهَا غَمٌّ يَعْدِلُ غَمَّ فَقْدِهِمْ. لاَ يَتِمُّ حُسْنُ الْكَلاَمِ إِلاَّ بِحُسْنِ الْعَمَلِ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ دَوَاءَ ¬
نَفْسِهِ، فَإِذَا هُوَ لَمْ يَتَدَاوَ بِهِ لَمْ يُغْنِهِ عِلْمُهُ. الرَّجُلُ ذُوْ الْمُرُوءَةِ قَدْ يُكْرَمُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، كَالْأَسَدِ الَّذِي يُهَابُ وَإِنْ كَانَ عَقِيرًا (¬1). وَالرَّجُلُ الَّذِي لاَ مُرُوءَةَ لَهُ يُهَانُ وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُ، كَالْكَلْبِ الَّذِي يَهُونُ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ هُوَ طُوِّقَ وَخُلْخِلَ (¬2). لِيَحْسُنْ تَعَاهُدُكَ نَفْسَكَ بِمَا تَكُونُ بِهِ لِلْخَيْرِ أَهْلاً، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَتَاكَ الْخَيْرُ يَطْلُبُكَ كَمَا يَطْلُبُ الْمَاءُ السَّيْلَ إِلَى الْحَدُورَةِ (¬3). وَقِيلَ فِي أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ وَلاَ بَقَاءٌ: ظِلُّ الْغَمَامِ (¬4)، وَخُلَّةُ الْأَشْرَارِ (¬5)، وَعِشْقَ النِّسَاءِ، وَالنَّبَأُ الْكَاذِبُ، وَالْمَالُ الْكَثِيرُ. وَلَيْسَ يَفْرَحُ الْعَاقِلُ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَلاَ يَحْزُنُهُ قِلَّتُهُ. وَلَكِنَّ مَالَهُ عَقْلُهُ وَمَا قَدَّمَ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ. ¬
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِفَضْلِ السُّرُورِ وَكَرَمِ الْعَيْشِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ مَنْ لاَ يَبْرَحُ رَحْلُهُ مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَصْدِقَائِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ مَوْطُوءًا، وَلاَ يَزَالُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ زِحَامٌ، وَيَسُرُّهُمْ وَيَسُرُّونَهُ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَأُمُورِهِمْ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا عَثَرَ لَمْ يَسْتَقِلْ إِلاَّ بِالْكِرَامِ، كَالْفِيلِ إِذَا وَحِلَ (¬1) لَمْ يَسْتَخْرِجْهُ إِلاَّ الْفِيَلَةُ. لاَ يَرَى الْعَاقِلُ مَعْرُوفًا صَنَعَهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا. وَلَوْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَعَرَضَهَا فِي وُجُوهِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَرَ ذَلِكَ عَيْبًا، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أَخْطَرَ الْفَانِي بِالْبَاقِي، وَاشْتَرَى الْعَظِيمَ بِالصَّغِيرِ. وَأَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدَ ذَوِي الْعَقْلِ أَكْثَرُهُمْ سَائِلاً مُنْجِحًا (¬2)، وَمُسْتَجِيرًا آمِنًا. لاَ تَعُدَّ غَنِيًّا مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي مَالِهِ ِ، وَلاَ تَعُدَّ نَعِيمًا مَا كَانَ فِيهِ تَنْغِيصٌ وَسُوءُ ثَنَاءٍ، وَلاَ تَعُدَّ الْغُنْمَ غُنْمًا إِذَا سَاقَ غُرْمًا وَلاَ الْغُرْمَ غُرْمًا إِذَا سَاقَ غُنْمًا، وَلاَ تَعْتَدَّ مِنَ الْحَيَاةِ مَا كَانَ فِي فِرَاقِ الْأَحِبَّةِ. ¬
وَمِنَ الْمَعُونَةَ عَلَى تَسْلِيَةِ الْهُمُومِ وَسُكُونِ النَّفْسِ: لِقَاءُ الْأَخِ أَخَاهُ، وَإِفْضَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ بِبَثِّهِ (¬1). وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْأَلِيفِ وَأَلِيفِهِ فَقَدْ سُلِبَ قَرَارَهُ وَحُرِمَ سُرُورَهُ. وَقَلَّ مَا تَرَانَا نُخلِّفُ (¬2) عَقَبَةً مِنَ الْبَلاَءِ إِلاَّ صِرْنَا فِي أُخْرَى. لَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ الَّذِي يَقُولُ: لاَ يَزَالُ الرَّجِلُ مُسْتَمِرًّا مَا لَمْ يَعْثُرْ (¬3)، فَإِذَا عَثَرَ مَرَةً وَاحِدَةً فِي أَرْضِ الْخَبَارِ (¬4) لَجَّ بِهِ (¬5) العِثَارُ وَإِنْ مَشَى فِي جَدَدٍ (¬6)؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ مُوَكَّلٌ بِهِ الْبَلاَءُ، فَلاَ يَزَالُ فِي تَصَرُّفٍ وَفِي تَقَلُّبٍ لاَ يَدُومُ لَهُ شَيْءٌ وَلاَ يَثْبُتُ مَعَهُ، كَمَا لاَ يَدُومُ لِطَالِعِ النُّجُومِ طُلُوعُهُ وَلاَ لآفِلِهَا أُفُولُهُ (¬7)، وَلَكِنَّها فِي تَقَلُّبٍ وَتَعَاقُبٍ، فَلاَ يَزَالُ الطَّالِعُ يَكُونُ آفِلاً، وَالآفِلُ طَالِعًا. ¬
هذا آخر كتاب " الأدب الصغير" للعلامة عبد الله بن المقفع. بتحقيق أبي عبد الرحمن وائل بن حافظ بن خلف والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.