الأخوة أيها الإخوة

محمد حسين يعقوب

المقدمة

[المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ـ أما بعد ـ إخوتاه يا لهفَ نفسي على خلٍ افتقدت يداي يدَه. يا لهفَ نفسي على أخٍ كان ودي ودَّه. كان يجمعنا رباط فتناثر عقده. كان لا يفارقني سبيلاً فكيف بغول الطريق بعدَه. وكأنَّها الدنيا تأبى حبيباً تديمه فما يلوح حتى ترده. وكيف صفاءُ العيشِ للمرءِ بعدما تغيَّبَ عنه رهطُهُ وحِبُّهْ؟، أما كان ربي ربه، أما كان قصدي قصده، أما كانت صلاتنا صلات قلوبنا أم قد قطع عهدَه، أما كنا إذا باشرنا معا أمراً تدنو أقاصيه ويهون أشده. يا قوم إنِّي أريد أخي هذا فمن ذا يدلني عليه حتى أرده،

أخبروه عما لحقني منذ أبلاني فقده، عساه يحنو لي ويصفو وجده، قولوا له: ما زال حزينا بلقاء غيرك فطيبه فإنَّ وجهك سعده. إخوتاه إي والله لا شيءَ في الدنيا أحبُّ لناظري من منظرِ الخلانِ والأصحابِ المتحابين في الله، ولكن أين هم؟ أين المتحابون في الله؟!! في زمن الغربة يمضي الإنسان يبحث عن حبيب، يبحث عن نصير، يبحث عن معين، وهو في الأصل يكتفي بالله عز وجل أنيسا ومعيناً ونصيراً، ولكن مع كثرة الأعداء وكثرة الشبهات والشهوات وقلة الأتباع والأنصار يجد المرء نفسه يناجي ربه يشكو إليه ما صار إليه الحال الآن " اللهم إننا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا، إلى من تكلنا، إلى قريب يتجهمنا، أو إلى عدو ملكته أمرنا إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك من أن ينزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ". نعم والله إن هذا الدعاء لينطق بحرقة قلوبنا مما نحن فيه في هذه الآونة، ومن خلال تلك الكلمات تجد قلباً مكلومًا، يبحث عن حبيب يصفو إليه، ويأوي إليه، ويبثه همومه، ويحمله أحزانه، ويشاركه أفراحه وأتراحه. أين هذا الصديق ……؟ أين هذا الأخ الحبيب … .. ؟ أين …أين … .. ؟ قلَّ الصديقُ وإِنْ أصبحتَ تعرفُ لي مكانهُ، فأَبِنْ لي أينَ أقصدهُ إخوتاه

آهٍ على زمن اتخذ الناس فيه أهواءهم آلهة من دون الله!! آهٍ على زمن عبد الناس فيه المادة وأقبلوا على المنافع والمصالح!! آهٍ على زمن الفرقة والشتات، آه على زمن قانونه " خذ وهات "، زمن الجلب دون العطاء، زمن الأنانية وحب الذات بل قل: عبودية الذات، زمن النفوس المدلهمات، زمن القلوب المظلمات، آهٍ على زمان الأفاعي والحيات. يا قوم إني أبحث عن حبيبي في الله، عن مؤنسي في وحشتي، عن مشاركي في غربتي فهل بالله وجدتموه؟ هل بالله رأيتموه؟ عَجِبْتُ لإبعاد النوى من نُحِبُّهُ، وتَدْنو بمن لا يُستلذُّ له قُرْب، والبين مشجي قلبي ومسبل عبرتي، فيا رب حبيبي فيك … أخي فيك … لا تحرمني أنسه، يا رب اجمع بين قلوبنا … فإني لا أطيق بُعده. إخوتاه نريد أن تصفو قلوبنا بعد هذا الكدر الذي أفرزه واقعنا المرير، فإنَّ أساس قضية " الأخوة " صفاء القلب لله، هذا الصفاء الذي يثمر طمأنينة الفؤاد، وراحة البال، وهدوء الضمير، فلا نرتقب خوف الغدر وحسد الأعين وأذى الأيدي وكيد القلوب وحقد النفوس، إنها ظلال الحب في الله لا أخوة المصالح وصداقة المنافع التي شاعت في هذا العصر، نحتاج إلى أخٍ كالمرآة الصافية، يقيل كل منا الآخر من عثراته، يحوطني وأحوطه من ورائه، يقيمني وأقيمه، يعينني وأعينه فأين هذه الأخوة؟!! من أين لي والمنى ليست بنافعةٍ خلٌ أرى فيه أغراضي وأوطاري؟ يمسُّه الخطبُ قَلْبي ثم يصرفُهُ عني ولو خاضَ فيه لُجَّةَ النارِ إخوتاه .. سأضرب صفحاً عن مناشدتكم هذا الأخ الحبيب، إذ السبيل إلى إيجاده يبدأ عملياً من ذات كل واحد منا، إنني كي أجده لابد أن أبدأ بنفسي فأكون أنا أخوك قبل أن

أنتظر أن تكون أنت أخي، نعم ـ أُخيَّ ـ كن أنت أخ لكل من ترجو منه نظير ذلك تجنِ جزاءك وفاقا. إخوتاه .. لعل مثل هذا الكلام يمر على خاطركم فتستشعرونه هنيهة ثم لا تلبثون بعد ذلك أن تنطلقوا إلى مألوف ما استمرأت عليه الأنفس، لعل بعضكم يجد في هذا الحديث تهويلا، في نوع من معايشة الأكاذيب والأوهام التي نحاول تصديقها فرارا من الجزع واليأس، وطامة هؤلاء أن تعلقت قلوبهم بالنتائج وسرعة جني الثمار، والأصل أننا نبني ولو لبنة، ونزرع ولو بذرة، ثم الأمر كله لله نفوضه إليه، ولكن نبقى دائما نمحص الدعوة، ونتهم أنفسنا، ونلقي باللائمة علينا، فنحن لا نعمل للناس، نحن نعمل من أجل رب الناس، وتوفيقه مرهون بإصلاحنا لأنفسنا، فلا يضيرك بعدها شيء لأنك اخترت الله فمحاولة النقد الذاتي ليس فيها تعجيز ولا تهوين ولا شرخ للصف، بل هي محاولة لتمحيص النوايا وتجديد الإيمان الفينة بعد الفينة بالمواجهة الصريحة ولا نعبأ بعد ذلك بقول قائل فإننا لا نرضي سوى ربنا. وقد يتلقى بعضنا مثل هذه الدعوات بنفس جزعة، لا تنزع من قولة " ليت "، ولسان حالهم كما قالت العرب قديما: "قد كان ذلك مَرَّة فاليوم لا "، وهؤلاء مرضى الجزع لا صبر لهم البتة، والخطب ما زال هيناً فما يدريك والبلية أعظم " هذا ولما ترى تهامة!! " وامتحان الإيمان في الصبر " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ " [آل عمران/165] نعم إنَّ مصابنا الآن في فقدان إخواننا الذين افترستهم الدنيا حتى تكاد تعدم الحبيب في الله، إنَّ تلك البلية تحتاج إلى تصحيح للنيات من جديد، وبداية لصحوة جديدة قبل أن تهلكنا الدنيا، والتي عادت كأن لم يعد شيء سواها يهمنا. لا .. لا إخوتاه لسنا لمثل هذه ننتسب، لسنا حاملي هذه الجنسية

فنحن فيها غرباء، فلا تزيدوا الوحشة، إنما نهفو لأن نكون مواطني الجنة، أم قد نسيتم!! إخوتاه .. الإخلاص الخلاص، وإنما يتعثر من لم يخلص، ولا يخلص إلا من يراد، إنَّ الفوضى والعبثية والاضطراب والتخبط والتلون وعدِّد كما شئت من هذه البليات كل ذلك مآله ومرجعه إلى عدم الإخلاص ثم عدم المتابعة، لابد من سبر أعماق النفس حتى نتخلى عن عيوبها، نريد قلوبا تشتاق لرضا الله جل وعلا، نريد رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فهؤلاء أهل التمكين، وهؤلاء هم الإخوة. إخوتاه .. تعالوا بنا نعيد بناء صرح الأخوة الشامخ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني أحبكم في الله، وأسأل الله تعالى أن يظلنا جميعا بظله يوم لا ظل إلا ظله بما تعاقدت عليه القلوب من الحب فيه جل وعلا. تعالوا نداوي تلك الآفات؛ فإن نسيجنا الأخوي يحتاج إلى إصلاح وتجديد وصيانة، فتلك الروابط التي كانت تجمع قلوب الأخوة قد بليت، والحاجة ملحة إلى إعادة إقامتها من جديد. نعم ـ إخوتاه ـ إن تلك الوشائج والأواصر التي كانت سمة بارزة للملتزمين وكانت الصفة الواضحة لحياتهم قد توالت عليها الخطوب والمحن فلم تصمد أمام التيارات الجارفة فضعفت ووهنت حتى دبَّ الشيب في أوصالها، فما عادت قوية فتية كما كانت. إنَّ صرح الأخوة الشامخ لابد أن يسمو بالنفوس لسماء الإيمان، فتظل حائمة حول العرش لا يدنسها خشاش الأرض، والطريق الوحيد هو الواقعية في المواجهة

لنحاول علاج الأدواء التي ترسبت عبر السنين الماضية، بيد أنَّ هذا لا يتأتى دون استشعار الفاقة والإحساس بحجم البلية، ولا يكون حتى تتكاتف الأيدي وتتلاقى القلوب، ويمضي الجميع يحفهم منهج السلف سائرين وفق أصوله وقواعده فيحفظهم من التخبط والاضطراب. تعالوا نعيد ترتيب منظومة " الأخوة "، وهذا لا يتم حتى نعود لنتبين الأهداف والسبل الشرعية للوصول لتلك الغايات، فإذا كان هدفنا هو بناء المجتمع الإسلامي الذي يحيا في ظل شرع الرحمن، فإنَّ لبنة هذا المجتمع تنبع من ههنا من صرح "الأخوة ". فهلموا ـ إخوتاه ـ نسير في ركب الأخوة نحاول تعميق أواصرها، فذاك منشدنا ومطلبنا وهاكم السبيل. والله المستعان.

الأخوة لماذا؟

الأخوة لماذا؟ ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخيرت ما وصلوا من الانساب فإذا القرابة لا تقرب قاطعا ... وإذ المحبة أقرب الأنساب

الأخوة لماذا؟ إخوتاه .. نريد أن تنتشر بيننا هذه السنة المباركة وهذا الهَدْى القويم، نريد أن نعتاد سؤال أنفسنا قبل الإقدام على الأعمال " لماذا؟ ". قال الحسن: رحم الله رجلاً توقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره أمسك. أُخيَّ .. امكث برهة، وفكّر لحظة، وتأمل هنيهة، نعم لماذا .. ؟ ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا العمل؟ وهنا لابدَّ أن يسعفك العلم، فدونه قد تصطدم الإرادة الشرعية بالأهواء والمصالح الشخصية المحضة، لابدَّ من علم ينير لك السبيل فتتبصر وتدرك حقيقة الأمور وفق الميزان الشرعي. …من هذا المنطلق تعالوا نعالج قضية " الأخوة " في عصرنا الحالي، تعالوا نسبر أعماقنا بواقعية تامة، ليرسخ في قلوبنا اعتقاد جازم بضرورتها، وتعقد النوايا على إعلاء صرحها من جديد. إخوتاه .. …إذا ما سألنا " لماذا الأخوة؟ " فبماذا تجيب؟ لعل في حياة كل ملتزم مجموعة من رفقاء الدرب كانوا كلَّ شيء بالنسبة له في وقت من الأوقات، أحبَّ الدين في سمتهم، وسار معهم رغبة في مشاركتهم واللحاق بهم، وكل جيل يُحدثك عن هذا الشأن، وكيف كان الحال أفضل مما هو عليه الآن، فما الذي حدث؟! لعلكم لا تشعرون بخطورة الأمر الذي ضيعتموه، إنني أحاول أن أمد المبضع نحو أصل الداء، أحاول أن أستأصل هذا الورم السرطاني الذي دبَّ في جسد الأمة، إنه فساد ذات البين.

أولا: لإقامة كيان الأمة الإسلامية

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة " (¬1). لذا أعينوني بتجريد الإخلاص والصبر حتى ينجع الدواء، سأفتح صفحة جديدة مصطحبًا أخطاء الماضي، محاولاً فقه الواقع المر، فهلا ساعدتموني بصدق الاستعداد، والرغبة في العمل للإصلاح فَهَلْ من مشمر؟ هل من مجيب؟! إخوتاه .. لماذا الأخوة؟ … أولاً: لإقامة كيان الأمة الإسلامية. … إننا في عصر استذل فيه المسلمون، وبلغوا من العجز والوهن على نحو لم يسبق له مثيل، عَصرٌ سقطت فيه خلافتهم التي استمرت من عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ليسجل التاريخ وصمة عار على جبين كل المسلمين في هذا العصر، عَصرٌ سقطت فيه أراضى المسلمين تباعًا ومازال المسجد الأقصى الأسير يئن تحت أيدي أعداء الله، عَصرُ الفوضى والغُثائية، عصر الغزو الفكري والثقافي ومحو الهوية الإسلامية، ثمَّ هو عَصْرُ الشتات والفُرقة والعداوات. …كل هذا ونحن في سبات عميق، فبعضنا قصارى جهده الأحلام والأوهام، وبعضنا لا يعرف سوى الخطب والكلام، وبعضنا والى أعداءه وترك شرعة الإسلام، وبعضنا راح ضحية القهر فقصف الأقلام، وغالبنا صار يهوى الغفلة كيفما اتفقت له وعلى الدين السَّلام. …فالمسلمون مقهورون نفسيًّا، أُريد لهم ذلك وللأسف انصاعوا لتيار أعدائهم، حتى انسحب البساط من تحت أرجلهم وهم في غفلة معرضون، لم تنفع معهم النذر الإلهية وراحوا في خوضهم يعمهون. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2590) ك صفة القيامة، وقال: حديث صحيح، وأبو داود (4919) ك الأدب، باب في إصلاح ذات البين، والإمام أحمد (6/ 444)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2595).

إخوتاه .. …وسط كل هذا أنتم ـ يا صفوة الخَلْق ـ معاشر الملتزمين ـ مطالبون بتغيير وجه الأرض، وإقامة دولة الإسلام، ولا يتأتى لكم ذلك حتى تقيموا في نفوسكم للإسلام دولة، حتى تكونوا فيما بينكم نموذجاً مصغرًا لهذه الدولة، فيرى العالم بأسره من سمتكم ما يدعوه للحوق بركابكم، فوالله الذي نفسي بيده لئن أقمتم الإسلام فيما بينكم حقًا ليستخلفنكم الله في الأرض، لكن ذلك مرهون بإصلاح أنفسكم، وهذا موعود الله لأهل الإيمان في كل زمان. قال تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ " [النور/55 - 57] إنَّ شروط الاستخلاف والتمكين وحصول الأمن والطمأنينة واضحة جلية، إنَّه تحقيق الإسلام بسلامة المعتقد وعبودية الله وحده، وتزكية النفوس بالعبادة والطاعة ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم من وراء ذلك استشعار العزة واليقين بعلو دين الله، فإنَّما الخطب فينا، إذ لو تعاون أهل الإيمان على تحقيق الإسلام أولاً فيما بينهم، وأصلحوا ذوات أنفسهم فليكن الجميع على يقين بأنَّ نصر الله قادم، وأنَّ المستقبل لهذا الدين، والعزة للمسلمين ولو كره الكافرون. إخوتاه .. …إنَّ بناء الأمة من جديد يحتاج إلى تضافر الجهود، ولا ينتج هذا إلا عن صفاء السرائر والاجتماع على قلب رجل واحد، فإننا ـ معاشر الملتزمين ـ نحمل العبء

الثقيل أمام الله تعالى تجاه هذه الأمة وهذا دورنا الذي لا ينبغي أن نتخلف عنه. …وهنا لابدَّ من وحدة الهدف ووحدة المنهج لتجتمع هذه القلوب المؤمنة برباط إيماني متين، وهذا هو ما صنعه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حين أرسى دعائم الأمة، فجعل الصحابة يجتمعون على هدف واحد هو التوحيد، فصارت " لا إله إلا الله " هي العروة الوثقى، حدث هذا في حلقة صغيرة كانت تعقد في بيت الأرقم بن أبى الأرقم لتلاوة القرآن، فأقبل الصحابة على تلكم الوجهة، وارتضوا آنئذٍ التضحية بكل شيء في سبيل الله جل وعلا، ورسخ في صدورهم معنى "الولاء والبراء"، فكانوا بالأمس تقوم بينهم العلاقات على قرابة الدم أو المصلحة المشتركة أو لقاءات الشهوة، ومثل هذه العلاقات كانت تصنع فيهم روابط من نوع ما، كانت لا تصل أبدًا لحد الالتحام والتلاصق، أما وقد غُيرت وجهتهم ونفضوا عنهم جاهلياتهم فحينئذٍ ذابت ذاتياتهم في بوتقة الإيمان، لم يعد هناك هذا السياج المنصوب من كل فرد حول نفسه بحيث لا يمكن أن يتسع لغيره، فالحب في الله نسيج وحده؛ لأنك حينئذٍ ستجتمع معي في المرجعية وهي كتاب الله وسنة رسوله، فلا يحدث شقاق ولا تنافر، أمَّا إذا دخلت الأهواء فالنُّفرة والضغائن والشّجار والتشاحن. إخوتاه .. …حين نقول: إن بناء كيان الأمة يبدأ من لبنة " الأخوة " التي هي ثمرة " التَّوحيد " نعنى أنَّ الرباط العقدي الإيماني هو الرباط الوحيد الذي يمكنُه أن تتسع له جميع القلوب المؤمنة، وانظر إلى احتكاك الناس على مستوى المعاملات المادية كيف يفسد العلاقات بينهم. انظر مثلاً: كيف أنَّ كل إنسان ينصب حوله حدًا لا يسمح لأحدٍ أن يتجازوه، وحين يقترب منه الآخرون تبدأ المشاكل وتظهر العورات وتنكشف الحقائق، أمَّا المتحابون في الله فعلى شاكلة أخرى إذ هذه الهموم السفلية لا تشغل أذهانهم، ثمَّ إنهم

لا يتعلقون بالذوات، فأنت لا تحبني لذاتى لكونى فلانًا، بل لارتباطي بك برباط أسمى وأوثق من المصالح الذاتية إنه عبادة الله وحده، إنَّه الحب في الله الذي لا تُحَلّ وشائجه بسيوف الدنيا، فصار الهَمّ الأول والأوسط والأخير هو رضا الله جل وعلا فانعدم الخلاف، ولذلك علينا أن نتهم نياتنا ونجرد إخلاصنا إذا ما وجدنا الخلاف يحتدم بيننا، ونعى جيدًا أننا أصحاب دين لا دنيا، فلا تشغلنا تلك السفاسف التي لا يتناولها إلا الرعاع. قالوا: إذا رأيت الرجل ينافُسك في الدنيا فألقها في نحره. إخوتاه .. …بهذا الآن أدعوكم لكى تبنوا أمتكم، فتجتمع قلوبكم على الحب في الله، ويحدث بينكم هذا الإخاء العجيب الذي يغير من شكل ومنظومة المجتمع بأسره، فنرى الأخ يسارع في الحفاوة بأخيه، يسعى في قضاء حوائجه، يعينه على الطاعات، يحوطه من روائه، يقدم له يد العون في أى لحظة، تتلاقى قلوبهم حتى يكون الأخ أحب إلى أخيه من ملء الأرض ذهبًا. إخوتاه .. …أذيبوا جبل الجليد التي ترسب على قلوبكم تجاه إخوانكم، فوالله إنَّ القلب ليحترق كمدًا على واقع الإخوة الآن، ولا أدرى ماذا أصنع حتى تعودوا إلى الجادة من جديد؟ ماذا تريدون بعد هذا العمل المكثف الدعوى من أجل إيصال نداء الحق لكل مكان، ما هو المطلوب مِنَّا حتى تفيق، إننى أشعر بمرارة وحرقة حين ألمس واقعنا المعاصر، كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسير الاثنان في الطريق فتفرق بينهم شجرة فيعودان ليسلم أحدهما على الآخر، وهي من السنن التي باتت مهجورة بيننا في جملة السنن الموات، فكيف صارت أحوالنا الآن؟ ولماذا؟

إخوتاه .. …سبيلنا لإقامة كيان الأمة يبدأ من قلوب المؤمنين المتحابة في الله جل وعلا، فلابدَّ من تجريد المحبة الفينة بعد الفينة، فإنكم لا تؤمنون حتى تحابوا. …كان عُمر ـ رضى الله عنه ـ يقول: إنَّه ليمر بخاطري الرجل من إخواني وأنا في الليل فأقوم لأدعوَ الله وأقول: يا طولها من ليلة، فإذا أصبحت بادرته فالتزمته. فأين بالله عليكم هذه الروح بيننا الآن؟!! إخوتاه .. …الله سائلكم وَسَائِلُ كل أحد عن هذه الأمة المُضَيّعة، فأعدوا لهذا السؤال جوابًا من واقع المسئولية الملقاة على عاتقكم، لا أطالبكم بالشيء العسير، أقول لكم: تصافوا فكونوا صفًا واحدًا " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ " [الصف/4] تصافوا، فأذهبوا عن أنفسكم الدَّخن والدَّخل حتى تصفو سرائركم فتلتئم بوشائج الإيمان، ابدأ من الآن فاتصل بمن هجرته، بمن ضاع وتاه في خضم البلاء، اتصل بمن لزمته الأيام على طاعة الله ثم حالت بينكم الدنيا وتشاغلتم بها عن مقصودكم الأسمى وهو رضا الله تبارك وتعالى، نعم حاول أن يتسع صدرك للجميع، وثق أنك ملاقٍ حسابك وجزاءك في العاجل قبل الآجل، ضع همَّ الأمة نصب عينيك ولا تكن أنت على الأمة همّا. إخوتاه .. …الله الله في أمتكم قبل فوات الوقت، وحينها ستوفي كل نفس ما كسبت وحينها لن يجدي الصراخ " حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ

ثانيا: لتمحيص عيوبنا في مرآتها

وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون " [الأنعام/31 - 32] أنذرتكم مغبة واقعنا الأليم فاللَّهم فاشهد. الأخوة لماذا؟ ثانيا: لتمحيص عيوبنا في مرآتها … مازال السؤال يتردد في أعماقنا، لماذا الحديث عن الأخوة الآن؟ وما هو المأمول أن تحققه هذه الأخوة المنشودة، ومازال الواقع يفصح لنا بكثير من الآمال المرجوة. …الأخوة مرآة يرى فيها المؤمن عيوبه ضمن ركني التربية (التخلية والتحلية)، ولو فات هذا الأمر لعمَّ الفساد أرجاء المعمورة ولابدَّ، إذ سيزداد الشر ويتقلص الخير تباعًا، وتنمو الشبهات وتستحكم الشهوات والغفلات، فبكلمة واحدة من أخٍ ناصح لك أمين تنكسر هذه الموجات على صخرة "الأخوة الإيمانية ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه" (¬1). …فالمؤمن مرآة أخيه، فإذا رأى أحدكم بأخيه أذى فليمط عنه، فأنت ترى من أخيك ما ربَّما لا يراه هو من نفسه، كما يُرسم في المرآة ما هو مختفٍ عن المرء فيراه إذا نظر فيها، وإنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة. …وما أسْمَى أن تدل أخاك على عيبه أو تدعو الله أن يُخْليه من هذه العيوب!! وما أجمل أن تلتمس من الدّعاء لأخيك قبل أن تواجهه بعيبه!! وأن تحتال بكل حيلة كي تتقي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4918) ك الأدب، باب في النصيحة والحياطة، والبخاري في الأدب المفرد (239) باب المسلم مرآة أخيه. والحديث حسنه الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد (178).

أن تُصارحه فيخجل منك أو تأخذه العزة، ولك هنا في ضرب الأمثلة والتعريض أبوابًا متسعة، فلا تضيق صدر أخيك بالمواجهة المباشرة، اللهمَّ إلا إذا كنت تعرف أنَّ دلالتك إياه بمواطن عيوبه لا تزعجه، بل هو ممن يرى أنَّ خير الناس إليه من يهدى إليه عيوبه. إخوتاه .. …إنَّ أحوالنا تغايرت وعُدنا مرة أخرى إلى السُّفول والحضيض لما صرنا لا نتناصح في دين الله، والدين النصيحة، فقوام الدين على بذل النُّصح بين المسلمين، وخيرية الأمة مرهونة بقيامها بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ" [آل عمران/110]، والقلب الذي لا ينكر ويأبى العيوب والزلل قلب أغلف انظر كيف قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذونه بسنته ويقتدون بأمره ثمَّ إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (¬1). …فهذا أضعف الإيمان وأقله، فينبغي ألا نتسامح في تنبيه بعضنا بعضًا إذا خالف الصواب أو بالأحرى في ترك دقيق الآداب الشرعية التي هي شعار الملتزمين باتباع سنة خاتم النبيين والمرسلين، وإلا تعرضنا إلى صدأ القلب وغلبة قسوته من إلفه للمعاصي واستهانته بها من كثرة حدوثها أمامه دون نكير. …قال عُمر في مجلس من المهاجرين والأنصار! أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين وكرره فلم يجيبوه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (50) كتاب الإيمان. باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.

فقال بشر بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القِدح. فقال عُمر: أنتم إذن أنتم إذن. إخوتاه .. …كم من سنن أميتت بعد أن أحياها جيل الصحوة بسبب عدم تعاهدنا إياها، وكم من منكرات راجت بضاعتها فينا بعد أن كنا نعدها من الموبقات، كان الإخوة بالأمس لا يتسامحون في ترك النوافل فكيف الآن بضياع الجماعات؟ كان المظهر علامة على الجوهر فكيف بمن صار جل التزامه في إعفاء اللحية أو في ارتدائها النقاب. …لا ـ إخوتاه ـ إنَّ الأخ الملتزم ينبغي أن يكون هو القوّام الصوّام القائم بشرع الله، نعم المظهر شيء مهم جدًّا، وبه يتمايز النَّاس فيعرف المسلم الملتزم من غيره، بل بالأصالة كان ذاك لمعرفة المسلم من الكافر لما لذلك من أحكام في الشرع مثل إلقاء السلام وعدم مشروعية البدء بسلام الكافر لنهي الشرع عن ذلك، فضلاً عن أداء حقوق المسلم المعروفة من تشميت للعاطس وإجابة الدعوة واتباع الجنائز وعيادة المرضى ونحوها، أمَّا أهل الذمة فلهم أحكامهم. الشاهد ـ إخوتاه ـ أننا بحاجة إلى هذه المرآة الإيمانية، المرآة التي نمحص فيها عيوبنا، ونتواصى من خلالها بالحق ثمَّ بالصبر، وهي لنا من الضرورة بمكان في عصر فشت فيه المنكرات، والتبس الحق فيه بالأباطيل وكثرت فيه الشبهات، وصُدَّ فيه عن سبيل الله، وهُجرت فيه سنة خير الورى عليه أفضل الصلاة والسلام، فهل تفيقون؟ اللهمَّ إليك المشتكى.

ثالثا: معالجة الفتور الذي يفت في عضد التزامنا

لماذا الأخوة ثالثا: معالجة الفتور الذي يفت في عضد التزامنا (¬1): إخوتاه .. …قضية الفتور هي قضية الساعة في عالم الملتزمين بشرع رب العالمين، فبعد الصحوة المباركة وانتفاضة أهل الإيمان من سبات عميق ظلوا فيه سنين طوال، وبعد الجهود العظيمة التي قام بها رواد الدعوة الإسلامية في عصرنا الحالي محاولين معالجة واقع المسلمين، بعد كل هذا قامت هذه القلوب النابضة بالإيمان، المتشوقة لشرع الرحمن، المتعلقة بالآمال العريضة في شيوع الهدى وزهوق الباطل، فما لبثت أن واجهها إعصار الظلم والقهر، وبدأ اليأس يدب في القلوب الضعيفة، وبدأ بعضهم يميل نحو أي سانحة يحاول من خلالها التنفس فوقع في شبهات كثيرة، وبدا لهم الحل في أسلمة كل شيء فوقعوا في تنازلات خطيرة، والهزيمة النفسية تفتك بأفئدة المسلمين، فكان الفتور يفت من عضد الملتزمين، حتى ظلوا فيه مُبلسين. إخوتاه .. …إن افتقاد الحدب الأخوي من أخطر الأسباب لهذه الظاهرة، فإنَّ وجود المعين على الطاعة صار من النّدرة بحيث عَزَّ التماسه، وما ذاك إلا لغياب الأخوة الإيمانية التي في ظلها تتلاقى القلوب على طاعة الله، يعين الأخ أخاه، يأخذ بيده إذا تعثر، إذا غاب عن المسجد مرة هبَّ إليه، وَجلاً عليه، ملتمسًا له الأعذار، له من باب "لعل" عذار، لا يهدأ ¬

(¬1) وقد تعرضنا لمعالجة هذه القضية باستفاضة في كتاب "إلى الهدى ائتنا"، وشرحنا هناك الأسباب المؤدية لشيوع هذه الظاهرة وجعلناها على عشرين سببًا واتبعنا كل سبب بكيفية العلاج منه.

له بالٌ لا يعرف القَرار، ولا تعطله "سوف" ولا يوقفه انتظار، يحدوه نحوه سابق العهد والجوار، فما تراه إلا جنب صاحبه لا يشعر بتباعد الديار، فكل مكان لا أخ لك فيه بوار، وكل نعيم تألفه وحيداً فهو نار، فالحذار الحذار. إخوتاه .. …قلنا في غير هذا الموضع أنَّ في أحايين كثيرة يكفي لحل مشكلة قائمة زيارة من أخ أو اعتذار، لقاء، أو ابتسامة، أو كلمة طيبة، أو مكاشفة صادقة، هدية بسيطة، مجاملة لطيفة، ثناء عاطر عابر، والله ما أقلها من تكاليف يسيرة، لو تأملت خطورة افتقاد الأخ في خضم الدنيا، ليصير هذا الأخ بعد ذلك أكبر وصمة تلحق بجبين الالتزام، ويُصد به عن سبيل الله. إخوتاه .. …إنَّ المعالجة السريعة وفض المشكلات بأساليب يسيرة ما أحوجنا إليها في وقت تصاعدت فيه الهزات الداخلية، وهذا التساقط يفت منك قبل أن يفت من أخيك، فما تجدك إلا فردًا، والوِحدة غربة، والغربة وحشة، والوحشة نفرة، والنفرة ضلال، ثم لا تجد على الخير قائمًا فهل تعقلون؟!! …إنها ليست مبالغات، إي والله وإلا فتأملوا الواقع، ارجع بذهنك إلى أيام الصفا، تذكر إخوانك ثم سَلْ نفسك، أين صار هؤلاء؟ كيف كنتَ يوم كانوا معك؟ وكيف صارت الأحوال الآن؟ إخوتاه .. …من أجل هذا أقول: نحن في حاجة ماسة إلى الأخوة الصادقة، التي نجني من جناتها نعيم القرب من الله بلزوم الطاعة وهجر المعصية، وطريق الاستقامة شاق لكن

يخففه الرفاق، فعُد إليه ليعود، واطرق بابه الموصود، وتذكر أيام طول الصيام وطول السجود، عسى أن تصفو لكم العهود، في التزام شرع الله والقيام بالحدود. إخوتاه .. …بقى أن تعلموا أنَّ لكلٍ منا شرة وفترة، وأنَّ الفتور حاصل لا محالة، لكن مفهوم "الفتور" عند المفتونين من المسلمين صار ترك الواجبات والوقوع في المحرمات، أو قل: ترك المندوبات التي كان يحافظ عليها العبد يصيب بها سنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والوقوع في المنكرات والمكروهات التي كان يُكبر أن تزل قدمه فيها، وهذا لعمرُ الله هو "الفتنة". …وإنَّما الفتور يقع في الانشغال بأجناس المباحات، وفي هذا جاء حديث " ساعة وساعة " (¬1) فساعة النشاط لأداء فروض الله والقيام بحقوقه جل وعلا، وساعة الفتور لأداء حقوق الدنيا من معالجة الضيعات وملاعبة الأولاد ومعافسة الزوجات، وكان الصحابة يعدون ذلك نفاقًا، فبماذا نسمي ما نحن فيه الآن من التذبذب والتوانى والكسل عن أداء الفروض؟ وليست الفروض هي الصلوات فحسب، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين صلة الأرحام، أين حفظ القرآن الذي هو من فروض الكفايات وأهل الالتزام هم أولى الناس بالقيام بهذا الحق؟ ... ؟ أين وأين ... ؟ إخوتاه .. …من أجل ذلك حين نقول بمعالجة الفتور نريد بالمقام الأول معالجة آثار الفتنة التي ذاقها كثير منّا لنعود مرة أخرى إلى ما كنا نعتاده ونألفه من القيام بحقوق الله في أداء الفروض وحفظها بالمندوبات، وترك المحرمات وصيانة ذلك بهجر المكروهات، ولا سبيل ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2750) ك التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا.

رابعا: لرأب صدع الخلاف الذي حط من صحوتنا

لذلك إلا بالتعاون على البر والتقوى بين خلان الإيمان، وصولاً لهذه الدرجة العالية من الشفافية بالندم على ضياع الأوقات في المباحات، فتكسوها النيات الصالحات فتغدو من الطاعات لا العادات. …لمثل ذلك استثيروا باعث الشوق للنجاة، أم أنكم مازلتم لا ترون طريق الهلكة الذي تسلكونه اللهمَّ رحماك بنا!! الأخوة لماذا؟ رابعا: لرأب صدع الخلاف الذي حَطَّ من صحوتنا إخوتاه .. الخلافات تحدث في حياة النَّاس وهي سُنّة جارية، فالناس جميعًا لا تجد فيهم اثنين متماثلين من كل الوجوه، فالطباع مختلفة والثقافات متباينة والقلوب قد تكون متضادة وهكذا. …فالخلاف سنة مطَّردة من سنن الله في خلقه وملكوته، وليس كل مختلفٍ قبيحًا، ولا كل متباين جميلاً، وأنت إذا ألفت شيئًا وظلَّ على وتيرة واحدة انبعث في نفسك شعورٌ بالملل وانصرفت رغبتك فيه، إذ الأصل في المخلوقات النقص، والنفس مفطورة على الارتباط بالكمال، ولن تجد ذلك إلا حين تحب الله، وتُحب في الله، حينها تنصهر كل المشكلات وتذوب كل الخلافات.

إخوتاه .. …في عالم النَّاس يعرفون أنَّ الخلافات لا تدوم إذا كانت بين متحابين، فإذا لم يكن هناك سابق وُدّ يحدث الصراع عادة وتتولد المنازعات، فإنك إذا أحببت إنسانًا واختلف معك في مسألة من المسائل في وجهة نظر معينة تتقبلها ولا تُفسد قضيةٌ ما بينكما من المودة، لكن إن كنت لا تألفه ازدادت النفرة وحدث الصدام. …لذلك نقول: إنَّ الخلافات التي تحدث بين الملتزمين ينبغي أن تتلاشى في بوتقة الحب في الله، وإلا فليتهم كلُ منّا نفسه، ويحاول أن يجرد الإخلاص في علاقاته بإخوانه من جديد. إخوتاه .. …تعالوا بنا نقف وقفة يسيرة مع "قضية الخلاف" نرصدها بعين الأخوة والحب في الله، فإذا كان الاختلاف الإنسانى حقيقة فطرية وإرادة ربانية بحكمة مقصودة هي من أسرار الوجود " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ " [هود/ 118 - 119]، وإذا كانت فكرة الموضوعية المطلقة فكرة غير واقعية،، بل تظل الأمور كلها مرهونة بشيء واحد هو مشيئة الله تعالى، فهنا تفهم معنى قوله: " لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [الأنفال/63]، فلا طريق للألفة الحقيقية التي تتلاقى فيها القلوب وتذوب فيها الخلافات إلا إذا تلاقت إرادات النَّاس في وجهة واحدة هي ابتغاء وجه الله جل وعلا. إخوتاه .. …فالخطوة الأولى نحو التقليل من حدة الخلاف عمومًا تنبع من الإخلاص بإرادة وجه الله تعالى وحده والتعلق به.

…ثم تأتى الخطوة الثانية في العلم، إذ غالب الاختلافات التي تحدث تكون بسبب الجهل وعدم العلم، ولو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف، ولا سبيل للتحكم في هذه المعضلة إلا بالتقوى، إلا بتربية القوم تربية سلفية، يضع كل واحد منهم أمامه الأمثلة الحية من سيرة السلف ليتزود بها في مثل هذه المواقف، فلا يتجرأ على الفتيا بغير علم. …قال الله تعالى: " وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ " [النحل/116]. …أخرج ابن أبى حاتم عن أبى نضرة رضى الله عنه قال: قرأت هذه الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. …وقال تعالى: " آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [يونس/59 - 60] …يقول الزمخشرى: كفي بهذه الآية زاجرة زجراً بليغًا عن التجوز فيما يُسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز، إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله تعالى. أهـ. …وقال ابن المنكدر: المفتى يدخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يفعل؟! فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر. …قال أهل العلم: من سئل عن فتوى فينبغي عليه أن يصمت عنها، ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، أو من كلف الفتوى بها، وذلك طريقة السلف. …قال ابن أبى ليلى: أدركت مائة وعشرين صحابيًا، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول. …وهذا كان حال السلف، أما نحن فجرأة غير محسوبة العواقب، وتَصُدّر لما ينبغي الإحجام عنه، فينبغي أن يكون قصارى عهدك نقل العلم والتبليغ إن وثقت في ذلك،

وشهد لك أهل العلم برسوخ قدم، وإلا فدونك جسر جهنم يعبر الناس عليه لتلقى أنت في حميمها، اللهم سَلّم سَلّم. …وينبغي على الأخ الحبيب أن يدع اللجاجة في الجدل، ويعتاد ترك المراء وإن كان محقًّا، ولا يتنطع ولا يغلُ. …قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والتبدع وعليكم بالعتيق. …فحذار حذار من التعالم قال - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور". (¬1) …وبالجملة عليه أن يتحلى بآداب طالب العلم، وينبغي أن يُفهم من هذا الكلام الحض على تعلم العلم النافع والتأدب بآدابه لا التنفير، لأنَّ بعض الناس تستهويه البطالة والدعة فكلما أردت أن توجهه إلى الصواب لا يأتي بخير ويدع العمل فافهم المراد واستعن بالله ولا تعجز. إخوتاه .. …أنذرتكم مغبة هذا الفصام الغريب الحادث بين العلم والعمل، وبين تعلم العلم والتحلي بآدابه، فخذوا العلم من وجهه، ابدأ بتعلم العقيدة واحفظ القرآن وتعلم فقه فروض الأعيان والكفايات لتعرف كيف تعبد الله، تعلم اللغة العربية لتفهم القرآن والسنة، ابدأ بحفظ الأربعين النووية وراجع شرحها في كتاب "جامع العلوم والحكم" لابن رجب، خذ لمحة عن علوم القرآن ومصطلح الحديث وأصول الفقه، ولا ينبغي أن يتوقف نموك العلمي "من المهد إلى اللحد" فهذا هو السبيل للتقليل من حدة الخلاف، إذا ازدان هذا العلم بالأدب والتقوى، واستصحب هنا هذا الأصل النافع والقاعدة ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (5218) ك كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة. ومسلم (2129) ك اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره، والتشبع بما لم يعط.

العظيمة، فأمور العقائد لا تقليد فيها ولا يتسع فيها الخلاف؛ لأنها من القطعيات، أمَّا مسائل الفروع ممّا اختلف فيها سلفنا فإنَّه يسعنا ما وسعهم ولا حرج ولا غضاضة. إخوتاه .. …الحديث عن الخلاف الفقهي وتأثيره يجرنا لقضية "التعصب" كسبب رئيس لحدة الاختلاف، والتعصب دلالة عن جهل وغياب لآداب العلم، وأغلب من يخوض في ذلك أنصاف المتعلمين، وقد مضى قول أهل العلم على أنَّ التعصب للمذاهب والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، والدعوى لذلك والموالاة عليه من دعوى الجاهلية، فكل من عَدَل عن الكتاب والسنة لرأى إنسان كائنًا من كان فهو على ضلال مبين، إذ الواجب على كل مسلم أن يمحض قصده لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً إلا لشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا لطائفة انتصارًا عامًا إلا لأصحابه رضى الله عنهم، فإن الهدى يدور معهم حيث داروا. إخوتاه .. …قال - صلى الله عليه وسلم - حين بعث أبى بن كعب ومعاذ بن جبل إلى اليمن " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا " (¬1) …والنهي هنا ليس متوجهًا إلى حقيقة الشيء بمعنى إبطال الخلاف، كيف والخلاف أمر واقع، بل المراد المآل والناتج عن اختلاف وجهات النظر في المسائل الاجتهادية التي لا تنضبط تحت نص قاطع في ثبوته ودلالته على عين القضية المطروحة، فهنا ينبغي أن يقدم "وحدة العمل" على "اختلاف الرأي" فلا يصر كل منهما على رأيه ويصعد الخلاف، ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (3038) ك الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه، ومسلم (1733) ك الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.

بل يحاول كل واحد أن يأتلف مع رأى أخيه ما استطاع. …وهذا الدرس النبوي ينبغي ألا يغيب عن أعيننا " تطاوعا ولا تختلفا " فنحاول أن نتطاوع فيما بيننا، وتظل دائرة الخلافات محدودة بحدود الأخوة الإيمانية بعيدًا عن الأهواء والذاتيات، نحاول لمَّ الشمل وجمع الكلمة منضبطين بالمنهج النبوي، مستشعرين عزة الدين حتى لا نقع في فخ التنازلات وصولاً للهدف، فتبرر الغايةُ الوسيلة، فتحدث الأخطاء الشرعية. إخوتاه .. …إنها دعوة من القلب لكل غيور على دين الله، لكل من تهفو نفسه لتطبيق شرع الله أقول لكم جميعًا معاشر أهل الدين: لا توسعوا الشُّقة، كونوا عباد الله إخوانًا، لا ينبغي أن تطفو الخلافات بين الدعاة وأهل الإيمان فتنتشر بين الجميع، إننا قد نقع في الصد عن سبيل الله من حيث لا ندرى تحت معتقدات إظهار الحق، ليكن هذا الخلاف في أضيق صورة، وليظهر كل واحد ما اقتضاه اجتهاده دون التعرض لأشخاص بذواتهم، وليعمل على تحجيم دائرة الخلاف ما استطاع، لا سيما وأنَّ في الأمر سعة والخلاف فيه وارد، ورأى صاحبي خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل الخطأ، ولا غضاضة ولا مشاحنة، بل إخوة على درب واحد متحابين في الله. اللهمَّ إنا نعوذ بك من الشَّقاق، اللهم اجمعنا على الحب والوفاق، اللهمَّ اجعلنا متحابين في جلالك، يا حى يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

خامسا: للتخفيف من وحشة الغربة

الأخوة لماذا؟ خامسا: للتخفيف من وحشة الغُربة. إخوتاه .. …قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (¬1). …وهؤلاء الغرباء جاءت الروايات تصفهم بأنَّهم الذين يصلحون إذا فسد النَّاس، الذين يفرون بدينهم من الفتن، الذين يقيمون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يفسدها النَّاس بالبدع والمحدثات، فهم قوم قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. …وقد مضى أننا في عصر الجاهلية الثانية بلا ريب، وأنَّ المتأمل لحال النَّاس في يومهم هذا لا يشك في أننا نعيش في غربة، فالفتن من كل حدب وصوب، والفساد مطبق والبلاء عَمّ، واستحكمت مكيدة الشيطان فأطاعه أكثر الخلق فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعه. ففتنة الشبهات. …قال عنها- صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" (¬2) وفي رواية "واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (145) ك كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين. (¬2) أخرجه أبو داود (4596) ك السنة، باب شرح السنة، والترمذي (2640) ك الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3991) ك الفتن، باب افتراق الأمم، والإمام أحمد في مسنده (2/ 332) والحديث صححه الشيخ الألباني في الصحيحة (203).

يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة" (¬1) وأمَّا فتنة الشهوات فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "فو الله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم". (¬2) …يقول ابن رجب في كشف الكربة: … فلما دخل الناس في هاتين الفئتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم ... فقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك. …وأمَّا فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعًا وكفَّر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد". …هذا حال من افتتن ولم ينج من هذا إلا الفرقة الناجية أهل الغربة أهل السُّنة والجماعة. إخوتاه .. …أسوق لكم هذا كله لأطرح على مسامعكم وليجول في خاطركم تساؤلٌ حتمي، هل نحن ـ معشر من ادّعى الالتزام ـ حقًا غرباء؟ هل نحن فعلاً على هذا الوصف الذي ¬

(¬1) أخرجها ابن ماجه (3992) في الموضع السابق، وصححها الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه (3226) (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (3158) ك الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب ومسلم (2961) ك الزهد والرقائق.

نعتهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ …نحتاج إلى وقفة للمحاسبة لنرى هل وقعنا في مضلات الفتن أم مازالت الأقدام ثابتة والقلوب على اليقين هذا أولاً. …فإذا ما ارتضينا نصرة دين الله وتحملنا لذلك كل الصعاب، وصبرنا على أذى أعداء الدين، وقاومنا الظلم والقهر الذي يقع على أولياء الله الصالحين، فعلينا حينئذٍ أن نتواصى بصفات الغرباء فنقيم على طاعة الله وإن عصى النَّاس، نسعى للإصلاح وإن فسد الخلق، ننشر سنة رسول الله وإن وقع النَّاس في البدع، لا نستوحش القلة فقليل من عباد الله الشكور، ثمَّ نتواصى فيما بيننا بالأخوة فإنها سبيل تخفيف هذه الوحشة. إخوتاه .. …قال الحكماء: مصائب العالم ومحنة تعود إلى خمس: المرض في الغربة، والفقر في الشيب، والموت في الشباب، والعمى بعد البصر والغفلة بعد المعرفة. …فآهٍ من وحشة الغربة وسقم القلوب وعلة الأبدان، فكيف بالله ترضوا أن تروا أخاكم قد أضناه لهيب الهاجرة فلا تعودونه، لا تخففون من شدة وطأة الظلم عليه، فكيف وأنتم رفاق الدرب، والمآل واحد ألا تتعاونون، أَوَ ليس حري بكم أن تتحابوا وتتصافوا وتكونوا عباد الله إخوانًا. إخوتاه .. …ماذا بكم؟ أَوَليست هذه الدار فانية، أَوَلَيس متاعها زائلاً، أليس نعيمها ناقصاً منغصًا، فما عساكم حِدتم، هذه دنيا دنية، أنتم فيها غرباء فإنما مواطنكم الجنة نسأل الله أن يجمعنا جميعًا فيها، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى وما يقرب إليه من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أو عمل.

سادسا: لاقتفاء أثر البقية الباقية قبل أن تغرق السفينة

إخوتاه .. …أما تذكرون الجَنَّة، أما تهفوا أنفسكم لرياضها، فلِمَ النُّفرة والتشاحن فهلموا إلى الجادة، هيا اجتمعوا على قلوب صافية متحابة، تعالوا إلى نصرة دين الله، ولتكن جنات الفردوس نصب أعينكم. ما من غريب وإن أبدى تجلده ... … إلا تذكر عند الغربة الوطنا الأخوة لماذا؟ سادسا: لاقتفاء أثر البقية الباقية قبل أن تغرق السفينة مرت بنا خُطوب، وضلت أقدامنا الدروب، وتوالت المحن فهلك من هلك وثبت من ثبت، ودبت العِلل، وتغايرت الحُلل، فلم تعد إلا شرذمة قليلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم النَّاس، تلك البقية الباقية مازالوا يحلمون بنصر الله، موقنين بأنه آت لا محالة، وأنَّه قريب ولو كره الكافرون. …فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، بهم يندفع البلاء، فلولا عبادٌ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع لصب العذاب صبا، إنَّهم الصفوة، وإن كانوا من الندرة بمكان إلا أنهم ما زالوا فينا ولكنهم يتناقصون، والخوف كل الخوف أن يهلك هؤلاء فحينها يأتيك ما تحاذر ولابد. إخوتاه .. …إنَّ السبيل لدفع ما نحن فيه من البلية يبدأ من الأخوة الإيمانية، فحين ترتبط بهذه

الفئة المباركة تكون على أمل النجاة قبل أن تغرق السفينة، وإن وجود نماذج متعددة لهؤلاء الأخيار هو الطريق الأمثل لنصرة دين الله في الأرض. …إنني أريدك أن تبحث عن القوَّامين الذين يقيمون الليالي ولا يفترون، عن الصَوَّامين الذين يصومون صيام داود لا يسأمون، عن المتصدقين الذين ينفقون أموالهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، عن الدعاة الذين يجوبون مشارق الأرض ومغاربها لإعلاء كلمة التوحيد، هذه النماذج موجودة ولكنها قليلة، ولا سبيل لنموها وتكثير سوادها إلا بالأخوة حين تقف في الصلاة ملتصقًا برجل صالح من أمثال هؤلاء ربَّما تنزل عليه رحمة تصيبك منها ما فيه خيرك إلى يوم الدين. …حين تسمع عمن يقيم نصف الليل أو أكثر، من يختم القرآن كل ثلاث أو أربع فتسير في ركبه وتخطو خطوة، وتود أن يكون عملك كعمله إن عجزت فربَّما تجد هذه الأعمال في صحيفتك بإخلاص النية. إخوتاه ... …هذه فائدة مرافقة الصالحين، بل إنَّ مؤاخاة هؤلاء وحبهم في الله يثمر ثمرة عظيمة هي أن يجمعك الله بهم في الجنة، وربما يكون ذلك سبب دخولك الجنة وإعلاء درجتك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم - "المرء مع من أحب". (¬1) …وحين تشارك هؤلاء العلم الصالح يهون عليك ما يثبطك عنه الشيطان وتنفرك نفسك من فعله، فتعتاد الصيام والقيام وتلاوة القرآن والعمل لدين الله تعالى، وتعظم أوامر الله ونواهيه، وتتخلق بأخلاق الصالحين من التواضع ورؤية النفس بعين الجناية والانكسار بين يدي الله جل وعلا، وهكذا لا تعدم خيرًا في اقتفاء أثرهم والسير في دروبهم والجلوس معهم. ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (6168) ك الأدب، باب علامة حب الله عز وجل، ومسلم (2640) ك البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب.

سابعا: إحياء السنن الموات

…قال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يحذيك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك وإمَّا أن تجد ريحًا خبيثة". (¬1) …فإن لم تجد هؤلاء فالعزلة راحة من خلاط السوء كما ترجم البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ، فالوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة؛ فإن مجالسته غنيمة وربح، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وصحبة أهل البطالة بل صحبة من لم يشمر عن ساعد الجدّ في سلوك طريق الله تعالى فإنها كصحبة أهل الشر، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار فتأمل هذا يا عبد الله، وخذ بحظك من صحبة أخلاء الإيمان، واقتفِ أثرهم قبل أن يعمنا البلاء والله المستعان. الأخوة لماذا؟ سابعا: إحياء السنن الموات قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال بن الحارث: " اعلم! قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنَّه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدى فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضى الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار النَّاس شيئًا " (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (5534) ك الذبائح والصيد، باب المسك، ومسلم (2628) ك البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء (¬2) أخرجه الترمذي (2677) ك العلم، باب ما جاء في الأَخْذِ بالسّنّةِ وَاجْتِنابِ البِدْع وقال: حديث حسن، وابن ماجه (210) في المقدمة باب، والطبراني في الكبير (17/ 16) والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي (500)

…أي أنَّ الناس يتركون العلم بالسنة فمن قام على نشرها والعلم بها والعمل بها كان له ذلك الجزاء الأوفى، ففي إحياء السنة إماتة للبدعة والعكس صحيح. إخوتاه .. …كان للصحوة الإسلامية خلال العقود الماضية دورها الفعّال في إحياء السُّنة وإماتة البدع المحدثات التي كان العالم الإسلامي يذخر بها، وقام رواد الدعوة الإسلامية بدور كبير في هذا المجال، ومن ثمَّ وُجد جيل من الملتزمين بسنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، المحاربين للبدع والمنكرات فأحيوا السُّنة وأماتوا البدعة. …ثم خلف من بعدهم خلف ورثوا عنهم هذا ولكن كان حظهم أقل من جيل الرواد، وبدأ خط الرجعة من جديد فأميتت سنن أو صارت من جنس العادات أو الشكليات، فاهتم القوم بالمظهر وضاع منهم الجَوْهر ولهذا أسبابه المعروفة، ولكن الوقفة هنا مع أحد الأسباب الخطيرة في شيوع مثل هذه الظاهرة، أعنى بطبيعة الحال " الأُخُوَّة "، فالقوم لم يعودوا على قلب رجل واحد، بل تفرقوا شيعًا، ودخل في قلوبهم الدخن كلٌ تجاه الآخر، واختلفوا فتناكروا وتنافروا، وبدأ الجيل الصاعد تتفتح عيناه على معارك ومشاحنات فمنهم من تولّى ومنهم من خاض غمار تلك المخاصمات، فصار جل اهتمامه في مسائل ثانوية، وتحت شعار إحياء سنة أميتت سُنن. …وإذا أردت أمثلة واقعية لذلك، فانظر كيف كان حالك منذ سنوات قليلة وكيف صار الحال الآن؟ أين السُنن والآداب التي كنت تعظمها؟ أين المحافظة على الأذكار؟ أين المحافظة على آداب الطعام والنوم ومعاشرة الناس والكلام واللباس و ... ؟ …سنن كثيرة أحياه جيل الصحوة، ثم ما لبثت أن ضاعت في خضم المشاكل، إنني لا أُسَفِّه من جهود كثير من دعاة الخير لنشر العلم، ولكن فقط أخشى أن نهتم

بالمفضول عن الفاضل، فإننا ينبغي أن نتعامل مع الدين على أنه كلٌ واحد، لا نهتم بمسألة على حساب مسائل أخرى، ولا نقول كذلك إنَّ للدين لبابًا وقشورًا، فنهتم باللباب دون القشور، فتلك بدعة محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، وهي وسيلة خطيرة ماتت بسببها سنن كثيرة فالحق دائما بين طرفي التفريط والإفراط فتأمل. إخوتاه …من السُّنن التي تكاد تكون قد أميتت سُنَّة النتاصح في الله، حدث هذا بسبب عدم تآلف القلوب، فلم تعدْ تقبل منى نصيحة في الله لأنني قد أكون مخالفًا لك في مسألة أو في اتجاه، أمَّا عامة الناس فقد بثوا فيهم سموم الشبهات، وخدعوهم بشعارات الحُرية التي هي في واقع الأمر عبودية للدنيا وذل لأصحابها، لكن القوم مُكِر بهم فإذا نصحت أحدهم في الله قال لك بملء الفم: أنا حرٌ مَالَك بى، مع أنه لو أنعم النظر لعلم أنَّ الذي ينصحه في الله لا يبغي منه شيئًا بل يريد في أفضل حال يريد مصلحته ولكن أكثر النَّاس لا يعلمون. إخوتاه .. …لعمر الله إنَّ تبادل النصيحة في الله تعالى واجب على كل مسلم تجاه أخيه، وهذا مما يقتضيه الحب في الله، وهو من العدل الذي أمر الله به. …يقول ابن العربي ـ رحمه الله ـ: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. …وأمَّا العَدلُ بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى: " وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى " [النازعات/40] وعزوب الأطماع عن الأتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى.

…وأمَّا العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى. أهـ. …آهٍ أين ـ بالله عليكم ـ هذه السنن الموات؟ فأين التناصح لا التفاضح؟! أين الإنصاف لا الإجحاف؟ … أين …؟ وأين ... ؟ إخوتاه .. …دعونا من التباكي على الواقع المر، وتعالوا بنا نفتح صفحة جديدة نجدد بها إيماننا، تعالوا نتناصح في الله على الوجه الشرعي الذي علمناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعالوا نتعاون في الله بإحياء السنة وإماتة البدعة، كل من عرف حرفًا من كتاب أو سنة يسارع إلى أخيه لتبليغه ويأخذ1 كل واحد بيد أخيه إلى صراط الله العزيز الحميد، تعالوا لا نترك سنة حتى نعمل على إحيائها ونشرها فهل من عود حميد؟ …أسأل الله تعالى أن بعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهمَّ اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

ثامنا: شد الأزر وتقوية العزم

لماذا الأخوة؟ ثامنا: شد الأزر وتقوية العزم إخوتاه .. …تعالوا بنا نتأمل ونتدبر هذا المشهد القرآنى الذي قَصَّه علينا رب العزة جل وعلا. …يقول الله تعالى مخاطبًا موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم: " اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا " [طه/24 - 35]. …فانظر كيف فطن موسى عليه السَّلام منذ الوهلة الأولى لثقل الأمانة، وأنَّه لن يستطيع القيام بها دون مساعدة وإعانة، فسأل الله تعالى شرح الصدر وتيسير الأمر بتوفيقه إياه فلا حول ولا قوة إلا به، ثمَّ دعا الله تعالى بأن يجد المشارك له في الدرب الذي يخفف عنه العبء الثقيل الذي وضع على كاهله، أن يجد من يحوطه من ورائه، من يَشد أزره أى يتقوى به فيقيم ظهره وهذا شأن الأخوة فتدبر. إخوتاه .. …لمثل هذا نحتاج الآن نحتاج الوزير الذي يشاركنا في حمل العبء، ونحتاج لمن يشد أزرنا، ويأخذ بأيدينا ويثير فينا بواعث الشوق فيتقوى به العزم، نحتاج لمن ينافسنا في طاعة الله تعالى فيزداد المرء إيمانًا وإكثارًا من الطاعات واشتغالاً بالفاضل عن المفضول، إنَّ مثل هذا المناخ يفرز جيلاً صالحًا، لعله يكون جيل التمكين الذي مازلنا نتلمس وجوده.

إخوتاه .. …كان عبد الله بن رواحة إذا لقى الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: تعال نؤمن ساعة. …وأورد البخارى معلقًا بلفظ الترجمة عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنَّه كان يقول: اجلسوا نؤمن ساعة أو بنا نؤمن ساعة. …فهيا بنا نؤمن ساعة، لماذا لا تشيع هذه السنة المباركة بيننا الآن فيأتى الأخ لأخيه يدعوه لطاعة الله تعالى يأخذه إلى مجلس علم أو حلقة قرآن أو يتنافس معه في الصيام والقيام وتلاوة القرآن فإنَّ هذا باعث على تقوية العزم؛ ولذلك قال تعالى: " وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " [المطففين/26] وقال تعالى: " فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَات " [البقرة/148] وقال تعالى: " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ " [آل عمران/133] ولذلك كان السلف يتألمون إذا رأى أحدهم من يفضلهم في طاعة الله تعالى، وكانوا حريصين على التخلص من الدنيا فأوصوا بترك التنافس فيها (إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فألقها في نحره) فكيف صار الحال الآن؟!! …ولعٌ بالدنيا واشتغال بها عن الآخرة، يبيع الرجل دينه بمتاع زائل، فعامة الناس مهمومون باقتناء الأجهزة الحديثة يريد الهاتف المحمول، يريد الحاسوب، يريد القنوات التلفازية ذات البث المباشر، ويريد آخرون أن يلتحق أبناؤهم بالمدارس الأجنبية، يريد أن يعيش في شقة واسعة والشاب يحلم بالفتاة الجملية والسيارة الفارهة ... إلخ. …هكذا دواليك فيظل المرء منغمسًا في الغفلة، وقد كِيد له ذلك فانصاع، ولم يأل جهدًا في محاولة اليقظة، إنها " صناعة الغفلة " فكيف بالله تجد من يهتم بأمر الآخرة والتنافس فيها في ظل هذا الجو الذي يزكم الأنوف.

إخوتاه .. …إنَّ من السُّبل والوسائل الأساسية لوجود هذه الحياة الإيمانية إحياء الأخوة في صورتها المثلى، تلك الصورة التي رسمها سلفنا الصالح فكانت حياتهم تطبيقًا عمليًا واقعيًا لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كلما مررنا بقضية ذكرناك بالمنهج، إنَّه العود إلى الكتاب والسنة من خلال فهم سلف الأمة، اقتدِ بهم انظر لأمثلة نموذجية من حياتهم وحاول أن تحاكيهم، وهذه الأمور لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، إنها الأصول الأخلاقية التي يبنى عليها دين المرء، والأخلاق لا تقبل التشكل والتغير بحسب العَصْر والمصر. إخوتاه .. …لماذا لا تبدأ من الآن من خلال رفقة من الصالحين في التعاون على الطاعات والتناصح في الله؟ …لماذا لا تكون من أصحاب الهمم العالية فتقول كما كان أبو مسلم الخولاني يعلنها " أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يسبقونا، والله لننافسنَّهم فيه " …آهٍ لماذا لا تكون كذلك؟ هذا ليس كلامًا غير واقعى، فتلك بدعة شيطانية ثبط بها همم المؤمنين، فترى الواحد منهم مخذولا سافل الهمة يقول: كيف أصل لمثل هذه المرتبة هذا حلمٌ ما أبعده. …وإنى واصفٌ لك السبيل فلا تعجز، استعن بالله ـ أُخىّ ـ وأدم الدعاء والتضرع، واصدق اللجأ إلى الله تعالى، وسَلْ الله أن يوفقك لأخٍ في الله تنافسه في طاعة الله، فإياك وصحبة الباطلين الذين يثبطونك ويشغلونك بالدنيا وسفاسف الأمور، بل اختر من الصالحين أصحاب الهمم العالية، واتخذ لك قدوة في الواقع من الشيوخ الأفاضل لتظل صورتهم عالقة في ذهنك، فتقدح هاجس الصعوبة وعدم إمكانية التحقق، وليكن

أسوتك في ذلك كله إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأخيار ومن تبعهم بإحسان من سلفنا الصَّالح ـ رحمهم الله جميعًا ورضى عنهم ـ. إخوتاه …بعد هذه اللمحة اليسيرة عن الأسباب التي دعتنا للحديث عن هذه القضية الخطيرة في حياتنا الراهنة، تعالوا نرى ما أعده الله للمتحابين فيه، تعالوا نقتطف ثمرات الأخوة اليانعة، هلموا نستنشق عبير الحب في الله من خلال رياضه الفوّاحة، والله الموفق.

ثمرات الأخوة

ثمرات الأخوة (وجبت محبتى: للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ والمتباذلين فيَّ). (حديث قدسي)

أولا: أن يتذوق حلاوة الإيمان فيحيا حياة السعداء

ثمرات الأخوة إخوتاه لو صحت لنا هذه الأخوة الإيمانية المرجوة، لو سعينا في زرع بساتينها في قلوبنا لأثمرت فينا حياة أخرى غير تلك التي نحياها، فإنَّ القلوب تحيا وتترابط وتتآلف فيورثها الله من النعيم ما لا يستشعره إلا من ذاقه. فمن ذلك: أولا: أن يتذوق حلاوة الإيمان فيحيا حياة السعداء. قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (¬1) فحينئذٍ يستشعر لذة الطاعة وتحمل المشقة في رضى الله ورسوله وإيثار ذلك على عرض الدنيا، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يجد طعم الإيمان كذوق الفم طعم العسل، ولا ينال المرء هذه الثمرة حتى تتحقق فيه ثلاث خصال ترجع إلى واحدة أعني إيثار الله ورسوله على كل شيء فلا شيء أحب إليه من الله ورسوله، ولا تعلق له بأي إنسان إلا من خلال الحب في الله، ولا أكره إليه من حياة الجاهلية والكفر والعصيان، حينها يباشر قلبه ما يعجز اللسان عن بيانه فإنه لا يحتمل الوصف بل لابد أن تمر بك هذه المشاعر حتى تعرف مدى روعتها وجمالها. ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (16) ك الإيمان، باب حلاوة الإيمان ومسلم (43) ك الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.

ثانيا: أن يحيطه الله تعالى برحمته، ويقيه عاديات وشدائد يوم القيامة

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. ثانيا: أن يحيطه الله تعالى برحمته، ويقيه عاديات وشدائد يوم القيامة. قال - صلى الله عليه وسلم -: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم - " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة " (¬2) فمن أدى حقوق الأخوة أحاطه الله بعنايته ورعايته. ثالثا: نيل الأمن والسرور وأن الله يظله بظله يوم القيامة. فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظله إلا ظله "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" (¬3) رابعا: الأمن من الوقوع فى الشرك فلا يتسرب إلى من يحب في الله الإشراك بالله جلا وعلا، فلا يقع في الشرك ـ أعنى شرك الأنداد ـ. قال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ " [البقرة / 165]. فالذي يحبك في الله يحبك لأنك عبد الله، أمَّا الآخر فقد يحبك كحب الله أو ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2699) ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. (¬2) الحديث السابق. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري (660) ك الأذان، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلة وفضل المساجد ومسلم (1031) ك الزكاة، باب إخفاء الصدقة.

خامسا: أن يرزق العبد محبة الله

ربما أكثر، فيحبك؛ لأنَّك تشترك معه في معصية أو نحو هذا، فربما يشرك بذلك. فالموحد هو الذي يحب لله، فحبه نابع من حبه لله، من طاعتك لله، فإذا عصيت الله أبغضتك في الله، وبذلك ينضبط التوحيد في قلبك، وهذا هو حقيقة " الولاء والبراء " وهذا من أغلى الثمرات وأعظمها " ثمرة التوحيد". خامسا: أن يرزق العبد محبة الله. قال الله تعالى في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ " (¬1) سادسا: زيادة الدرجات في الجنة حتى يصل لمنازل الأبرار. أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي عن أبى مالك الأشعرى - رضي الله عنه - أنه قال: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قضى صلته أقبل علينا بوجهه فقال: " يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أنَّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى نبى الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا نبي الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لنا ـ يعنى صفهم لهم ـ فسُرَّ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسؤال الأعرابي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يصنع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 233/247)، والطبراني في الكبير (20/ 80،81)، والحاكم في المستدرك (4/ 186) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن حبان في =صحيحه (2/ 335) برقم (575) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (4331).

سابعا: اطمئنان القلب والأمن من أهوال يوم القيامة

يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (¬1). انظر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تحابوا في الله وتصافوا " صارت قلوبهم صافية، ليس فيها غل ولا حقد ولا ضغينة ولا بغضاء ولا شحناء ولا حسد لأحد من المسلمين؛ فيرفع الله درجاتهم في الجنة بذلك، وهذه من الثمرات العظيمة للأخوة. سابعا: اطمئنان القلب والأمن من أهوال يوم القيامة قال الله تعالى: " الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " [الزخرف / 67ـ68]. ثامنا: النجاة لكل من تمسك بهذه العروة الوثقى. قال - صلى الله عليه وسلم -: " أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله " (¬2) تاسعا: صفاء السريرة ونقاء القلب. قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان" (¬3) فإنَّ الحب في الله يدل على كمال الدين، ويثمر ذلك من صفاء السريرة واتقان العمل والخوف من الله، وتقديس كتبه وحب سنة نبيه ما يزيد الإيمان ويبعث على نقاء وسلامة القلب. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 343)، والحاكم في المستدرك (4/ 188) وصححه ووافقه الذهبي عن أبى مالك الأشعرى. وبنحوه الطبراني في الكبير (3/ 290) عن أبى الدرداء وقال الهيثمي في المجمع (10/ 77): رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 215) برقم (11537) وحسنه الشيخ الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة (1728) (¬3) 3 تقدم تخريجه.

كيف نعمق أواصر الأخوة؟

كيف نعمق أواصر الأخوة؟ أولاً: حسن الظن وقبول الظاهر. ثانياً: الإغضاء وعدم الاستقصاء. ثالثاً: النصيحة للإصلاح. رابعاً: إنهاء الجدال والمراء حالاً. خامساً: إعدام الاختلاف. سادساً: سد باب النقل، ورد قالة السوء. سابعاً: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح. ثامناً: دوام الصلة والتزاور في الله. تاسعاً: قضاء الحوائج وتفقد الإخوان. عاشراً: بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى.

حسن الظن وقبول الظاهر من صَدق في أخُوَّة أخيه: قَبلَ عِلَلَه، وسدَّ خَلَلَه. وعفا عن زَلَلِه (الإمام الشافعي)

أولا: حسن الظن وقبول الظاهر.

كيف نعمق أواصر الأخوة؟ إخوتاه .. لا بد من نية صالحة - كما تعاهدنا - ننوي أن نحقق هذا المعنى العظيم معنى الأمة في حياتنا، نريد توثيق عروة الأخوة، نريد إحياء روح الأخوة، نريد أن نكون بالفعل متحابين حتى تقوم للإسلام أمة، وعلى الدرب خطوات، فأول ذلك: أولاً: حسن الظن وقبول الظاهر. الظن ـ إخوتاه ـ من أكبر العقبات التي تحول بين ترابط المسلمين فيما بينهم فإياك وإياه. يقول الله جل وعلا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ " [الحجرات /12] قال علماؤنا: إن الغيبة من الكبائر، وهي من أعظم المحرمات عند الله، وغيبة المسلم تنشأ عن التجسس عادة، وسبب التجسس الظن فهي مراتب بعضها فوق بعض. مثلاً: بعض الناس يمضي في طريقه فإذا به يرى من يختبئ وراء الجدار، فتستشرف نفسه الدخول فيما لا يعنيه، فيعود ويتلصص لينظر ماذا يصنع هذا الرجل فربما يرى ما يسوء، أو ما قد يعجز عن تفسيره فيقع في الغيبة. هكذا سد الباب من البداية فمن حسن إسلام المراء تركه ما لا يعنيه، وإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، لذلك كان الأصل في الإسلام أن تحسنَ الظن بأخيك، وتُسيء الظن بنفسك، وهذا عكس ما هو حاصل في هذه الأيام، فتجد من

يحسن الظن بنفسه إلى أقصى درجة وكأنه المعصوم، ويسيء الظن بإخوانه لأقل شاردة أو واردة، لأجل هذا دبت الفرقة، وعمت البغضاء والشحناء بين إخوة الإسلام. إخوتاه .. أحسنوا الظن بإخوانكم، فنفسك الأمارة بالسوء هي التي توقعك في هذه المهالك، ترى من يستأذن أخاه ليتكلم على انفراد بشخص ما لأي سبب كان، فتبدأ الوساوس والهواجس تلعب دورها فيتخيل أنه يتكلم عنه وأنه يقع فيه أو .. أو .. الخ، فيحاول أن يتجسس، ويسأل غيره عما يدور بين الرجلين، وشيئاً فشيئاً يبدأ في اغتيابه. إخوتاه .. سوء الظن لا يحل استعماله في الدين، فلا تدع المحكم من المنقول والصريح لما تشابه عندك، هذا - تالله - شأن كل مبطل، الأحرى بك أن تكون وقافاً عند الشبهات، تتقي الوقوع فيها " فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " (¬1) عليك أن تؤول كلام أخيك على مدلوله الخير إذا كان اللفظ يحتمله، فإن النفس الطيبة لا تبصر إلا ما كان طيباً، والنفس الخبيثة هي التي تقف عند كل خبيث لا تكاد تبصر غيره. إخوتاه الإسلام دين الجمال والكمال، وقد حرص على صيانة عرض المسلم غاية الصيانة من الظن المجرد عن الدليل، الظن الذي لم ينبنِ على أصل وتحقيق نظر؛ لذلك أمرنا الله بالتثبت. قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا ¬

(¬1) متفق عليه - جزء من حديث - أخرجه البخاري (52) ك الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه. ومسلم (1599) ك المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ـ واللفظ له -

بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " [الحجرات /6] وفي القراءة الأخرى " فَتَثَبَّتُوا ". قديماً كنت لا أفهم هذه الآية على وجهها، فأقول: إذا جاءني عدلٌ فأخبرني بشيء ما عن أخٍ لي فليس هو بداخل في هذه الآية، فقال لي بعض مشايخنا: لا إن الله سمى النمام فاسقاً، فكل من جاءك بنبأ يترتب عليه إفساد ذات البين فهو فاسق، سماه الله فاسقاً ابتداءً فوجب التثبت والتبين في كل ما حمله من أخبار، لما سوف ينتج عن هذا من إفساد بين المسلم وأخيه. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إياكم والظن فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " (¬1) اللهم صلِّ على النبي محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً، هذه معالم عظيمة جداً يضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام المسلم لكي تنضبط العلاقات الأخوية بين المسلمين. يقول: " لا تجسسوا ولا تحسسوا " فينبغي أن تكون سليم الصدر، لماذا تبحث عن عورات المسلمين؟!! يقول - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر من آمن بلسانه ولم تؤمن قلوبهم لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة المسلم تتبع الله عورته " (¬2) ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (6064) ك الأدب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2563) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها. (¬2) أخرجه أبو داود (4880) ك الأدب، باب في الغيبة، والإمام أحمد (4/ 421)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (7984).

انتبه ـ أُخَىّ ـ إن الله حيى ستير يحب الستر "ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة " (¬1) أليست هذه المعاني مطلوبة في حياتنا الآن؟! لماذا تترك الجوانب الجميلة الطيبة وتبحث وتفتش وتلتقط أشياء لا تدرك إلا بالمناقيش؟!، كل هذا لتقع على الذنوب والعيوب. ما الذي يحملك على هذا؟ لا شك أنَّه سوء الظن، فلو تخلصت من هذا في البداية ما وقعت في هذا البلاء، وارتكبت كل هذه الآثام؛ ولأجل هذا أحسنْ الظنَّ، فلعله أساء التعبير حين قال بكلمةٍ حملتها أنت على محمل سوء، لعله أساء التصرف لقلة خبرته فظننت أنه تعمد هذا الصنيع الذي تراه سيئاً، فما زلت تعذر أخاك تقول: لعله ... لعله حتى يفضي بك ذلك إلى حسن الظن وسلامة الصدر. انظر إلى الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ وقد دخل عليه تلميذه الربيع بن سليمان في مرض موته فقال: قوى الله ضعفك يا إمام. فقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: انظر ماذا تقول لو قوَّى الله ضعفي لقتلني (يعنى لو زاد ضعفي أموت). قال الربيع: والله ما قصدت يا إمام، قال: والله لو شتمتني لعلمت أنك لم تقصد. إنه حسن الظن في المسلم، أراد الشافعي أن يلقننا هذا الدرس وهو على فراش موته. وقيل لميمون بن مهران - وهو أحد أئمة الحديث العظام ـ: إنَّ فلان يستبطئ نفسه في زيارتك. (فهذا الطفيلي أراد أن يوقع بين الشيخ وبين أحد تلامذته لما يكون من المنافسة بين الأقران) فقال ميمون ـ رحمه الله ـ: لا عليك إذا ثبتت المودة في القلب فلا بأس ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم (2699) ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

وإن طال المكث. وسيأتي - بإذن الله تعالى - أنَّ من أسباب تعميق أواصر الأخوة سد باب النَّقل ورد قالة السوء. الشاهد أنَّه ينبغي إحسان الظن بالمسلمين، فتقول مثلاً: هذا صرفه حياؤه عن حضور الدرس؛ لأنه لا يحب أن يراه الشيخ متأخراً، أو تقول: سبحان الله لعله شُغِل، لعله ألمَّ به شيءٌ، وإذا وجدت أخاك الذي اعتاد حضور الدروس معك قد غاب مرة بعد أخرى، فبدل أن يقع في قلبك أنه تنصل من الالتزام، وعاد إلى ما كان عليه من جاهلية، عليك أن تحسن الظن به، وتذهب لتراه وتسأل عنه وتشعره بمدى اهتمامك به، هذه الروح هي المطلوبة. فإذا بلغك عن أخيك شيء يكرهه فالتمس له الأعذار، التمس لأخيك عُذراً من سبعين عذر، فإن لم تجدْ فقل: لعل له عذراً لا أعرفه. فربما هناك من الأشياء ما خفي عنك، وللناس أسرار لا يعلمها إلى من يعلم السر وأخفي. إخوتاه سوء الظن - في علم التربية - مثل الحامض الذي يُذيب ما يوضع فيه، فسوء الظن كذلك يذيب الحب من القلوب. انظر لهذه الصورة المشرقة من حياة سلفنا الصالح، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لما عانى الأمَرّين بسبب مخالفته للأعراف والعادات والتقاليد التي تصطدم مع تعاليم الشرع؛ لذلك كانت الدنيا تقوم عليه ولا تقعد؛ لمجرد مخالفته لأعراف الناس حينئذٍ في مسألة من المسائل. الشاهد أنَّ بعض الناس تحايل على شيخ الإسلام، واستعدى عليه السلطان فسجنه في قلعة دمشق، وعرف شيخ الإسلام أنَّ فلاناً كان السبب وراء ذلك، فأرسل إليه

تلاميذُه رسالة يطلبون منه الرأي في كيفية التصرف معه. انظر كيف كان رد شيخ الإسلام حتى تتعلم كيف كانت أخلاق هؤلاء الأكابر. قال لهم: وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي، فتعلمون ـ رضى الله عنكم - أنِّي لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا. (يعلمنا هنا درساً غالياً، إنه يسمى الرجل الذي وشيء به صاحباً، فهو عنده شيخ داعِ إلى الله، فلا يرضى أن يؤذيه أحد، كيف وهو لا يرضى أن يؤذى أحد العامة حتى هؤلاء الذين يقعون في عرضه، فكيف بالعلماء والدعاة). ثم يقول: لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين بشيء لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كلٌ بحسبه، ولا يخلو أن يكون الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً أو مذنباً، فالأول مشكور مأجور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث: يغفر الله لنا وله ولسائر المسلمين، قال: فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل. آهٍ .. أي رجل كان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: علينا أن نترك الكلام الذي يتعارض مع هذا الرجل كأنْ يقال: فلان قصَّر، فلان ما عمل شيئاً لنصرة الشيخ، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان وراء هذه القضية ونحو هذا من الكلمات التي يُذم فيها بعض الأصحاب والإخوان، فهو لا يسامح من يؤذيهم في هذا الباب، فمثل هذا يعود على قائله بالملام إلا أن يكون له من حسنة ماحية والله يغفر له إن شاء. هذه الروح الجميلة لو سرت فينا لقامت أمة الإسلام من جديد، فلا تجد ضغينة، ولا تباغض، ولا تعارك. إخوتاه اتقوا الله في الدعاة والعلماء، إن شرذمة من الناس تحب أن تشيع الضغائن في

قلوب الدعاة والعلماء بعضهم من بعض. حدث مرة أن اختلف أحد الدعاة مع أخيه فتدخلت لحل الخلاف، والمشكلة كانت يسيرة، لكن أحد الأخوة أخذ يقول: لا يا شيخ، لا يمكن أن تقبل، هذا دين .. كيف .. ؟!! مثل هذا يريد أن يشعلها ناراً، يا أخي فلتقل خيراً أو لتصمت، وهذه مصيبة النقل في عصرنا - فاللهم إليك المشتكى - إخوتاه وعلى الجانب الآخر هناك نماذج مشرقة، كنت عند الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ فجاءه أحد الأخوة وأخذ يعدد له أسماء الدعاة وأهل العلم ويقول للشيخ: فلان يلقى عليك السلام، وفلان يُقرؤك السلام وهكذا. فلما انفضَّ المجلس قلت لأخينا هذا: أرأيت كل هؤلاء؟!! فقال: سبحان الله إنَّهم يقولون في كل صلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، والشيخ من عباد الله الصالحين - نحسبه كذلك ولا نزكى على الله أحداً - هذا من تأليف القلوب، هذا من تجميع القلوب، لا أن تحصد العداوات وتسير في إيقاظ نار الفتن. إخوتاه قبل أن ننتقل إلى سبب آخر لتعميق أواصر الأخوة، أحب أن نقف مع كلمات جليلة لشيخ الإسلام. يقول: فسبحان الناشر على الخاطئين جناح ستره، والكاشف الضر الذي بيده عاقبته، والمجيب الدعاء برحمته التي بالتوفيق أنطقت، والمنعم قبل الاستحقاق بنعمته سبحانه.

سبحانه كم سيئةٍ قد أخفاها حلمه حتى دخلت في عفوه، وكم حسنةٍ ضاعفها فضله حتى عظمت عليها مجازاته، ورحم الله عبداً وقف على سهو أو خطأ من أخيه فأصلحه عاذراً لا عازلاً، ومنيلا لا نائلاً، فليس المرء بعيداً عن الخطأ إلا من وقى الله سبحانه وعصم فلا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه نسأل الله - عز وجل - أن يؤلف بين قلوب المسلم (¬1) ولعل هذه الكلمات خير تلخيص لمسألة " حسن الظن " فأسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الظن بالمسلمين، وأن يمنَّ علينا بفضله فلا ترى أعيننا إلا خيراً. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (28/ 52 - 57).

الإغضاء وعدم الاستقصاء حقيقة المحبة فى الله: أنها لا تزيد بالبرِّ ولا تَنْقُصُ بالجفاءِ (يحيى بن معاذ)

ثانيا: الإغضاء وعدم الاستقصاء.

السبب الثاني لتعميق أواصر الأخوة الإغضاء وعدم الاستقصاء. والمقصود بهذا أن تغض طرفك عما تجد من عيوب إذا كان الفضل أعظم؛ لأنَّه ما من إنسان إلا وفيه عيب، والمعصوم هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء، أما بقية البشر فليسوا بمعصومين، بل لا بد لهم من خطأ وزلل. قال الله تعالى: " ولَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا " [طه/115] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل ابن آدم خطاء " (¬1). ويقول سعيد بن المسيب (سيد التابعين): ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وُهِبَ نقصه لفضله. وهذه من القواعد المهمة التي ينبغي أن نلتزمها وتربى عليها الأجيال ليكون القرن القادم هو قرن الإسلام بإذن الله تعالى، وذلك أنه ينبغي أن نتحلى بالحكمة فنضع كل شئ في محله فبدايةً: علينا أن نكون أصحاب أصول وثوابت ومنطلقات وقواعد فلا نكون كل يوم برأي وكل سنة بمنهج، وإذا لم يكن ذلك فسوف نتخبط وسط الآراء والخلافات، ولا يتضح الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، وحينئذٍ قد يحيد بعض أصحاب الفضل عن أحد هذه الأصول أو الثوابت، فهذا عندنا لا يشينه ولا يقلل من قدره، بل نهب نقصه إلى فضله وتنتهي القضية. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2499) ك صفة القيامة وقال: حديث غريب، وابن ماجه (4251) ك الزهد، باب ذكر التوبة، والإمام أحمد (2/ 198) والحاكم في المستدرك (4/ 244) وصححه، وتعقبه الذهبي فقال: بل فيه لين، وقال في موضع آخر: فيه ضعف، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: فيه علي بن مسعدة ضعفه البخاري اهـ. لكن انتصر ابن القطان لتصحيح الحاكم، وقال ابن مسعدة: صالح الحديث وغرابته إنما هي فيما انفرد به عن قتادة، والحديث حسنه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه (3428)

فالمسائل المجمع عليها، ومسائل العقيدة، والمسائل التي تعتمد على سد الذرائع، أو التي هي في الأصل لدرء المفاسد. هذه ينبغي ألا نبحث فيها، فتلك ليست قضيتنا، وإلا إذا مَيّعنا جميع القضايا فلن تثبت قدم، بل ستزل الأقدام بعد ثبوتها، وتقع في دائرة الشك الذي لا نهاية له. من هذه الثوابت تبجيل السلف وتقديمهم فلا نسمح بالطعن في أحدٍ منهم، نقول: أن الذين يسبون الصحابة ضُلال، كيف وقد نهانا رسول الله عن سب أصحابه فقال: " لا تسبوا أصحابي " (¬1) فنقول: إن علياً ومعاوية كانا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز إلا إحسان الظن بهما، وإن كنا نقدم علياً - رضي الله عنه - ونوقن بأنه أفضل من معاوية - رضي الله عنه -، ولكن هذا لا ينقص من فضل معاوية - رضي الله عنه -، ولا يجيز الطعن عليه. نقول: إن الذين يتهمون أبا هريرة هم الكذابون الأفاكون، وإن الذين يتنكرون لسنة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - من المبتدعة الضُّلال، وهم على شفا هلكة والعياذ بالله. ثم علينا ثانياً: أن نكون منصفين فلا نجاوز الحد، فإذا أخطأ أحد الأفاضل في مسألة ما، وقد يكون مخالفاً لأحد هذه الثوابت المستقرة عندنا فنقول: فضله يغلب نقصه وزلَله، فمن الناس من لا ينبغي أن يذكر عيبه لما له من فضل، مثلاً فضيلة الشيخ ابن باز - رحمه الله - له فضل ومكانة عظيمة، وقد نفع الله المسلمين به طيلة عمره، وكان كالحصن الحصين على ثغرة من ثغرات الإسلام، لكن عندما جاءت مسألة الاستعانة بالكفار قلنا: أخطأ، ولكن للرجل تقديره وشأنه الذي لا ينبغي أن يتزعزع في صدور المسلمين، لما له من أيادٍ عظيمة .. وانتهت القضية. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3673) ك المناقب، باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً - واللفظ له - ومسلم (2540) ك فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة.

نعم ـ إخوتاه ـ الإغضاء وعدم الاستقصاء يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اتق الله - عز وجل - ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإياك والمخيلة فإنَّ الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة، وإنْ امرؤ شتمك وعَيَّرك بأمر يعلمه فيك فلا تعيره بأمر تعلمه فيه، فيكون لك أجره، وعليه إثمه، ولا تشتمن أحداً " (¬1) سبحان الله لو حفظنا أولادنا من سن الرابعة مثل هذه الأحاديث لخرج فينا جيل متأدب بآداب النبوة. والحديث فيه فوائد عظيمة، بداية من الحث على فعل الطاعات مهما قل شأنها في عين البشر، فهذا يعطي أخاه كوب ماء ويؤثره على نفسه فيكتب الله له الأجر لمعروفه هذا. وفيه نهي عن الكبر والخيلاء لما فيه من عبودية للمظاهر " تعس عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة " (¬2) ثم يعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الأدب العظيم - وهنا محل الشاهد - فلو سَبَّك شخص أو عَيّرك فعليك أن تتغاضى عن مثل هذا حتى لا تقع في الوزر إذا أردت أن تتشفى لنفسك فتعيره بما هو فيه من العيوب والخلل. وقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - جالس فأخذ رجل يسبه ويشتمه، وما يزيده جهل هذا الرجل إلا حلماً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلما زاد الرجل في جهله أراد أبو بكر - رضي الله عنه - أن يرد على الرجل فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبره بعد ذلك أن الله بعث ملكاً كلما كان الرجل يسب أبا بكر - رضي الله عنه - كان يقول: بل أنت، وكان أبو بكر ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 63)، وابن حبان في صحيحه (2/ 279)، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله _ في الصحيحة (770) وصحيح الجامع (98). (¬2) جزء من حديث، أخرجه البخاري (2887) ك الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله.

كلما سبه الرجل يقول له: يغفر الله لك فكان الملك يقول لأبى بكر بل أنت وأنت أحق به، فلما همَّ بالرجل انصرف الملك وحل محله الشيطان (¬1) إننا نريد هذا السلوك القويم " التغاضي عن جهالات الناس " لأنَّك لا تعاملهم بل تعامل ربهم، وربك لا يحب أن تغضب لنفسك، وعلى الجملة يرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدم سب أي إنسان كائناً من كان. إنك لن تجد إنساناً كاملاً فلا بد له من عيب، وإذا استقصيت في البحث عن مثل هذا فلن تظفر به في الوجود، فليس بمعصوم إلا من عصمه الله، والكمال المطلق لله وحده. من هنا فليس المقصود أن يكون أخوك من تكاملت صفاته الظاهرة والباطنة، بقدر ما يكون المطلوب أن تتوافر فيه الصفات التي تصلح بها المعاشرة، أعني شروط صحة الأخوة، فتنتفي بوجودها أسباب الملل والقطيعة، فإنَّ توافر الخير كله في إنسان عزيز قليل الوجود، والنادر لا حكم له، فلا يكاد يوجد إلا في الموفقين وهم قلة قليلة. اللهم اجعلنا من عبادك الموفقين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى. إخوتاه عليكم أن تتحلوا بشيء من الإغضاء ولا تستقصوا في معرفة أدق التفاصيل والصفات، كان بعض السلف إذا مضى إلى درس شيخه يُخرج صدقة، ويقول: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني، أما الآن فتجد من يتتبع العورات، ويتفقد الأخطاء، هذه والله نية فاسدة. جاءني أحد الشباب فقال لي: إن الإمام النووي مبتدع، قلت: أعوذ بالله كيف هذا؟ قال أنت قرأت صحيح مسلم بشرح النووي؟ قلت: الحمد لله قال: قرأته كم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4896) ك الأدب، باب في الانتصار، والإمام أحمد (2/ 436) وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (2376).

مرة؟ قلت: كذا، قال: عليك أن تقرأه مرة أخرى لكن هذا المرة بعين النقد والبحث عن الأخطاء. قلت: معاذ الله أن أصنع هذا، نحن نقرأ لنتعلم ونتعبد وتتنزل علينا رحمات ربنا، نقرأ لنعبد الله على بصيرة، نقرأ لنتعلم ونُعلم الناس، لكن نقرأ من أجل تخطئة فلان من أهل العلم، هذه نية فاسدة، فإن وُجد خطأ نقول كما قال شيخ الإسلام: مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. قال - صلى الله عليه وسلم -: " أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا الحدود " (¬1) فالإمام النووي والقرطبي وابن حجر العسقلاني من ذوى الهيئات، فينبغي أن نقيل عثراتهم، نعم أخطأ من أخطأ منهم في مسألة التأويل، ووافقوا قول الأشاعرة لكن نقول: يغفر الله لهم، ألم نقل: إنَّ من الناس من لا ينبغي أن يذكر عيبه لما له من فضل فنهب نقصه لفضله. وأصحاب الهيئات كما يقول الشافعي ـ رحمه الله ـ إنَّهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة، فتغفر له زلته، ولا تذكر، ولا يُشَنّع بها عليه.، " إلا الحدود " فلا شفاعة في حد من حدود الله. إخوتاه قال عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني: كنا في مجلس عبد الرحمن بن مهدى (وهو من المحدثين الأكابر وشيخ الإمام البخاري) إذ دخل عليه شاب فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه. فقال شيخٌ في المجلس فقال: يا أبا سعيد هذا الشاب يتكلم فيك حتى إنَّه ليكذبك. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4375) ك الحدود، باب الحد يشفع فيه، والإمام أحمد (6/ 181)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 43)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في الصحيحة (683) وصحيح الجامع (1185).

فقال عبد الرحمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " [فصلت /34ـ35] فانظر كيف عالج القضية إنَّه الرد بالحسنى، اعقل هذا ـ أخي ـ عن سلفنا الصالح حتى تعرف كيف تعيش بمنهج السلف وتمضى على إثره. ثم ساق عبد الرحمن سنده فقال: حدثني أبو عبيدة الناجي قال: كنا في مجلس الحسن البصري إذ قام إليه رجلٌ فقال: يا أبا سعيد إنَّ هنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك. فقال الحسن: يا هذا إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إنِّي لما رأيت الناس لا يرضون عن الله علمت إنَّهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم. أ. هـ فإذا كان الناس يتكلمون في حق الله جل وعلا فكيف بالمخلوقين؟!! هكذا تعالج القضية، فليس لنا أن نتكلم في شأن غيرنا إلا بالحسنى، فإن وقع فينا أحد، فالعلاج هو أن ترد السيئة بالحسنة فتدعو لمن أساء إليك. وإذا أنت اتقيت الله ـ جل وعلا ـ? يحول القلوب إلى حبك، فالقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء. عن سعيد بن عبد العزيز قال: إن رفيقاً لحبيب بن مسلمة ضاق يوماً عن شيء. (أي أن أخلاقه ساءت في شيء ما). قال حبيب: إن استطعت أن تغير خلقك بأحسن منه فافعل وإلا فسيسعك من أخلاقنا ما ضاق عنَّا من خلقك. إخوتاه إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. قال محمد بن محبوب: كنا عند عبد الله بن الطالب التميمي المكي المالكي يوماً

فخاطبه بعض أهل مجلسه بخطاب خشن، لم يخاطب مثله بمثله، فتمادى ابن الطالب في مكالمته كأنَّه ما سمع مكروهاً فقام الرجل وذهب. فقال ابن الطالب: رأيت نظر بعضكم إلى بعض، فقلت في نفسي رجل قصدني يؤدى الذي يجب من حقي هنا، عليه أصول، عليه بسلطاني والله إن هذا لهو اللؤم. (¬1) أراد ـ رحمه الله ـ ? أن هذا الرجل الذي جاء يشتمني أتاني، وهو يعلم أنى لن أخطأ في حقه، فلما كنتم حولي استكثر بكم فأرد عليه، فهذا هو اللؤم. فانظر كيف كان كرم أخلاقهم حتى وسعت صدورهم جهالات الناس وسفههم. إخوتاه قال ابن مراد تكلم عبد الله بن عياش بكلام أساء به إلى عمر بن ذر (¬2) فقام إلى منزله ? وكان عبد الله ابن عمه ?، فندم ابن عياش لما بدر منه فأتى عمر فقال: أيدخل الظالم؟!! فقال عمر: نعم مغفوراً له، والله ما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. فصارت مثلاً سائراً. هذا هو الإغضاء حتى لا تدع في النفس شائبة تجاه أي إنسان، فقط عليك أن تعامله بالحسنى، أن تدعو الله له، أن تطيع الله في نفسك فلا تتشفى، وتطيع الله في غيرك فلا تعامله بنظير عمله، واعلم أنَّه في الأول والآخر أخوك فلا تبتئس!! قال الجاحظ [في الترفق بالصاحب واحتماله]: " لا تكوننَّ لشيء ممَّا في يديك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً منك بالأخ ". (¬3) ¬

(¬1) انظر ترتيب المدارك في ترجمة أصحاب الإمام مالك للقاضي عياض. (¬2) وهو من زهاد التابعين وكان ذاكراً لله تعالى واعظاً يعظ الناس ويذكرهم. (¬3) نفح الطيب [4/ 67].

يريد أن أغلى ما تملكه هو أخوك فلا تفرط فيه أبداً، فليس بخطأ يُبعد ويُهجر، بل اثبت عليه، فإنَّنا بحاجة إلى الأخوة ثم يقول: " الأخ الذي بلوته في السراء والضراء فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناصيته، فإنَّما هو شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك، وهو توأم عقلك، إذا صفا لك أخٌ فكنْ به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدن لك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما، فإنَّ نفسك التي هي نفسك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد فكيف بنفس غيرك " أهـ يريد أن أخاك إذا ساءك منه خلق فلا تتركه لأجل ذلك، فأنت تجد في نفسك أشياء كثيرة لا ترضيك وتصبر عليها، فكما صبرت على نفسك فصبراً على أخيك. قالوا: بحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره؛ لذلك قال أكثم بن صيفي: من لك بأخيك كله. وقال النابغة الذبياني: ولست بمستبقٍ أخاً لك لا تَلُمُّه… على شَعثِ أي الرِّجَال المُهَذَّبُ إخوتاه هل تريدون من إخوانكم أن يكونوا على أكمل صورة في مخيلاتكم؟!! هل تظنون أنكم ستجدون الأخ العابد الزاهد العالم أو طالب العلم المتواضع الكريم المنفق الصوَّام القوام، ذا الوجه الطلق، الذي تجده دائماً بجوارك، فمن أين لكم بهذا وأنتم لا تتصفون بكل ذلك؟ ولذلك نقول: عليكم بالإغضاء وعدم الاستقصاء، ولينشغل كلٌ منا بعيب نفسه. يقول رجاء بن حيوة [وزير عمر بن عبد العزيز]: " من يؤاخى من الإخوان إلا

من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لا يرضى من صديقه إلا بإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه ". (¬1) لذلك جاء عن بعض السلف أنَّه أغضب أخاً له فجاءه يقول: جئتك لنتعاتب، فقال: لا تقل هكذا بل جئت لنتغافر ونتسامح، بل نسيتُ فنسيتَ. قال الرجل لأخيه: إني أحبك في الله، قال: لو علمت ذنوبي لأبغضتني في الله، قال: لو علمت ذنوبك لمنعني من بغضك في الله علمي بذنوبي. على مثل هذا ينبغي أن تكون نفسيات الأخوة ويكون التعامل بمثل هذه الطريقة لماذا لا؟!! ما كان حسناً فأهده إلى نفسك، وما كان غير ذلك فألقه، ولا تقم له وزناً، فلا يؤلمنَّك مساوئهم فتنسى محاسنهم، من كانت حسناته أكثر من سيئاته دخل الجنة على ما كان منه. فلماذا لا يكون هذا هو منهجنا، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته فذلك هو الرجل الذي يستحق أخوتك، فما بالذنب الواحد يهجر الخلان، فالروضة الحسنة لا تترك لموضع قبر، فالحديقة الغناء المليئة بالزهور النضرة والجمال الفتان والطبيعة الخلابة لا تترك لمجرد وجود قبر في وسطها فلا يجوز التنزه فيها. فهذا الإنسان الذي وقع في زلل يسير لا ينبغي هجره، بل نقول ?: " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين " [هود 114] ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق (5/ 317).

قواعد في الحكم على الناس

قواعد في الحُكم على النَّاس وقبل أن ننتقل إلى سبب آخر لتعميق أواصر الأخوة، ينبغي أن نضع هذه القضية الخطيرة " تصنيف الناس والحكم عليهم " في ميزانها الشرعي، وذلك من خلال ثماني قواعد. القاعدة الأولى: الإنسان يوزن بحسناته وسيئاته. قال تعالى: " فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون " [المؤمنون/102ـ103] فأخبرنا الله ـ جل وعلا ـ أن من كانت حسناته هي الراجحة على سيئاته مع الندم على السيئات كان على سبيل النجاة، وطريق الفوز والفلاح، ومن مالت سيئاته بحسناته كان الهلاك والعذاب أولى به. وهنا فوائد مهمة ينبغي علينا أن نحفظها جيداً، فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين. قال تعالى - في وصف المتقين -:? "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون ?" [آل عمران/135] فالتقي قد يقع في كبيرة، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} ?كبيرة من الكبائر {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} صغيرة من الصغائر، لكنهم يتوبون سريعاً حال يقظتهم من غفلة المعصية فلا يصرون على فعل المعاصي، بل يستغفرون الله على فعلهم. يقول الإمام الذهبي في (مقدمة ميزان الاعتدال): " ليس من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ، فالكامل الذي ليس فيه شيء عزيز نادر الوجود ".

يقول ابن الأثير في (اللباب في تهذيب الأنساب): " إنَّما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء ". وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سبقت ناقة اليهودي ناقته فقال عليه الصلاة والسلام: "حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" (¬1) والأمثلة الحية كثيرة، فاللهم ارحم الموحدين من المؤمنين. إخوتاه هذا الميزان ينبغي أن نطبقه مع إخواننا ومشايخنا، فلا نغلوا فيهم، ولا نبخسهم حقهم لمجرد هفوة أو زلة صدرت من أحدهم، فالمرء يوزن بتقواه، ومن كثرت حسناته تغوضي عن سيئاته. استمع لكلام سلفنا وتذكر قول الإمام الشافعي: " إني لأظفر بالمسألة لم أكن قد سمعتها من قبل، فأود لو أن كل جسمي آذانٌ ليستمتعَ جسمي كما استمتعت أذني. يقول الإمام الذهبي ـ والذهبي ذهبي الكلام ـ " إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه للحق يغفر له زلَله، لا نضلله، ولا نطرحه، ولا ننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك " أهـ لذلك علينا ألا نشهر بأحدٍ، ولا نبالغ في إفشاء ستره، فلو فتح هذا الباب لما سلم لنا أحدٌ من الأئمة والدعاة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون. مثلاً: ضعف بعضهم الإمام البخاري فيرد ابن حجر - رحمه الله - فيقول: ومن ضعفه فهو الضعيف. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2872) ك الجهاد والسير، باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

القاعدة الثانية: التحري والتصور لجميع حال ذلك الإنسان.

إخوتاه يقول الإمام السبكي: " من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فإنَّا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة ". (¬1) فهذا هو الأصل ليس صنف من الناس إلا وفيه عيب، فمن ذا خلص من الآفات، ومن ذا صفا من الكدورات، فاللهم اجبر نقصنا، واغفر زللنا إليك يا رب المشتكى. القاعدة الثانية: التحري والتصور لجميع حال ذلك الإنسان. يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: " إن الذي يتصدى لضبط الأفعال والأقوال والرجال يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه لا يكتفي بالقول الشائع " أهـ مثلاً: تجد من الإخوة من يحضر درساً فينقل عن الشيخ كلاماً ربما لم يقله، أو فهمه بطريق الخطأ، في مثل هذه الأحوال ينبغي أن تتحرى فتسأل الشيخ أو الثقات الأثبات حتى لا تنتشر المقولات الكاذبة عن الدعاة والعلماء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بئس مطية الرجل زعموا " (¬2) فهذه من علامات السند المنقطع؛ لذلك لابدَّ من اتصال السند، والتحقق والتحري بنفسك، خاصةً إذا ترتب على ذلك مفسدة كالطعن في أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمرٌ فادح كموقف أو قول أو فعل في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه، بل يكتفي ¬

(¬1) قاعدة في الجرح والتعديل تحقيق أبو غدة. (¬2) 2 أخرجه أبو داود (4972) ك الأدب، باب في قول الرجل زعموا، والإمام أحمد (4/ 119)، (5/ 401)، والبخاري في الأدب المفرد (762) باب ما يقول الرجل إذا = زكى، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 68)، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (866) وصحيح الأدب المفرد (586).

القاعدة الثالثة: التثبت من كلام الأقران وأرباب المذاهب والجماعات في بعضهم البعض

بالإشارة لئلا يكون الأمر فلتة، أو على غير الوجه الذي تتصوره. لذلك يحتاج المسلم إلى أن يكون عارفاً بمقادير الناس، وبأحوالهم ومنازلهم فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع. فيا لله لو أعطى الناس بدعواهم لذهبت أموال وأنفس كثيرة لا يعلمها إلا الله، فإياك وسماع الدعاوى فإنَّها لا تثمر خيراً، وأكثر الشرور تأتى من " قيل وقال وسمعت وظننت وبلغني ". فإياك .. إياك فمن صحت عدالته، وعُلم بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالباً، وشره أقل عمله، فهذا لا يُقبل فيه قول قائل لا برهان له به. فدلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات الرجال، إلا أن يكون في الخبر دليلٌ، ومع الشهادة برهانٌ؛ لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق، ولا يزيد، ولا يبدل، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك وهذا هو الحق - إن شاء الله - الذي لا حق غيره. القاعدة الثالثة: التثبت من كلام الأقران وأرباب المذاهب والجماعات في بعضهم البعض. كلام الأقران لا يعبأ به خاصة إذا بدا لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، كذلك في الإخوة الأقران الذين بينهم وبين بعض تنافس كأصحاب المحلات الواحدة، أو المهنة المشتركة، أو أصحاب دعوات مختلفة أو أصحاب أفكار متباينة. هؤلاء لا يقبل كلام بعضهم في بعض - كما يقول الإمام الذهبي - في قاعدته الذهبية. " كلام الأقران يُطوى ولا يُروى، فإن ذُكر تأمله المحدث فإن وجد له متابعاً، وإلا أعرض عنه ". مثلاً: يشيع أن تجد العداوات بين الأصحاب إذا اختلفوا، وناءت بهم السبل، أو رجل كان متزوجاً من امرأة فطلقها فيبدأ في التقول عليها، أو العكس فكل ذلك يُطوى

القاعدة الرابعة: الخبرة بمدلولات الألفاظ ومقاصدها.

ولا يُروى إلا إذا وُجد الدليل على صدق القائل. ينبغي أن نحمل الكلام محملاً حسناً، وحسن الظن واجب، والتأويل الحسن لازم لسلامة الصدر. القاعدة الرابعة: الخبرة بمدلولات الألفاظ ومقاصدها. يقول الأدباء: قد يوحش اللفظ، وكله وُدّ. حين يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - مثلاً - " ثكلتك أمك" (¬1) معناها فقدتك، فاللفظ موحش ولكنه يفيض محبة، فالرسول أراد أن يفهمه وقد قال له - صلى الله عليه وسلم - " إني لأحبك يا معاذ " (¬2) ففهم مدلولات الألفاظ ضرورة، فمن الألفاظ ما يجرى على الألسنة بغير قصد لمدلوله الظاهر، بل يتعارف الناس فيه معنى آخر، ويتداول بينهم حتى يعود هو المتبادر. كمثل قولهم: ويله وويل أمه، تربت يمينه، ... الخ هذه العبارات، وهنا ينظر أصحاب العقول البصيرة، فيتأملوا قرائن الحال والمتكلم، فإن كان ولياً فهو الولاء، وإن بدا القول خشناً، وإن كان عدواً فهو البلاء حتى ولو بدا القول حسنا (¬3) يقول الإمام السبكي: " فكثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره ومن استن بسنته مع أن المؤلف لم يرد بذلك الوجه الذي وصل إليه ذلك الرجل ". ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه الترمذي (2616) ك الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3973) ك الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله - في صحيح الترمذي (2110)، وصحيح ابن ماجة (3209). (¬2) جزء من حديث أخرجه أبو داود (1522) ك الصلاة، باب في الاستغفار، والنسائي (1303) كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، والإمام أحمد في مسنده (5/ 247)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (7969). (¬3) انظر أحكام صنعة الكلام للقلاعي.

القاعدة الخامسة: أن لا يجرح من لا يحتاج إلى جرحه

إذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله، ليس شيء أنفع لمن لا يدرى مدلول الألفاظ من أن يسيء الظن بنفسه، وأن يرجع إلى غيره، ليس في الدنيا إنسان إلا وهو في حاجة إلى تثقيف وزيادة علم، والمستعين بغيره أبداً على خير، فلذلك ينبغي أن نفهم مدلولات الألفاظ، فإن فهم الألفاظ على وجه خطأ هو الذي يُفسد ويسيء. القاعدة الخامسة: أن لا يجرح من لا يحتاج إلى جرحه. ينبغي على المسلم حفظ لسانه، وصيانة جارحته عن أعراض المسلمين، فليس هو عليهم بحفيظ ولا بمسيطر. وشأن المسلم أن ينشغل بدعوة الناس وردهم إلى الإسلام رداً جميلاً، لا أن يوطن نفسه في تصنيف الناس والحكم عليهم. ومن الناس من لا تحتاج إلى البحث عنه، لا تفتش عن عدالته أو جرحه، حتى وإن بدت أمارات حرص، فلا ينبغي أن تنشغل بالمفضول - أو قل ما هو من جنس المتروك - عن الفاضل من الأعمال والأقوال والطاعات. القاعدة السادسة: عدم الاكتفاء بنقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل. فإذا عُلم عن المرء خيره وشره، فلا ينبغي أن نكون أصحاب نفوس ذبابية لا تقف إلا على الشيء القذر، بل ينبغي أن نتحلى بصفة الإنصاف، وإن كنا في زمان قل فيه من يعرف وأقل منه من يُنصف. مثلاً: يسألونك عن بعض الجماعات فتقول: أناسٌ على خير كثير، نحسبهم مخلصين، وفي الدعوة مجتهدين، وأصحاب سمت وأدب وهدى صالح لكن عندهم

القاعدة السابعة: الحذر من حسن الهيئة

بعض البدع. فلا تنقل أنهم مبتدعة أو على بدعة في بعض ما يصنعون، ولكن تنقل التعديل والتجريح معاً. القاعدة السابعة: الحذر من حسن الهيئة. فلا يوزن الناس بهيئاتهم، فهذا مما يشترك فيه المجروحون وأهل العدالة، والصور خداعة، بل يقاس الناس بأفعالهم ومواقفهم وأقوالهم على موجب الحق والعدل، فلا نغتر بالشكل أو المظهر. فليس أحدٌ حجةً على الإسلام بمظهره، فلا يعظم المرء عندنا لمجرد حسن الهيئة وإظهاره للسنة والتزين بها. فليس كل من حلق لحيته مجرماً فاسقاً، ولا كل ملتحٍ صار بلحيته من أولياء الله الصالحين، وإن كنا نقول: حلق اللحية حرام، وإدمان حلقها كبيرة من الموبقات، لكن فيمن يحلقون لحاهم أتقياء، وأنت لا تدرى فليس كل عُذر يذكر. فليس الحكم على الأشخاص بالمظهر، قال تعالى عن المنافقين " وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ " [المنافقين / 4] فالمظهر ليس شرطاً للعدالة. القاعدة الثامنة: شرط جواز الجرح عدم قصد التحقير. قال الإمام السبكي ـ رحمه الله ـ: " كنت جالساً بدهليز دارنا فأقبل كلب فقلت: اخسأ كلب ابن كلب" قال: فزجرني والدي من داخل البيت، قلت: سبحان الله أليس هو كلباً ابن كلب، فقال: شرط الجواز عدم قصد التحقير، قلت: وهذه فائدة " أهـ

مثلاً: أحد الناس مشهور باسم الأعرج - مثلاً - ولا يُعرف إلا بهذه الكنية، فلا يجوز أن تناديه بهذا إلا بغير قصد التحقير، وإلا صارت غيبة، أما إذا قيلت على وجه التعريف فليست بغيبة، وكذلك الشأن في كل الأمور، إنك عندما تتكلم على جماعة من الجماعات، أو دعوة من الدعوات، أو شخص من الأشخاص فلا ينبغي أن تتكلم بنية التحقير والتهوين من شأنه لإيذائه، وإنما تقصد بيان الحق ونصرة الدين، فلا تنتصر لنفسك، أو تكون نيتك طلب العلو بإنزال قدر خصمك، فإن فعلت فإنك إذاً من الآثمين، فاللهم طهر ألسنتنا عن قول الزور، وطهر قلوبنا عن الضغائن والغل والجور، واجعلنا هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين.

النصيحة للإصلاح إني لأكره أن يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه (سعيد بن العاص)

ثالثا: النصيحة للإصلاح

السبب الثالث لتعميق أواصر الأخوة ثالثا: النصيحة للإصلاح من الأسباب الجالبة لتعميق أواصر الأخوة، أن تنصح أخاك فيما يصلحه، فإنه دليل اهتمامك به، وحرصك على ما ينفعه، قال تعالى: " وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [سورة العصر] يقول ابن القيم رحمه الله: " وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره ". تأمل معي هذا الكلام الممتع، هذا هو الكمال الحقيقي، وهذه حقيقة النصيحة المأمور بها في هذه السورة " وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ " يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، قال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين " [فصلت/ 33] فشأن هذا أن تقوم اعوجاج نفسك، وفي نفس الوقت تقوِّم اعوجاج الناس حسب مقياس الذكر الذي هو مقياس كل شيء - كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ـ النصيحة والتواصي بها في الإسلام تعتبر من أكبر إنجازات هذا الدين العظيم، وهي من مقتضيات التوحيد، وقد بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عليها. يقول جرير بن عبد الله البجلي: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (57) ك الإيمان، باب الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ومسلم (56) ك الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة.

وقال - صلى الله عليه وسلم - " الدين النصيحة " (¬1)، وهذا نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - "الحج عرفة " (¬2) أي أن النصيحة هي عماد الدين وقوامه، والمدار عليها وحدها. وحقيقة النصيحة أن تقبل الحق ممن قاله، وإن كان بغيضاً، وأن ترد الباطل على قائله وإن كان حبيباً. فتقبل الحق ولو جاء به الشيطان، ونرد الباطل ولو قال به شيخ الإسلام. يقول ابن القيم في مدارج السالكين ـ وقد مر بكلمة ذكرها الشيخ الهروي وتحتاج إلى رد ـ: وشيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه. فنحن نحب الحق، وندور معه حيث دار، سواءٌ جاء الحق من صغير أو كبير، من عدو أو صديق، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. فينبغي على المسلم أن يسعى للنصيحة، ويطلبها من الصالحين الصادقين الموثوق بهم، الذين يعرفون بدينهم وتقواهم. فهذا عمر بن عبد العزيز يطلب النصيحة من أحد رعيته (عمرو بن مهاجر) فيقول: يا عمرو إذا رأيتني ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي، ثم قل لي وهزني، ثم قل: ماذا تصنع يا عمر. فأين - الآن - من يطلب النصيحة؟!! قالوا: افتضحوا فاتفقوا فالجميع لا يقبل النصيحة، وصار عامة الخلق مجاملاً، فلا تسمع إلا الثناء العاطر، والمبالغات في المدح، وكلنا يعرف أنه خداع. نسأل الله لنا ولكم العافية. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (55) ك الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة. (¬2) أخرجه الترمذي (889) ك الحج عن رسول الله، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، والنسائي (3016) ك مناسك الحج، باب فرض الوقوف بعرفة (3044) ك مناسك الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، وابن ماجه (3015) ك المنسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (705)، وصحيح ابن ماجه (2441).

يقول الحسن البصري: إلى من يشكو المسلم إذا لم يشك لأخيه المسلم، ومن الذي يلزمه من أمره مثل الذي يلزمه، إن المسلم مرآة أخيه المسلم يبصره عيبه، ويغفر له ذنبه. قد كان من كان قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجلُ الرجلَ فيقول: يا أخي ما كل ذنوبي أبصر، ولا كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني، وإن رأيت شراً فانهني. على هذا كانت لقاءاتهم، أما الآن فترى من يبصر القذاة في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه، ولا ينصح بل يشمت ويفرح؛ ولذلك لا بد أن نتواصى ونتناصح؛ لأنَّ هذا دليل الحب في الله. يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، أن تقولوا: اللهم خذه اللهم العنه، ولكن اسألوا الله له العافية. هذا هو هدى ابن مسعود الذي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعه. وقال - صلى الله عليه وسلم - " وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه " (¬1) فاللهم عافنا والمسلمين والمسلمات من الذنوب والخطايا. كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كنا لا نقول في أحد شيئاً حتى نرى على ما يموت فإن ختم له بخير علمنا أو رجونا أن يكون قد أصاب خيراً، وإن خُتم له بشر خفنا عليه عمله. أنت لا تدرى من يختم له بخير، ربما تبذل النصيحة لإنسان ما فتكون سبباً لهدايته فيكون هو وحسناته في صحيفة حسناتك. قالوا مقالة عجيبة قالوا: إن عثمان بن عفان أحد حسنات أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3799) ك المناقب عن رسول الله، باب مناقب عمار بن ياسر، وقال: حديث حسن، والإمام أحمد في مسنده (5/ 385، 402) وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (1233)، وصحيح الجامع (2511).

فعثمان بكل بذله وكل إنفاقه وجهاده ومكانته الكبيرة عند الله ورسوله كلها في ميزان حسنات أبى بكر لأنه الذي دعاه إلى الإسلام. عليك أخي أن تبذل النصح لجميع المسلمين ولا تيأس، فقد يهدى الله بك رجلاً مثل عثمان، فيكون هو وعمله الذي هو أفضل من عملك في ميزان حسناتك. لذلك مودتك لإخوانك تأبى أن تراهم على شيء من الزلل ولا تنصحه ولا تحاول تغييره وإصلاحه، فالمؤمن بإخوانه النصحاء الأمناء. قال الشاعر: ما ضاع من كان له صاحب…… يقدر أن يصلح من شأنه فإنما الدنيا بسكانها ....... وإنما المرء بإخوانه إخوتاه من علامات الحب في الله بذل النصح لأخيك، إذ من أحب أخاه في الله ثم رآه يصنع ما يشينه عند ربه، لا يبغض عمله ولا ينصحه فهذا لم يحبه في الله. إخوتاه .. تفقدوا إخوانكم، تصافحوا تعارفوا تجاوروا، عليك أن تسأل عن أخيك إذا غاب لماذا لم يأت؟ هل ألم به طارئ؟ هل ... ؟ هل .... ؟ ولا يستريح بالك حتى تطمئن عليه، إن رواد المقاهي والنوادي وغيرها إذا غاب أحدهم لا يهدأ لهم بال حتى يستفسروا عن سبب غيابه، أما نحن فلا، فلماذا؟ نحن أولى منهم بهذا، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه في صلاة الصبح إذا غاب أحدهم فيسأل عنه. إخوتاه .. إننا نتآكل إذا لم نبحث عن لمّ شملنا المبعثر، لا بد أن نبحث عن كل عضو منا، وننشغل بإصلاح أنفسنا، وتفقد أحوال الآخرين حتى لا تسقط سائر الأعضاء، عليك

أن تمد يديك إلى إخوانك الذين على مشارف الهلكة، تقول لهم: إننا نريد لك الجنة، ونخشى أن يمسك أقل شيء من عذاب الله، فما ـ والله ـ تطيقه. أخي ما الذي ضيعك؟ ما الذي غيرك؟ نخشى أن تموت الآن فكيف تجد نفسك؟! هكذا إخوتاه تماسكوا ترابطوا فليأخذ كل واحد منكم بيد أخيه، ويد الله مع الجماعة. إخوتاه .. قال عبد الرحمن بن يزيد: قال لي بلال بن سعد: بلغني أن المؤمن مرآة أخيه، فهل تستريب من أمري شيئاً. أريدك أن تصنع كصنيع بلال بن سعد، تذهب إلى أخيك، وقل له: اصدقني القول هل تستريب من أمري شيئاً؟ واسأله النصح وكيف يرى العلاج؟ وحاول سريعاً أن تداوى آفاتك. يقول سعيد بن جبير: رحم الله رجلاً أهدى إلىَّ عيوبي، وإذا أهديت إلينا العيوب لا نحرد، ولا نُبرئ أنفسنا حتى لا نكون معجبين بل نعترف. قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " وعلامة المخلص إذا عوتب في نفسه، وفي عمله أن لا يحرد ولا يبرئ نفسه ولا يكون معجباً، بل يعترف، ويتهم نفسه ويستغفر الله ". مثال ذلك: أن يأتيك رجل فيتهمك بالرياء أو الخيلاء، هنا اتهم نفسك وقل: جزاك الله خيراً، وسل الله المغفرة أما إذا أخذتك العزة بالإثم، ووجدت في نفسك روح التشفي ممن اتهمك فهذا نذير عدم الإخلاص. دخل رجل على إبراهيم النخعي في مجلس درسه وأمامه الناس فوقف على باب

المسجد وقال: يا مُرائي. فبكى إبراهيم وقال: نعم صدقت أول رجل يعرف اسمي، من أعلمك باسمي؟ فقام ودخل بيته وأغلق الباب. لا بد من اتهام النفس، فإنها محل الجناية، ولا تتوارى بل عنف نفسك في الحال. قال الشعبي مرة في مجلسه: والله لو قيل ليخرج شر من في المسجد لبادرتكم. هكذا يرى أنه من شرار الناس، يتهم نفسه، والنصيحة لا تنقص أحدهم عند الآخر شيئاً، بل تزيده وتنميه وتطوره. إخوتاه قال بلال بن سعد: أخٌ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك وخير لك من أخ وضع في كفك ديناراً. فالأخ الذي يقابلك فيقول لك: كيف حال قلبك مع الله؟ ما هي أخبار ورد القرآن والذكر والقيام؟ كيف حال الصيام وغض البصر؟ كيف حال طلبك للعلم وحضور الدروس … الخ مثل هذا الأخ لا يقدر فضله بثمن؟ فينبغي أن يكون أحب إليك من رجل جاء فأعطاك شيئاً من المال ولو كان كثيراً، إن كنت حقاً صادقاً مع الله، أما إذا قسا قلبك وعميت بصيرتك ولم تنفعك الكلمات فتلك مصيبة تحتاج إلى البكاء بين يدي رب الأرض والسماء. إخوتاه .. من أدب التواصي والنصيحة - هداك الله - ألا تغضب على أخيك إذا نصح لك في قلبك ودقيقك، بعض الناس إذا نُصح يحزن، وهذا دليل عدم صدقه مع الله، بل عليك أن تتقبل النصيحة في الصغيرة والكبيرة، وتظهر البشاشة في وجه ناصحك، وتشكره لرعايته لك، كما ينبغي عليك أن تصبر عند سماع النصيحة، إذا جاءتك

بأسلوب خشن. يقول بعض السلف: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن من الكلام في دين الله عز وجل، ومن هرب منى ومن أمثالي لا يُفلح. فمن لم يصبر على مُر الكلام لا تراه ينجح، لا بد من شدة توقظك، والأمر في الأول والآخر لا يعدو مصلحتك. إخوتاه .. علينا أن نشجع الناصحين الأمناء، وأن نستمع لهم بإنصات، فالإنسان لا يرى إلا إذا خرج عن الصورة التي يتأملها، أما إذا كنت في داخلها فإنك لا تراها. نعم الهدية - والله - أن ينصحك أخوك في الله، ونعم العطية أن تنصح أخاك في الله. يقول سفيان الثوري - رحمه الله - إن الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب أن أنصت واستمع له. وحقيقة من الدرر المنقودة التي هي في حياة المسلمين مفقودة درة الأدب، فأين الأدب مع الله؟!!. وقد شددنا القول في شأن القبول أما البذل فأولاً: عليك أن تخلو بأخيك بعيداً عن أعين المتطفلين، والشامتين، تساره في أذنه، تنصحه على سبيل الرحمة لا التوبيخ والتقريع. ثانياً: عليك أن تراعى قلب أخيك، وتراعى حالته النفسية فترفق به، تلطف بمعنوياته، وتراعي مقتضى الحال، فتتخير الوقت المناسب والظروف المناسبة ليقبل نصيحتك. ثالثاً: عليك أن تنصحه فيما يصلحه ويرفعه، وتظهر له اهتمامك به.

قال حاتم: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته فقد خُنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته فقيل له: كيف أصنع؟ فقال: تُكني عنه، وتُعرِّض به، وتجعله في جملة الحديث .... فمثلاً: ترى أخاك لا يغض بصره، فتذهب لتنصحه تقول: حديث جميل جداً كنت أحب أن يكون حديثاً صحيحاً " النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه ـ جل وعزـ إيماناً يجد حلاوته في قلبه " (¬1). ثم تتكلم معه عن فوائد غض البصر، ولذة غض البصر، ومتعة غض البصر، وحُسن غض البصر، وخطورة إطلاق الطرف، وهكذا لا بد من اللطف، فتجمل العبارة وتتكلم بأسلوب غير مُنَفّر هذا بين الإخوة بعضهم مع بعض، أمَّا الشيخ المربى فقد يقسو ويشتد على تلاميذه ليصلح اعوجاجهم، وهذا أمر مقبول ينبغي أن يفهم ذلك. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 349)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، وأخرجه الطبرانى في الكبير (10/ 173)، وهو في مسند الشهاب (1/ 195)، وقال الهيثمى في المجمع (8/ 63): رواه الطبرانى وفيه عبد الله بن اسحق الواسطى وهو ضعيف، وضعفه المنذري في الترغيب (3/ 34)، والألباني ـ رحمه الله ـ في الضعيفة (1065) .........................

إنهاء الجدال والمراء حالا ما ريت أخا لي في الله أبدا لأني إن ماريته إما أن أكذبه وإما أن أغضبه

رابعا: إنهاء الجدال والمراء حالا

السبب الرابع رابعا: إنهاء الجدال والمراء حالاً قال تعالى " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن " [العنكبوت/46] وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه " (¬1) قال تعالى " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " [التوبة 65] الشاهد أن كثيراً من المزاح - الآن - يختلط بالكذب والغيبة، مثل هذه الحكايات التي تنتشر عن أهل الصعيد وهي غيبة لجميع الصعايدة، وأخشى أن يأخذ حقه منك كل من سخرت منه يوم القيامة. قال - صلى الله عليه وسلم - " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق" (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له .. ويل له " (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، والطبرانى في الكبير (8/ 117)، قال الهيثمى في المجمع (8/ 23): رواه الطبرانى وفيه أبو حاتم سويد بن إبراهيم ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (273)، وصحيح الجامع (1464). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (6477) ك الرقاق، باب حفظ اللسان - واللفظ له - ومسلم (2988) ك الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوى بها في النار. (¬3) أخرجه الترمذي (2315) ك الزهد عن رسول الله، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، وقال: حديث حسن، وأبو داود (4990) ك الأدب باب التشديد في الكذب، وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبى داود (4175)، وصحيح الترمذي (1885) .........

هذا بكلمة واحدة، فما بالك من يستمر في المجلس الواحد لمدة ثلاث وأربع ساعات يكذب، فاللهم استرنا واعف عنا وعن المسلمين. واعلم ـ أخي ـ أنَّ السامع شريك القائل، يقول الله تعالى " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا " [النساء /140] فعليك أن تترك الكذب حتى في المزاح، وتترك المراء وإن كنت صادقاً. قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " (¬1) وأنت تقلب الآن بصرك فلا تجد إلا الجدل، أين العمل إخوتاه؟!! هذا لعمر الله غضب من رب العالمين. قال أهل العلم: الجدل والمراء يسبب أربعة أمراض قلبية: أولاً: يفتن القلب. ثانياً: ينبت الضغينة. ثالثاً: يُقسي القلب. رابعاً: يرقق الورع في المنطق والعمل. قال خالد بن يزيد: إذا كان الرجل ممارياً لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. أهـ وما أكثر ضحايا المراء، وأتعس حالهم، وقد شاهدناهم ـ والله ـ وعرفناهم، ثم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3253) ك تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة الزخرف، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (48) في المقدمة، والإمام أحمد في مسنده (5/ 252، 256) والحاكم في المستدرك (2/ 486) وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث صححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (2593)، وصحيح ابن ماجه (45) .....

وصلوا الآن إلى درجة من الفراغ الإيماني والأمراض القلبية من العجب والكبر والغرور وحب النفس واحتقار الآخرين وازدرائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. فما رأينا لجوجاً ممارياً يحب المراء والجدل إلا وسقط على جانبي الطريق فلم يصل، فلا ترى منهم أحداً. انظر إلى هؤلاء تجدهم متساقطين على جانبي الدعوة يمنة ويسرة، لا تجد لهم أخاً ولا صديقاً ولا حبيباً بعد إدمانهم المراء، وما أجمل كلمة الحسن البصري حين قال: " إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغى الشيطان زلته "؛ ولذلك يقول الآجرى في كتابه القيم " أخلاق العلماء ": فالمؤمن يدارى ولا يمارى، ينشر حكمة الله سبحانه، فإن قبلت حمد الله، وإن رُدت حمد الله. فالمرء في سعة من أمره، والمؤمن مقصوده القيام لله سبحانه بالحق، والحق فقط. قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: ما ماريت أخي أبداً لأني إن ماريته إما أن أكذبه، وإما أن أغضبه، وأنا في سعة من الأمرين جميعاً. ويحكى لنا خطيب أهل السنة ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ عن هذه الحادثة وقد مر بها شخصياً وفيها بيان لأثر الخصومة على العلاقات الأخوية وتكدير صفوها. يقول: مر بي بشر بن عبد الله بن أبى بكرة فقال: ما يجلسك هاهنا، فقلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي فقال: إن لأبيك عندي يداً، وإني أريد أن أجزيك بها، وإني ـ والله ـ ما رأيت شيئاً أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة العبادة ولا أشغل للقلب عن الله من الخصومة. قال: فقمت لأنصرف. فقال لي خصمي: مالك، قلت: لا أخاصمك أبداً والله. فقال: عرفتَ أن الحق لي. فقال: لا ولكنى أكرم نفسي عن هذا. فقال لي: والله لا أطلب منك شيئاً هو لك، ما بيننا هو لك.

إخوتاه يجب إنهاء المراء حالاً، لا لأنَّ الكتب نطقت بهذا، ولكنى أقول من واقع التجربة التي أكدت هذا، وما زالت تؤكد لزوم التغاضي. إخوتاه اهجروا المراء من الآن، فدعك من المراء، واترك الجدال نسأل الله لنا ولكم العافية.

إعدام الاختلاف {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]

خامسا: إعدام الاختلاف

السبب الخامس خامسا: إعدام الاختلاف إخوتاه نريد أن نحكم على الاختلافات بالإعدام، وهذا لا يتأتى إلا بشيئين: الأول: معرفة أسباب الخلاف. الثاني: استعمال أدب الخلاف ..... راعني قول بعض السلف: لو أن للخلاف صورةً لارتاعت لها القلوب ولهدت من هولها الجبال. إخوتاه أما أسباب الخلاف فكثيرة فمن ذلك: (1) الكبر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إنَّ الرجل يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً، فقال: - صلى الله عليه وسلم - إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ". (¬1) " بطر الحق " أي رده وعدم قبوله، فترفض أن تقبل الحق فيحدث الخلاف، قال تعالى: " َفمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون " [يونس / 32]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (91) ك الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.

" غمط الناس " أي احتقارهم فتقول: من فلان حتى يعترض علىَّ، فهنا تحدث الفرقة وينتج الخلاف. مثال ذلك: أن أخاً حَدّث فقال: كنت جالساً في المسجد وأقرأ القرآن، وقد أمسكته بيدي اليسرى واتكأت على اليمنى، فجاء أخٌ صغير لا يتجاوز عمره الخامسة عشر، فقال لي: لو سمحت امسك المصحف بيدك اليمنى. يقول: فنظرت له فإذا هو غلام صغير، فدار في نفسي أنَّ اليد اليسرى تستخدم لقضاء الحاجة ونحو ذلك، فالأولى فعلاً أن أمسكه باليمنى، لكن هذا غلام صغير، وموقفي صار حرجاً. يقول: جلست أحدث نفسي، والمصحف بيدي اليُسرى، وعندما أحاول نقله ليدي اليمنى أتراجع، ثم في النهاية قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونقلت المصحف وقلت للأخ: جزاك الله خيراً. فهو كان معتقداً أن الحق على خلاف صنيعه، وإن كان فعله ليس بحرام، وإنما غاية الأمر أنه خلاف الأولى، وكاد يصده الكبر عن قبول هذه النصيحة. ومن الطريف أن الأخ قال: فما لبثت خمس دقائق حتى نقلت المصحف مرة ثانية إلى يدي اليسرى. فنصحني الأخ الصغير مرة أخرى، فقلت له: عندما تراني أصنع ذلك انقله بيدك في يدي اليمنى. وهكذا انصرف الشيطان، فانصاع الإنسان وقبل النصح. إخوتاه .. إن رد الحق وعدم قبوله، وغمط الناس واحتقارهم يؤدى لعدم القبول، وكلاهما كبر، نعوذ بالله من المتكبرين، فعليك أن تتواضع، قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإن الله أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبع أحدٌ على أحد ". (¬1) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2865) ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة.

(2) اختلاف وجهات النظر

تواضعوا فالمؤمنون أعزة على الكافرين، أذلة على إخوانهم المؤمنين، ولا تترفع عن قبول نصيحة من أي شخص كائناً من كان، حتى إذا كان حليقاً أو مخالفاً لك في الاتجاه، فما يدريك لعله أفضل منك، فإنِّي أخاف أن يتسلل إليك ولو ذرة من كبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. (2) اختلاف وجهات النظر اختلاف وجهات النظر ينبغي ألا يكون سبباً للاختلاف، إذ هذا ليس عيباً، بل إنَّ المجتهد يخطئ تارة ويصيب تارة، وليس هناك عالم كل أقواله صحيحة، فما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. في كتاب الرد الوافر لابن ناصر يقول: لقد أجمع العلماء على أنَّ فروع الشريعة المخطئ فيها مجتهد يثاب لا يكفر ولا يفسق. فإذا كان كذلك والحالة هذه، فعليك أن تتقدم بالنصيحة مشكوراً، وتسوق دليلك مأجوراً، وقد أوجب الله على المسلم أن ينزل عند الحق، وإن جاء على يد أصغر إخوانه، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها. ولقد أُخذ بقول الشيطان في قصته مع أبى هريرة عندما كان يأتي للسرقة، وفي النهاية قال له: اتركني وأنصحك نصيحة، ثم قال له: " إذا أويت إلى مضجعك فاقرأ آية الكرسي فإن قرأها مسلم في ليلة لن يقربه شيطان ". فأخبر أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " صدقك وهو كذوب ". (¬1) وصارت قراءة آية الكرسي عند النوم من السُّنة، رغم أن الذي نصح بها هو الشيطان، إذن علينا أن نأخذ بالحق ممن جاء به كائناً من كان، فأنت أحق به وأهله. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3275) ك بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده.

(3) الجهل والجهال

والنصيحة في الله هي الأصل في هذه المسألة - كما سبق - فلا عليك خاصة إذا سيقت النصيحة في إطار من العاطفة النبيلة، والروح الأخوية والود والعطف والحب والأدب. انظر إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلين أحدٌ العصر إلى في بنى قريظة " (¬1)، فبعضهم كانت وجهة نظره الوقوف عند ظاهر اللفظ فلم يصلوا العصر إلا في ديار بنى قريظة، فصلوا العصر بعد خروج وقته، وبعضهم تأول هذا على أن النبي يحثهم على الإسراع فصلوا العصر في الطريق، فما وبخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء ولا هؤلاء. في صحيح الإمام البخاري يخبرنا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم الصائم ومنهم المفطر فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم (¬2) فمن الأصول والثوابت التي ينبغي أن ننطلق منها لتكون لنا الريادة ويصبح القرن القادم هو قرن الإسلام، أنَّ ما اختلف فيه السلف قَبْلنا وسعنا فيه الخلاف، وما لم يختلفوا فيه لا يسعنا فيه الخلاف. (3) الجهل والجُهَّال. يقول الإمام الثقة سحنون (من أئمة المذهب المالكي ولد سنة 160 هـ): يكون عند الرجل باب واحد من العلم فيظن أنَّ الحق كله فيه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (4119) ك المغازي، باب مرجع النبي- صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب - واللفظ له -، ومسلم (1770) ك الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم الأمرين المتعارضين، لكن بلفظ " الظهر " بدل " العصر". (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (1947) ك الصوم، باب لم يعب أصحاب النبي بعضهم بعضاً في الصوم، ومسلم (1118) ك الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر.

(4) النظرة الجزئية للإسلام

ومن أجود وأروع ما قيل في هذه المسألة قول الإمام على - رضي الله عنه -: العلم نقطة كثَّرها الجاهلون. وقال أيضاً: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف. فحين يتدخل الجهال ويتكلمون يحدث الخلاف، والأصل أنَّ العلم نقطة، كتاب الله وسنة رسول الله الصحيحة وفهم السلف، هذه هي أصول العلم، وما عدا ذلك فضلال وجهل وتفرق واختلاف. قال تعالى: " فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم " [البقرة/137] (4) النظرة الجزئية للإسلام. تجد الإنسان عنده مسائل في العقيدة، أو في الفقه أو في مصطلح الحديث فيقف عند هذا لا يتجاوزه ويظن أنَّ هذا هو الدين، والإسلام أوسع وأرحب من ذلك. القضية ـ إخوتاه ـ ليست في قراءة أو تحصيل كتاب كذا وكذا، القضية أن تفهم الإسلام فهماً عميقاً مجملاً، لا بد أن تحيط بالإسلام بعقائده وعباداته جملة. لذلك كان السلف عندما يتكلمون في مسألة لا ينظرون إليها من خلال هذا المجهر الجزئي الهامشي، وإنما يتكلمون بنظرة شاملة، يقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين" [البقرة / 208]، والسلم هنا الإسلام. فالإسلام هرم ضخم لا بد أن تأخذه من جوانبه الأربعة، ولن تحيط به هكذا حتى تنطلق من القمة حيث كان النبي وأصحابه ومن تابعهم بإحسان، من حيث كان سلفنا الصالح. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإذا ترك الناس بعض ما أنزل الله جهلاً أو هوى وقعت بينهم العداوة والبغضاء.

قال تعالى: " وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " [المائدة/14] إخوتاه الصبر في طلب العلم، لا بد أن تحيط بالإسلام جملة، وتصبر في تحصيل علوم الإسلام السنوات الطوال، قبل أن تتكلم لا بد أن تتعلم، قبل أن تزعم أنك علمت لا بد من صبر طويل حتى يفتح الله عليك. قال بعض السلف: العلم ثلاثة أشبار من أخذ الشبر الأول تكبر، ومن أخذ الشبر الثاني تواضع، ومن أخذ الشبر الثالث علم أنه جاهل، فإياك أخي أن تكون أبا شبر. يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: كل يوم أزداد فيه علماً يظهر لي فيه مدى جهلي. لذلك تعلم، اطلب العلم، وحاول أن تفهم، واصبر على مُر الطلب، يقول الإمام الشاطبي - في كلام في منتهى الخطورة ـ[في بيان الخلاف في الأمور الفرعية راجع في الحقيقة إلى الوفاق لاتفاق أطرافه على تحرى مقصود الشارع وهو واحد]، يقول: " ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً لأنَّهم مجتمعون على طلب قصد الشارع. فاختلاف الطرق (للوصول إلى قصد الشارع المشرع) غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقربه الصلاة، وآخر يُقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة، إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود، وإن اختلفوا في أصناف التوجه. فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة

(5) التعصب للأشخاص والآراء

وقولهم واحداً. أهـ (¬1) وهذا يعنى أن الأئمة إذا اختلفوا في مسألة، فماذا كان قصد كل واحد منهم؟ لا شك أن قصدهم إصابة الحق، فكلهم يبغي رضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يكون في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الاختلاف، لكن هذا لا يكون في مسائل العقيدة التي لا تقبل الخلاف. فمثل هذه المسائل الخلافية يسعنا فيها الخلاف - اليوم - أما ما اتفقت فيه كلمتهم فلا يسوغ لنا الخلاف فيها. (5) التعصب للأشخاص والآراء. التعصب مذموم وحرام إلا أن يكون ذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. فلا يجوز أن تتعصب مطلقاً وعلى طول الخط لشخص من الأشخاص أو لرأى جماعة من الجماعات إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فالحق معهم أما غيرهم فلا. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات، فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة. فهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً قال الله تعالى: " رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْه " [التوبة 100] هؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز التعصب مطلقاً لشخص غير شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لجماعة غير صحابته رضوان الله عليهم. إن مبدأ الهدى فتح عين البصيرة في أقوال من يُساء الظن بهم، ومن يحسن الظن ¬

(¬1) الموافقات (4/ 160).

السبب الثاني لإعدام الخلاف: استعمال أدب الخلاف.

بهم على حد سواء، إذ لا يجوز نصر المقالات والتعصب لها والتزام لوازمها لإحسان الظن بأربابها بحيث يرى مساوئهم محاسن، ويسيء الظن بالخصوم فيرى محاسنهم مساوئ، قال تعالى: " وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى " [المائدة/2] فلا تغتر بأي اسم مهما كان، ولكن في حدود الأدب والقيام بحقوق أهل العلم، فإنَّ علماءنا ومشايخنا أحباءٌ إلينا، ولكن القيام لله بالقسط أحب إلينا وأقرب. فلا تتعصب لرأى إذ رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، فالتعصب ممقوت، لا لشخص ولا لجماعة وإنَّما نتعصب لقال الله، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم هؤلاء الأصحاب الذين زكاهم الله، قال تعالى " فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [البقرة / 137] السبب الثاني لإعدام الخلاف: استعمال أدب الخلاف. قال تعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إحداهما على الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " [الحجرات / 9] وهذا في حال اقتتال المؤمنين ولم ينف الله عنهم الإيمان، ولم يفسق منهم أحداً. وهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا واقتتلوا ولم ينف أحدٌ منهم عن الآخر اسم الإيمان، بل لما سئل على بن أبى طالب - رضي الله عنه - عن الخوارج فقيل له: نكفرهم، قال: لا فقيل: نفسقهم. قال: لا. قالوا: فمن هم؟ قال - رضي الله عنه -: إخواننا بَغَوا علينا. وجاءه آخر ينتقص من قدر أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ فقال له: اذهب مقبوحاً أتؤذي محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

إخوتاه نحتاج أن نستعمل أدب الخلاف، ولكن كيف؟ هذا ما نحن بصدده - إن شاء الله تعالى - أيها الأحبة كثيراً ما أردد أن من أجمل وأمتع وألذ وأعظم وأحلى ما يملكه المسلم في هذه الدنيا الحب في الله، وأضيف هنا أن أقول: إنَّ من أثمن وأغلى ما يملكه المسلم في هذه الدنيا بعد صلته بالله جل وعلا عَقْد الأخوة في الله، اللهم اجعلنا إخوة متحابين، وعُمَّنا برحمتك يا أرحم الراحمين. إخوتاه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا، فإنْ كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات/ 10]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه " (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه " (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " (¬3) ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (2442) ك المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ومسلم (2580) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (5142) ك النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، ومسلم (1412) ك البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع الرجل وسومه على سوم أخيه - واللفظ له - (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (13) ك الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45) ك الإيمان باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير.

ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله وهي ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عهد مؤاخاة " [مجموع الفتاوى (11/ 100)] إخوتاه هذه أخوتنا، هذه محبتنا، نتقرب بها إلى الله كتقربنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج، ووجوب التزامنا بها كوجوب الصلاة والزكاة، وحقوقها واجبة على كل مؤمن تجاه أخيه، بيد أن الواجبات تتفاضل فبعضها أكبر من بعض. هذه الأخوة العميقة الغالية هي أثمن ما تملك، خاصة إذا اجتمعت أنت ومن تحب في الله في الدعوة لدين الله ونصرة الإسلام وأهله، إن هذا العقد من أقوى الوسائل لمواجهة التحديات، وحل المشكلات التي تعترض الطريق، وبهذا يشعر المسلم أنه ليس وحده، فهناك من يشد أزره، ويضع يده على يده. هذه هي الأخوة، إنني أستشعر سعادة غامرة، لعل كثيراً منكم لا يشعر بها، حين أشعر أن أخاً سأل عنى، فليس بيني وبينكم عقد شخصي، ولكننا إخوة في الله، نسأل الله أنْ يرزقنا حباً خالصاً لوجهه. هذه هي الأخوة التي لا يفرط المرء فيها، فهي أغلى ما تملك في هذه الدنيا، لكن هذه الأخوة قد تعكر صفوها هنات وهفوات وقد تعتريها اضطرابات وهزات، قد تكون صغيرة ولكنها تكبر مع الأيام، ويكبر أثرها فتنفر القلوب وتقع الوحشة، وهذا منزلق خطير يجب على كل مسلم تجنبه، فخسارة أخ لا يعوضها شيء، فاللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ونعوذ بك ربنا أن يحضرون.

إخوتاه إياكم والوشاة، فقد ترتبط بأخٍ مدة من الزمن تحبه وتعتقد فيه الخير، وتظن أنه من أهل الصلاح، وتثق به، فيأتيك أحد الوشاة يقول: إنَّ صاحبك هذا يقول عنك كذا وكذا، فسرعان ما تقطع الصلة وتنهي الأخوة وتكون حينئذٍ قد أزلت يقينك بشك. ينصحك الإمام الشافعي أن تواجه أخاك فتقول له: بلغني عنك كذا وكذا، وإياك أن تُسمِّى الناقل، فإن أنكر فقل: أنت أصدق وأبر ولا تزيدن على ذلك. هذه - لعمر الله - أخلاق المؤمنين، أخلاق هي أخلاق السلف، بل إنه ينصحك نصيحة عظيمة فيقول: فإن اعترف بذلك فرأيت له وجهاً من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهاً فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر لك وجهاً من العذر فاقبل منه، وإن لم تر فضاق عليك المسلك حينئذٍ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثلها من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم. قال تعالى: " وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " [الشورى/40] فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فتفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فلا تبخس إحسانه السالف بهذه السيئة فإنَّ ذلك الظلم بعينه، وعامله بالسيئة إحساناً. إخوتاه هذه يمكن تسميتها بالوصية الذهبية في الأخوة الإيمانية، إن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل، فإن كان لك صديق فشد يداك به. فمن اليسير أن تغضب من أخيك وتتركه وتنتهي العلاقة، إنَّ إحساسك بأنَّ لك أخاً في الله يحبك لإيمانك لا لمصلحة ولا لأي شيء نعيم

للقلب - والله - أسأل الله أن يرزقنا نعيم الجنة في الدنيا والآخرة، فنعيش لذة الإيمان حين نحب المرء لا نحبه إلا لله. إخوتاه أخوك لك بمنزلة السمع والبصر، فالأخوة الإيمانية لا يقوم مقامها شيء، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته " (¬1)، فأخوة الإسلام ومودته أبقى وأنقى وأعمق وأدوم فلا تفرط فيها سريعاً. إخوتاه إياكم والخلاف، فإنه داء يورث من الضغائن والأحقاد ما يُفسد القلوب، نعم حين نقول: " إعدام الخلاف " لا نقصد أنَّه لن يكون، فالخلاف سيظل ما دامت السماوات والأرض، فإنهاؤه محال، قال تعالى " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ " [هود 118 - 119] فالاختلاف قائم، ولكن المقصود معرفة أسباب الاختلاف فنتحاشاها، فإن لم يكن بدٌ فوقع الخلاف فعلينا أن نتعامل بآداب الخلاف، حينها لا تنتج هذه الآثار الوخيمة التي شاعت في حياة المسلمين الآن. يقول بعض السلف: " ما رأيت أعقل من الشافعي اختلفنا أنا وهو في مسألة، فلقيني بعد مدة فأخذ بيدي، فقال لي: إذا كنا قد اختلفنا في مسألة ألا يسعنا أن نبقى أخوين متحابين " والكلام ليس على عمومه، فإنَّ الخلاف العقدي يُفرق، ولا بد هنا من المفارقة لأنَّ الله لا يرضى أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، فالكلام هنا على أصحاب المعتقد الواحد، وقد مَرَّ الحديث عن أسباب الاختلاف وبقى أن نتكلم عن آداب الاختلاف. ¬

(¬1) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري (226) ك الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد - واللفظ له - ومسلم (2382) ك فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى بكر الصديق.

أدب الخلاف

أدب الخلاف إخوتاه والله إني أحبكم في الله، وودت أن جسمي مزق بالمقاريض ولا يختلف المسلمون، بل يجتمعون على كلمة " لا إله إلا الله "، فلا ينبغي لمسلم يريد وجه الله أن يحب وجود الخلاف، وأن يُسرَّ باختلاف المسلمين. إن وجود الإيمان العميق والفهم السليم الراقي هو الضمان الحقيقي لشرعية علاقاتنا، هو الملاذ لتصفية خلافاتنا ونزع أغلال قلوبنا. إخوتاه قد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل، لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم افتقاد المرشد والموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب. القضية أننا قد نلم بشيءٍ من العلم والمعرفة، لكننا افتقدنا خُلقه، امتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية. قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة. إخوتاه دعونا نتصارح فإنَّ الشيطان ينزغ بيننا، فما أكثر تشاغلنا بالمباح والمندوب عن الأمر الواجب، لقد صرنا حُذَّاقاً في الخلاف، ولكن بعيدين كل البعد عن الالتزام بأخلاقياته، فكانت النتيجة المرة أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثنا

هذه الحياة الفاشلة، وأدى إلى ذهاب ريحنا. قال تعالى: " وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " [الأنفال / 46]، فحذرنا الله تعالى مغبة السقوط في مثل ما سقط فيه أهل الأديان السابقة، وقصَّ علينا تاريخهم لأخذ العبرة والحذر. قال تعالى: " وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " [الروم / 31 - 32] انظر إلى الخلاف الذي وقع، كيف تبرأ الله منه وأمر رسوله أن يتبرأ منه. قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ " [الأنفال / 159]. أهل الكتاب من قبلنا، لم يؤتوا من قلة علم وضآلة فهم، وإنما هلكوا لأنَّهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي. قال تعالى: " وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ " [آل عمران / 19] فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب؟ هل ورثنا البغي دون المعرفة والعلم والالتزام بأخلاقهما؟ إنَّ الاختلاف والفرقة والبغي كانت من وراء هلاك الأمم السابقة حتى مسخت أديانهم وبقيت قصصهم وسائل إيضاح للدروس والعبر المستفادة من حياتهم. إخوتاه شريعتنا شريعة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا سبيل لنسخها، وستبقى أمة الإسلام بذلك فهي لن تفنى كما فنيت الأمم السابقة، ولكن الخوف أننا نسير في الطريق الخاطئ الذي سار فيه من قبلنا فأهلكهم الله، فالخوف - اليوم - من

الاستبدال، الخوف - اليوم - من الخسف والمسخ والقذف الذي يكون في آخر الزمان، فهل نفيق؟!! إن هذه الأمراض لم تقضِ على جسد الأمة نهائياً، ولن تستأصل شأفتها بالكلية، لكن حذار أن تستمر الأمة هكذا فتعيش أبداً حالة الوهن الدائم، والذل القائم، فلا شك هذا نذير أن نكون - نحن - أول من ينكل بهم ويستبدلون. إخوتاه لا بد من علاج سريع لمشاكلنا الراهنة، لا بد من مداواة لأمراضنا المستعصية، نسأل الله لنا ولكن العافية، اللهم ألف بين قلوبنا، حتى لا نرى إلا الحق حقاً فنتبعه، ونرى الباطل باطلاً فنجتنبه. إخوتاه أوقفوا نزيف الدم المهراق في سنوات الذلة والاغتراب، كفي ما نحن فيه من تآكل، كفي ما نحن فيه من تشاحن وتنازع، أما ترون ما قد حل بأمتنا من المهالك حتى لا تزالوا في تلك المهاترات تبيتون وتصبحون. إخوتاه إن ما نعانيه اليوم لا يخرج عن كونه أعراضاً للمشكلة الإيمانية، الناشئة عن خلل في البنية التربوية التي عليها تأسس العقل المسلم. إنها آثار الأزمة الأخلاقية التي يعانى منها سلوك المسلم، ولا سبيل للخروج إلا بمعالجة جذور الأزمة الإيمانية الأخلاقية العلمية. لا بد من تصويب الفهم، وإعادة صياغة السلوك الأخلاقي، وإلا كنا كمن يضرب في حديد بارد.

إخوتاه إن الاختلاف في وجهات النظر، الاختلاف في تقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطرى طبيعي، قال تعالى: " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين " [هود / 118] فالاختلاف صار وسيلة - عندنا - للقتال وإنهاك القوى في معارك جانبية، والأصل أن الاختلاف ظاهرة صحية تغنى عقل المسلم بخصوبة الرأي من خلال الاطلاع على وجهات النظر المختلفة، ورؤية الأمور من جميع الزوايا والأبعاد، إنه إضافة عقول إلى عقل، فتعدد وجهات النظر المكافئة والمتكاملة - لو أمعنا النظر - حرىٌ بأن ينهض بالعقل المسلم في عصر التخلف، لكن الذي حدث يندى له الجبين، معارك … خصومات … استنصار بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف … الخ، ولهذا كله شواهده من التاريخ القريب والبعيد. إخوتاه إن النظرة الكلية السوية للأمور، والنظرة الشاملة للأبعاد المتعددة يعجز المرء كثيراً عن الإحاطة بها، فيقع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه فلا يرى معها شيئاً آخر، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يرى الأمور بمقاييس مخجلة محزنة، يرى عدوه أقرب إليه من مخالفه في الرأي. شيء عجيب هذا الذي نحن فيه، مع أن الخلاف سهل ميسور والأمة تعانى من مثل هذه القضايا، وبدل أن نتفق تذهب أقدامنا جهة الخلاف، وكيف لنا أن نتفق ونحن نختلف على أرض الإسلام؟ فكيف تجمعنا " لا إله إلا الله محمد رسول الله "؟!!

إخوتاه انظروا إلى هذه الحادثة التي وردت في كتاب " سير أعلام النبلاء" (¬1) أن المسور بن مخرمة وقد كان عند معاوية - رضي الله عنه - فقضى حاجته ثم خلا به. فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟!!. قال المسور: دعنا من هذا وأحسن. فقال معاوية: لا والله لتتكلمن من ذات نفسك بالذي تعيبه علىَّ. قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا وبينتُه له. فقال: لا أبرأ من الذنب فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟ قال المسور: ما تُذْكَر إلا الذنوب. فقال معاوية: فإنَّا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال المسور: نعم. قال معاوية: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق منى، والله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكني والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا واخترت الله على ما سواه، وإني على دين يقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال المسور: فغلبني والله. ¬

(¬1) السير (3/ 150).

[(1) النصوص منها القطعي ومنها الظني]

إخوتاه آه .. أريدك يا من تتكلم في حق العلماء والدعاة أن تذكر عيب نفسك!! ألست على ذنوب كذنوبه، انظر لنفسك فإنَّه يلي من إصلاح الدين ودعوة الناس ما لا تصنع أنت، والرجل له حسنات كثيرة فهو برجاء العفو ومحو السيئات، وربما ليست لك من الحسنات ما يكفر ما تقدم عليه من الغيبة وإفساد ذات البين فلتقل خيراً أو لتصمت. إخوتاه ينبغي أن ننتبه إلى هذا جيداً، لينشغل كلٌ منا بإصلاح عيب نفسه أولاً. سبق أن قلت لكم: إن رجلاً لقي أخاً له في الله، فقال له: إني أحبك في الله، قال أخوه، لو علمت ذنوبي لأبغضتني في الله، قال: لو علمت ذنوبك لمنعني علمي بذنوبي من بغضك. [أصول آداب الخلاف] إخوتاه تعالوا نضع أصولاً لقضية " الخلاف " رجاء ائتلاف القلوب ووحدة الصف. [(1) النصوص منها القطعي ومنها الظني] أولاً: ينبغي أن ندرك أنَّ نصوص الكتاب والسنة، منها ما هو قطعي في ثبوته (وهو القرآن والسنة المتواترة) ومنها ما هو ظني الثبوت (وهو حديث الآحاد). كما أنَّ دلالة النص قد تكون ظنية وقد تكون قطعية، على هذا فهناك: أ) نصوص قطعية في ثبوتها ودلالتها، فلا يجوز الخلاف فيها. ب) وهناك نصوص ظنية في دلالتها يسعنا فيها اختلاف وجهات النظر. مثال ذلك: قال الله تعالى " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ " [البقرة / 228]، هذا نصٌ قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة، فالقروء مفردها قُرء وهو

يستخدم لمعنيين مختلفين الطهر والحيض. فهنا تختلف وجهات النظر فمن أهل العلم من يرجح أن المراد بالقرء في الآية "الطهر" ويأتي بأدلة وقرائن على ذلك، ومنهم من يرجح أنه بمعنى " الحيض " ويأتي أيضاً بأدلته. وهناك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة على هذه الشاكلة، تتجاذب فيها العقول أطراف الفهم. وقد يستدل الفريقان المتعارضان بالنَّص الواحد على رأيه. فمثلاً: النهي عن أن يبرك الرجل كبروك البعير (¬1) يستدل به بعضهم على النزول باليدين للسجود قبل الركبتين، وبعضهم يرى فيه دليلاً على نزول الركبتين قبل اليدين. قالوا: إن ركبتي البعير في يديه، وعلى ذلك فالنزول باليدين. قال الفريق الثاني: إن البعير ينزل على يديه وعلى ذلك فالنزول بالركبتين وهكذا. ومثل الإشارة بالإصبع في الصلاة ونحو هذا من المسائل كلٌ يفهم النص من وجهة نظره وبالقرائن التي قويت عنده. فمثل هذا - والحالة هذه - لا ينبغي أن يقيم بيننا المعارك والخصومات أبداً لا ينبغي أن يكون ذلك، فلا بد من سعة الصدر في تقبل الرأي المخالف، لا بمعنى التمييع بحيث لا يكون للمرء وجهة، وإنما بمعنى الاستعداد لقبول الرأي الآخر. ¬

(¬1) فعن أبى هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبر البعير " أخرجه أبو داود (840) ك الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، والنسائي (1090) ك التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ كما في صحيح أبى داود (746)، وراجع في المسألة مثلاً [صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ (121 - 126)، زاد المعاد للعلامة ابن القيم (1/ 223 - 232)].

(2) الأخوة الإيمانية ووحدة الصف ونبذ الفرقة من أهم الواجبات على كل مسلم

إخوتاه لا بد من تربية الشباب على هذا، فمعرفة هذه الأمور لها شأنه في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النصوص، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما يفهمونه من النص من فهم مخالف ما دام اللفظ يحتمله، والدليل يتسع له، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه فهذه ثلاثة ضوابط للفهم: (1) اللفظ يحتمل. (2) الدليل يتسع له. (3) نصوص الشرع لا تناقضه. إخوتاه معظم الأحكام المتعلقة بالفروع التي تتناول الجوانب العملية تجدها من هذا الباب، يتسع للناس فيها مجال الاجتهاد، والشارع قد جعل مقصد الشريعة الأساسي تحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وآذن برفع الحرج عنهم والعمل على التيسير دون التعسير. ما دام الأمر كذلك فلا يليق بأحدٍ أن ينسب مخالفيه في الرأي إلى الكفر والفسق والبدعة، بل يلتمس لهم العذر، ويجعل حبل الود موصولاً وإن اختلفت آراؤهم. إخوتاه القاعدة والأصل الثاني في باب "آداب الخلاف" أن ندرك جميعاً أن (2) الأخوة الإيمانية ووحدة الصف ونبذ الفرقة من أهم الواجبات على كل مسلم، وعلى ذلك فينبغي الحفاظ على صرح الأخوة، ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها.

علينا أن نتعامل مع الأمر على أنه قربة من القربات وعبادة كلفنا الله بها، فإننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي لا ترضى الله ورسوله. ينبغي أن ننتبه إلى أن التفريط في الأخوة الإيمانية أو المساس بها لمجرد الاختلاف في الرأي لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي تداعت فيها الأمم على أمتنا الإسلامية، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي تتقد في قلوب المؤمنين، إن هذه الجموع المتكالبة لحرب الدين تريد استئصال شأفة المسلمين، تريد أن تبيد هذه البذرة الطيبة التي بدأت تشق طريقها مع وجود من ينهال عليها ويحاول اجترارها واجتثاثها. إخوتاه إن الأخوة في الله ووحدة القلوب لمن أولى الفروض وأعلى الواجبات، إنها شقيقة التوحيد وقرينته، والواجبات مراتب بعضها آكد من بعض، وكذلك شأن المنهيات، فزنا الفرج أكبر من زنا العين وهكذا وإن كان الجميع منهياً عنه، وهكذا شأن النيل من الأخوة يأتي في صدارة المنهيات لما فيه من إتلاف وإفساد لذات البين، وتفريق لوحدة المسلمين. كان سلفنا الصالح يتركون الفاضل أحياناً، ويعملون بالمفضول حفاظاً على الائتلاف ومخافة الوقوع في الخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى الأئمة الأربعة يصلون بعضهم خلف بعض (¬1)، ومن أنكر ذلك مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة ¬

(¬1) انظر رسالتنا "منطلقات طالب العلم " يسر الله إخراجها، وفيها أتحدث عن انتشار التشنيع على المذاهب من أجل نبذ التعصب، وما ضر الأمة بسبب ذلك، فلا يعرف بعضنا إلا أن المسلمين انقسموا في الصلاة لأربع فرق كلٌ حسب مذهبه، وكلٌ يأتم بمن يوافقه في مذهبه، نعم هذا حدث لكن في عصور المهانة والذلة والضعف، أما عصور الإيمان وعلو الهمة فما كان ذلك.

بإجماع المسلمين. (¬1) لقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلى خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه يصنعون، والشافعي يصلى خلف أئمة بالمدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرءون بالبسملة لا سراً ولا جهراً، هذا كله وارد وصحيح. يقول شيخ الإسلام: وصلى أبو يوسف (صاحب الإمام أبى حنيفة) خلف الرشيد وقد احتجم (الحجامة خروج الدم بطريقة معينة) وقد أفتاه مالك بعدم الوضوء، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يُعد، هذا مع أن صلاة الرشيد بهذه الكيفية باطلة، لأنَّه انتقض وضوءه بالحجامة. وكان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف (نزيف الأنف) فقيل له: إنْ كان إمامى قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال الإمام أحمد: كيف لا تصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك، يريد ـ رحمه الله ـ أنَّ سعيد بن المسيب ومالكاً ـ رحمهما الله ـ يريان أن الوضوء لا ينتقض بالرعاف. إخوتاه أين نحن من هؤلاء؟ انظر إلى الأدب في احترام قول المعارض بل وتوقير صاحبه، فهذا الذي يقال بيننا من طرح قول المخالف كائناً من كان لا ينبغي أن نردده دون وعي، فالخلاف العقدي شيء، والخلاف في الفروع والمسائل الفقهية شيء آخر. اختلاف في الفروع لا مانع مطلقاً دون أن يفسد المودة والمحبة والأخوة الإيمانية. أما قضايا العقيدة التي لا تحتمل التأويل فشيء أخر، فلا ينبغي أن نفهم أن قبول الآخر يعنى التمييع وعدم وجود للهوية، وينبغي أن ندرك من هذا الآخر الذي نقبل قوله، ¬

(¬1) ومن أراد التثبت فليرجع لرسالة شيخ الإسلام المسماة " قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي وأداء الصلاة معهم في جماعة "

(3) معرفة أسباب الخلاف الفقهي

وفي أي شيء يُقبل، فإنَّ مجابهتنا لأعداء الأمة لا يدفعنا إلى أن نضع أيدينا في أيدي الذين لم يصيبوا من الإسلام إلا اسمه بدعوى الحرص على الأخوة فليتدبر ذلك. الأصل الثالث في قضية "آداب الخلاف" (3) معرفة أسباب الخلاف الفقهي. وقد صنف العلماء في بيان ذلك الرسائل الماتعة، ومن أبرز هذه الرسائل ما سطرته يد شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الرائعة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، وأنا أوصى الأخوة باقتناء هذه الرسالة وتدبرها جيداً، وهي مع صغرها عظيمة الإفادة. فتعرف من خلالها أن أهل العلم قد يختلفون لأسباب عدة: بداية من معرفة الدليل أو ثبوته عندهم أو الاختلاف في تأويله أو وجود المعارض أو اختلافهم في الجمع بين الأدلة أو .. أو .. الخ. فينقدح في ذهنك أنَّ الأمر رحب واسع، وليس كما يتصوره بعضنا حين ينال من العلم شبراً، وستقول يوماً وأنت تعض أصابع الندم " أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأبيض " الأصل الرابع: (4) الإلمام بفقه الواقع. فإنَّ معرفة المخاطر الهائلة والتحديات الخطيرة التي تواجه الأمة في عصرنا الحالي، يبعث هذا على ضرورة التكاتف ونبذ الخلاف، ولا يكون ذلك إلا من خلال السلوك الأخلاقي والتأدب بآداب الإسلام في اختلافاتنا، فإنَّ هؤلاء لا يريدون أن يبقوا للإسلام قائمة، لا يتركون أسود ولا أبيض فالجميع سيؤكل إن آجلاً أو عاجلاً. لذلك فإنَّ إثارة الاختلافات بين المسلمين وتنمية الخصومات في مثل هذا الزمان يُعد خيانة عظمى للأمة بأسرها، بل علينا أن نحض القوم على التأدب بآداب الخلاف، فيلتمس للمخالف الأعذار، ويتسع الصدر لاختلاف وجهات النظر، ولا تنخلع من القلوب المودة والمحبة المشتركة من خلال نسيج الأخوة الإيمانية.

(5) التقوى

الأصل الخامس (5) التقوى قبل أي شيء وبعده لا بد أن يتعلم الجميع أنَّه لا مناص من الالتزام بتقوى الله في السر والعلن، وأن يبتغى وجه الله في حالتي الوفاق والخلاف. إخوتاه إياكم والهوى .. إياكم ونزغات الشيطان فإنَّه يقعد لكم بكل طريق، يريد أن يصدكم عن دينكم ويلبس عليكم أمر رشدكم، بحسبكم ما لقيت الأمة وعانت على مدار هذه القرون من الذل والمهانة، آن الأوان لتعود الأمة إلى وضعها الطبيعي، آن الأوان أن تسير الأمة بنور الكتاب والسنة. إخوتاه أمَا تشتاقون إلى نصرة دين الله على أيديكم، أما ترجون أن يمكن الله لكم في الأرض، فاللهم مكن لدينك في الأرض يا رب، إذا صدقنا النية مع الله، واتخذنا من السبل ما هو كفيل لقيادة الركب لبر الأمان فعسى أن ننال ذلك بعد أن طال ليل التيه والضلال. إخوتاه سلوا الله أن يسدد خطانا، لا يبخلن الصالحون منكم بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق، نسأل الله أن يهدى المسلمين، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يصرف عنهم نزغات الشياطين.

سد باب النقل ورد قالة السوء من سمع كلمة يكرهها فردها وأنكر انقطع عنه ما يكره فإن سكت سمع أكثر مما يكره

سادسا: سد باب النقل ورد قالة السوء

السبب السادس لتعميق أواصر الأخوة سادسا: سد باب النقل ورد قالة السوء قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " [الحجرات /6] وفي القراءة الأخرى " فتثبتوا ". فإذا أردت سعة الصدر، وطيب القلب والخاطر فلا تسمع أحداً عن أحدٍ، ولا تلتفت إلى حديثهم، أما علمت أن كثيراً منهم لا يعقلون ولا يتثبتون. وصفهم بعض السلف فقال: هؤلاء إذا رأوا خيراً كتموه، وإن رأوا شراً أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا. فهم في جميع الأحوال أعداءٌ، أرباب الفتنة، مثيرو الشغب، فالنمام رجل مريض قد امتلأ عقله بالتخيلات، وقلبه بالظنون السيئة، فالناس معه بالهمز واللمز والطعن، الناس دائماً من وجهة نظره لا يتكلمون إلا في العيب والتلصص، شُغل بالناس عن خويصة نفسه وشئونه، ولو علم أن لو كانت مناقب الناس ملء الأرض لن تنفعه، ولو كانت للناس مساوئ ملء الأرض لن يضيره شيء، كان في نفسه شُغل، وأي شغل؟! إخوتاه يقول الإمام الشافعي: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا، كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيعرض على أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردَّت كلمة السفيه لسعد رادُّها كما شقي بها قائلها ".

وذلك لأنَّ النمام الساعي بقالة السوء يبتغي بذلك سلماً إلى الفتنة، وإفساد صفو الإخوان، وعلى هذا ينبغي محاربته وصده عن طريقته لعله يتدارك ما فرط منه، وإلا كنا شركاء له في إثمه وإفساده. إخوتاه يقول الإمام الشافعي: قبول السعاية أضر من السعاية، لأنَّ السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز" أهـ السعاية بمعنى النميمة، سميت هكذا لأنَّ المقصود بالكلام لم يحضر، ولكن شخصاً يسمع فيسعى بصفة المنافقين، تراه في الحق نائماً، وفي الباطل على الأقدام، وهكذا انعكست الصورة عما كان عليه السلف. إخوتاه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وهو بين أبى بكر وعمر، وإذا ابن مسعود يصلى، وإذا هو يقرأ النساء فانتهي إلى رأس المائة، فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلى، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: " اسأل تعطه، اسأل تعطه ". ثم قال: " من سرَّه أنْ يقرأ القرآن غضاً كما نزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد ". فلما أصبح غدا إليه أبو بكر - رضي الله عنه - ليبشره، وقال له: ما سألت البارحة. قال: قلت: اللهم إنِّي أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة محمَّد في أعلى جنة الخلد. ثم جاء عمر - رضي الله عنه - فقيل له: إنَّ أبا بكر قد سبقك. قال: يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه. (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 454)، وقال الهيثمى في المجمع: رواه أحمد والبزار والطبرانى، وفيه عاصم بن أبى النجود، وهو على ضعفه حسن الحديث، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورجال الطبرانى غير فرات ابن محبوب وهو ثقة، يشير إلى ما رواه الطبرانى في الكبير (9/ 67) لكنه لم يذكر قصة الحديث.

فانظر كيف يسعد المسلم بالخير الذي يناله أخوه، ويسعى لبشارته، فنسأل الله لنا ولكم العافية، هذه سعاية بالحق والصدق والخير، لا السعاية بالباطل والإثم والعدوان. إخوتاه .. الساعي منقوص إن كان صادقاً لهتكه العورة، وإضاعته الحرمة، ومعاقب إن كان كاذباً لمبارزته الله بالبهتان وشهادة الزور، فالنمام مريض ينبغي أن نعالجه، فإن لم يكن ثم دواء فعلينا أن نستأصل هذا العضو حفاظاً على بقية الجسد. إخوتاه .. أين هؤلاء من صدى صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: " لا يدخل الجنة قتات " (¬1) " لن يدخل الجنة نمام " (¬2)؟! أين هؤلاء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه " (¬3) ألا يخشى هؤلاء من تهديد ووعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر من آمن بلسانه ولم تؤمن قلوبهم لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة المسلم تتبع الله عورته " (¬4) نعم هؤلاء مَرضى، والذي يقبل منهم أشد مرضاً وأسوأ خلقاً، أليس من ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (6056) ك الأدب، باب ما يكره من النميمة، ومسلم (105) ك الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة. (¬2) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬3) أخرجه أبو داود (4918) ك الأدب، باب في النصيحة والحياطة، والبخاري في الأدب المفرد (239) باب المسلم مرآة أخيه. والحديث حسنه الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد (178). (¬4) أخرجه أبو داود (4880) ك الأدب، باب في الغيبة، والإمام أحمد (4/ 421)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (7984).

هؤلاء من قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بعد أن قاموا بعملية إحصاء دقيقة لكل اجتهاداته، وصوروها بحسب ما يتخيلون بعقولهم المريضة، وما يظنون من قِبل قلوبهم الضعيفة فاتخذوا ذلك سلماً للفتنة. لما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - صعد حذيفة بن اليمان على المنبر فخطب فقال: اللهم العن قتلته وشتامه، اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة، اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف. إخوتاه لا ينبغي أن تتخذ الأخطاء سلماً إلى الفتنة، نحن في وقت نحتاج فيه لتأليف القلوب لا إشاعة الفتن، فأين هؤلاء من قول الله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون" [النور/19]؟!! إنَّ الأبواب كلها مغلقة، والطرق كلها مسدودة أمام النمام إلا أن يتوب إلى الله جل وعلا، " والله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار " (¬1) حبيبي في الله .. لا تبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفاً. يقول الفضيل بن عياض: لم يُدرك عندنا ما أُدرِك إلا بسخاء النفس وسلامة الصدر والنصح للمسلمين. بمعنى أن الدرجة العليا من الإيمان لا تُنال إلا بهذه الثلاثة، إنها وصية غالية لمن أراد سلوك الطريق الآمنة التي يتحصل فيها الإيمان، وتغسل فيها الخطايا والذنوب العظام. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2759) ك التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب.

إخوتاه ليكن شعارك دائماً " النظافة "، فنحن لا نريد نظافة الظاهر فحسب، بل آكد من ذلك نظافة الباطن، نظافة الضمير والتفكير، نظافة اللسان واليد والجنان، النظافة في التعامل والمسلك، نظافة القلب من الأحقاد والأدران. اللهم طهر قلوبنا يا رب. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً، كان يقول عند المعتبة: " ماله ترب جبينه " (¬1) فالمسلم " من سلم المسلمون من لسانه ويده " (¬2)، نريد نظافة للجوارح، ونظافة للقلب من الشبهات والشهوات. قال الله تعالى " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين " [البقرة / 222] نسأل الله أن يجعلنا منهم. إخوتاه لابد من سد هذا الباب حتى لا تسمع أحدا يتكلم في أحد، حتى لا تقبل كلام شخص في شخص، حتى تعيش سليم الصدر، هادئ البال، مرتاح الضمير، نريد حسن الظن بيننا. أريدك ـ أخي ـ أن تقول للنمام إذا جاءك: سل الله أن يغفر لي ولك وله، أريدك أن تصده، فلينصرف راشدا دون أن تسمع منه ما يؤذيك، فإنَّ السبيل شائكة. يقول - صلى الله عليه وسلم - " سيصيب أمتي داء الأمم، فقالوا يا رسول الله: ـ وما داء الأمم؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6301) ك الأدب، باب لم يكن النبي فاحشاً ولا متفحشاً. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (10) ك الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (41) ك الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل.

قال: ـ الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ". (¬1) اللهم اهد أمة حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم ألف بين قلوب المسلمين. عن الزبير بن العوام أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلكم لكم أفشوا السلام بينكم " (¬2). إخوتاه أخاف على الذين يسعون في إيقاع الفتن بين المسلمين، أخاف على الذين يمشون بالنميمة من سوء المنقلب غدا، وأنتم تعرفون قصة هذين الرجلين اللذين أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما يعذبان وما يعذبان في كبير فالأول: ـ كان لا يستتر من بوله والثاني: ـ كان يمشي بالنميمة (¬3). يا هذا لتقل خيرا أو لتصمت، انشغل بعيب نفسك، واترك ما لا يعنيك، وإياك أن تكون سبب الخصومات والعداوات بين المسلمين، أخاف أن يحلق دينك بإفسادك لذات البين. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (4/ 168) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (680) وقال: ـ رجاله ثقات رجال مسلم غير أبى سعيد الغفارى. (¬2) أخرجه الترمذي (2501) ك صفة القيامة والرقائق والورع، والإمام أحمد في مسنده (1/ 165، 167). وقال الهيثمى في المجمع (8/ 30): ـ رواه البزار وإسناده جيد، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (3361). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري (216) ك الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، ومسلم (292) ك الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه.

عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال: ـ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: ـ بلى. قال: صلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة (¬1). إخوتاه كم من أخ لنا هجر أخاه بسبب الوشاية والنميمة، كان يأتي منشرح الصدر وسط إخوانه الذين يحبونه، فما إن دخل هذا الشيطان المريد حتى ودبت البغضاء في دمائهم وفسدت القلوب، وبدأ يهجر المسجد، وصار عونا للشيطان. أُخَيَّ تذكر دائما لإخوانك لحظات القرب، كيف كنت تتعاون معه على طلب العلم، كيف كان يذكرك بالله؟ كيف كان يوقظك لصلاة الصبح، أنسيت كل هذا؟ واستمعت لقالة السوء فضاع الدين بسبب البغض والغل الذي ملأ الصدور. " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [الحشر / 10]. إخوتاه إذا أردنا سعة الصدر، وطيب القلب والخاطر فعلينا ألا نسمع في أحد شيئا إلا ما كان حسنا، ويخبرك السلف بحقيقة شأن من تسمع له وتترك أخاك من أجل تلك السموم التي ينفثها في صدرك. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2590) ك صفة القيامة، وقال: حديث صحيح، وأبو داود (4919) ك الأدب، باب في إصلاح ذات البين، والإمام أحمد (6/ 444)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2595).

يقولون: إنَّ أول سبب لهذا المرض هو " الدفاع عن النفس " فأصحاب العيوب يتوقعون نقدا لهم من ناصح أمين، ويظنون هذا النصح هجوما، فيهرولون لأخذ زمام المبادرة، وتحويل الهجوم بهمز ولمز وغمز من وراء ظهر. فأجرأ من ترى يغتاب ويعيب الناس هم أصحاب العيوب والذنوب فيعيرون الناس، وأصحاب الأخطاء ـ دائماً ـ يبحثون عن أخطاء الناس ويشيعون عنهم ما لا يستطاب، والأمر مشاهد لا يحتاج إلى فراسة، هذه الخصلة ملازمة لكل ذي لسان طويل. قال السامع للمهزار: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس؛ لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها. قال بعض السلف: ما رأيت شيئا أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب، ولا أسرع في هلاك العبد، ولا أدوم للأحزان، ولا أقرب للمقت، ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة: من قلة معرفة العبد لنفسه، وكثرة نظره في عيوب الناس. اللهم ارزقنا غضَّ أبصارنا عن عيوب الناس، إذ من يرى عيب الناس يغتر، ويعجب بنفسه فهو منشغل بعيوب الناس عن عيب نفسه. إخوتاه (2) من أسباب الوقوع في هذا المرض الخطير " الغفلة " يقول التابعي الجليل عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما أحسب أحداً تفرغَ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه. فالغفلة شئ ظاهر، ولا شك فلولاها لاعتنى بملكه واشتغل بفرسه وجنى الثمار، أما هؤلاء فأعداء المروءة، بنو عم السوء، إذا رأوا حسنا كتموه، وإذا رأوا عيبا أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا، نسأل الله أن يقينا شرهم.

وقفة لتجديد النية

فأصحاب هذه النفوس الدودية لا يقعون على شئ حتى يتسخ، أصحاب نفوس ذبابية لا تقع إلا على القاذورات، يبصر أحدهم القذاة في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه. إخوتاه سدوا مسامعكم عن قالة السوء؛ فإن السامع شريك القائل، اهجروا هؤلاء وانصحوهم في الله أن يكفوا عن نقل الأخبار السيئة، فلا نريد الولوغ في أعراض المسلمين، ولا تسمعوا لمن يقول: هذا من أجل خدمة الدين، هذا لبيان المجروح ممن يتصف بالعدالة، لا .. لا .. لا تسمع .. قل له: أخي عرضه عرضي، لا أقبل أن أسمع عنه ما يشينه وانتهت المسألة. وقفة لتجديد النية لماذا تقرأ هذا الكتاب، هل سألت نفسك هذا السؤال على مدى هذه اللحظات التي قلبت فيها صفحات الكتاب؟ هل تذكر العهد الذي أخذته عليك، واتفقت أن تصحبني هذه اللحظات لنقيم معا صرح الأخوة، لتخرج بعدها تصحح علاقاتك الأخوية الإيمانية، لتعرف كيف تتعامل مع إخوانك؟ إخوتاه لا أريد أن أذكركم أنكم ـ معشر الملتزمين ـ تحملون العبء الثقيل في إعادة الاتزان للأمة، فأنتم رمانة الميزان، أنتم الصفوة التي اختارها الله لإقامة دينه في أرضه،

فإذا كان وجه الأرض قد تغير، ولا تجد إلا ما يزري ويخجل من إسلام مشوه، ودين مميع، وأخلاق تأنف الحيوانات أن تتخذها، وإذا كنت تجد البلاء عاما يئن تحته الفرد فثمَّ خلل فينا، فإنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إخوتاه حرام …أن تولى ظهرك لهذا الحال المزري للأمة ولا ترجع باللائمة على نفسك. حرام …أن تنشغل بأي شئ عن إصلاح نفسك وأمتك التي تفت الأدواء من عضدها. حرام …أن يكون فينا من يسلم أعداء الإسلام من لسانه ولا يسلم المسلمون منه. صدق ابن المبارك لمَّا جاءه الرجل يغتاب مسلما فقال له: ـ أغزوت الروم. فقال: لا. قال: أغزوت الفرس. قال: لا. قال: غزوت الهند والسند. فقال: لا. قال: سلمت منك فارس والروم والهند والسند، ولم يسلم منك أخوك المسلم. إخوتاه الوقت حرج ـ والله ـ، نحن في حاجة لجهودك في الذب عن الأمة، للدفاع عن أبجدياتها المطعون فيها من كل سفيه، نحتاج إلى النفوس النفيسة والقلوب النقية، نريد من يكف عنا أذى المؤذين الذين ينشبون أظفارهم في جلود المسلمين، وينهشون في أعرضهم ويطلقون ألسنتهم في تجريحهم. إخوتاه نريد " صرح الأخوة "، فالأخوة منحة قدسية إلهية، إشراقة ربانية، منة عظيمة

لمن يقدرها، نعمة يمن الله بها على من يشاء من عباده، يقذفها في قلوب المخلصين من أوليائه لإعلاء دينه. إخوتاه الأخوة قوة إيمانية نفسية تورث الشعور العميق بالمحبة والاحترام والود والثقة المتبادلة والإكرام وغض الطرف واحتمال الأذى وبذل الندى. كل ذلك يكمن في ذات الأخوة القائمة على رباط العقيدة والإيمان، فإنَّ الشعور الأخوي إذا صدق يولد في القلب مجموعة من الصفات الإيجابية والسلبية على السواء، فتجد التعاون والإيثار والرحمة والعفو والتكاتف، وفي نفس الوقت ترى الابتعاد عن كل ما يضر الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ترى ترك الإنسان لما لا يعنيه. إخوتاه لا أخوة بلا إيمان، ولا إيمان بلا أخوة " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات/ 10] و "إنما" للحصر، فإذا كنت مؤمنا حقا فلابد من أخوة. وقال - صلى الله عليه وسلم - " من أحب لله وأبغض لله وأعطى له ومنع لله فقد استكمل الإيمان " (¬1) مفهوم ذلك أن من لم يصنع ذلك فإنَّه لم يستكمل الإيمان. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4681) ك السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. والطبرانى في الكبير (8/ 134) وقال الهيثمى في المجمع (1/ 90): ـ رواه الطبرانى في الأوسط وفيه صدقة بن عبد الله السمين ضعفه البخاري وأحمد وغيرهم، وقال أبو حاتم: محله الصدق. وصححه الألباني في الصحيحة (380).

إخوتاه ومن الباب ذاته أقول لكم: لا صداقة بدون تقوى، ولا تقوى بلا صداقة. قال تعالى: " الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " [الزخرف / 67] فالأخوة إذا انعدمت التقت النفوس على المصالح الذاتية والمنافع الشخصية، والصداقة إذا انسلخت من التقوى قامت على توريث العداوة والبغضاء. وإذا رأيت إيمانا وتقوى ولم تجد أخوة فهذا إيمان ناقص وتقوى مزعومة. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه " (¬1). وقال تعالى ـ مخاطبا أهل الإيمان ـ: " وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " [المائدة / 2] فالأتقياء والصالحون على قلب رجل واحد، تحوطهم مشاعر الصدق والصفاء؛ لذلك يستشعرون الأنس من أول لقاء. إخوتاه والله ما أجملها من حياة وما أمتعها وألذها من معيشة إذا تنسمنا هذا النعيم في حياتنا، إنه نعيم جنة الدنيا، وبذلك نعيش حياة حقيقية لا تعرف هذا الضنك الذي يشعر به من جراء الإعراض عن الله واتباع غير سبيل المؤمنين. إخوتاه كونوا يداً واحدة فإنَّ الأخطار تستشرف بوجهها الكالح وأنتم بغير سلاح، تعاونوا توافقوا فهل ينهض البازي بغير جناح؟! وكما قيل: حافظ على الصديق ولو في الحريق، فهدُّ الأركان فقد الإخوان. فتدبر!! ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح تِهْ أَحتملُ .. واستظل أصبر .. وعز أهن .. وول أقبل .. وقل أسمع .. ومر أطع ..

سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح

السبب السابع سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح قال الله تعالى ـ مناديا النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " (الشعراء/215). آه …" خفض الجناح " إنها كلمة تأسرني تستثيرني، وقد أمرنا الله بذلك تجاه الوالدين فقال: " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا " (الإسراء/24) ووصف الله المؤمنين بأنهم " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين" (المائدة/54) نعم هؤلاء قوم يحبهم الله ويحبونه، يذلون لإخوانهم يتواصون بالرحمة فيما بينهم يقول الله في وصف أحباب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - " أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم " (الفتح/29) إخوتاه إننا بحاجة إلى لم شمل المؤمنين، إلى جمع كلمة المسلمين، إلى تأليف قلوب الناس أجمعين، وليس ثمَّ مدخل لذلك أسمى من الرفق، ذُكِرَ عن الإمام علي - رضي الله عنه - أنَّه قال: القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه. القلوب وحشية بمعنى أنها نافرة تبتعد عن الألفة، القلوب كأنها دواب وحشية لا تعرف الرقة في طبعها، إذا اقتربت منها تهرب بعيدا، أو هي من منطلق "الدفاع عن النفس" تهجم عليه لتؤذيه، فمن كان صاحب فطنة قام بترويض هذه الوحوش

وتأليفها، فإنه بذلك يستطيع - بحول الله وقوته ـ أن يقلب طبيعتها الوحشية إلى طبيعة أليفة فتقبل عليه وتلتصق به كما تلتصق الهرة إذا مسحت على ظهرها مداعبا، فالقلوب كذلك تحتاج إلى شيء من الرفق، وفي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة حية على ذلك: عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: جلس عمير بن وهب الجمحي وصفوان ابن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ويلقون منه عناء أذاهم بمكة، وكان ابن وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر. قال: فذكر أصحاب القليب بمصابهم. فقال: إنْ في العيش خير بعدهم. فقال عمير بن وهب: صدقت والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه وعيالي أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي فيهم علة، ابني عندهم، أسير في أيديهم. قال: فاغتنمها صفوان فقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أسويهم ما بقوا، لا نسعهم بعجز عنهم. قال عمير: اكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ وسم ثم انطلق إلى المدينة، فبينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالمدينة في نفر من المسلمين يتذاكرون يوم بدر، وما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر إلى عمير بن وهب قد أناخ بباب المسجد متوشح السيف. فقال: هذا الكلب والله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، هذا الذي حرش بيننا وحرزنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هذا عمير بن وهب قد جاء متوشحا بالسيف، قال: فأدخله. فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال عمر لرجال من

الأنصار ممن كان معه: ادخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجلسوا عنده واحذروا هذا الكلب عليه فإنَّه غير مأمون. ثم دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به وعمر آخذ بحمالة سيفه، فقال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا. فقال: انعموا صباحا ـ وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم ـ. فقال رسول الله صلى عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، السلام تحية أهل الجنة. فقال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث العهد بها. قال فما جاء بك؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم. فأحسبه قال: فما بال السيف في عنقك. قال: قبحها الله من سيوف، فهل أغنت عنا شيئا. قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لهذا. قال: بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فتذاكرتما أصحاب القليب من قريش، فقلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان لك بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إنَّي لأعلم ما أنبأك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقهوا أخاكم في دينه وأقرؤوه القرآن وأطلقوا له أسيره" أهـ (¬1) ¬

(¬1) 1 أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 56،58،59). وقال الهيثمي في المجمع: أخرجه الطبراني مرسلا وإسناده جيد. وروي عن عروة بن الزبير نحوه مرسلا وإسناده حسن. = قلت: ولعمير بن وهب ترجمة في الإصابة (4/ 726 - 728)، وأشار فيها لهذه القصة، وعزاها الحافظ بن حجر لابن إسحاق في المغازي مرسلا أيضا، وعند ابن منده موصولا، وقال: غريب لا نعرفه عن أبي عمران إلا من هذا الوجه، ثم ذكر أن ابن شاهين حكى- بسند منقطع-أن عميراً هاجر وأدرك أحدا فشهدها وما بعدها، وشهد الفتح وله قصة في ذلك مع صفوان، حتى أسلم صفوان وعاش عمير إلى خلافة عمر.

ثم مضى عمير إلى مكة، وأخذ يدعو أهلها بعد إسلامه فاغتاظ المشركون وعلى رأسهم صفوان بن أمية حتى لعنوه. وممَّا يَجمُل ذكره أنَّ عمر بن الخطاب قال: لخنزيرٌ كان أحب إليَّ منه حين اطلع، وهو اليوم أحب إلي من بعض بنيِّ. إخوتاه انظر لرفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجل ومحاورته الهادئة معه، فعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدري حقيقة أمره، ورغم ذلك لم يأمر بضرب عنقه ولا بقتله. وانظر إلى الأخوة الإيمانية ومفعولها السحري، الرجل كان بغيضا أشد ما يكون البغض لقلب عمر - رضي الله عنه - وبمجرد أن أسلم صار أحب إليه من بعض أولاده. هذا الذي ندعو إليه ـ الآن ـ، هذا الذي ألتمسه في معاملاتكم، هذا الذي أنقب عنه في صدوركم، آه .. لو تستجيبون …آه لو تعلمون، اللهم حببنا في كل من يحبك وارزقنا حب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك. إخوتاه تحتاج أن تضع يدك على من يعنفك حين تدعوه وتقول: اللهم اشرح صدره، واهد

قلبه، وأصلح حاله، ويسر أمره، واعف عنه. فبمجرد أن يراك تدعو له، سينشرح صدره، وإذا زاد تعنيفه لك فقل له: أسأل الله أن يعفو عني وعنك. يقول لك: أنت تحسب نفسك عالما، من أنت حتى تنصحني؟!! فقل: أحسنت ما شاء الله، بارك الله فيك، غفر الله لي ولك وعفا عني وعنك، وهداني وإياك، انصحني ـ أخي ـ فقد ترى من عيبي مالا أبصره، جزاك الله خيرا فقد كنت ألتمس أن نتواصى بالحق ونتناصح في الدين. وهكذا فستجد بإذن الله استجابة وألفة ومحبة يلقيها الله في صدره ولا تيأس، فما دخل الرفق في شيء إلا زانه. قال تعالى: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " [فصلت /34] إخوتاه إن الدعوة بالكلام وحده لا تكفي، فلابد من السمت الطيب والمعاملة الحسنة، والرفق الذي يجذب قلوب الناس، ولابد من المبالغة في ذلك، فالنفوس مختلفة، والبيئات مختلفة، والتنشئة والتربية مختلفة، والناس معادن فمنهم كالذهب، ومنهم كالفضة، ومنهم كالحديد…وهكذا، فليس كل الناس يصلح لهم أسلوب معين لدعوتهم، وجميعهم يحتاجون إلى عمليات صهر حتى تنصهر جميعا في بوتقة الأخوة، فيصيرون على قلب رجل واحد كأنهم قالب واحد. اللهم ألف بين قلوبنا ولا تجعل لغيرك فيها شيئا. إخوتاه لابد من رفق يناسب كل معدن من تلك المعادن، لابد أن تكون ذا يد حساسة تشعر بنوع ما تلمسه، ثم تستطيع بعد ذلك أن تصلحه وتعامله مرة أخرى، حينها تجتمع

القلوب كما يجتمع النَّمل على قطعة السكر. إخوتاه الرفق كلمة جميلة ترفقت بها كثيرا قبل إيرادها في هذه الورقات، وضعتها بيسر على الخطوط كي يتلاءم معناها مع مغزاها، إنني وضعت كلمة "الرفق" برفق حتى تصل إلى الأخ الفاضل ـ حبيبي وأخي في الله ـ لينة سهلة، فنستطيع بعد ذلك استثمار معانيها وترجمتها إلى واقع حي. إخوتاه قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " (آل عمران/159) نعم إنَّ الله يعلم نبيه كيف يدعو الناس، وهو أحسن الناس خلقا، زكاه الله فقال: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " (القلم/4) إلا أنَّ شأن الدعوة خطير، ويحتاج إلى تدريب وممارسة. يقول: " فبما رحمة من الله لنت لهم " فاللين نتج عن محض رحمة الله جل وعلا، فاللهم هبْ لنا الرحمة من عندك تهدِ بها قلوبنا وتؤلف بيننا. كان عمر- رضي الله عنه - حين تولى الخلافة يدعو ربه في جوف الليل فيقول: اللهم إنِّي حديد فليني للمسلمين. فالله وحده الذي يسبغ على عباده هذه الرحمات فتلين القلوب، وما الصنيع إن نزع الله الرحمة من قلوب الغلاظ الأشداء، فسل الله قلبا لينا.

إخوتاه دعونا نتصارح، ألست محتاجا إلى كنف رحيم، ألسنا جميعا بحاجة إلى رعاية فائقة، إلى بشاشة وسماحة، إلى ود وألفة، إلى محبة تسعنا وحلم لن يضيق علينا بجهلنا وضعفنا ونقصنا، والله إنَّنا ـ جميعاً ـ لفي أمس الحاجة إلى القلوب الكبيرة التي تسعنا وتعطينا ولا تأخذ منا. فإنَّ قسوة الظروف وضراوة التحدي وعمق المأساة التي يعانيها المسلمون، والتي يتكبدها الملتزمون على وجه الخصوص، هذا كله يجعلنا في حاجة إلى " الأخوة الصادقة " التي لا تعرف المصالح، بل قانون المنفعة الذي يحكمها هو" زيادة الإيمان " فأنت تنفعني في ديني وأنا أنفعك في دينك. هذه القلوب الكبيرة أين هي؟ هذه الصدور الحنونة التي نريح عليها رؤوسنا أين ـ بالله ـ نجدها؟ نريد من نبكي على صدره ويحمل همومنا ولا يعنينا بحمل همه، نريد من يهتم بنا ويرعانا يعطف علينا، يعاملنا بالسماحة والرضا والود، نريد أصحاب الوجوه البشوشة، أصحاب البسمة العطرة والكلمة الندية. أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان الصحابة إذا حزبهم أمرٌ أتوه، فبمجرد أن ينظروا إليه تنشرح صدورهم وينقلب غمهم سرورا - صلى الله عليه وسلم -. إخوتاه هذا واجبكم وواجب الدعاة في كل زمان أن يحملوا همَّ الناس ولا يتعبوا الناس بحمل همومهم، أن يبشوا في وجوه الناس ولا يطلبون من الناس تلك البشاشة، أن يحسنوا إلى الناس ولا ينتظرون جزاء الإحسان، أن يساعدوا الناس ولا ينتظرون مساعدة من أحد، هذا واجبك؛ لأنَّ الدعوة واجبة على كل مسلم.

إخوتاه من أسباب ضياع معاني الأخوة، أن تنتظر من أخيك أن يصنع ما هو أفضل دائما، علينا أن نأخذ زمام المبادرة وقصب السبق حتى لا تنتكص على عقبيك مخذولا، ويتسلل إليك الفتور، وتبتلى بالحور بعد الكور، والوقوع في الضلال بعد الهدى. وتذكرها دائما واجعلها نصب عينيك" إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا " " [الإنسان/9ـ10] قل كما قالت الرسل في كل زمان " يَا قَوْم لا أسألكم عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (هود/51) حين تفطن إلى ذلك وتصير ذلك القلب الكبير فعليك أن تدرك أنَّ أول الأمر وغايته ومنتهاه يكمن في الرحمة والرقة واللين والوداعة وطيب النفس والخلق فإنَّها أدواتك حتى يتسع قلبك للناس جميعا. إخوتاه لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقيها فيما ينهي عنه، وفقيها فيما يأمر به، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهي عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهي عنه. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أورده من كلام بعض السلف، وعليك أن تتدبره جيدا فإنَّه ثمين للغاية، فانظر كيف أنَّ أبجديات الدعوة إلى الله تقوم على هذه الخصال الثلاثة: الفقه والرفق والحلم حتى لا ينفر الناس. الرفق في أخذ هذا الدين عامل رئيس في تكوين صورة المسلم، فالاتزان في الالتزام نتيجة التعامل مع الفطرة ومع الدين، فإنَّ السبب الرئيسي للتفلت أخذ الدين بصورة

غير طبيعية بشيء من العنف وعدم الرفق فينتج عنه هذا الاعوجاج. قال - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ هذا الدين فأوغلوا فيه برفق " (¬1) فعليك بالرفق في أخذ تعاليم الإسلام، وعليك بالرفق في تطبيقها، وإياك أن تظن أن معنى الترفق في الأمور هو الوقوع في المحظور، فهذا مالا ينبغي أن يتطرق إليه فهمك، بل المقصود الترفق في تلقي الأمور. قال - صلى الله عليه وسلم - " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) ففي المنهيات لا يوجد تفاهم، أما الأوامر فشأنها أوسع. إخوتاه لابد من التدرج، ولا يكون التدرج تكأة يتكأ عليها من لا يدرك فيذهب في غمرات الغفلة، وإنما التدرج يكون بالتمهيد للعمل ثم نعمل ونمهد لغيره حتى نصل. التدرج هنا أن يتصاعد بك مؤشر إيمانك، فتبدأ بإدامة الصلوات الخمس في جماعة، ثم المحافظة على السنن الرواتب، ثم تحافظ على قيام الليل، ثم تنشط في صيام النوافل، لا بأس بثلاثة أيام من كل شهر، ثم تداوم على صيام الاثنين والخميس، ثم يرتقي بك الحال لصيام يوم وإفطار يوم على هيئة صيام نبي الله داود ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ وهكذا. هنا نقول لمن يريد الوصول لهذه المرتبة من اللحظة الأولى ارفق بنفسك، لا أنَّ الترفق يكون بترك الأوامر وفعل المحظورات، بل هذا في باب ¬

(¬1) 1 أخرجه الإمام أحمد (3/ 198)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 62): رواه أحمد ورجاله موثوقون إلا أن خلف بن مهران لم يدرك أنسا، وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2246). (¬2) 2 متفق عليه، أخرجه البخاري (7288) ك الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الإقتداء بسنن رسول الله -واللفظ له-، ومسلم (1337) ك الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.

المندوبات والمستحبات من الأعمال. " ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ". (¬1) فالدين كلٌ واحد، قال تعالى: " يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي الْسِّلْمِ كَافَّةً " (البقرة/ 208) فالمقصود ـ إخوتاه ـ أن نتبصر حقيقة الرفق. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " (¬2) إخوتاه حين آمركم بالتواصي بالرفق في معاملة الناس، وبتحري الرفق في علاقاتكم الأخوية أريدك أن تدرك أن ذلك من مقاصد شريعة الإسلام، فالتيسير أمر مراد، " يُرِيدُ اللَّهَ بِكُم الْيُسْرَ " (البقرة/185) والتعسير أمر غير مستطاب " وَلَا يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ" (البقرة/185) وهذا لا يعني أن ننحرف لذوي الأفهام السقيمة من المبتدعة وأهل الأهواء حين يظنون أن الرفق يقتضي الوقوع فيما حرم الله بدعوى التيسير، بل كل ما جاءت به شريعة الرحمن فهو لجلب المصالح (سواء كانت معلومة أو خافية عن العبد) ودرء المفاسد، وليس الدين باتباع الهوى. إخوتاه أسأل الله لي ولكم السداد، آه لو أنعمنا البصيرة، فانظر كيف ربط رسول الله ¬

(¬1) 1 أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق، باب التواضع. (¬2) أخرجه البخاري (39) ك الإيمان، باب الدين يسر.

- صلى الله عليه وسلم - بين الرفق والسداد، وكأنها وصية الوقت، فإنَّ السداد يعني التركيز على الهدف لإصابته، أي ليكن شغلك الشاغل منصبا على هدفك وهو"الجنَّة" فإن كنت لا تستطيع ذلك فلا بأس بالمقاربة، وطالما الأمر كذلك فأبشر، لكن لا تطمئن لعملك بل عليك بالمزيد فأكثر من فعل الصالحات واغتنم الأوقات، وهذا شأن تلقيك للأوامر توجه للهدف، حاول مرة بعد أخرى، لا تمل، ولا تيأس، بل أبشر، وابدأ في التدرج في الزيادة، والله يعينك. انظر لبساطة الموضوع والرفق في توضيحه حتى لا تنوء بنا الطرق لغياهب الغلو والشطط. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. إخوتاه قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف " (¬1) يقول ابن المنير: " هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنَّ كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع الطلب الأكمل في العبادة فإنَّه من الأمور المحمودة، بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة المفضية إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته". إخوتاه .. الرفق بالنفس .. الرفق بالمسلمين، فما نزع الرفق من شيء إلا شانه، فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أعظم مراتب الإيمان حسن الخلق، ومن أجل الأخلاق فضلا الرفق، ¬

(¬1) بهذا اللفظ أخرجه مسلم (2593) ك البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" (¬1) وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقا " (¬2) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقا " (¬3) وعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنهاـ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار" (¬4) أما حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ورفقه فنسيج وحده. عن أنس بن مالك قال: كانت امرأة في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إنَّ لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ثم رجع. (¬5) كان - صلى الله عليه وسلم -إذا جاء الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، ما يؤتي بإناء إلا غمس يده فيه وربما جاؤوا في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. (¬6) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (1162) ك الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها وقال: حسن صحيح، وأبو داود (4682) ك السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. والإمام أحمد (2/ 250،472،527)،وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (751)، وصحيح الترمذي (928)، وصحيح أبو داود (3916). (¬2) أخرجه البخاري (3760) ك المناقب، باب مناقب ابن مسعود. (¬3) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري (3559) ك المناقب، باب صفة النبي ـ واللفظ له ـ ومسلم (2321) ك الفضائل، باب كثرة صيامه. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 90) ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (4798) ك الأدب، باب في حسن الخلق. وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (4013). (¬5) أخرجه مسلم (2326) ك الفضائل، باب قرب النبي من الناس وتبركهم به. (¬6) أخرجه مسلم (2324) في الموضع السابق.

فهؤلاء كانوا يلتمسون بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتون بإناء فيه ماء ليضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يده فيه ثم يشربون منه أو ينتفعون به، فربما يأتون في اليوم البارد والماء كأنه ثلج، ومع ذلك يضع يده - صلى الله عليه وسلم -. أما الصحابة والسلف الصالح فشيء عجيب شأنهم، انظر للرجل الذي جاء لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بصدقة ماله، فقال له عمر: بارك الله لك في مالك. قال الرجل: يا أمير المؤمنين وأهلي؟ قال: ولك أهل؟ قال: يكون إن شاء الله. قال عمر: وأهلك إن كانوا معك إن شاء الله. فانظر لرفق عمر وطيب معاملته للرجل، فكأنه رأى صغره أو علم أنَّه غير متزوج فيتعجب لطلب الرجل أن يدعو لأهله، ثم يلاطفه ويداعبه ويدعو له ولأهله إن كانوا إن شاء الله. أمير المؤمنين يلاطف الناس ويداعبهم مع ما علم عن شدته في دين الله، لكنَّها شدة في الحق لا عن غلظ وقساوة، كيف وعمر أرق الناس قلبا، وخشيته لله معلومة، ووجله وخوفه معروف تشهد له المواقف الكثيرة. وانظر إلى غاية الأدب في شخص الإمام أحمد - رضي الله عنه -إمام أهل السنة. يقول سلمة بن شبيب: سألت الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن معاوية النيسابوري. فقال: نعم الرجل يحيى بن يحيى. فمحمد بن معاوية متروك كما يقول عنه الحافظ في التقريب وكان يتلقن، وقال عنه ابن معين: كذاب. فعندما سئل الإمام أحمد عنه ترك الكلام فيه، وأخبر السائل عن رجل آخر هو من

الأثبات الثقات "يحيى ين يحيى". إخوتاه .. لقد كانوا يحبون الرفق في كل شيء حتى في اللفظ، كانوا يوصون باستخدام الألفاظ الحسنة الطيبة دون الألفاظ الخشنة. يقول الإمام الشافعي: حَسِّن ألفاظك، لا تقل: كذاب، وقل: ليس بشيء. إخوتاه .. لقد كان الناس ينالون من الأئمة وربما آذوهم بكلام شديد، ولا يزيدهم جهل الجهال إلا حلما. كان بلال الأجوري صاحباً للإمام أحمد فتكلم عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - فأعرض الإمام أحمد عنه. (¬1) والأئمة كانوا يشددون على المخطئ حتى لا يشيع خطؤه بين الناس، وبلال الأجوري كان معظماً لأبي حنيفة - رضي الله عنه -فلما أعرض عنه الإمام أحمد، قال له: كان بول أبي حنيفة أكبر من ملء الأرض مثلك. يقول: فنظر إليَّ وقال: سلام عليك، ومضى. فلما كان من السَّحر، بكرت إليه فقلت: يا أبا عبد الله، إنَّ الذي كان منِّي كان على غير تعمد فأرجو أن تجعلني في حل. ¬

(¬1) والناس قسمان في ذلك، قسم يعظمه لدرجة عالية فيرون مذهبه هو مذهب الحق ويرون كل الفقهاء عيالا على أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وقسم آخر بالغ في القدح فيه حتى رموه بالكفر لما علم عن مذهبه في قضية الإيمان حتى رموه بالإرجاء، لأنه يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولما يترتب على ذلك من تأخيره العمل عن الإيمان، والمسألة اختلف معه فيها أئمة أهل السنة (في ظاهرها)، وإن كان في المآل يتحد كلامه مع أهل السنة.

فقال: سبحان الله، والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى سامحتك ودعوت لك. إخوتاه .. هكذا كانت الأخلاقيات، كان الأدب وحسن الخلق، كان الرفق في أجمل معانيه وتجلياته. وانظر ـ أيضًا ـ ما يرويه الإمام السخاوي في " أدب الشيخين "عن صنيع القاضي أحمد بن إبراهيم الحماد المالكي، والإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي. وهذه الحادثة ستتعلم منها أدب السلف عند الاختلاف، وكيف كانوا يعيشون دون تعصب وتنافر مما أحدثه المتأخرون المقلدون. فالقاضي أحمد بن إبراهيم كان قاضي القضاة وكان مالكيا، ومع ذلك ما كان يتورع من الذهاب لمجلس الإمام الطحاوي ليسمع من تصانيفه المفيدة (¬1) فاتفق مجيء شخص لاستفتاء الإمام الطحاوي عن مسألة بحضرة القاضي، فقال الإمام الطحاوي: مذهب القاضي ـ أيده الله ـ كذا وكذا، فقال السائل: ما جئت لأسأل القاضي، إنما جئت لأسألك أنت، فقال: يا هذا ليس عندي إلا ما ذكرت لك، ورد السائل. فقال له القاضي: أفته أيدك الله. فقال له الطحاوي: طالما أمرني القاضي فلا يسعني إلا الطاعة، الجواب كذا وكذا. إخوتاه الرفق من أعظم دواعي المحبة والألفة بين الإخوة والأصحاب، فالرفق يجعل نفوس ¬

(¬1) للإمام الطحاوي شرح معاني الآثار والعقيدة المنسوبة إليه " الطحاوية " وغيرها من المصنفات العظيمة.

المتحابين وأموالهم ليست لهم بل هي قسمة وشركة بينهم، وما اتحفت النفوس بمثل استعمال الرفق والرحمة، فإنهما ما كانا في شيء إلا زان، وما نزعا من شيء إلا شان، فإنَّ الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، فمن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير كله. إخوتاه تأملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنِّي لأقوم في الصلاة وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه" (¬1) كيف كان رفيقا - صلى الله عليه وسلم - يستشعر حال الناس، ويقدر ظروفهم، وما يمنعه شيء عن رحمتهم والإحسان إليهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً " (¬2) وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت. فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (707) ك الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي. (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم (1478) ك الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية. (¬3) أخرجه مسلم (537) ك المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.

إخوتاه لا تكونوا منفرين، لما قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " دعوه واهرقوا على بوله سجلا من ماء ـ أو ذنوبا من ماء ـ فإنَّما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين " (¬1) إخوتاه ينبغي أن ننتبه لاستخدام الرفق والرحمة، فما يضع الله رحمته إلا على رحيم، فاللهم اجعلنا من الرحماء. قال - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه يرحم الناس كافة " (¬2) وفي تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكرـ رحمه الله ـ أنَّ معاوية بن الحارث كان عاملا لعمر بن عبد العزيز على غزاة، فلما انتهت الغزوة أرسل إلى عمر يبلغه النصر. فقال عمر بن عبد العزيز: هل سلم المسلمون في الغزوة؟ قال: نعم، قال: كلهم؟ قال: نعم كلهم إلا رجلا واحدا عدلت به دابته فساح في الثلج. قال عمر: فصنع ماذا؟ قال الرجل: فهلك. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (220) ك الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد. (¬2) أخرجه الحافظ العراقي في "المجلس 86 من الأمالي" (77/ 2)،وله شاهد أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (203/ 1)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في الصحيحة (167).

فغضب عمر - رضي الله عنه - غضبا شديدا، وقام من مجلسه، وقال: لقد أطلقتها غير مكترث علي بفلان. فكتب إلى معاوية بن الحارث " إياك وغارات الشتاء، فوالله لرجل من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت ". إخوتاه هكذا الأخوة والحب في الله، فوالله الذي لا إله إلا هو ما أحب إنسان في الله ولله إلا وجد ما وجد عمر بن عبد العزيز أنَّ رجلا من المسلمين بالدنيا وما فيها. إنَّه الحب في الله ولله، ينشئ هذه الصور الجميلة، هذا الإحساس الطيب اللطيف نحو المسلمين، إنَّه شعور الرحمة والشفقة والرفق. أحد الدعاة دخلت عليه أمه وهو يبكي ففزعت وقالت: أمسلم في الهند مات؟ أه … نعم ينبغي أن تهتم بحال الناس جميعا، لابد أن تحزن لموت أي مسلم، كيف لا وهو أخوك. إخوتاه تأملوا هذه القصة العجيبة، يقول هارون بن عبد الله الحمال: جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدق الباب علي، فقلت: من هذا؟ فقال: أحمد بن حنبل، فبادرت إليه وخرجت. قلت: مرحبا يا أبا عبد الله، لو دعوتني لجئتك، ما حاجتك؟ قال: شغلت اليوم قلبي. قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: مررت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس، أنت في الظل والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فأقعد الناس. فانظر إلى هذه الرحمة البالغة، والحرص على المسلمين، فأي قلوب هذه؟! وأي

رقة كانوا يتحلون بها؟! كان " أبو حندول الطيب " أحد القراء المشهورين، وكانت له صحيفة بها ثلاثمائة من أصدقائه يدعو لهم كل ليلة، ففي ليلة من الليالي تركهم ونام، فأتاه في المنام من يقول: يا أبا حندول لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة؟ فقام وأخذ الصحيفة ودعا لواحد واحد حتى فرغ. المؤمن للمؤمن كالبنيان، المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. إخوتاه إنَّ الرفق أول طريق النجاح، وبداية للأخوة الإيمانية الحقيقية، فأحسن إلى أخيك وارحمه وارفق به ـ والله الموفق ـ

دوام الصلة والتزاور في الله لو كان للفراق صورة لارتاعت لها القلوب ولهدت الجبال

ثامنا: دوام الصلة والتزاور في الله

السبب الثامن ثامنا: دوام الصلة والتزاور في الله إخوتاه إن كان الله عز وجل وعد الرحم أنَّ من وصلها وصله، ومن قطعها قطعه فإنَّ رحم الإسلام موصولة دائمًا. رحم الإسلام هي الأخوة في الله، هذه الوشيجة التي لا تنقطع ولا تنفصل، هذه الرابطة التي لا تزول أبدا حتى بعد الممات؛ فإنكما يوم القيامة تتلاقيان فتتعارفان، قال تعالى " الْأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ " [الزخرف/67] إخوتاه لابد للأخوة من صلة، وعلينا أن نلفت النظر هنا لضياع صلة الأرحام في زماننا، وهذه المسألة لا نفتأ نذكرها ونلح عليها؛ لأن الأخوة فرطوا كثيرا في هذا الشأن، صلوا أرحامكم، فإنَّ الرحم متعلقة على الصراط يوم القيامة ومعها الأمانة، فمن أدى الأمانة ووصل الرحم نجا وإلا هويا به في النار وطلب أن يأتي بهما من قعر النار؛ لذلك آمركم وأشدد عليكم بصلة الأرحام. قد يتعلل بعض الأخوة بأنَّ بعض أرحامه من العصاة فنقول: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها " (¬1) ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (5990) ك الأدب، باب تبل الرحم ببلالها ـ واللفظ له ـ ومسلم (215) ك الإيمان، باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم

" إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " [المائدة/55]، هؤلاء أولياؤك حزب الله المفلحون، وقد يكون هؤلاء الذين تبرأ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم بعض معصية لكن فرق بين الولاية وصلة الرحم " لهم رحم أبلها ببلالها ". قال العلماء: أي أصلها بقدرها، فإن كان والدك أو أخوك أو عمك مثلاً على معصية ما كالتدخين أو شرب الخمور أو إدمان التلفاز أو أنَّه يسخر ـ دائماً ـ من الملتزمين فهذا لا يمنع من أن تصله، تذهب إليه وتلقي السلام وتبش في وجهه، ثم تقول: تأمرني بشيء، وإن وجدت سبيلا للدعوة فبها ونعمت، وإلا فانطلق راشداً، وقد أديت ما عليك. واحذروا ـ إخوتاه ـ من عقوق الوالدين فإنَّه كبيرة عظيمة من الكبائر، وقد أمرك الله بخفض الجناح لهما، ودوام الدعاء لهما بالرحمة، وأنْ تظل عارفاً لجميلهما حتى وإن كانا على الكفرـ والعياذ بالله ـ " وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " [لقمان/15] هذه هي الحالة الوحيدة التي تفارقهما فيها، إذا أمراك بمعصية، فإنَّما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقال تعالى: " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا " [الإسراء/24] إخوتاه .. ومن مسيس الحاجة أن أنبه هنا إلى ضرورة اتخاذ المواقف الحاسمة في مثل هذه الأحوال، ينبغي أن تكون لك قضايا لا تقبل المناقشة تمثل قاعدة الارتكاز والأصول الأصيلة في حياتك، فأن تعين أحدا ـ كائنا من كان ـ على معصية الله فلا وألف لا، أن

تفاوض على حلق اللحية أو تفاوضين في خلع النقاب فلا، لكن هذا برفق ولين ـ كما تقدم معناه ـ فاحذروا التلون والتردد والتخبط والتخوف؛ فإنَّها دركات حتى تزل قدمك بعد ثبوتها وتذوق السوء بما صددت عن سبيل الله. إخوتاه .. إذا وصلنا أرحامنا فلنزر إخواننا أولياءنا أحبتنا في الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين في" (¬1) هذا وعد الله، ولا يخلف الله وعده، أن يمن عليك بمحبته إذا زرت أخاك في الله. والحديث مشهور أن رجلاً زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها، قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإنِّي رسول الله إليك بأنَّ الله قد أحبك كما أحببته فيه ". (¬2) إخوتاه .. لا تنشغلوا عن إخوانكم، لماذا صارت البيوت مهجورة؟ لماذا هذا الانهماك والانكباب والتشاغل بالدنيا؟ أسأل الله لنا ولكم العافية. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 233/247)، والطبراني في الكبير (20/ 80،81)، والحاكم في المستدرك (4/ 186) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه (2/ 335) برقم (575) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (4331). (¬2) أخرجه مسلم (2567) ك البر والصلة والآداب، باب في فضل الحب في الله.

علينا أن نضع في برنامجنا الأسبوعي يوما لصلة الرحم، ويوما لزيارة الإخوة، يوما لزيارة الدعاة، يوما لزيارة المستشفيات، يوما لزيارة القبور فإنْ كان ذلك لا يصلح في أسبوع ففي كل شهر، هذه هي التربية التي تثمر زيادة الإيمان. إخوتاه .. فضل الزيارة في الله عظيم، فكما أنَّ الله يحب العبد بها، فإنَّه يرضى عنه ويدخله الجنة بسببها. قال - صلى الله عليه وسلم - " ألا أخبركم برجالكم في الجنة، النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والصِّدِّيق في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله في الجنة " (¬1) فالزيارة داعية لتقارب المؤمنين وتجانسهم وتعارفهم، فإنَّها تزيد المحبة والمودة في القلوب فيكونون إخوانا حقاً كما أمرهم الله جل وعلا. إخوتاه إياكم والقطيعة والخصومة والتنافر فإنَّها تميت قلوبكم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا إخوانا كما أمركم الله " (¬2) " لا تقاطعوا " أي لا يقطع بعضكم بعضاً بل تواصلوا. " لا تدابروا " أي لا يعطي أحدكم ظهره لأخيه، بل كونوا إخوانا متقابلين، فلا بد ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 59)، (19/ 140)،وفي الأوسط (2/ 441) والصغير (1/ 89)، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2604) (¬2) أخرجه مسلم (2563) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها.

آداب الزيارة

من تواصل وتلاقٍ وتزاور. كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاحاً أو زهداً أو قياماً بالحق أو اتباعاً للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، وينطلق ليزوره، ولو بينهما مسافات شاسعة ثم يديم السؤال عليه. وهكذا ـ أخي ـ كن على تعارف بالصالحين، وتلاق بأهل الإيمان، أدم السؤال على أهل الصلاح، فهؤلاء قد يشفعون لك. أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة المؤمن يشفع في أخيه، وهذه من أعظم ثمرات الأخوة، ومعرفة الصالحين المتقين ترقق القلوب. إخوتاه .. آداب الزيارة: وللزيارة في الله آداب، منها: (1) رفع الكلفة بين الأخوين، فليس يلزم أن تذهب بهدية، وأن يعد لك صاحب البيت طعاما في المقابل، ليس هذا بشرط ولا ينبغي أن يكون. من المواقف الطريفة التي تذكر في هذا الصدد، أنَّ رجلين ذهبا ليزورا سلمان الفارسي فقدم لهما خبزاً وملحاً، فلما أرادا أن يأكلا قالا: لو كان مع الخبز شيء من الزعتر. فأخرج سلمان إناءً كان عنده يتوضأ فيه (مطهرته) فرهنها عند البقال، وأتى لهما بشيء من الزعتر فبعد أن أكلا قالا: الحمد لله رضينا بما رزقنا. قال سلمان: لو رضيتم ما كانت مطهرتي مرهونة عند البقال. إخوتاه .. ومن الأدب أيضا أن (2) تحسن الضيافة لأخيك، فليس معنى أن تكون غير متكلف، أن تصطنع خلاف الحقيقة، فتكون في سعة وتظهر الضيق، هذا ليس من الجود

ولا الكرم، بل هي صفات البخلاء الأشحاء، بعض الإخوة سمع أنني دعوت إخوة لي وقدمت لهم خبزا وملحا، فقال: لأصنعن صنيعه، قلت: لا، أصنعها تربية أما أنت فلماذا تصنع ذلك؟!! الشاهد أنَّك ينبغي أن تطعمه مما تطعم، جُدْ بما جاد الله به عليك. وينبغي أن تتبادلا أطراف الحديث فيما يرضي الله تعالى، تذكره ويذكرك، تقابله بابتسامة جميلة، وكلمات عذبة، وتجلسه في أفضل مكان في بيتك، ولا يمل منه فإنَّه في عبادة إذا أصلح نيته. أما الزائر فعليه بداية أن يصدق الله ويخلص النية في الزيارة، وعليه أن يراعي حرمات الدار فيغض الطرف والسمع، ولا بأس أن يصطحب هدية لمن يزوره إن استطاع، ويبش في وجهه، ويظهر اهتمامه به، ولا يطيل المكث بحيث يذهب الوقت سدى .. إلى غير ذلك من الآداب الحسنة. إخوتاه .. الزيارة في الله تدخل البهجة في القلوب، فتزاوروا ولا يستعظمن أحدكم أن يزور أخاه صغيرا كان أم كبيرا. لما خرج الإمام أحمد من السجن، وأطلق سراحه بعد المحنة خشي أن يأتيه إسحاق بن راهويه فرحل إليه هو. إنه يعرف قدر الزيارة في الله، وينزل الناس منازلهم، ويرى أن لقاءه به يبعث على السرور والبهجة، وأنَّ الشوق بلغ كل مبلغ فلتقطع الفيافي والفلوات، ولتجتاز الدروب الوعرة من أجل حبيبي في الله. إخوتاه .. على هذا الأمر اثبتوا، فإن دوام الوصال يداوي المرض العضال، وإنَّ الزيارة لحقٌ

للرجل المفضال، ولا تقعدن عن وصل أخيك وإن عانيت حر الفلاة وبرد الظلال، فإن لقاءه أحلى من السلسال وأعذب من الماء الزلال. إخوتاه .. ينبغي أن نتجاوز سفاسف الأمور، علينا أن نعلو بهممنا، وأن ندرأ بالحسنة السيئة. تجد بعض الإخوة يقاطع أخاه لأنَّه لما مرض لم يزره، أو لما سافر لم يأت لتوديعه، ولم يكن في استقباله عندما عاد، أو أنَّه لم يجده بجانبه في محنة ألمت به، أو .. أو .. الخ. هذا كله لا يهتم به إلا أصحاب الهمم السفلية، بل عليك أن تلتمس العذر لأخيك وتذكر مواطن إحسانه. إخوتاه .. سبيلك لصلات قوية يتلخص في كلمتين " كف الأذى وبذل الندى " (¬1) فعليك أن تكون كريما في صفاتك وأخلاقك ومعاملاتك، وأفضل ما تقوم به تجاه الناس أن تتقي الوقوع فيما يضرك، وأن تقابل أذاهم لك بالإحسان إليهم " فَإِذَاْ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌ حَمِيمٌ " [فصلت/34] إخوتاه لابد من نية صادقة، لابد من ابتغاء وجه الله في كل تحركاتك، فإذا خرجت لزيارة أخيك في الله، وكان ذلك هو كل ما يدور بذهنك فاعلم أنَّ الله لن يضيعك. ¬

(¬1) سيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في السبب العاشر لتعميق أواصر الأخوة فالتمسه هناك.

خرج الإمام أحمد لزيارة إسحاق بن راهويه فلما بلغ الري دخل إلى المسجد فجاء مطر كأفواه القرب، فلما كان بعد العشاء، قالوا: "اخرج من المسجد إننا نريد أن نغلقه، فقال لهم: هذا بيت الله، وأنا عبد الله، فقيل: أيهما أحب إليك أن تخرج أو تجر رجلك ". فقال الإمام أحمد: سلام. يقول: فخرجت من المسجد والمطر والرعد والبرق فلا أدري أين أضع رجلي، ولا أين أتوجه، فإذا برجل قد خرج من داره، فقال: يا هذا أين تمر في هذا الوقت؟ قلت: والله لا أدري أين أمر. فقال لي: أدخل، فدخلت، فأدخلني دارا، ونزع ثيابي، وأعطاني ثيابا جافة، فتطهرت للصلاة، وأدخلوني إلى بيت فيه كانون ولبود ومائدة منصوبة. قالوا: كل، فأكلت معهم، فلما أكلنا ورفع الطعام قال لي الرجل: من أين أتيت؟ قلت: أنا من بغداد. قال: تعرف رجلا يقال له أحمد بن حنبل؟ فقلت: أنا أحمد بن حنبل. قال: وأنا إسحاق بن راهويه. إخوتاه .. إنها قصة عجيبة، انظر لما صدق الله في نيته، وأخلص لله طويته، يسر الله أمره، ورزقه من حيث لم يحتسب، وجمع بينه وبين مطلوبه بلا كلفة ولا مشقة، فاللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله. حين تخرج لأخيك فانوِ أن تدخل السعادة عليه؛ فيسعد الله بذلك قلبك، نسأل الله أن يسعد قلوبنا. وقد يتردد السؤال ولا بد أن يدور في ذهنك (لماذا .. ؟) ويأتيك الجواب من ابن القيم ـ رحمه الله ـ في " الفوائد ":

يقول: " اجتماع الإخوان قسمان: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنَّه يفسد القلب ويضيع الوقت. والقسم الثاني: اجتماع على التعاون على أسباب النجاة والتواصي على الحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها " ولذلك كانت مجالس السلف مجالس ذكر وموعظة، مجالس يزداد فيها الإيمان، وتتصل القلوب بالرحمن، انظر كيف كان السلف يلتقون لنحاكيهم: " جاء سفيان الثوري إلى الفضيل بن عياض فتذاكرا وبكيا، وهذا هو الشاهد، جلس كل واحد يذكر الآخر حتى فاضت عيناهما. فقال سفيان للفضيل: إنِّي لأرجو ألاَّ نكون جلسنا مجلسا أعظم بركة من هذا المجلس. فقال الفضيل: ولكني أخاف أن لا نكون جلسنا مجلسا أضر علينا منه. فقال سفيان: ولِمَ يا أبا علي؟ ‍ قال: ألست قصدت إلى أحسن حديث فحدثتني به، وقصدت أنا إلى أحسن حديث فحدثتك به، فتزينت لي وتزينت لك. فبكى سفيان أشد من بكائه الأول، وقال: أحييتني أحياك الله ". أسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا. إخوتاه .. كن على فطرتك وسليقتك وأنت تلاقي أخاك. قال بعض السلف: خير أصحابي من لا يتكلف لي، ولا أتحشم معه فأكون معه كما أكون وحدي. فلا شك أنَّ التكلف سيورث نوعا من الرياء والتصنع، بل كن على سجيتك،

تذاكرا شيئا في الله، واغتنما الأوقات. الزيارة تحفة النفس للنفس فلا تجعلها تافهة، لا تجعل بيتك مناخاً للبطالين الفارغين، لا تجعل لقاءك ملجأ المتعطلين، بل هي مجالس الفائدة والعلم وزيادة الإيمان والعمل الصالح، بل هي مجالس قدسية لا يعرفها القوم المسرفون. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي " (¬1) ومما جاء في حفظ الصالحين لمجالسهم في الله ما روي عن عطاء السلمي أنَّه قال: كنت مع سفيان الثوري بمكة في المسجد الحرام، ونحن نتحدث، إذ قال لي سفيان: يا عطاء نحن جلوس والنَّهار يعمل عمله، قلت: إنَّا لفي خير إن شاء الله. قال: أجل ولكننا نتلذذ به. إخوتاه .. أفضل الإخوان الذي ينبغي أن تحرص على مجالستهم، رجل مكَّنَك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا، أو تصنع إليه معروفا، أو علمك حرفا، أو ساق إليك ما ينفعك في آخرتك. فمثل هؤلاء هم خير عون لك على منفعتك وكمالك، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك وربما أكثر. فإن نعم الهدية ونعم العطية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل المؤمن فيهديها لأخيه المؤمن. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2395) ك الزهد عن رسول الله، باب ما جاء في صحبة المؤمن. وأبو داود (4832) ك الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، والإمام أحمد في مسنده (3/ 38)، وابن حبان في صحيحه (2/ 314) برقم (554)، (2/ 320) برقم (560) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن. والحديث حسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (7341) ....

فحين تسمع كلمة من الخير فلا تحتفظ بها لنفسك، انفع غيرك بها، بلغها له، إنَّك أن تذكر أخاك بآية أو بكلمة صالحة أو بحديث أو بمقولة طيبة خير له من أن تعطيه من مالك الشيء الكثير، فهذا لا يقدر بمال. إخوتاه .. أضر الناس عليك من مكنك نفسه حتى تعصي الله فيه، فهذا يفتح باب الغيبة والنميمة، وهذا يدور بالأكاذيب والأباطيل، وهذا يعلمك الرياء والنفاق، وهذا يفتعل الكلام .. وهذا .. وذاك هؤلاء هم الثقلاء، ومثل هؤلاء ينبغي أن تقطع صلتك به، إذا رأيته رده فإنَّهم أذى لك ولدينك. يقول ابن القيم: ويمر الرجل بمجلس قوم على خير فيسوؤه ما هم فيه من خير فيدخل بينهم، وحالهم يقول: " أميطوا أذى الطريق ". هؤلاء عون للشيطان عليك، هؤلاء يساعدونك على العصيان، هؤلاء سيجرونك إلى وادي الخذلان، فعياذا بالله من هؤلاء الخلان. إخوتاه .. لا تضع وقتك مع أهل البطالة والفراغ، فإنَّهم لا يدركون أنَّ الوقت رأس مال السائرين إلى الله. كان ابن الجوزي يستعد لأهل الفراغ المتلذذين بالزيارة، فيقول: أرصد لهم عند زيارتهم أعمالاً. يقول في صيد الخاطر: إنَّ ناساً يحضرون لزيارتي وهم فارغون وبطالون، فإذا رددتهم أوغرت صدورهم، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد (من الأوراق)

وبري الأقلام، وحزم الدفاتر. فهذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فيرصد مثل هذه الأعمال لأوقات زيارتهم حتى لا يضيع شيء من الوقت. إخوتاه ...... أريدك إذا جاءك أخوك الذي تحبه في الله أن تصحبه إلى عالم تذكرون الله فيه، تقول له: اسمع هذه الآية، استمع لهذا الحديث، تعال بنا نتصفح سوياً هذا الكتاب .. الخ. نسأل الله تعال أن يعلمنا ويرزقنا اغتنام أوقاتنا في مرضاته؛ فإنَّه لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. إخوتاه .. عودوا أنفسكم أن تنووا خيرا ولا ترددوا في عمله مهما كانت الصعوبات. فهذا صاحب لأبي جعفر المقرئ أتاه في يوم وحل وطين، ولم يمنعه ذلك من إتمام الزيارة، فقام الإمام وغسل عن رجليه الوحل والطين إكراماً. وهذا آخر ذهب إلى الإمام أحمد فجلسا إلى ما شاء الله ثم انصرف، فما إنْ بلغ داره حتى وجد الإمام أحمد يدق عليه الباب. فقال الرجل: خيرا يا أبا عبد الله، أليس كنت معك الساعة؟ قال: نعم ولكن قبل أن تأتيني كنت نويت أن آتيك، وإنِّي لا أحب أن أعود نفسي أن تنوي شيئا ثم لا تفي به.

إخوتاه .. زوروا إخوانكم، واغتنموا هدي السلف، فلا تخرجوا من عند إخوانكم إلا وقد ازددتم علما أو خلقا أو إيمانا. قال أبو عبيد القاسم بن سلام زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر بيته وجلس دوني. فقلت: يا أبا عبد الله، أليس يقال: صاحب البيت أحق بصدر بيته؟ فقال الإمام أحمد: نعم يقعد ويقعد من يريد. قال: فقلت في نفسي خذ إليك يا أبا عبيدة فائدة. قال: ثم قلت له: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم. فقال الإمام أحمد: لا تقل هكذا، إنَّ لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن يلقاني كل يوم. فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد. إخوتاه .. تعلموا هذه الفائدة جيدا، ليس من شرط الزيارة أن أزورك كل يوم، فربما تكون أنت أحب إلي ممن أراه كل يوم، ومع ذلك أراك من السنة إلى السنة ..... نعم إن دوام الوصال مطلوب، لكن إن تقطعت السبل وناءت الديار واستحكمت الظروف وشغل كل واحد بأمور آخرته على وجه ما، فإن عدم التلاقي لا ينبغي أن يفهم على أنه دليل عدم المحبة والمودة.

إخوتاه .. تعلموا هذه الفائدة أيضا وهذا الأدب من زيارة القاسم بن سلام للإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ يقول القاسم: فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله. فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه. قال أبو عبيد: فقلت وهذه ثالثة. أهـ نعم ينبغي أنْ يكون هذا الأدب عند التزاور، فكل ذلك يشرح الصدر، ويسعد القلب، ويلقي بذور المحبة والوئام. إخوتاه .. أريد أن أوصيكم ونفسي بشأن نوع خاص من الزيارة، ألا وهو زيارة المريض، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين. إنَّ أخوف ما يخيفني ـ والله ـ هذا الحديث الذي يقشعر له جسدي، وهو قول الله تعالى في الحديث القدسي: " يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين. قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ". (¬1) كيف يكون الوجه أمام هذا العتاب؟ كيف يكون الجواب عند هذا اللوم؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2569) ك البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض .....

أخي الحبيب .. انتبه فإنَّ التكاسل عن زيارة المريض تفريط في حق من حقوق الله، قال - صلى الله عليه وسلم - "ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحاً أتاه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة " (¬1) فهل بعد ذلك تستغني عن أن تخوض في رحمة الله بعيادة المريض، ليكون ذلك سببا لغفران ذنوبك. وعن علي بن أبي طالب موقوفا عليه قال: " إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة " (¬2) إخوتاه .. احرصوا على عيادة المرضى ولا تتكلفوا في ذلك. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ليس براكب بغل ولا برذون. (¬3) أي ذهب إليه - صلى الله عليه وسلم - ماشيا، والزيارة حق المسلم على أخيه المسلم، تكون كيفما ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3098) ك الجنائز، باب في فضل العيادة على وضوء ـ واللفظ له ـ، والترمذي (969) ك الجنائز عن رسول الله، باب ما جاء في عيادة المريض وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1442) ك ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، والإمام أحمد في مسنده (1/ 97) والحديث صححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (2655)، وصحيح الترمذي (775) وصحيح الجامع (5767). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (1/ 81) ـ واللفظ له ـ، والحاكم في المستدرك (1/ 349)، وابن ماجه (1442) ك ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا. وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله - في الصحيحة (1367) وصحيح الجامع (3963)،وصحيح ابن ماجه (1183) (¬3) أخرجه البخاري (5664) ك المرضى، باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار .....

اتفق لكل مريض فقيرا كان أو غنيا. ذهب الخليل بن أحمد لتلميذ له مرض، فسر التلميذ بزيارة شيخه واستقبله قائلا: " إنْ زرناك فلفضلك، وإن زرتنا فلك الفضل زائرًا ومزورًا ". في مناقب الإمام أحمد أنَّ الإمام قال مرة لأبي بكر المروزي عن رجل فقير مريض: اذهب إليه وقل له: أي شيء تشتهي حتى نعمل لك، ودفع إليه طيبا وقال لي: طيبه. نسأل الله تعالى أن يطيب قلوبنا بالخير.

قضاء الحوائج وتفقد الإخوان ولم أر كالمعروف قط: أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل

تاسعا: قضاء الحوائج وتفقد الإخوان

السبب التاسع تاسعا: قضاء الحوائج وتفقد الإخوان قال تعالى: " لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء/114] ويقول بعض السلف ـ كما في الآداب الشرعية لابن مفلح ـ " لم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل ". والمعروف هو الإحسان إلى الناس، وهو باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي ندب إليها الإسلام لتقوية الروابط الأخوية، وتنمية العلاقات البشرية بين الناس. وكل ما من شأنه تحقيق أوامر الإسلام والبعد عن نواهيه فهو من المعروف، ولذلك جاءت الأحاديث تترى للحث والترغيب على فعله وإيجاده ..... يقول - صلى الله عليه وسلم -: " أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرورٌ يدخله على المسلم، أو يكشف عنه كربة أو يقضى عنه دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد (مسجد المدينة) شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضه، ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، [وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل] " (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 209)، (12/ 453)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 444/1)، (18/ 1/2)،وابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج (ص80 رقم 36)، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة (1/ 147/2). وقال الهيثمي في المجمع (8/ 191): رواه الطبراني في الثلاثة وفيه مسكين بن سراج وهو ضعيف. لكن صححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (906) لحسن إسناده عند ابن أبى الدنيا وابن عساكر في أحد طريقيه وأبى إسحاق المزكي .....

إخوتاه .. لنقف هنا وقفات طويلة، فإنَّ هذا الحديث الجامع الجميل يبلور لنا فضل ما نحن بصدده حتى تروا الله من أنفسكم نيات مخلصة وأعمالاً صالحة. أولاً: يوصيك النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بأنْ تكون حريصا على منفعة الناس كل الناس؛ فإن ذلك يستوجب محبة الله لك. ثانياً: عليك أن تسعى في إدخال الفرح والبهجة والسرور في قلوب المسلمين، فلا بأس من الزيارة أو الهدية أو إكرام أولاده أو ترسل زوجتك لمساعدة زوجته المريضة، ترسل إليه من خير طعامك، وهكذا ولن تعدم الوسيلة. ثالثا: كشف كرب المسلمين، فمن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل، فاللهم اكشف كربات المسلمين يا رب. رابعاً: قضاء دينه، ترى أخاك مهموما حزينا مالك؟ ماذا في الأمر؟ فتره اهتم لتراكم الديون عليه فتذهب وتسدد عنه وتقضى دينه وقل له: تهون أموال الدنيا ولا أراك هكذا، هكذا كان يصنع السلف فمن منا يصنع هذا؟ صار الناس عبيداً للمال. لا يترددون في إنفاقه في الملذات والشهوات أما فعل الخير فهيهات. خامسًا: تطرد جوعه. عار على المسلمين أن يبيت واحد فيهم جائعا، ونحن صرنا لا نعدم فقيرا فلماذا البخل والشح؟ اكسر له كسرة خبز لتطعمه، اذهب به إلى مطعم من المطاعم ليأكل، وادفع عنه الجوع، فلماذا لا تصنعون؟ فليس ههنا مظنة للتسول.

سادسًا: السعي في قضاء حوائج المسلمين وانظر كيف جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من اعتكاف شهر بالمسجد النبوي الشريف. آه .. لماذا لا تساعد أخاك؟!! تأخذ بيده وتعينه على قضاء حاجته، وما زال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولكن ترى في عصرنا هذا نوعا من الشحناء والبغضاء والغل، فهذا يعرض عن أخيه، وذاك لا يبالي، وهذا يعتبر أن سعيه لقضاء حاجة أخيه مضيعة للوقت، أو يقول لك: إنَّه لا يستحق، وهذا من الجفاء وفساد ذات البين، وقد مر بك أنَّها الحالقة، فصارت ظاهرة عامة أن يسعى لمصلحته فقط، " أنا ومن بعدى الطوفان "، إنها نزعة أنانية، اللهم طهر قلوبنا منها يا رب. سابعًا: كفُّ الغضب فيستر الله عورته، لأنَّ الغضب يكشف العورات، فإذا كففت غضبك جزاك الله من جنس عملك فيسترك. اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا وبلغنا مما يرضيك آمالنا ثامنا: كظم الغيظ، فإن الله عفو يحب العفو، فلا يخيب الله رجاءه يوم القيامة ..... عن أبى مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شئ إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسراً، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه. (¬1) وفي الحديث أيضا: " منْ أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله " (¬2) تاسعًا: السعي في حاجة إخوانك، للمرة الثانية يؤكد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان صاحب الحاجة يكون متزعزعا لا تثبت له قدم فمن هيأ له الثبات كأن يسعى في أن يعمل في عمل جيد، أو يعينه على التزوج، أو نحو ذلك فهذا يثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1561) ك المساقاة، باب فضل إنظار المعسر. (¬2) أخرجه مسلم (3014) ك الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل.

عاشرًا: حسن الخلق، الذي هو أعظم البر، والذي هو قوام كل ذلك، إذ فساد الأخلاق يفسد الأعمال الصالحة. إخوتاه .. هذا هو المجتمع المسلم، هذه هي البيئة المسلمة، فلا للتقاطع والتنافر والتشاحن والتباغض والتحاسد الذي يفسد على الناس ـ الآن ـ أمر دينهم ودنيهم. فالمعروف شيمة المجتمع المسلم، والبيئة الإيمانية لا تعرف سوى البر والتقوى، سوى العفو والرحمة، سوى التآلف والتعاون فلا طريق لرذائل الأخلاق، ولا حياة للسفهاء والفساق بيننا. إخوتاه .. الأمة يد واحدة، جسد واحد، شعب واحد، ولذلك فهم يتعاونون ويتشاركون ويتكافلون. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال أبو سعيد الخدري (راوي الحديث) - رضي الله عنه -فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصناف من المال حتى رأين أنه لا حق لأحد منا في فضل" (¬1) آه …. لو طبقنا هذا الحديث بيننا، والله ما صارت عند المسلمين أي مشكلة اقتصادية، ولكن تقول هذا لمن؟!! لقوم عبدوا المال فلا يرون لأحد فيه حقا سوى أنفسهم اللهم إليك المشتكى. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1728) ك اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال .....

إخوتاه .. إنَّ أويساً القرني كان إذا بات في ليلته يقول: " اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة، فإنَّك تعلم أنِّى لا أملك إلا ما في بطني …اللهم إنِّي أعتذر إليك من كل ظهر عارية، فإنَّك تعلم أنِّي لا أملك إلا ما يستر عورتي. قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به " (¬1) إخوتاه .. لابد من تفقد أحوال الفقراء، لا يكن همُّك نفسَك فحسب، فإنَّك غدا ستسأل عن هؤلاء فأعد لذلك جواباً من الأعمال لا من الأقوال، واعلم أنَّ هذا من الطاعات. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكل ما يستعان به على الطاعة فهو الطاعة، وإن كان من جنس المباح " فمن أنفق من وقته الساعات ليتفقد حال فقير حتى يعينه؛ فإنَّه في طاعة بلا شك لكن لابد له من نية صالحة. إخوتاه .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عن كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ¬

(¬1) أخرجه الطبرانى في الكبير (1/ 259) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وبنحوه أخرجه البخاري في الأدب المفرد (112) الطبرانى في الكبير أيضا (12/ 154)، والخطيب في تاريخ بغداد (10/ 392)، وأبو يعلى في مسنده (5/ 92) من حديث عبد الله بن مساور. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 167): رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات. وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (149)، وصحيح الجامع (5005) وصحيح الأدب المفرد (82) .....

ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب اله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " (¬1) آهٍ .. هذا حديث عظيم القدر ـ والله ـ وهذا هو المعروف الذي يترتب عليه ذلك الفضل العظيم. بداية من تيسير الأمر على المعسرين فذلك جزاؤه من جنس عمله فييسر الله عليك في الآخرة وأنت في أشد الحاجة. أيضا الستر لعورات المسلمين. فيا من تفضح الناس وتتبع زلاتهم أما تخشى أن تعاقب بمثل صنيعك فتفضح غداً على رؤوس الأشهاد. وكلنا له ما يحب أن يستره الله، فاستر الناس حتى تُستر غدا. إخوتاه .. صناعة المعروف تقلب موازين الأمور رأساً على عقب، وتبدل الحال إلى غير الحال، تجد إنسانا مكروها يريد شفاعة يسألك مصلحة فإذا أحسنت إليه ستجد الخير كله بإذن الله. يقول ابن عباس: ما رأيت رجلاً أوليته معروف إلا أضاء ما بينه وبيني، ولا رأيت رجلاً فرط لي منه شئ إلا أظلم ما بيني وبينه. إخوتاه .. هذا الكلام عام يشمل جميع الناس، فنحن لا نخاطب أفرادا بخصوصهم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2699 ك البر والصلة والآداب، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر .....

فالحليق ليس بكافر بل هو مسلم قطعا؛ لأنَّ حلق اللحية معصية وليس بكفر، والمدخن كذلك والذي يدمن التلفاز كذلك، والذي يذهب لدور السينما والمسارح، والذي يسبل إزاره، والتي لا ترتدى الحجاب الذي شرعه الله على المسلمات، كل هؤلاء وكل من يقع في معصيته ليس بكافر بل هو مسلم ولكنَّه يعصي الله. فهؤلاء جميعا مطالبون بأن يطيعوا الله، فلابد أن تحسن إليهم فذلك مما يشجعهم على أن يحذوا حذو الملتزمين، ويبدأوا خطوات السير إلى الله. فصنائع المعروف إذا جاءت في الوقت المناسب مع شخص محتاج إليها فذلك مما يرفع الإيمان في السماء، ويزيد المرء قوة في دين الله. انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء من وقع على امرأته في نهار رمضان فماذا صنع معه؟ عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلكت قال: ما لك. قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن على ذلك أُتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيها تمر ـ والعرق: المكتل ـ.

قال: ـ أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها فتصدق بها ..... فقال الرجل: على أفقر منى يا رسول الله ـ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرمين أهل بيت أفقر من أهل بيتي ـ فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابُه ثم قال: أطعمه أهلك (¬1) إخوتاه .. انظروا كيف وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الرجل، وكيف تعاون المسلمون لرفع البلاء عن أخيهم، ولم يقل واحد منهم: أنت تستحق هذا، ما الذي أوداك إلى مثل هذا غير معصيتك. لا … لا. ينبغي أن نتعلم من هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نصحح به كثيرا من أخلاقياتنا. إخوتاه .. بشرى عظيمة أقدمها لكل صاحب معروف منكم، ولكل من يخشى على نفسه الفتنة في عالم أشرب حتى النخاع بالفتن والمنكرات. قالوا: صاحب المعروف لا يقع وإذا وقع وجد متكأ. لقد كانت امرأة مسكينة تطعم ولدها فقسمت رغيفا نصفين، نصف لها ونصف لولدها فمر بها سائل فقال: أطعميني لله فأعطته نصيبها، فلما أكل غلامها قام يلعب فالتقمه الذئب. ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (1936) ك الصوم، باب إذا جمع في رمضان ولم يكن له شئ فتصدق عليه فليكفر ـ واللفظ له ـ ومسلم (1111) ك الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم .....

فقالت المرأة: يا رب .. اللقمة. فألقاه الذئب فقالت: لقمةً بلقمةٍ. فثق أنَّ معروفك ستجزاه إنْ آجلا أو عاجلاً، والأيام دول فما يدريك فقد تبتلى بمثل بلاء أخيك، فقدِّم اليوم لغدك. إخوتاه .. كان سلفنا يتفانون في قضاء حاجات المسلمين. يقول عبد الله بن عثمان (شيخ البخاري): "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تمَّ وإلا قمت له بمالي، فإن تمَّ وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تمَّ وإلا استعنت له بالسلطان ". وهذا على بن الحسين (زين العابدين) يدخل على محمد بن أسامة بن زيد فيجده يبكى لأنَّ عليه ديناً يقدر بخمسة عشر ألف دينار وقيل: سبعة عشر ألفاً. فقال: هي علىَّ ولا دمعة من عينيك فهي أغلى من الدنيا وما فيها. إخوتاه .. هذا هو الحب في الله عند السلف الصالح، تجد الرجل منهم لا يلقى أخاه ربما شهرا أو شهرين. فإذا سأله شطر ماله أعطاه وواساه، وبذل له، وهو يشعر بأنَّ الذي أُخذ منه أحب إليه مما بقى، أما اليوم فالمفهوم مختلف تماما، والواقع المرير خير شاهد فالله المستعان. إخوتاه .. إنَّ روابط الأخوة تقرب البعيد وتدني القاصي، فما دامت النية الصالحة قائمة والإيمان يشمل الجميع فثمَّ وجه الله.

قال محمد بن خالد قلت لأبى سليمان الداراني: يكون الرجل بإفريقية والآخر بسمرقند وهما أخون: قال: نعم. قلت: وكيف ذلك؟ قال: تكون نيته متى لقيه واساه، فإذا كنت نيته كذلك فهو أخوه. إخوتاه .. أين الإيثار؟!! أصار نادرا حتى لا وجود له، لماذا ضاعت منا تلك الأخلاقيات السامية؟ كان الإمام أحمد يقول: إنِّي لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي. وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد قالها قبل حين نزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيمة أم معبد فحلبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرب. يقول أبو بكر: فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتويتُ. قال تعالى " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ " [البقرة / 207] وما أجمل هذا التعبير " يشرى نفسه " فمن ذا يبيعها الآن؟ كان - صلى الله عليه وسلم - يبيت طاويا ثلاثة أيام متتالية، ولو أراد شبعاً لوجد، لكنه كان يؤثر الناس على نفسه، كيف لا وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكان يسد خلتهم، ويقضى حاجتهم، يسأل عن كبيرهم، ويعطف على صغيرهم - صلى الله عليه وسلم -. إخوتاه .. كان الإيثار في سلفنا سجية، ونحن ـ الآن ـ نعدم وجوده ولو في الصورة.

قال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق ـ وكان من أئمة الهدى زهدا وفضلا ـ إلى الحسن بن حيى فأخبره أن ليس عنده شئ ..... فقام الحسن فأخرج ستة دراهم، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها فقال: سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة ". إنها صورة متكررة في حياتهم، لأنَّهم ألفوا التجرد لله، واستقر الإيمان في القلب فبدت معالم ذلك في أخلاقهم وسلوكياتهم. كان الإمام أحمد يقول: " لو أنَّ الدنيا جمعت حتى تكون في مقدار لقمة ثمَّ أخذها امرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفا ". هذا هو الكرم الحقيقي، كرم الأخلاق، كرم المعاملة، فإذا جاءك ضيف فقدم له ما وسعت فليس ذلك بإسراف " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " (¬1) فأنت مأمور بذلك. إخوتاه .. إن السبب الرئيسي لما نحن فيه هو الاشتغال بالدنيا عن الآخرة، فهذا الشح والبخل الذي يقع في قلوبنا سببه المغريات الدنيوية التي وقعنا فريسة لها، فلابد من الانخلاع والانفلات من عبودية المادة، والتنصل من متطلبات الحياة، وأن يسعك ما وسع من قبلك، لابد أن تخرج الدنيا من قلبك إلى يدك سهلة المنال، فتعتاد البذل لكل أحد، فهذا حقيقة التجرد بدون تعقيد أو تقعر في العلم. ¬

(¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (6018) ك الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومسلم (74) ك الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان .....

إخوتاه .. إنني أسوق إليكم الأمثلة والشواهد، وأطيل في ذلك لعل باعث الشوق يتردد في نفوسكم. يحكى القاضي عياض في تاريخه عن الإمام سحنون المالكي قال: قال أبو العرب أن سحنون خلا يوما بتلميذه سعيد بن عباد فقال له: ألست بإمامك؟ قال: بلى. قال: وتقبل قولي. فقال: نعم لو لم أقبله لما اختلفت إليك. فقال له: هذا قولي ويميني فحلف بالله، وأراه صرة في يده ذكر أن فيها ثلاثين ديناراً. وقال له: ما هي من سلطان، ولا من تجارة، ولا وصية، وما هي إلا من ثمرة شجر غرستها بيدي، فخذها تتقوى بها على أمر دينك ودنياك. فقال سعيد: أنا غنى عنها (مع كونه مفرط الحاجة إلى ما دونها). فقال سحنون: خذه سلفا، فتزوج منها، وتنفق منها، فإن رزقك الله ردها فأقبلها منك، فإن تعذر فأنت منها في حل. فقال سعيد: ما كنت بالذي آخذ ديناً في ذمتي من غير حاجة. أهـ إخوتاه .. هكذا كانوا، فقراؤهم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وأغنياؤهم لا يرون لأنفسهم في أموالهم حقا. وهذا سعيد بن المسيب في خبر تزويجه ابنته لتلميذه عبد الله بن وداعه على ثلاثة دراهم، والقصة مشهورة لكن انظر فيها لتفقد سعيد - رضي الله عنه - لتلميذه، لأنَّه لم يحضر الدرس فذهب إليه فأخبره أنَّ زوجته ماتت فانشغل بتجهيزها.

فقال له: استخلفت غيرها. قال: من أين يا شيخ، ومن يزوج مثلى!! وأنا لا أملك إلا ثلاثة دراهم. قال: أنا أزوجك ابنتي ثم عقد له ومضى إلى بيته. يقول عبد الله: فما بلغت البيت حتى دقَّ الباب. قلت: من؟ قال: سعيد، فخطر ببالي كل سعيد إلا ابن المسيب ففتحت الباب فإذا هو سعيد بن المسيب ثم تنحى فإذا خلفه ظلام. قال: هذه زوجتك أحببت ألا تبيت عزباً، ودفعها وأغلق الباب ". آه .. أين من هو مثلك يا ابن المسيب، هل هذا في عرفنا زواج؟ أين العرف؟ أين الشقة؟ أين المهر؟ أين القائمة؟ أين المؤخر؟ … الخ. إذا ذكر السلف بيننا افتضحنا كلنا، فاللهم رحماك بضعفنا. إخوتاه .. لقد كان أحب إلى أحدهم أن يمد أخوه يده في جيبه، ويأخذ ما يشاء من ماله وما يملك. ففي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: أنَّ فتحاً الموصلي جاء إلى منزل صديق له يقال له: " عيسى التمار "، فلم يجده في المنزل ..... فقال للخادمة: أخرجي إليَّ كيس أخي، فأخرجته ففتحه، وأخذ منه درهمين، فجاء عيسى فأخبرته الخادمة بمجيء فتح وأخذه الدرهمين. فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله فنظر فإذا هي صادقة فأعتقها فرحًا بصنيع أخيه. ما رأيك لو حدث ذلك معك؟ أكانت فرحتك مثل فرحته؟ وهل يكون فعلك مثل فعله؟ أجب ولماذا؟ الل يعلم السر وأخفى.

إخوتاه .. إنَّ السر وراء ذلك اعتناق المنهج الرباني الذي لا ينضب معينه ولا ينتهي عطاؤه، فالسر ليس في توافق الأحوال، ولا في المشاكلة في السلوك، إنَّ الذي يريد أن يسابقهم فعليه أن يسير أولا في نفس سبيلهم، ويحذو حذوهم، وذلك لا يحجبه اختلاف الأزمان ولا اختلاف البيئات، فما لمثل هذا أن يؤثر في مشكاة المواقف فهل من مشمر؟!!

بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها وتظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها وتبدو عليهم وإن ستروها

عاشرا: بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى

السبب العاشر عاشرا: بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى إخوتاه .. هذا من أكبر الأسباب لتعميق أواصر الأخوة، وهذا هو تعريف أهل العلم لحسن الخلق. قالوا: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين. فديننا دين الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (¬1) فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس الأخلاق، رغم أنَّ أصول الأخلاق كانت موجودة في العرب، ولكنه جاء ليتممها ويكملها ويجملها، ويضعها في إطارها الحقيقي، حين تستعمل هذه الأخلاق لوجه الله تعالى، فقد كانوا كرماء لكن هذا الكرم ليقال، لا لرضا ذي الجلال، فتعلموا الإخلاص والصدق في القول والعمل، فالذي يتخلق بالأخلاق الحميدة يبتغي وجه الناس إن لم يجد ثمرة ذلك ربما غير وجهه وانقلب على عقبيه، أمَّا الذي يبتغي وجه الله فيقول: " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا " [الإنسان /9ـ10] فكان جزاؤهم من جنس ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/ 191/192) والشهاب في مسنده (2/ 192) بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/ 192)، والحاكم في المستدرك (2/ 613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. والإمام أحمد في مسنده (2/ 318)،والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 188) جميعهم بلفظ "صالح الأخلاق"، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في الصحيحة (45)، وصحيح الجامع (2349)، وصحيح الأدب المفرد (207) .........

عملهم " فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا " [الإنسان/11 - 12] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن رجلا قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال - صلى الله عليه وسلم -:لئن كنت كما قلت فكأنَّما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. (¬1) فلا بد من الصبر، لابد من احتمال الأذى، وتذكر أنك لا تعامل بشراً، بل تعامل رب كل شيء، تعامل الله جل جلاله. إخوتاه .. إنَّ أعالي الجنان يسكنها أصحاب الأخلاق العالية جزاءًا وفاقًا، قال - صلى الله عليه وسلم -" أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أحبكم إلي وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ". (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار" (¬4) ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2558) ك البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها. قال ابن الأثير في النهاية: المَلّ: الرَّمادُ: أي تَجعل وجوههم كلَون الرّماد. يعني أن عَطاءَك إياهم حرامٌ عليهم، ونارٌ في بُطُونِهم ......... (¬2) أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، والطبراني في الكبير (8/ 117)، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (273). (¬3) أخرجه الترمذي (2018) ك البر والصلة عن رسول الله، باب ما جاء في معالي الأخلاق. وقال: حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (1642). (¬4) أخرجه الإمام أحمد (6/ 90) ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (4798) ك الأدب، باب ما جاء في حسن الخلق، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (4013) .........

إخوتاه .. إننا نعاني اليوم في هذا العصر المادي الملوث من سوء الأخلاق، فأنت تلمح في واقع هذه الأمة من الصور السيئة ما يندى له جبين المرء خجلا، انظر إلى قاموس الألفاظ السيئة والبذيئة الذي شاع بين الناس الآن بسبب الإعلام والأغاني التافهة والانصياع وراء التدمير الأخلاقي الذي يشنه أعداء هذه الأمة على أفرادها من واقع الغزو الثقافي والفكري. انظر إلى المرأة الحيية الرقيقة العفيفة وقد علا صوتهاـ اليوم ـ وتلفظت بما يخدش الحياء، وسارت كاسية عارية، وشابهت الرجال في كل شيء كما خدعوها، سوء أخلاق وإهمال في التربية تولد عنه ما نحن فيه من البلاء المستطير. انظر لفضائل الأخلاق وقد هُجِرت، وألقيت في واد سحيق، فأين الجود والعلم والحلم والوفاء والمروءة والشهامة والشجاعة والبذل والصبر؟!! أين الألفاظ الكريمة؟!! أين التواصل والتحابب والمواساة؟!! كلمات لا يعرف لها الوجود إلا اسمها. وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت ....... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا أرأيت لماذا هذه الانتكاسة الخطيرة لأمتنا؟ لأن هذه الأخلاق الحميدة افتقدها واقع المسلمين وحل محلها من سوء الخلق ما تقشعر له الأجساد من فرطه، شماتة وأذى وتحامل وحسد وغيبة ونميمة وبغض وتشاحن وتقاطع وحب النفس وعبودية الذات وأنانية مفرطة وعجب، فاللهم الطف بنا، ولا تعجل بهلاكنا. إخوتاه .. " بذل الندى " أين الكرم والإيثار في واقع حياتكم؟!! في وصف الأنصار قال تعالى: " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ

مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [الحشر/9] نعم هذه هي القضية، إمَّا بذل وإيثار، وإمَّا شح النفس التي لا ترضى أبدا. قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو أنَّ لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" (¬1) أريدك أن تعطي أخاك من جهدك، تؤثر أخاك على نفسك، فيورث ذلك في القلوب محبة لا تنقضي، فكيف يُتصور أن يبيعك هذا الأخ يوماً من الأيام؟ بل ستجد قلوبا صافية وودًا غامرًا، وانظر إلى إيثار السلف والتمس مسلكا على نهجهم. جاء العيد فبعث رجل من السلف جارية إلى صديق له لتخبره أنه ليس عنده ما يكسو به عياله، فبعث الصديق إليه بصرةٍ فيها ستون دينارا لم يكن عنده غيرها، فجاء رجل للأول يخبره بأنَّه ليس عنده شيء فأعطاه الصرة التي أخذها، ثم بعث الصديق الثاني للرجل الثالث يخبره بأنه ليس عنده شيء فأعطاه الصرة فوجدها صرته بخاتمها هي هي، فمضى إلى صاحبه يستفسر فعلم بالأمر، فاجتمعوا وتقاسموها كل أخذ عشرين دينارا. إخوتاه .. أسألكم بالله ألم يكن هؤلاء بشراً مثلنا، فبماذا فضلوا علينا؟ نعم إنَّه الإيمان ومعرفة الله ورسوله والامتثال للأمر واجتناب النهي، فهؤلاء هم الذين تمثلوا الإسلام واقعاً حياً لا مجرد كلام. إخوتاه .. " كف الأذى " بمعنى ألا يتعرض أخوك لما يضره بسببك، فتحفظ جوارحك عنه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (6439) ك الرقاق، باب ما يتقي من فتنة المال ـ واللفظ له ـ، ومسلم (1048) ك الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا .........

فلا تؤذيه بيدك بالبطش وسلب المال والضرب ونحو ذلك، ولا تؤذيه بلسانك بالشتم والغيبة والنميمة، ولا تؤذيه بالتخاذل عن نصرته في وقت يحتاج إليك فيه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (¬1) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته " (¬2) فبسبب هذا السكوت والتقاعس يخذلك الله بسببه، أحد الإخوة يقول لي: أنَّه جلس مجلسا استهزئ فيه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكت ولا أنكر ولا أعرض، فكانت عاقبته أن فتن في دينه وترك الالتزام فلم يثبته الله وخذله ووكله إلى نفسه فضاع وتاه وضل وابتعد، ولولا رحمة الله به ما عاد أبدًا. إخوتاه .. قال - صلى الله عليه وسلم -: " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه " (¬3) فإنَّ الجار لا يقدر بثمن، لما أراد جار محمد بن ميمون السكري بيع البيت، قال للمشتري: أبيعك بثلاثة آلاف، البيت بألف، وجوار أبي حمزة بألفين. فقد تبتلى بجار يجعلك تنفر من المكان ولو كان جنة، ولكن نعم الجوار إذا كان جارك رجلا صالحا تقيا إذا رأيته ذكرت الله، ساعتها تحمد الله على نعيم الدنيا. ¬

(¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (10) ك الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (41) ك الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل. (¬2) أخرجه أبو داود (4884) ك الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة. والإمام أحمد (4/ 30)،والطبراني في الكبير (5/ 105)، والبيهقي في الكبرى (8/ 167)، وحسنه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (5690) ......... (¬3) أخرجه البخاري (6016) ك الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه.

إخوتاه .. "واحتمال الأذى " فلا يتوقف الأمر عند كف الأذى، بل ينبغي أن تكون حليما، وهذه الصفة لم يعد لها ظهور في أيامنا هذه. فالغضب سريعاً ما يتسلل إلى النفوس عند أقل موقف، والأصوات صارت عالية، والضغوط النفسية يعاني منها كل واحد، وليس ذلك إلا من جراء التكالب على الدنيا، وطلبها على غير الوجهة الشرعية بأن تصبح مطية للآخرة. إخوتاه .. إياكم والغضب فإنه جمرة من النار يلقيها الشيطان ليضل الناس، وقد أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال لمن سأله الوصية " لا تغضب " (¬1) فما زال يرددها عليه؛ إذ الغضب ملاك كل شر. فينبغي ألا تسير خلف جهل الناس، بل لا يزيدك جهل الناس إلا حلما، تتحمل الأذى فالصبر مفتاح الفرج، والصبر ضياء، وليكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوتك، تذكر كيف تحمل الأذى وصبر. روى البخاري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض الأنبياء وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون. (¬2) قال بعض الشراح: يحدث عن نفسه لما آذاه الناس بالطائف، وقد لبث فيهم شهرًا يدعوهم فما آمن به أحد، ولم ينته الأمر عند ذلك حتى سلطوا عليه السفهاء ليضربوه بالحجارة ـ بأبي هو وأمي ـ فضربوه حتى أدمى عقبيه، فجلس ليتقي الحجارة فضربوه ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6116) ك الأدب، باب الحذر من الغضب ......... (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (3477) ك أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ومسلم (1792) ك الجهاد والسير، باب غزوة أحد.

في رأسه، فوضع يديه على رأسه، فواجهوه بالحجارة ولم يتركوه، إلا عندما وقع بحفرة ظناً منهم أنَّه مات. فجاء ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين، فقال: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. (¬1) إخوتاه .. أذكركم بهذا، وأتصور أنه لو جاءنا ملك الجبال الآن لقلنا جميعا: نعم هيا انسفهم نسفا، مع أن الناس مضللون، وقلوبهم قريبة فلو ذاقوا حلاوة الإيمان لأحبوا الله، فقط عصبوا أعينهم عن رؤية الدين، وبمجرد أن يزال هذا الغمام ستجد الاستجابة بإذن الله تعالى. إخوتاه .. دائما أقولها لكم: هذه الدنيا لا تفرق بينكم، هذه الدنيا اجعلها تحت حذائك، فالدنيا لا تفقدك أخاك مهما كانت الظروف والملابسات. فلابد من " كف الأذى "و" بذل الندى "و" احتمال الأذى ". ـ والله من وراء القصد ـ ¬

(¬1) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري (3231) ك بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ومسلم (1795) ك الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين .....

نواقض الأخوة ذو النقص يصحب مثله والشكل يألف شكله فاصحب أخا الفضل لكي تقفو بفعله فعله أما ترى المسك دأبا يكسب طيبا محله

نواقض الأخوة

نواقض الأخوة إخوتاه .. تقدمت السبل الذي يمكنك بطرقها أن تعمق أواصر الأخوة وتقوي من روابطها، وبقي أن نعرف أنَّ بعض الأمور لا تجتمع مع المحبة الصادقة في الله، بل هي تعكر صفو الأخوة عادةً، وينقض بسببها هذا الصرح. إذ الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء من هذه الأمور: (1) سوء الظن. فلا بد من التماس الأعذار لسلامة الصدور، فمثلاً: أخ لك طلبت منه مبلغاً من المال فرفض تقول في نفسك: جزاه الله خيرا أنا أعرف جيداً أنه لو استطاع أن يقترضهم لي لفعل لكن الأخ معذور ليس معه، أما إذا أسأت الظن فستقول: هذا بخيل إنَّه يمتلك الآلاف بل الملايين، ويضن بها علىَّ، فتعيش سقيم الصدر، ويورث ذلك من الغل والضغينة ما يفسد دينك. إذا تأخر أخوك عنك وأنت مريض، فقل في نفسك: سبحان الله مشغول، تراكمت عليه الهموم، فرج الله همه، وأزال كربه. قال - صلى الله عليه وسلم -" إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث " (¬1) فأحسنوا الظن، وعليكم أن تحملوا الكلام دائما على محمل جميل فبذلك تدوم المحبة، أما إذا أسأت ¬

(¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري (6064) ك الأدب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر ـ واللفظ له ـ. ومسلم (2563) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها .....

(2) الغيبة

الظن لحظة فسوف تنتهي الأخوة وتضيع. (2) الغيبة. إخوتاه .. شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، يقول لأخيه أمامه ما يشرح الصدور، ثم ما يلبث أن يغتابه ويسئ إليه في غيبته، وهذه من علامات النفاق ـ والعياذ بالله ـ. والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولو كان الأمر فيه، والمغتاب شخص جبان لا يقدر أن يواجه صاحبه فيتكلم من ورائه. قال تعالى" وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ " [الحجرات / 12]. ولاحظوا أنَّه يأكل لحم أخيه الميت، فلو كان حيا ما استطاع، فينتظر عندما يموت ويأكل لحمه، فاجتمع أمران حرمة الميت فينتصر الله له، وأن هذا الجسد يتعفن فيأكل حراما. إخوتاه .. إنَّ أكل لحم المسلم حرام، والغيبة أن تأكل لحم أخيك ميتا وهو غائب، فاجتمع عليك من الشر مالا يحمد عقباه، كالجبن وإساءة الظن وعدم المراقبة لله بل مراقبة البشر. إخوتاه .. نزهوا أسماعكم عن استماع مثل هذه الأحاديث، كما تنزهوا ألسنتكم من النطق بها، وإنَّ السفيه ينظر إلى أخبت شئ في وعائه فيحرص أن

(3) السخرية والاحتقار والهمز واللمز والتنابز

يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها. (3) السخرية والاحتقار والهمز واللمز والتنابز. قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " [الحجرات/10 - 12]. ذكر الله عز وجل في هذه الآيات السياج العام حول الحقوق الشخصية لكل مسلم ..... وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم بينكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا …" (¬1). فأعراض المسلمين حرام، وأموال المسلمين حرام، ودماء المسلمين حرام، والنيل من أعراض المسلمين يبدأ أولاً: بالسخرية، وللأسف أصبحت السخرية داء من أدواء الأمة، والسبب في ذلك الأفلام والتمثيليات والمسرحيات والتفكة بالكلام الفارغ، كله سخرية فلا يضحك الناس ـ الآن ـ إلا بالسخرية من الآخرين، والاستهزاء بهم نتيجة احتقارهم لهم. ¬

(¬1) جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري (67) ك العلم، باب قول النبي رب مبلغ أوعى من سامع، ومسلم (1679) ك القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

قال - صلى الله عليه وسلم -: " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (¬1) فمثل هذا قد امتلأ سوءً، ولكن السؤال لماذا تحتقر أخاك؟ هل لأنَّه أقل منك في المؤهل؟ أو في المركز الاجتماعي؟ أو أقل منك مالا؟ أو أنَّه ليس وسيما مثلك؟ أخي .. اعلم أنَّ كل ذلك لا يساوى عند الله شيئا، فما يغنى عنك مالك وجاهك ومؤهلك وشكلك، كل ذلك سيهلك لا محالة، ويبقى ما قدمت من العمل الصالح. " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ " [الحجرات / 13]. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " التقوى ههنا " (¬2) وأشار إلى صدره، بمعنى أنَّ محلها القلب، وكيف بنا لو احتقرنا مؤمنا أفضل من ملء الأرض مثلنا، لكنه خفي تقي نقي آثر الآخرة، وترك الدنيا التي نتباهى بها. انتبه ـ أخي ـ فلا ينبغي أن ينقدح في قلبك احتقار أحد كائنا من كان، فعليك أن تبتعد عن السخرية والاحتقار، وسبيلك لذلك أن تعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل الناس أفضل منك. ولا يكون لك ذلك حتى تُعظِّم جنايتك، وترى نفسك بعين الصغار، وتديم ذم النفس التي أودت بك إلى مثل هذه المهالك من الذنوب والمعاصي، وعليك أن تسئ الظن بها " فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى " [النجم/32] إخوتاه .. " ولا تلمزوا أنفسكم " واللمز: العيب بمعنى لا تعيبوا أنفسكم، فسمى الله أخاك بالنفس كما قال تعالى: " فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى …" [النور / 61]. بمعنى على إخوانكم، فلا تعب على أخيك؛ لأنك إذا عبته فقد عبت نفسك، فأنت ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم (2564) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقره ودمه وعرضه وماله. (¬2) الحديث السابق .....

(4) الحسد

وهو شئ واحد. ثم عليك أن تحسن إليه فتناديه بأحب الأسماء إليه " وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " فلا تذكر اسماً له يكرهه، وهذا طريق لتعميق أواصر الأخوة أن تحسن لفظك، ولا تنطق أمامه إلا بما يحب. (4) الحسد. إخوتاه .. هذا الداء العظيم الفتاك ينساب في النفوس البشرية في لحظات الغفلة الإيمانية كما ينساب الماء في أغصان الشجر، فإن لم ينتبه إليه المسلم ويقطع دابره فسيكون سماً زعافًا يفتك بالجسم الأخوي. قال تعالى: " فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [المائدة / 30] حسد أخاه فقتله، دب إليه الحسد، وهو داء الأمم السابقة، والحسد يغلى في قلب الشخص، والحسود شخص سيئ الأدب مع الله؛ لأنَّه ينظر إلى نعمة الله على أخيه، فيتمنى لو زالت عنه " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ " [النساء / 54] ..... وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلكم لكم أفشوا السلام بينكم " (¬1) فلماذا تحسد أخاك أنْ منَّ الله عليه بشيء، فهذا ليس من قبل نفسه بل هو من عند الله ثم ألا تعلم أنَّ الله أعلم بالشاكرين، فما يدريك بحقائق الأمور فربما أعطاك ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2501) ك صفة القيامة والرقائق والورع، والإمام أحمد في مسنده (1/ 165، 167). وقال الهيثمى في المجمع (8/ 30): ـ رواه البزار وإسناده جيد، وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (3361) .....

(5) المماراة والمنافسة

فطغيت، وربما أعطى غيرك ليبتليه أيكفر أم يشكر؟! فالحسود يسئ الظن بالله، ويسئ الأدب مع الله، وتراه متسخطاً لا يرى نعمة الله عليه، ولا يزري نفسه على ما خبت، بل غاية شغله النظر لنعم الله على عباده، ولذلك يفسد قلبه ودينه، ويقع في المهالك اللهم سلم سلم. والحسد يظهر في الأقوال والتصرفات، فإذا رأى أخوك أنك تحسده فإنه ينقطع عنك، ويبتعد وتسوء بينكما العلاقة فتنتهي الأخوة، وعلاج ذلك أن ترضى بما قسم الله لك، ولا تتطلع إلى ما في أيدي الناس، وأن تسأل الله من فضله، وأن تحب الخير للمسلمين. (5) المماراة والمنافسة. من أشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة، وهذا بداية التقاطع؛ لأن التقاطع يقع أولاً بالأقوال ثم بالأبدان. كان أبو أيوب اليقظان ميمون بن مهران الحكيم إمامَ أهل الجزيرة، وكان حميد السيرة، سديد السريرة، وعمل كاتبا لعمر بن عبد العزيز قال عنه ابنه: إنَّ أبى لم يبلغ ما بلغ إلا أنه يكره أن يعصى الله. قيل له: يا أبا أيوب .. مالك لا تفارق أخا لك عن قلى. قال: إني لا أماريه ولا أشاريه، وما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إليَّ من تحقيقه عليه، فإن قال: " لم أقل " أحب إلىَّ من ثمانية تشهد عليه. إخوتاه .. لماذا لا نتعامل بهذه النفسية؟ خاصة وأنَّ الفتن تتلاحق بنا في هذه الأيام، لماذا يكون من بعض الإخوة من يذهب للدعاة والشيوخ ويفسد ذات البين يقول له: استمع

لهذا الشريط فإنَّ الشيخ فلان قال عنك: كيت وكيت. لا .. لا هذا ليس من دأب الإخوة إطلاقا، بل تأليف القلوب واجب، حتى أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال التخاصم أن تنمى خيراً، ولا تقل إلا خيرا، وهذا الذي يسمونه بالكذب بين المتخاصمين. تذهب لهذا فتقول له: إنَّ الرجل يقول: إنَّك رجل صالح، وطيب الأخلاق، وأنك على خير جم، وأنك … وأنك … وأنه يحبك، ويريد أن يتصالح معك، فما زلت تنمى الخير حتى تنشرح الصدور. فمن يقول ذلك اليوم؟ للأسف الشديد كل يسعى لإشعال نار الفتنة، ونهاية المطاف ستحرقنا جميعا، لأننا كلنا في خندق واحد، فاللهم ألف بين قلوب المسلمين. إخوتاه .. لابد أن نحب ذلك، أن نرضى أن نسقط أقوال إخواننا إن اعتذروا عنها، أو زعموا أنهم لم يقولوها. قال تعالى في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" [يوسف / 5]. وقال جلا وعلا: " وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا " [الإسراء / 53] .... لذلك دائما ما أنصحك ـ حبيبي في الله ـ أن تقول قولا حسنا لا بل قل القول الأحسن، فالكلام قبيح وحسن وأحسن، والله يأمرك أن تتوخى في كلامك دائما القول الأحسن الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا حتى لا ينزغ الشيطان؛ ذلك لأنَّ الله يعلم صنيع الشيطان في التفرقة بين عباده " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ "، كنت أقول: إن من محاسن إخوة التبليغ أنَّه عندما يقوم أحدهم ليلقى البيان تجد البقية جميعاً يلتمسون أن

(6) القطيعة والتحامل القلبي

يسدد الله أخاهم، فيدعون له أن يرزقه الله الفصاحة، ويفتح عليه، ويهدى به وهكذا. لكنَّك تجد من الإخوة في المقابل محترفي اصطياد الأخطاء، هذا صوفي … وهذا أشعرى .. وهذا يحدث بأحاديث ضعيفة … وهذا يخبط خبط عشواء. أخيَّ … هلا نظرت إلى نفسك، إذا كان الإمام يخطئ لو كان وراءه مأموم لم يحسن الوضوء، فيلبس القرآن على الإمام، فكيف بمن لم يحسن الاستماع، لابد أنه سيلبس على المتكلم، نسأل الله لنا ولكم العافية من أمراض القلوب والأبدان. قال الإمام أبو حازم الأعرج: " لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيها أوفي خصلة فينا التواصي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا ". فالتماري والجدال الأخرق يكون فيما لا ينفع، أما ما ينفعك في دينك وآخرتك فيدخل من باب النصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين. (6) القطيعة والتحامل القلبي. الأصل في علاقة المسلم مع أخيه المسلم العفو والتسامح؛ لأنَّ الله تعالى الذي يعبدونه يتصف بصفات الكمال التي منها العفو والكرم. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. قال تعالى: " إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا " [النساء / 149]. وقال تعالى: " وَأَنْ تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى وَلَاْ تَنْسَواْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ " [البقرة/237] .... فما دمت تعفو فالجزاء من جنس العمل، فإن الله سيعفو عنك، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا، فالعفو من حقوق أخيك عليك، فإنَّ أخاك ليس بمعصوم عن الخطأ، فلابد له من هنات وسقطات، ومع القرب تبدو هذه السقطات، ولو

ابتعدت ما رأيت ما رأيت. لذلك حثك الله جل وعلا في مثل هذا أن تعفو " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " [الشورى/40] وانظر لهذه الآية التي عدها بعض أهل العلم من أرجى آيات القرآن، يقول الله فيها لأبى بكر الصديق الذي منع النفقة على قريبه "مسطح " لما بدر منه تجاه أم المؤمنين في حادثة الإفك ما بدر. قال تعالى: " وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [النور / 22]. فانظر إلى هذه الكلمات الندية الجميلة الرائعة التي يخاطب الله بها القلب ويستثير بها العاطفة ويستجيش بها النفس، إنَّ القرآن لا يعرف اللباب والقشور، لا يعرف أن يترك مثل هذه الأمور الفرعية والجزئية في سبيل الأمور الأصلية والقضايا الأهم، لا إنَّ الأمر كله دين، ولا يمكن أن يسكت الوحي عن أي حادثة فيها مخالفة دون بيان، فانظر كيف تكلم عن حادثة الإفك وعلم المسلمين فيها كيف يتعاملون مع مثل هذه القضايا الشائكة، ثم ثنَّى بذكر هذه الحادثة. فما لبث أبو بكر - رضي الله عنه - أن استجاب وعاد لينفق عليه مرة أخرى. إخوتاه ...... هكذا يكون التعامل بترك التحامل القلبي، قال تعالى: " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [آل عمرن / 133 - 134]. فأهل الإيمان يتصفون بالعفو والرحمة " رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ " [الفتح / 29] "أَذِلَّةٍ عَلَى

المؤْمِنِينَ " [المائدة / 54]، وكيف تكون ذليلا على المؤمنين وأنت لا تعفو عنهم؟!! إخوتاه .. من الواجبات الضرورية للمسلم على أخيه " الوفاء "، فإذا هجرك أخوك أو أساء إليك فلا تنسى سابق إحسانه. عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنت؟ قالت أنا جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف كنتم؟ كيف حالكم؟ كيف أنت بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال. فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإنَّ حسن العهد من الإيمان (¬1). وتقول أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ كان النبي إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوما. فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها. قال: ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء (¬2). فالمقصود أنَّ الوفاء مطلوب، وهو من المعاني المفقود ـ أيضا ـ في حياة المسلمين في هذا الزمان. قال الإمام الشافعي: احفظ وداد من عاملك لحظة، ولا تنسَ جميل من أفادك لفظة. هذا هو الوفاء حقا اللهم اجعلنا من عبادك الأوفياء. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (1/ 15 - 16) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (216). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (6/ 117)، وقصة غيرتها ثابتة في الصحيحين وغيرهما .....

إخوتاه .. الوفاء الثابت على الحب وإدامته حتى بعد الممات، بل إنَّه لا يموت معكم، فإذا كان البعث قمت محباً لأخلائك؛ لذلك لا تنس أخاك، ولا تنس إن منَّ الله عليك بالجنة فسل عنى، وحينها يلزمك أن تشفع لأخيك عند ربك فللمؤمنين شفاعة، اللهم ارزقنا الجنة، وما يقرب إليها من قول أو عمل. إخوتاه .. ستنقطع الروابط غداً إلا الأخوة الإيمانية، قال تعالى: " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " [عبس / 34ـ37] وقال جل وعلا:" يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيه " [المعارج11ـ14]، فكل الوشائج تقطع إلا وشيجة ورابطة الأخوة في الله؛ لأنَّ هذا الحب لم يرد به إلا الآخرة. إخوتاه .. لابد من دوام الوصال، والوفاء بالعهد الأخوي، فإذا مات أخوك صل أولاده وأصدقاءه من بعده. أخاف أن تنقض هذه الرابطة قبل أن تموت فيحبط العمل ويضيع السعي، فمن أحدث قبل السلام بطلت صلاته، ومن أكل قبل المغرب بطل صومه، فحذار حذار أن ينقطع وفاؤك بأخيك فتشمت الشيطان فيك، فإنَّه لا يجد متحابين في الله متعاونين على طاعته متواضعين على خير وبر إلا أجهد نفسه لإفساد ما بينهما، رب نعوذ بك من همزات الشياطين ونعوذ بك رب أن يحضرون.

(7) التجريح

إخوتاه ...... قال بشر: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. قال تعالى: " وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ " [الزخرف / 36]. فالأخوة مسلاة عن الهموم، عون على الدين، ومن الوفاء ألا يتغير حالك مع أخيك وإن ارتفع شأنك، واتسعت ولايتك، وعظم جاهك، وزاد مالك وقويت صحتك، فإنَّ الترفع على الإخوة بما استجد من الأحوال لؤم. إخوتاه .. في صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا ثلاثاً. (¬1) سامح أخاك، قل: اللهم قد وهبت من أخطأ في حقي خطأه صدقة منِّى عليه، فلعل الله يقبل صدقتك. (7) التجريح. إخوتاه .. إن طول العهد بالأخوة والتقاء الوجوه نفسها مع بعضها البعض مع التقارب في العمر ـ خاصة إن كان في عمر الرباط الأخوي ـ مع أهميته وفائدته إلا أنَّه محفوف بآفات منها: (1) تزيين بعضهم لبعض فيورث النفاق. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2565) ك البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر .....

(8) الأخذ وعدم العطاء

(2) الكلام والخلطة أكثر من الحاجة، وهذا من السموم التي تفسد القلوب " فضول الكلام " و" فضول المخالطة ". (3) أن يصير ذلك عادة وشهوة فينقطع بها عن المقصود. (4) ظهور الأخطاء ووضوح العيوب. هذا كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ، والمقصود أن من نواقض الأخوة الخلطة الفاسدة التي تكون على غير الوجهة الشرعية، فيصير اللقاء كأنَّه جراحات يجرح كل منكم الآخر ويؤذيه في دينه. ناهيك عن التجريح الآخر الذي ينتج عن فساد ذات البين، وكل ذلك دواؤه الاستعانة بالله تعالى وإخلاص النية وتجديدها، أن يظل شغل الإخوة الشاغل كيف يتعاونون على طاعة الله، لا أن يتلاقوا على المشاكلة فحسب. أخي .. أوصيك ونفسي بأن تتواصى بالإخلاص وصدق النية في إرضاء الله ـ جل وعلا ـ بلقاءاتنا. (8) الأخذ وعدم العطاء. لا شك أنَّ مثل هذا السلوك إذا تتابع حتى صار ظاهرة يسبب شيئا في الصدر، وهذه شيم البخلاء الذين يجمعون ولا ينفقون، يأخذون ولا يعطون وعياذاً بالله أن يكون منا بخيلٌ. قال بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى " وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " [البقرة / 195] هو البخل. وقال الله تعالى: " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" [الاسراء / 29]. ولا تجتمع خصلتان في مؤمن سوء الخلق

(9) معرفة الحقوق ونسيان الواجبات (الأنانية والأثرة) .....

والبخل، وأى داء أدوأ من البخل. فالمقصود ـ إخوتاه ـ أنَّ مثل هذا يوغر الصدور، فلابد من تعاون وتآلف، فعود نفسك البذل، ولا أطالبك بأن تنتظر المقابل فذلك دليل فساد النية، ولكن أطالبك يا من تعطى فتمنع، وتأخذ ولا تنفق أن تتقى الله في إخوانك فإني أخشى أن يهلكك العجب والأثرة، وتتمكن منك هذه الأمراض القذرة مثل الشح والبخل وسوء الخلق. قال تعالى: "وَإِذَاْ حُيْيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ الْلَهَ كَاْنَ عَلَي كُلْ شَيْءٍ حَسِيبًا " [النساء/86]. وقال تعالى: "إِنَّ اللَهَ لَاْ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِيْن يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْلِ " [النساء/36 - 37] فإذا وجدت إخوانك يشكون هذا الصنيع فيك، فقل في نفسك: أخي مرآة عيوبي، واذهب في الحال وشاركهم في أي عمل، وجد من نفسك ومالك، وعامل الناس أفضل مما تحب أن يعاملوك به ........................ (9) معرفة الحقوق ونسيان الواجبات (الأنانية والأثرة) ..... كثيرٌ من الأخوة يشتكون من هذا السمت السيئ في بعض إخوانهم، فتجد الأخ يعرف ماله جيدا ويطالب أخاه أن يصنع كذا وكذا بموجب ماله من حق عليه، وينسى ويتغافل عن حقوق أخيه والواجبات التي عليه تجاه الآخرين. وهذه الأثرة آفة الإنسان وغول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على المرء محقت خيره ونمت شره، وحاصرته في كل صنائعه، وجعلته محصورا في نطاق ضيق خسيس، ولا يعرف فيه غير شخصه، ولا يشعر بفرح أو حزن إلا لما يحسه من خير أو شر لنفسه. هذا الصنف من الناس وقع في عبودية الذات، ولا يحصل منه الخير أبدا، يعامل الناس في حدود ما يصل إليه عن طريقهم، لا يعرف إلا تحقيق آماله هو ولو على

(10) عدم الاحتكام إلى شرع الله في العلاقات

حساب الآخرين، وهذا عنوان الكبر الذي هو بطر الحق وغمط الناس، وهذا بريد التعاسة ـ علم الله ـ. إخوتاه .. لا ينبغي أن يكون فينا من هذا وصفه، فيا أيها الأناني يا صاحب الأثرة إن تعصبك لنفسك هو طريق الخذلان والحرمان، فلا تقلب الأمور فبدل أن تحب أخاك تحب نفسك، وبدل أن تؤثر أخاك تؤثر نفسك، فتتحول الأمور إلى صراعات بين عنصريات وقوميات وطبقيات، وتتعدد صور الهلاك والفساد نسأل الله لنا ولكم العافية. إخوتاه .. أحيوا خلق الإيثار، وحب الخير للمسلمين، والإعانة على الطاعة. (10) عدم الاحتكام إلى شرع الله في العلاقات. هذا لاشك من نواقض الأخوة المهلكة، لأنَّ أساس العلاقة والرابطة هو الإيمان، ومن مقتضيات الإيمان رد النزاع إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. فمن يحيد عن هذه الجادة ويترك بعض ما أنزل الله يهلك في الخصومات والتنازعات. قال تعالى: " فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " [المائدة/14] أي أنهم لما غفلوا عن قدر مما ذكرهم الله به فيما أمرهم به ونهاهم عنه كانت العاقبة الوقوع في العداوات وفساد البين بالتشاحن والتباغض.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "إذا ترك الناس بعض ما أنزل الله جهلا أو هوى وقعت بينهم العداوة والبغضاء، إذ لم يبق هنا حق جامع يشتركون فيه، بل تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون ". إخوتاه .. مع غياب الشرع تبدو المصلحة الشخصية والنظرة المادية والشهوة الخفية والأغراض الذاتية، فيتحول الناس إلى حياة الغاب، لا بقاء إلا لقوة المخلب والناب. هذه موازين مقلوبة، وأعراف منكرة، وتصورات مشوهة، مجتمع الجهل والأثرة والشهوة، أما في مجتمع الإسلام فنقيض ذلك تماما نسأل الله لنا ولكم العافية.

فن معالجة الأخطاء أخ لي كأيام الحياة إخاؤه تلون ألوانا كثيرة خطوبها إذا عبت منه خلة فهجرته دعتني إليه خلة لا أعيبها

فن معالجة الأخطاء

فن معالجة الأخطاء … إذا حدث بينك وبين أخيك ما تكره، تريد أن تعالج هذا الخطأ؛ فماذا تصنع؟ وقد تقدم معنا الحديث عن " الإغضاء وعدم الاستقصاء "، فما من بشر إلا ويخطئ،، وإلا فأنت تبحث عن المعصوم، ولا عصمة لغير الأنبياء، ولا نبي بعد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا ترم محالا. وهنا سوف أدلك على الطرق التي إذا اتبعتها تجاوزت هذه العقبات، فأحسن النية والعزم. أولا: اللوم للمخطئ لا يأتي بخير غالباً. تذكر أن اللوم لا يأتي بنتائج إيجابية في الغالب، فحاول أن تتجنبه. يقول أنس - رضي الله عنه -: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍ، ولا لم صنعت، ولا أَلا صنعت " (¬1) إنَّه في مثل هذه الأوضاع قد يستغرب بعضنا أو يستكثر أو يرى أن هذا ضرب من المحال أن يمر الأمر دون عتاب أو لوم. وهذا الشأن من قبيل انشغال القلب بالعلويات عن السفاسف، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بالوحي وبعلو الدرجة بأن يكون في الرفيق الأعلى، أقل من ذلك لا، بأن ينال الوسيلة التي لم ينلها بشر. كان أنس يقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حدثه بعض أهله في شئ من ذلك يقول ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (6038) ك الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2309) ك الفضائل، باب كان رسول الله أحسن الناس خلقا .....

ثانيا: أبعد الحاجز الضبابي عن عين المخطئ.

" دعوه فلو قدر أو قال لو قضى أن يكون كان " (¬1) فانظر إلى تعلق القلب بالله، والرضا بقدره، وسكون القلب تحت مجارى الأقدار. ولهذا انتبهوا فهذا أول درجات علو الهمة، " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجل الرجل شعره إلا غبًا ". (¬2) إخوتاه .. لا تكونوا كهؤلاء الذين لا يهتمون إلا بالتلاوم والتعاتب، فإنَّ هذا مضيعة للوئام بين الأنام. قال معاذ بن جبل: إذا كان لك أخ في الله فلا تماره. ثانياً: أبعد الحاجز الضبابي عن عين المخطئ. المخطئ ـ أحيانا ـ لا يشعر بأنَّه مخطئ، فغالباً لا أحد يحب الخطأ، ولا يحب أن يخطئ، ومن كان هذا وصفه فمن العسير أن توجه له لوما مباشراً وعتاباً قاسياً، وهو يرى أنَّه مصيب. فلابد أن يشعر أنَّه أخطأ حتى يبحث عن الصواب، فينبغي أن تتوخى ـ بدايةً ـ أن تزيل عنه الغشاوة ليبصر الخطأ. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 231) وابن حبان في صحيحه (16/ 145) برقم (7179)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (5257). (¬2) أخرجه الترمذي (1765) ك اللباس عن رسول الله، باب ما جاء في النهي عن الترجل إلا غباً، وقال: حسن صحيح، والنسائي (5055) ك الزينة، باب الترجل غباً والإمام أحمد (4/ 86)، وأبو داود (4159) ك الترجل وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (501)، وصحيح الجامع (6870).

انظر لرسول الله في معاملته للفتى الذي جاءه يستأذنه في الزنا فأقبل القوم عليه فزجروه فأدناه - صلى الله عليه وسلم -، وبدأ يزيل عن عينه الغشاوة فيسأله أتحبه لأمك؟ لابنتك؟ لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ والشاب يقول كل مرة: لا جعلني الله فداءك فيجيبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الناس يحبونه لأمهاتهم … لبناتهم … لأخواتهم … لعماتهم …. لخالاتهم، ثم وضع يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه ". فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شئ من مثل هذا (¬1) إخوتاه .. لما تكلم الله تعالى في تأديب الزوجة جعل ذلك على ثلاثة مراحل " وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا " [النساء / 34]. فقال أهل العلم: إذا غلب على الظن أن الضرب لا يأتي بنتيجة حرم الضرب، لأنَّه من جنس الأذى المجرد، وهو حرام. وانظر كيف قدم الله الموعظة الحسنة لإزالة الغيوم قبل أن يتدرج الأمر للتعنيف ليعلمنا هذا الدرس دائما في معاملاتنا. إخوتاه لابد من إزالة هذا الضباب لكن برفق ولين، وقد تقدم معنا قصته - صلى الله عليه وسلم - مع معاوية بن الحكم لما شمت العاطس في الصلاة بصوت عال، فما نهره ولا شتمه ولا وبخه بل قال له: " إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنَّما هو التسبيح والتكبير ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 256)، والطبرانى في الكبير (8/ 162) برقم (7679)، (8/ 183) برقم (7759). وقال الهيثمى في المجمع (1/ 129): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

ثالثا: اختيار العبارات اللطيفة في إصلاح الأخطاء

وقراءة القرآن " (¬1) وقصته مع الأعرابي الذي بال في المسجد، وترفقه به في إيضاح وجه الخطأ الذي ارتكبه (¬2) وهذا الذي ينبغي أن نكون عليه. ثالثا: اختيار العبارات اللطيفة في إصلاح الأخطاء. إذا كنا ندرك أنَّ من البيان لسحراً، فلماذا لا نستخدم هذا السحر الحلال في معالجة الأخطاء؟! فمثلاً: حينما يخطئ إنسان فقل له: لو فعلت كذا، أو ما رأيك أن تفعل كذا؟ أو اقترح عليك هذا الفعل، أو أرأيت هذه الوجهة لو توليت إليها .. وغير ذلك من العبارات اللطيفة التي لا تعرف خشونة عبارات التعنيف، والتي لا تخلو من سباب وشتم وتعيير، يقول: أعدم سمعك؟ أزال عنك عقلك؟ أجننت؟ يا كذا … يا كذا إلى آخر ما ينبغي التنصل منه. إخوتاه .. لاشك أن البون شاسع بين اللطف والخشونة، بين الرقة والعنف، فلماذا لا ترق وتلطف بإخوانك؟! كان - صلى الله عليه وسلم - يستخدم مثل هذه العبارات اللطيفة في حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ " لو أنَّكم تطهرتم ليومكم هذا " (¬3). وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ما على أحدكم إنْ وجد أنْ يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدمه تخريجه. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري (902) ك الجمعة، باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب. ومسلم (847) ك الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أمروا به.

ثوبي مهنته " (¬1) ولما أراد كعب بن مالك أنْ يتصدق بماله كله لتكون من تمام توبته قال له - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " (¬2) ولما أعتقت أمنا ميمونة بن الحارث - رضي الله عنه - جارية لها قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ـ " أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ". (¬3) إخوتاه .. إنَّ هذه العبارات الجميلة تأثيرها ساحر، فهي تحمل في طيها مشاعر التقدير والاحترام مختلطة بالحب والشفقة، ومن ثمَّ يشعر من تحدثه بإنصافك له، وحينها تزول الغشاوة ويعترف بالخطأ. واعلم أنَّ كل كلمة قاسية في العتاب لها مرادف من الكلمات الطيبة، قال الصينيون في مثل سائر عندهم: نقطة العسل تصيد من الذباب ما لا يصيد برميل من العلقم. هذا وقع الكلمة الطيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، بخلاف الكلام المر الذي لا يستسيغه أحد. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1087) ك الصلاة، باب البس للجمعة. وابن ماجة (1095) ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة. وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامعة (5635) وصحيح أبى داود (989) (¬2) جزء من حديث كعب بن مالك الطويل. وهو متفق عليه أخرجه البخاري (4418) ك المغازي، باب حديث كعب بن مالك ومسلم (2769) ك التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (2592) ك الهبة والتحريض عليها، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، ومسلم (999) ك الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الاقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين.

رابعا: ترك الجدال أكثر إقناعا من الجدال.

رابعا: ترك الجدال أكثر إقناعاً من الجدال. تجنب الجدال في معالجة الأخطاء، فهذه الطريقة أكثر وأعمق أثراً من استخدامك الجدال نفسه، وتذكر أنَّك عندما تنتصر في الجدال على خصمك المخطئ فإنَّك تجبره للإذعان لك، وفي غالب الأمر يحز ذلك في نفسه، ويحقد عليك ويحسدك، فحاول أن تتجنب ذلك من البداية، والنصوص الشرعية لم تذكر الجدال إلا في موضع الذم غالباً، والمحمود منه ما كان عن محاورة هادئة مع طالبٍ للحق بصورة حسنة جميلة، قال تعالى: " وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " [النحل/ 125]. ذُكر عن الإمام مالك - رضي الله عنه -أنَّه قيل له: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكنَّه يخبر بالسنة، فإن قبلت وإلا سكت. وهذه حقيقة واقعية أنَّ طالب الحق إذ سمع السنة قبلها، وأمَّا المعاند والمكابر فلا يقنعه أقدر الناس على الجدال. إخوتاه .. بالجدال تخسر المجال، والداعية ليس في حاجة إلى أن يخسر الناس، قال عبد الله بن الحسن ـ رحمه الله ـ: " المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة " حتى لو كان المجادل محقا، ينبغي ترك الجدال. قال - صلى الله عليه وسلم - " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر إلا أن تروا شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام " (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3058) ك تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة وقال: حسن غريب، وأبو داود (4341) ك الملاحم، باب الأمر والنهي. وابن ماجة (4014) ك الفتن، باب قول الله " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " لكن ضعفه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في ضعيف ابن ماجة (869) وضعيف الترمذي (585).

خامسا: ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل

وقال - صلى الله عليه وسلم - " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا " (¬1). إخوتاه .. تذكروا أنَّ المخطئ يربط الخطأ بكرامته، فيدافع عنه كمن يدافع عن شرفه وكرامته، فإذا تركنا له مخرجاً سهلاً، وجعلنا له فرصة للعودة ما تغلقت عليه الأبواب. قال تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ " [التحريم / 3]، وكذلك استن. خامسا: ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل. حاول أن تعرف كيف يفكر الآخرون، من أي قاعدة ينطلقون؟ فحينئذٍ تكون قد عثرت على نصف الحل، ضع نفسك موضع المخطئ، حاول أن تفكر من وجهة نظره هو، فكر في الخيارات الممكنة التي تتقبلها واختر له ما يناسبه. وهذه الطريقة المثلى في الاعتذار عن الآخرين، وبها يسلم صدرك. وهي أمارة على حسن الظن فتأمل!! سادسا: ما كان الرفق في شئ إلا زانه. فالله رفيق يحب الرفق، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظاً، ولا غليظاً، ولا معنتاً، ولا متعنتا بل كان ـ بأبي هو وأمي ـ معلماً ميسراً. والله ـ جلا وعلا ـ لا يضع رحمته إلا على رحيم، والمؤمن هين لين؛ لذلك قال ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

- صلى الله عليه وسلم -للأشج بن قيس: " إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة " (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ " (¬2) وقال عمرو بن العاص:- رضي الله عنه -" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم يتألفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه علىَّ حتى ظننت أنى خير القوم (¬3). وقال جرير بن عبد الله البجلي: " ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ". (¬4) إخوتاه .. إننا بحاجة لشيء من العطف على أخطاء الناس أو حتى حماقاتهم، نريد شيئاً من الود الحقيقي لهم، نبغي شيئاً من العناية غير المتصنعة باهتماماتهم وهمومهم. فعندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس نجد أن هناك خيرا كثيرا، قد لا تراه العيون عند الوهلة الأولى، لكن ستكشف هذا النبع الخير فيهم حين يصفو لك حبهم ومودتهم وثقتهم، هذا في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، إذا كان ذلك عن صدق وصفاء وإخلاص. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (25) ك الإيمان، باب الأمر بالأيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وشرائع الدين، والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه. (¬2) أخرجه العقيلي في الضعفاء (214)، وابن المبارك في الزهد (130) والبغوي في شرح السنة. وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (936)، وصحيح الجامع (6669). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 181) وقال الهيثمى في المجمع (9/ 15): رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري (2809) ك الجهاد والسير، باب من لا يثبت على الخيل. ومسلم (4523) ك فضائل الصحابة، باب من فضائل جرير بن عبد الله.

سابعا: دع الآخرين يتوصلون لفكرتك

إخوتاه .. هذه الثمرة الجميلة تنكشف لمن يروم أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على معاناتهم، شئ من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بأن يتحقق لك ذلك كله أقرب مما تتوقعه، ليس لأني أقول ذلك، ولكن الله هو الذي قال: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " [فصلت /34ـ35]. سابعا: دع الآخرين يتوصلون لفكرتك. عندما يخطئ إنسان فقد يكون المناسب في تصحيح الخطأ أن تجعله يكتشف الخطأ بنفسه ثم تجعله يكتشف الحل. من الشواهد في هذا الصدد ما ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ من قصة الشيخ / عبد الرحمن البكري حينما ذهب إلى الهند فوجد أحد علمائها يلعن الشيخ / محمد بن عبد الوهاب في نهاية كل درس، فقام الشيخ البكري ونزع غلاف كتاب التوحيد، ودعا الشيخ لمنزله ثم استأذنه ليأتي بالطعام، وكان الكتاب قريباً من الشيخ الهندي فأخذ يتصفحه، وأعجب به حتى عندما عاد إليه الشيخ البكري وجده يهز رأسه متعجبا ويقول: لمن هذا الكتاب؟!، هذه التراجم وعناوين الفصول شبه تراجم البخاري، هذا ـ والله ـ نفسه البخاري. قال الشيخ البكري ـ فقلت: ألا تذهب للشيخ الغزوى نسأله، وكان صاحب مكتبة فأخبرهم أنَّه للشيخ محمد بن عبد الوهاب. فصاح العالم الهندي بصوت عال: الكافر. فسكتنا وسكت قليلا، ثم هدأ غضبه واسترجع، ثم كان بعد ذلك يدعو تلاميذه للدعاء للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، وتفرق تلاميذه في البلاد وهم على عادة شيخهم في الدعاء للشيخ.

إخوتاه .. الإنسان منا إذا اكتشف الخطأ، ولاح له الحل والصواب فلا شك أن يكون أكثر حماسا لأنَّه يحس أن الفكرة فكرته. يقول ابن الجوزى: " تأملت حرص النفس على ما منعت منه، فرأيت حرص النفس على ما منعت يزيد على قدر قوة المنع. رأيت في الأول أنَّ آدم ـ عليه السلام ـ أبيحت له الجنة بأثمارها ومنع من شجرة حرص عليها مع وجود الأشجار المغنية عنها. قال تعالى: " وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين" [الأعراف/ 19]، ولكنَّه أكل من هذه الشجرة، وفي المثل القديم: المرء حريص على ما منع، وتواق إلى ما لم ينل. ويقال: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه. وقالوا: ما أحب شئ إلى الإنسان إلا ما منع. فلما بحثت عن سبب ذلك وجدت سببين: أحدهما: أنَّ النفس لا تصبر على الحصر، فإنَّه يكفي حصرها في صورة البدن، فإذا حصرت في المعنى بمنع زاد طيشها، ولهذا لو قعد الإنسان في بيته برغبته شهرا لم يصعب عليه، ولو قيل: لا تخرج من بيتك يوماً لصعب عليه وطال عليه. الثاني: أنًّ النفس يشق عليها الدخول تحت حكم، ولهذا تجد النفس تستلذ الحرام، ولا تكاد تستطيب المباح، يسهل عليها التعبد بالبدعة؛ لأنه ما ترى وتؤثره على السنة لأنه خلاف ما ترى " أهـ

ثامنا: عندما تنقد اذكر جوانب الصواب

إخوتاه .. انتبهوا لهذا الأمر جيداً، دع الناس يتوصلون إلى فكرتك ويقنعون بها أنفسهم دون أن تظهر ذلك لهم، فسوف يظن أنَّ الأمر من قبل نفسه فيذعن لفكرته أكثر من استجابته لنصحك إياه. ثامنا: عندما تنقد اذكر جوانب الصواب. حتى يتقبل الآخرون نقدك المهذب وتصحيحك للخطأ أشعرهم بالإنصاف بأن تذكر خلال نقدك جوانب الصواب عندهم. ففي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلى من الليل. قالت حفصة: فكان بعدُ لا ينام إلا قليلاً. (¬1). عبد الله بن مسعود أخذ نفس الطريق لما قال له زياد: كيف يضيع العلم وقد وعته القلوب وحفظته الصدور. قال: ثكلتك أمك يا زياد، إني لأظنك أفقه أهل المدينة. إخوتاه .. عندما يعمل إنسان عملاً فيحقق فيه نسبة نجاح 20 % فأثنِ عليه بهذا الصواب، ثمَّ اطلب منه تصحيح الخطأ ومجاوزة هذه النسبة. انظر كيف ينظر الشخصان إلى كوب ماء امتلأ حتى النصف، يراه أحدهما أنَّه ناقص إلى النصف، والثاني يراه ممتلئًا حتى النصف. ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (1122) ك الجمعة، باب فضل قيام الليل ومسلم (2479) ك فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عمر.

في تفسير الأحلام لابن سيرين عندما جاء رجل يسأل عن تساقط أسنانه فقال المؤول: سيموت كل أبنائك فمرض الرجل، فسأل آخر فقال له: ستكون آخر أبنائك موتاً. إخوتاه .. امدح على قليل الصواب يكثر في الممدوح الصواب، انظر إلى محترفي السيرك عندما نجحوا في ترويض الحيوانات الضخمة والشرسة، ودربوها على أعمال تدعو للدهشة والاستغراب، وطريقتهم في ذلك أنَّهم يطلبون من هذا الحيوان عملاً معيناً فإذا حقق فيه نجاحا 5 % أعطوه قطعة لحم، وشدوا من أزره، دلالة على رضاهم عنه، ثم يكررون هذا الأمر فيزداد النجاح شيئاً فشيئاً حتى يتوصلوا إلى مقصودهم، فإذا نجحت هذه الطريقة مع الحيوانات فلماذا لا تنجح مع الإنسان وهو من أكثر مخلوقات الله ذكاء وقدرة على تفادى الأخطاء؟!! إخوتاه عندما تربى ولدك ليكون كاتباً جيداً، دربه أولاً على الكتابة، وتتبع جوانب الصواب مع مقالة الأول، ومع قليل من الثناء سيزداد الصواب، ويكثر حتى يحقق مرادك. كذلك إذا أردت أن تقوم الليل وتوقظ ولدك لصلاة القيام قبل الفجر فتشجعه وتقول: ما شاء الله لقد أدركت لحظة جليلة يقول الله فيها: " هل من سائل " فلعلك دعوت لأبيك. مثل هذا الصنيع سيشجعه ويبدأ في المداومة على القيام، والرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: " رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء " (¬1) ذلك على سبيل المداعبة لا الأذى فتفطنوا، المقصود أنَّ قليل الصواب إذا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1308) ك الصلاة، باب قيام الليل ـ واللفظ له ـ، والنسائي (1610) ك قيام الليل وتطوع النهار، باب الترغيب في قيام الليل، وابن ماجه (1336) ك إقامة الصلاة، باب جاء فيمن أيقظ أهله، والإمام أحمد في مسنده (2/ 250) ـ وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبى داود (1160)، وصحيح ابن ماجة (1099).

تاسعا: لا تفتش عن الأخطاء

أثنى عليه يكثر ويستمر. تاسعا: لا تفتش عن الأخطاء. حاول أن تصحح الأخطاء الظاهرة، ولا تفتش عن الأخطاء الخفية لتصلحها، لأنَّك بذلك تفسد القلوب، وقد نهي الشارع عن تتبع العورات. ففي مسند الإمام أحمد عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته " (¬1) وعن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم " (¬2) قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ " [الحجرات / 12]؛ لذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلاً (¬3) ليلتمس عوراتهم، فكان إذا جاء من سفر ليلا بات في المسجد، ثم إذا ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 279) عن ثوبان - رضي الله عنه -، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 87) رواه أحمد ورجاله الصحيح غير ميمون بن عجلان وهو ثقة. (¬2) أخرجه أبو داود (4888) ك الأدب، باب في النهي عن التجسس، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: إسناده صحيح، وكذا الإمام النووي في " رياض الصالحين " وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2295) وصحيح أبى داود (4088). (¬3) أخرجه البخاري (1801) ك الحج، باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة.

عاشرا: استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن والتثبت

أصبح ذهب لأهله، إذ كان يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً (¬1) ويقول: " إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة ". (¬2) عاشرا: استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن والتثبت. إذا بلغك خطأ عن إنسان فتثبت منه، واستفسر عنه مع إحسان الظن به، فأنت بذلك تشعره بالاحترام والتقدير، كما يحس هو - في الوقت ذاته - بالخجل والحياء أن حدث مثل هذا الخطأ منه. يمكنك في هذه الأحوال أن تقول مثلاً: زعموا أنَّك فعلت كذا، ولا أظنه يصدر من مثلك. قال عمر - رضي الله عنه -: " يا أبا إسحاق زعموا أنَّك لا تحسن تصلي، وأنا أنأى بك عن ذلك ". وهذا عندما اشتكى أهل العراق واليهم من قبل عمر - رضي الله عنه -سعد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - فقال سعد:"والله إني لآلو أنِّي أصلى بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المقصود لابد من استسفسار، وعليك أن تسوقها بمعرض الحديث، وأحسن الظن به وتثبت. الحادي عشر: اجعل الخطأ هينا ويسيرا وابن الثقة في النفس لإصلاحه. ابنك ـ مثلاً ـ رسب في الجامعة في مادة من المواد تقول له: الحمد لله، ولكن لن أتنازل عن تقدير العام القادم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5243) ك النكاح، باب لا يطرق أهله ليلا إذا طال الغيبة مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم. (¬2) أخرجه البخاري (5246) ك النكاح، باب طلب الولد.

الثاني عشر: تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم

وهذا سيشعر الولد بمدى الخطأ الذي وقع فيه، وسيتشجع لاستدراك ما فاته ويثق في نفسه ويسعى للإصلاح. الثاني عشر: تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم. هذه غريزة بشرية، فالإنسان عبارة عن جسد وروح، تلك الروح مليئة بالعواطف الجياشة فله كرامة وكبرياء، لا يحب أن يهان أو تجرح مشاعره حتى لو كان أتقى الناس. لما بلغ أسيد الساعدى فتوى ابن عباس في الصرف أغلظ له في الكلام فقال له ابن عباس: ما كنت أظن أنْ أحداً يعرف قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد. فلاحظ هذا في تعاملاتك ومحاولاتك لتصحيح الأخطاء، واجعل من ذلك عذرًا للناس إن هم أعرضوا ولم يستجيبوا. فهذه ثنتا عشرة قاعدة في معالجة الأخطاء، فحاول من الآن أن تعتادها، وأن تجربها في تعاملاتك مع الآخرين، فإنك واجدٌ خيراً كثيراً بإذن الله، وهذا ليس محض دعوى، بل عن تجارب عديدة، فالزمها فإنَّ ثمَّ سلامة الصدر وراحة البال .. فتدبر.

حقوق الأخوة إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجْهِدْ نفسَه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعُدَّه في الموتى

حقوق الأخوة فى نظر الإسلام

حقوق الأخوة فى نظر الإسلام حقوق الأخوة فى نظر الإسلام تنقسم إلى قسمين: أ - حقوق عامة. ب- حقوق خاصة. أ) الحقوق العامة: (1) إفشاء السلام. (2) رد السلام (3) عيادة المريض. (4) اتباع الجنائز. (5) إجابة الدعوة. (6) تشميت العاطس. (7) إبرار المقسم. (8) نصرة المظلوم. (9) الاهتمام بالمنصوح له. (10) التنفيس عن المكروب. (11) التيسير على المعسر. (12) الإغضاء عن العيوب. (13) الابتعاد عن الأذى كالحسد والتباغض والظلم والتحقير.

(أ) الحقوق العامة

روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- "حق المسلم على المسلم ستٌّ" قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبْه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمِّتْه (¬1)، وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه" (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نفَّس عن مؤمن كرْبة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" (¬3). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا ... المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله" (¬4) ... (أ) الحقوق العامة: وضع ديننا الحنيف نظامًا محكمًا للتعامل بين أبناء الإسلام، بحيث يثمر مزيدًا من الترابط والتآلف، ويجعل أهل الإسلام نسيجًا واحدًا، ونحن نفتقد في هذه الأيام التطبيق العملي لهذه الآداب، الأمر الذي أدى بدوره إلى اضطراب كثير من الأمور في ¬

(¬1) تسميت العاطس -ويقال: تشميت- أن تقول له: يرحمك الله! (¬2) أخرجه مسلم فى صحيحه، كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162). (¬3) جزء من حديث أخرجه مسلم فى صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على الدعاء والذكر (2699). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}.

أذهان بعض الناس تجاه بعض القضايا العملية مثل إلقاء السلام على البر والفاجر ونحوها، ونحن هنا نريد أن نعيد طرح هذه الواجبات والحقوق؛ لنداوي من خلالها ما صار بين المسلمين من شتات وفرقة، فلربما استعصت علينا أمور، والدواء أيسر مما نتصور. على كل، يبقى السؤال موجهًا لكل واحد منًّا: أين نحن من تطبيق هذه الحقوق والآداب؟ في الصحيحين عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي؛ ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المياثر (¬1)، والقسية (¬2) والإستبرق والديباج (¬3). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس تجب للمسلم على أخية؛ رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز". وفي رواية عند مسلم أيضًا: "حق المسلم على المسلم ست". قيل: ما هن يا رسول الله. قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" (¬4). وهذه لمحة خاطفة عن هذه الحقوق العامة: ¬

(¬1) المياثر: أغشية للسروج تتخذ من حرير. (¬2) القسية: ثياب مخططة بالحرير. (¬3) أخرجه البخاري (5175) ك النكاح، باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه، ومسلم (2066) ك اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال. (¬4) أخرجه مسلم (2162) ك السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام.

(1) إفشاء السلام

(1) إفشاء السلام أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإفشاء السلام، وعلمنا كيفيته، ورغبنا فيه؛ لأنه يورث المحبة بين إخوة الإسلام، التي تعد من مفاتيح الجنة. ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، واضربوا الهام، تورثوا الجنان" (¬1). وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام" (¬2). قال الحافظ ابن حجر: والمراد بإفشائه نشره سرًّا أو جهرًا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم" (¬3). ولا يتوقف فضل إفشاء السلام على هذا، فهو سبيل لخفض الجناح بين المسلمين، وسبيل لنفي شبهات الكبر عن النفس، إذ الكبر بطر الحق وغمط الناس، ففي إفشاء السلام سبيل للتواضع، وتعظيم حرمات المسلمين. كما يقول الإمام النووى: والسلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع، وإعظام حرمات المسلمين. وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (1854) ك الأطعمة عن رسول الله، باب ما جاء فى فضل إطعام الطعام، وقال: حسن صحيح غريب. قال المباركفوري: واضربوا الهام: أي رؤوس الكفار. (¬2) أخرجه الترمذي (1855) الموضع السابق. (¬3) أخرجه مسلم (93) ك الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأنَّ محبة المؤمنين من الإيمان.

قال: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان؛ الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار. قال الإمام النووي: وبذل السلام للعالم، والسلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإفشاء السلام كلها بمعنى واحد. وفيها لطيفة أخرى وهي أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه، ولا يخص أصحابه وأحبابه به، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: بذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق، والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب. ولإفشاء السلام منزلة عظيمة القدر؛ فبه يعلي الله من درجات أهل الايمان، وفي جامع الترمذى عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة -قال: أحسبه قال: في المنام- فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا. قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي -أو قال: في نحري- فعلمت ما في السماوات وما في الأرض. قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم. قال: في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللَّهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون. قال: والدرجات إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" (¬1). ولا يخفى عليكم -إخوتاه- حكم السلام، وكونه سنة عين من المنفرد، وسنة على الكفاية من الجماعة، وإن الأفضل السلام من جميعهم، أما رد السلام فهو فرض ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3233) ك تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة ص.

عين على الواحد، وفرض كفاية على الجماعة. قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. ومن باب التواصي بالحق أذكركم ونفسي بجملة من الآداب التى عادت مهجورة في حياتنا، ولم يعد أكثرنا يعيرها اهتمامًا. فمن ذلك: (1) البدء بالسلام قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام" (¬1)، وفي رواية: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ قال: "أولاهما بالله تعالى" (¬2). وعن ابن عمر أنَّ الأغر -وهو رجل من مزينة وكانت له صحبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -- كانت له أوسق من تمر على رجل من بنى عمرو بن عوف، اختلف إليه مرارًا. قال: فجئت الى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل معي أبا بكر الصديق، قال: فكل من لقينا سلموا علينا، فقال أبو بكر: ألا ترى الناس يبدءونك بالسلام فيكون لهم الأجر، ابدأهم بالسلام يكن له الأجر (¬3). (2) صيغة السلام عن عمران بن حصين قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم. فرد عليه السلام، ثم جلس. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"عشر". ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (5197) ك الأدب، باب فضل من بدأ بالسلام، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4328). (¬2) أخرجه الترمذي (2694) ك الاستئذان والآداب عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الذى يبدأ بالسلام، وقال: حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2167). (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (984) باب من يبدأ بالسلام، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (755).

ورحمة الله. فرد عليه فجلس، فقال: "عشرون". ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد عليه فجلس فقال: "ثلاثون". وفي رواية: ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال: "أربعون". قال: هكذا تكون الفضائل (¬1). (3) رد السلام فال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. وهذا من عبوديات اللسان -كما ذكر ابن القيم في مدارج الساكين (1/ 114) - وهو واجب كما تقدم، وأفضله أن تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. قال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/ 383): "مقامات رد السلام ثلاثة: مقام فضل، ومقام عدل، ومقام ظلم؛ فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته، والعدل أن ترد عليه نظيرها، والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها فاختير للراد أكمل اللفظين". (3) تسليم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد. فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يسلم الراكب على الماشى، والماشى على القاعد، والماشيان أيهما بدأ بالسلام" (¬2). (3) تسليم الصغير على الكبير والقليل على الكثير. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5195) ك الأدب، باب كيف السلام، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4327). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (143، 144، 145)، وابن حبان (1935) عن جابر موقوفًا، وله حكم الرفع لا سيما وقد ورد كذلك مرفوعًا، وصحح إسناده الحافظ فى الفتح (11/ 18)، وقال الهيثمي فى المجمع (8/ 36): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (1146).

الكثير" (¬1). (4) التسليم عند دخول الدار وإتيان المجالس، وعند مفارقتها. قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة " (¬2). (5) إلقاء السلام على المعروف والمجهول عندك إذا غلب على الظن أنه مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: "وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". قال الحافظ ابن حجر: وفيه من الفوائد أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه فقد يوقعه في الاستيحاش منه. ثم قال: إن عرف أنه مسلم فذاك، وإلا فلو سلم احتياطا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر. وقال ابن بطال في مشروعية السلام على غير المعرفة: استفتاح المخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه. تنبيه: تبقى دائمًا مسألة السلام على أهل المعاصى والفسوق، فمن السلف من ترك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6231) ك الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير. (¬2) أخرجه أبو داود (5208) ك الأدب، باب في السلام إذا قام من المجلس، والترمذي (2706) ك الاستئذان والآداب عن رسول الله، باب ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4340)، وصحيح الترمذي (2177).

الحق الثاني: عيادة المريض

السلام عليهم. قال الحسن البصرى: ليس بينك وبين الفاسق حرمة. ومنهم من تمسك بظاهر ما تقدم من الأحاديث في عموم إفشاء السلام على أهل الإسلام؛ على اعتبار أن ذلك سبيل للدعوة والتآلف. والخوف هنا أن تترك السلام كبرًا والعياذ بالله، وقد يتسرب إليك من العجب ما يتلف عليك قلبك، فأنت أمير نفسك في هذا الأمر. فإن تركت السلام وعلمت أن ذلك سينبه الرجل فبها ونعمت، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فإن ترك السلام سيورث البغضاء والتنافر بينك وبينهم، وهذا غير مطلوب بطبيعة الحال. الحق الثاني: عيادة المريض أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيادة المرضى، ورغبنا في ذلك لما فيه من الأجر العظيم، وتنزل الرحمات. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فكوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع وعودوا المريض" (¬1). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ ". قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ ". قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ ". قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3046) ك الجهاد والسير، باب فكاك الأسير. (¬2) أخرجه مسلم (1028) ك الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة". قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: "جناها" (¬1). فهنيئًا لك يا من تعود المرضى، هنيئًا هنيئًا؛ فإنك تخوض في رحمة الله تعالى. عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" (¬2) وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة" (¬3). ويكفي في الوعيد لمن قصَّر في هذا الحق أن الله يعاتبه يوم القيامة عتابًا شديدًا تقشعر منه الأبدان، فكيف بك أخي حينها، ويكفي من يبادر في فعل هذا الخير أن الله يختصه برحمته ومعيته. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني. قال: يارب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يارب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2568) ك البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، والخرفة: ما يحرز من ثمر النخيل كناية عن الثواب. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (522) باب الحديث للمريض والعائد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (407)، والصحيحة (1929). (¬3) أخرجه الترمذي (969) ك الجنائز عن رسول الله، باب ما جاء في عيادة المريض، وقال: حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (775).

ومن آداب العيادة

لو سقيته وجدت ذلك عندي" (¬1) ومن آداب العيادة: (1) التبكير بالزيارة. فينبغي أن يكون ذلك في أول المرض، لقوله: "إذا مرض فعده" (¬2). (2) اختيار أفضل الأوقات. ذلك قال بعض أهل العلم: تستحب العيادة طرفي النهار بكرة وعشيًّا، وتكره وسط النهار. (3) الدعاء للمريض. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريض يعوده قال: "لا بأس طهور إن شاء الله". فقال له: لا بأس طهور إن شاء الله (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضا أو أتي به قال: "أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" (¬4). وفي رواية: كان يرقي يقول: "امسح الباس، رب الناس، بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت" (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2569) الموضع السابق. (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم (2162) ك السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام. (¬3) أخرجه البخاري (3616) ك المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري (5675) ك المرضى، باب دعاء العائد للمريض، ومسلم (2191) ك السلام، باب استحباب رقية المريض. (¬5) متفق عليه. أخرجه البخاري (5744) ك الطب، باب رقية النبي، ومسلم في الموضع السابق.

(4) قراءة القرآن له.

وأحيانًا كان يقول للمريض: "بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا بإذن ربنا" (¬1). وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من عبد مسلم يعود مريضا لم يحضر أجله فيقول سبع مرات: اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عوفي" (¬2). (4) قراءة القرآن له. ن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي. (5) تخفيف الزيارة. فينبغي عليك مراعاة حال المريض، وأن تتفقده يومًا وتترك يومًا، فإن كان يؤثر تكرار الزيارة كل يوم، ويستحب طول المكث، ولا يتضجر ولا يشق عليه ذلك فبها، وإلا فعليك أن تقدم ما ينفعه. قال بعض أهل العلم: يمكث عنده مقدار ما بين خطبتي الجمعة، وقيل: قدر حلب شاة. والراجح مراعاة الحال كما تقدم. (6) تذكيره بالله. فعليك أن تذكره بالله، وتحاول أن تدفع عنه التسخط إن رأيت بوادره، وتحببه في ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (5745) الموضع السابق، ومسلم (2194) ك السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة. (¬2) أخرجه الترمذي (2083) ك الطب عن رسول الله، باب ما جاء في التداوي بالعسل، وقال: حسن غريب.

الحق الثالث: اتباع الجنائز.

ربه، وتبشره بتكفير الخطايا، وإن رأيته في مرض الموت فذكره بالوصية ولقنه لا إله إلا الله. الحق الثالث: اتباع الجنائز. من حق المسلم على المسلم أن يتبع جنازته، وقد رغبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وبين لنا عظم فضل اتباع الجنائز. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط" (¬1). ولما أخبر ابن عمر بهذا قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. والعجب العجاب أن بعضنا يعرف كل هذه السبل لنزول رحمة الله به، ثم لا يريد أن يعمل شيئًا، ثم تراه يشتكي يقول: أين السبيل؟ كيف المنهج؟! أريد العلاج. العلاج أنت تعرفه، تقرب إلى الله بما تستطيع أن تتقرب به، وكن في زيادة من أعمال الخير والبر، أرأيت صنيع الصديق -كما تقدم قريبًا- وهذه الأعمال العظيمة الكثيرة التى قام بها في وقت يسير، فما بالك تسمع عن هذه الخيرات ولا تكلف نفسك أن تتعب قليلًا لله، حقًّا يا حسرةً على العباد! أما آداب اتباع الجنائز: فأولًا: لا تتبع الجنائز بصياح أو نواح أو نار. في جامع الترمذي عن أبي موسى الأشعرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول: واجبلاه! واسيداه! أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (47) ك الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان، ومسلم (945) ك الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.

ثانيا: الرفق بنعش الميت.

يلهزانه: أهكذا كنت؟ " (¬1). وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع جنازة معها رانة (¬2). والرنة: الصوت. يقال: رنت المرأة إذا صاحت. وينبغي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التشديد على أهل الميت لئلا يقعوا في هذه المنكرات التى يتأذى بها الميت. ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة أوصى فقال: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار (¬3). ومن البدع المنتشرة أن يرفع أحد المشيعين صوته كأن يقول: استغفروا له أو نحوه، وهذا لا يجوز بحال. روى سعيد بن منصور في سننه أن ابن عمر سمع رجلًا يقول في جنازة: استغفروا له، غفر الله لكم. فقال ابن عمر: لا غفر الله لك. ثانيًا: الرفق بنعش الميت. قال عطاء: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف. فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1003) ك الجنائز عن رسول الله، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (801). (¬2) أخرجه ابن ماجه (1583) ك الجنائز، باب في النهي عن النياحة، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1287). (¬3) أخرجه مسلم (121) ك الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله. (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري (5067) ك النكاح، باب كثرة النساء، ومسلم (1465) ك الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها.

ثالثا: الإسراع بالجنازة.

ثالثًا: الإسراع بالجنازة. ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة، فإن يكن خيرا تقدموها إليه، وإن يكن شرًّا تضعوه عن رقابكم" (¬1). فلا يجوز تأخير الصلاة والدفن لزيادة المصلين، ولا بأس بانتظار الولى عن قرب ما لم يُخشَ تغيير الميت. رابعًا: الصلاة على الميت. وهي فرض على الكفاية، وقد تقدم عظم فضلها وأنها تعدل قيراطًا مثل أحد، وصفتها مشهورة، لكن التنبيه هنا يكون في إخلاصك الدعاء له، فالجزاء من جنس العمل، فقد ترزق عندما يحل الأجل بمن يخلص لك في الدعاء فتنجو. خامسًا: السير حيث شاء للماشي والراكب خلفها. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها". وقد سار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أمام الجنازة، والقرب منها أفضل. سادسًا: المكث قليلًا بعد الدفن. قال عمرو بن العاص في وصيته التي تقدم بعضها: فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1015) ك الجنائز، باب ما جاء في الإسراع بالجنازة، وقال: حسن صحيح. (¬2) تقدم تخريجه.

سابعا: عدم اللغو وإيثار الصمت.

سابعًا: عدم اللغو وإيثار الصمت. قال ابن قدامة الحنبلى في المغنى: يستحب لمتبع الجنازة أن يكون متخشعًا، متفكرًا في مآله، متعظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدث بأحاديث الدنيا، ولا يضحك. رأى بعض السلف رجلًا يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟!! لا كلمتك أبدًا. الحق الرابع: إجابة الدعوة. أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإجابة دعوة الداعي، وقد ذهب أهل العلم إلى أن هذه الدعوة تختص بوليمة العرس، وجمهور أهل العلم على القول بوجوبها، بل نقل بعضهم اتفاق أهل العلم على ذلك، وذهب آخرون إلى القول باستحبابها، أما سائر الدعوات غير دعوة العرس فرأى الجمهور على استحبابها، ويرى الظاهرية -ووافقهم الشوكانى والمباركفورى وغيرهما- أن الأحاديث على ظاهرها فتشمل كل دعوة، ولا تختص بوليمة العرس، ومن ثم أوجبوا إجابة كل دعوة. وفي البخاري عن أبي موسى الأشعرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فكوا العاني وأجيبوا الداعي" (¬1). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" (¬2). وفي جامع الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائتوا الدعوة إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7173) ك الأحكام، باب إجابة الحاكم الدعوة. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري (5173) ك النكاح، باب حق إجابة الوليمة، ومسلم (1429) ك النكاح، باب الأمر بإجابة الداعى إلى الدعوة.

أما آدابها وشروطها

دعيتم" (¬1). قال الإمام النووي: الأصح في مذهبنا -يعني الشافعية- أنه فرض عين على كل من دعي. يعني في وليمة العرس. وقال المباركفورى: والحديث دليل على أنه يجب الإجابة إلى كل دعوة من عرس وغيره. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث بعض الشافعية فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عرسًا كان أو غيره بشرطه. ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة. وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين. قال: وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسى منهم فنقل فيه الإجماع. ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح قول الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التى تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعى إليها رجل وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاص في تركها، كما تبين لي في وليمة العرس. وهذا الخلاف يفيدنا في ضرورة التنبه لمثل هذه الأمور التي تغافلنا عنها، وأدت إلى قطع الأرحام والصلات، ودائمًا أبدًا لا تجد المرء يتعامل مع هذه الدعوة على وجوبها، وأنه يأثم إن لم يجبها، فلينتبه كل منَّا لمثل ذلك. أما آدابها وشروطها: فقال الحافظ في الفتح بعد أن حكى وجوب الإجابة الى الوليمة: وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفًا حرًّا رشيدًا، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التردد لشخص بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1098) ك النكاح عن رسول الله، باب ما جاء في إجابة الداعى. وقال: حسن صحيح.

الحق الخامس: تشميت العاطس.

الأصح، وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن لا يسبق فمن سبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معًا قدم الأقرب رحمًا على الأقرب جوارًا، على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره. قال النووي: وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها، فمنها: أن يكون في الطعام شبهة، أو يخص بها الأغنياء، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شره، أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل، وأن لا يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فرش حرير أو صورة حيوان غير مفروشة أو آنية ذهب أو فضة. قال: فكل هذه أعذار في ترك الإجابة، ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه. والله تعالى أعلم. الحق الخامس: تشميت العاطس. من حق المسلم على أخيه المسلم أن يشمته إذا عطس، وقد أرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية ذلك. ففي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله، فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها. ضحك منه الشيطان" (¬1). وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله. وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله. فإذا قال له: يرحمك الله. فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6223) ك الأدب، باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب. (¬2) أخرجه البخاري (6224) ك الأدب، باب إذا عطس كيف يشمت.

أما آداب التشميت

قال الإمام النووي في الأذكار: وكل هذا سنة ليس فيه شيء واجب. أما آداب التشميت: (1) أن يبدأ العاطس بالحمد، فإن لم يفعل لم يشمت. في صحيح مسلم عن أبي بردة قال: دخلت على أبي موسى وهو في بيت بنت الفضل بن عباس فعطست فلم يشمتني، وعطست فشمتها، فرجعت إلى أمي فأخبرتها، فلما جاءها قالت: عطس عندك ابني فلم تشمته، وعطست فشمتها. فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه" (¬1). (2) فإن زاد على عطسة واحدة فهل يشمت؟ قال النووي في الأذكار: اختلف العلماء فيه، فقال ابن العربي المالكي: قيل: يقال له في الثانية: إنك مزكوم. وقيل: يقال له في الثالثة. وقيل: في الرابعة. والأصح أنه في الثالثة. قال: والمعنى فيه أنك لست ممن يشمت بعد هذا، لأن هذا الذي بك زكام ومرض لا خفة العطاس. فإن قيل: فإذا كان مرضًا فكان ينبغي أن يُدعى له ويُشمت، لأنه أحق بالدعاء من غيره؟ فالجواب: أنه يُستحبّ أن يُدعى له لكن غير دعاء العطاس المشروع، بل دعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ونحو ذلك، ولا يكون من باب التشميت. (3) وينبغي على العاطس أن يغطي وجهه بيده أو ثوبه ويغض صوته. عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه وغض بها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2992) ك الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهية التثاؤب.

(4) إذا كانوا جماعة فالأفضل أن يشمت كل واحد أخاه.

صوته (¬1). (4) إذا كانوا جماعة فالأفضل أن يشمت كل واحد أخاه. لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" (¬2). (5) هل يشمت الشاب المرأة والعكس؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشاب لا يسلم ولا يشمت المرأة وإن كانت عجوزًا، وأن الشابة لا تسلم على الرجل ولا تشمته وإن كان شيخًا (¬3). وهذا كله من باب سد الذرائع، فلو حفظنا أنفسنا من الوقوع في الشبهات كانت لنا البراءة في الدين، وكل متهم وعلى ذمة القضية، "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (¬4). الحق السادس: إبرار المقسم. من حق المسلم على أخيه المسلم أن يبر قسمه. عن البراء رضي الله عنه قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبرار المقسم (¬5). ومعنى أن يبرَّ قسمه أي يفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارًّا. عن عائشة قالت: أهدت إليها امرأة تمرًا في طبق فأكلت بعضًا وبقي بعض ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2745) ك الأدب عن رسول الله، باب ما جاء في خفض الصوت، وتخمير الوجه عند العطاس. وقال: حسن صحيح. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر كتابنا نصائح الشباب تهذيب غذاء الألباب ص 95. (¬4) متفق عليه. أخرجه البخاري (52) ك الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599) ك المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات. (¬5) أخرجه البخاري (6654) ك الإيمان والنذير، باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}.

ومن آدابه

فقالت: أقسم عليك إلا أكلت بقيته. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبريها، فإن الإثم على المحنث" (¬1). ومن آدابه: (1) ألا يترتب على الإبرار مفسدة أو مشقة. قال النووي: إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدة ولا مشقة ظاهرة. (2) تكفير الحالف عن يمينه أولى إن كان غير ما حلف عليه أفضل. عن أبي هريرة قال: أعتم رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع إلى أهله فوجد الصبية قد ناموا فأتاه أهله بطعامه فحلف لا يأكل من أجل صبيته، ثم بدا له فأكل، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها، وليكفر عن يمينه" (¬2). الحق السابع: نصرة المظلوم. من حق المسلم على المسلم أن ينصره إذا ظلم، وفي عصر عبودية الذات والأنانية والتفاني في خدمة النفس فهذا الكلام يعد عند الكثيرين من العجب العجاب، يقول لك: وماذا أصنع؟ كفى ما بي من الهموم. وبعضهم يعرف بالشهامة ولكن ليقال: شجاع شهم خدوم. وما يصنع ذلك لله، والحق بين الطرفين، فلا جبن ولا طيش. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 114)، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح. (¬2) أخرجه مسلم (1650) ك الأيمان، باب ندب من حل يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.

الحق الثامن: التنفيس عن الحروب والتيسير على العسر.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تأخذ فوق يديه" (¬1). وقد رغبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا، وبين لنا عظم أجر من ينصر المظلومين من المؤمنين، ورهبنا من الوعيد الشديد الذي ينتظر من يخذلهم. عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته" (¬2). وإذا كان هذا هو عصر الظلم والقهر، والمسلمون يذبحون في كل مكان، فلا أقل من أن تنصرهم ولو بالدعاء، فإذا استطعت غير ذلك لزمك المبادرة إلى أداء هذا الواجب الحتمي، وإلا ستدور الدائرة عليك كما دارت عليهم فاحذر. والله جل وعلا على نصر المؤمنين لقدير، لكنها سنن الله الربانية التي قل من يعيها، ولكنها الرسائل الإلهية كي نعيد النظر في حقيقة إيماننا، ونمحص نياتنا حتى يتحقق وعد الله باستخلاف المؤمنين الأرض والتمكين لهم فيها. الحق الثامن: التنفيس عن الحروب والتيسير على العسر. الأصل أن تتعرف على الله في الرخاء ليعرفك في الشدة، فالقانون الإلهي الذي لا يتبدل ينص على أن الجزاء من جنس العمل، والشرع الشريف يرشدنا دائمًا للنظر إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2444) ك المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالمًا ومظلومًا. (¬2) أخرجه أبو داود (4884) ك الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة، والإمام أحمد (4/ 30)، والطبراني في الكبير (5/ 105)، والبيهقى في الكبرى (8/ 167)، وحسنه الشيخ الألبانى -رحمه الله- في صحيح الجامع (5690).

المآل والنهاية، وأن نعي ذلك جيدًا، فإذا أنت أعنت أخاك اليوم ستجد من يعينك غدًا، ولكن شريطة الإخلاص، فلا تفعله إلا ابتغاء مرضات الله جل وعلا. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" (¬1). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... " (¬2). قال الإمام النووي: وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب. قال: ومعنى (نفس الكربة): أزالها. وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين. فيا من لا يأمن ذلك اليوم العصيب وكرباته تقرب إلى الله بتنفيس كرب إخوانك، اقض حوائجهم، يسر على معسرهم إن كان لديك سعة، ولا تضن ولا تبخل، فمن يتعامل مع الله لا يخشى الفقر والإقتار. ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (2442) ك المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ومسلم (2580) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. (¬2) أخرجه مسلم (2699) ك الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.

الحق التاسع: الابتعاد عن الأذى كالحسد والتبغض والظلم والتحقير.

الحق التاسع: الابتعاد عن الأذى كالحسد والتبغض والظلم والتحقير. عن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬1). فكفك الأذى عن الناس من أفضل القربات، لأنه دليل على مجاهدة النفس، فالنفس أمارة بالسوء، فمن ملك نفسه في الغضب لم يبطش ولم يتلفظ بما لا يصح، فيسلم الناس منه في كل حال. ومن كانت الآخرة همَّه لا يتسلل إلى نفسه الحسد والحقد والضغائن، فهذه الأمور تحلق دينه، وهي دليل على ضعف إيمانه، لأنه لا يتصور مؤمن يبطن هذه الأحقاد بداخله لإخوانه، فمجرد الرغبة في زوال النعمة عن أخيك دليل على فساد قلبك، وهذه من كبائر الذنوب، ومن البليات المهلكات، فالحذر الحذر من الوقوع في شيء من ذلك! فمن ورائه البلاء المبين، والتنافس لا يكون إلا في أمور الآخرة، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن نزلَّ في ذلك فقال: "إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا" (¬2). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تباغضوا ولا ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (11) ك الإيمان، باب أي الإسلام أفضل؟، ومسلم (42) ك الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (6064) ك الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر -واللفظ له-، ومسلم (2563) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها.

(ب) الحقوق الخاصة

تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (¬1). عن الزبير بن العوام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم" (¬2). (ب) الحقوق الخاصة: وهى أجلُّ وأعظم وأهم وأكبر؛ لأنها قائمة على استخلاص الصفوة المختارة من إخوة الإيمان وجيل الإسلام. (1) حق أخيك في مالك المواساة بالمال مع الإخوة على مراتب ثلاث: الأولى: أن أعلى هذه المراتب هى أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه مرتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين، ولقد قال الله فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. المرتبة الثانية:- هى أن تترك منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ولقد قال الحسن ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري (6065) ك الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ومسلم (2559) ك البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر. (¬2) أخرجه الترمذي (2501) ط صفة القيامة والرقائق والورع، والإمام أحمد في مسنده (1/ 165، 167). وقال الهيثمي في المجمع (8/ 30):- رواه البزار ولاسناده جيد، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع (3361).

(2) حق أخيك في نفسك

يصف الصحابة ومدى وضوح أمر المشاركة عندهم قال: "كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه! " المرتبة الثالثة: وهى أدنى مراتب الأخوة-: أن ينزل أخاه منزلة عبده أو خادمه ليقوم بحاجته في فضلة ماله، فإذا سنحت له حاجة وكانت عند أخيه فضلة من حاجته أعطاه ابتداء ولم يحوجه إلى السؤال، فإن أحوجه إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة. جاء فتح الموصلى إلى منزل لأخ له كان غائبًا فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته. فأخبرت الجارية مولاها. فقال: إن صدقتِ فأنت حرة لوجه الله. سرورًا بما فعل. قال علي بن الحسين رضى الله عنه لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا. قال: فلستم بإخوان. * قال أحدهم: إذا طلبت من أخيك مالًا فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ذهب حق الإخاء. * أهدى أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد إخوانه رأس شاة، فبعثه الأخ إلى ثان، وبعثه الثاني إلى ثالث حتى عاد إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. * قال أبو سليمان الدارانى: إني لألقم اللقمة أخًا من إخوانى فأجد طعمها في حلقى! * كان على مسروق دين ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم. (2) حق أخيك في نفسك. وهذه أيضا لها درجات، أدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع

البشاشة والاستبشار. وأعلاها أن تقدم قضاء حوائجه على قضاء حوائجك، وأن تنقذه مما يلم به من خطر ولو كان في ذلك حتفك. وقد صور الله عز وجل هذا الحق الذى ساقه في كتابه الكريم عندما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] ردًّا على قول بني إسرائيل له: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ورُوى أن خليفة أمر بضرب رقاب ثلاثة من الصالحين فيهم أبو الحسين النوري، فتقدم أبو الحسين ليكون أول من تضرب عنقه. فعجب الخليفة لذلك وسأله عن سببه؟ فقال أبو الحسين: أحببت أن أوثر إخواني بالحياة في هذه اللحظات. فكان ذلك سببًا في نجاتهم جميعًا. قضى ابن شبرمة حاجة كبيرة لبعض إخوانه. فجاءه بهدية فقال ابن شبرمة، ما هذا؟ قال أخوه: لما أسديته إليَّ. قال ابن شبرمة: خذ مالك عافاك الله. إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى. وكان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، وإن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا بالآخرة. ولكن احذر أيها الأخ أن يدفعك حرصك على نفس أخيك أن ترغبه في ترك الجهاد حتى لا يمسه الضر، وتدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].

(3) حق أخيك في لسانك

وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18]. إن رضيت له التخلف عن ركب الجهاد فما نصحت له ولا قدمت إليه خيرا؛ لأنك حجبت عنه أكرم منزلة يطمع فيها طامع، منزلة الشهداء في سبيل الله. (3) حق أخيك في لسانك: أولهما: أن تصمت عن كل ما يكره، شريطة عدم تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا تسخر منه، ولا تلمزه، ولا تكذبه الحديث، ولا تشتمه، ولا تلقبه بما يكره، ولا تفش له سرًّا، ولا تذكر أهله وأحبابه بسوء، ولا تكشف عن عيب وجدته فيه، إنما تستر عيوبه ما وجدت إلى ذلك سبيلا. وجميل هنا أن نورد قول المسيح عليه السلام لحوارييه: "كيف تصنعون إذا رأيتم أخًا نائمًا، وقد كشف الريح ثوبه عنه؟ قالوا: نستره ونغطيه. قال: بل تكشفون عورته. قالوا: سبحان الله! من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع الكلمة من أخيه فيزيد عليها بأعظم منها". وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3]. فإذا رأيت عيبًا من أخيك فلا تذكره أمام الناس، ولكن انتظر حتى تخلوبه ثم اختر الجو المناسب للكلام بعد أن تذكره بالدعوة التى اجتمعتم عليها والصراط الذي إن انحرفتم عنه وضللتم أخرتم نجاح دعوتكم، ثم اذكر له ما كرهت منه، وإن كان هذا الذى كرهته لا ينبغي السكوت عليه ولا يحتمل فلا شك في أن أخاك المؤمن سيستجيب

(4) حق أخيك في قلبك

لنصحك وهو يقرأ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. ثانيهما: أن تتكلم بما يحب أخوك الاستماع إليه، شريطة ألا يجلب ذلك غرورًا لنفسك أو أن ينحرف بك عن جادة الصدق إلى جادة الكذب، ومما يدخل تحت هذا الحق أيضًا ترك المراء والجدل الخبيث. قال الحسن: إياك ومماراة الرجال! فإنك لن تعدم فكر حكيم أو مفاجأة لئيم. ثالثهما: الدعاء له حيًّا أو ميتًا؛ لأن الدعاء علامة من علامات المحبة التى تدل على الاهتمام بالأخ والغيرة عليه. فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "إذا دعا الرجل لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: ولك مثل ذلك" (¬1) فلندع لبعضنا في دنيانا هذه، فإن سبق أحدنا أخ إلى ربه فليدع له وليستغفر {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170]. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 150 - 151]. (4) حق أخيك في قلبك: وأما حق أخيك في قلبك فتجمعه كلمتان: العفو والوفاء. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء بظهر الغيب (1535).

أما العفو عن أخيك، فلأنك تعلم قبل أن تتخذه أخا أنه ليس معصومًا عن الأخطاء، وإلا لكان نبيًّا من أنبياء الله، فلابد له إذا من هنات، ولا بد له من سقطات، وإنما انكشف لك هذه السقطات لقربك منه وطول معاشرتك له، ولعلك لو كنت بعيدًا لما رأيت ما رأيت، فلابد لك من رؤية ما تكره في بعض الأحيان والصمت على ما ترى. وقد أمر الله عز وجل بالعفو عن الناس في كثير من آيات الكتاب الكريم: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]. واستمع إليه سبحانه وهو يطالب أبا بكر رضى الله عنه بإجراء النفقة ثانية على قريبه الذى سعى بحديث الإفك: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وقد وصف الله عز وجل المؤمنين بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وهل تكون رحيمًا إن لم تعفُ عن زلة أخيك؟ ووصفهم أيضا بقوله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54] كيف تكون ذليلًا على المؤمنين إن لم تعف عن زلاتهم ويصبر على هفواتهم؟ وأما الوفاء فهو الثبات على الحب وإدامته إلى الموت وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي، وحادثة إكرام الرسول للعجوز التى كانت تأتيهم في أيام خديجة رضى الله عنها خير دليل على ذلك. وكلما انقطع الوفاء بعدم دوام المحبة شمت الشيطان، فإنه لا يجد متعاونين على بر متواضعين متحابين في الله إلا ويجهد نفسه لإفساد ما بينهما.

ولقد قال بشر الحافى: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه وذلك لأن الإخوان مسلاة عن الهموم وعون على الدين. واعلم -أخى حفظك الله- أن من الوفاء ألا تتغير حالك في التواضع مع أخيك، وإن ارتفع شأنك واتسعت ولايتك وعظم جاهك فالترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم.

الخاتمة اللهم رب الأرض الدحية والسماوات العلية والبحار المسجرة والرياح المسخرة اسمع ندائي، واستجب دعائي، وثبت لساني واجعلني من المهديين واجعل جميع المسلمين إخوة متحابين يا رحيم يا كريم

الخاتمة نسأل الله حسنها

الخاتمة نسأل الله حسنها إخوتاه .. ما زالت رياض الأخوة تجمعنا، وما زلت أذكرك بأخيك، ما زلت ألتمس لك رفقة إيمانية تعينك على طاعة الله، تجتمع معها لتتذاكر ويعظ بعضكم بعضًا، أراك قد فترت همتك وأنت في أول درب الالتزام، ولعل بعدك عن الحدب الأخوي عن الأجواء الإيمانية من وراء ذلك الفتور، فهلا شمرت ساعد العزم وبحثت لك عن رفيق الإيمان، ولن تعدم وجوده إذا فكرت فيه قبل أن تفكر في نفسك، إذا أخذت بالأسباب التي سقتها إليك، وتباعدت عن النواقض التي بنيتها لك، وصارت الثمرات نصب عينيك لن تعدم هذا الأخ ـ علم الله ـ إخوتاه .. أنت كثير بأخيك، كان أيوب السختيانى يقول: إذا بلغني موت أخ من إخواني فكأنَّي سقط عضو منى. إخوتاه .. للأخوة لغة خاصة لا يعرفها إلا من عاشها، ولا يفهمها ولا يعلمها إلا من تذوق حلاوة الحب في الله، إن سم الخياط لا يضيق على المتحابين، والدنيا على سعتها لا تسع المتباغضين.

أخي وحبيبي في الله .. امش ميلا وعد مريضا، وامش ميلين وأصلح بين اثنين، وامش ثلاثة وزر أخا في الله، هذا جمال الأخوة ما أروعه، هذه نسمته ما أجملها، تلك روضاته ما أحلاها. فالأخوة الترنيمة الجميلة التي تهدأ بها النفوس، الأخوة الواحة التي في ظلها تستريح القلوب. كان محمد بن واسع يقول: لم يبقَ من حلاوة العيش إلا ثلاث: الصلاة في جماعة، وكفاف من معاش، وأخ يحسن المعاشرة. آهٍ … والله إنَّ المؤمنين لفي نعيم عظيم، فمن عاش الصلاة قرت عينه، ولن تقر عينه بشيء مهما عظم عند الناس من أمور الدنيا فكل شئ منها زائل، وكل شئ منها ناقص، والأصل في نعيم الدنيا التنغيص فهل من متدبر؟!! آهٍ … لو ذاق الناس حلاوة الصلاة، يقوم يصلى ثم ينتظر الصلاة التالية ليزداد نعيمه، يتذوق من حلاوة الإيمان ما لا يعرفه إلا مجرب، ثم إذا مات وجد الصلاة في انتظاره عند رأسه في القبر تدافع عنه ويوم القيامة تحاج عن صاحبها. آهٍ … لو عرفنا الكفاف، والرضا عن الله والرضا بالله، وتمنيت لو رضى الله عنك، لا أن تطلب المال، وتجعله شغلك، فما المال في كل حالاته بخير للعباد لو فطنوا، " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه " (¬1) هذه شهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما الثالثة فهي محل الشاهد " أخ يحسن المعاشرة ". قال ابن الجوزي: " وأخ مخلص وفي أندر من عنقاء مغرب ". فهذا الأمر نادر، لكنه لا يكون نادرا بإذن الله لو تعاهدنا وتصافينا ووضعنا أيدينا في أيدي بعض، اللهم ارزقنا إخواناً نحبهم ويحبوننا، ولكن حذار من فوات ¬

(¬1) رواه مسلم (1054) ك الزكاة، باب الكفاف والقناعة.

الإخلاص، والإخلاص عزيز. إخوتاه .. الأخ لأخيه أشد التصاقا من الكف بالمعصم، ولا خير في الكف المقطوعة، ولا خير في الساعد الأجزم، إذا فزت بأخ في الله فتمسك به، فأخ إخاء خير من أشقاء ولادة. إخوتاه .. أخوك .. من خالفك على الهوى، وأعانك على الحق، وإن خالف الحق هواك. أخوك .. من وافق سره علانيته، فالصدق … الصدق. أخوك .. إذا صد عنك أقبلت إليه، وإذا بعد عنك تدانيت منه، وإذا حرمك بذلت له. وإياك والتلون في الوداد، فالمودة ماء الحياة، ولا خير في متوادين ينمو بينهم الخلل، وكل ما يعكر وداد الأخوة الصادقة سحابة صيف ما تلبث أن تنقشع، والعين حينئذ تنطق، والأفواه ساكتة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا. إخوتاه .. لا خير فيمن يبادر بالسلام وتحت ضلوعه قلب سقيم، إذا سلم اللسان، وصافحت اليد فلا بد أن يسلم القلب كما سلمت النظرة والهمسة والابتسامة والكلمة. إخوتاه .. كان بعض السلف يحذر من الإفراط، ويدعو إلى ازدياد المودة في القصد، وخفض الصوت، وقلة الإعجاب، ولزوم التواضع، وترك الخلاف، وعدم الإكثار على

أخيك بالأعمال فيملك ويسأمك، يقول: فإنَّ المرضع إذا كثر مصه ربما ضجرت أمه فتلقيه. إخوتاه .. بعد كل هذا هل نويت؟ ……هل ستزداد محبة لإخوانك؟ هل ستحسن أخلاقك مع خلانك؟ ……هل سيحسن ظنك بهم؟ هل ستصل من قطعك؟ ……. هل ستعطى من حرمك؟ هل ستعفو عمن أساء إليك وظلمك؟ إخوتاه .. استحلفكم بالله أن تضعوا هذه الكلمات دائماً أمامكم، وأن تتخذوا من الآن إخوة تحبونهم في الله، تبحثون عنهم وستجدونهم، تمد إليهم يدك لتتعاونوا على طاعة الله. إننا بحاجة إلى إقامة جبهتنا الداخلية القوية، فالأخوة حصن حصين، الأخوة كنز أغلى من الذهب والفضة لو تعلمون، الأخوة هي التي تبقى لك، فالأخوة زينة في الرخاء، وعدة عند البلاء. قال إياس بن معاوية لشيخ له: ماذا أفادك الدهر؟ قال الشيخ: العلم به. قال إياس: ماذا رأيتَ أحمد؟ قال الشيخ: أن يبقى للمرء أحاديث حسنة بعده. إخوتاه .. يا من تعانون الأحزان، وتقاسون من المحن والأشجان، إخوانك جلاء أحزانك.

مر عبد الله بن مسعود مرةً على أصحابه فقال: أنتم جلاء أحزاني، نسأل الله أن يعافينا من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. إخوتاه .. أخوك حارسك، عينك التي تبصر بها ما لا ترى. أتى عمر بن عبد العزيز لأحد العلماء فقال: إنَّ الملوك يجعلون العيون على الخليقة، وأنا أجعلك عينا على الخليفة، خذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا عمر. إخوتاه .. تمتعوا بلذة الحب في الله، وتواصوا بوصية الفاروق عمر - رضي الله عنه - حين قال: جالسوا التوابين فإنَّهم أرق أفئدة. وقد علمنا أن من رقة الأفئدة تبدأ المودة، فعش الأخوة بالبشاشة والبسمة اللطيفة وطلاقة الوجه وانفراج الأسارير. قيل لأحد السلف: ما أبشك!! قال: إنه يقوم علىَّ برخيص. نعم ما يكلفك شيئاً فلماذا تضن به؟ قال حبيب بن ثابت: من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم. إخوتاه .. من لي بأخ يصفو لي كصفو الماء الزلال، لقاؤه يسر، وعده وفاء، بعيد عن السوء، لسانه عف، طرفه كريم. قال أحدهم: بلغني عنك شيئا كرهتُه.

فقال له أخوه: لا يضرني عندك. قال: ولِمَ؟ فقال له: لأنَّه إن كان ذنب غفرتَه، وإن كان باطلاً لم تقبله. فقال له: مثلى هفا ومثلك عفا. قال: مثلك اعتذر ومثلى اغتفر. إخوتاه .. لن تظفروا بهذا إلا من خلال التربية الربانية، تلك التربية التي تربط القلوب والأرواح برباط العقيدة الذي هو أوثق الروابط والعرى، فالأخوة شقيقة الإيمان، والفرقة أخت الكفر، وأقل القوة وحدة الصف، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه درجةً الإيثار، فبذلك تواصوا. إخوتاه .. هذا آخر ما في كنانتي، وقد بلغت لكم نصحي، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت لكم جهدي، وأخرجت ما في جعبتي، فعسى أن تثير فيكم هذه الكلمات بواعث الشوق لرضا الله فتصلحوا ذات بينكم حتى تروا الله من أنفسكم خيراً، وتذكروا دائماً قول الله تعالى: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض" [التوبة /7] فلا ينزعن الشيطان منكم هذه الولاية، فليكن بعضكم نصيراً لبعض. تحابوا …تصافوا …تراحموا … توادوا. والله الموفق .. والحمد لله أولاً وآخرا. وكتبه حامداً ومصلياً محمد بن حسين يعقوب (غفر الله له ولأهله ولكل من ساعد في نشر هذا الكتاب)

§1/1